هل عبد الملك بن مروان أول من بني المسجد الأقصى؟
في سعى الصهاينة العرب كالمدعو يوسف زيدان ومن على شاكلته للتشكيك في أحقية المسلمين بفلسطين و المسجد الأقصى يزعم هؤلاء أن أول من بني مسجدا في الحرم القدسي، والذي يسميه اليهود بجبل الهيكل، هو الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان في محاولة منه لصرف الناس عن المسجد الحرام لما كان عبد الله بن الزبير رضى الله عنه قد بويع بالخلافة في الحجاز و العراق بينما غلب الأمويون على الشام و مصر.
و الحق الذي يشهد له التاريخ المدون أن بناء المسجد الأقصى قطعا سابق على خلافة عبد الملك بن مروان ويشهد لهذا مصادر إسلامية وغير إسلامية.
فالحرم القدسى و الذي يسمى في العبرانية Har HaBayit הַר הַבַּיִת كان موضعا لبيت المقدس الثاني الذي بني بعد عودة اليهود من السبي البابلي و الذي خلف المسجد الأول الذي بناه سليمان عليه السلام و الذي دمر في عهد نبوخذ نصر وكان يسمى Beit HaMikdash בֵּית־הַמִּקְדָּשׁ ومن هنا جاءت التسمية العربية "بيت المقدس" ثم قام هيرودس الأول عامل الرومان في فلسطين بأعمال تجديد شاملة للهيكل و ظل حتى دمره الرومان عام ٧٠ ميلادية وظل خربا حتى بنى المسلمون المسجد في ساحته. وقد أشار القرآن للخراب الأول و الثاني في سورة الإسراء. و كان المسلمون في بادىء الأمر يصلون إلي جهة المسجد الأقصى ثم تحولت القبلة إلي الكعبة و في هذا نزلت الآيات التي في سورة البقرة.
و كان أول من بنى مسجدا في ساحته هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد ورد ذلك في مصادر إسلامية و مسيحية.
أما الإسلامية على سبيل المثال ما رواه الإمام أحمد عن عبيد بن آدم وأبي مريم وأبي شعيب ، أن عمر بن الخطاب كان بالجابية ، فذكر فتح بيت المقدس . قال : قال ابن سلمة : فحدثني أبو سنان ، عن عبيد بن آدم ، سمعت عمر يقول لكعب (كعب الأحبار) : أين ترى أن أصلي ؟ قال : إن أخذت عني صليت خلف الصخرة ، فكانت القدس كلها بين يديك . فقال عمر : ضاهيت اليهودية ، لا ولكن أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فتقدم إلى القبلة فصلى ، ثم جاء فبسط رداءه وكنس الكناسة في ردائه وكنس الناس. قال ابن كثير رحمه الله في البداية و النهاية : وهذا إسناد جيد اختاره الحافظ ضياء الدين المقدسي في كتابه " المستخرج " . وقد تكلمنا على رجاله في كتابنا الذي أفردناه في مسند عمر.
وهذا الموضع الذى اختاره عمر بن الخطاب رضى الله عنه هو موضع ما يعرف بالجامع القبلي اليوم وهو يقع إلى الجنوب من الصخرة فمن يستقبل القبلة حيث الكعبة جنوبا يستدبر الصخرة فلما أشار كعب الأحبار على عمر رضى الله عنه أن يتخذ المصلى إلى الشمال من الصخرة فإذا استقبل القبلة إلى الجنوب كانت الصخرة بينه وبين الكعبة فظن عمر رضى الله عنه أن كعب أراد أن يظل الناس مستقبلين قبلة المسجد الأقصى في صلاتهم حال استقبالهم الكعبة ولذا قال له: ضاهيت اليهودية.
ويقول د. عبد الله معروف في كتاب "المدخل إلى دراسة المسجد الأقصى" أن الحرم القدسي في تلك الأيام كان عبارة عن هضبة خالية في قلبها الصخرة المشرفة، ثم أمر عمر بن الخطاب ببناء المصلّى الرئيسي الذي سيكون مكان الصلاة الرئيسي في المسجد الأقصى، وهو موقع "الجامع القبلي" اليوم، ويقع في الجنوب في جهة القبلة، وكان المسجد في عهده عبارة عن مسجد خشبي يتّسع لحوالي 1000 شخص.
