صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 16 إلى 30 من 41

الموضوع: أجنحة المكر الثلاثة (التبشير-الاستشراق-الاستعمار) - عبد الرحمن الميداني

  1. افتراضي




    الفصْل الثامِن
    خطط العَدُوّ لغزو الإسْلام
    بتفريغه من مضامينه الصحيحة


    1- خطة وغرض .
    2- التحريف في مفهوم التوكل على الله .
    3- سوء فهم معنى الرضى بالقضاء والقدر .
    4- محاولات الغزاة إلغاء ركن الجهاد في سبيل الله بالقتال .
    5- محاولات الغزاة تفريغ الإسلام من أحكام المعاملات وسائر شؤون الحياة .
    6- محاولة إلغاء تطبيق أحكام الأحوال الشخصية الإسلامية .
    7- التلاعب بالأحكام الإسلامية بحيلة المرونة في الشريعة .
    8- حيلة خلط معنى التمسك المحمود بالحق بمعنى التعصب الجاهلي المذموم .
    9- التلاعب بعبارات التقدمية والرجعية والتمدن والتخلف ونحوها .
    10- حيلة التحسر على افتقار الأمة العربية إلى فلسفة ترفع من شأنها .
    11- حيلة التمجيد بعبقرية محمد لتفريغ دعوته من كونها رسالة ربانية .





    (1)
    خطة وغرض


    في خطة من خطط الغزو الفكري للمسلمين الذي يبيّته أعداء الإسلام تصيُّد المفاهيم الفاسدة الموجودة عند بعض المسلمين ، الداخلة عليهم عن طريق الأخطاء الفكرية ، أو بفعل كيد مدّبر ، من قبل عدو من أعداء الإسلام والمسلمين ، ثم العمل على دعم هذه المفاهيم ونشرها ، وتوسيع رقعتها بكل وسيلة ، والوقوف دون أية حركة إصلاحية تصحح هذه المفاهيم الفاسدة ، وتعيد الآخذين بها إلى الفهم الإسلامي الصحيح .

    والغرض من التصيُّد هذه المفاهيم ودعمها ونشرها والوقوف دون أية حركة إصلاحية لتقويمها التمهيدُ لطعن الإسلام بها ، والتشهير به على زعم أنها من تعاليمه الأساسية ، واستغلالُها لتوهين قوة المسلمين ضد أعدائهم ، وصرفهم عن مفاهيم الإسلام الحقة .

    وبطريقة ماكرة يوحون إلى الأجيال الناشئة في البيئات الإسلامية أن الإسلام غير صالح للحياة ، وأنه مشكوك بكونه من التعاليم الربانية الصحيحة ، ويستشهدون على ذلك بهذه المفاهيم غير الصحيحة ، مدعين أنها من صلب الإسلام ، بدليل تمسك فريق من المسلمين بها .

    (2)
    التحريف في مفهوم التوكل على الله



    دخل المستعمرون بلاد المسلمين ضمن دوامة من المؤامرات الدولية أدّت إلى إضعاف الدول الإسلامية ، ووجدوا المقاومة العنيفة لهم من الشعوب المسلمة ، وهي تعلن الجهاد ضد قوى الاحتلال الكافرة الغاشمة الظالمة ، ولم يتركوا سبيلاً من سبل العنف العسكري إلا استخدموه ضد مقاومة المسلمين المستمرة لهم ، دون أن يظفروا بثمرة الاستقرار فيما احتلوه من بلاد ، فاتجهوا إلى تصيد الأفكار التي يمكن أن تُخمد نار المقاومة المتأججة ضدهم ، إذا تمكنوا من بثها في أفكار الشعوب المسلمة .

    وقد عثروا على فكرة التوكل على الله . وأدركوا أن من الممكن التحريف فيها ، والتلاعب بمضمونها ، حتى تغدو سلاحاً ضد المسلمين ، وبعد أن كانت سلاحاً خطيراً جداً في أيديهم ضد أعدائهم ، وهذا التحريف لا يكلفهم أكثر من عملية تعميم في المضمون ، يتجاوز حدود مواقع التوكل المطلوب في الإسلام .

    إن التوكل على الله كما قرره الإسلام ، وفهمه المسلمون الأوائل وطبقوه ، وظيفة من وظائف الجانب القلبي الاعتقادي في الفرد المسلم والجماعة الإسلامية ، وليس وظيفة من وظائف الطاقات المادية ، والقدرات الجسدية ، والأعمال التخطيطية والتنفيذية في المسلم ، ومتى صح إدراك هذا الفرق لدى الأفراد والجماعات ، كان التوكل على الله في الجانب القلبي الإيماني ممداً بقوة معنوية عظيمة ، تضاعف القوى المادية العاملة أضعافاً كثيرة ، حتى يغلب عشرون مؤمنون صابرون مئتين بإذن الله ، والله مع الصابرين . ومن الملاحظ أن أهم عوامل الخذلان التي تمنى بها القوى المادية على كثرتها في الجيوش المحاربة ، إنما هي تناقص القوى المعنوية القلبية ، التي أثبتت التجارب التاريخية أن في مقدمتها قوة التوكل على الله ، فهي أثقل القوى المعنوية على الإطلاق . فالذي يعد العدة ، ويستخدم الأسباب ، متوكلاً على حدود ما أعد من قوى يظل قلبه قلقاً حذراً جباناً خائفاً من أن تكون قوة عدوه زائدة على قوته ولو بمقدار يسير ، وبذلك فقد تنهار قوته ، وتفقد أسلحته وأسبابه مضاءها المقدَّر لها ، لفقدان الروح المعنوية في قلبه ، وأما الذي يعد العدة الكاملة ، ويتخذ ما يستطيع من أسباب ويباشر العمل وهو موقن بأن قوة قادرة على كل شيء تدعمه من وراء الحجب المادية ، وتشد أزره ، فإنه يستطيع أن يستعمل في نضاله وجهاده كل قوته مع حضور القلب وسرعة بديهة ، نظراً إلى أنه لم يسمه الخوف الذي يقلق القلوب ويفسد الرؤية الصحيحة للعقول . وما يقال في أعمال القتال يقال نظيره في كل أعمال الحياة .

    والتحريف الذي أدخل على معنى التوكل على الله هو تعميم مضمونه ، حتى امتد فكان في أفكار بعض المسلمين وظيفة أيضاً من وظائف الطاقات المادية ، والقدرات الجسدية ، والأعمال التخطيطية والتنفيذية ، واستطاع الأعداء أن يستغلوا هذا التحريف لتثبيط المسلمين عن إعداد ما يجب عليهم إعداده من قوى مادية ، وصرفهم عن اتخاذ الأسباب الواجبة ، وعن مباشرة كل ما من شأنه أن يحقق النتائج وفق سنن الله في كونه ، تخدر التصورات الفاسدة لمعنى التوكل طاقات العمل والسعي والتكفير فيهم ، وتجعلهم يعيشون في أحلام تحقيق غاياتهم بمعجزات خارقة خارجة عن سنن الحياة المستمرة .

    ولا شك أن هذا المفهوم الفاسد لمعنى التوكل على الله يعطل حركة السعي الواجب ، لاتخاذ كل الوسائل المادية والمعنوية المستطاعة ، التي من شأنها أن تظفر الساعي بالنتيجة المطلوبة وفق سنن الله في كونه ، و كانت مكيدة العدو في استخدام هذا التحريف مكيدة خطيرة جداً ، أخطر من مكيدة الأفيون الذي نشره المستعمرون في الصين ، وقد تضمنت هذه المكيدة سلاحاً ماضياً لصالح العدو .

    بينما فهم المسلمون الأولون معنى التوكل على الله فهماً صحيحاً ، مقروناً بفهمهم لما يجب عليهم من عمل وجهاد وكفاح ، وما يجب عليهم من اتخاذ أتم الوسائل المستطاعة لبلوغ الغايات ، ومقروناً بفهمهم لسنن الله في كونه ، القائمة على الأسباب ، ثم تأتي المعونة الإلهية من وراء اتخاذ الأسباب المأمور بها ، ولذلك لم يترك المسلمون الأولون سبيلاً من سبل العمل المستطاعة لهم إلا أخذوا به ، ولا سبباً من الأسباب التي أمكنهم الظفر بها إلا استخدموه ، وبذلك حقق لهم المجد والنصر المبين . وهكذا كانت تربية رسول الله لهم في حياته كلها ، وفي دعوته إلى دين الله ، هكذا كان صلوات الله عليه في دعوته ، وفي جهاده ، وفي غزواته ، وفي سعيه لاكتساب الرزق ، وفي عباداته ، وفي شؤونه الخاصة ، وفي شؤون المسلمين العامة ، وفي حثه المسلمين على السعي والعمل والجهاد والصبر والمصابرة .

    وكذلك كانت تربية القرآن الكريم لرسول الله وللمسلمين ، ونصوص القرآن زاخرة بالأمر بالعمل والحث عليه ، ووجوب اتخاذ الوسائل التي ربط الله بها النتائج في قوانين الحياة التي سنها ، فلا مبدل لها ، وخرق هذه السنن لا يكون إلا في حالات نادرة ، آية لرسول ، أو إكراماً لفئة قليلة مؤمنة صادقة مع الله ، بذلت قصارى جهدها ، ولم تتهاون في واجب فرضه الله عليها .

    (3)
    التحريف في مفهوم التوكل على الله



    واقترن بالتحريف الذي أدخل على مفهوم التوكل على الله سوء فهم لمعنى الرضى بالقضاء والقدر ، إن فهم التوكل فهماً فاسداً ، نشأ عنه ترك الأخذ بالأسباب ، والقيام بما فرض الله من إعداد المستطاع من القوة ، والجهاد في سبيل الله ، وهذا قد لزم عنه تسلط الأعداء على المسلمين ، ووقوع المسلمين في نكبات الاضطهاد ، ولتبرير التحريف الدخيل ، مع المحافظة على الانتساب إلى الإسلام ، كان لا بد من قبول فهم فاسد آخر يتصل بالقضاء والقدر ، إذ يحاول هذا الفهم أن يقنع العصاة بتوكلهم الفاسد ، أن الله قد تخلى عن نصرهم وإذْلال عدوهم مع استحقاقهم لذلك لأنه أراد أن ينزل بهم مصيبة على يد عدوهم ، لا بسبب أنهم قصروا بما أوجب عليهم ، ولكن ليرضوا بمقاديره ويصبروا عليها ، وجعلوا ذلك مثل مصائب الفقر والمرض والموت التي يبتلي الله بها عباده ؛ ليعلم الصابرين منهم والمتضجرين .

    إنهم يجعلون النتائج السببية التي تأتيهم بأسباب منهم ، كالمصائب الربانية التي يبتلي الله بها عباده ، فيسيئون فهم القضاء والقدر ، ويضعون الأمور في غير مواضعها ، ويسلكون في هذا مسلكاً شبيهاً بمسلك المنافقين الذين كانوا إذا أوذوا مع المسلمين في قتال ، جعلوا فتنة الناس كعذاب الله ، وأخذوا يطرحون الشكوك بالإسلام ، ويعتبرون أن ما أصاب المسلمين من أذى هو شبيه بعذاب الله لهم ، وفيهم يقول الله في سورة (العنكبوت/29 مصحف/85 نزول):

    {وَمِنَ النَّاسِ مَن يِقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ }

    وظاهر أن الاستكانة إلى العدو على معنى الرضى بقضاء الله وقدره استكانة وينهى الإسلام عنها ، ولا يرضى بها ، ولا يجوز أن تكون وفي قدرة المسلمين أن يدافعوا ويكافحوا ويجاهدوا في سبيل الله ، وما يصاب المسلمون بالخذلان ، أو بتسلط أعدائهم عليهم إلا بذنوبهم ، وبتقصيراتهم عن القيام بما أوجب الله عليهم من اتخاذ الأسباب ، لصد أعدائهم ، وإعلاء كلمة الله .

    إن مبدأ الرضى بقضاء الله وقدره في المفهوم الإسلامي الصحيح يمنح المسلمين قوة عملية فعالة لا تني ، وطاقة اندفاع كبرى إلى الجهاد في سبيل الله ، وتحمّل كل مصيبة في ذلك ، اعتقاداً منهم بأنهم لن يصيبهم إلا ما كتب الله لهم .

    فالمسلمون يدخلون معارك الجهاد في سبيل الله فيصابون في أنفسهم وأموالهم وأولادهم ، فيتقبلون كل ذلك بتمام الرضى عن الله فيما يجري به قضاؤه ، دون أن يتضجروا أو يتذمروا من ذلك ، ثم إذا دعاهم داعي الجهاد مرة ثانية وثالثة ورابعة وإلى ما لا نهاية له لم يتوانوا عنه ، لأنهم يعتقدون اعتقاداً جازماً أنه لن يصيبهم إلا ما كتب الله لهم ، فهم يتلقون كل ذلك بالتسليم والرضا عن الله ، معلقين آمالهم بما أعد الله من أجر عظيم للصادقين الصابرين .

    وفي مقابل هذه العقيدة السليمة الممدة بقوى الصبر والمصابرة واحتمال الأذى ، تأتي العقيدة الموهنة المثبطة المخذلة التي يعتقدها الكافرون ، وهي التي تجحد القضاء والقدر ، وتزعم انفراد الأسباب بتحقيق النتائج ، وتعتقد أنه لولا حصول السبب الفلاني لما حصلت المصيبة الفلانية ، وعلى أساس من هذه العقيدة الباطلة ، أثار المنافقون بعد غزوة أحد التي أصيب فيها المسلمون بنكسة بعد ظفرهم على عدوهم ، بسبب مخالفة فئة الرماة أمر الرسول بعدم تركهم موقعهم الذي حدده لهم ، أثاروا مقالتهم : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتل هذا النفر الذي قتل في أحد . إذ كان رأي زعيم المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول عدم الخروج من المدينة إلى ملاقاة المشركين في أحد ، وانخذل عن الرسول هو والمنافقون معه وكانوا قرابة ثلث الجيش .

    وكانت مقالة المنافقين بعد أن حصل ما حصل للمسلمين في الموقعة لوناً ماكراً من ألوان تثبيط القوى الإسلامية عن الجهاد في سبيل الله ، والخروج إلى مقارعة حملة ألوية الكفر .

    لذلك كان لا بد للعقيدة الإسلامية الصحيحة حول القضاء والقدر من أن تقف موقفاً حازماً جازماً لا تردد فيه ، تثبيتاً لقلوب المؤمنين ، ورداً لكيد المنافقين ، فينزل القرآن معلناً أن الذين قتلوا من المسلمين في أحد قد قتلوا بآجالهم المقررة لهم في قضاء الله وقدره ، وقضوا حياتهم في مصارعهم المقدر لهم أن يموتوا فيها . فلو أن المعركة كلها لم تحصل ، ولم يخرج المسلمون من المدينة إلى قتال عدوهم ، لخرج الذين كتب عليهم القتل بسبب آخر إلى موطن المعركة ، ولكان مصيرهم القتل ، ولكانت مضاجعهم هي مصارعهم ، قال الله تعالى في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول):

    {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.

    على مثل هذا يكون استعمال العقيدة بالقضاء والقدر ، والتوكل على الله ، والرضى عن الله والتسليم التام له فيما تجري به مقاديره ، تقوية لقلوب المؤمنين وتثبيتاً ، وتطهيراً لها من عوامل الخوف والقلق والاضطراب والجزع .

    أما الجنوح بهذه العقيدة إلى المعنى المغمور بالضعف والتخاذل ، وترك مباشرة الأسباب ، والرضى بأية نتيجة تأتي من جراء ترك ما أوجب الله اتخاذه ، فهو جنوح عن أساس العقيدة الإسلامية ، التي ألزمنا الله باعتناقها والاستمساك بها .

    والفهم الإسلامي الصحيح في هذا صراط وسط بين منحدرين ، والانحياز عنه من ذات الشمال يوقع بالإفراط في التعلق بالأسباب وإهمال المقادير الربانية ، وهذا انفصال عن عنصر أساسي من عناصر العقيدة الإسلامية من نتائجه الوهن والتخاذل والجبن والقلق والتسخط والندم ، والانحياز عنه من ذات اليمين يوقع بالتفريط بما أوجب الله الأخذ به ، من كل سبب من شأنه الإيصال إلى الغاية المطلوبة وفق سنن الله في كونه ، ومن نتائجه الاستكانة والتواني وترك العمل ، وإيثار البطالة والكسل ، وما ينجم عنها من مصائب ونكبات وآلام وضعف وذل ، وبها يستشري الفساد في الأرض ، ويظهر الكفر ويعلو الباطل ، ويتسلط أعداء الله والحق .

    (4)
    محاولات الغزاة إلغاء ركن الجهاد في سبيل الله
    من أركان الدعوة إلى الله ونشر الإسلام وحماية المسلمين



    استمرت جيوش الاحتلال الاستعماري في البلاد الإسلامية تنام على أشواك القلق والاضطراب والفزع ، من مباغتة المقاومة التي يقوم بها المجاهدون المسلمون ، وفي طليعة هذه الجيوش جيوش الاستعمار الإنكليزي والفرنسي ، ثم جيوش الاستعمار الإيطالي والبرتغالي ، والهولندي ، وغيرها .

    وبحثوا عن سر هذه المقاومة العنيدة المستمرة ، والفداء الذي لم ينقطع فوجدوا أن من واجبات الإسلام لنشره وصيانته وحماية المسلمين وبلادهم من أي تسلط غير إسلامي ، واجب الجهاد في سبيل الله بالقتال عند توافر أسبابه ، الذي يغذيه في قلب المسلم إيمانه الراسخ بما أعد الله للمجاهدين في سبيله من أجر عظيم عنده ، فهو إن لم يظفر في الدنيا بالنصر ، ظفر في الآخرة برضوان الله والجنة .

    ولذلك وجه الاستعماريون والمبشرون والمستشرقون واليهود وسائر أعداء الإسلام جهوداً عظيمة في خطة متعددة الشُّعَب ، لغزو هذا الركن العملي الخطير من أركان الدعوة إلى الله ونشر الإسلام وإقامة العدل في الأرض ، وإضعاف أثره في صفوف المسلمين , وهدم بواعثه في قلوبهم .

    وكان من مظاهر محاولاتهم لإلغاء هذا الركن العظيم ما يلي :

    1- خطَّة الهجوم على الإسلام بأنه انتشر بالسيف ، وبإكراه الناس عليه . لاستغلال ردود الأفعال عند بعض المسلمين ، الذين ينزلقون إلى بعض ما يريد الغزاة ، وهم يرون أنهم يدافعون عن الإسلام .

    2- خطَّة تفريغ الجهاد في سبيل الله بالقتال من مضامينه ، وذلك باصطناع البدائل ، كالوطنية ، والقومية ، والأرض ، والكرامة ، والاشتراكية والحريّة ، ونحو ذلك .

    3- حيلة الربط الدوري بين الجهاد في سبيل الله وبين إقامة الحكم الإسلامي .
    4- خطَّة اصطناع الفرق العميلة الأجيرة ، التي تعمل على إلغاء الجهاد في سبيل الله ، بحيل شتى ، ومنها ما ينقض الإسلام كلَّه ، مثل فرقة البهائية ، وفرقة القاديانية .

    5- خطَّة استغلال المنظمات الدولية المندسة في شعوب العالم الإسلامي ، كالماسونية والروتاري اللّيونز ، لبث الأفكار الرامية إلى هدم الإسلام عن طريقها ، ومن ذلك الاهتمام الشديد بإلغاء الجهاد في سبيل الله .

    6- خطَّة التوريط والإحباط ، لإقناع جماهير المسلمين بالعجز عن عودة الجهاد بالقتال إلى سابق مجده .

    7- خطة تقديم صور مصطنعة من جهاد قتاليّ يحمل شعار جهاد إسلاميّ ، وهو ليس منه منهجاً ولا غاية ، للتنفير من الجهاد في سبيل الله بالقتال ، كصور الأعمال الإرهابيّة الّتي تقتل الأبرياء ، وتغتال وتدمّر ، دون مواجهات قتالية واضحة .

    وفيما يلي شرح موجز لهذه الخطط السَّبع :
    الخطة الأولى : خطَّة استغلال ردود الأفعال الناتجة عن توجيه الاتهام .

    أطلق المستشرقون والمبشرون فريتهم التي اتهموا فيها الإسلام بأنه إنَّما انتشر بالسيف ، وبإكراه الناس عليه ، فكان ردُّ فعل هذا الاتهام عند بعض المسلمين الغيورين على إسلامهم ، دفاعهم عن الإسلام بأنَّ الحروب الإسلامية لم تكن إلاَّ حروباً دفاعية فقط ، وهذا هو ما يريده الغزاة المهاجمون ، هو أن يستدرجوا المسلمين إلى هذه المقالة ، ليلغوا بذلك جزءاً مُهِمَّاً من مفهوم الجهاد في سبيل الله ، وهم يصلون بذلك إلى هدم شطر عظيم من ركن الجهاد في سبيل الله ، الذي دلت عليه النُصوص الإسلامية ، ومفاهيم المسلمين الأولين ، ودلّت عليه وقائع الفتوحات الإسلامية العظمى التي طبقت هذه المفاهيم .

    وضمن الغيورين على الإسلام المدافعين عنه بصدق ، والمستدرجين إلى إطلاق مفاهيم غير صحيحة عنه ، اندس مأجورون للمستعمرين والمستشرقين وغيرهم ، فتظاهروا بالغيرة على الإسلام ، وأخذوا ينشرون فكرة حصر القتال في الإسلام بقتال الدفاع فقط ، وأطلقوا نظرياتهم بأنَّ الحروب الإسلامية لم تكن إلا حروباً دفاعية فقط ، فهدموا بذلك شطراً من ركن الجهاد في سبيل الله .

    وتذرع أصحاب النظرية الجديد بالحقيقة الإسلامية التي أعلنها القرآن بقول الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول):

    {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.

    وبالهدم الجزئي الذي تضمنه هذا الفهم الدخيل المبتدع تعطل شطر من شطري الجهاد في سبيل الله ، وهو الشطر الذي تكون الغاية منه نشر الدين ، وإبلاغه للعالمين ، وكسر الأسوار التي تحجب الحق عن أن يصل إلى أسماع الغافلين المتعطشين إلى المعرفة من الشعوب المغلوبة على أمرها ، الراغبة بالخلاص من ظلمات الجهل ، وسلطان الحكومات الآثمة الظالمة ، التي تحجب عنها النور ، وتفرض عليها أهواءها ، وتمنعها من تنسم أي حقيقة تخالف ما تمليه عليه بالقوة .

