من كتاب كواشف زيوف
http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=4581

أبيقور والأبيقوريون

من هو أبيقور؟
هو فيلسوف مادّي يوناني ، تلميذ آراء وأفكار "ديموقريطس" . عاش ما بين (341-270 ق.م).

أخذ أسس مذهبه الذري عن أستاذه ، في بضع الآراء . وتلاميذ "أبيقور" يُنسبون إليه في الفلسفة اليونانية ، فيقال عنهم : أبيقوريون .
أهم مقولاتهم المادّية التي تلتقي مع الفكر الإلحادي
أولاً: أسس مذهب الأبيقوريين ترجع إلى المذهب الذري الذي قال به "ديموقريطس" من قبل ، لكن "أبيقور" أضاف فكرة الميل في التحرّك الآلي في الذرات ، ليحصل التصادم بينها ، فتتكوّن الظاهرات الكونية .
ونقض المذهب المادّي كلّه يرجع إلى براهين واحدة ، منها ما سبق بيانه لدى الكلام على "ديموقريطس" . وتفصيلها سيأتي إن شاء الله في فصل خاصّ ، يردّ على جميع آراء المادّيين .
ثانياً: للأبيقوريين أقوال يهاجمون فيها الدين الوثني المعدد للآلهة ، والذي كان منتشراً بين اليونانيين وغيرهم ، في تلك العصور .
فمن أقوال "لوكرتيوس" أحد الأبيقوريين : "إن الدين شرٌّ ما بعده شرّ ، وإن الواجب على الإنسان ومهمة الفلسفة الأولى أن تتخلص نهائياً من كل دين ، لأن الدين هو ينبوع كل شر ".
وربما لم يكن في عهدهم ذلك صورة صحيحة عن دين رباني صحيح ، وإنما لديهم أديان وثنية خرافية ، لذلك شجبُوا الدين الذي رأوا نماذجه في عصورهم .
ولذلك نجد في تعبيرات الأبيقوريين : أن الذي يؤمن بالدين الشعبي المألوف ومعتقداته يرتكب خطيئة دينية في الواقع ، بينما الذي لا يؤمن بها هو الذي يسلك سبيل الصواب .
وهجومهم على هذا النوع من الأديان لا شأن لنا به ، وقد يكون لهم في ذلك عذر ، لما عليه هذه الأديان من خرافات وأضاليل وأكاذيب .
ثالثاً: ينكر الأبيقوريون ظاهرة العناية الإلهية ، التي هي إحدى أدلة المثبتين وجود الله .
وإنكارهم لها مستند إلى ملاحظة أمور يرونها في الكون شرّاً ، ويرون أن وجودها ينقض بحسب تصوّرهم فكرة العناية ، حتى زعموا أن فكرة العناية الربانية وهم من الأوهام ، وقالوا :
* أين العناية الربانية في عالم حظّ الشرِّ فيه أكبر من حظ الخير ، ومصير فاعل الخير أسوأ من مصير فاعل الشر ؟
* وأين العناية الربانية في عالم لا يوجد فيه مكان يصلح لسكنى الإنسان إلا جزء ضئيل منه؟
* وأين العناية الربانية التي تركت الإنسان خلواً من كلا سلاح ، بل هو الحيوان الأكبر الأعزل ؟
إلى نحو ذلك من تساؤلات ، تعبّر عن إنكارهم لظاهرة العناية .
كشف بطلان هذه الفكرة
أولاً: إن هذه التساؤلات التي طرحها الأبيقوريون منذ نيّف وعشرين قرناً ، ويطرح نظيرها جميع منكري العناية الربانية ، تدل على نظرة قاصرة جداً ، حكموا بها على الوجود ، الأمر الذي يسمح لنا بأن نقول : إن هذه النظرة نظرةٌ سخيفة ومحدودة ، وينبغي أن لا تصدر مطلقاً عن ذي فكر عادي ، فضلاً عن باحث فيلسوف .
إن الرؤية الناقصة القاصرة المحدودة ، التي تتناول جانباً جزئياً صغيراً جداً ، من المجموع الكلي الكبير ، والتي لا تسمح لصاحبها بأن يدرك معاني الحكمة الكلية ، تجعله يصدر أحكاماً باطلة ، مبنية على رؤيته هذه .
