وصلني السؤال التالي من الأخ جابر:
الأخ العزيز بارك الله بك
اولا اريد أن أبين لك انني أعاني نوعاً من التشتت في متابعة موضوعك هذا، وخاصة في التعقيب رقم 6 الموقع باسمك، لهذا فقد رأيت أنه من الأفضل العودة لمشاركتك رقم 1 وجعله الأساس الذي سأبني عليه في تعقيبي. وذلك على الرغم من أنني شعرت بالانزعاج من الكاتب الأصلي للمقال فأردت أن أشفي غليلي منه بتعرضي لتحليل شخصيته دون معرفة اسمه.
إذا نظرنا لواقع الدول والأنظمة اليوم فسنجد ما يلي:
1- أن الحكم بيد طوائف وعائلات أو بيد مجموعة شركات ومؤسسات يملكها أصحاب رؤوس أموال، والتغيير السياسي لديهم وتداول السلطة عندهم يكون بتدبير فضائح، وبرشاوى تدفع، وبمصالح تؤخذ بعين الاعتبار، وبأعمال شغب تخريبية يدفع فاتورتها الشعب، وباغتيالات سياسية أو بانقلابات عسكرية (ويمكن ذكر المزيد) . انظر إلى أمريكا أو بريطانيا أو إيطاليا أو اليابان أو روسيا أو فرنسا أوتركيا فإنك لا تكاد تجد أي عملية سياسية خارج هذه الأطر والأساليب. هذا ما نسمع به والمخفي اعظم !
2- الكتب والنظريات السياسية التي يعتمدها الساسة الغربيون اليوم هي كتب لا تعدوا عن كونها نظريات ميكيافيلية سادية داروينية فرويدية، مهما تغير اسلوبها ونمطها ومهما تغير كتابها سواء كانوا غربيين أو شرقيين وسواء كانوا سياسيين أو محللين !
3- وأمم وشعوب الأرض قاطبة هذا اليوم ماهم إلا مساكين مستحمرين، لا يشتغلون بالسياسة ولا يدركون معنى السياسة، لأنهم لا يكاد يشبعون انفسهم من شدة الفقر وبالتالي من كثرة العمل، فلا يوجد لديهم لا الوقت الكافي ولا المال اللازم لتعلم السياسة فضلا عن ممارستها، والذين يشتغلون في السياسة حالهم معلوم! (فهم إما فوق أو تحت)
وبالمقابل فإذا نظرنا إلى تاريخنا الاسلامي العريق فإنك تجد أروع الأمثلة للحياة السياسية التي صنعها المسلمون والذين مازالوا يمارسونها اليوم على الرغم من القهر والبطش التي تعانيها الأمة نتيجة تسلط حكام اليوم و (الذين يؤمنون بالفصل بين السلطات الثلاث).
قيض الله لي فرصة زيارة متحف الوثائق العثمانية في منطقة سوق ساروجة في مدينة دمشق، وهو متحف غير مفتوح إلا للباحثين (وأنا لست منهم)، فوجدت دفتراً كبيراً حجمه على وجه التقريب كان مترا ونصف طول في متر عرض بسماكة ما يقارب 1000 صفحة أو أكثر، فسألت الشخص الذي أدخلني للمتحف عن هذا الدفتر العملاق، فاجانبي: هذا سجل المحاكم العثمانية، كانت تنسخ على ثلاثة نسخ وترسل إلى اسلامبول واحدة وإلى بغداد واحدة وفي دمشق واحدة, كانوا يسجلون فيها كل الأحكام الصادرة في حق القضايا المرفوعة إلى القاضي، وأضاف: إنهم كانوا يقومون بهذا العمل في كل ولاية من ولايات الدولة، أي ينسخونها على نسخ ثلاث ويرسلونها إلى المدن الثلاث دمشق واسلامبول وبغداد، والسبب في ذلك (والكلام مازال له) انه في حال حصل شيء لسجل في بلد يكون هناك نسختين اخريين في مكانين مختلفين. انتهى كلام الاخ. أقول: (سبحان الله وهذا ماحصل بالسجلات في بغداد).