    مع أن الجهاد بالقتال في سبيل الله كما هو واضح وصريح في كتاب الله المجيد ، وسنة رسوله صلوات الله عليه ، والفتوحات الإسلامية التي تمت في عهود الخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان ، له غايتان رئيستان :

    الغاية الأولى : الدفاع ، وهذا حق تتفق على شرعيته جميع الأمم والمذاهب والأديان ، فلا مجال للمناقشة فيه .

    الغاية الثانية : القتال لتأمين الدعوة وللقيام بواجب تبليغ الحق الرباني إلى الناس كافة ، وإقامة العدل في الأرض ، والقتال للقيام بواجب التبليغ من الأمور التي اتفقت عليها الشرائع الربانية الثلاث ، المنزلة على موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام ، قال الله تعالى في سورة (التوبة/9 مصحف/113 نزول):

    {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.

    وطالب موسى عليه السلام بني إسرائيل أن يدخلوا الأرض المقدسة فاتحين ، بعد أن أنجاهم الله من فرعون وجنوده ، وأغرق عدوه ، فأجابوه بقولهم : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ، وقص الله علينا قصتهم في ذلك ، فقال تعال في سورة (المائدة/5 مصحف/112 نزول):

    {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ * يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَالُواْ يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}.

    ففي هذا النص بيان واضح أنهم كانوا مطالبين بالقتال لتحقيق الغاية الثانية وهي القيام بواجب تبليغ الحق الرباني ، وفتح الأرض المقدسة وإزالة حكم الكفر ، وإقامة حكم شريعة الرب .

    وهذا هو الحكم في الإسلام إلا أنه أصبح مسايراً للدعوة العالمية التي جاء بها الإسلام ، والتي ليست مهمتها قاصرة على حدود قومية أو حدود قومية .

    فقد تدعو الضرورة إلى هذا النوع من القتال ، وذلك حينما يكون شعب أو طائفة من الناس مغلوبين على أمرهم ، محكومين بسلطة قاهرة ، تحجب عنهم كل حقيقة ، وتحرمه من ممارسة حق حريتهم فيما يعتقدون وفيما يعملون ، ولا تسمح للدعاة المسلمين أن يدخلوا إليهم ويبصرهم بالحق الذي يحملونه ، وأوجب الله عليهم تبليغه إلى الناس .

    ولما كانت طبائع الحكم مهما كان نوعه تقاوم كل فكرة من شأنها أن تؤثر على نظامه ، فإن ضرورة التبليغ دعت الإسلام إلى اللجوء إلى قتال الحكومات التي لا تسمح لسلطان التبليغ الحر أن ينتشر بين رعاياها المغلوبة على أمرها .

    وهذا هو معنى وقوف الجيوش الإسلامية على أبواب الممالك التي فتحتها عارضة عليها واحداً من ثلاثة أمور :

    1- فإما أن تدخل هذه الحكومات في الإسلام ، وعندئذ تنتهي المشكلة ، إذ تصبح ا لدعوة الإسلامية حرة الانتشار .

    2- وإما أن يعطوا الجزية للمسلمين ، وهي مرتبة دون الأولى ، وهي تتضمن إعطاء الحرية التامة للدعوة الإسلامية الربانية أن تنتشر بين صفوف الشعب المكلف بدفع الجزية .

    3- وإما أن تناجز السلطة الحاكمة المسلمين القتال ، وهو أمر ألجأت إليه الضرورة ، والغرض منه تحقيق حرية انتشار الدعوة ، وإقامة العدل عن طريق حكومة إسلامية رشيدة .

    أمَّا الإكراه في الدين فلا مجال له بحال من الأحوال ، لأن أول أسس الدين عقيدة في القلوب ، ومحال أن تكره القلوب إكراهاً مادياً على أن تعتقد عقيدة ما ، وإعلان القرآن عن هذا فيه من الروعة ما يسكت كل لسان .

    ولا مجال بعد هذا البيان للاعتذار عن ركن الجهاد بالقتال في سبيل الله ، والقص من أطرافه ، وحصره في قتال الدفاع ، فقضيته قضية حق رباني ، وغايته من أشرف الغايات وأنبلها ، ولولا أن ألجأت إليه الضرورة في المجتمع الإنساني الظالم الآثم ، الذي يتحكم فيه الطغاة البغاة الجبابرة أصحاب الأهواء ، الذين يجعلون أنفسهم أرباباً من دون الله ، لما كان له وجود في شرائع الله ، لأن أساسها قائم على القاعدة التالية : "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" ومن وراء ذلك الجزاء بالثواب أو بالعقاب يوم الدين .

    هذا... ونجد الأمم التي تنتقد ركن الجهاد في سبيل الله وتحاول أن تنسخه من عقائد المسلمين ، تسلط قوى الإفناء عندها على الشعوب الإسلامية المستضعفة لديها ، بحقد بالغ ، وقسوة شنيعة ، وظلم لا حد له ، بغية فرض مبادئها الباطلة عليها ، أو فرض سلطانها أو مصالحها المادية .

    وكم عانت وتعاني الأقليات من ذلك في روسيا ، وفي يوغسلافيا ، وفي الفلبين وفي الحبشة ، وفي غيرها من دول العالم .

    * * *

    الخطة الثانية : خطَّة تفريغ الجهاد في سبيل الله بالقتال من مضامينه ، باصطناع البدائل .

    فمما لجأ إليه الأعداء في محاربة ركن الجهاد في سبيل الله بالقتال تفريغه من مضامينه ، ومن معانيه السامية ، ومن أسسه وبواعثه التي تمدّ المسلمين بطاقة كبرى من الإقدام والصمود والصبر والمصابرة ، وذلك بصرف المسلمين عن الغاية التي يقاتلون في سبيلها ،إلى غايات مختلفة أخرى ، بعيدة كلّ البعد عن معاني الإسلام السامية ، ليس في مضمونها ما يدفع المسلم حقَّاً إلى التضحية والفداء ، والشجاعة والثبات عند قتال الأعداء ، ومن هذه الغايات المحدثة التي أحلّوها محلّ الغاية الإسلامية عبارات الوطنية ، والقومية ، المضيقة أو الموسعة ، وعبارات شعارات أخرى خُلَّبَّية زائفات ، كعبارات البسالة ، والشجاعة والحمية ، والأخلاق الثورية ، وأشباه هذه العبارات الجوفاء المنتفخة ، وكل ما يرمي إلى غايات جاهلية ضعيفة الأثر ، لا تستطيع أن تقف على أقدامها ، أمام غايات ثابتة ذات قوة .

    لقد رأينا لليهود على ما هم عليه من انحلال وانقسام في الأرض قضية في هذا العصر ، لها غاية محدّدة واضحة ، تدعمها قوى معنوية ذات جذور تاريخية دينية ، وتطبيقاتٍ حرفية طبق شريعتهم المحرفة .

    ورأينا للشيوعيين غايات محدَّدة ، أخذت صيغة عقيدة يستميتون في سبيلها ، ورأينا للصليبيين غايات محدَّدة ، مدفوعة بدوافع دينية ذات جذور تاريخية .

    أمَّا العرب المسلمون وسائر المسلمين فقد أريد لهم أن تكون قضيتهم مشتتة مضطربة مائعة ، تحمل شعارات محدثة ، ليس لها أصالة في نفوس الشعوب المسلمة ، ولا تدعمها قوى معنوية من دينهم وعقيدتهم وتاريخهم ، ومن أجل نُكبوا بما نُكبوا به من قِبَل أعدائهم ، فهل إلى رجعة من سبيل ، نعود فيها إلى مبادئنا ومفاهيمنا وعقيدتنا الإسلامية الصافية النقية من الشوائب ، والخالية من التحريف .

    الخطة الثالثة : اتخاذ حيلة الربط الدوري بين ركن الجهاد في سبيل الله بالقتال وبين إقامة الحكم الإسلامي .

    وهنا نلاحظ أن أعداء الإسلام اتخذوا حيلة مغلَّفة ماكرة ، ينخدع بها بعض الغيورون على الإسلام ومجد المسلمين ، وتفضي إلى إلغاء الجهاد في سبيل الله بالقتال بطريقة عملية ، إنها حيلة الربط الدوري بين الجهاد في سبيل الله بالقتال وبين إقامة الحكم الإسلامي .

    والنتيجة التي تحصل من هذا الربط : أن لا يباشر المسلمون القتال للخلاص حتى يقيموا الحكم الإسلامي ، وبما أن الحكم الإسلامي لا يستطيع أن يقوم في الأحوال الراهنة ، إلا عن طريق الجهاد في سبيل الله بالقتال ، بعد استكمال العُدَّة اللازمة له ، وفق سنن الله التكوينية ، فإنه لن يقوم حكم إسلامي ولا جهاد بالقتال .

    لأنَّ كلاًّ من الركنين قد ارتبط بالآخر ارتباطاً دوريَّاً ، فتساقط بذلك طرفا الدور ، فلا يقوم الحكم الإسلامي المطلوب ، ولا يباشر المسلمون الجهاد في سبيل الله بالقتال .

    وقد قامت نظريات جديدة تبنَّاها بعض المسلمين تنادي بأن الجهاد بالقتال حقٌّ ، وركن من أركان العمل الإسلامي ، لنشر الإسلام وصيانته ، ولكن لا يصحّ مباشرته قبل توافر شروطه الأساسية .

    والأمر عند هذا الحد سليم لا غبار عليه ، ولكن عند الحديث عن الشروط يعملون على انتحال شروط بعيدة المنال ، في ظروف المسلمين الحالية . ثم يعملون بكل وسيلة على جعل هذه الشروط مستحيلة الوقوع ، أو كالمستحيلة .

    كما يعمل أعداء الإسلام على ربط هذه الفئات التي تنادي بهذه النظريات الجديدة بهم ربطاً محكماً ، يجعل كلَّ أنواع النشاط التي تقوم به تحت اسم الإسلام كمن يحرث في البحر ، تمتصّ بالجهد طاقاته ، ولا تؤثر في الماء محاريثه ، ثمَّ ينتهي الأمر إلى تعطيل ركن الجهاد في سبيل الله بالقتال تعطيلاً نهائيَّاً ، وإبقائه كمادّة معطّلة عن التطبيق في دستور نظري .

    على أنَّ من الواجب أن نبيّن أنه لا يصح مباشرة القتال قبل توافر شروطه ، من تحديد الغاية الأساسية ، وإعداد العدّة المطلوبة للمواجهة ، والقيام بواجب الجهاد بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة أولاً ، وانتظار الفرصة الملائمة .

    ولكن على المسلمين جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها أن يخطّطوا ويساهموا في الإعداد التامّ ، لردّ صور العدوان التي يبيتها ضدّهم أعداء الإسلام ، ليوقعوا في شركهم كلّ بلد من بلدان العالم الإسلامي ، وعلى المسلمين جميعاً أن لا يتوانوا في هذا لحظة واحدة .

    * * *

    الخطة الرابعة : اصطناع الفرق العميلة الأجيرة ، التي تعمل على إلغاء الجهاد في سبيل الله ، بحيل شتى ، ومنها ما ينقض الإسلام كلَّه .

    لقد جرب الغزاة أن ينشروا بين المسلمين عقائد جديدة تفسّر نصوص الإسلام بحسب أهوائهم ، وتنادي بالأخوة الإنسانية ، دون تفريق بين الأديان القائمة ، وتفسّر بأنه واحد من هذه الأديان المنتشرة في الأرض ، يدعو إلى المحبة ، وإلى التآخي العامّ بين البشر ، مهما كانت مذاهبهم واتجاهاتهم وأعمالهم ومعتقداتهم ، ولا يفرض نفسه على الناس فرضاً ، وما هو بدين قتالٍ وسفك دماء .

    وأمَّا القتال الذي حصل في صدر الإسلام فقد كان عملية مرحلية فقط ، وقد انتهى دورها بانتشار الإسلام في العالم ، وأضافوا إلى هذا التغيير في مفهوم الإسلام أخلاطاً اعتقادية أخرى تنسف الإسلام من أساسه .

    واستأجروا للقيام بتنفيذ هذا المخطط أجراء ضمن صفوف المسلمين ، بألوان شتى ، وصور مختلفة ، وظهر بعض هؤلاء بأثواب قادة سياسيين ، وظهر بعضهم بأثواب مصلحين دينيين ، وابتدع بعضهم ديناً جديداً دعا إليه وجمع فريقاً من المرتزقة عليه ، فظهرت البهائية في إيران ، وظهرت القاديانية في الهند ، وكلٌّ منهما قد ضمَّن أخلاطه الاعتقادية الملفقة إلغاء ركن الجهاد في سبيل الله بالقتال ، ودعا إلى التعايش بمحبَّة وإخاءٍ وتعاون مع السلطات الكافرة ، التي تمتص خيرات البلاد ، وتنشر مبادئها باعتبارها أمَّة غالبة مستعمرة .

    وفيما يلي تعريف موجز بالبهائية ، وبالقاديانية :

    البهائية:

    هي نحلة جديدة ظهرت في جسم الأمة الإسلامية ، بتدبير من أعداء الإسلام ، وإمداد منهم لها بالأموال ، وبتيسير المصالح ، بالدعم والتأييد ، فلفقت ديناً جديداً بعقيدته وشريعته ، تحت قناع الإصلاح الديني والاجتماعي المزيف ، وباسم التآخي العام بين الناس على اختلاف أديانهم وقومياتهم ومذاهبهم . ولهذه النحلة (البهائية) صلة في مفاهيمها بالإباحية من جهة ، وبطرح الفوارق الدينية من جهة أخرى ، وإلغاء مبدأ الجهاد في سبيل الله من جهة ثالثة ، وتعمل على هدم الإسلام وتمزيق وحدة الأمة الإسلامية ، وخدمة أغراض وأهداف المستأجرين لها من أعداء الإسلام والمسلمين .

    وقد بدأت فكرة هذه الفرقة الضالة في مدينة شيراز من مدن إيران سنة (1260هـ) على يد فارسي اسمه "علي محمد الشيرازي" حين أعلن أنه باب العلم بالحقيقة الإلهية ، وسمى نفسه "الباب" . واجتمع حوله أتباع من ضعفاء العقول وأصحاب الشهوات . ولما أعلن مقالته في الناس قامت فتنة دعت الحاكم إلى أن يسجن أتباعه . ثم هاجر من شيراز إلى أصفهان فحماه حاكمها ، ولما توفي هذا الحاكم تلقى خلفه أمراً بالقبض على (الباب) وحبسه في قلعة (ماكو) .

    وفي سنة (1266هـ) أي : بعد ست سنوات من بدء ضلالته قتل رمياً بالرصاص في تبريز ، ولم ييأس أعداء الإسلام من متابعة مكرهم في إيجاد خلف له ، فاشتروا رجلاً للقيام بالمكيدة اشتهر باسم (البهاء) أو (بهاء الله) وإلى هذا الرجل تنسب طائفة البهائية ، ولم يلبث هذا الرجل بعد تسلمه رئاسة الدعوة لهذه النحلة الجديدة حتى اتهم بالاشتراك في مؤامرة لاغتيال ناصر الدين شاه (ملك إيران) انتقاماً للباب ، فاعتقل وأبعد ، فنزل بغداد ، وأقام بها اثنتي عشرة سنة يبشر بضلالته ، وضج منه علماء العراق ، فقصد (الآستانة) وقاومه علماؤها ، ثم كان آخر أمره في (البهجة) وهي قرية من قرى (عكة) بفلسطين ، ومات بها سنة (1309هـ) .

    ودعم أعداء الإسلام من بعده ابنه المعروف (بعباس عبد البهاء) وقد رافق هذا أباه منذ بدء ضلالته ، وتنقل معه ، وقام هذا بأمر البهائية وتنظيم جماعاتها ، ونشط هذا الشيطان الابن في نشر ضلالة هذه الطائفة ، وكان متوقد الذكاء ، وقد زار أوربا في سنة (1330هـ) وزار أمريكا في سنة (1331هـ) وعاد إلى فلسطين فمات في (حيفا) .

    وتتلقى هذه الطائفة دعماً ومالاً من أمريكا ومن اليهود ومن غيرهما من أعداء الإسلام .

    فقد تأكد أن الجاسوسية الروسية هي التي تولت غرسها ، وأن اليهودية الصهيونية هي التي احتضنتها ، وأن الصليبية ومؤسساتها الاستعمارية والتبشيرية تدعمها وتشد أزرها ، لأن الجميع يلتقون على هدف واحد ، هو هدم الإسلام ، وتجزئ المسلمين ، وتوهين قواهم .

    تقوم هذه النحلة الضالة على تأليه (البهاء) فبهاء الله عندهم الذي هو الرئيس الثاني لدعوتهم ، هو الرب الذي بشرت به الديانات كلها ، وهو المشرع الأعلى الذي تنبأت بظهوره البوذية والبرهمية واليهودية والمسيحية والإسلام .

    وقاموا بدور الأجير المطيع في تنفيذ مخططات أعداء الإسلام ، من صليبيين واستعماريين ويهود . إنهم يقررون ويعترفون في كتبهم ونشراتهم بأنهم عملوا على سقوط الحكومة العثمانية في فلسطين ، وبأن المستعمرين الإنكليز قد دخلوا الأراضي المقدسة بمساعيهم ، ويتباهون بأنهم كانوا قد تنبأوا بقيام الدولة الإسرائيلية ثم يتحدثون عن الصلاة الوثيقة التي تقوم بينهم وبين إسرائيل .

    وفيما يلي طائفة من الوثائق التي تكشف تآمرهم مع أعداء الإسلام :

    1-نشرت مجلة (الأخبار الأمرية) التابعة للمحفل الروحاني الوطني للبهائيين ، بالعدد الخامس ، الصادر في أيلول لعام (1951م) حديثاً لرئيس القسم العالي للبهائيين مع وزير أمور الأديان الإسرائيلي ، يقول فيه : "إن أراضي الدولة الإسرائيلية في نظر البهائيين واليهود والمسلمين أراض مقدسة ، وقد كتب حضرة عبد البهاء قبل أكثر من خمسين عاماً أنه في النهاية ستكون فلسطين موطناً لليهود ، وهذا الكلام طبع في حينه وانتشر" .

    2- جاء في كتاب الوقيعات المباركة بالمجلد الثانية "شوقي أفندي" وهو الزعيم الثالث للفرقة البهائية ، في الصفحة (290) ما يلي : "لقد تحقق الوعد الإلهي لأبناء الخليل ووارث الكليم ، وقد استقرت الدولة الإسرائيلية في الأراضي المقدسة ، وأصبحت العلاقات بينها وبين المركز العالمي للجامعة البهائية وطيدة وقد أقرت واعترفت بهذه العقيدة الإلهية".

    3- نشرت مجلة (الأخبار الأمرية) بالعدد العاشر في عام (1961م) ما قالته "روحية ماكسول" زوجة "شوقي أفندي" وزعيمة البهائيين حالياً ، في مقابلة صحفية لها مع "مزدهيفت" وهو :

    "فإن كان من المقرر لنا الاختيار ، فمن الجدير أن يكون هذا الدين الجديد في أحدث دولة ، وفيها يترعرع ، وإن لنا مع إسرائيل روابط ووحدة مصير ، وفي الواقع يجب أن أقول : إن مستقبلنا ومستقبل إسرائيل يرتبطان ببعضهما كحلقتين في سلسلة واحدة".

    4- إن مركز تشكيلات البهائيين الرئيسي ويسمى "بيت العدل" يوجد حالياً في مدينة حيفا بفلسطين المحتلة ، وتشرف عليه هيئة مكونة من تسعة أشخاص ، بينهم أمريكون وأوربيون ، والرئاسة الروحية فيه لتلك المرأة الأمريكية الأصل "روحية ماكسول" .

    وكل المحافل الأخرى التي تقام في العالم تعتبر فرعاً للمركز الرئيسي في إسرائيل .

    5- أعلن في النشرة الرسمية للبهائيين في إيران أيام رئاسة "ابن غوريون" للوزارة الإسرائيلية ما يلي :

    "مع كمال الفخر نبلغ البهائيين باتساع الروابط بين البهائيين والمسؤولين في دولة إسرائيل".

    وفي تلك الأثناء قام وفد من البهائيين بمقابلة "ابن غوريون" وقدم له تمنيات البهائيين القلبية لتقدم وتطور إسرائيل .

    6- في السابع من شهر نيسان لعام (1964م) قام الرئيس السابق لإسرائيل "زالمان شازار" بزيارة رسمية لمركز البهائيين ، واستقبله هؤلاء استقبالاً حاراً ، ظهر فيه مدى التعاطف والتعاون بينهم وبين اليهود .

    7- ثبت لدى مكتب المقاطعة العربية لإسرائيل أن البهائية تتعامل مع الصهيونية وتتآزر معها ، لذلك أصدر في شهر صفر عام (1395هـ) الموافق لآذار عام (1975م) قراراً باعتبار (البهائية) من الحركات الهدامة ، وبوضعها في القائمة السوداء ، ومقاطعتها ، وحظر أي نشاط لها في البلاد العربية ، لثبوت تعاملها مع العدو الإسرائيلي ، وافتضاح اتصالاتها المشبوهة بالصهيونية وأجهزتها السرية والعلنية .
    * * *

    القاديانية :

    هي نحلة جديدة ، عملت بما تستطيع من خدمة مأجورة من قبل المستعمرين الإنكليز ، لهدم العقائد والشرائع الإسلامية ، التي يخدم هدمها مصالح المستعمرين في بلاد المسلمين ، وكان لتأسيس هذه النحلة تحت ستار ديني هدفان رئيسان :

    الهدف الأول : تفريق وحدة المسلمين ، وتوهين قوتهم ، وهدم مبادئهم وعقائدهم .

    الهدف الثاني : تمكين الدولة البريطانية من بسط نفوذها على البلاد الإسلامية التي اغتصبتها ، لا سيما الهند التي نشأت هذه الطائفة فيها .

    وقصة هذه الطائفة تتلخص بما يلي :

    اجتمع قواد الاستعمار البريطاني وزعماؤه في مدينة (لندن) ووضعوا خطة لهدم أركان العقيدة والشريعة الإسلامية ، ولتمزيق وحدة المسلمين ، وتوهين قوتهم ، فكان من مظاهر هذه الخطة إنشاء فرق باطلة في صفوف المسلمين تدعمها الحكومات البريطانية . وتغذيها بالرشوات والمساعدات المالية ، تحميها من غضبة المسلمين ، وتمدها بالمعونات المادية بقدر ما تسمح به الظروف ، على أن تحمل هذه الفرق في الظاهر اسم الإسلام ، وتعمل في الحقيقة على هدم أصوله وقواعده ، وتقطيع أوصاله ، وإبعاد المسلمين عن جوهره ، وتخدم في كل مناسبة مصالح الاستعمار البريطاني بكل ما لديها من قوة .