فمن لم ير من الوجود إلا ما يسوؤه جلب إلى نفسه الاكتئاب ، وغدا متشائماً ، وحكم على الوجود بأن الشر هو الغالب فيه . وعكسه الذي لا يرى من الوجود إلا ما يسره ، فإنه يبتهج بالحياة ، ويتفاءل بكل شيء ، ويحكم على الوجود بأن الخير هو الغالب فيه ، وقد يطغيه ذلك .
لكن النظرة الإيمانية التي منحنا إياها الفهمُ الديني الصحيح الذي بينه لنا الإسلام ، تعطي المؤمنين رؤية كلية شاملة ، وهذه الرؤية تشاهد حكمة الله في الخلق ، بدءاً من حياة الإنسان في دار الامتحان ، وهي الدار الدنيا ، حتى منازل الخلود في دار الجزاء ، وهي الدار الآخرة .
فالإنسان في هذه الحياة مُبتلىً ممتحن ، وبديهة الفكر تقرر أن الإنسان ما دام قد خلق ليمتحن ، وليكسب مقادير آخرته باختياره ، فإنّ الامتحان في دار الحياة الدنيا هذه يستلزم أن يكون الإنسان فيها عرضة لقسمين من أقسام الامتحان ، نظراً إلى أن إحساسه الشعوري قائم على محورين ، محور اللذة ومستتبعاتها ، ومحور الألم ومستتبعاته .
فالقسم الأول : هو ما يلذه أو يفرحه ويسرّه من محابّ في هذه الحياة الدنيا وهي النعم المادّية أو المعنوية التي تمتعه ليختبر بها حمده وشكره ، واستقامته ، وعدم بطره وطغيانه ، فإذا كان من الناجحين في هذا الامتحان كان من الخالدين في السعادة يوم الدين .
والقسم الثاني : ما يؤلمه ويحزنه ويسوؤه من مكاره في هذه الحياة الدنيا ، وهي المصائب التي تمسّه ، ليختبر بها صبره واحتماله ، ورضاه عن الله فيما تجري به مقاديره ، واستقامته على طاعته ، وثباته على إيمانه بربه وبكمال حكمته ، رغم كل ما أصابه من مكاره .
إذن : فلا بد من وجود مصائب ومكاره في هذه الحياة الدنيا ، ليستوفي الامتحان شروطه اللازمة له ، بذل تقضي الحكمة .
هذه الحقيقة بينها الله عزّ وجلّ لنا بقوله في سورة (الأنبياء مصحف/73 نزول):
{كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}.
وفي ظروف الحياة الدنيا قد تقضي الحكمة بمعاقبة بعض المسيئين والمجرمين ، عناية بالمسيء حتى يتوب ، أو تنبيهاً على قانون العدل الرباني ، أو مكافأة للمظلوم وجبراً لخاطره. على أن الجزاء الأوفى مدّخر إلى يوم الدين ، ونظير ذلك يكون في بعض صورة الثواب العجل .
وآلام الذين هم دون التكليف آلام إعداد وتربية ، اقتضتها السنن الثابتة العامة .
فكلٌّ من النعم والمصائب في هذه الحياة الدنيا ، إما أنها للامتحان وهو الأصل ، وإما أن تكون من معجّل الجزاء ، وإما أن تكون للتربية ، وكل ذلك مقرون بحكمة عظيمة .
فما زعمه منكرو العناية الإلهية باطل تماماً ، وما ادّعوه من أن مصير فاعل الخير أسوأ من مصير فاعل الشر ، فالفساد فيه آتٍ من وجهين :
الأول : أننا لا نجد هذه الدعوى منطبقة على الواقع الدنيوي انطباقاً كلياً ، بل قد يحدث هذا وقد يحدث عكسه ، وكلٌّ من الأمرين مشمول بقانون الابتلاء الرباني . هذا مع حصر النظر في ظروف الحياة الدنيا .
الثاني : أن قصة الوجود لا تنتهي بالموت في هذه الحياة الدنيا ، بل الموت عبارة عن انتهاء مدة امتحان الإنسان ، الموضوع موضع الامتحان في هذه الحياة .
