الإيمان بالله تعالى هو كبرى النعم التي يكرم الله بها من يشاء من عباده، إنه أكبر من نعمة الوجود نفسها، ومن كل ما يتعلق بالوجود من نعم الرزق والصحة والمتاع، قال الله عز وجل «يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» «الحجرات: 17» يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يمنّ عليك هؤلاء الأعراب يا محمد أن أسلموا «قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ» «الحجرات: 17» يقول: بل الله يمن عليكم أيها القوم أن وفقكم للإيمان به وبرسوله «إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» «الحجرات: 17» يقول: إن كنتم صادقين في قولكم آمنا، فإن الله هو الذي منّ عليكم بأن هداكم له، فلا تمنوا عليّ بإسلامكم، وذُكر أن هؤلاء الأعراب من بني أسد، امتنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: آمنا من غير قتال، ولم نقاتلك كما قاتلك غيرنا، فأنزل الله فيهم هذه الآيات.

وقال سبحانه: «يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» «يونس: 57,58» «يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ» «يونس: 57» القرآن الكريم «وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ» «يونس: 57» وأمراض الصدور: أخطر من أمراض الجسوم، لأن أمراض الصدور تؤدي إلى الجحيم، وأمراض الجسوم تؤدي إلى النعيم ولا شفاء للصدر إلا بالقرآن، ولا نجاة من النيران إلا به وشفاء الصدور: هو تخليصها من الشرور، وإرشادها إلى ما فيه الحياة الأبدية، والسعادة السرمدية.
وقد ورد أن المراد بفضل الله في هذه الآية: الإسلام. والمراد برحمته: القرآن. هذا وكل خير يصيب الإنسان: فمرده إلى فضل الله تعالى وحده، وكل بر وسعادة ونجاة: فمرده إلى رحمته جل شأنه ففضله تعالى ورحمته هما الموصلان إلى خيري الدنيا والآخرة منحنا الله تعالى فضله، ووهبنا رحمته، بفضله ورحمته «هُوَ» «يونس: 58» أي فضل الله ورحمته «خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» «يونس: 58» في الدنيا من الأموال.
إن فضائل الإيمان وآثاره النفسية والقلبية، وآثاره في حياة الإنسان العملية كثيرة، فهو نور وسكينة للقلب والعقل، وهو تحرر وكرامة وعزة للنفس، وهو قوة وعزيمة دافعة للخير.
من هنا كان الأساس الأول للتربية الروحية في الإسلام، لقد بدأ هذا المنهج بتثبيت كلمة الإيمان في النفوس، وترسيخها في أعماق القلوب في أول ظهور الإسلام، وطالت مدة غرس حقيقة الإيمان بين أهل مكة في ذلك العصر، حتى بلغت ثلاثة عشر عاماً، لم يكن المنهج الإسلامي يهتم إلا بها، حتى إذا نبتت كلمة الإيمان، وصارت عقيدة مكينة في القلوب، وأصبحت مهيأة لامتثال أوامر الله تعالى، عندئذ بدأت التكاليف الشرعية، بما فيها العبادات والحدود والمعاملات، وعندئذ بدأت التربية وتنقية النفوس من رواسب الجاهلية ورذائلها وانحرافاتها.
لقد كان الإيمان ولا يزال مدرسة خُلقية، وتربية نفسية ذاتية تجعل الإنسان يتمسك تلقائياً بالفضائل الخلقية ويضرب أروع الأمثلة في الصبر والشجاعة والتضحية والأمانة والعفة، قال أبو الحسن الندوي: «كان الإيمان أقوى وازع عرفه تاريخ الأخلاق وعلم النفس، يحبس الإنسان عن الزلات الخلقية والسقطات البشرية، وحتى إذا جَمَحَتْ بالإنسان السورة البهيمية، وسقط سقطة، وكان ذلك حيث لا تراقبه عين، ولا تتناوله يد القانون، تحوَّل هذا الإيمان، في أعماقه، نفساً لوامة عنيفة ووخزاً لاذعاً للضمير، لا يرتاح معه صاحبه حتى يعترف بذنبه، ويعرض نفسه للعقوبة الشديدة، ويتحملها مطمئناً مرتاحاً، تفادياً لسخط الله وعقوبة الآخرة. وكان هذا الإيمان حارساً لأمانة الإنسان وعفافه وكرامته، يملك زمام نفسه أمام المطامع والشهوات الجارفة في الخلوة والوحدة حيث لا يراه أحد وفي عز سلطانه ونفوذه حيث لا يخاف أحداً».
