المزالق الفكرية في مفهوم الوسطيّة
إعداد: بوودن دحمان حذيفة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد:
لقد أضحت المصطلحات من أبرز آليات الصراع الحضاري بين الأمم، بل حتى بين أفراد الأمة الواحدة، وإنّما كان المصطلح أداة في الصراع، لأنّه الوعاء المعبّر عن العقيدة، فبإفساده تفسد العقيدة، ومن هنا كان تحديد معاني المصطلحات مطلب أساس لتوضيح المراد، وتضييق دائرة الاختلاف، إذْ أنّ منشأ الخطأ في الفهم راجع في أغلب الأحيان إلى غموض الألفاظ والتباسها، كما قال ابن تيمية رحمه الله في المجموع -ج 12: ص114-:"إنّ كثيرًا من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة مبتدعة، ومعان مشتبهة، حتى تجد الرجلين يتخاصمان ويتعاديان على إطلاق ألفاظ ونفيها ولو سُئل كلّ منهما عن معنى ما قاله لم يتصوره فضلًا عن أن يعرف دليله".
ويُعَدُّ لفظ "الوسطيّة" من الألفاظ الشائعة التي تحمل مدلولات كثيرة، فقد أصبح هذا الأخير مصطلحا مطّاطا يقبَلُ التغيُّر عند الكثير، وذلك تبعا لتغير مشاربهم وأهواءهم، ممّا جعَل شعار الوسطيَّة مثيرًا لكثير من الريبة، فكثير ممّن ينتسبون للوسطية يَرُومون بها تلك المواقف التي تختارُ الوسط من كلِّ شيء، بغضِّ النظر عن قُربِه أو بُعدِه عن الحق الذي بيَّنَتْه الشريعة، حتّى أصبح مصطلح الوسطية علامةً على التميُّع والتسيُّب، وقبول رأي الغير وإنْ كان باطلاً، ما يعني في النهاية المُداهَنة والمُجامَلة على حِساب الحق. وسنحاول في هذه المقال وضع المُصطلح في إطاره الصحيح، إذ لا شك أنّ مصطلح الوسطية هو مصطلح شرعي له ما يؤيده من القرآن والسنَّة وأقوال أهل العلم، فأمَّة الإسلام أمة وسَط بين الأُمَم، وذلك باعتبار الصراط المستقيم الذي تسير عليه.
لكن مما نتأسف عليه أنّ تلك الأحداث الإرهابية الواقعة هنا وهناك دفعت الكثير مِن الكتَّاب والإعلاميين إلى رفْع شعار الوسطيّة كي لا يُقال: إنَّ الإسلام دينُ إرْهاب! ولم تكن غايتهم تبرئةَ الدِّين الإسلامي من ذلك بقدر ما كانت مداهنة الغرب القويّ حتى يرضى عنهم! وفي أثناء ذلك جمح الحماسُ ببعضهم فوصموا كلَّ ملتزم بدينه بالتطرُّف، ثم إنّهم جعلوا من لازم النصوص الآمرة بالتيسير أن يُطلَق العِنان للناس لفعل ما تشتهيه نفوسهم ولو كان حراما، ونسوا قول الله تعالى:"وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها" البقرة.187
ومن جانب آخر، فقد استخدم بعضهم الوسطية أداة للتقارُب بين المجتمع المسلم والمجتمعات الكافرة، بحيث يُمكِن للمسلِم أن يتنازل عن بعض تعاليم دينه حتى يتوافَقَ مع الأشكال الغربيّة الفاسدة! كما أنتجتْ شركاتُ الإفتاء فتاوى تُبيح المحرَّمات وتشرع التنازلات باسم الحوار والتعايش، وعَلَتْ أصواتُ المنادين برُوح الشريعة الإسلامية ومقاصدها، وغيرها من العبارات الملغومة، حتى آل الأمر ببعضهم إلى نبذ مُسلَّمات الدين باسم الوسطيّة!.
