قبل فترة قصيرة قدَّر الله لي أن أمر بإحدى معارض الجمعيات التي تعنى بحقوق المرأة ، ولعلمي بكثرة الجمعيات النسوية ذات الأفكار المتطرفة و المنحرفة ، بجانب حضورها الشكلي فقط في المجتمع ، وقلَّة الجمعيات النسوية ذات المرجعية الإسلامية ، لأجل هذا كنتُ حريصاً على أن أتعرَّف على القضايا التي تُناقشها ومنهجيتها في المناقشة بجانب مرجعيَّتها التي تنطلق منها في حكمها على القضايا ، لا أُخفيكم أنني خُضت نقاشاً طويلاً مع مقدِّمي المواد في المعرض بحكم اختلاف مرجعيَّاتنا ، ولا أخفيكم أن طرْقهم للقضايا كان سطحي للغاية و لديهم الكثير من الإشكالات على مستوى المفاهيم ، ولكن كل هذا إنما ينم عن ضُعف اطِّلاع يمكن معالجته بالقراءة ، ولكن أكثر ما شدَّ إنتباهي أثناء طرقهم للقضايا واستحضارهم للمرجعيات في تدليلهم على مواقفهم ، أنهم مع كونهم يدَّعون أن حكمهم على القضايا منطلق من العقل إلا أن خطابهم عبارة عن استمالة لعواطف الناس ، هذا مع كونهم يتعاطون تعاطٍ براجماتي مع المرجعيات ، فمثلاً مع أن مرجعيتهم شيوعية إلا أنهم في قضية تعدد الزوجات كانوا يستدلون على رجحان موقفهم من أقوال السلف كالإمام أحمد وأبوحامد الغزالي وغيرهما ، ومن هذا الموقف شغلت تفكيري بعض الأسئلة : هل من الضروري أن تتفق كل أقوال ومواقف وسلوكيات المرء مع مرجعياته ؟ إن كان لا ، ما هي العوامل التي تؤثر في ذلك الإختلاف ؟؟ هل هذا الاختلاف يكون عن جهل و بلا وعي أم أنه مقصود ؟ إن كان مقصود ، لماذا قد يفعل المرء شيئاً من هذا القبيل ؟ ما الآثار المترتبة على عملية التعاطي البراجماتي مع المرجعيات ؟؟ وهكذا كلما أعتقدت أنني جاوبت على السؤال ظهر سؤال آخر ، لذا كان هذا المقال محاولة للتفكير بصوتٍ عالي علَّه يجد من يتفاعل معه فيُثري الموضوع .

ابتداءتُ مقالي بحديثٍ عام عن المرجعيات : ماهيتها ، أهميتها ، ومن ثَمَّ انتقلتُ إلى الحديث عن إمكانية مخالفة مواقف المرء لمرجعياته ومن ثَمَّ تحدثتُ عن بعض العوامل التي أرى أنها تؤثر في ذلك ، ثم ختمت بإشارة سريعة لفهموم التعاطي البراجماتي مع المرجعيات مع بيان خطره بنوع من الإجمال

المرجعيات :

يمكن تعريف المرجعية الفكرية بأنها مجموعة المعارف الفطرية التي يجد المرء في نفسه ضرورة التسليم بها - لا يمكن الإستدلال عليها بل عليها تقوم المعارف النظرية وإنما يمكن فقط التذكير بضروريتها عند تشوُّه الفطرة ، وأي محاولة للإستدلال عليها تفضي إلى التسلسل الممتنع - وتنقسم إلى مفاهيم فطرية وجدانية كـ " اللذة والألم " ومفاهيم فطرية عقلية كـ " قانون السببية ، مبدأ عدم اجتماع النقيضين ، والثالث المرفوع ..الخ " هذا بجانب بعض المسلَّمات التي اكتسبت مكانتها من العُرف أو الدين أو غيرهما ، ويمكن تعريفها [ أي المرجعية الفكرية ] أيضاً بأنها " القواعد العامة التي تهيمن على سير العقل وتُحدد عملياته " ، ويجدر بنا هنا الإشارة إلى " أن وصف المعرفة بالضرورة أو القطعية أو الظنية ليس وصفاً ملازماً لها ، بل هو وصف راجع إلى الباحث أو الناظر أو الباحث " وفي هذا يقول ابن تيمية : " والقطع والظن يكون بحسب ما وصل إلى الإنسان من الأدلة ، وبحسب قدرته على الإستدلال ، والناس يختلفون في هذا وهذا ، فكون المسألة قطعية أو ظنية ليس هو صفة ملازمة للقول المتنازع فيه ، حتى يقال : كل من خالفه قد خالف القطعي ، بل هو صفة لحال الناظر المُستدل المعتقد ... " ويقول أيضاً : " كون العلم بديهياً أو نظريَّاً هو من الأمور النسبية الإضافية ، مثل كون القضية يقينية أو ظنية .. " ولابن تيمية كلامٌ نفيس في هذا المبحث من أراد مطالعته فليقرأ مبحث " النسبية المعرفية " في كتاب منهج ابن تيمية المعرفي لمؤلفه د. عبدالله الدعجاني .

