وبهذا نكون قد انتهينا من أهمّ مسألتين في تعقيب الدكتور العثماني وفقه الله، وبقي التعليق على بعض ما أرى أنه يحسن التعليق عليه:
أولاً: ذكر الدكتور العثماني فيما ذكر مما يستدل به على أن من السنة ما ليس بوحي (ابتداءً): الأفعال التي يفعلها النبيّ –صلى الله عليه وسلم- بمقتضى الجبّلة البشرية، ونقل ما يستدل به على أنها ليست وحيًا.
وهذا مما لا أخالف فيه، لكني أسأل الدكتور: ألا يستدلّ العلماء كلُّهم على إباحة تلك الأفعال التي كان يفعلها النبيّ –صلى الله عليه وسلم- على وجه البشرية؟ هل كان أحدٌ منهم يقول أو يعتقد: أن هذه الأفعال يُمكن أن تكون محرّمة مع كون النبيّ –صلى الله عليه وسلم- كان يفعلها؟!! إذن فإقرار الله تعالى لتلك الأفعال الجبليّة من النبي –صلى الله عليه وسلم- يجعل أقل ما يُستفاد منها الإباحة، والإباحة تشريع.
كما أن الإقرار الإلهي لنبيّه –صلى الله عليه وسلم- وَجْهٌ من وجوه الوحي، كما قدّمناه. ولذلك نزلت تشريعاتٌ وقيود في بعض الأمور العاديّة البشرية: في الأكل والشرب واللباس.. وغيرها، ولا تردَّدَ أحدٌ من أهل العلم في الاحتجاج بها.
وبذلك يتّضح أن قولي بأنّ السنة كلّها وحي حالاً أو مآلاً، يتناول أيضًا الأفعال التي كان النبيّ –صلى الله عليه وسلم- يفعلها على وجه الجبلّة والعادة؛ لأنّها مع الإقرار الإلهي تدل على الإباحة في أقل الأحوال.
وهنا أنبّه إلى وَهَمٍ قد ينقدح في بعض الأذهان، وهو أن القول بوجوب الطاعة المطلقة للنبيّ –صلى الله عليه وسلم-، لا يعني أن كل ما صدر من النبيّ –صلى الله عليه وسلم- يقتضي الوجوب، ولا يقول هذا أحد. وإنما المقصود وجوب الامتثال لما دلّت عليه السنة، سواء أكانت قوليّة أو فعليّة أو تقريريّة، فقد تدل على الوجوب أو التحريم، وقد تدل على الاستحباب أو الكراهة، وقد تدل على الإباحة.
فالواجب امتثال دلالة السنة مطلقاً، دون استثناء؛ إلا ما لا حاجة إلى استثنائه، لوضوحه، وهو ما كنت قد بيّنتُه آنفاً وفي مقالي السابق.
ثانياً: إذا كان الدكتور يحتج باجتهاد النبيّ –صلى الله عليه وسلم- في أمور الدنيا، وبالخطأ الذي قد يتعرّضُ له هذا الاجتهاد، على أن هذا النوع من السنة في أمور الدنيا لا تجب طاعة النبي –صلى الله عليه وسلم- فيه ولا تصديقه عليه؛ لأنه قد يكون خطأ. فيلزمه أن يقول ذلك تمامًا في أمور الدين، بل في أجل أمور الدين، وهي الأمور الغيبيّة من العقائد!!لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- قد اجتهد فيها، وقد أخطأ أيضًا!!!
فقد ذكرتُ في مقالي السابق حديث عائشة –رضي الله عنها- في عذاب القبر، وهو حديث صحيح في صحيح مسلم، وبيّنتُ هذا الإلزام. فلا أجاب الدكتور عن هذا الإلزام، ولا أشار إليه.