بل بعضهم جعل الوسطيَّة اختيارًا نسبيًّا لما يفرضه الواقع، دون أنْ تُوزَن تلك الاختيارات بميزان الشرع، فهو يقف في الوسط بين كلّ متناقضين، ويسعى للتوفيق بينهما من غير أن يتخذ الموقف الشرعي الذي يوجبه عليه دينه، فتراه مثلا يقف بين السنَّة والبدعة، فلا يرفض البدعة بإطلاق، ولا يقبل السنَّة بإطلاق!
إنهم يُريدون بذلك تنزيلَ الواقِع على الدِّين، لا تنزيلَ الدِّين على الواقِع، إنَّهم يُريدون تفسيرَ النُّصوص الشرعية تفسيرًا عصريًّا يوافِق الفلسفاتِ الغربيةَ، والمواثيقَ الدوليَّة...فلا الإسلام نصروا، ولا الكفر كسروا، وإنما عاشوا على تمييع دينهم، والتنازل عن ثوابته، من أجل أن تلمَّع صورتهم في الإعلام على أنّهم من دعاة الوسطية! وقد جاء التحذيرُ في القُرآن الكريم للرسول صلَّى الله عليه وسلَّم وللأمَّة من بعده من اتِّباع أهواء البشَر وتنفيذ مطالبهم على حِساب الحق ولو في الشيء القليل، قال الله تعالى: "وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ" -سورة المائدة: 49.
إنّ الوسطيّة إذا سايرنا هؤلاء تعني انتظار ما يقوله الآخرون وتبعيّتهم في ذلك، وما هكذا يكون منهج الوسطية، فالدين ليس هو ذلك المجهول الذي يعرف بالقياس إلى غيره، وإنّما هو المعلوم الذي تعرف حقيقة غيره بالقياس إليه، وما أحسن ما قاله العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان - ص:70-.: "فلهذه الأمة من الدين أكمله، ومن الأخلاق أجلها، ومن الأعمال أفضلها، ووهبهم من العلم والحلم والعدل والإحسان ما لم يهبه لأمة سواهم، فلذلك كانوا أُمَّةً وَسَطًا كاملين معتدلين، ليكونوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، بسبب عدالتهم وحكمهم بالقسط، يحكمون على الناس من سائر الأديان، ولا يحكم عليهم غيرهم".
وبعضهم ألبس النفاق رداء الوسطية! فأمسكوا العصا من الوسط بحيث لا يخسروا هؤلاء ولا يُعادوا أولئك، وإنما اختارُوا تلك البُقعة البَيْنِيَّة التي تقع في منتصف القضايا، غرسوا بها أقدامهم، فلا أرادوا الحقَّ وبحثوا عنه، ولا ارتدُّوا إلى الباطل والتزَمُوه، فالمسألة بالنسبة لهم هي الربح والخسارة، ما يُوقعهم في كثير من الحيرة والاضطراب، فيُلجِئهم ذلك إلى التلوُّن بلون باهت، والتزيِّي بلباسٍ فضفاض، لا تُعرَف لهم وجهة، ولا تُدرَك لهم غاية، خِطابهم رنَّان ولكن دون فحوى، وألفاظهم حمّالة أوجه لا تكاد تُدرِك لها معنى، وأيًّا كانت النتيجة فكلامهم مُجهَّز لكلِّ موقف بحسبه، فهم يُراهِنون على عنصر الوقت الذي هو عنصر مهمٌّ في التربُّص بالأحوال، لذا فهم يتحلَّون بالتباطُؤ حتى ينكشف لهم ما تُسفِر عنه الأحداث، وقد فضَحَهُم الله وأفشى سريرتهم، فقال عزَّ وجلَّ: "وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا، وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا" - سورة النساء: 72 - 73- وهم مع ذلك لا يستطيعوا أنْ يُظهِروا ذلك للناس فينفروا منهم، بل يتجمَّلوا بالأقوال والأفعال التي تجعلهم في المنتصف، فلا تُلحِقهم بأي من الفريقين، بل قد تجعل الواحد منهم حائرًا قَلِقًا متذبذبا لا يستطيع اتِّخاذ قَرار أو إعلان انتماء لأحد الفئتين، كما قال تعالى في وصفهم: "مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا" - سورة النساء: 143- ولكن بالرغم من كلِّ ذلك فإنَّ الله عزَّ وجلَّ لا يترُك الأمر هكذا طويلا، فعند الشدائد يختفي أهل الوسط المنحرف، ويصبح الناس صِنفَيْن لا وسط بينهما، قال الله عزَّ وجلَّ: "مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ"- آل عمران: 179-