أقول (بعد هذا الاستطراد الجانبي حول موضوع السجلات العثمانية) : لو يطلع كاتب هذا المقال على تلك الوثائق لأدرك أنَّ ما يسميه هو اليوم (بالسلطة القضائية) التي كانت موجودة آنذاك، كان لها من السلطة والقدرة على محاسبة كل أحد اعتباراً من الخليفة أو السلطان ومروراً بالوالي أو قائد الجند ووصولاً إلى أصغر رجل من رعايا الدولة. فهل يربد أن أذكر له امثلة من ذلك التاريخ الناصع ؟ أم أن هذا الرجل يحتاج إلى تحليل لشخصيته أعمق من ذي قبل ؟!
الرد :
بارك الله في الأخ جابر حيث حلل فأجاد ، والواقع أن أحد المخلصين وهو الأخ ( مفكر ) قد تناول الموضوع بالرد بالتفصيل اللازم :
كيف حال الشرع بين الحاكم والاستبداد؟
من سنن الله في الكون التي لا تتأخّر، أن يقصم الظلمة وينتقم منهم، فكلما علا الظلم وتجبَّر وفشا الطغيان، جاء العقاب الإلهي العادل، فيحطُّ الظالمين وينتقم من المتجبرين، ويرفع المستضعفين، ويقيم العدل والإنصاف في الأرض. : ] ﴿ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المَصِيرُ ﴾ [ [الحج: 48]، وقال أيضاً: ] ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [ [هود: 102]، وقـال عـزَّ من قائل: ] ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ ****** وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ[ ﴾ [القصص: 4-5].
وكما انتقم الله من قوم نوح وعاد وثمود وفرعون وغيرهم، فإننا لا نشك أن الله سينتقم من ظَلَمَةِ اليوم الذين ملئوا الدنيا ظلماً وجوراً، يقتلون الرجال والنساء والأطفال والشيوخ ويُهلكون الحرث والنسل.
وكلما اشتدّ الظـلم، زاد شعورنا بـقرب الـفرج، ] ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ﴾ [ [البقرة: 214]. لذلك فالأمة وهي تعاني من هذا الظلم والجبروت تتهيّأ لغدٍ مُشرقٍ يُبدلها الله فيه عدلاً بعد جورٍ ورخاءً بعد ضيقٍ، ويُكرمها بدولةٍ يُطبَّق فيها شرع الله ويُعَزُّ فيها المخلصون الأتقياء. والأمة تنتظر بشوق حاكماً مسلماً يمشي فيها بسيرة الخلفاء الراشدين فيحنو على ضعفائها وينتقم لهم ممن ظلموهم.
إلا أن أخشى ما تخشاه الأمة أن يتحول هذا الحلم الجميل إلى كابوسٍ مزعج، ويتحول هذا الخليفة الذي طالما انتظرته، بمجرد سيطرته على مقاليد الحكم إلى مستبدٍّ ظالمٍ على شاكلة حكام اليوم، لا همَّ لـه إلا تأمين مصالحه وتنمية ثروته وثروات حاشيته دون أدنى مراعاة لمصالح الناس. قال الشاعر:
ومن يَذُقْ لسعة الأفعى وإن سَلِمَتْ منها حشاشته يفزع من الرَّسَنِ [1]
ومما يغذي مخاوف الناس، المرتبة التي جعلها الله للحاكم، والصلاحيات الواسعة التي خوّلها لـه النظام الإسلامي. فقد أوجب الله على المسلمين طاعة ولي الأمر وربطها بطاعته، ف: ] ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ [ [النساء: 59]، وحـذَّر مـن مغبّة مخالفة الإمام والخروج عنه وإن ظَلَمَ، قال r مُخبراً عمّا يجب فعلُه إذا عمّت الفتن: « فإن رأيت يومئذ خليفة الله في الأرض، فَالزَمْهُ وإن نَهَكَ جِسْمَكَ وَأَخَذَ مالك » [أحمد]. وقال r : « اسمعوا وأطيعوا وإن استُعمِل عليكم عبدٌ حبشيٌّ كأن رأسه زبيبةٌ » [البخاري]، وقال أيضاً: « من رأى من أميره شيئاً يكرهُه فَليَصْبِرْ، فإنه ليس أحدٌ يفارق الجماعةَ شبراً فيموتُ، إلا ماتَ ميتةً جاهليةً » [البخاري]. وعن أسيد بن حضير أن رجلاً من الأنصار خلا برسول الله r فقال: ألا تستعملني[2] كما استعملت فلاناً؟ فقال r : « إنكم سَتَلقَوْنَ بعدي أَثَرَةً، فاصبروا حتى تَلقَوْني على الحوض » [البخاري]. وعن علقمة بن وائل الحضرمي عن أبيه قال: سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله r فقال: "يا نبي الله، أَرَأَيْتَ إن قامت علينا أمراء يسألونا حقَّهم ويمنعونا حقَّنا فما تأمرنا؟" فأعرض عنه ثم سأله فأعرض عنه ثم سأله في الثانية أو في الثالثة فجذبه الأشعث بن قيس t ، وقال r : « اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حُمِّلوا وعليكم ما حُمِّلتُم » [مسلم].