ترجع أهمية المرجعية الفكرية إلى كونها الأساس الذي يتكئ عليه المرء في حكمه على القضايا التي تواجهه سواءً من الناحية الأنطلوجية ( الوجودية ) أو من الناحية الإبستملوجية ( المعرفية ) ، هذا طبعاً على المستوى النظري ، أما على المستوى التطبيقي فإنه لا يلزم أن تكون كل أفكار ومواقف وسلوكيات المرء مُستمدَّة من مرجعيته الفكرية بل أحياناً قد يكون بينهما اختلاف قد يصل إلى حد التناقض أحياناً أخرى ، ولا يلزم أن يكون هذا الاختلاف أو التناقض عن وعي بل قد يكون عن جهل ، وقولنا بإمكانية مخالفة موقف المرء من القضية المعينة لمرجعيته الفكرية إنما ينبي على أصلين ، الأول : إثبات إمكان حدوث خلل في إحدى مكونات المعادلة النفسية المعرفية ، يقول د.عبدالله الدعجاني : " فهي [ أي المعادلة النفسية المعرفية ] تبدأ بالشعور الذي يُولِّد صورة الشيء في الذهن والحكم عليه والإعتقاد به ... " . والثاني : إثبات أن إعتقاد الشيء لا يستلزم تطبيقه ، إما لتعذُّر تطبيقه على الواقع ، أو بسبب عوامل نفسية أو إجتماعية . وفيما يلي محاولة لإثبات ذلك :

- أولا : إمكان حدوث خلل في عناصر المعادلة النفسية المعرفية :

* التصوُّر الخاطئ للقضية :

إن عملية التصوُّر هي عملية تكوين صورة ذهنية لشيء في الخارج ، وهي سابقة على عمليتي الحكم والإعتقاد ، فكما بينا سابقاً أن المرء يشعر بالشيء أولاً فيتصوَّره ومن ثَمَّ يحكم عليه ويعتقد نتيجة حكمه ، لذا فحدوث أي تشوُّه في عملية التصوُّر مؤذِن بحدوث غلط في الحكم ، ويرجع حدوث الخلل في التصور إلى : غلط الواردات الحسية نتيجة لحدوث خلل في المستقبلات الحسية ، ضعف الأدوات المعرفية المُساعدة في عملية التصوُّر كضعفِ اللغة مثلاً أو ضعف المقدرة على التفريق بين العرض والجوهر فينسب للشيء ما ليس منه في ذاته لظنه أن عرضاً ما هو جوهر أو يخلع عن الشيء بعض صفاته الذاتية لظنه أن جوهراً ما هو مجرد عرض . وقد كان أكثرُ غلط المعتزلة وغيرهم من الفرق الكلامية نابعٌ من هذا الباب والذي يليه - أي ضعف ملكة الإستدلال - فمثلاً المعتزلة في نفيهم لإرادة الله للكفر والمعاصي وقولهم بأنها ليست داخلة ضمن مشيئة الله ، إنما كان لتصوُّرهم أن الإرادة تعني المحبة ، فقالوا :" قد عُلم بالكتاب والسنة واجماع السلف أن الله يحب الإيمان والعمل الصالح ولا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر بل يكره الكفر والفسوق والعصيان ، قالوا : فيلزم من ذلك أن يكون كل مافي الوجود من المعاصي واقعاً بدون مشيئته وإرادته كما هو واقع على خلاف أمره وخلاف محبته ورضاه " ، ويرجع غلطهم هنا إلى تصوُّر استلزام الإرادة للمحبة ، ويكون الرد على هذا التصوُّر المغلوط ببيان أن الإرادة نوعان : إرادة كونية شاملة لكل ما يقع في الكون وهذه لا تستلزم المحبة ، وإرادة شرعية دينية وهي المستلزم للمحبة ، يقول د.عبدالله الدعجاني : " فإرادة الله لما لا يحبه إرادة كونية مقتضاها الحكمة الإلهية فلا يصح إخراجها من إرادة الله كما تفعله المعتزلة ... " ويقول ابن تيمية : " فلا يمتنع أن يخلق ما لا يحبه لإفضائه إلى الحكمة التي يحبها كما خلق الشياطين . فنحن راضون عن الله في أن يخلق ما يشاء وهو محمود على ذلك . وأما نفس هذا الفعل المذموم وفاعله فلا نرضى به ولا نحمده . وفرق بين ما يحب لنفسه وما يراد لإفضائه إلى المحبوب مع كونه مبغضا من جهة أخرى ; فإن الأمر الواحد يراد من وجه ويكره من وجه آخر . كالمريض الذي يتناول الدواء الكريه ; فإنه يبغض الدواء ويكرهه وهو مع هذا يريد استعماله لإفضائه إلى المحبوب لا لأنه في نفسه محبوب " وعند التدقيق في موقفهم هذا تجده مناقضاً لأصلٍ من أصولهم وهو اتصاف الله بكل صفات الكمال ، وإنما حصل التناقض لغلطٍ في التصوَّر كما بيناه قبل قليل .