وبعضهم يُفسِّرُ الوسطيَّة بأنّها غَضُّ الطَّرف وعدم التَّثريب على كلِّ من خالف، مادام أنّ الكلّ يستظلُّ بمظلَّةِ الإسلام! ومِن لازِمِ مذهبِهم أنّه لا إنكارَ على مَن نفَى صفاتِ الله تعالى، ولا على من سَبَّ الصحابة وأمَّهات المؤمنين، بل ولا إنكار على مَن أدَّاه اجتهادُه إلى القول بتحليل أمرٍ حرَّمَه الشَّرع، بدعوى المصلحة التي ظهَرتْ لذلك المفتي، وهلمَّ جرًّا من تلك الآراء التي ستَلغِي أحكامَ الشريعة ومَقاصِدها بدعوى طَيِّ بِساط الخِلاف! في الوقت الذي أوضحَ فيه العلماءُ الراسخون أنَّ إنكارَ المنكر من أعظم خَصائص الأمَّة، وأعظم الإنكار هو الإنكار على مَن خالَفَ أو هوَّن من التمسُّك بالثوابت، فالخِلاف في مثل هذا لا قيمةَ له، ولله در الناظم حيث قال: وليس كل خلاف يعد معتبرا **** إلا أن يكون له حظ من النظر
فالوسطيَّة لا تعني تلميعَ دِيننا في عيون غير المسلمين، بل الاعتزازَ به والافتخارَ بأحكامه، رَضِيَ مَن رَضِي وسَخِطَ مَن سَخِط، فإنَّ اختيار الموقف الوسط على حِساب الحق والتفريط في الدِّين أمرٌ مرفوضٌ في الإسلام، وهو نوعٌ من الانحراف المُقنَّع الذي لا ينطَلِي على مَن درس القرآن وتدبَّرَه.
وإذا أردنا معرفة الوسطية الحق، فلابدّ من القول أولاً بأنّ الوسط ليس معيارًا بشريًا تحدّد من خلاله الفضائل، لأنّ تحديد الفضيلة والرذيلة هو حقّ لله تعالى وحده، وليس الأمر متروكًا للبشر، لأنّه لا يمكن التسليم بمعيار أحد دون آخر، بل لابدّ من مرجع يرجع إليه الجميع يقفون عند أحكامه، وهذا المرجع لا بدّ أن يكون صادقاً صواباً، وإذا أردنا ذلك فإنّنا لا نجد غير الوحي، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه الفحل درء تعارض العقل والنقل -ج1، ص: 229-: "لأنّ الناس لا يفصل بينهم النزاع إلاّ كتاب منزل من السماء، وإذا رُدُّوا إلى عقولهم، فلكل واحدٍ منهم عقل" ولو كان تحديد الوسط موكولاً للناس لكان أمر نسبي، يختلف باختلاف الأشخاص، بل إنّ تحديد الوسط بين الأطراف المتقابلة أو المتضادة، على أن يكون هناك توازن بينها ويُعطَى كل طرف حقه بلا غلو ولا تقصير، هو أمر صعب يعجز عنه الإنسان بعقله المحدود وعلمه القاصر، فضلاً عن تأثير ميوله ونزعاته الشخصيّة والحزبيّة والعنصريّة، وغلبتها عليه من حيث يشعر أو لا يشعر، ومن هنا فإنّ القادر على إعطاء كلّ شيء حقّه بعدل وإنصاف هو الله الذي خلق كل شيء فقدَّره تقديرا، ولذلك كانت وسطيّة الإسلام هبة ربانيّة وليست بجعل جاعل، كما قال تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا" -سورة البقرة، 143- وقد عبّر عن هذا المعنى الشيخ الصالح محمد بن صالح العثيمين رحمه الله بقوله:"والوسط الضابط فيه: ما جاءت به الشريعة، فهو وسط، وما خالف الشريعة: فليس بوسط، بل هو مائل، إما للإفراط، وإما إلى التفريط" - فتاوى نور على الدرب، شريط 226، وجه