وبما أن الخليفة هو المسؤول الأول والأخير عن كل ما يجري في الدولة، وحتى لا يُبْقِيَ لـه الشرع عذراً للتأخر عن قضاء مصالح الناس، فقد منحه الشارع صلاحياتٍ واسعةً في التسيير، وأعطاه صلاحية تعيين أو عزل كل مسئولي دوائر ومصالح الدولة (وزراء / ولاة / عمال / قضاة / أمراء الجيوش وقواد الألوية...) وهم كلُّهم مسئولون أمامه. وله صلاحية رسم سياسة الدولة الداخلية والخارجية وصرف الأموال وجبايتها وصلاحية تبني القوانين... كل هذا طبعاً ضمن حدود الأحكام الشرعية.
نعم، إن الأمر يقتضي البحث، فليس منّا من يقبل أن يتحول المنقذ الذي انتظرناه منذ عقود ولا زلنا ننتظره، إلى مستبدٍ جديد يفتك بنا ويُسْلِمنا إلى أعدائنا. ووجود هذا الاحتمال يوجب علينا أن نأخذ من الآن كل الاحتياطات، وأن نبحث سلفاً عن الوسائل الكفيلة بمنعه من أن ينحرف عن الجادّة.
وقبل البدء في بحث هذا الموضوع، يجب الإشارة إلى نقطتين:
1- إن التخوف الذي تُبديه الأمة هو ناتجٌ بالأساس وردة فعلٍ لما تعانيه من جور حكامها الحاليين. إلا أن الذي يجب الانتباه إليه أن الفرق بين هؤلاء الحكام والخليفة القادم إن شاء الله، هو أن الحكام الحاليين هم عملاء متآمرون، صنعهم الغرب المستعمر على عينه، واختارهم بعناية ليكونوا حرساً لـه على مصالحه، فهم لم يصلوا إلى كراسي الحكم عن مشورةٍ من المسلمين ورضىً منهم واختيار، بل فُرضوا فرضاً على الأمة. لذلك فهم خَدَمٌ لمن نصَّبهم وتَبَعٌ لهم فيما أرادوا، مهمتهم خدمة مصالح أسيادهم وتيسير استمرار إحكام قبضتهم على البلاد وخيراتها، ثم بعد ذلك خدمة مصالحهم الشخصية الضيقة. ومن أجل تحقيق هذه المصالح، لا يجدون ضيراً في قمع شعوبهم ومصادرة حقوقهم والتنكيل بهم. أما الحاكم في الإسلام، فهو فردٌ عادي من أبناء الأمة الغيورين، يفرح لفرحها ويألم لألمها، ليس لـه امتيازاتٌ خاصة ولا أية قدسية، يسري عليه ما يسري على باقي المسلمين، لـه ما لهم وعليه ما عليهم، والفرق الوحيد بينه وبين باقي أفراد الأمة أنه قد وقع عليه الاختيار من طرف الأمة، لما لمسته فيه من غيرةٍ على مصالحها، لكي ينوب عليها في تطبيق الأحكام الشرعية.
