قال تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ.
في دعوى بعض الطاعنين على طريقة الاستدلال القرآني يزعم هؤلاء الملحدون أن منطق القرآن في هذه الآية منطق ضعيف، إذ أننا أمام أحد احتمالين : إما أنه يقصد بالعذاب العذاب الدنيوي بمعنى الكوارث و النكبات التي حلت بأهل الكتاب - لاسيما اليهود - كالسبي البابلي و الخراب الأول و الثاني لبيت المقدس وما صاحبه من قتل و تشريد و سبي لليهود وهنا يمكن لأهل الكتاب أن يفسروا هذا الأمر بالابتلاء الذى يقصد به التقويم و ليس الانتقام كما يقسو الأب أحيانا على بنيه إذا ارتكبوا بعض الأخطاء كي يقومهم و يعيدهم إلى جادة الصواب، فلا يتعارض إنزال البلاء بهم مع كونهم أبنائه و أحبائه – بمعنى أن لهم مكانة و منزلة خاصة من الله دون سائر الخلق و هذا يقوله اليهود و النصارى صراحة فالبنوة يقصد بها بنوة اصطفاء و ليس بمعنى أنهم أولاده من نسله * –, و إما أنه يقصد بذلك العذاب الأخروي و هنا يزعم زاعمهم أن أهل الكتاب من يهود و نصارى لا يعتقدون في العذاب الأخروي إلا لغير اليهود أو لغير النصارى على الترتيب.
و الرد على ذلك في مقامين.
أولا: أن القرآن نفسه حسم تلك المسألة لصالح الاحتمال الثاني وهو أن المقصود العذاب الأخروي و الدليل قوله تعالى : وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً. و بالرغم من أن القرآن أنكر عليهم مقالتهم تلك وقال أن من يكفر منهم بالنبي صلى الله عليه وسلم هو مخلد في النار و ذلك قوله : بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ. فقد اتخذ من مقالتهم تلك حجة عليهم في تكذيب دعواهم أنهم أبناء الله و أحباؤه, إذا أن العذاب في الآخرة بعد انقضاء الدنيا كدار للامتحان و الاختبار لا معنى له سوى أنه يعاملهم بعدله كسائر البشر إذ لا يُرجي من تعذيبهم في الآخرة تقويم ولا اصلاح لأن الآخرة ليست دارا للامتحان بل دار للثواب و العقاب و من أحب أحدا لا يعذبه لمجرد أن يقابل إساءته بالعقوبة طالما لا يرجي من العقوبة تقويم ولا اصلاح و هذا هو الحال في الآخرة و لذا فإن الله اذا أحب عبدا لا يعذبه في الآخرة ألبتة.
ثانيا: الجواب على جزئية هل اليهود و النصارى يعتقدون في العذاب الأخروي للعصاة منهم؟ و الرد على ذلك بالإيجاب, ذلك أن اليهود يعتقدون أن عصاتهم يعذبون في جهنم و كلمة جهنم قيل أن أصلها عند أهل الكتاب "جيهينا" أو وادي بني هنوم و هو مكان كان يقع بالقرب من أورشليم وفق العهد القديم وكانت تقدم فيه ذبائح بشرية من الأطفال دون 3 سنوات من قبل الكنعانيين للآلهة الكنعانية مثل بعل و مولك وقد شبه هذا المكان بجهنم لأن الكنعانيين كانوا يقدمون أطفالهم كقربان للآلهة تأكله النار**. و يعتقد اليهود – بحسب المشناه*** – أن عصاتهم يمكثون في جهنم اثنا عشر شهرا – وهذا مقصدهم بقولهم أَيَّامًا مَعْدُودَةً - كي يتطهروا من ذنوبهم قبل الدخول إلى جنة عدن.
أما النصارى فلدى أكبر شيع النصارى – وهم الكاثوليك – عقيدة المَطْهَر وهي بحسب ويكيبيديا: هو معتقد كاثوليكي. وهو مكان تذهب إليه أنفس الخطاه المؤمنين الذين لم يتوبوا توبه كاملة عن كل خطاياهم فيذهبون الي المطهر حيث يطهرون بنار حتي يصبحوا أهلين لملكوت الله. وإن كانت لم تأخذ صورتها النهائية إلا في القرن الثاني عشر الميلادي في مجمع ليون إلا أن المعتقد – بحسب دائرة المعارف البريطانية ^ – له أصل في كتابات "أوريجانوس" (ت 254م) و غريعوريوس النيصى (ت 394) و أوغسطين (ت 430) وهؤلاء من آباء الكنيسة فضلا عن البابا غريغوريوس الأول ( ت 604)و أخذ يتطور حتى القرن الثاني العشر.
__________________________
المصادر:
* انظر عند اليهود مثلا : أَنْتُمْ أَوْلاَدٌ لِلرَّبِّ إِلهِكُمْ. لاَ تَخْمِشُوا أَجْسَامَكُمْ وَلاَ تَجْعَلُوا قَرْعَةً بَيْنَ أَعْيُنِكُمْ لأَجْلِ مَيْتٍ. لأَنَّكَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ. وَقَدِ اخْتَارَكَ الرَّبُّ لِكَيْ تَكُونَ لَهُ شَعْبًا خَاصًّا" (تثنية 14: 1، 2). و عند النصارى: لأَنَّكُمْ جَمِيعاً أَبْنَاءُ اللهِ بِالإِيمَانِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ" (غلاطية 26:3)
** سفر الملوك الثاني الإصحاح 23 العدد 10 : وَدَنَّسَ الْمَلِكُ أَيْضاً مَذْبَحَ تُوفَةَ فِي وَادِي بَنِي هِنُّومَ، لِكَيْ لَا يُجِيزَ أَحَدٌ ابْنَهُ أَوِ ابْنَتَهُ فِي النَّارِ للِصَّنَمِ مُولَكَ.
*** Mishnah Eduyot 2:9, Shabbat 33a نقلا عن :
https://www.myjewishlearning.com/art...ish-tradition/
^ https://www.britannica.com/topic/pur...an-Catholicism