أما المصادر المسيحية التي ذكرت أن أول من بنى مسجدا في ساحة الحرم القدسي هوعمر رضى الله عنه فمتعددة فمن هؤلاء سيبيوس الأرميني Sebeos (القرن السابع الميلادي)، وثيوفانيسtheophanes the confessor (توفي 817 ميلادية) و سعيد بن البطريق Eutychius of Alexandria وغيرهم. *
فضلا عن ذلك فهناك شهادة لوجود مسجد في ساحة الحرم القدسي ترجع لعهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بواسطة راهب يُدعى Arculf زار القدس حوالي العام 680 ميلادية فيقول ما نصه: "العرب الآن يترددون على دار للصلاة لها أربعة جدران" The Saracens now frequent a quadrangular house of prayer يعني في ساحة الحرم القدسي. *
و هذا ينسف إدعاء الصهاينة العرب عن أن أول من بنى مسجدا هو عبد الملك. فعبد الملك بن مروان لم يتول الخلافة قبل 684 ميلادية في حين أن المسجد كان قائما بالفعل عام 680م ما يعني أن بناءه يرجع إلى قبل ذلك التاريخ. ما قام به عبد الملك و الوليد من بعده هو تجديد البناء فضلا عن بناء مسجد على الصخرة الذي يعرف بقبة الصخرة. و هذا يختلف عن المصلى القبلي.
وفي ذلك يقول ابن تيمية في مجموع الفتاوى: فإن " المسجد الأقصى " اسم لجميع المسجد الذي بناه سليمان عليه السلام وقد صار بعض الناس يسمي الأقصى المصلى الذي بناه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مقدمه والصلاة في هذا المصلى الذي بناه عمر للمسلمين أفضل من الصلاة في سائر المسجد ; فإن عمر بن الخطاب لما فتح بيت المقدس وكان على الصخرة زبالة عظيمة لأن النصارى كانوا يقصدون إهانتها مقابلة لليهود الذين يصلون إليها فأمر عمر رضي الله عنه بإزالة النجاسة عنها وقال لكعب الأحبار : أين ترى أن نبني مصلى المسلمين ؟ فقال : خلف الصخرة فقال : يا ابن اليهودية خالطتك يهودية بل أبنيه أمامها . فإن لنا صدور المساجد ولهذا كان أئمة الأمة إذا دخلوا المسجد قصدوا الصلاة في المصلى الذي بناه عمر وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه صلى في محراب داود .

وأما " الصخرة " فلم يصل عندها عمر رضي الله عنه ولا الصحابة ولا كان على عهد الخلفاء الراشدين عليها قبة بل كانت مكشوفة في خلافة عمر وعثمان وعلي ومعاوية ويزيد ومروان ; ولكن لما تولى ابنه عبد الملك الشام ووقع بينه وبين ابن الزبير الفتنة كان الناس يحجون فيجتمعون بابن الزبير فأراد عبد الملك أن يصرف الناس عن ابن الزبير فبنى القبة على الصخرة وكساها في الشتاء والصيف ليرغب الناس في " زيارة بيت المقدس " ويشتغلوا بذلك عن اجتماعهم بابن الزبير وأما أهل العلم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان فلم يكونوا يعظمون الصخرة فإنها قبلة منسوخة كما أن يوم السبت كان عيدا في شريعة موسى عليه السلام ثم نسخ في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بيوم الجمعة فليس للمسلمين أن يخصوا يوم السبت ويوم الأحد بعبادة كما تفعل اليهود والنصارى وكذلك الصخرة إنما يعظمها اليهود وبعض النصارى .اهـ

*كتاب: Medieval Jerusalem and Islamic Worship: Holy Places, Ceremonies, Pilgrimage ص 31و 32