إن كل خير وكل فضل في حياة الإنسان وأعماله ما هو إلا من ثمار كلمة التوحيد الطيبة، ونور الإيمان بالله. قال الله عز وجل: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» «إبراهيم: 24,25» ألم تعلم - أيها الرسول - كيف ضرب الله مثلا لكلمة التوحيد (لا إله إلا الله) بشجرة عظيمة، وهي النخلة، أصلها متمكن في الأرض، وأعلاها مرتفع علوًّا نحو السماء؟ تعطي ثمارها كل وقت بإذن ربها، وكذلك شجرة الإيمان أصلها ثابت في قلب المؤمن علمًا واعتقادًا، وفرعها من الأعمال الصالحة والأخلاق المرضية يُرفع إلى الله وينال ثوابه في كل وقت. ويضرب الله الأمثال للناس؛ ليتذكروا ويتعظوا، فيعتبروا.
فثمرات الإيمان وآثاره الطيبة في نفس الإنسان وحياته لا تعد ولا تحصى، ومن ثمراته أنه يحرر فكر الإنسان، ويحفظ عزته وكرامته. فالمؤمن يعلم أن الله تعالى هو وحده المالك لكل شيء، وهو رب العالمين، بيده المنع والعطاء والنفع والضر، والغنى والفقر، الإيمان بهذه الحقيقة يجعل الإنسان متحرراً، لا يخاف من أي قوة في الأرض أن تضره، ولا ينتظر منها أن تنفعه، لا يمد يده لأحد، ولا يذل نفسه لأحد، ويتحرر من الخرافات والأضاليل، ومن الاعتقادات الباطلة التي تقيد فكره وتلفه في ظلام الأوهام. مثل هذا التحرر لا يحصل إلا بالإيمان بالله تعالى.
ومن ثمراته الطيبة الطمأنينة والرضى، فالمؤمن لا يكون بأي حال قنوطاً، لأن لديه العلم بأن الله هو مالك خزائن السموات والأرض، وبأن رحمته الواسعة لا حدود لها.
هذا الإيمان يملأ قلبه رجاء وأملاً في رحمة الله وفضله، ومع أنه يصادف في الدنيا البؤس والحرمان والابتلاء، فإن الأمل والرجاء لا يفارقانه أبداً، وبقوة يمضى في حياته عاملاً متفائلاً، والكافرون محرومون من هذه النعمة، لذلك يسيطر عليهم اليأس، وغالباً ما يؤدى بهم إلى الانتحار، والله عز وجل يقول: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» «العنكبوت: 23» والذين جحدوا حُجج الله وأنكروا أدلته، ولقاءه يوم القيامة، أولئك ليس لهم مطمع في رحمتي لَمَّا عاينوا ما أُعِدَّ لهم من العذاب، وأولئك لهم عذاب مؤلم موجع.
إن الإيمان بالله يجعل الإنسان قوي العزيمة كثير الصبر، ثابتاً كالجبل مهما كانت المصاعب، ويجعله يراقب الله تعالى ويطيعه في أوامره ونواهيه، لأنه يعلم أن الله معه أينما كان وأنه مطلع على سره وعلانيته. هذا الإيمان هو المبدأ الأساس في التربية الإسلامية.

جريدة الأيام البحرينية
http://www.alayam.com/alayam/Variety/535243/News.html