2- الصلاحيات التي منحها الله للخليفة هي أحكامٌ شرعيةٌ من رب العالمين، لذلك فلنا اليقين أن فيها مصلحةً للمسلمين وإن خَفِيَت علينا. ذلك أن الله I العليم بأحوال عباده، الخبير بما يضرهم وينفعهم لا يمكن أن يُشرِّع لنا حكماً إلا إذا كانت فيه مصلحة أكيدة، ولا يمكن أن يتسرب شكٌّ إلى عقل مسلمٍ أن تشريعاً إلهياً قد يجلب الضرر للعباد. لذلك، فإنه لا يجوز للمسلم أن يُشَكِّكَ في صلاحية الأحكام الشرعية، ولا أن يتردّد في الأخذ بها وتطبيقها، : ] فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً [ [النساء: 65]، وقال أيضاً: ] وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً [ [الأحزاب: 36]. وينحصر دور المسلم في فهم واقع الأحكام الشرعية والاجتهاد في حسن تطبيقها.
وبالعودة إلى موضوعنا، فإننا نقول إن الذي أعطى للخليفة كل هذه الصلاحيات، لا بد أن يكون قد وضع من الضوابط ما يحول دون تحوله إلى مستبدٍّ يخرق القوانين ويستهتر بمصالح الناس. فما علينا إلا استقراء النصوص الشرعية لاستخراج هذه الضوابط.
وبالتمحيص في هذا الموضوع، نجد أن تَجَرُّأَ أي شخصٍ، حاكماً كان أم محكوماً، على خرق القوانين ناتجٌ عن أحد أمرين:
1- اقتناعه بخطأ القوانين، أو على الأقل عدم صلاحيتها لتنظيم علاقات الناس بما يكفل تحقيق مصالحهم.
2- أن يكون في أمانٍ من العقوبة، أو أن العقوبة في نظره تافهةٌ وغير رادعةٍ، وقد قالت العرب: "من أَمِنَ العقوبة، أساء الأدب".
أما الأمر الأول، فإن القوانين المُسَيِّرة للدولة الإسلامية هي أحكامٌ شرعيةٌ مستنبطةٌ من أدلتها التفصيلية (كتاب الله / سنة رسوله r/ إجماع / قياس)، لذلك فهي مرتبطةٌ مباشرةً بالعقيدة مما يمنحها قدسيةً تجعل أي مسلمٍ ذا إيمانٍ صحيحٍ واثقاً ثقة عمياء بصوابها وصلاحيتها لتنظيم علاقات الناس وخطأ أيّ نظام مُخالفٍ لها.
وأما الأمر الثاني، فإن الإسلام جعل للحاكم وازعين يمنعانه من الزيغ والانحراف:
وازع داخلي: وهو مخافة الله U. فالخليفة رجلٌ مسلمٌ، وليس علمانياً صنيعاً للغـرب، تربى في بيئةٍ إسـلاميةٍ على طاعة الله وحبِّ رسوله r، واختير لمنصب الخلافة بناءً على ما خَبِرَهُ الناس فيه من تقوى وورع وحسن تدبير. لا نقول إن الخليفة ملاكٌ لا يخطئ، ولكننا نقول إنه مسلمٌ تأبى عليه شخصيته الإسلامية أن يتمادى في الخطأ والمعصية إذا ذُكِّر. وقد جاءت نصوصٌ كثيرة تتوعَّد الحكام الظلمة بأشد العقاب وتحذرهم من غش رعيتهم. قال r: « ما من عبدٍ يسترعيه الله رعيةً، فلم يُحِطْها بِنُصْحِهِ، إلا لم يَجِدْ رائحة الجنة » [البخاري]، وقال أيضاً: « ما من والٍ يلي رعيةً من المسلمين، فَيَمُوتُ وهو غاشٌّ لهم، إلا حرَّم الله عليه الجنة » [البخاري].
