الصيام الواجب في اليهودية والنصرانية والإسلام، القدر المشترك والفارق المميّز.
إعداد: بوودن دحمان حذيفة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد:
من النتائج التي توصّل إليها علماء الأديان فيما يتعلق بعبادة الصوم ما عبّروا عليه بقولهم: "الصيام عُرْف دينيّ عالميّ" فقد كان الصيام معروفا عند اليهود والنصارى، بل لقد احتلّ الصيام مكانة عالية عند فارس والهند من قبلهم، وفي هذا البحث دراسة مقارنة لهذه العبادة بين اليهودية والنصرانية والإسلام حسبما وردت به نصوصها المقدسة مراعيا في ذلك تسلسلها التاريخي، وحتى لا تطول فقد اقتصرت على الصيام المفروض فقط، تناولته من حيث المفهوم والغرض والتوقيت والمدة والكيفية لأخْلُص في الأخير إلى بعض النتائج التي من شأنها أن تعزّز ثقة المسلم بدينه.
فالصوم في اليهودية هو ترك الطعام والشراب والجماع والكلام مع إذلال النفس والتواضع أو القيام بأي عمل، وذلك بغرض الوصول إلى رضا الرب، أو تعبيرا عن الحزن والحداد عند موت الأقارب أو عند وقوع الحوادث الطبيعية كرداءة المحصول، أو غارات الجراد، أو الهزائم في الحروب، كما يشير العهد القديم إلى أنّ الصوم لم يقتصر على البشر فقط بل تعداهم إلى الحيوانات أيضا حيث نقرأ في سفر يونا: 3:7-8: "بأمر من الملك ونبلائه، يمتنع الناس عن الأكل والشراب وكذلك البهائم والغنم والبقر لا ترع ولا تشرب ماء، وعلى جميع الناس والبهائم أن يرتدوا المسوح، متضرعين إلى الله تائبين عن طرقهم الشريرة وعما ارتكبوه من ظلم، لعل الرب يرجع عن احتدام سخطه فلا نهلك"
وقد جاء في العهد القديم أنّ موسى عليه السلام أقام في صحراء سيناء صائما أربعين يوما وبعدها عاد إلى قومه بالشريعة، حيث نقرأ في سفر الخروج 34 "وكان - أي موسى عليه السلام- هناك عند الرّبّ أربعين نهارًا وأربعين ليلة لم يأكل خبزًا، ولم يشرب ماءً" وهذه الأربعون يومًا لم يرد في النصوص التوراتية تحديدها بين أيام السنة، والمُلاحظ من هذا النص أنّ الصّوْم الموسوي كان للتقرب إلى الله واستقبال وحيه، وهو كما تقول دائرة المعارف اليهودية خاص بموسى وحده وليس فيه تصريح على وجوبه على عامة الشعب الإسرائيلي.
فالصيام الواجب عند اليهود هو صيام يوم الغفران "يومها كيبور بالعبرية" وهو عاشوراء اليهود، وأما باقي الأيام فهي اختيارية وجُلّها مرتبط بأحداث تاريخية، ويوم الغفران هو اليوم العاشر من شهر "تشرين" في التقويم اليهودي، حيث جاء في سفر اللاوين 23:27-32:"وقال الرب لموسى ويكون اليوم العاشر من هذا الشهر السابع يوم كفارة، تحتفلون فيه احتفالا مقدسا، وتذللون نفوسكم، وتقربون محرقات للرب وتتوقفون فيه أيضا عن أعمالكم لأنه يوم كفارة للتكفير عنكم، أمام الرب إلهكم، وكل نفسا لا تتذلل في هذا اليوم تستأصل من بين شعوبها وأبيد كل من لا يتوقف عن عمله في هذا اليوم إياكم القيام بأي عملا ما، أنها فريضة دائمة عليكم جيلا بعد جيل حيث تقيمون إنه سبت راحة لكم تتذللون فيه، فتستريحون من مساء اليوم التاسع حتى مساء اليوم التالي"
ويُشرع في صيام يوم الغفران قُبيل غروب شمس ليلة رأس السنة العبريَّة بنحو ربع ساعة حيث نور الشمس لا يزال مرئيا إلى غروب شمس اليوم التالي بحوالي نصف ساعة، ويحدد موعد الإفطار بمشاهدة ثلاثة نجوم في السماء، فتكون مدة الصيام حوالي خمس وعشرون ساعة يتخللها الكثير من الصلوات، ويرتدي فيه الرجال وشاحًا أبيض والنساء ملابس بيضاء، ويتبع اليهود في صيامهم هذا طقوس التقشف، كالنوم على الأرض والامتناع عن الأكل والشرب، والجماع، والاستحمام، وتغيير الملابس، والتعطر، وغسل الأسنان، والعمل، وارتداء الأحذية...ويعفى منه الأطفال والمرضى والمرضعات والنساء الحوامل.