والجواب عن خطأ النبي –صلى الله عليه وسلم- في هذه المسألة العقديه، سيكون هو الجواب نفسه عن أمور الدنيا. وهو أن التصويب الإلهي قد حفظ السنة الموحَى بها (إبتداءً أو مآلا) من التهاتر والتعارض، وبيّن هذا التصويبُ أن القول الأول كان خطأً ليس من السنة التي هي وحيٌ: ابتداءً، أو مآلاً بالإقرار، بل هو اجتهادٌ محضٌ من النبي –صلى الله عليه وسلم- لم يَقره الله عليه، فخرج عن سنةِ الوحي تمامًا.
ثالثاً: احتجّ الدكتور على رأيه بحديث تأبير النخل، مع أني كنتُ قد فصّلتُ الردّ على الاحتجاج به، وبيّنت الصواب فيه.
واحتجّ أيضًا بحديث أبي قتادة الأنصاري، عندما كانوا في سفر مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فناموا عن صلاة الفجر، حتى طلعت الشمس، فقال بعضهم لبعض: فرّطنا في صلاتنا! فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "ما تقولون؟! إن كان أمر دنياكم فشأنكم، وإن كان أمر دينكم فإليّ"، قالوا: يا رسول الله، فرّطنا في صلاتنا!، فقال: "لا تفريط في النوم، إنما التفريط في اليقظة...." أخرجه أحمد رقم (2546).
وهذا الحديث جاء في الاجتهاد من الصحابة في أمر الدين بمحضر النبيّ –صلى الله عليه وسلم-، وهذا كالاجتهاد في مورد النصّ؛ ولذلك قال النبيّ –صلى الله عليه وسلم- لهم هذا القول.
ومعنى الحديث حينها: أمور الدنيا التي لا نصّ فيها فلكم الاجتهاد فيها، أما ما كان فيه نصّ فلا اجتهاد في مورد النصّ.
ولا علاقة لهذا الحديث بتقسيم السنة إلى: سنة في أمور الدنيا، وسنة في أمور الدين؛ لأن من أمور الدنيا ما وردت فيه سنةُ وحي، كما يوافق الدكتور العثماني عليه في المعاملات، وعندها ستكون هذه الأمور الدنيوية التي وردت فيها السنة (بورودها فيه) من أمور الدين؛ لأنها أصبحت تشريعًا وحكمًا إلهيًّا. فالقسمة لا يصح أن تكون بناءً على الدنيا والدين، بمعنى فصل الدين عن الحياة، هذا التقسيم باطلٌ من أساسه، كما ذهب إليه الدكتور نفسه.
وإنما جاء الحديث ليبيّن للصحابة: متى يحق لهم الاجتهاد بمحضر النبيّ –صلى الله عليه وسلم- ومتى لا يحق لهم ذلك. فما كان فيه نصٌ فهو دينٌ بورود النصّ فيه، وما يتعلق بالحلال والحرام فهو دينٌ أيضاً، كالنوم عن الصلاة وترتّب الإثم عليه وعدم ترتبه عليه؛ فهذا لا حاجة للاجتهاد فيه مع وجود المبلِّغ عن الله تعالى وحضوره بين أيديهم، وهو رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.
وما لم يكن فيه نصٌّ من أمور الدنيا والمعاش، فهذا ما يجوز للصحابة أن يجتهدوا فيه، ولو بمحضره –صلى الله عليه وسلم-.
كما احتجّ الدكتور بحديث ابن عباس –رضي الله عنه- قال: كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يطوف في النخل بالمدينة، فجعل الناس يقولون: فيها صاع، فيها وَسَق، يَحْزِرون، فقال النبيّ –صلى الله عليه وسلم-: "فيها كذا وكذا"، فقالوا: صدق الله ورسوله.
فقال –صلى الله عليه وسلم-: "يا أيها الناس، إنما أنا بشر: فما حدثتكم به من عند الله، فهو حق، وما قلت فيه من قِبَل نفسي، فإنما أنا بشر أخطئ وأصيب". أخرجه البزار في مسنده رقم (4726، 5033)، وأبو الشيخ في طبقات الإصبهانيين (1/425-426 رقم 76)، وأبو نعيم في ذكر أخبار أصبهان (1/304-305).