وبالمقابل، فقد بشّر الله الحكام العادلين بثوابٍ لا يلحق أحداً غيرهم، قال r: « سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لا ظلَّ إلا ظِلُّه: الإمام العادل... الحديث » [البخاري]. وقال أيضاً: « إِنَّ المُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَلَى يَمِينِ الرَّحْمَنِ، وَكِلتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا » [النسائي].
وازع خارجي: ويتمثل في ثلاثة أشياء:
أ- المساءلة القانونية عبر محكمة المظالم.
ب- محاسبة الأمة عبر "مجلس الأمة".
ج- هيبة الأمة وقدرتها على فرض وجودها بجرأتها في محاسبة الحاكم.
أ- محكمة المظالم: هي محكمةٌ قرّرها الشرع وتختصُّ بالنظر في الدعاوى التي يكون فيها المُدَّعى عليه هو الخليفة أو أحد مسئولي الدولة، ويمثل هؤلاء أمامها بدون أية قدسية أو امتيازات خاصة، ويسري عليهم ما يسري على أيّ فردٍ من أفراد المسلمين. وهذه المحكمة مستقلةٌ تماماً عن سلطة الخليفة، وتصل صلاحيتها إلى حد عزل الخليفة في حال انتفت عنه أحد شروط الانعقاد (الإسلام / الرجولة / الحرية / العدالة – ضد الفسق - / العقل / الأهلية) أو أنه أخلَّ بشروط البيعة وعلى رأسها الحكم بكتاب الله وسنة رسوله r.
ب- مجلس الأمة: هو مجلسٌ مُكوَّنٌ من أشخاص تُـنيبهم الأمة عنها لمحاسبة الدولة على السياسات المتبعة داخلياً وخارجياً، ونقل مشاكل الناس وهمومهم، والإلحاح على الحاكم حتى يقضي مصالحهم.
ج- هيبة الأمة: قد يتساءل القارئ وهو يرى البرلمانات والمحاكم في بلداننا لا تتقاعس فقط عن القيام بدورها، بل ارتضت أن تكون مطيةً للحاكم لتلميعه وتمجيد سياساته الخرقاء، يتساءل عن الضمانات الموجودة لكي تقوم هاتان الهيئتان بالأدوار المنوطة بهما، فما الذي يضمن ألا يتواطأ مجلس الأمة مع الحاكم فيتقاعس عن أداء واجبه إما خوفاً من العقاب أو طمعاً في الهبات المالية؟ وما الذي يضمن ألا تتواطأ محكمة المظالم مع الحاكم فتسكت عن تجاوزاته؟!!
والجواب أن الضمان الوحيد هو هيبة الأمة، فهي الضامن ألا يستبدّ الحاكم، وهي الضامن ألا يتواطأ معه مجلس الأمة ومحكمة المظالم، وبها يستقوي المجلس والمحكمة على الحاكم، وإليها يأويان أن أحسا من الحاكم ميلاً عن الجادة ورغبةً في الضغط عليهما لغضِّ الطرف عن تجاوزاته.
إلا أن القارئ قد يتساءل مرةً أخرى: أين هي هيبة الأمة التي يمكن أن تردع الحاكم؟ وأين هي جرأتها التي تمكنها من الوقوف في وجهه ومحاسبته؟ فالأمة مغلوبةٌ على أمرها، مشغولةٌ بالجري وراء ما يسدُّ رمقها والحاكم يُنكِّل بها ليل نهار دون أن تحرك ساكناً.
والجواب مرة أخرى، أنه شتان بين الحالة التي ستكون عليها الأمة بعد قيام الدولة إن شاء الله وما هي عليه الآن. فوضع الأمة الآن غير عادي، وهو ناتجٌ عن وجود الحكام المستبدين الذين أفقروا الناس حتى يُشغلوهم بملاحقة اللقمة عن محاسبتهم، فإذا فكروا في الاعتراض أو الاحتجاج فإن السوط والسجّان لهم بالمرصاد .........................
يتبع بحول الله
Bookmarks