    فأرسلت بريطانيا من أجل هذه الغاية بعثات خاصة إلى البلاد المستعمرة من قبلها ، للبحث عن الظروف الملائمة ، والتفتيش عن المنحرفين الطامعين ، ممن لديهم استعداد للقيام بهذه المهمة الخبيثة ، فعثرت في الهند على رجل منحرف نفسياً وفكرياً طامع بالمال ، طامح إلى زعامة دينية مزورة ، ضمن أسرة عميلة للاستعمار الإنكليزي ، فاشترته وأطمعته ، ووجهته للقيام بزعامة فرقة باسم الإسلام ، تشق عصا المسلمين ، وتهدم أركان الإسلام ومبادئه فقام هذا الرجل بمهمته الخائنة لدينه وأمته وبلاده .

    إنه (ميرزا غلام أحمد) القادياني المولود في قرية (قاديان) إحدى قرى البنجاب في سنة (1839م) في أسرة عميلة للاستعمار الإنكليزي ، فقد كان أبوه واحداً من الذين خانوا المسلمين ، وتآمروا عليهم ، وساعدوا الكفار الغاصبين ، سعياً وراء المال الحرام ، والجاه الخائن .

    وسعى (ميرزا غلام أحمد) يدعو إلى ضلالته ، ويخدم الإنكليز خدمة العبد المطيع ، ويتلقى المكافآت الكثيرة منهم على ما يقدمه إليهم من خدمات .

    ففي سنة (1882م) ادّعى أن الله ألهمه مهمة خاصة ، ثم ادّعى بعد مُدَّة أن جبريل قد نزل عليه بوحي من السماء ، ثم ادَّعى بعد حين أن الله تعالى لقبه برسول وسماه "محمداً" وفي عام "1901م" أعلن بصراحة أنه نبي مرسل من الله .

    وفرض الاستعمار الإنكليزي هذا الرجل وأمده وحماه ، وقدم له كل التسهيلات للقيام بمهمته ، وخصص له جنوداً من قبله لحراسته ، حتى لا تنزل به نقمة المسلمين في الهند ، وأتاح لأتباعه المستأجرين أيضاً لنشر نحلته فرصاً كبيرة لإقامة مراكزهم التبليغية في أنحاء العالم ، لا سيما البلاد الخاضعة للاستعمار الإنكليزي ، وصار الإنكليز يحثون من لهم عليهم يد من الأسر الإسلامية البارزة أن يعتنقوا القاديانية ، فمن اعتنقها منهم منحوه ما يسره من لقب ووسام .

    وظل القاديانيون يرتعون في كنف الاستعمار البريطاني ، ويصيبون من خيرات البلاد ما لا يصيبه غيرهم ، ليقوموا بهدم الإسلام وتمزيق وحدة المسلمين من ضمن صفوفهم ، وليقوموا بخدمة المصالح الاستعمارية وفق ما يملي عليهم سادتهم .

    وألف (ميرزا غلام أحمد) كتباً ورسائل ونشرات كثيرة ، ضمنها الحث الصريح على طاعة الدولة البريطانية ، وعدم الخروج عليها ، ومما أفتى به أنه لا يجوز للمسلم أن يرفع السلاح في وجه الإنكليز لأن الجهاد قد رفع ، ولأن الإنكليز هم خلفاء الله في الأرض فلا يجوز الخروج عليهم .

    ومما جاء في رسائله : "لقد قضيت معظم عمري في تأييد الحكومة الإنكليزية ونصرتها ، وقد ألفت في منع الجهاد ووجوب طاعة أولي الأمر الإنكليزي ، ما لو جمع بعضه إلى بعض لملأ خمسين خزانة".

    (وما جاء في أقواله :

    "إن الحكومة البريطانية أقرّت بأن أسرتي في مقدمة الأسر التي عرفت في الهند بالنصح والإخلاص للإنجليز ، ودلت الوثائق التاريخية على أن والدي وأسرتي كانوا من كبار المخلصين لهذه الحكومة من أول عهدها".

    وقوله أيضاً:
    " وقد قدّم والدي فرقة من خمسين فارساً لمساعدة الحكومة الإنجليزية في ثورة (1857م) وتلقى على ذلك رسائل شكر وتقدير من رجال الحكومة" .

    ثم انقسمت الهند ، وقامت الدولة المسلمة (باكستان) في عام (1947) محاطة بالمشكلات الصعبة التي وضعها فيها الاستعمار الإنكليزي ، وبخطة مدبرة انتقل مركز القاديانيين من (قاديان) في الهند إلى باكستان ، ليتابعوا مكيدتهم في الدولة المسلمة الناشئة ، وفرض على هذه الدولة الحديثة تولية الزعيم القادياني المشهور السير (ظفر الله خان) وزيراً للخارجية ، واحتج المسلمون على هذا الإجراء ، وأجابهم رئيس وزراء باكستان يومئذ (الخواجا ناظم الدين) بأنه لا يستطيع التخلي عنه ، لأن ذلك يحرم باكستان من المساعدات الأجنبية ، لا سيما المواد الغذائية التي كانت باكستان بأمس الحاجة إليها ، فدل ذلك على متابعة دعم القاديانيين من الدول المعادية للإسلام ، لاستكمال تنفيذ مخططات المكيدة ، وظلت الحكومات في باكستان تواجه الضغوط الخارجية لمنح القاديانيين ما يطلبون من تسهيلات وامتيازات .

    وانتهز القاديانيون هذه الفرصة المواتية فوضعوا عدة مشاريع طبقوها بنجاح ملحوظ ، فعمقوا جذورهم في باكستان ، وانطلقوا من ذلك ينشرون دعايتهم في العالم بدعم مستمر من سادتهم ، المستفيدين من أعمالهم في باكستان ما يلي:

    1- إنشاء مدينة لهم باسم (ربوة) وهذه المدينة خاصة بهم ، لهم فيها نظام بوليسي خاص ، ومحاكم خاصة ومدارس وكليات ومستشفيات خاصة ، ولا يستطيع أحد من المسلمين أن يشتري فيها أرضاً ، أو يستأجر فيها داراً ، وكل الوظائف فيها لا يشغلها إلا القاديانيون ، أقاموا فيها سكرتارية فخمة مجهزة بأحدث الآلات ، ومنها ينشرون التضليل القادياني .

    2- شحن المناصب الهامة في الجيش وفي الإدارة المدنية وفي السفارات الباكستانية بالقاديانيين . وكان ذلك بتأثير السير (ظفر الله خان) .

    3- إنشاء المدارس والكليات والمستشفيات على مستوى عالٍ ، واستدراج المسلمين عن طريقها إلى القاديانية ، على مثل ما تقوم به البعثات التبشيرية المسيحية .

    4- تقديم المنح الدراسية والمساعدات المالية المشروطة باعتناق القاديانية .

    5- استغلال الوظائف والمناصب الحكومة استغلالاً غير مشروع ، وذلك بربط التعيين والترقيات بأن يعتنق طالب ذلك نحلتهم .

    6- عمل القاديانيون المتغلغلون في أجهزة الحكم على منح المنتسبين إلى نحلتهم مساعدات غير عادية ، ليتقدموا تقدماً كبيراً في مجالات الصناعة والتجارة والزراعة .

    7- وقاموا بنشاط كبير في مجال طبع الكتب والنشرات القاديانية ، التي تثير الشبهات حول العقائد الإسلامية ، وتضلل أبناء المسلمين ، وتحاول إبعادهم عن الإسلام الحق .

    وقام المسلمون في باكستان بمظاهرات واحتجاجات ضد تصرفات القاديانيين في مناسبات متعددة ، ولم يستطيعوا أن يعزلوهم عزلاً تاماً عن جسم الأمة الإسلامية حتى عام (1974م) إذ استطاع المسلمون أن يوجهوا ضغوطاً متعددة اضطر على أثرها البرلمان المركزي الباكستاني أن يصدر في السابع من شهر أيلول لعام (1974م) قراراً إجماعياً يقضي باعتبار جميع الفئات القاديانية أقلية غير إسلامية .

    الخطة الخامسة : خطَّة استغلال المنظمات الدولية المندسة في الشعوب المسلمة ، لبثّ الأفكار الرامية إلى هدم الإسلام عن طريقها ، ومن ذلك الاهتمام الشديد بإلغاء ركن الجهاد في سبيل الله بالقتال .

    ويبرز أمامنا لدى ملاحظة هذه الخطة دور الجمعيات السرّية المعادية للإسلام ، كالماسونية ، والروتاري ، والليونز ، فقد كان وما يزال لهذه المنظمات دور كبير في محاربة الإسلام ، عن طريق دعوات الأخوة الإنسانية ، ودور كبير في إلغاء ركن الجهاد في سبيل الله .

    وبما أن "الماسونية" هي الأمّ للروتاري ، والليونز ، فمن المستحسن تقديم صورة موجزة جداً عن الماسوني ، والروتاري ، والليونز .

    الماسونية :

    1- منظمة عالمية ، محاطة أهدافها الحقيقية بسريّة عظيمة ، وهي من أخطر الجمعيّات ، وأثَّرت تأثيراً مباشراً على مصائر كثير منها ، وتحكَّمت في سياسة معظم دول العالم ، ومن أهدافها الرئيسة العمل على إلغاء الجهاد الإسلامي داخل شعوب الأمة الإسلامية ، وهدم وإلغاء الأديان كلّها باستثناء اليهوديّة .

    2- وحظَّ اليهودية العالمية من أعمال هذه المنظمة هو الحظ الأوفر ، ونصيبها هو نصيب الأسد من الفريسة مع صغار الوحوش .

    3- وقد أكَّدت البحوث المستفيضة لكثير من الباحثين أن هذه المنظمة تهيمن عليها قيادة يهودية سريّة ، وتدير محالفها عناصر يهودية قادرة على إخفاء هويّتها . وتُوجَّه الأوامر المهمّة فيها بطريقة شفوية ، حتى يبقى أصحاب الأمر الحقيقيون فيها مستورين عن الأنظار ، ولئلا تنكشف للعميان المنتمين إلى المحافل الماسونية خطّة المكر اليهودية ، التي توجّه السياسات العالمية ، والأفكار ، والمذاهب الاجتماعية والاقتصادية ، وسائر مجالات الحياة ، كما تستغلّ كل نشاط لتحقيق المخطّطات اليهودية ، الرامية إلى تدمير الأمم غير اليهودية ، وتدمير أديانها وأخلاقها وأنظمتها ، وإيصال اليهود إلى قمة الإدارة العالمية المسيطرة بشكل مباشر على كلّ شيء في العالم .

    4- واسم هذه المنظمة المشتهر بالماسونية ترجمته الحرفية : "البنَّاؤون الأحرار" فهي إذن : "جمعية البنَّائين الأحرار".

    وتستطيع محافل الماسونية أن تغير أسماءها ، كلَّما أحست بالخطر ، فحين أغلق "هتلر" جميع محافلها في ألمانيا ، لأنَّه اكتشف صلتها بالمكر اليهودي ، وأنَّ القيادة اليهودية السرّية العالمية هي التي تديرها بطرائق خفيّة ، عادت متستّرة باسم "نوادي الفرسان الألمان" .

    5- وللماسونية وجهُ بَاسِمٌ خدّاع ، ينادي بالإخاء الإنساني ، وبالتعاون بين الإخوة المنتظمين في محافلها ، وشعارها المعلن : "الحرية والإخاء والمساواة" .

    ولها وجه باطن خفي ، يدبّر الخطط ، ويحيك الدسائس ، ويرتّب المؤامرات ، ليوصل اليهود إلى مراكز التحكّم بمصائر كلّ الأمم ، وكلّ الدول ، وليُتِم تَنْفيذَ المخطّطات اليهودية الرامية إلى تدمير الشعوب وحكم العالم .

    وقد عرَّف المستشرق الهولندي "دوزى الماسونية بتعريف موجز قال فيه : "جمهور كبير من مذاهب مختلفة يعملون لغاية واحدة : هي إعادة الهيكل ، إذ هو رمز دولة إسرائيل" .

    6- ويتعرَّف أعضاء هذه المنظمة بعضهم على بعض عن طريق الرموز اللفظية ، والرموز الحركية الجسمية ، ومنها الضغط على الأصابع عند المصافحة بطرق خاصة .

    7- ولهذه المنظمة مراتب ثلاث كبرى :

    المرتبة الأولى : الماسونية العامة ، وتسمى "الماسونية الرمزية" وهي مرتبة تضم المبتدئين الذين يجهلون الأهداف الحقيقية الغائية لها ، ويعرفون عند أهل المرتبتين الثانية والثالثة بالعميان .

    المرتبة الثانية : الماسونية الملوكية ، وتسمّى "العقد الملوكي" وهي مرتبة يعرف الواصلون إليها بعض أهدافها البعيدة ، إلاَّ أنهم قد أعمتهم مصالحهم التي تتحقق عن طريقها ، وأماتت فيهم ضمائرهم .

    المرتبة الثالثة : الماسونية الكونية ، وهي تضم حكماء إسرائيل ، وورثة السرّ ، وهم الذين يتصرفون سرّاً بالمحافل الماسونية المنتشرة في العالم ، ويوجهونها لتحقيق أهداف اليهود الخفية .

    8- ولهذه المنظمة درجات كشف الباحثون المتتبعون رموزها ، وهي "ثلاث وثلاثون" درجة ، يبتدئ المنتسب إليها بالدرجة الأولى ، ثمَّ يُرَقَّى فيها درجة فدرجة ، بحسب نشاطه وإخلاصه في خدمة المنظمة ، ولا يُرَقَّى إلى الدرجة الأعلى حتى يستوفي شروط الدرجة التي هو فيها استيفاءً كاملاً ، بحسب نظر القيادة اليهودية السرية .

    وكلَّما انسلخ من دينه وقومه ووطنه وكلِّ مبادئه وقيمه ، وخدم أهداف اليهود ، اقترب من احترام وتقديس العقيدة اليهودية كان جديراً بأن يُرقَّى في الدرجات ، وإلاّ بقي عند حدود الدرجات الدنيا .

    والمرشح للدرجة الثالثة والثلاثين عليه أن يقسم على التوراة ، ويشتم عيسى ومحمداً عليهما الصلاة والسلام ، ويكذّب بالإنجيل والقرآن ، وينكر المسيحية والإسلام ، ويعلن إيمانه بموسى وهارون فقط.

    الروتاري :

    إحدى بنات الماسونية منظمةٌ أطلق عليها اسم "الروتاري" ، وأهم أهدافهم محاربة الدين ، والتجرد من المصالح القومية والوطنية ، ونبذ القيم ، والعمل تحت شعار الفكرة الإنسانية العامة ، ولكنَّ أعمالها تسير في قنوات تصب في أحواض المصالح اليهودية ، ومخططاتها الكبرى ، مع خدمة مصالح الدول الكبرى ، الاستعمارية وغيرها ، إذا كان ذلك لا يتعارض مع الأهداف اليهودية العالمية .

    الليونز = الأسود :

    أسست نوادي باسم نوادي "الليونز" أي الأسود ، وهي من بنات الماسونية أيضاً .

    وشعار هذه النوادي العمل لإقامة السلم العالمي ، والتحرر من القيم الدينية والأخلاقية .

    وجلُّ أعضاء هذه النوادي من الملوك ، والرؤساء ، والوزراء ، وذوي المال الوفير والجاه العريض في بيئاتهم .

    وأعضاؤها يتحركون على شبه تحرك أعضاء الماسونية ، ليحققوا أخيراً الأهداف التي تنشدها الماسونية .

    الخطة السادسة : خطة التوريط والإحباط ، لإقناع جماهير المسلمين بالعجز عن عودة الجهاد إلى سابق مجده .

    فمن مكايده أعداء الإسلام لنسخ فكرة الجهاد في سبيل الله بالقتال ، من أذهان المسلمين وقلوبهم ، ولو بصورة مؤقتة ، خطة التوريط دون استكمال العدّة الكافية ، وإتباعه بالإحباط المؤلم المقرون بخيبة الرجاء ، والاقتناع بعدم جدوى هذا الأسلوب نهائيَّاً .

    ولتنفيذ هذه الخطّة ربما دسّ دهاة المكر بين صفوف المسلمين الغيورين المتحمسين لإسلامهم ، من ينفخ في نار حماستهم ، ليؤجّجَها ، متظاهراً بالغيرة الشديدة على الإسلام والمسلمين ، وهو منافق كذَّاب . وغرضه أن يثير غضبهم ، ويزيّن لهم ضرورة التحرّك السريع للقتال في سبيل الله ، من أجل رفع طغيان قائم ، وبغي جاثم ، أو لإقامة حكم الإسلام في الأرض ، ويزعم لهم أنَّ أمر القتال قد صار واجباً شرعياً ، وأمراً حتمياً ، ولو لم يكن لدى الثلّة المؤمنة إلاَّ القوة القليلة التي لا تكفر في ميزان القوى السببيّة للتغلّب على خمسة في المئة من قوى البغي أو الكفر التي يريدون قتالها لإسقاطها .

    وقد يفتعل الأعداء أو أجراؤهم مثيرات غضب المسلمين من أجل دينهم ، ليستدرجوهم إلى تحرّكات طائشة رعناء ، ثم ليوقعوهم في فخ كانوا قد نصبوه لهم .

    وقد يندفع المتحمسون للإسلام برعونة وقصر نظر ، وغفلة عما يُرادُ لهم ، وهم يجهلون فقه الجهاد في سبيل الله بالقتال ، وتنتهي الاندفاعة الرعناء بالخيبة والهزيمة ، وتنبري القوى المعادية للإسلام فتنزل بالمسلمين ما كانت قد دبّرت لهم من قمع وتنكيل واضطهاد .

    وبذلك يظفر أعداء الإسلام ، والسائرون في ركابهم ، أو الدائرون في أفلاكهم ، بما كانوا يهدفون إليه من هذه الخطة .

    وتشيع في جماهير المسلمين فكرة اليأس من الخلاص ، واليأس من جدوى القتال والإعداد اللازم له .

    وهذا هو ما يريد الأعداء الوصول إليه .

    الخطّة السابعة : خطّة تقديم صُوَرٍ مصطنعة من جهاد قتالي أو إرهابيّ يحمل شعارَ جهادٍ إسلاميّ ، وهو ليس منه منهجاً ولا غاية ، للتنفير من الجهاد في سبيل الله بالقتال ، كصُوَرِ الأعمال الإرهابية والثورات الفوضويّة التي تقتل الأبرياء ، وتغتال وتدمّر ، دون مواجهات قتالية .

    إنّ تاريخ الجهاد الإسلاميّ بالقتال قد كان مقتصراً على قتال جيوش أعدائهم ، في جهاد إسلاميّ مقدّس ، قتالاً تُوَاجِه فيه الجيوش الإسلامية جيوش الأعداء ، بلا غَدْر ولا خيانة ولا نقضٍ للعهود ، ولا تَتَعرَّضُ لغير الجيوش المقاتلة من أفراد شعوبهم الذين لا يشاركون في القتال .

    ولم يكن المسلمون يعرفون بدعة الإرهاب المعاصرة ، الَّتي خطَّط لها اليهودُ والنصارى والملاحدة والوثنيُّون وأُجراؤُهم ، ومارسوها في ثوراتهم واضطراباتهم ، وتبعهم فيها ثوريّون مختلفون من شعوب الأرض ، وهذه البدعة تهدف إلى إثارة القلاقل والاضطرابات في الشعوب ، وقتل الأبرياء ، وتخريب العمران ، ومصادرة الطائرات ، وتدمير الأبنية على سُكّانها بالمفتجِّرات ، وتدمير المدُنِ ، وقتل سكانها في إبادة جماعيّة بأسلحة الدّمار الشامل ، ونشر الفساد في الأرض .

    إنّ هذه الأعمال الّتي أُطْلِق عليها اسم أعمال إرهابيّة ، لا يَعْرِفُها المسلمون خلال تاريخهم الجهاديّ الطويل ، ولا يُجِيزها الإسلام ، ولا يُبِيح للمسلمين أن يمارسوها .

    وفي خطّة ماكرةٍ مُدَبّرة دفع أعداء الإسلام سرّاً بعض أجرائهم ، فدفعوا بعض أبناء المسلمين الذين لا يعرفون أحكام الإسلام ولا يطبّقونها في سلوكهم ، للقيام ببعض الأعمال الإرهابيّة الّتي قلدُوا فيها الإرهابيين من غير المسلمين ، من اليهود والنصارى والملاحدة والوثنيين ، ورفَعُوا مع أعمالهم شعارات جهاد إسلاميّ ، مع أنّ هذه الأعمال لا تَمُتُّ للإسلام بصلةٍ ، بل يُحَرِّمها الإسلام ولا يأذن بها .

    واستغلَّ أعداءُ الإسلام هذه الأعمال لتشويه صورة الإسلام والمسلمين ، بوسائل الإعلام الكثيرة الّتي يملكونها .

    إنّ أعداء الإسلام يصنعون القبائح بأيدي أُجرائهم وبعض الجهلة والأغبياء من المسلمين ، ليحاربوا الإسلام والمسلمين بها .

    * * *


  2. افتراضي



    (5)
    محاولات الغزاة تفريغ الإسلام من أحكام المعاملات وسائر شؤون الحياة



    من الأمور البدهية في الشريعة الإسلامية أنها تتناول بأحكامها وأنظمتها الإلهية أحوال الأفراد والجماعات الإنسانية ، على اختلافها في الخصائص الفردية والجماعية فلم يترك الإسلام حالة من أحوال الناس إلا وتناولها بحكم شرعي ، يضمن مصالحهم الفردية والجماعية ، وهذا الحكم إما منصوص عليه ، وإما مدلول عليه بدليل ما من الأدلة الشرعية ، ولا يعدو عمل فقهاء المسلمين ومجتهديهم البحث في مصادر التشريع الإسلامي ، حتى ينكشف لهم حكم الله فيما يُعرض عليهم من مسائل ، وفيما يجدّ للمسلمين من أحوال .