أمّا الصوم في النصرانية فهو الامتناع عن تناول الطعام الدسم وما فيه شيءٌ من الحيوان أو مشتقاته، مقتصرين على أكل البقول، لمدة أقلّها اثنتي عشرة ساعة في اليوم، وهذه الفترة الزمنية تبدأ عادة من منتصف الليل إلى نصف النهار، ويعتبر الصوم عند النصارى طريقة يعلنون من خلالها عن شبعهم النابع من معرفة الله واكتفائهم وشبعهم بالله وحده وليس من الطعام، وقد ورد في العهد الجديد أنّ عيسى عليه السلام صام أربعين يومًا قبل بعثته، حيث جاء في إنجيل متى 2:4 : "وبعدما صام أربعين نهاراً وأربعين ليلة، جاع أخيراً " كما نجد في النصرانية تحذير المسيح عليه السلام من تباهي الصّائم بصومه أمام الناس لكي يكسب منهم مديحاً، كما كان يفعل اليهود آنذاك، حيث نقرأ في إنجيل متّى 6: 18: " أما أنت، فعندما تصوم، فاغسل وجهك، وعطر رأسك، لكي لا تظهر للناس صائماً، بل لأبيك الذي في الخفاء. وأبوك الذي يري في الخفاء هو يكافئك" وبالرغم من أنّ المسيح قد شجّع
أتباعه على الصوم، فإننا لا نجد في كتابهم المقدس تحديد المدة والتوقيت، فالكثير الغالب فيه لا يرتبط بتعليم كتابي بل هو تشريع كنسي وضعه القساوسة والرهبان وصادقت عليه مجامعهم الكنسية التي عدت قراراتها ذات قدسية ملزمة على كل نصراني، ولهذا تختلف مدة الصيام، وكيفيته حسب الطوائف النصرانية، فالصيام الواجب عند الكاثوليك: هو الصيام الكبير، وهو الصوم الذي يسبق عيد القيامة ومدته خمسة وخمسون يومًا ويكون من منتصف الليل إلى منتصف النهار، يمتنعون فيه عن أكل اللحم والألبان والبياض (البيض، والجبن، والحليب، والزبد) والصيام عند الكاثوليك يُشَرِّعه البابا، ويلتزم به من بلغ السابعة من العمر، وينتهي بالستين للرجال، والخمسين للنساء، وللبابا أو من يُنيب منَ الأساقفة إسقاط الصوم عمن شاؤوا لِعُذر أو لغير عُذْر.
ولا يختلف الأرثوذكس عنِ الكاثوليك كثيرًا في صيامهم، إلاَّ أنهم جعلوا سلطة فرض الصوم وإسقاطه للمجامع المسكونية، التي تَتَّخذُ قراراتها صفة العصمة عندهم، وليس للأساقِفة كما عند الكاثوليك.
أمّا البروتستانت فقد أَحْدَثوا في الصوم قولاً جديدًا، حيث جعلوه اختياريًّا، وألْغَوا تخصيصه بأيام، ليختار الصائم الوقت الذي يشاء، وله أن يفطرَ أثناءه، ولا شيء عليه، فهو عندهم مستحب وليس بواجب، بل يرون أنه لا يوجد صيامٌ دوريٌّ، ويَعْتِبر كل صيامٍ محدَّد بدعةً غير مشروعة، ومستندهم في ذلك ما جاء في رسالة كورنتس: 2: 16 حيث رفض بولس الامتناع عن أكل معين بقوله "لا يحكم عليكم أحد في أكل أو شرب" وإن أراد النصراني أن يرتب أيام صيام خاصة به على حسب مزاجه الشخصي فلا بأس بذلك ولكن بعد الترتيب مع أب الاعتراف.
أما الصوم في الإسلام فهو الْإِمْساك عن الطعام، والشراب، والجماع بنية التقرب إلى الله مِن طُلُوع الْفَجْر إِلَى غروب الشَّمس, والصيام المفروض في الإسلام هو صيام شهر رمضان، فهو واجب على كل مسلم عاقل بالغ قادر مرَّةً واحدةً كُلَّ عام، حيث قال تعالى: "فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُ" البقرة:185، وقد راعى الإسلام أحوال المكلفين، فإِنْ كان الإنسان مريضًا وجب عليه الفطر مع القضاء، وكذا الحائض والنُّفَساء، وإِنْ كان صحيحًا مسافرا، خُيِّرَ بين الأداء والقضاء، وإن كان شيخا كبيرا أو مريضا مرضا مزمنا لا يقوى على الصيام وجب عليه الفطر مع الإطعام، قال الله تعالى: "فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ" البقرة: 184.
وقد حدَّد الإسلام بداية الشهر برؤيةُ الهلال أو بإكمال عِدَّة شعبان ثلاثين يومًا؛ فقد أخرج البخاريُّ في صحيحه أنّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ" .
كما حدَّد الإسلام توقيت الصوم بحدودٍ واضحةٍ، فجَعَل سبحانه بدايةَ الصوم بطلوع الفجر الثاني، وحدَّد نهايتَه بغروب الشمس حيث قال تعالى:"وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيۡلِ" البقرة:187، وقد جعل النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وجبة السحور عبادةً يتميَّزُ بها أهل الإسلام عن أهل الكتاب، فقد أخرج مسلم في صحيحه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ" ويبدأ وقتُ السَّحورِ قُبَيْلَ الفجر، وينتهي بتَبيُّنِ الخيط الأبيض مِن الخيطِ الأسود مِن الفجر، وإذا سَمِعَ المسلم الأذان والإناءُ بيده، أو كان يأكل؛ فَلَهُ أَنْ يُكمِلَ شرابَه وطعامَه؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: "إِذَا سَمِعَ أَحَدُكُمُ النِّدَاءَ وَالإِنَاءُ عَلَى يَدِهِ فَلَا يَضَعْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهُ" أخرجه أحمد وأبوداود وصححه الألباني.
وليس المقصودُ مِنْ الصوم في الإسلام الجوع والعطش في حد ذاته، بل ما يَتْبَعُ ذلك مِنْ تحصيل التقوى ومراقبة الله؛ لذلك قال صلَّى الله عليه وسلَّم كما عند البخاريُّ: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ".
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ المغفرة تحصل بصيامِ رمضان مع الإيمان الصادق بهذه الفريضة، واحتسابِ الأجر عليها عند الله؛ فقد جاء في الحديث الذي أخرجه البخاريُّ: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" ويُسَنُّ خلال شهر رمضان صلاةُ التراويح، اقتداءً بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم الذي رَغَّبَ في ذلك بقوله: "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" متفق عليه.
ويعتبر الصيام في الإسلام من العبادات التي لا يعلم عظم أجرها إلا الله لِمَا روى البخاري ومسلم أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، قال اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ" وفي العشر الأواخر من رمضان توجد ليلة القدر وهي ليلة خيرٌ مِنْ ألف شهر كما جاء في القرآن، وقيامها مُوجِبٌ للغفران، ويعقب شهر الصيام عند المسلمين عيد الفطر، وهو يوم للبهجة والسرور وليس للأديان الأخرى مثل هذه المزيّة.

وبعد هذا العرض الموجز يمكن أن نستخلص بعض الفوائد والنتائج التالية:
 يمكن حصر وجه الاشتراك في الصوم بين هذه الديانات الثلاث في المعنى اللغوي له وهو الكف والامتناع، وذلك لعِظمْ تباينها في حقيقة الصيام من حيث المدة والتوقيت والكيفية، وفي ذلك تصديق لقول الله تعالى""لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا" الْمَائِدَةِ: 48، كما لا ننكر اشتراك هذه الديانات في الغرض من الصوم وهو التقرب إلى الله مع التحفظ على اختلافهم في حقيقة الإله.
 فخامة وعظمة عبادة الصوم عند الله؛ حيث كَرَّرَ الله سبحانه فَرْضَه على البَشَر أمَّة بعد أمةٍ كما أخبر تعالى:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" البقرة: 183.
 الصيام في النصرانية تشريع كنسي يختلف حكمه وكيفيته من كنيسة لأخرى، كما أنّ صوم النصارى عن اللحوم ينم عن معتقد فاسد، مأخوذ من القول بتناسُخ الأرواح الذي ينص على أنّ روح الإنسان بعد الموت تسمو وتعود في جسد آخر يكون مَلَكًا أو إلهًا، وروح الحيوان تكون في إنسان، فيحرمون أكله لأنه سينسخ إلى إنسان فيكون الإنسان قد أكل أخاه الإنسان! ومن الجدير بالذكر أنّ الاتصال الجنسي بين الزوجين في النصرانية لا شأن له بالصيام ولا يفسده من قريب أو بعيد.
 الصوم الواجب عند اليهود هو الأقصر من حيث المدة لكنه الأصعب من حيث الكيفية، ويبدوا أن الصوم عندهم كان جزء من نظام الزهد والتقشف، لذلك استخدم العهد القديم لفظ "عنيت" للدلالة على الصوم وهو يعنى إذلال النفس.
 كمال شريعة الإسلام وسماحتها ووضوحها حيث أنّ الصوم في الإسلام: توقيته، مدته، فضله، أدابه...كل ذلك منصوص عليه في القرآن والسنة الصحيحة، كما أن وجبة السَّحرِ هي الفاصل بين طَبِيعة صِيام المسلمين وصيامِ اليهودِ والنَّصارَى وفي ذلك حِرْصُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم على التميُّزِ والاختِلافِ عن أهلِ الكتابِ في العبادات المشترَكة بينهم.
فالحمد لله أن جعلنا من المسلمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.