وبعد ذلك تأتي الحياة الأخرى الخالدة ، التي يكون فيها الجزاء الأوفى .
والدين الحق يكشف أن قانون الجزاء الرباني يومئذ ، يتضمنه قول الله عزّ وجلّ في الدين الخاتم :
{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}.
ولا بد أن نلاحظ في هذا الموضوع أن من لوازم الامتحان المستوفي لشروطه ، تمكين المجرمين من ممارسة جرائمهم في الحياة الدنيا ، ليستوفوا عقابهم يوم الدين .
ويومئذٍ يكون التعويض عظيماً لمن وقعت عليهم الجرائم ، إذا هم آمنوا بالله وعدله وحكمته واستقاموا على طاعته .
وليس معنى ذلك أن لا ينتصروا لأنفسهم في الحياة الدنيا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً ، بل ذلك من مسؤولياتهم في حدود استطاعتهم .
ولولا تمكين المجرمين من ممارسة جرائمهم في ظروف هذه الحياة الدنيا ، ما استوفى الامتحان الأمثل شروطه اللازمة .
فإذا تركنا موضوعات النعم والمصائب وأنواع الشرور التي يمارسها الناس بإرادتهم الحرة ، والتي اقتضتها في هذه الحياة الدنيا مقتضيات الامتحان الأمثل ، وانتقلنا إلى كل ظواهر الوجود الأخرى ، فإننا نجد عناية الله ظاهرة في كل شيء.
هل يجد الباحثون في ظواهر الكون الكبير إلا التلاؤم التام بين الأشياء ، وبينها وبين حاجات الأحياء؟

أليس لكل داء دواء ، ولكل مرض وعلة وسيلة شفاء؟
أليس لكل حيّ ما يناسبه في الأرض من غذاء ؟
أليست العناية الربانية هي التي أتقنت كل شيءٍ خلقته ، من الذرّة إلى المجرّة . من الخلية إلى جسم الكائن الحيّ كله؟
لقد كفتنا العلوم الكونية المعاصرة المتعمقة التي قام بها العلماء المادّيون ، فقد أثبتت بشكل قطعي ظاهرة العناية الربّانيّة ، بما لا يدع مجالاً للشك مطلقاً .
فلسنا بحاجة إلى إثباتات عقلية ، أو استدلالات نعتمد فيها على الظواهر السطحيّة للكائنات بالرؤية العادية .
وأقول أخيراً :
إن قصور النظر إلى الواقع لا يغير من كمال الواقع شيئاً .
ثانياً: قولهم : أين العناية الربانية في عالم لا يوجد فيه مكان يصلح لسكنى الإنسان إلا جزء ضئيل منه؟ قول سخيف .
* هل استوعب الإنسان الأرض كلها حتى يبحث عن غيرها؟
* إن الأرض كلها لهذه الحياة الأولى ليست أكثر من مختبر ، لامتحان الوافدين إليه ، وليست هي الجنة المعدة للخلود . فجنات النعيم فيها كل ما يطلب أصحابها ، ومزيد لا يخطر على بالهم من فيض فضل الله وجَوده العظيم .
إن عدم فهم الحكمة من الخلق يوقع في الأغاليط الكثيرة .
* * *
ثالثاً: قولهم : أين العناية الربانية التي تركت الإنسان خلواً من كل سلاح ، بل هو الحيوان الأكبر الأعزل؟ هو قولُ ينقضه واقع حال الإنسان ، الذي سلّحه الخالق العظيم بالفكر ، الذي يستخدم به كل ما في الكون المسخر له بقضاء الله وقدره .
ونقول : أليس من عناية الله بالإنسان أن سخّر له كل ما في الأرض ، وما في السماء أيضاً ، وقد ظهر ذلك في عصرنا عصر الكشوف العلمية التي جعلت الإنسان يجوب في الآفاق ويصل إلى القمر وغيره من الكواكب ؟
أليس الإنسان هو المسلط بفكره ووسائله على كل كائنا البرّ والبحر؟
لقد كان مبلغهم من الرؤية قاصراً ، فكان مبلغهم من العلم قليلاً.
والحمد لله الذي هدانا للحق بدينه الخاتم ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .