المشاركة الأصلية كتبت بواسطة mouhalab
وبخصوص سبب نكبة الرشيد للبرامكة قال ابن خلدون عنها :
ومن الحكايات المدخولة للمؤرّخين ما ينقلونه كافّة في سبب نكبة الرّشيد للبرامكة من قصّة العبّاسة أخته مع جعفر بن يحيى بن خالد مولاه وأنّه لكلفه بمكانهما من معاقرته إيّاهما الخمر أذن لهما في عقد النّكاح دون الخلوة حرصا على اجتماعهما في مجلسه وأنّ العبّاسة تحيّلت عليه في التماس الخلوة به لما شغفها من حبّه حتّى واقعها (زعموا في حالة السكر) فحملت ووشي بذلك للرّشيد فاستغضب وهيهات ذلك من منصب العبّاسة في دينها وأبويها وجلالها وأنّها بنت عبد الله بن عبّاس ليس بينها وبينه إلّا أربعة رجال هم أشراف الدّين وعظماء الملّة من بعده. والعبّاسة بنت محمّد المهديّ ابن عبد الله أبي جعفر المنصور بن محمّد السّجّاد ابن عليّ أبي الخلفاء ابن عبد الله ترجمان القرآن ابن العبّاس عمّ النّبيّ (صلّى الله عليه وسلّم) ابنة خليفة أخت خليفة محفوفة بالملك العزيز والخلافة النّبويّة وصحبة الرّسول وعمومته وإقامة الملّة ونور الوحي ومهبط الملائكة من سائر جهاتها قريبة عهد ببداوة العروبيّة وسذاجة الدّين البعيدة عن عوائد التّرف ومراتع الفواحش فأين يطلب الصّون والعفاف إذا ذهب عنها أو أين توجد الطّهارة والذّكاء إذا فقدا من بيتها أو كيف تلحم نسبها بجعفر بن يحيى وتدنّس شرفها العربيّ بمولى من موالي العجم بملكة جدّه من الفرس أو بولاء جدّها من عمومة الرّسول وأشراف قريش وغايته أن جذبت دولتهم بضبعه وضبع أبيه واستخلصتهم ورقّتهم إلى منازل الأشراف وكيف يسوغ من الرّشيد أن يصهر إلى موالي الأعاجم على بعد همّته وعظم آبائه ولو نظر المتأمّل في ذلك نظر المنصف وقاس العبّاسة بابنة ملك من عظماء ملوك زمانه لاستنكف لها عن مثله مع مولى من موالي دولتها وفي سلطان قومها واستنكره ولجّ في تكذيبه وأين قدر العبّاسة والرّشيد من الناس.
وإنّما نكب البرامكة ما كان من استبدادهم على الدّولة واحتجافهم أموال الجباية حتّى كان الرّشيد يطلب اليسير من المال فلا يصل إليه فغلبوه على أمره وشاركوه في سلطانه ولم يكن له معهم تصرّف في أمور ملكه فعظمت آثارهم وبعد صيتهم وعمّروا مراتب الدّولة وخططها بالرّؤساء من ولدهم وصنائعهم واحتازوها عمّن سواهم من وزارة وكتابة وقيادة وحجابة وسيف وقلم. يقال إنّه كان بدار الرّشيد من ولد يحيى بن خالد خمسة وعشرون رئيسا من بين صاحب سيف وصاحب قلم زاحموا فيها أهل الدّولة بالمناكب ودفعوهم عنها بالرّاح لمكان أبيهم يحيى من كفالة هارون وليّ عهد وخليفة حتّى شبّ في حجره ودرج من عشّه وغلب على أمره وكان يدعوه يا أبت فتوجّه الإيثار من السّلطان إليهم وعظمت الدّالّة منهم وانبسط الجاه عندهم وانصرفت نحوهم الوجوه وخضعت لهم الرّقاب وقصرت عليهم الآمال وتخطّت إليهم من أقصى التخوم هدايا الملوك وتحف الأمراء وتسرّبت إلى خزائنهم في سبيل التّزلّف والاستمالة أموال الجباية وأفاضوا في رجال الشّيعة وعظماء القرابة العطاء وطوّقوهم المنن وكسبوا من بيوتات الأشراف المعدم وفكّوا العاني ومدحوا بما لم يمدح به خليفتهم وأسنّوا لعفاتهم الجوائز والصّلات واستولوا على القرى والضّياع من الضّواحي والأمصار في سائر الممالك حتّى أسفّوا البطانة وأحقدوا الخاصّة وأغصّوا أهل الولاية فكشفت لهم وجوه المنافسة والحسد ودبّت إلى مهادهم الوثير من الدّولة عقارب السّعاية حتّى لقد كان بنو قحطبة أخوال جعفر من أعظم السّاعين عليهم لم تعطفهم لما وقر في نفوسهم من الحسد عواطف الرّحم ولاوزعتهم أواصر القرابة وقارن ذلك عند مخدومهم نواشئ الغيرة والاستنكاف من الحجر والأنفة وكان الحقود الّتي بعثتها منهم صغائر الدّالّة. وانتهى بها الإصرار على شأنهم إلى كبائر المخالفة كقصّتهم في يحيى بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب أخي محمّد المهديّ الملقّب بالنّفس الزّكيّة الخارج على المنصور ويحيى هذا هو الّذي استنزله الفضل بن يحيى من بلاد الدّيلم على أمان الرّشيد بخطّه وبذل لهم فيه ألف ألف درهم على ما ذكره الطّبريّ ودفعه الرّشيد إلى جعفر وجعل اعتقاله بداره وإلى نظره فحبسه مدّة ثمّ حملته الدّالّة على تخلية سبيله والاستبداد بحلّ عقاله حرما لدماء أهل البيت بزعمه ودالّة على السّلطان في حكمه. وسأله الرّشيد عنه لمّا وشي به إليه ففطن وقال أطلقته فأبدى له وجه الاستحسان وأسرّها في نفسه فأوجد السّبيل بذلك على نفسه وقومه حتّى ثلّ عرشهم وألقيت عليهم سماؤهم وخسفت الأرض بهم وبدارهم وذهبت سلفا ومثلا للآخرين أيّامهم ومن تأمّل أخبارهم واستقصى سير الدّولة وسيرهم وجد ذلك محقّق الأثر ممهّد الأسباب وانظر ما نقله ابن عبد ربّه في مفاوضة الرّشيد عمّ جدّه داود بن علي في شأن نكبتهم وما ذكره في باب الشّعراء في كتاب العقد في محاورة الأصمعيّ للرّشيد وللفضل بن يحيى في سمرهم تتفهّم أنّه إنّما قتلتهم الغيرة والمنافسة في الاستبداد من الخليفة فمن دونه وكذلك ما تحيّل به أعداؤهم من البطانة فيما دسّوه للمغنّين من الشّعر احتيالا على إسماعه للخليفة وتحريك حفائظه لهم وهو قوله:
ليت هندا أنجزتنا ما تعد ... وشفت أنفسنا ممّا نجد
واستبدّت مرّة واحدة ... إنّما العاجز من لا يستبد
وإنّ الرّشيد لمّا سمعها قال: «إي والله إنّي عاجز» حتّى بعثوا بأمثال هذه كامن غيرته وسلّطوا عليهم بأس انتقامه نعوذ باللَّه من غلبة الرّجال وسوء الحال.
كل هذا لا يبرر الإبادة الجماعية لأكثر من ألف انسان بمن فيهم الموالى والخدم والأطفال
قال تعالى " ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما".وورد في الصحيحين وغيرهما قول النبي صلى الله عليه وسلم: أول ما يقضى بين الناس في الدماء. وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما،و قال صلى الله عليه وسلم : لزوال الدنيا أهون على الله عز وجل من سفك دم مسلم بغير حق. وروي بلفظ : لهدم الكعبة حجراً حجرا أهون من قتل مسلم.
Bookmarks