وهو من طريق حسين بن حفص بن الفضل الأصبهاني، عن خطاب بن جعفر بن أبي المغيرة، عن أبيه عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس به.
وقال البزار عقبه: "لا نعلمه رواه عن ابن عباس إلا من هذا الوجه، بهذا الإسناد". قلت: وهذا الانفراد من قبل هؤلاء الرواة ممّا يضعف الاعتماد عليه، وخاصة خطاب بن جعفر، فإنه وإن رضينا بقبوله، فهو ليس محلّ الاعتماد على انفراده. وأبوه في روايته عن سعيد بن جبير ضعف، كما قال ذلك عثمان بن سعيد الدارمي في ردّه على الجهميّة (45رقم 15)، ونقله عنه الحافظ في التهذيب (2/108).
وليس هذا الضعف هو ما يهمّني، فإن الحديث لو صَحّ فإنه بمعنى حديث تأبير النخل، والجواب عنه هو الجواب الذي كنتُ قد ذكرتُه عنه. ويلزم من فَهْمه الفهم الذي أردُّه لوازمُ فاسدة، كما سبق، تدل على عدم صحّة ذلك الفهم.
فقصّة الحديث تبيّن أن عدداً من الصحابة كانوا يَحْزِرون (أي يخمّنون) مقدار ما يجب من الزكاة من نَخْل كان مثمراً حينها، وشاركهم النبيّ –صلى الله عليه وسلم- الكلام بالحَدْس والظنّ، لكنهَّم فهموا أنه خبر، فقطعوا حَدْسَهم مُحيلين ذلك إلى ما حسبوه يقينًا من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقالوا: "صدق الله ورسوله"، فعاجل النبيّ –صلى الله عليه وسلم- تصحيح ما فهموه، وأنه تكلَّم بحدسه دون وحي، وَحَدسُه وظنُّه لا يوجب التسليم المطلق في أمور الدنيا التي ربما كان في الناس من هو أكبر خبرةً منه بها.
ولا ندري هل كان لفظ النبيّ –صلى الله عليه وسلم- دالاًّ على الظنّ حين تكلَّم؟ كما وقع ذلك في حديث تأبير النخل، فنقله بعض الرواة دون بعض بالتصريح بلفظ الظن، كما بيّنتُه في مقالي السابق.
أم أنه –صلى الله عليه وسلم- اكتفى بقرينة الحال، وهي أن الحديث كان دائراً بالحدس والظن بينهم، فلمّا ظنّوه يقينًا لا يكون إلا بالوحي، بادر –صلى الله عليه وسلم- إلى تصحيح هذا الخطأ منهم: حينما لم يراعوا قرينة الحال الدالة على أن الكلام بظن، وحينما فهموا أن هذا الخبر منه –صلى الله عليه وسلم- خبرٌ عن الله تعالى لا يجوز عليه إلا التسليم الكامل.
وكما قلنا في حديث تأبير النخل: فَهْمُ جيل الصحابة لكلام النبيّ –صلى الله عليه وسلم- إلى أنه وَحْيٌ، وفي قصص متعدّدة، يدل أن هذا هو الحق الذي كان مستقرًّا عندهم، وأنهم لا يخرجون عن هذا الأصل لمجرّد أنه –صلى الله عليه وسلم- تكلّم في أمور الدنيا، وإنما يخرجون عنه إذا تيقنوا من النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه ليس وحيًا: إما بالنصّ الواضح كما هنا، أو بابتدائه أنه –صلى الله عليه وسلم- يظن ولا يوقن، كما كنتُ قد بيّنتُه في مقالي السابق.
ولا يتم تصوّر الجواب التصور الكامل عن هذا الحديث، إلا بإدراك الفهم الآخر، وما يستلزمه من لوازم فاسدة، وما يقدح فيه من ثغرات لم يُجب عنها الدكتور العثاني (وفقه الله).وإن كان فيما سبق كفاية، من الكلام عن ضعفه، إلى آخر الجواب.