    وهذه قضية ليست محل جدلٍ عند المسلمين ، ولكن أعداء الإسلام يريدون تفريغه من مضامينه ، ولا سيما ما يتعلق منها بالأحكام المنظمة لمعاملات الناس وعلاقاتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ونحو ذلك ، ويريدون إحلال أنظمتهم الوضعية محلها ، ليوجدوا نوعاً من التشابه بين أوضاع المسلمين وبين أوضاعهم الخاصة والعامة ، تمهيداّ للقضاء على الإسلام جذوراً وفروعاً ، وقد وجدوا بينهم وبين تحقيق هذه الغاية سداً منيعاً ، هو استمساك المسلمين بأحكام الشريعة الإسلامية ، التي تتناول جميع حياة الناس ، ففكروا وقدّروا ، ثم عثروا على فكرة شيطانية خبيثة ، وهي أن يفصلوا بين أحكام الدين المتعلقة بالعبادات ، وأحكامه المتعلقة بالأحوال الشخصية ، وأحكامه المتعلقة بالنظم الأخرى .

    وأعداء الإسلام يدبّرون كلّ مكيدة للتخلّص من كلّ زعيم يعمل على نصرة الأمة الإسلامية ، أو تطبيق الشريعة الإسلامية في بلده .

    ومع هذا الفصل أخذوا يدسون على المسلمين دسيستهم التي تتضمن تحوير مفهوم عبارة (الدين لله) وذلك بجعلها في معنى أن الأحكام الدينية هي الأحكام التي تتعلق بأمور العبادات ، التي هي لله وحده ، وأما الأحكام الأخرى التي تتعلق بتنظيم أحوال الناس الشخصية والعامة ، المادية والأدبية ، السياسية وغير السياسية ، في السلم والحرب ، فلا علاقة للدين بها ، وما هي إلا أمور متروكة للناس ينظمونها كما يشاؤون ، وقد سرت فعلاً هذه الفكرة المحورة في صفوف معظم المسلمين البعيدين عن دراسة الشريعة الإسلامية ، باستثناء أحكام الأحوال الشخصية من زواج وطلاق ونفقة وأمثال ذلك . وبسريان هذه الفكرة المحورة استطاع أعداء الإسلام أن يكسروا عدة جدُر من السور الإسلامي الكبير ، الذي يحمي حصنهم الفكري المنيع .

    وحملت هذه العبارة معنى لزم منه عدم اهتمام المسلمين بدار الإسلام ، وبالحكم الإسلامي ، حتى وجدنا جماهير المسلمين تبعاً لقادتهم السياسيين يردّدون بغباءٍ عبارة (الدين لله والوطن للجميع) وذلك في غمرة نشاط الثورات الوطنية لإخراج المستعمرين ، والتي كان وقودها من شهداء المسلمين .

    وانطلقت الجماهير تردد هذه العبارة المحورة في شطرها الأول ، و المدسوسة في شطرها الثاني ، وكأن أحكام الله في شريعته لا علاقة لها بالأوطان ، ولا بتنظيم شؤون الناس الاجتماعية والسياسية والاقتصادية .

    وعلى إثر هذا التحوير وبضغط من السلطان الأجنبية المعادية استطاعت النظم الوضعية الأوربية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعدلية أن تنفذ إلى معاقل المسلمين ؛ وتحتل فيها احتلال المالك الأصلي .

    فإذا دخلنا محاكم القضاء في معظم البلاد الإسلامية وجدنا روح القوانين الأوربية هي النافذة فيها ، وإذا دخلنا في أي مجال اقتصادي وجدنا أسس النظم الاقتصادي الأوربيّة اليهودية هي السائدة والمهيمنة على كل شيء فيها ، وإذا راقبنا الأسس القائمة عليها سياسة معظم هذه البلاد الإسلامية وجدناها أسساً أوربية شرقية أو غربية ، بعيدة عن الأسس الإسلامية التي كان بها مجد المسلمين وعزهم ، وما زال تحقيق مجدهم وعزهم رهناً بتطبيقها .

    وإن يوم الخلاص من تسلط أعداء الإسلام على المسلمين هو يوم عودة المسلمين إلى تطبيق نظم دينهم الشاملة لنواحي حياتهم كلها دون تجزئة ، أو مساومة أو نفاق .

    (6)
    محاولة إلغاء تطبيق أحكام الأحوال الشخصية الإسلامية



    عقب خطة التحوير الذي دسه أعداء الإسلام في عبارة : (الدين لله) واستغلال هذا التحوير لتسلل القوانين الوضعية ؛ واحتلالها معظم أجهزة الحكم والإدارة في البلاد الإسلامية ، ومعظم مجالات الحياة فيها ، وفي مرحلة من مراحل الغزو المباشر على الشريعة الإسلامية ، اتجهت السلطات الاستعمارية إلى تغيير أحكام الأحوال الشخصية الإسلامية في بلاد المسلمين ، وإحلال قوانين مدنية غير إسلامية محلها ، واتخذت لذلك وسائل مختلفة شتى .

    ومن أمثلة ذلك ما فعلته السلطة الاستعمارية الفرنسية التي كانت تحكم سورية أيام الانتداب ، إذ أصدرت قراراً بقانون يتعلق بالأحوال الشخصية ، ليطق على الرعايا السوريين جميعاً مسلمين وغير مسلمين ، واشتهر هذا القانون في حينه باسم قانون الطوائف .

    وقد تضمن هذا القانون أحكاماً تناقض أحكام الشريعة الإسلامية ، فيما يتعلق بالأحوال الشخصية ، إذ يسمح بموجب أحكام هذا القانون لأي رجل من أية طائفة أن يتزوج بأية امرأة ، دون أن يستطيع أولياء المرأة الاعتراض على هذا الزواج بمخالفته أحكام الشريعة الإسلامية ، إلى غير ذلك من مواد تقنينية مسايرة للقوانين المطبقة في فرنسا .

    وضج علماء المسلمين من هذا القانون ، وتحركت الجماهير المسلمة بقيادة علمائها ثائرة عليه ، مستنكرة له ، تطالب بإلغائه فوراً ، وتنذر بقيام ثورة ، واضطرت السلطات المستعمرة إلى إلغائه قبل أن يوضع موضع التنفيذ ، وانطوت صفحة من صفحات كفاح المسلمين .

    وللتاريخ أذكر أن الذي أثار الحركة وقادها في حينها والدي سماحة الشيخ حسن حبنكة الميداني ، وقد أيدته الجماهير المسلمة ، وكتب الله له النصر في المعركة وتم إلغاء قانون الطوائف .

    ولكن الدوائر الاستعمارية عملت ما هو أدهى وأمرّ من فرض أنظمتها وقوانينها بقرارات تصدرها هي ، فقد قامت بتربية جيل حديث داخل صفوف المسلمين ، متحلل من الإسلام ، غير عابئٍ بأحكامه وشرائعه ، يعمل على وضع قوانين وأنظمة للبلاد الإسلامية أفحش من قانون الطوائف الذي ثار عليه المسلمون من قبل ، ويأتي إلى أسس الدين الإسلامي وأصوله ، فيقتلعها من جذورها ، ويضطهد علماء المسلمين ، الذين كافحوا الاستعمار بالأمس ، وقاوموه أشد المقاومة ، وأججوا عليه نار الثورات التي نغصت عليه مقامه في البلاد .

    وهكذا نفذ أعداء الإسلام ما يريدونه في المسلمين ، دون أن يباشروا بأيديهم لهيب النار ، أو يمسوا جمراتها ، واتخذوا لذلك الوسائل الهادئة ، والخطوط الطويلة الأمد ، التي تحقق أغراضهم بعد حين ، بينما تكون ضحاياهم غافلة عما يمكرون ، مشغولة في دوامة المظاهر الغوغائية الخادعة ، التي لا تلبث أن تجد نفسها في الفخ الذي نصبه العدو ، لينطبق على فريسته في اليوم المقدر له . إنه لون عجيب من ألوان الكيد الذي يدبره أعداء الإسلام على اختلاف اتجاهاتهم ، وتعدد بلدانهم ، وينفذونه في صفوف المسلمين تنفيذاً بارعاً ، ! لا تنكشف فيه يد المجرم الحقيقي .

    أما الذين يباشرون الجريمة فما هم في نظر العدو إلا أدوات ، إن سلمت فربما سر العدو سلامتها ليتابع استخدامها مرة أخرى ، وإن لم تسلم لم يحزن لهلاكها ، ومثلها في نظره كمثل القنبلة الموقوتة ، يضعها واضعها لتنفجر في وقت معلوم ، فتخرب من أهداف العدو على مقدار طاقتها ، وأول حساب العدو بالنسبة إليها هو أن يخسرها ليربح المعركة ، ويظفر بغايته .

    على أن العدو ربما يعمل على الخلاص من هؤلاء الأدوات ، متى أصبحوا غير صالحين للاستعمال ، أو غدوا عبئاً متاعبه أكبر من منافعه ، وبهذه الخطة الماكرة يستغفل أعداء الإسلام ويكيدون القسمين معاً ، قسم الأدوات المستأجرين ، وقسم الضحايا الغافلين .

    والمستأجرون من أدوات الخيانة قد لا يكلفون أعداء الإسلام إلا أن يقدموا لهم المطامع والوعود ، أو أدنى الأجور النقدية ، أو بعض الشهوات المبذولة لكل روادها ، وكذلك يفعلون .

    (7)
    التلاعب بالأحكام الإسلامية بحيلة المرونة في الشريعة



    حينما تتناول الشريعة الإسلامية أحكام العبادات تتسم باليسر والسماحة ، وحينما تتناول بيان حقوق الناس تتسم بالدقة والحيطة والتحديد ، وحينما تتناول بيان الحدود والعقوبات تتسم بالاحتياط في وسائل إثبات موجب العقوبة ، بالعنف الرادع في إقامتها .

    أما حينما تتناول الشريعة الإسلامية بيان النظم التي تكفل للناس الحياة الأفضل فإنها تتسم بالمرونة ، وقد راقب أعداء الإسلام جانب النظم فوجدوا أن فريقاً من المسلمين لم يحسنوا الاستفادة من المرونة في الأصول الشرعية التي تتناول هذا الجانب ؛ إذ لبثوا جامدين عند الصور التطبيقية التي اقتضتها ظروف العصور الإسلامية الأولى ، فأخذوا يهاجمون الإسلام بأن نظمه لا تساير العصور التي تتطور فيها ظروف الحياة الإنسانية الفردية والاجتماعية ، وأمام هذا الهجوم قامت فئة من الباحثين المسلمين ، وفريق منهم حسن النية ، فقذفوا حبل المرونة في الشريعة إلى أقصى اليمين أو إلى أقصى اليسار ، وزعموا أن نظم الشريعة الإسلامية مرتبطة بالمصالح التي يقدرونها ، فحيثما وجدت المصلحة التي يقدرونها هم فثم شرع الله ، وهذا الاتجاه الخطر يؤدي بالشريعة الإسلامية إلى أن تكون وحي الآراء والأفكار ، ومستجيبة لمطالب كل الأهواء والشهوات ، ويجعلها قابلة لأن تدخل في إطار نظمها كل نظام من أنظمة العالم ، ولو كانت أسسه أو تطبيقاته غير إسلامية ، ولا يأذن بها الإسلام ، ولو كانت المصالح المتوخاة فيه لا تعتبرها الشريعة الإسلامية من المصالح .

    وفي كلا التجاهين الجامد المفرط ، والمرن المتجاوز حدود المرونة المقبولة شرعاً كان الرابح في المعركة أعداء الإسلام ، لأن الجمود على تطبيقات معينة اقتضتها الظروف الاجتماعية السائدة في العصور الأولى ، يجعل الأجيال المسلمة المعاصرة تنفر من الإسلام ، وتقذف بأنفسها في أحضان النظم العالمية الأخرى ، وعندئذ تجد نفسها في أحضان أعداء الإسلام ، وهذا ما يبتغيه أعداء الإسلام الذين ركزوا خطة هجومهم عليه . أما الاتجاه الأخير المتجاوز حدود المرونة المقبولة شرعاً فما هو إلا صورة من صور التحلل من ربقة الأحكام الإسلامية ، تحت ستار المرونة التي تتمتع بها أصول الشريعة الإسلامية ، وذلك لأن المصلحة التي يهدف إليها المقننون من البشر تختلف اختلافاً كبيراً من شخصٍ لآخر ، ومن هيئة لأخرى . فبينما ترى فئة من الناس المصلحة في جهة ترى فئة أخرى المصلحة في جهة مضادة لها تماماً ، ذلك لأن كل إنسان ينظر إلى المصالح من زاوية وجهة نظر معينة متأثرة بأهوائه وأغراضه ، أو أهواء وأغراض الفئة التي ينتمي هو إليها ، ومن الصعب عليه جداً أن ينظر نظرة شاملة عامة متجردة ، تستوعب مصالح جميع الناس الذين يوضع لهم ذلك النظام .

    وسلوك هذا السبيل تحوير في مفهوم مرونة الشريعة الإسلامية ، وسير بها في طرق النظم الوضعية الإنسانية ، التي لا تضع في حسابها الأسس الربانية ، التي يجب أن تبنى عليها نظم الناس ، ومتى وصل المسلمون إلى السير في هذا الطريق فقد ظفر أعداء الإسلام بما عملوا له ، وأخرجوا المسلمين عن دائرة إسلامهم في جانب من جوانب أحكام شريعتهم ، وهو جانب النظم ، وهي خطة بالغة الكيد للإسلام ، والمكر بالمسلمين .

    أما المرونة الحقة فليست هي الجمود الذي يخدم العدو الغازي ، ولا المروق من نظمه الذي يحقق أغراضه ، ولكنها وسط بين بين ، فهي التزام بكل الأسس المنصوص عليها ، أو التي تدل عليها مصادر التشريع الإسلامي من جهة ، وتكيف مع المصالح المعتبرة في الشريعة الإسلامية من جهة أخرى .

    (8)
    حيلة خلط معنى التمسك المحمود بالحق بمعنى التعصب الجاهلي المذموم



    يطلق التعصب على التقليد الأعمى لما كان عليه الأسلاف دون بصر ولا نظر ، ودون تفريق بين حق وباطل ، مع التشدد في الاستمساك به ، والانتصار له ، ولو كان باطلاً لا يمت إلى الحق والصلاح بصلة فكرية أو واقعية ، وهذا التعصب أمر مذموم ، ذم القرآن المتصفين به ذماً شديداً ، فقال الله تعالى في شأن المشركين في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) :

    {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}.

    وقال تعالى في سورة (لقمان:31 مصحف/57 نزول):

    {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ }.
    هذا هو التعصب المذموم ، لأنه لا سند له إلاّ الانتصار لما كان عليه الآباء والأجداد ، والمحافظة عليه ، والتزامه ، ولو كان غير مستند إلى عقل أو هداية ، ولو كان ثمرة استجابة لدعوة الشيطان الذي دعوهم إلى شقائهم الأبدي في عذاب السعير .

    أما الالتزام بما كان عليه الأسلاف من حق يشهد به المنطق الصحيح ، وتقوم عليه دلائل الواقع ، فليس هو من التعصب في شيء ، وإنما هو استمساك بالحق ، وهو فضيلة لا يجافيها الإنسان إلا متجهاً في سبل الرذيلة .

    وقد تلاعب أعداء الإسلام في هذين المعنيين بين صفوف المسلمين تلاعباً خطيراً ، وأوهموا متبعيهم أن الاستمساك بشريعة الله ، والأخذ بما ثبت فيها ، والمحافظة على ما كان عليه السلف الصالح من عقيدة صالحة وعمل صالح ، لون من ألوان التعصب المذموم . أما إحياء التراث الجاهلي ، والتعصب له ، والأخذ بتقاليد الجاهلية الأولى ، والرجعة إليها ، فهو فضيلة قومية ، ولو كان ذلك شراً ، أو أمراً تافهاً من أمور الفن ، أو عملاً فاسداً غير صالح .

    وصاروا بهذا التلاعب التضليلي يحلون بين المسلمين عرى استمساكهم بأحكام دينهم ، وأصول شريعتهم ، عروة فعروة ، فإذا التزم المسلم بفريضة الصلاة فأداها في أوقاتها اتهموه بالتعصب ، ووجهوا إليها عبارات الهزء والتندر ، أو رشقوه بالهمز واللمز ، وإذا تباعد عن شرب الخمر ، أو تجافى عن موائد القمار ، أو انتصر لمبادئ الإسلام وأحكام شريعة الله ، قالوا : هذا متعصب متزمت ، وإذا احتشمت المرأة المسلمة في لباسها أرعبوها بغول التعصب ، وهكذا في جميع الالتزامات الإسلامية ، بغرض تفريغ العقيدة الإسلامية من مضمونها العملي .

    وكثير من المسلمين تضعف نفوسهم عن مقاومة هذا الاتهام المزور اللاذع ، الموجه ضمن عبارات الهزء والسخرية والتندر ، فينحل تماسكهم ، ويخشون أن يقال : إنهم مسلمون ، لأنهم يخشون أن يتهموا بالتعصب ، وهي خديعة من أخبث صور الخداع ، التي استخدمها أعداء الإسلام في المجتمعات الإسلامية .

    وقد بلغ الأمر بكثير من المسلمين أنهم صاروا يتهاونون بحقوق أنفسهم ، وحقوق إخوانهم ، الذين تجمعهم معهم الوحدة الإيمانية ،خشية أن يتهموا بالتعصب ، وبدأ أعداء الإسلام والمسلمين ينفذون من هذا الباب إلى نهب حقوق المسلمين المشروعة من أموال ووظائف ومراتب ومصالح اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية ، والمسلمون يخشون أن يؤيدوا حق إخوانهم في ذلك حذر أن يتهموا بالتعصب .

    وطارت بين المسلمين نظرية التسامح الإسلامي ، بزعم الدفاع عن الإسلام ، واستخدمت هذه النظرية في غير مجالها ، حتى صار تطبيق التسامح الإسلامي يعني تنازل المسلمين عن حقوقهم الشخصية ، وعن حقوق جماعة المسلمين ، وهي حقوق لا يجوز بحال من الأحوال التنازل عنها ، لأن المسلمين كلهم أو بعضهم لا يملكون مثل هذا الحق ، ما دام من شأنه أن يفضي إلى الإضرار بجوهر الإسلام ، وسياسته في الأرض ، ووحدة جماعته ، وسلطان شريعته .

    وزحف أعداء الإسلام وخصوهم هذه الخديعة الماكرة حتى وصلوا إلى معظم مراكز السلطة الفعالة في طائفة من بلاد المسلمين ، وأخذت قلتهم القليلة الكثرة الكاثرة من مراكز القوة والحكم والإدارة والمال ، ثم امتدت أيديهم إلى مقاتل المسلمين ، وأخذوا يقبضون عليها بشدة متصاعدة ، ويحتكرون بتعصب ذميم كل خير يجدونه ، ولا يسمحون لغير المنتسبين إلى جماعاتهم بأن يصل إلى أي مركز حقيقي له قوة فعالة في البلاد ، ومن عجيب المفارقات أنهم من أكثر الناس تعصباً للباطل الذي توارثوه عن آبائهم وأجدادهم وطوائفهم ، ولا يقبلون فيه أية مناقشة منطقية مهما كان شأنها ، وأنهم من أكثر الناس تعصباً أعمى للمنتسبين إلى أقوامهم أو طوائفهم ، في الوقت الذي يستخدمون فيه سلاح الاتهام بالتعصب ضد المسلمين ، الذين ليس عندهم من التعصب مثقال ذرة ، وإنما يوجب عليهم الإسلام أن يستمسكوا الحق ، وينصروا إخوانهم بالحق .

    ومما يؤسف له أن كثيراً من المسلمين في غفلة كثيرة عن هذه الخديعة ، التي يستخدمها أعداء الإسلام ضد المسلمين ، ليصرفوهم عن الاستمساك بالحق الذي أنزله الله ، وليحلوا بينهم وبين إخوانهم المؤمنين معاقد الترابط ، وليغشّوا على أبصارهم حتى لا يروا الجيوش الزاحفة على حقوقهم وخيراتهم ، السارقة لكل قوة لهم ، والعاملة على هدم دينهم وكيانهم بين أمم الأرض .

    (9)
    التلاعب بعبارات التقدمية والرجعية والتمدن والتخلف ونحوها



    وكذلك تلاعب أعداء الإسلام وأجراؤهم بعبارات التقدمية والرجعية ، والتمدن والتخلف ، والسبق الحضاري والبدائية ، والتطور الجمود ، ونحو ذلك من عبارات ، فيضعونها في غير مواضعها ، أخذوا يطلقون على كل فضيلة خلقية ، وكمال أدبي ، ومعاملة شريفة ، واستمساك بالدين وبالعادات الحسنة ، عبارات الرجعية والتخلف والبدائية والجمود ، لتنفير المسلمين منها ، وتضليلهم ، وصرفهم عن الحق الذي هم عليه . ويطلقون على الرذائل الخلقية والسلوكية ، وعلى التحلل من كل كمال أدبي ، وعادة حسنة ، وعمل ديني ، عبارات التقدمية ، والتمدن ، ومقتضيات الحضارة ، ومقتضيات التطور ، ونحو ذلك من عبارات ، لتبرير هذه القبائح ، والتشجيع عليها ، وتحبيب الأجيال الناشئة بها ، التي تستهويها مغربات التجديد ، وتستدرجها بوارق الطموح ، ويحلو لها أن تثبت شخصياتها بالتحرر من القيود ، وأن ترضي نفوسها بالانطلاق فيما تشتهي دون حدود .

    وبهذه الحيلة الخطيرة استطاع أعداء الإسلام والمسلمين ، أن يجندوا من أبناء المسلمين وبناتهم أجيالاً تقف في المقدمة من جيوش الغزاة الطامعين ، العاملين على هدم الإسلام ، وتفتيت وحدة المسلمين وتوهين قوتهم ، واستغلال طاقاتهم وخيراتهم ، والتسلط على بلادهم ، وما فيها من كنوز وثروات مادية ومعنوية .

    (10)
    حيلة التحسر على افتقار الأمة العربية إلى فلسفة ترفع من شأنها



    تصدَّر فريق من أبناء المسلمين الذين أثرت فيهم دسائس أعداء الإسلام ، مع فريق آخر من أعداء الإسلام المداهنين ، وانتحلوا لأنفسهم اسم الطليعة المثقفة ، وانطلقوا يطعنون أمجاد المسلمين وتاريخهم ، وكل مقدمات وجودهم في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم ، ويحسب الفريق من أبناء المسلمين أنهم يحسنون صنعاً ، ويجهلون أنهم يساقون بالخديعة كالقطعان البله إلى مذابح القرِمين إلى لحوم الأمة الإسلامية ، الباغين بها وبمبادئها وعقائدها وبلادها شراً مستطيراً .