* ضعف ملكة الإستدلال :

تنقسم المعارف بصورة عامة إلى قسمين ، الأول : معارف مباشرة ، وهذه بدورها تنقسم إلى معارف فطرية ضرورية لا يمكن الاستدلال عليها وإنما يجد المرء في نفسه ضرورة للتسليم بها ، وأخرى معارف حدسية لا تحتاج للإستدلال عليها . الثاني : معارف غير مباشرة ( نظرية ) تفتقر إلى النظر و الإستدلال لإثبات صحتها ، ومن هنا يمكن تعريف الإستدلال بانه :" هو البرهان الذي يبدأ من قضايا يُسلَّم بها ، ويسير إلى قضايا أخرى ينتج عنها بالضرورة ، دون إلتجاء إلى التجربة " ومن هذا التعريف يمكننا القول بأن للحكم على عمليةِ الاستدلال بالصحة لابد من توفر شرطين ، الأول : ثبوت وصحة الدليل في ذاته ، والثاني : صحة دلالة الدليل على مدلوله ، فالشرط الأول يتحقق بالتحقق من صحة سند الدليل بجانب صحة متنه ، والثاني يتحقق بكثرة الإطلاع و اتقان اللغة والممارسة الإستدلالية ؛ فليس كل دليل يدل دلالةً ظاهرة على مدلوله ، بل غالباً ما يكون معقداً فالدليل قد يكون محتملاً أو مخصوصاً أو مقيداً أو مجملاً أو مشتركاً .. إلخ ، ولهذا فإنك إذا طالعتَ كتب الفقه والعقيدة فمن الطبيعي جداً أن تجد عالمان يستعملان نفس الدليل للتدليل على قولين متباينين ، وما ذلك إلا لتعقُّد عملية الإستدلال ، ومن هذا فقد يستدل المرء على قولٍ ما يتفق مع مرجعيته بدليلٍ يظنُّه يُعضِّد قوله ، فإذا به بعد النظرِ فيه يدل على خلاف ذلك أو نقيضه ، يقول ابن تيمية في هذا الصدد : " فصلٌ . وقد ذكرنا أصلين : أحدهما : أن ما يحتجون به من الحجج السمعية والعقلية على مذاهبهم إنما يدل على قول السلف ، وما جاء به الكتاب والسنة ، لا يدل على ما ابتدعوه وخالفوا به الكتاب والسنة .
الثاني : أن ما احتجوا به يدل على نقيض مقصودهم وعلى فساد قولهم ، وهذا نوع آخر ، فإن كونه يدل على قول لم يقولوه نوع ، وكونه يدل على نقيض قولهم وفساد قولهم نوع آخر ، وهذا موجود في حجج المتفلسفة والمتكلمة " ، فمثلاً تجد المعتزلة يستدلون بقوله تعالى : " لا تدركه الأبصار وهو يُدرك الأبصار " على امتناع رؤية الله ، فهم يُفسِّرون الإدراك بالرؤية ، ويكمن الخطأ هنا في قصر معنى الإدراك على الرؤية مع أنه قدرٌ زائد عنه ، فهو يدل على معنى الإحاطة ، والحكم بامتناع الإحاطة يدل على إثبات الإمكان لما دونها ، فالإدراك بالنسبة للرؤية قدر أخص ، وأعلى ، وأكبر ، وإذا نُفي الأخص والأعلى والأكبر إنما يدل ذلك على إثبات إمكانية الأعم والأدنى والأصغر ، إذ لو كان القدر الأعم أو الأصغر منفيَّاً لاكتفى بنفيه عن نفي القدر الأخص والأعلى والأكبر ، ليدل نفي الأصغر - بطريق أولى - على نفي القدر الأكبر . من المهم جداً الإنتباه إلى أن بطلان الدليل المعيَّن لا يلزم منه بطلان مدلوله ، بل قصارى ما يمكن اثباته أن الدليل المعيَّن لا يدل على مدلوله .

- ثانياً : إثبات أن إعتقاد الشيء لا يستلزم تطبيقه :

* تعذُّر تطبيقها على أرض الواقع :

أن يتخذ المرء بعض القضايا كمرتكزات يرتكز عليها في خطابه أو مرجعيات يرجع إليها في عمليته الإستدلالية فهذا لا يعني بالضرورة صحة هذه المرجعيات ومطابقتها للواقع والفطرة ، فمثلاً تجد الكثير ممن يعتقدون أن مبدأ السببية مجرد وهم ، وكذا من يقولون بنفي الوجود الواقعي وإرجاع كافة المعارف للوجود الذهني ، وكذا من يقولون بنسبية الحقيقة ، تجد هؤلاء ومن على شاكلتهم أن الواقع يجبرهم على التخلي عن هذه المرتكزات إن هم أرادوا التحرُّك في الواقع ، فترى منكر السببية يُشير بيده للتاكسي وهو يعلم أن هذه الإشارة ستكون سبباً في توقف التاكسي له ، ونجد المنكر لتحقق الوجود الخارجي يتحقق من سلامة الطريق قبل قطعه حتى لا تصدمه احدي السيارات المارة ، وتجد القائل بنسبية الحقيقة يسلِّم ضمنياً بناءاً على جزمه بأن الحقيقة نسبية على أن جملته هذه في حد ذاتها عبارة عن حقيقة مطلقة ، وهكذا .

* الذاتية والموضوعية :

إن مدى تأثير العوامل النفسية والإجتماعية على عملية التصوُّر والحكم إنما ينبني ابتداءاً على تصوُّرنا لمفهوم العقل نفسه ، فإذا كان تصورنا للعقل موافق لتصور ديكارت القائل بأن : للعقل ذات مستقلة عن ذات صاحبه ومن ثمَّ فإن مضامين العقل كلها مضامين موضوعية لا تتأثر بذاتية الشخص ، إذا كان هذا هو تصورنا للعقل = حكمنا بأن العقل لا يتأثر بالعوامل النفسية ولا الإجتماعية ، ولكن هذا التصور هو تصوُّر مغلوط بشقيه . فالشق الأول القائل باستقلال ذات العقل عن ذات صاحبه فيه مفارقة غاية في الغرابة وهي - كما يقول عبدالله الشهري - " أن تكون صاحب شيء لا ينتمي للمرتبة الوجودية التي تنتمي إليها " ، وأما بالنسبة للشق الثاني وهو أن مضامين العقل كلها مضامين موضوعية لا تتأثر بذاتية الإنسان فيمكن رده إنطلاقاً مما توصلَّنا إليه في الرد على الشق الأولى بأنه لمَّا كان العقل والعواطف قائمان بالجسد فيصبح من الصعب التفريق بين الذاتي والموضوعي وكما قال د.عبدالله الشهري فإنه يصبح لدينا " أفكار عاطفية " و" عواطف فكرية " ، ولكن هذا لا يعني إنعدام الموضوعية ، يقول د.عبدالله الشهري في كتابه ثلاث رسائل في الإلحاد والعقل والإيمان :" ولكنه - عدم إمكانية الفصل بين الذاتي والموضوعي - يفرض تصحياً على تصورنا للموضوعية ، فالموضوعية ليست نقيض الذاتية وإنما صورة من صورها ومرتِبة من مراتبها . فالحاصل في انزياح الإدراك من الذاتية باتجاه الموضوعية هو عملية اقتراب لإدراكنا من الحقيقة وليس عملية انبتات أو انفصال أو هجرة لإدراكنا عن ذواتنا ". بل وإن الذاتية ليست محصورة في التأثير على الحكم في نطاق مرجعية معينة ، بل قد يصل هوى النفس لأن يتعاطى مع المرجعيات ذاتها تعاطيٍ براجماتي ، فكما أن البراجماتي يحكم عن الشيء بكونه معرفة من عدم ذلك بناءاً على نفعها ، نجد أن النفس التي سيطر عليها الهوى تستعمل المرجعية التي تحكم بصدق مما أراده هواها فيصبح الهوى هو معيار الاختيار بين المرجعيات . إلا أن الهوى ليس هو السبب الوحيد لهذا التعاطي وإنما قد يكون السبب أن صاحبَ فكرةٍ معينة يريد الترويج لها في وسطٍ ما ولكن لإختلاف مرجعيتهم عن مرجعية ذلك الوسط فإنه يُحاول توظيف مرجعيتهم في الترويج لفكرته . ومن أكثر تجليات هذا التعاطي هو تسييل المعرفة ، والتنقل من المستمر من مرجعية لأخرى فقط لإثبات ما تهواه نفسه ولما كانت القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيفما شاء ، كان احتمال تغير هواه احتمال وارد وما كان معرفة بناءاً على هواه الأول قد لا يكون كذلك في طوره الجديد من الهوى .