رابعاً: عمد الدكتور العثماني إلى آية واحدة مما ذكرت فردّ على استدلالي بها، وهي آية النجم "وما ينطق عن الهوى" وعمد إلى حديث عبد الله بن عَمرو بن العاص، فرّدّه أيضًا.
والواقع أن دليلي على ما ذهبت إليه لم يكن آيةً واحدةً أو آيتين، ولا حديثاً واحداً أو حديثين، بل العديد من النصوص التي ذكرتُ بعضها وأحلتُ إلى بعضها الآخر وأشرتُ إلى غيرها. فليس في الردّ على ذينك الدليلين ما يكفي لتمام الردّ، ولا يتوهَّمُ أحدٌ أن هذا كفيل بنقض ما احتججتُ به.
هذا.. مع أني كنتُ قد أشرتُ إلى الجواب عن الاعتراض الذي ذكره الدكتور العثماني على استدلالي بآية سورة النجم، حيث أحلتُ عند الكلام عليها إلى كتاب (الإجماع في التفسير) للخضيري، وهي إحالةٌ غريبةٌ لعنوانٍ يستدعي البحث ويسترعي الانتباه إليه.
حيث إن صاحب هذا الكتاب قد ناقش الفهم الذي ذهب إليه الدكتور العثماني، وردَّ عليه، وردّ على دعوى الإجماع الذي نقله ابن عطيّة في تفسيرها، ولذلك أحلت إليه، عسى أن يستوفي الردّ عليه من أراد أن يخالفه.
وأمّا حديث عبد الله بن عَمرو بن العاص –رضي الله عنهما- فقد أبنت عن معناه بمالا يتعارض مع حديث تأبير النخل، وبما يتأيّد بقطعيّات الكتاب والسنة، وبالإجماع.
وذلك من خلال بيان المقصود بالحق الذي ورد في قوله –صلى الله عليه وسلم-: "ما خرج منه إلا حق"، وأنه الوحي ابتداءً أو الاجتهاد المؤيّد بالإقرار الإلهي، فلا يبقى بعد ذلك مجال لردّه بحجّة معارضته للمتواتر؛ لأنه موافق غير معارض، وهو حديث صحيح السند والمتن، صحيح المعنى.
وأخيراً: لا يخفى على الدكتور المنهج العلمي في تناول المسائل العلميّة، فهو خريج هذا المنهج وأستاذه الآن. ومن أصول المنهج العلمي عند تحرير مسائله، أن يتناول الباحث القول الذي يعارضه فيردّ على أدلّته جمعيها؛ لأن بقاء دليل واحد كافٍ لإثبات دعوى مخالفه، ثم على الباحث أن يذكر رأيه وأدلّته (غير المنقوضة) عليه.
والدكتور (وفقه الله) لم يفعل ذلك، كما هو واضح من مقاله. مع أني كنت لخّصتُ أهم أدلتي في آخر المقال، وحاولت إبرازَها بوضوح. ومع أني رددت على حديث تأبير النخل، فعاد واحتجّ به دون أن يردّ على المعنى الذي ذكرته. ومع أني نقلتُ كلاماً لبعض العلماء يدل على رأيي، فنقل عنهم هو ما يعدّه دالاً على رأيه، دون أن يحلّ إشكال هذا التناقض...
فلكي نصل إلى الحق الذي هو بُغْيتنا جميعاً، أرجو أن يكون نقاشُنا علميًّا، فالنقاش العلمي، وإن لم يُغَيّر آراء المتجادلين، لكنه مثمر، ويعين المحايدين على استجلاء الحقيقة والوصول إليها.
والدكتور العثماني أدرى بذلك كله، وأعتذر إليه عن أي لفظ بدر مني (دون قصد) قد يجد عليّ فيه. فإني أُحيل إلى علمٍ وعقلٍ، وأكله إلى حبّه لخدمة دينه.
والله يوفقنا وإيّاه، ويجعل أعمالنا خالصةً في رضاه.
والله أعلم.
والحمد لله ذي الجلال، والصلاة والسلام على رسول الله وأزواجه والآل.
Bookmarks