    ولما شعر هؤلاء المتصدرون باسم الطليعة المثقفة بالفراغ الفكري والنفسي بعد أن ارتدوا عن الإسلام ، أخذوا يطلقون عبارات التحسر على الأمة العربية ، زاعمين أن العرب ليس لهم فلسفة ذاتية تحيي مشاعرهم القومية ، وتكون هي قوامهم الفكري الذي يصعد بهم إلى المجد بين الأمم ، لذلك فهم بحاجة إلى فيلسوف فذ يوجد لهم هذه الفلسفة القومية ، ويمثلون لذلك بمثل "فتخة" الفيلسوف الألماني الذي وضع للألمان فلسفتهم القومية .

    والهدف من هذا الكلام تحقيق غرضين :

    الغرض الأول : إيجاد القناعة عند الأجيال الحديثة بأن العرب ليس لهم فلسفة قومية ، تؤهلهم لمجد طارف ، وأن الإسلام لا يصلح لأن يكون فلسفة تقيم لهم كياناً ، وتعبد طريقهم إلى التقدم والمجد بين الأمم .

    الغرض الثاني : التمهيد لقبول الفلسفات الحديثة ، التي تضع للأمة العربية فلسفتها القومية ، والتبشير برجل ممتلئ بالحقد على الإسلام ، والضغينة للمسلمين يطلقون عليه اسم فيلسوف القومية العربية ، الذي يهيئونه لتحل أفكاره ودسائسه محل جميع العقائد والأخلاق والسلوك التي تدين بها الكثرة الكاثرة من الأمة العربية ، والتي كان بها عزهم التالد ، ومجدهم الخالد ، وليحل هذا الفيلسوف المنتظر محل رسول الإسلام محمد صلوات الله عليه ، وليحل أتباعه وجنوده محل أصحاب رسول الله ، في زعامة الأمة العربية الحديثة ، والانعطاف بها إلى مواقع الكفر ، ونشر الأفكار التي توضع في حجرات الدوائر الاستعمارية والتبشيرية العالمية ، الطامعة في بلاد المسلمين ، والعريقة في معاداتها للرسالة الإسلامية الخالدة .

    وقد استطاعوا أن يشحنوا عقول دفعات من الأجيال الناشئة بأفكارهم هذه ، وأن يستميلوا معظم عواطفهم إليها ، وذلك بترديدها عليهم في دور العلم ، على اختلاف مستوياتها ، وبعد أن احتلوا في هذه الدور مراكز تعليمية ذات أهمية في التربية والتوجيه عملوا على حجب طلابهم عن التزود من أي مصدر علمي آخر ، بمختلف الوسائل الما كرة الصارفة عن قيادات التوجيه الحق ، والصادة عن مبلغي الشريعة الربانية ، والثقافة الإسلامية ، تؤازرهم في ذلك جميع القوى المعادية للإسلام ، والغازية لبلاد المسلمين بشكل سافر أو مقنع .

    وهكذا تطوع هذا الفريق المرتد من أبناء المسلمين في جيش الغزاة ، الذين وضعوا خطتهم الحديثة لغزو المسلمين غزواً ماكراً ، لا يحملون فيه سلاحاً من حديد أو نار أو أية قوة مادية قاتلة ، وإنما يحملون فيه أسلحة أفعل وأدهى وأمر ، إنها أسلحة العلم ، والثقافة ، والفن ، والاقتصاد ، واللهو واللعب ، ومغريات التقدم المادي ، وملحقاتها .

    ومع الفراغ الفكري والنفسي من كل القيم الموروثة في طائفة من الأجيال الناشئة من أبناء المسلمين ، تعطشت عقولهم ونفوسهم إلى ملء الفراغ الذي أصابهم بالكيد الذي تعرضوا له .

    ومع ما غرس في عقولهم ونفوسهم من أن أمتهم ليس لها فلسفة قومية حتى يرجعوا إليها ، لا بد أن يتهالكوا على ما يصدره إليهم أعداء الإسلام ، من فلسفات فكرية ، ومبادئ ، وعقائد ، ونظم مضادة للإسلام ، هادمة لكل أسسه وعقائده ومبادئه ونظمه والأخلاق التي يدعو إليها ، وأحكام السلوك التي يأمر بها .

    واصطرعت الأخلاط الفاسدة من الواردات الحديثة في نفوسهم وأفكارهم ، فساروا في الدروب المتعارضة على غير هدى ، منطلقين بسرعات جنونية ، كثرت معها حوادث التصادم المريع ، التي تساقطت فيها طاقات كثيرة من طاقات الأمة ، وتناثرت أشلاءً هامدة تدب فيها عوامل الفساد ، ولا تجد من يواريها في الأرض .

    والسرعات المتعارضة مستمرة ، يقودها سكارى المذاهب الوافدة ، أما تصاعد نسبة التصادم فأمر مريع جداً ، والناس منه في حالة محزنة جداً ، لا ترى فيها إلا القلق والاضطراب والتخبط على غير هدى ، والضحايا المتناثرة أشلاءً أشلاءً .

    (11)
    حيلة التمجيد بعبقرية محمد لتفريغ دعوته من كونها رسالة ربانية



    من أساليب الخدع الكبرى التي خدع بها فريقٌ من أعداء الإسلام بعض أبناء المسلمين ، ما أخذوا يعلنونه ويرددونه في صفوف المسلمين بأقوالهم وكتاباتهم وخطاباتهم عن شخصية محمد صلوات الله عليه من تمجيد بعبقريته ، وثناء على حركته الإصلاحية الإنسانية ، وإطراء لأقواله ، وبعض مناهجه التي رفعت الأمة العربية من الحضيض الذي كانت فيه ، ودعت الشعوب الأخرى إلى الخير والصلاح وسلوك سبيل المجد ، وهم إذ يسوقون إليه عبارات التمجيد والمدح والثناء يعتمدون أن يبعدوا عنه كلّ وصف من أوصاف النبوة والرسالة الربانية ، إذ يثبتون له وصف العبقرية الإنسانية فقط .

    ثم أخذوا يكررون ذلك على أسماع الذين فتنوا بأقوالهم من أبناء المسلمين ، ويدسون فيه ما يوحي إليهم بأن احتمال العبقرية ليس وقفاً على محمد ، بل يمكن أن يأتي في كل عصر من بعده عبقري يستطيع أن يقود الناس إلى إصلاحٍ جديد ، يناسب متطلبات العصور المتطور ، أو أن تجتمع الأمة فتعادل قوة ذلك العبقرية ، وغرضهم من ذلك أن ينقضوا عقيدة المسلمين الراسخة بأن محمداً خاتم رسل الله وأنبيائه .

    ثم بعد هذا التمجيد الكبير لشخص محمد بوصفه بالعبقرية ، ينتقلون إلى صيغة جديدة يغلفونها بمكر شديد ، ويلبسونها أقنعة خادعة من العبارات التي تتصنع الفلسفة ، فينسفون بها من عقول الذين يلقون إليهم السمع عقيدتهم بالوحي ، وعقيدتهم بالمعجزات وعقيدتهم بأن القرآن كلام الله ، ويوحون إليهم بأن كل ذلك من صنع محمد ، وقد آزرته في ذلك طلائع الإصلاح العربية ، إلى آخر هذا التضليل الذي أخذوا يصوغون له العبارات المتنوعة ، المشحونة بالأكاذيب والافتراءات الخالية من أي مستندٍ عقلي أو واقعي .

    ولما انطلت حيلتهم هذه على ثُلَّة من أبناء المسلمين أدخلوا في روعهم أن رسالة الإسلام كانت ثورةً عربية على أوضاعٍ اجتماعية ، تزعمها عبقري مصلح منهم ، وأن رسالته ومبادئه كانت صالحة لشعوب تلك العصور ، وقد أصبحت اليوم بالية بدائية غير مناسبة لأن تكون أسساً للإصلاح في القرن العشرين ، من أجل ذلك يجب أن تقوم ثورات حديثة ، تحمل أسساً جديدة للإصلاح ، مناسبة لهذا القرن ، يتزعمها عبقري جديد ، يقوم في هذا العصر بمثل الدور الذي قام به محمد من قبل ، وأطلقوا بين أتباعهم المفتونين بهم من أبناء المسلمين العرب مقالة قائلهم المشهورة : "من الطبيعي أن يستطيع أي رجل مهما ضاقت قدرته أن يكون مصغراً ضئيلاً لمحمد ، ما دام ينتسب إلى الأمة التي حشدت كل قواها فأنجبت محمداً ، أو بالأحرى ما دام هذا الرجل فرداً من أفراد الأمة التي حشد محمد كل قواه فأنجبها في وقت مضى ، تلخصت في رجل واحد كل حياة أمته ، واليوم يجب أن يصبح كل حياة هذه الأمة في نهضتها الجديدة تفصيلاً لحياة رجلها العظيم ، كان محمد كل العرب ، فليكن كل العرب اليوم محمداً".

    وهكذا يصغ هذا الزيف في مثل هذا الكلام الذي يبتسم ظاهره ابتسامة عريضة ، ولكن وراء هذه الابتسامة نهم شديد لافتراش الإسلام والمسلمين , والإجهاز على كيان الأمة العربية ، وضمن هذا الأخذ والرد في حيل العبارة الكلامية الخادعة للمغفلين أو الجاهلين يبدو للبصير الحاذق مبلغ الكيد العظيم للرسالة الربانية ، التي لم يأت بها محمد صلوات الله عليه من تلقاء نفسه ، وإنما تلقاها من الوحي ، ولم تكن ثمرة عبقريته الخاصة ، وإنما كانت تنزيلاً من عند الله ، مع أنه صلوات الله عليه أوفر الناس عبقرية ، وأكثرهم كمالاً إنسانياً .

    ولكن هؤلاء المخربين يريدون أن يجعلوا محمداً نتاج الأمة العربية ، وأن يجعلوا دينه ثمرة عبقريته الفذة ، وأن يفتحوا الباب لعباقرة مُحدثين يأتون برسالة جديدة من عند أنفسهم ، تحتل مركز الرسالة الإسلامية الربانية .

    ولا تخفى على المتأمل نفثة الكيد والحقد التي تقذفها عبارة قائلهم : "كان محمد كل العرب فليكن كل العرب اليوم محمداً" . أي : فليصنع العرب اليوم رسالة جديدة تناسب العصر الحاضر غير رسالة الإسلام التي أنتجتها بحسب تضليلهم عبقرية محمد من قبل .

    ولو صح هذا الكلام بالنسبة إلى رسالة محمد لكان أكثر صحة لو قيل بالنسبة إلى الرسالات الربانية التي جاء بها عيسى وموسى من قبل ، ولا سيما معظم ما فيها محرف منتقد ، لكنهم لا يحملون هذا التضليل إلا في صفوف المسلمين فقط ، وبالنسبة إلى رسالة الإسلام فقط . فإذا أضفنا إلى هذا أن أصحاب هذه الدعوة صليبيون متعصبون سراً لصليبيتهم لم تخف علينا الدوافع التي تدفعهم إليها ، ولا عتب عليهم أن يمكروا بالإسلام وهم يعادونه ، إنما العتب كل العتب على أبناء المسلمين الذين تنطلي عليهم حيل الأعداء ، فيجندون أنفسهم في صفوفهم ، أو يضعون أنفسهم في الصفوف الأولى من صفوف الكتائب الموجهة لحرب الإسلام والمسلمين.

    * * *

  3. افتراضي




    الفصْل التاسِع
    الغزاة وأعمالهم في هدم وحدة المسلمين
    وتقليل أعدَادِهم


    1- مقدمة عامة .
    2- التجزئة باستغلال الخلافات السياسية .
    3- تفتيت وحدة المسلمين هدف مشترك لدى أجنحة المكر .
    4- دسائس وألاعيب استعمارية لتمزيق وحدة المسلمين .
    5- التقسيم الطبقي .
    6- هدم الخلافة الإسلامية .
    7- مكيدة تحديد النسل .







    (1)
    مقدمة عامة


    هال أعداء الإسلام ذلك التماسك الصلب والترابط المتين ما بين المسلمين , على اختلاف أعراقهم ولغاتهم وبلدانهم , وعرفوا أن تماسكهم وترابطهم قائمان على أساس العقيدة الواحدة , والأخوة الإيمانية , وتأملوا طويلاً في ذلك الطود البشري الراسخ المنيع , المتراص من اتحاد الشعوب الإسلامية , وانصهارها في بوتقة الإيمان بالعقيدة الإسلامية , والتآخي في الله , وعجزوا عن مقاومته خلال قرون , حتى أوحت لهم شياطينهم أن يعمدوا إلى تفتيته بوسائل التجزئة المختلفة , ضمن خطة مرسومة , وبدأوا يضربون في ذلك الطود الهائل أسافين الشقاق , ويسقونها جرثومة الفساد والضغينة والعصبية والخلافات المتنوعة , ويعطون للزمن فرصة تمكين الشقاق والخلاف وتعميقه , حتى يفعل تطاول العهد بهذه الأمة الإسلامية الواحدة من التمزيق والتشقيق والتفتيت ما لم تفعله الحروب المسلحة الكبرى .

    أما وسائل التجزئة فكثيرة ومختلفة : لقد عمدوا إلى التجزئة والتفتيت , بعناصر الاختلاف السياسي , ثم بعناصر الاختلاف الطائفي , وذلك بإلقاء جرثومة الخلاف في العقائد , ثم بعناصر الاختلاف المذهبي , وذلك بتشجيع التعصب المذهبي وبتغذيته ضد المذاهب المخالفة , وقد لعبت هذه العناصر دورها في جميع الشعوب الإسلامية على اختلاف قومياتهم .

    ثم عمدوا إلى التجزئة بعناصر الاختلاف العرقي والقومي واللغوي , مع تمكين التجزئة بعناصر الاختلاف الأخرى , حتى تصطرع فيما بينها عناصر الشقاق المختلفة , لتزيد منه وتمكن له .

    ثم أوغلوا في التجزئة بعناصر الاختلاف الإقليمي , بين أهل الأقاليم التي تجمعها عقيدة واحدة , وقومية واحدة , ولغة واحدة .

    ثم انتقلوا إلى التجزئة بعناصر الاختلاف القطري , والاختلاف بين بلد وبلدٍ داخل إقليم واحد أو قطر واحد .

    وهكذا تتسلسل هذه العناصر حتى تصل إلى عناصر الاختلاف الأسري , ثم إلى عناصر الاختلاف الشخصي داخل الأسرة الواحدة , كل ذلك بجرثومة الأنانية التي تتسع حيناً وتضيق حيناً آخر .

    وقد اتخذت كتائب الغزاة لهذا التفتيت وسائل عملية كثيرة جداً , وجندوا له طاقات ضخمة استخدموها في أعمال الإفساد , حتى تم لهم تمزيق وحدة الأمة الإسلامية من الناحية التطبيقية العامة , وإن كانت عواطف الوحدة بين الشعوب المسلمة , التي تغذيها العقيدة الإسلامية والتعاليم الربانية , ما يزال لها الأثر الكبير في نفوس أفراد هذه الشعوب , وإن كانت حبيسة في مواقع تجزئاتها , فهي لا تستطيع أن تعطي آثاراً عملية فعلية على الصعيد السياسي الرسمي , والتطبيق العام , وذلك بفعل ضواغط التجزئة الجاثمة على صدورهم , والتي عمل أعداء الإسلام على ترسيخها وإلقاء الأثقال عليها خلال قرون .

    وما تزال أعمال التجزئة ومخططاتها مستمرة على نطاق واسع , وقد يسير في تيارها كثيرون من أفراد الشعوب الذين يقاومون التجزئة بين المسلمين , ويدعون إلى جمع كلمتهم , وتوحيد صفهم , دون أن يعلموا أنهم في تيارها سائرون , وضمن مخططاتها يعملون , وذلك لأن الأعداء قد أحكموا خطة مكرهم إحكاماً ينطلي على كثير من أهل الوعي والبصر النافذ , فضلاً عن الأغبياء والمغفلين .

    وأول أبواب الحذر التي يجب أن يراقبها المسلمون هو الشك بكل فكرة يوحي بها أعداء الإسلام , أو يرتاحون لها , ولو أعجبت المسلمين في ظاهرها , ثم إذا رأوا بعد تأمل طويل أن من الخير العمل بها , فعليهم أن يخططوا بأنفسهم طريقة العمل وأسلوبه , ويحددوا بأنفسهم غايته , وينتقوا بإرادتهم الحرة عناصره , وأن يكونوا فوق كل ذلك على حذر من مزالق قد تفاجئهم على حين غرة , من جهة ربما كانوا قد غفلوا عنها , أو كانت محجوبة عنهم بأستار خادعة .

    وليست قضايا المسلمين بالقضايا السهلة , فأعداؤهم كثيرون , وقواهم كبيرة في الأرض , ولكنهم مع ذلك يستطيعون بإمكاناتهم الحالية , مع حكمة عالية , وإخلاص في العمل , ودأب لا ينقطع , وقيادة رشيدة , والتجاء إلى الله , واعتماد عليه أن يظفروا بإفساد كل مخططات أعدائهم , وبالانتصار على كل مكر يبيتونه لهم , وكل كيد يكيدونهم به , مهما تظاهرة دول الأرض ضدهم , لأن صدق التوكل على الله مع صدق الجهاد في سبيله , وبذل كل طاقة ممكنة مادية ومعنوية , لا بد أن يجازي الله عليه بتحقيق النصر , فقد وعد الله المؤمنين به , متى حقق المؤمنون شروطه في أنفسهم , بموجب قوله تعالى في سورة (الحج /22مصحف/103نزول) :
    {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَـاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ }

    فهذا وعد من الله , والله لا يخلف الميعاد , ولئن كان التفوق في القوة يعتمد على الوسائل المادية فإن تحقيق النصر لا يكون إلا من عند الله , ودليل ذلك في قول الله تعالى في سورة (آل عمران / 3 مصحف / 89 نزول) :

    {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}

    وفي قوله تعالى في سورة (الأنفال / 8 مصحف / 88 نزول) :

    {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

    وحوادث التاريخ تشهد بذلك , وحسبنا من الله شواهد وآيات , وحسبنا من مقاديره عبر وعظات , وانطلاقة التضامن الإسلامي على يد المغفور له الملك فيصل وبعض آثارها في العالم الإسلامي والعالم العربي _ ولا سيما في حرب رمضان 1393هـ _ قد أقضت مضاجع أعداء الإسلام , حتى رأوا أن يتخلصوا منه بأية وسيلة .


    (2)
    التجزئة باستغلال الخلافات السياسية


    وقد عرف أعداء الإسلام المقنَعون منذ العصور الإسلامية الأولى كيف يستفيدون من الخلافات السياسية بين المسلمين , وقد بدأ ذلك في عصر الخلفاء الراشدين , واتسعت دائرته فيما وراءه من العصور .

    وعرف أعداء الإسلام أيضاً كيف يصطنعون هذه الخلافات , ويثبتونها بين صفوف المسلمين .


    وقد كان من الممكن أن تنحصر الخلافات السياسية في حدود صغيرة لا تتعداها في الزمان أو المكان أو الأشخاص , ولكن أعداء الإسلام المقنعين نشطوا نشاطاً كبيراً في توسيع دائرة الخلافات السياسية , واتخذوا دائماً خطة الانقسام إلى فريقين أو أكثر , وانضمام كل فريق إلى جهة من جهات التنازع السياسي , وإمعانه في تمكين الخلاف , وتعميق جذور التنازع , وشحن أفئدة الجهة التي اندس فيها بالحقد والضغينة على الجهة أو الجهات الأخرى المخالفة , ومهما عمل العقلاء والمصلحون لتقريب وجهات النظر , ومعالجة الجرح السياسي ليندمل ويعفي الزمن أثره , فإن هؤلاء المقنعين من أعداء الإسلام لا يرضيهم ذلك , بل يسرعون في الخفاء إلى إثارة الغبار في الوجوه , لتنعدم الرؤية الصحيحة , ويفتعلون الأحداث الجديدة بالتحريض , أو يدعون وجودها بالكذب , أو يبعثون من قبلهم من يندس لافتعالها , ثم يعمدون إلى الجرح السياسي الذي كاد يندمل فينكأونه من جديد , ويسوقون إليه موجة جديدة من موجات الحقد والضغينة , ثم يتركون لهاتين الجرثومتين ما تثيرانه في النفوس من الرغبة بالانتقام , ومع الانتقام تزداد شقة الخلاف , وتتسع الهوة ما بين الفرقاء المتنازعين وما بين أنصار كل منهم , وتمتد في الزمان والمكان والأشخاص .

    ولم يقتصر أعداء الإسلام على أن يبقى الخلاف السياسي مهما اتسع ضمن حدوده السياسية , بل عملوا على أن ينقلوه من دائرة خلاف سياسي يطويه الزمن , إلى خلاف اعتقادي وديني تتوارثه الأجيال , ويأخذ مع الزمن صبغة خلاف طائفي يستعصي دفعه , ويتعذر رفعه , وذلك إمعاناً منهم في متابعة مكرهم بالإسلام والمسلمين .

    ومن آثار هذه الخطة الماكرة بدأ الخلاف بين مستحقي الخلافة من آل البيت , وبين الظافرين بالحكم من الأمويين , ولقد كان من الممكن أن تضيق دائرة هذا الخلاف , ويتجه المسلمون كلهم إلى واجبات نشر الإسلام في الأرض , ولكن أصابع الفتنة المندسة لم تدع الجرح السياسي يلتئم , وإنما عملت على أن تغذيه باستمرار بجراثيم الإفساد ، وتحشد مندسيها في كل من أنصار الفريقين المتنازعين , كي يعمل هؤلاء المندسون على إغراء الجهة التي يظهرون الولاء لها بالإفراط في عداوة الجهة الأخرى , وقتالها والانتقام منها , وما زالوا يعمقون هذا الخلاف السياسي حتى جعلوه خلافاً في أصل العقيدة الدينية , الأمر الذي تولد عنه خلاف آخر في المذاهب الفقهية , ومع رغبتهم الشديدة بتعميق الخلاف , وتوسيع الشقة , عملوا على تغيير ما استطاعوا تغييره من أسس ليس من شأنها أن يكون فيها تنازع أو خلاف مطلقاً , ولكن المكيدة المبيتة كانت ترمي إلى تمزيق وحدة المسلمين , وطعن الإسلام في الصميم , لذلك كان جنودها يعملون في الخفاء عملاً دائباً لتحقيق هذه الغاية .

    ولما استطاعوا أن يصلوا إلى التلاعب بالأسس نشط زبانيتهم في استحداث الفرق الكثيرة , ضمن الجهة التي ظفروا بأن تكون واثقة بهم , وأخذوا يشققونها , ومع كل تشقيق جديد توغل في الانحراف عن العقيدة الإسلامية , حتى استطاعوا أن يصلوا في بعض أطراف التشقيق إلى مرتدين عن كل العقيدة الإسلامية , كافرين بكل ما جاء فيها , أكثر ولاء لغير المسلمين منهم للمسلمين الذين يزعمون أنهم فرقة منهم .

    ولو عرفت هذه الفرق المنشقة أنها وقعت في فخ أعداء الإسلام من حيث لا تشعر , وانحرفت بتأثير ألاعيبهم الماكرة المقنعة , لاهتدى كثيرون منها إلى الحق , ولعادوا إلى سبيل الرشاد , ولعلموا أن مفترق الطريق الذي بدأ عنده الانشقاق قد كان خلافاً سياسياً على تولي الحكم , يحدث نظيره في كل عصر , وفي كل أمة , ويجب أن يطويه الزمن مع ما يطوي من أحداث جسام , ويجب أن لا تخلفه أحقاد متوارثة , مهما كانت صورة الخلاف تحمل استحقاق جهة ما من جهات النزاع بالسلطان , وعدوان الجهة الأخرى لتستأثر به , وذلك لأن قضية الخلاف السياسي في الأمة الواحدة قضية شخصية زمنية , ولا يجوز بحال من الأحوال أن تكون قضية دينية اعتقادية , أو قضية إنسانية يتوارثها جيل لاحق عن جيل سابق .

    إلا أن أعداء مندسين مقنعين قد أرادوا أن يتلاعبوا فيها فيجعلوها قضية دينية متوارثة , وقد وقع تحت تأثيرهم كثيرون من ذوي النيات السيئة , ثم تحولت مع الزمن فدخل فيها عنصر التعصب الطائفي لما كان عليه الآباء والأجداد .

    ومهمة الإصلاح اليوم يتحملها القادة المصلحون الصادقون في جميع الفرق , فيجب عليهم أن يبصروا أتباعهم بالحقيقة , لينقذوا أنفسهم من الكيد المدبر لهم ولغيرهم على السواء , وإنها لمسؤولية كبيرة ملقاة عليهم , سيُسألون عنها بين يدي الله يوم القيامة , وسيحاسبون على تقصيرهم فيما يجب عليهم تجاه ربهم , وتجاه دينهم , وتجاه الأمة الإسلامية التي مزقتها دسائس الأعداء .


    (3)
    تفتيت وحدة المسلمين هدف مشترك لدى أجنحة المكر


    إن هدف تفتيت وحدة المسلمين , وتفريق كلمتهم , وتسليط طاقاتهم المختلفة بعضها على بعض , لإضعاف القوة الجماعية التي يتمتعون بها , وتوهين قواهم الأخرى المادية والمعنوية , وتبديدها في الفتن الداخلية , وفي أشكال الصراع التي تثار فيما بينهم , هدف تلتقي عليه الأجنحة الثلاثة لجيش الغزو , ومعها سائر أعداء الإسلام .

    والدليل على اشتراكهم في هذا الهدف ظاهر من تاريخ المستعمرين , ودسائس المستشرقين وأقوال المبشرين وأعمالهم .

    لقد دخل المستعمرون معظم البلاد العربية الإسلامية , فكان أول عمل باشروه تجزئة الأمة العربية ذات الأكثرية الإسلامية , إلى دويلات صغيرة , وأقاموا بينها الحدود والحواجز المصطنعة , وحاولوا أن يغرسوا بينها تبايناً في المصالح الاقتصادية والسياسية والثقافية , ثم تبايناً آخر في القوميات والعصبيات الإقليمية , مضافاً إلى ذلك إيجاد التنافر بين الكتل الطائفية , وأمعنوا في ذلك إمعاناً بالغاً , إذ كانوا يأتون إلى الكتل الطائفية القليلة العدد , التي بدأت تنسى عزلتها الطائفية , وتنصهر في الجماعة الواحدة الكبرى , فيشجعونها على أن تعود إلى أصولها , وتوجد لنفسها تكتلاً مضاداً حاقداً على الأكثرية المنتشرة في البلاد , وذلك في ظل التسامح العام الذي تشعر به الأكثرية المسلمة , على أسس وطنية بحتة أخذت تنادي بها هيئاتها السياسية وغيرها , وهي غافلة عن المكيدة المدبرة .

    وإمعاناً في التجزئة على أساس التفرقة الطائفية نشط المستعمرون في مد عناصر الطوائف القليلة بالمساعدات المختلفة , والتسهيلات الاقتصادية , والإغضاء عن الجرائم والمخالفات , ونفخ روح العزلة والحقد والكراهية في نفوس أفرادها وقادتها , ضد الأكثرية , وضد الطوائف الأخرى , وإشعارها بضرورة انفصالها بحكم ذاتي خاص بطوائفها .

    وأقاموا بينهم وبين هذه الطوائف علاقات تتسم بطابع الصداقة والمودة التي تستتبع تبادل زيارات عائلية , وجلسات فكاهة وسمر وأكل وشرب , ورحلات متنوعة , وهكذا إلى آخر ما يدخل في هذا الجدول الاجتماعي , وعقدوا معهم صلات مناظرة للصلات التي عقدوها مع مجموعة من كبار الأسر السياسية والاقتصادية المنتمية إلى الطائفة التي تشكل في البلاد الأكثرية العددية , ولكن دسائسهم في كل زمرة منها تختلف عن دسائسهم في الأخرى . وذلك ليتم لهم بناء الجدار الغليظ بينهما , وليوسعوا الهوة الفاصلة بين الطوائف , ويزرعوها بالألغام الكثيرة , من الكراهية , وتباين المصالح , والأحقاد التاريخية الموروثة , والعصبيات المختلفة ذات الدوائر الضيقة .

    ومن أمثلة ذلك الفتن الطائفية التي أشعلوا نيرانها في النصف الثاني من القرن العشرين في لبنان , والفتن التي يوقدون نيرانها في الهند .

    وإلى جانب هذه الأعمال التي سجلها التاريخ على المستعمرين , تقدم لنا السجلات حشداً كبيراً من أقوال المبشرين والمستشرقين , الدالة على اهتمام الأجنحة الثلاثة بالتسديد على هذا الهدف الخطير , فمن أقوالهم الكثيرة ما يلي :

    1_ يقول "لورانس براون" وهو أحد زعماء المبشرين , في كتابه "الإسلام والإرساليات" : "إذ اتحد المسلمون في امبراطورية عربية أمكن أن يصبحوا لعنة على العالم وخطراً , وأمكن أن يصبحوا نعمة له أيضاً , أما إذا بقوا متفرقين فإنهم يظلون حينئذ بلا قوة ولا تأثير" .

    2_ ويقول القسيس "كالهون سيمون" وهو أحد زعماء المبشرين : "إن الوحدة الإسلامية تجمع آمال الشعوب السود , وتساعدهم على التملص من السيطرة الأوربية , ولذلك كان التبشير عاملاً مهماً في كسر شوكة هذه الحركات , ذلك لأن التبشير يعمل على إظهار الأوربيين في نور جديد جذاب , وعلى سلب الحركة الإسلامية من عنصر القوة والتمركز فيها" .

    وعلى هذا النسق تسير أقوالهم التعليمية , ونصائحهم , وتوجيهاتهم , وتوصياتهم , لعناصر العمل في مؤسساتهم وجمعياتهم , وللقوى العسكرية والسياسية الاستعمارية , وذلك لتلتقي الأجنحة المختلفة المهمات على هدف تفتيت وحدة المسلمين , وتجزئة دولهم إلى دويلات صغيرة لا حول لها ولا طول , مع تمكين الخلاف والفرقة بينها , وإثارة النعرات القومية والإقليمية والطائفية والمذهبية , وشحنها بالمقدار المدمر من الحقد والكراهية والبغضاء , ومدها بمختلف عناصر الخلاف وتباين المصالح .

    (4)
    دسائس وألاعيب استعمارية لتمزيق وحدة المسلمين


    جاء في كتاب (الحياة السرية للورنس العرب) ما يلي :
    "ذكر الكولونيل لورنس في تقريره الذي رفعه إلى المخابرات البريطانية في كانون الثاني (1916م) بأن أهدافنا الرئيسية تفتيت الوحدة الإسلامية , بدحر الإمبراطورية العثمانية وتدميرها , وإذا عرفنا كيف نعامل العرب فسيبقون في دوّامة الفوضى السياسية , داخل دويلات صغيرة حاقدة متنافرة غير قابلة للتماسك" . هامش

    وقد سلك المستعمرون شتى الوسائل الماكرة للتفريق بين المسلمين وبث عوامل التجزئة .

    فكان من صور هذه الوسائل التي مهروا اصطناعها في بلاد المسلمين , أنهم إذا أرادوا تنفيذ أمرٍ يثير النقمة الشديدة في بعض البلاد الإسلامية التي استعمروها أمروا بعض موظفيهم من بلد آخر واقع تحت سلطانهم , أن يباشروا تنفيذ هذا الأمر المثير للنقمة , فيذهب هؤلاء الموظفون وهم يجهلون سياسة المكر التي يدبرها المستعمرن , فيقومون بتنفيذ ما أمروا به , وحينما تشتد النقمة وتبلغ غايتها , تتدخل السلطات الاستعمارية , فتعرب عن سخطها واستنكارها لما حصل من بعض موظفيها , وتحمل موظفيها الذين أرسلتهم هي مسؤولية إساءة التصرف , وتتبرّأ من الأمر , كما وصف الله الشيطان بقوله في سورة (الحشر / 59 مصحف / 101 نزول) :
    { {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} .

    وتنطلي الخديعة على الجماهير التي ليس لها بصر بألاعيب السياسة فتشحن قلوبها بالضغينة على هؤلاء الموظفين , ومع تكرار مثل هذه الحوادث تنصب النقمة على جميع سكان البلد الذي ينسب إليه هؤلاء الموظفون , ومع الزمن يتولد بين رعايا البلدين حقد موروث , أو شقاق مستحكم , يجني المستعمرون منه ثمرة الاستقرار والسيادة على الأجزاء المتفرقة , التي قذفوا بينها عوامل العداء والشقاق .

    ومن أمثلة ذلك ما كان يفعله الاستعمار الإنكليزي , إذ يأمر بعض موظفي الشرطة أو الجيش من المصريين بتنفيذ أمر على بعض السودانيين , وهذا الأمر يثير النقمة , كأمر مصادرة , أو تحصيل ضريبة , أو قبض على ذي وجاهة دينية أو اجتماعية أو سياسية , يقلق راحة السلطات المستعمرة , بنضاله ضد أعمالهم المسيئة لأهل البلاد , وتشدد هذه السلطات المستعمرة أوامرها الموجهة لهؤلاء الموظفين بأن يستعملوا كل ما في أيديهم من قوة وحزم وخشونة , ويدعون النقمة تربو حتى تبلغ أشدها , وحينما يلاحظون بوادر انفجار النقمة , يرسلون إلى الناقمين من يقنعهم برفع الشكوى إلى صاحب السلطة العليا الإنكليزي , وذلك لينظر في أمرهم , ويدفع عنهم عنت موظفي الشرطة أو الجيش , وحينما يرفعون إليه شكواهم مما حصل , ويشدد تعنيفه لموظفي الشرطة أو الجيش المصريين , وهم الذين باشروا الأمر المثير للنقمة , ليوهموهم أن هذا التصرف تصرف مصري لا تصرف استعماري , وبذلك يلقون في قلوب السودانيين جرثومة الكراهية الشديدة التي تباعد الشقة بين المسلمين.

    ويفعل المستعمرون مثل ذلك بين سكان مدينة وسكان مدينة أخرى داخل قطر واحد , وبين سكان المدن وسكان الريف , كأن يسلطوا الموظفين الدمشقيين على سكان مدينة حلب , والعكس , والموظفين البغداديين على سكان الموصل , والعكس , والموظفين القاهريين على سكان الاسكندرية , وكذلك العكس , والموظفين من سكان المدن على سكان القرى وسكان البادية , وكذلك العكس.

    وهكذا بين كل بلد وبلد , وبين كل مدينة وقرية , وبين كل حي وحي آخر ضمن البلد الواحد , وكذلك يفعلون بين المنتسبين إلى قوميات مختلفة , مع اشتراكهم في وحدة دينية , تفريقاً بين المسلمين , فيسلطون الشراكس أو الأتراك أو الأكراد على العرب , ويسلطون العرب على الشراكس أو الأتراك أو الأكراد كي يملأوا قلوب كل قوم منهم بالحقد والضغينة على المنتسبين إلى القوميات الأخرى , إذ يوهمونهم أن الأذى الذي أصابهم لم يكن من أوامر المستعمرين المشددة , وإنما كان من دوافع خاصة لدى القوم الذين يباشرون التنفيذ.

    ويفعل المستعمرون مثل ذلك بين المنتسبين إلى الفرق والطوائف والمذاهب الإسلامية , فيمعنون في التفرقة مثلاً بين سني وشيعي من المسلمين , وبين كل طائفة وأخرى , وكل أتباع مذهب وأتباع مذهب آخر , وهكذا إلى غير حد من وسائل التجزئة , التي مهروا في اصطناعها مهارة بلغت الغاية من المكر والدهاء , والكيد للإسلام والمسلمين .

    فهل يتيقظ المسلمون فينفوا عنهم عوامل التفرقة , ويجتثوا ما زرعه أعداؤهم فيهم ؟

    (5)
    التقسيم الطبقي


    ومن التجزئة التي تعمل لها جيوش الغزاة لهدم وحدة المسلمين , ما يدسونه في صفوفهم من بواعث فوارق طبقية مختلفة , من شأنها أن تجزئ الأمة إلى وحدات وفرق وطبقات تتصارع فيما بينها , فتبدد بأيديها طاقاتها التي كان من الممكن أن تتجمع وتتوحد , وتكون قوة ذات شأن في الأرض , تعيد إلى المسلمين مكانهم الطبيعي القيادي بين الأمم.

    فمن الغزاة من يحمل بين صفوف المسلمين شعار وحدة الطبقة العاملة , ومنهم من يهمس بين صفوفهم بوحدة الطبقة المستغلة , وكلا الاتجاهين يهدفان إلى غاية واحدة , هي هدم البنيان الواحد الذي يمسك بعضه بعضاً , ويكوِّن الأمة الإسلامية الواحدة , وهدم هذا البنيان المعقود عقداً محكماً قد يكون بنزع القفل الصلب الذي يمسكه , كما لو نزع قفل البرج العظيم انهارت جوانبه , وتناثرت أحجاره , وتهاوى يحطم بعضه بعضاً , بعد أن كان يشد بعضه بعضاً . وقد لا يكون الفرق بين موجبات الاستمرار ومسببات الانهيار كبيراً , إذ يكفي إيجاد خلل يسير لهدم صرح شامخ.

    وكثيراً ما يستغفل أعداء الإسلام بعض المسلمين لتبني أمر يؤدي في النتيجة إلى هدم بناء الأمة الإسلامية , ثم يسخرونهم عمالاً يحملون عنهم معاول الهدم , فيهدمون بنيان أمتهم لصالح أعدائهم , وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

    إن المجتمع الإسلامي المتقيد بتعاليم الإسلام مجتمع متماسك البنيان , قوي الأركان , متسامي الذروات , تبدو المجتمعات الأخرى أمامه كركامٍ من الصخر , أو كثيب من الرمل المتناثر , أو أقزامٍ من الأبنية المخلخلة التي تتلاعب بها الرياح , ومهما ارتقت فإنها لا تدانيه قوة وتماسكاً وسمواً , وذلك لأن كل عضو من أعضاء المجتمع الإسلامي العام المتقيد بتعاليم الإسلام يعمل في مكانه وموقعه من الجماعة بما يجب عليه تجاهها , ويؤدي واجب الطاعة لأولي الأمر من المسلمين , وتصل إليه حقوقه موفورة , ويبتغي بكل أمر من أموره مرضاة الله تعالى وثوابه , وتربطه بالمجتمع وبكل فرد من أفراده مجموعة من الأربطة المتينة , منها الأربطة التالية : الأخوة الإيمانية , والمودة المتبادلة , والحب في الله , والعدل , والإيثار , والتضحية , وتأدية الواجب , والمصاحبة والمعاشرة بالمعروف , والصدق , والأمانة , والوفاء بالعهد , والصدق في الوعد , وإفشاء السلام , واحترام الأخ المسلم وتكريمه , والصدق في الوعد , وإفشاء السلام , واحترام الأخ المسلم وتكريمه , والصدقة , والهبة والهدية , وإكرام الضيف , والتزاور في الله , وعيادة المريض , والإصلاح بين المتخاصمين , والتسامح , والعفو , وإبراء الذمة ؛ ورحمة الكبير للصغير , وتوقير الصغير للكبير , إلى غير ذلك من أربطة اجتماعية.

    ومعظم هذه الأربطة تنقطع بفصل المجتمع إلى طبقتين أو طبقات متنازعة على مصالح مادية , تدخل فيها عناصر الأنانية , والاستئثار , والطمع , وتفضيل الفرد نفسه بغير حق , والحقد , والحسد , والبغضاء.

    إن التقسيم الطبقي من أخطر المسببات التي تأتي إلى القوة الحقيقية الكامنة , في مجتمع من المجتمعات فتبددها , وتجعلها كالهباء المنثور.

    وكلا طرفي منحدر اليمين ومنحدر اليسار في العالم يحملان دسائس هذا التقسيم الطبقي , على أسس مادية بحتة اقتصادية وسياسية , وكلاهما يدركان خطورة تماسك المجتمعات الإسلامية على أسس روابطها المتينة الدينية والمادية والأدبية والوجدانية والعقلية , لذلك فهما يحاولان دائماً تقسيم هذه الوحدة , وتجزئتها بأي ثمن , وتلتقي قوتاهما _ على اختلافهما وتنازعهما _ عند خط تجزئة المجتمع الإسلامي , تجزئة تهدم عوالم قوته وتماسكه.

    (6)
    هدم الخلافة الإسلامية


    وفي خطة تحطيم وحدة المسلمين , وتجزئتهم إلى أجزاء متفرقة كثيرة , عملت جيوش الغزاة بكل ما لديها من وسائل معنوية ومادية , لهدم الخلافة الإسلامية , لأن هذه الخلافة _ مهما كان شأنها _ تمثل الحزام الذي يجمع المسلمين في شتى أقطار الأرض , أو الرمز السياسي الذي يجعلهم يلتقون التقاء ما تحت راية سياسية واحدة , وهذا الأمر يقض مضاجع الأعداء , وإن وصل به الضعف إلى أن غدا رمزاً ليس له أي سلطان فعلي.

    وذلك لأن بقاء أمر الخلافة مقروناً بالدوافع والمحرضات الدينية التي قد تحيي ما مات منه , وقد تعيده إلى بعض مراكز قوته الأصلية , مما تخشاه جيوش الغزاة خشية كبيرة , نظراً إلى ما للشعوب المسلمة من وزن عظيم في العالم , تمثله أعدادهم البشرية , ورقعة الأرض التي يملكونها وما فيها من خيرات وكنوز كثيرة , وما لهم من تاريخ حضاري غابر , قد يحرك فيهم بواعث نهضة حضارية جديدة , تستطيع أن تنافس وتسابق الحضارة الغربية المادية الحديثة , فيما لو أطلقت أيديها المغلولة , مضافاً إليها سبقهم الحضاري العظيم في عقائدهم , وفي مفاهيمهم الأخلاقية , وفي أسس بناء أمتهم بناء متماسكاً متيناً , على أصول الحق والعدل والخير ونشدان الكمال , والبعد عن الباطل والظلم والشرب والرضى بالدنايا.

    وظلت الخلافة الإسلامية رمزاً لوحدة المسلمين في أقطار الأرض , حتى عام (1924م) وفي أوائل شهر آذار (مارس) ألغى "كمال أتاتورك" الخلافة الإسلامية العثمانية من تركيا , وكان ذلك في ظروف سياسية هيأت له الذرائع للقيام بهذا العمل الخطير.

    ومن المعلوم أن الخلافة قد تم هدم مضمونها قبل ذلك , منذ نجحت الثورة التي دبرت ضد السلطان عبد الحميد في عام (1908م) والتي قادها العسكريون من أعضاء "جمعية الاتحاد والترقي" الموجهون من قبل المحافل الماسونية , التي كانت تعمل بوحي من الدسائس الاستعمارية من جهة , والدسائس اليهودية من جهة أخرى أشد من الأولى مكراً , وأكثر عمقاً , وأصبح هؤلاء العسكريون هم حكام البلاد في الحقيقة , وعلى أيديهم تمت هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى , وأمست الخلافة بعد السلطان عبد الحميد رمزاً لا مضمون له , إذ تولاها بعده السلطان "محمد رشاد" الذي لقب بالسلطان "محمد الخامس" ثم تلاه السلطان "محمد السادس" ثم تلاه السلطان "عبد المجيد" وكان هذا آخر الخلفاء الرمزيين , حين أعلن "كمال أتاتورك" إلغاء الخلافة.

    وكان ما جرى تنفيذاً دقيقاً لما رسمته جيوش الغزاة من خطط لهدم الخلافة الإسلامية , إذ كانت هذه الخلافة على ما وصلت إليه من ضعف بمثابة سور عظيم , متعب لجيوش الغزاة الطامعين , يلم الشعوب الإسلامية على اختلاف لغاتها , وألوانها وأعراقها , وعلى تباعد مواطنها , في إطار سياسي واحد , مهما كان مبلغه من الضعف والرمزية.

    واستقبل العالم الإسلامي نبأ إلغاء الخلافة بحزن شديد وألم ممض , فقد كانت لهم التاج العظيم الذي توارثوه أكثر من ألف سنة , وكان وجود الخلافة في المسلمين يتضمن لديهم المعاني التالية :

    الأول : أن بقاء الخلافة يعني وجود نظام سياسي يجمع شمل المسلمين , مهما بلغ واقع حال هذا النظام إلى مستوى محزن من الضعف والرمزية , بفعل الدسائس الاستعمارية.

    الثاني : أن بقاء الخلافة دليل على استمرار تاريخ المسلمين , في ظل شعار سياسي واحد.
    الثالث : أن بقاء الخلافة يعني بقاء الرباط الذي يبرر للمسلمين الاشتراك والمساهمة في الدفاع الدولي عن بلاد المسلمين وحقوقهم , وإقامة ألوان التعاون فيما بينهم.

    الرابع : أن بقاء الخلافة يقضي في أدنى الحدود الرمزية بأن لا تقوم بين بلادهم حواجز مصطنعة , وهذا يعني اشتراك الشعوب الإسلامية في ديارهم , وتمتعهم بحريات تنقلهم وتملكهم وتجاراتهم وسائر مصالحهم الاقتصادية والاجتماعية فيها.

    ومع الحزن الشديد الذي تلقت به الشعوب الإسلامية نبأ إلغاء الخلافة قام فريق من أصدقاء المستعمرين , والموالين لهم في البلاد الإسلامية , يبردون حرارة الألم , ويبررون ما وقع , ويزعمون مزاعم كاذبة على المفاهيم الإسلامية , ويضعون مفاهيم مبتدعة غريبة , يفصلون بها بين الدين والحكم , وينسفون بها الأسس النظرية التي تقوم عليها الخلافة الإسلامية , ويضعون بدلها أسساً أخرى من عند أنفسهم ينسبونها إلى الإسلام زوراً وبهتاناً , وكان من هؤلاء في مصر "الشيخ علي عبد الرزاق" فقد كتب كتاباً جعل عنوانه "الإسلام وأصول الحكم" احتوى على آراء تخالف ما أجمع عليه المسلمون , وتهدم أسساً ضخمة من أسس بناء الأمة الإسلامية , وتطعن في التاريخ الإسلامي , وتنكر علاقة الخلافة في جميع عصورها بالإسلام.

    وتصدى للرد عليه كثيرون , منهم الشيخ "محمد شاكر" من كبار العلماء , وكان وكيلاً سابقاً للأزهر , ومنهم الشيخ السيد "محمد رشيد رضا" صاحب تفسير المنار , وصاحب مجلة المنار , فقد كتب هذا مقالاً بعنوان : (الإسلام وأصول الحكم _ بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام _ بل دعوة جديدة إلى نسف بنائها وتضليل أبنائها) . وقد جاء في هذا المقال ما يلي :

    "ما زال أعداء الإسلام يجاهدون بالسيف والنار , وبالكيد والدهاء والأفكار , وبإفساد العقائد والأخلاق , وبالطعن في جميع مقومات هذه الأمة , وتقطيع جميع الروابط التي ترتبط بها شعوبها وأفرادها , ليسهل جعلها طعمة للطامعين , وفريسة لوحوش المستعمرين.

    وهذه الحرب السياسية العلمية للإسلام أضر وأنكى من الحروب الصليبية باسم الدين .. وقد كان آخر فوز لهذه الحرب على المسلمين إلغاء الترك لمنصب الخلافة من دولتهم , وتأليفهم حكومة جمهورية غير مقيدة بالشرع الإسلامي , فذعر لهذا العالم الإسلامي , وطرب له الإفرنج ومروجو سياستهم ورفع هؤلاء عقائرهم في مصر هاتفين لعمل الترك , ونشطوا لجعل الحكومة المصرية حكومة لا دينية مثل حكومة "أنقرة".

    وبينا نحن كذلك إذا نحن ببدعة حديثة لم يقل بمثلها أحد انتمى إلى الإسلام _ صادقاً ولا كاذباً _ بدعة شيطانية لم تخطر في بال سني ولا شيعي ولا خارجي , بل لم تخطر على بال بعض الزنادقة.

    والناعق بهذه البدعة من العلماء المتخرجين من الأزهر من قضاة المحاكم الشرعية (إن هذا لشيء عجاب)".

    ثم ختم الشيخ رشيد رضا مقاله بقوله : "أول ما يقال في وصف هذا الكتاب أنه هدم لحكم الإسلام وشرعه من أساسه , وتفريق لجماعته , وإباحة مطلقة لعصيان الله ورسوله في جميع الأحكام الشرعية الدنيوية , وتجهيل للمسلمين كافة من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين".

    وانهالت الردود الكثيرة على كتاب "علي عبد الرزاق" وتسفيه ما جاء فيه , وبيان مخالفته للإسلام , ولما أجمع عليه المسلمون , وبيان ارتباط كاتبه بخدمة أغراض الدوائر الاستعمارية.

    ثم عملت السلطات الاستعمارية بعد ذلك على تعميق المفاهيم المعارضة للخلافة الإسلامية , وتثبيت واقع التجزئة , وإقامة أنواع من الحكم المنفصل عن تطبيق الشريعة الإسلامية ؛ وإيجاد مبادئ أخرى تقوم عليها مفاهيم الحكم في الشعوب المسلمة , وانهارت بذلك الأمة الإسلامية , وفقد المسلمون ما كان لهم من هيبة في نفوس أعدائهم , الطامعين بهم وبخيراتهم وبلادهم.

    (7)
    مكيدة تحديد النسل


    وفي محاولة ماكرة لإيقاف نشاط تكاثر المسلمين عن طريق التناسل , أطلق دهاة الغزاة بين المسلمين نظريات اقتصادية تتعلق بنسبة تزايد الموارد الغذائية ومقارنتها بنسبة التكاثر العددي للبشر , وتفيد هذه النظريات أن المجموعة الإنسانية لا بد أن تتعرض إلى مجاعة واسعة النطاق , ما لم تلجأ إلى وضع برنامج تحدد فيه أنسالها , حتى يتناسب تزايد الموارد الغذائية مع تكاثر الأعداد البشرية.

    وابتكروا لذلك عقاقير منع الحمل المؤقت والدائم , وسهلوا العمليات الجراحية للتعقيم , ونشروها نشراً كبيراً.

    وتحاول هذه النظريات الاقتصادية المقرونة بفروض التكاثر العددي للبشر أن تقنعنا بضرورة الأخذ بفكرة تحديد النسل , في الوقت الذي يسعى فيه اليهود أصحاب النظرية بكل جهدهم لزيادة أنسالهم في إسرائيل , ويشجعون رجالهم ونساءهم على الإنجاب بمختلف الحوافز . كما يسعى البابوات لزيادة أنسال النصارى في البلاد الإسلامية , لتزيد أعدادهم على أعداد المسلمين.

    وقد حرم البابا "شنودة" على شعب الكنيسة في مصر استعمال حبوب منع الحمل.

    وتدفع أجهزة الدوائر المعادية للمسلمين عملاءها لنشر هذه الفكرة بينهم , أو تشجيعهم على الأخذ بها , في خطة بالغة الكيد.

    في حين نجد بعض الدول المعادية التي تريد أن يحدد المسلمون أنسالهم , تلجأ إلى تشجيع الاستزادة من النسل بين شعوبها , ليكثروا ضمن نظام سلسلة هندسية , وليوقف المسلمون تكاثرهم ضمن نظام سلسلة عددية , ولا يخفى ما في هذا من كيد ظاهر للأمة الإسلامية.

    ونحن المسلمين لا نرى الأخذ بفكرة تحديد النسل على المستوى العام , مهما كانت المبررات لذلك من وجهة نظر المادية الاقتصادية , وذلك لعدة أسباب :

    أسباب عدم أخذنا بفكرة تحديد النسل


    السبب الأول : أن الأخذ بهذه الفكرة يضر بمصلحة الطاقة البشرية التي نملكها , ويجب أن نملكها بتكاثر مستمر , في مقابل الأعداد البشرية التي تقذف بها الأمم الأخرى , وإن الحد من تكاثر الطاقة البشرية بالسلالات الإسلامية , ليؤثر على كيان حجم المسلمين في العالم بالنسبة إلى غيرهم من الأمم.

    السبب الثاني : أن رقعة الأرض التي يملكها المسلمون في العالم , وما فيها من خيرات دفينة وطاقات غذائية قابلة للتفجير والاستثمار . تنادي بحاجتها إلى فيض من الطاقات البشرية , لاستثمارها , ولحمايتها , والانتفاع بخيراتها , وإلا كانت مطمع الطامعين الكثيرين من الأمم والشعوب التي تتكاثر بنسب رهيبة.

    والواجب المنوط بإرادة المسلمين في العالم الإسلامي , والمنوط بطاقاتهم الإنتاجية , هو النهوض بوثبة إنتاجية اقتصادية تشمل مرافق حاجات الإنسان إلى الغذاء والكساء , والمسكن والدواء , والأدوات والإناء , وإعداد المستطاع من القوة.

    والواجب في هذه الوثبة يتطلب تعاون المسلمين في مختلف ديارهم وأقطارهم على الإنتاج والاستثمار , فأرضهم مليئة بالخيرات , مشحونة بمختلف الطاقات , تنادي : أيها المسلمون , اعملوا واستثمروني , أعطكم خيراً كثيراً , وأفيض عليكم فيضاً كبيراً , ولن أشح عليكم ما عملتم في استثماري , واستنتاج خيراتي , فإذا فعلتم ذلك كنت لكم سكناً وجنات , وحصناً ومنبع خيرات.

    فلدى المسح الجغرافي يتبين لكل ناظر أن رقعة الأرض التي يملكها المسلمون في العالم _ بحسب واقعها الحالي ومن غير حاجة إلى ابتكارات كثيرة وحلول سكينة واقتصادية فوق العادة _ مستعدة لاستيعاب أضعاف مضاعفة من أبناء المسلمين , وسلالاتهم , ومستعدة لإمدادهم بمختلف حاجات الحياة.

    فلتأخذ الشعوب والأمم الأخرى بما شاءت من أفكار لتحديد نسلها , وإيقاف نشاط سلالتها , لكن هذه الفكرة ليست في مصلحة المسلمين , ولا في مصلحة محافظتهم على أرضهم وحمايتهم لها من غزو الطامعين من ذوي الحاجات الاقتصادية , والأطماع الاستعمارية.

    السبب الثالث : أن المسلم حين ينجب ويرعى من ينجبه بالتربية الإسلامية , يشعر بأنه يمد جيش المسلمين في العالم بجندي من جنود الله , وأنه بذلك يقوم بأحد واجبات الجهاد في سبيل الله لأن إمداد جيش الجهاد بالمال أو بالرجال أو بالعتاد كل ذلك من الجهاد.

    ولذلك حث الرسول صلوات الله عليه على الزواج من المرأة الودود الولود , ليكاثر الأمم بالسلالات الإسلامية , روى أبو داود والنسائي عن معقل ابن يسار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم" حديث صحيح بوجه عام.

    ولجملة هذه الأسباب الثلاثة السابقة , نرى أن حمل الأمة الإسلامية أو تشجيعها على تطبيق فكرة تحديد النسل جريمة بحق هذه الأمة , لا يقوم بها إلا جاهل بالحقيقة غافل عن النتائج , أو ساقط في شبكة مكيدة من المكائد الكبرى التي تدبر ضد المسلمين , للحد من تزايد طاقاتهم البشرية.

    ومشكلة التكاثر البشري المخيف ليست موجودة في واقع المسلمين بالنسبة إلى واقع الرقعة الأرضية التي يملكونها في العالم , إنما هي موجودة في شعوب أخرى من العالم , فإن كانت هذه الشعوب تشعر بالمشكلة فليفكر قادتها بما شاؤوا من تطبيقات لتحديد أنسالهم , فنحن لا مصلحة لنا في الأمر.

    وتعقد مؤتمرات عالمية لحمل الشعوب أو تشجيعها على تحديد النسل , ومن الخير لنا أن لا نشترك في أي منها.

    السبب الرابع : أن للمسلمين مذهبهم الخاص في مفاهيم الحياة , كما أن لهم عقيدتهم الخاصة في قضايا الرزق وقانون التوازن في هذا الكون :

    الرزق :

    أما الرزق فهو في عقيدة المسلمين مضمون للإنسان عن طريق كسبه بمختلف وسائل الكسب المأذون به شرعاً , وذلك بنسبة عمره المقدار له في الحياة , بل هو مضمون لكل كائن حي حتى أجله المقدر له , والرزق أعظم المشكلات التي تحاول حلها فكرة تحديد النسل , بحسب وجهة نظر المادية الاقتصادية , فالله تبارك وتعالى يقول في سورة (هود / 11 مصحف / 52 نزول) : {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}.

    ويقول سبحانه في سورة (العنكبوت / 29 مصحف / 85 نزول) :
    {وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.

    ويقول سبحانه في سورة (الذاريات / 51 مصحف / 67 نزول) :
    { وَفِي السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ }.
    ففي هذه النصوص تقرير لحقيقة من حقائق التكوين المتممة لظروف هذه الحياة وشروطها ضمن مقادير آجالها , وضمن حدود الغاية منها , وهي ابتلاء الإنسان في هذه الحياة الدنيا , وهذا الابتلاء معلن بقول الله تعالى في سورة (الملك / 67 مصحف / 77 نزول) :
    {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}.

    وإذ نهى الله تبارك وتعالى الأولياء المنفقين عن قتل الأولاد من إملاق أعلن عن تكلفه برزقهم ورزق أولادهم مرتين :

    أ - ففي أحد النصين أعلن الله تكفله برزقهم , وعطف عليه تكلفه برزق أولادهم , فقال تعالى في سورة (الأنعام / 6 مصحف / 55 نزول) :
    {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ... *}.
    أي : لا تقتلوهم لتتخلصوا من النفقة عليهم بسبب ما أنتم فيه من واقع فقر , فالله كفيل إذا توكلتم عليه وقمتم بما يجب عليكم من كسب أن يزرقككم ويرزقهم عن طريقكم.

    ب- وفي النص الآخر أعلن الله تكلفه برزق الأولاد وعطف عليه تكلفه برزق أوليائهم المنفقين عليهم , فقال تعالى في سورة (الإسراء / 17 مصحف / 50 نزول) :
    {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً}

    أي : لا تقتلوهم لتتخلصوا من النفقة عليهم خشية أن تصابوا في المستقبل بالفقر بسبب النفقة عليهم , فالله كفيل بأن يرزقهم ويرزقكم إذا نفدت النفقة التي في أيديكم , وقد يكون رزقهم بسببهم , أو عن طريقهم إذا كبروا . ولما كان الباعث هنا خشية حدوث الفقر لا واقع الفقر كان الإعلان مشتملاً على تقديم رزق الأولاد على رزق أوليائهم الذين ينفقون عليهم , لأن الأمر هنا يتعلق بالحذر من المستقبل المجهول , وفيه شك بالله ووعده , ومقادير رزقه , وفيه تخلٍ عن واجب التوكل عليه تبارك وتعالى , بخلاف الحالة الأولى فإن واقع الفقر وما فيه من آلام يحدث اضطراباً في النفس والفكر قد يغشي على ثوابت الإيمان وركائزه وتصوراته , فيجعل صاحبه يتصرف تصرف غير المؤمنين , لذلك كان بحاجة إلى ما يزيل الغشاوة عن نفسه وفكره , فتبين له حقيقة من حقائق الإيمان , وهي : أن الله يزرقه ويرزق أولاده , فلا داعي للتخلص من واجب النفقة عليهم , ومن واجب السعي لاكتسابها كما أمر الله , فالقضية واجب اجتماعي مضمون النتائج بكفالة الخالق الرازق.

    تقدير الأقوات :

    والله تبارك وتعالى إذ قضى بأن يخلق عالم الحيوان في الأرض , وإذ جعل حياة الحيوان منوطة بقوته , جعل الأرض مستودعاً لأقوات الأحياء المقضي لهم بأن يحيوا فيها إلى أن تقوم الساعة , ضمن حدود الآجال المقدرة لها في قضاء الله وقدره.

    وما على الناس إلا أن يهتدوا إلى مفاتيح أبواب هذه المستودعات , لتتدفق عليهم خيرات الأرض , ما في برها وأعماقها وجبالها وبحارها وسمائها من أقوات.

    فقضية الأقوات قضية مقدرة بقضاء الله حسب حاجة الأحياء المقضي لهم أن يحيوا على هذه الأرض , وبمقدار أعمارهم المقدرة لهم , وهي في عقيدة المسلمين قضية مضمونة بتقدير الخالق الرازق المقيت , وما على الحي إلا أن يسعى لاكتساب قوته وقوت من هو مكلف بالنفقة عليه , وما على الجماعات البشرية إلا أن تحتال لاستخراج الأقوات من مستودعات الأرض وخزائنها , وهذه الحقيقة معلنة في قول الله تعالى في سورة (فصلت / 41 مصحف / 61 نزول) :

    {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ}

    فهذا النص القرآني يبين بياناً واضحاً أن الله قد بارك في الأرض وقدر فيها أقوات أحيائها تقديراً سواءً السَّائلين , أي : تقديراً مستوياً بإحكامٍ تام , وهذا التقدير المستوي لأجل السائلين , وهم طالبوا أقواتهم من خزائنها , ولا يطلب القوت إلا حي تتوقف حياته عليه.

    فقضية تقدير الأقوات في خزائن الأرض قضية مفروغ منها , فلا خوف من نقص الأقوات بالنسبة إلى كل كائن حي قضى الله أن يحيى في الأرض إلى أجل , ولكن بشرط الكسب والعمل وإعمال الفكر للوصول إلى مفاتيح خزائن الأرض . وحين يسعى الحي لكسب قوته فلا يجده فإن عمره في الحياة قد انتهى , وإن أجله قد حلَّ , وإن حرمانه من القوت هو السبب الذي اختير في القضاء والقدر لموته , وموته بإمساك القوت عنه كموت غيره بعلة مرضية , أو بسكتة قلبية , أو بحادثة قاتلة , أو بحروب طاحنة , أو بتعذيب بأيدي ظلمة , أو بدون أية علة ظاهرة.

    هذه هي عقيدة المسلمين , فلا مبرر عندهم للخوف من تكاثر السلالات , واللجوء إلى تحديد النسل من أجل قضية القوت , فالله على كل شيء مقيت , أي : هو مهيمن ومدبر ومقيت لمن وهبه الحياة وهو بحاجة إلى القوت لاستمرارها قال الله تعالى في سورة (النساء / 4 مصحف / 92 نزول) : {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً}.

    شروط الكسب :

    وإذ ضمن الله للناس أرزاقهم , وقدر في الأرض أقواتهم وأقوات كل كائن حي فيها , فقد جعل تحصيل أقواتهم وأرزاقهم منوطاً بالكسب والمشي في مناكب الأرض المختلفة , بحثاً عن أرزاقهم وأقواتهم , وأودع في كل كائن حي غريزة البحث عن قوته.

    ولئلا يفهم المسلمون من معنى التوكل على الله القعود عن كسب الأرزاق والأقوات أمرهم الله تعالى بالمشي في مناكب الأرض , ليأكلوا من رزقه , فقال تعالى في سورة (الملك / 67 مصحف / 77 نزول) :

    {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}

    والمشي في مناكب الأرض يشمل كل أنواع البحث عن خزائن الرزق المتيسرة بالتناول المباشر , والمدفونة في التراب التي يمكن استنباطها بالزراعة , وتوليدها بالتربية الحيوانية , والتي يمكن استنباطها بأية وسيلة أخرى باستطاعة الإنسان أن يخضعها لإرادته , كالتحليل والتركيب بالوسائل الكيميائية , وغير ذلك مما يمكن أن يكتشفه الإنسان بالبحث العلمي , وفي حدود هذه الدائرة , تقع مسؤولية الناس أفراداً وجماعات في هذا المجال.

    ويرتبط بتقدير الأقوات ما يلاحظ في الكون من سنة الله في ضابط التوازن.

    ضابط التوازن :

    فمما هو ملاحظ في سنن الله في كونه ما يمكن أن نسميه (ضابط التوازن) وهذا الضابط يهيمن على الوجود كله.

    وبضابط التوازن تنحل كل مشكلة يعجز الإنسان عن حلها بالوسائل التي يستطيع استخدامها , وبضابط التوازن بين الأحياء وأقواتهم في الأرض تنحل أية مشكلة يقدر الاقتصاديون أنها ستواجه المجموعات البشرية , حين يتضاعف عدد الناس ضعفاً وأضعافاً كثيرة عما هم عليه الآن , إذ يقدرون أن عددهم سيصل في عام ألفين إلى ستة أو سبعة مليارات نسمة , وسيصل في عام ألفين وخمسين إلى اثني عشر مليار نسمة.

    فمن أجل كل الأسباب التي سبق بيانها فإن المسلمين المؤمنين بعقائدهم الإسلامية , والمدركين لواقع كتلتهم البشرية ضمن الكتل البشرية الأخرى , يرفضون رفضاً باتاً كل محاولة لحمل جماهير المسلمين أو تشجيعهم على تحديد أنسالهم , وإيقاف نشاط تكاثر سلالاتهم , ويعلمون أن بث هذه الفكرة في مجتمعاتهم يحتوي على مكيدة مدبرة ضد حجمهم الثقيل في العالم , يكيدهم بها أعداؤهم وأعداء دينهم.

    مكر وكيد لتحديد أنسال المسلمين بجرائم الأطباء أو أوامر السلطة :

    ومن الأعمال الكيدية التي قام بها أعداء الإسلام ضد تكاثر شعوب الأمة الإسلامية ما يلي :

    الأول : اتخاذ الوسائل الظاهرة أو الخفية لإسقاط الأجنة من أرحام الحوامل من المسلمات , أو تعقيمهن , عن طريق الأطباء غير المسلمين الذين يعالجون نساء مسلمات حوامل , أو يردن أن يحملن , فيرتكبون جرائم الإجهاض أو التعقيم سرّاً دون أن يكونوا عرضة للإدانة القضائية.

    الثاني : الإكراه عن طريق السلطة ومن الأمثلة قانون الطوارئ الذين أعلن في الهند عام (1975م) الذي جاء في بنوده عن طريق السلطة ومن الأمثلة قانون الطوارئ الذين أعلن في الهند عام (1975م) الذي جاء في بنوده إجبار المسلمين على التعقيم , ومن يخالف هذا القانون تطبق ضده أقصى العقوبات.

    ولما أفتى أحد العلماء بتحريم التعقيم قتل وأحرق أمام الناس.

    وقد ألغي هذا القانون سنة (1982م) تحت تأثير احتجاجات المسلمين الشديدة في العالم.

    * * *

    التعديل الأخير تم 01-25-2007 الساعة 05:52 PM

  4. افتراضي



    الفصْل العاشر

    الغزو بفكرة القوميّة


    1- خطة وأهداف .
    2- مغالطة جدلية .
    3- موقع الشعب العربي بين الشعوب الإسلامية الأخرى .
    4- تقبل المبادئ الأخرى بعد التفريغ بفكرة القومية .
    5- الأمة العربية بعد الإسلام وقبله .