ب- وعليه فإنّ الذي نعنيه من قولنا وسطيّة الإسلام، هو الحق الأصيل الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم قبل أن تشوبه الشوائب وتلحق به المبتدعات، فإنَّ المتأمِّل في أقوال السلف وكلام أهل العلم واصطلاحاتهم يجدُ أنَّ مصطلح الوسطيّة بهذا الإطار الذي هو شائعٌ اليوم لم يكن معروفًا بين السلف، فأقرب المصطلحات المرادفة لمصطلح الوسطيّة المعاصر عند السلف هو مصطلح "السنّة"، ولا يُراد بالسنّة هنا المعنى الفقهي أو الحديثي، وإنّما المراد بها الطريقة العامَّة للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم في العلم والعمل، وهو الذي يُذكر في باب الاعتقاد، وهو المراد من قول السلف: فلان على السنّة، ومنه الكتب المؤلفة في هذا الباب، مثل كتاب "السنّة" لعبد الله بن الإمام أحمد ولابن أبي عاصم وللخلال وللمروزي وغيرهم.
وممّا يدلّنا على أنَّ مرادف الوسطيّة هو السنّة وما كان عليه السلف الصالح، قوله تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا" -سورة البقرة، 143- ووجه الاستدلال أنَّ هذه الآية إنّما نزلت في حق الصحابة رضي الله عنهم، فهم المخاطَبون بها أصالةً، ومَن سار على طريقهم تبعًا، فدلَّ هذا على أنَّ الوسطيّة التي وُصِفت بها الأمَّة إنّما هي اتِّباع السُّنَّة وطريق الصحابة رضي الله عنهم، قال ابن حجر الهيتمي رحمه الله في الصواعق المحرقة -ج:2، ص:604- معلقاً على الآية السابقة: "والصحابة في هذه الآية والتي قبلها هم المشافَهون بهذا الخطاب على لسان رسول الله حقيقةً" وعلى هذا فالوسطيُّ الحق: هو المتمسِّك بالسُّنَّة وآثار السلف، فالسُّنَّة وهدي السلف هو الطريق الموصل إلى رضوان الله، وهو الطريق الذي رسمه النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لإصلاح الأمَّة في كلِّ زمان ومكان، لأنّه سلم من الانحراف، وكان بين الإفراط والتفريط، كما قال الحسن البصري رحمه الله فيما روى عنه الدارمي في مسنده -رقم الحديث: 222 -: "السنَّة والذي لا إله إلاّ هو بيْن الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله، فإنّ أهل السنَّة كانوا أقلَّ الناس فيما مضى، وهم أقلُّ الناس فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهل الإترافِ في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بِدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقُوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا"
فوسطيّة الإسلام باعتبار ما تَمَّ توضيحُه مبناها على اتِّباع الدليل والأثر، فكلُّ مَن ادَّعى الوسطيّة في رأي معيَّن أو منهج معيَّن، نظرنا: فإن كان عليه أثارة من علم قَبِلناه، وإلاّ نبذناه، إذ الوسطيّة لا تعني ابتداع منهج جديد، أو تبنِّي رأي مُحدَث، فما لم تدلَّ عليه أصول الشريعة فليس من الوسطيّة، فالسُّنَّة وما كان عليه السلف من العلم والعمل هو الميزان الذي تُوزَن به الأمور، ويُعرَف به الوسطي من الأقوال والأفعال ممَّا ليس بوسطي، فمن رام الوسطيّة والاعتدال فليكن على منهج السلف في العلم والعمل، نسأل الله تعالى أن يقيم أقدامنا على المنهج الوسط إلى يوم نلقاه، وصلّى الله وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين.