موعظة وعبرة

اصل القصة أوردها ابن الجوزي في (صفة الصفوة) ، واليافعي في (روض الرياحين) ، والنبهاني في (جامع كرامات الاولياء) ، والثعالبي في (قتلى القران) ، وغيرهم.
ولست بصدد تصحيح او تضعيف القصة ولكن ارجو ان تكون لي ولأخواني موعظة وعبرة في زمن الغربة وعصر المادة:

ابو جهير الضرير رحمة الله عليه :
قال صالح المري : أتاني مالك بن دينار يوما فقال: يا صالح اذهب بنا الى أبي جهير يدعو الله لنا، فقلت له: قد ارتفع النهار، واذا دخل بيته لم يخرج الى أحد.
قال: وكان بيته أقصى بيت بالبصرة، والصحراء يومئذ جاره، وبين يدي داره بئر و دلو وأحجار ومسجد. فقلت: صل الغداة و ائتني حتى نذهب اليه وهو في مسجده قبل أن يدخل داره.
قال: فلما صليت الغداة فإذا أنا بمحمد بن واسع، فسلم وجلس، قلت له: ما جاء بك؟ قال: يا أبا عبد الله تجئ معي الى أبي جهير يدعو الله لنا؟ فقلت له: قد وعدت مالك بن دينار يجئ ، فنقوم ونذهب. فلم ينقض كلامي حتى جاء ثابت البناني، فسلم و جلس، فقلت له: ما جاء بك يا أبا محمد؟ قال تجئ معي الى أبي جهير يدعو الله تعالى لنا. فقلت قد جاء هذان فيما جئت فيه، وقد وعدت مالكا يجئ فنقوم. فلم ينقض كلامي حتى جاء مالك.
فقمنا خمسة لم يكن في البصرة يومئذ أفضل منهم.
قال: فأخذنا على الجبّان (الجبّانة - القبور)، فكلما مررنا بروضة خضراء او مكان لطيف، قال مالك: أبا محمد صل لك في هذه البقعة تشهد لك غدا ؟ فلم يزل كذلك في صلاة حتى ارتفع الضحى، وكان يوم حار وطريق بعيد، فأتينا منزله، وقد دخل بيته، فاستأذناه، فاذا امرأة من وراء الجدار، لم نر لها وجها، كأن حزن أهل الدنيا وأهل الارض عليها. قالت: وما تشاؤون؟ قلت: الشيخ. قالت: لا تصِلون اليه دون الظهر، يخرج للصلاة فترونه ان شاء الله تعالى.
فقال بعضنا لبعض: اين نذهب؟! نقيم الى الظهر فأتينا مسجده، فمن بين قائم يصلي و بين قارئ و ذاكر لله تعالى حتى كان الظهر، فقمنا الى البئر فاستقينا ماء و توضئنا ودخلنا مسجده، فقمنا نصلي، فبينما نحن كذلك اذ خرج علينا أبوجهير رجل ضرير كأنه شن بالٍ يتلألأ وجهه نورا، فأذن، ثم جاء يمشي حتى قام في المحراب فصلى ثماني ركعات، وسُمِع حساً. قال: وجاء جيرانه نحو بضعة عشر رجلا.
قال: فخرج من المسجد فأقام الصلاة، ثم جاء يمشي حتى قام في المحراب، فصلى بنا الظهر، ثم قعد ساعة يذكر الله تعالى، ثم قام فصلى ثماني ركعات، ثم وجه وجهه الينا.
فقام اليه محمد بن واسع فسلم عليه، فرحب به، ورد عليه السلام، وقال من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا محمد بن واسع. قال: أنت الذي يزعم أهل البصرة أنك أعبدهم؟ ألا سألت الله تعالى أن يستر ذلك عليك؟! فسكت ثم جلس.
ثم قام اليه ثابت البناني، فسلم عليه، فرد عليه السلام وقال: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا ثابت، قال: أبو محمد؟ قال: نعم ، فرحب به و قال: أنت الذي يزعم أهل البصرة أنك أكثرهم صلاة؟ ألا سألت ربك أن يستر عليك؟! فسكت، فجلس.
ثم قام اليه حبيب أبو محمد, فسلم عليه، فرد عليه السلام وقال له: من أنت يرحمك الله؟ قال أنا حبيب، قال: أبو محمد؟ قال: نعم، فرحب به وقال: أنت الذي يزعم أهل البصرة أنك مستجاب الدعوة؟ ألا سألت ربك أن يُخفي ذلك عليك؟! اجلس يرحمك الله , فأخذ بيده وأجلسه إلى جانبه ..

ثم قام اليه مالك فسلم عليه فرد عليه السلام وقال له: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا مالك، قال: أبو يحيى؟ قال: نعم، قال: بخ بخ أنت الذي يزعم أهل البصرة أنك أزهدهم؟ ألا سألت الله أن يستر عليك؟! فسكت ثم جلس.
ثم قمت أنا إليه فسلمت عليه فرد علي السلام، وقال: من أنت يرحمك الله؟ قلت: أنا صالح، قال: القارئ؟ قلت: نعم، قال: فرفع يديه فقال: الحمد لله الذي جمعكم لي، أما إني كنت أسأل الله تعالى أن يجمعكم لي، فالحمد لله الذي استجاب دعوتي، يا صالح إني الى قراءتك بالأشواق. فقال له محمد بن واسع: يا أبا جهير إنما جئنا لتدعو الله تعالى لنا. قال: فرفع يديه و رفعنا أيدينا، وجعل يدعو ساعة.
ثم قال: يا صالح اقرأ. قال صالح: فذهبت أقرأ، ففتح الله علي من الصوت شيئا لم أعرفه من نفسي قط ولا سمعت مثله من غيري. ثم قرأت : " أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَٰنِ " ، قال: فعلى صوته وغُشي عليه.
قال: فظننا أنه قد مات، فلم نزل نزلزله و نصب عليه الماء الى أن أفاق، فلما أفاق و رجع، فكأنه لم يخلق في جسده من الروح شيء. فقال لي: يا صالح اقرأ، فاني لا أشبع من قراءتك. قال: فقرأت : " وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا " (24)الفرقان
قال: فو الله ما تممت الآية حتى مات رحمة الله عليه.
قال: فظننا أنه مثل الاول فحركناه فاذا هو يابس.
قال: فقمنا الى المرأة فقلنا لها: يا هذه؟ فقالت: ما تسألون؟ قلنا: ان أبا جهير- رحمة الله عليه- قُرئ عليه القرآن فمات. فقالت: ليس هذا بعجب، ولكن أخبروني أفيكم صالح القارئ؟ قلنا: وتعرفينه؟ قالت: ما رأيته قط. قلنا: فلأي شيء تسألين عنه؟ قالت: ان أبا جهير- رحمه الله - كان كثيرا ما يقول: إني الى قراءة صالح المري بالأشواق، واعلمي يا هذه أني اذا سمعت قراءته مت، فلما قلتم لي: انه سمع القرآن فمات، ظننت أنه سمع قراءة صالح فمات.
فقالت: الحمد لله الذي استجاب دعاه، وأعطاه سؤله، يا هؤلاء ان أبا جهير كان يدعو كثيرا: اللهم اخمل أمري على الناس، وهذا سرير غسله، والسرير الذي يحمل عليه موضوع، وأكفانه، وقطنه، وحنوطه، ودخنته، والمجمر، والفحم موضوع مهيأ، كان يجدد ذلك كل أيام، وليس تكلفوا شراء شيء من الاشياء، وهذا زنبيل ومسحاة وفأس لقبره، ولنا جيران حوالينا بيوتهم فيها الرجل والرجلان فأعلموهم يحضرون، فيحفرون له قبرا بين يدي داره، وتولوا أنتم غسله وأدخلوه قبره.
ففعلنا ذلك، فغسلناه ووضعناه على سريره، واجتمع جيرانه نحوا من عشرين رجلا، فحفروا له قبرا بين يدي داره، فأخذوا هم في حفر قبره، وأخذنا نحن في غسله. فلما فرغنا من غسله و جئنا بأكفانه فألبسناه ووضعناه على سريره، وقد فرغ من حفر قبره، فأخرجناه، فصلى عليه محمد بن واسع، ثم دفناه رحمة الله عليه، فما رأينا للمرأة وجها ولا سمعنا بكاء ولا حسا.
و انصرفنا راجعين و تفرقنا.
قال صالح: كنت اذا لقيت محمد بن سليمان الهاشمي قال لي: يا صالح حدثني بحديث أبي جهير, فأحدثه فلا يزال يبكي حتى تبل لحيته.