    ( 1 )

    خطة وأهداف

    في خطة ملء الفراغ أو مزاحمة مالئ الفراغ وإزاحته ، أراد أعداء الإسلام أن يضعوا محلّ المبادئ الإسلامية مبادئ أخرى ، ليصرفوا المسلمين عن مبادئهم صرفاً كلياً .

    فزيفوا لهم شعاراتٍ حسنوها في نظرهم بزخرفٍ من القول ، وبدغدغة نزغات أنانيّةٍ تنشأ في الناس مع نشأة مجتمعات جاهلية بدائية ، وهذه الشعارات لا تحمل من المقومات الفكرية ما يجعلها جديرة بتوحيد أمة ، وتفجير طاقاتها إلى مجدٍ عظيم بين أمم الأرض .

    إن المسلمين تجمعهم وحدة دينية ذات مقومات فكرية وعاطفية وتاريخية ، وذات هدف أسمى يسعى إليه كل فرد مسلم ، وهو يجني بعض ثماره في هذه الحياة الدنيا ، ويدخر القسم الخالد منها إلى الحياة الأخرى ، حياة الخلود في دار الجزاء .

    وقد عمل أعداء الإسلام على تفتيت هذه الوحدة الدينية الكبرى بمختلف الوسائل فلم يظفروا ، إلى أن عثروا على السلاح الخطير القادر على تفتيت وحدة المسلمين ، مع ضعف الإسلام فيهم ، إنه سلاح القومية ، إنه المتفجر الهائل الذي يفرق المسلمين إلى قوميات شتى ، ويعيدهم إلى أصولهم الأولى التي كانوا عليها ، قبل أن تجمع بينهم الوحدة الإسلامية الكبرى .

    وعلى إثر التفرق بين المسلمين على أساس قومي ستنمو عوامل الشقة فيما بينهم ، وستعمل مجموعة من الأحداث التاريخية على تعميم الفرقة ، وترسيخ قواعد السدود بترسبات تصطنعها العصبيات القومية ، وبعض الخلافات السياسية والاقتصادية .

    ولكن القضية تحتاج إلى تجنيد جنود كثيرين يحسنون استخدام هذا السلاح ، ويعملون على بث الفكرة القومية بين صفوف المسلمين ، وقد استخدم أعداء الإسلام للوصول إلى هذه الغاية عدة وسائل :

    1- فكان منها أولاً العمل على هدم الخلافة الإسلامية ، بإثارة نزعة القومية العربية ، مستفيدين من الأخطاء الكثيرة التي انتهى إليها الحكم التركي ، بفعل الدسائس اليهودية والأوربية التي أوحت بهذه الأخطاء ، وأسهمت في انتشارها ، ثم عرفت كيف تستفيد منها بتحريض القوميات غير التركية على السلطان التركي ، ومنها الأمة العربية .

    وكانت الخديعة الكبرى التي انزلقت فيها الشعوب العربية تحت شعار التحرر القومي ، والتي انتهت بهم إلى التجزئة ، وكانت هذه الخديعة سلّماً للمستعمرين حقق لهم فرصتهم الذهبية لفرض حكمهم المباشر على المجزءات العربية ، فحكموها وأمعنوا في تجزئتها متابعة منهم للخط القومي الضيق ، الذي يفصل هذه الأمة عن وطنها الأم الكبير ، ألا وهو الوطن الإسلامي الواحد في مبادئه وعقائده وشرائعه وعاداته وتاريخه الطويل المجيد ، وأسرع أعداء الإسلام يتناهبون التركة التي خلّفتها الخلافة الإسلامية بعد قتلها .

    ووقعت المصيبة التي دبرها للمسلمين أعداؤهم ، وتحققت النتيجة التي كان قد ذكرها من قبل الكولونيل (لورانس) في عام 1916م إذ قال في تقريره للمخابرات البريطانية : "إن أهدافنا الرئيسة تفتيت الوحدة الإسلامية بدحر الامبراطورية العثمانية وتدميرها ، وإذا عرفنا كيف نعامل العرب فيسبقون في دوامة الفوضى السياسية داخل دويلات صغيرة حاقدة متنافرة غير قابلة للتماسك".

    2- وكان من هذه الوسائل أيضاً العمل على تأسيس الأحزاب القومية الضيقة حيناً ، والواسعة حيناً آخر ، فمن الضيقة : الأحزاب التي أخذت تنادي بفكرة القومية السورية مثلاً ، ومن الواسعة : الأحزاب التي حملت شعار القومية العربية ، وكثيرٌ منها مؤسس في جذوره العميقة على خدمة أغراض أعداء الإسلام ، وإبعاد الجماهير العربية عنه .

    وقد تم تركيز الهدف في هذه الخطة على الأجيال المثقفة بالثقافات المعاصرة ، وعلى أبناء الطوائف المنعزلة ضمن جسم المجتمع الإسلامي الكبير .

    3- وكان من هذه الوسائل استئجار كبار الكتاب والمفكرين وأصحاب الأقلام لإثارة النزعات القومية ، التي إذا اتسعت شملت الأمة العربية ، وإذا ضاقت كانت منحصرة في إقليم خاص ، كالفرعونية ، والسورية .

    4- وكان من هذه الوسائل أيضاً بث الإشاعات الكاذبة ، التي تثير في الجماهير العصبيات القومية ، وتحكم بناء الحاجز الكثيف بين أبناء القوميات المختلفة وأبناء شعوب القومية الواحدة الذين يدينون بشريعة الإسلام .

    5- وكان من هذه الوسائل إحياء الجاهليات القديمة ، وتمجيد بطولاتها ، ورفع شأن العناصر غير الإسلامية عبر تاريخ المسلمين ، والاهتمام بدراسة آدابهم وآداب العصور الجاهلية في الجامعات وما دونها من معاهد ومدارس للصدّ عن الإسلام والمسلمين ، وغرس فسائل الولاء لغيرهم في نفوس أبناء وبنات المسلمين .

    ولم يتنبه معظم المسلمين إلى هذه المخططات المحكمة الدسائس حتى وجدوا أنفسهم فريسة تنشب فيها مخالب أعدائهم وأعداء دينهم .

    ( 2 )

    مغالطة جدلية


    قامت مغالطة جدلية حول القومية والإسلام ، وكانت محكمة التركيز من قبل العدو الغازي ، وقد اعتمدت هذه المغالطة على مجموعة من الأسئلة أهمها الأسئلة التالية :
    1- هل القومية تتعارض مع الإسلام ؟
    2- هل حارب الإسلام القوميات ؟
    3- هل نستطيع أن نتعايش مع من لا يدينون بالإسلام من العرب ؟ وأشباه هذه الأسئلة :

    وقد انطوت هذه الأسئلة على مكر شديد ، يعتمد على المغالطة في المفاهيم ، وذلك لأن القومية كما يريدها أعداء الإسلام في قلوب المسلمين ، ومثلهم بالنسبة إليها وبالنسبة إلى المفاهيم الأخرى المضادة للإسلام ، كمثل من يأتي إلى كأس مملوءة لبناً خالصاً سائغاً للشاربين ، فيطرح فيها حصاة فحصاة ، وحفنة فحفنة من الرمل ، ليخرج من اللبن بمقدار ما طرح فيها من رمل أو حصى ، حتى يملأها بما يريد فتفرغ آلياً مما لا يريد وهذا ما يغذون به أتباعهم وحملة فكرتهم ، ولكنهم عند الجدل مع المسلمين يغالطون في المفهوم الذي أرادوه للقومية ، وينتحلون مفهوماً آخر يقره الإسلام ، ولا يتعارض معه ، ليظفروا بسكوت المسلمين عنهم وعدم مقاومتهم لفكرتهم .

    أمام مفهوم القومية الذي يريدونه ، ويوسوسون به إلى أتباعهم وحملة فكرتهم ، فهو يعتمد على عناصر عصبية عرقية ، تكتفي بأن تجمع الأفراد المنتسبين إليها على أساس العرق ، وحينما صدمتهم حقيقة الكيان الإنساني ، وأنه ليس مجرد كائن جسدي تحكم الصلة العرقية رباطه ، أضافوا إلى مفهوم الصلة على أساس العرق مفهوم الاشتراك في لغة التخاطب ، ومفهوم الاشتراك في التاريخ ، ومفهوم الاشتراك في المشاعر من آلام وآمال .

    وعند كلامهم على الاشتراك في التاريخ يحاولون أن يحبوا التاريخ القومي قبل الإسلام ، وأن يجعلوا له لوناً من ألوان المجد ، وقد يستشهدون ببعض الأبطال من المسلمين ، ولكن في أحوال نادرة وللتمويه بذكرهم ، ومع ذلك فهم لا يستشهدون بهم على أساس كونهم حملة رسالة ربانية ، وإنما يستشهدون بهم على أساس أنهم ينتسبون من الناحية العرقية للقومية الخاصة . ويحاولون أيضاً أن يميتوا كل مجد كان بسبب الإسلام ، ويوسعون الدائرة في ضرب أمثلة من قوميين غير مسلمين ، ويحاولون أن يلبسوهم تيجان مجد علمي أو أدبي أو بطولي لا يستحقونه في مقاييس المقارنات المادية .

    وعند كلامهم على الاشتراك في المشاعر بين أتباعهم يذكرون لهم آلام التفرقة على أساس الدين ، وآلاماً تاريخية أصابت القومية بسبب تسلط قومية أخرى عليها باسم الإسلام ، وقد يدمجون فيها آلام تسلط المستعمرين على البلاد ، ويدخلون في ضمن المستعمرين كل من حكم القوم من غيرهم مسلماً كان أو غير مسلم .

    وكل هذه المفاهيم التي يبثونها بمكر بالغ تزاحم في نفوس ملتزميها الجاهلين أو الغافلين العقيدة الإسلامية ، وتحل محلها ، فيمسي ملتزمها فارغاً من الإسلام ممتلئاً بها ، وحينما يكتشف بالتطبيقات المتتابعة أنها تعارض الإسلام من أساسه ، ويجد نفسه فارغاً من كيان فكري أصيل ، ومنغمساً في شهوات آسرة لا يرضاها الإسلام ، يضطر أن يسلك مسلك الإلحاد بالله ، واللجوء إلى مذاهب إنسانية أخرى منسجمة مع مسلك الإلحاد ، لتملأ فراغه النفسي والفكري ، أو يرده وجدانه إلى الحق ، فيرفضها ويعود إلى حظيرة الإسلام .

    أما مفهوم القومية الذي لا يتعارض مع الإسلام ، ويغالط أعداء الإسلام به ، فهو المفهوم الذي يدل عليه قول الله تعالى في سورة (الحجرات/49 مصحف/106):

    {ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.

    فالاختلاف بين الناس على أساس الذكورة والأنوثة شيء اقتضته سنة الله في التناسل وتوزيع الخصائص في الحياة ، والاختلاف بين الناس على أساس الشعوب والقبائل شيء اقتضته طبيعة التقسيم للتعارف فقط ، لا ليكون أساساً للتناكر والتخالف والعصبيات .

    وفكرة الجماعة الإنسانية في الإسلام يحددها صدر الآية : {ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى} أي فكلكم من عرق واحد ، ويحددها أيضاً قول الرسول : "كلكم لآدم وآدم من تراب" وغير ذلك من نصوص كثيرة .

    وقد استطاع الغزاة وأجراؤهم أن يفجِّروا في صفوف المسلمين بهذه المغالطة الدائرة حول القومية والإسلام قنبلة ماكرة من قنابل التحويل الاعتقادي ، وقد استطاعوا أن يستروا هذه القنبلة أول الأمر بالعقلانيات والفلسفات والغيبيات التي ليس لها أساس صحيح .

    ( 3 )

    موقع الشعب العربي بين الشعوب الإسلامية الأخرى


    اختار الله الأمة العربية لتقوم بدور تاريخي تحمل فيه مجد الإسلام ، وتحتل فيه الصف الأول الذي يقود معركة تحرير الإنسان من الوثنيات الفكرية والظلم الاجتماعي ، وبناء حقيقة الإيمان بالله في عقول الناس وقلوبهم ، وإقامة شرائعه التي أنزلها على رسوله محمد ، واختار اللغة العربية لينزل بها كتابه المعجز الخالد ، الذي تكفل بحفظه وصيانته من أن تعبث به أيدي التغيير والتحريف .

    كان هذا الاختيار الرباني بينما كانت الأمة العربية في وضع فكري واجتماعي يجعلها أبعد ما تكون عن مسايرة ركب الحضارات التي كانت عليها الأمم الأخرى ، فضلاً عن أن تقود الأمم إلى حضارة عظمى ، هي في مركز القمة بين الحضارات المختلفة الفكرية والواقعية .

    وتمت معجزة التحويل المفاجئ التي أجراها الله على يد خاتم رسله محمد صلوات الله عليه ، فاجتمع متفرق الشعب العربي بسرعة تاريخية مذهلة ، وارتقى في سلم المعرفة ، واحتل مركز القيادة ، وامتد على قلة عدده وعُدده فاتحاً العالم بحضارته الجديدة ، التي كان دوره فيها مطبق التعاليم الإلهية ، لا دور مبتكر النظم ، ومجرب الحياة ، وانطلق باذلاً كل طاقاته ، مستمداً من الله التأييد والعون والنصر ، وكان له مجد هذا الاصطفاء الرباني ، إنه اصطفاء بالرسالة ، إذ اختار الله من هذا الشعب خاتم رسله ، واصطفاء بالكتاب ، إذ أنزل بلغة هذا الشعب خاتمة كتبه للناس ، واصطفاء بالقيادة ، إذ جعل من هذا الشعب المسلمين الأولين الذين احتلوا الصف الأول الذي قاد حركة الفتوحات في دنيا الناس ، وأخذ أول جائزة من جوائز شرف الشهادة على الناس بتبليغ شريعة الله للناس بعد الرسل ، فكانوا أول من تحقق فيهم قول الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول):

    {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً...}

    فيأتون يوم القيامة شهداء على الناس بتبليغ دين الله ، ويأتي الرسول شهيداً عليهم ، ويأتي رسول كل أمة سلفت فيشهد عليها .

    هذه هي حقيقة الأمة العربية ، و لكن حاول دعاة القومية من أعداء الإسلام أن يحوروا هذه الحقيقة ، فيجعلوا كل المجد الذي نالته الأمة هو ما ظفرت به من دولة كبرى وتقدم حضاري مادي ، وأن يجعلوا ذلك ثمرة من ثمار القومية العربية ، بمعنى أن العناصر العرقية الراقية ، التي كانت أيام الجاهلية هي التي تفاعلت فأنتجت قائداً عبقرياً هو محمد ، الذي استطاع في دوره التاريخي أن يقود هذه الأمة إلى مجد تاريخي وباستطاعة هذه العناصر العرقية المستمرة أن توجد في كل عصر عبقرياً جديداً مثل محمد .

    إن هذا الكلام ينطوي على حيلة ماكرة تجذب إليها غرور الشباب ، الذي يحلم بأن ينبغ في هذه الأمة قائد مجد جديد ، وهذه الحيلة تضيف إلى حلم الشباب المقبول عنصراً جديداً مفسداً ، إذ تدس فيه أن يحمل هذا القائد الجديد أسساً عصرية غير الأسس الدينية التي حملها محمد من قبل ، وتتسع دائرة هذه الحيلة حتى تجعل رسالة محمد عملاً إنسانياً بحتاً ، ويكفر المنخدعون بها برسالة محمد الربانية ، ويقبلون أفكاراً زائفة مباينة للحقيقة المماثلة في وجه التاريخ ، وفي وجه كل دراسة منصفة تنشد الحقيقة .

    ثم يتابع دعاة القومية من أعداء الإسلام تحوير حقيقة الواقع التاريخي للعرب من قبل الإسلام ومن بعد الإسلام ، فيحاولون بفلسفاتهم الباطلة المموهة بحيل من زخرف القول أن يقنعوا أتباعهم من الشبان الطائشين بأن القرآن كتاب صنعته الأمة العربية من قبل ، بما لديها من عناصر عرقية راقية ، وباستطاعة هذه الأمة أن تصنع في كل عصر كتاباً جديداً يناسب ما تتطور إليه العصور ، وتدور هذه الشبهة في نفوس الشبان الذين لم يتزودوا من المعارف الإسلامية الصحيحة ، وتتمكن في نفوس بعض المغرورين الطامحين المنغمسين في أوحال مغريات أعداء الإسلام ، فيحملون هذه الفكرة بحرارة وقناعة واندفاع .

    وبعد أن يزحزح أعداء الإسلام بدعوة القومية العقيدة بأن محمداً رسول الله ، وبأن القرآن كتاب منزل من عند الله ، لا بد أن يسهل عليهم تفسير كل مجد حصل للمسلمين في تاريخهم الطويل بأنه أثر من آثار انطلاقة القومية العربية إلى المجد ، بطاقاتها العرقية الأصيلة ، التي تمتاز على الأعراق الأخرى بقوى الإبداع والابتكار ، وتمتاز عليها بالبطولات .

    وبهذه الفلسفة الباطلة ، التي لا يدعمها من الواقع دليل تقبله العقول ؛ يهيلون آخر كوم ترابي على ما يريدون وأده حياً من إسلام وعروبة معاً ، في نفوس الذين يستجيبون لهم .

    ( 4 )

    تقبّل المبادئ الأخرى بعد التفريغ بفكرة القومية


    على إثر وأد الإسلام في نفوس حملة فكرة القومية العربية على الوجه الذي خطط له العدو الغازي ، لا بد أن يجد الفرد من هؤلاء القوميين نفسه فارغة من المقومات الفكرية والروحية والنفسية والعاطفية الحقيقية ، التي تصلح لأن ترتقي به وبقومه إلى قمة حضارية بين الأمم الأخرى ، ذات السبق العلمي ، والسبق المدني ، والسبق العسكري ، والسبق السياسي ، إلى مختلف أنواع السبق الذي لا يستطيع جيله أن يسايرها ، بالنظر إلى الإمكانات المادية والبشرية التي يتمتع بها الواقع العربي الحاضر .

    وحينما يجد هذا الإنسان القومي نفسه فارغة هذا الفراغ الظامئ الطالب للامتلاء ، فإنه سيلجأ ضرورة إلى أن يرتمي في أحضان السابقين من شرقيين أو غربيين ، ثم تهون في نفسه نزعة القومية شيئاً شيئاً ، وهي التي بها أزاح العدو الغازي الإسلام من قلبه ، بعد أن عمل على توهين قيمة الإسلام لديه ، وعند ذلك سيصبح أجيراً تابعاً من أجراء أعداء دينه وقوميته معاً .

    هذه هي الحيلة الحديثة الخبيثة التي خطط لها أعداء الإسلام في صفوف المسلمين العرب غير العرب ، ليجهزوا على الإسلام بسلاح القومية ، ثم ليجهزوا على القوميات بأسلحة المبادئ الأخرى التي لا تستطيع القوميات أن تقف أمامها ، لأنها غير ذات محتوى فكري ونفسي وسلوكي يستمر مع الزمن ، إنما هي عاطفة مؤقتة ، ونزوة عابرة ، تغري بأهداف براقة وهمية ، ثم لا تلبث حقبة مع الزمن حتى ينكشف زيفها ، فهي بمثابة الأشكال السحرية التي لا وجود لها إلا في حالة الخداع البصري ، الذي يوجده الساحر الماهر بأعماله المؤقتة ، وحينما ينتهي الساحر من نفثاته يظهر كل شيء على حقيقته ، ويبدو ما كان على ما كان .

    ولو أن أعداء الإسلام الذين خططوا لنشر فكرة القومية بين صفوف المسلمين بدأوا بنشر المبادئ المعدة لأن تكون هي الغاية المقصودة بالنشرة لتعثرت كثيراً ، ولم تجد لها آذاناً سامعة ، لأن الإسلام يمثل الدرع الحصين ضدها في نفوس أكثر المسلمين ، وله في نفوسهم من الحجج القوية ما يدحضها ، يضاف إلى ذلك تفوق الإسلام عليها بمبادئه الإلهية ، التي تضمن للناس أوفر سعادة ترمي إلى تحقيقها النظم الإنسانية الوضعية بحسب ادّعاء أصحابها ، مع المحافظة على أرقى فلسفة واقعية إصلاحية عرفها التاريخ ، إنها الفلسفة الدينية والخلقية القائمة على أسس الإيمان بالله واليوم الآخر ، والإيمان بالحساب والجزاء ، والإيمان بشرائع الله لعباده ، وهي الشرائع التي أنزلها في كتبه ، و أمر رسله بتبليغها ، وكلف عباده المؤمنين بالإسلام أن يحملوها ويبلغوها للناس أجمعين .

    هذا : وعلى دعاة الإسلام ، وعلى كل مسلم عرف الحقيقة ، أن يكشفوا للمسلمين هذه الحقائق التي أصبحت سافرة أكثر من أي وقت مضى ، بعد أن كشف الأعداء الغزاة كثيراً من الأقنعة التي كانت على وجوههم ، وباشروا بتطبيق المخططات السافرة لهدم الإسلام من أساسه ، والسير في ركاب النظم والمبادئ التي أعدوها شرقيين أو غربيين للتطبيق على المسلمين .

    وأي تهاون في إصلاح ما فسد من فكر أو عمل سيعرض المسلمين في مختلف البلاد الإسلامية إلى الأسر الذليل الدائم في أيدي أعدائهم ويعرض دينهم ودين ذراريهم وأجيالهم القادمة إلى الزوال .

    ومتى صدق المسلمون مع الله ، وعملوا بما فرض عليهم من جهاد بالقول والمال والعمل أيدهم الله بنصره على أعدائهم ، وما النصر إلا من عند الله .

    ( 5 )

    الأمة العربية بعد الإسلام وقبله


    لست أنكر أني عربي ، فالعربية تجري في دمي ولحمي وعظمي ، ولا أعرف من عرقي إلا أني عربي ، إن جسدي يتصل بها نسباً وعرقاً ، ولساني يتصل بها لغةً ونطقاً ، أما أفكاري وعقائدي وما استقام من سلوكي فلا تمت إلى العربية الجاهلية بصلة ، إنها هبة إسلامية ، لم تعمل الأمة العربية فيها غير حسن التلقي ، وحسن الاتباع ، ودقة التبليغ ، وحماسة النشر والتعليم على شعوب الأرض .

    ويريد أعداء الإسلام أن ينفثوا في نفسي وفي نفوس الشعب العربي المسلم قناعة بأن الإسلام بمبادئه وعقائده وشرائعه وأخلاقه وكمال دعوته قد كان صناعة عربية .

    وهل يصح في مقاييس العقول السليمة إنكار الحقائق التاريخية ، التي تؤكدها كل الدلائل ، وتثبتها جميع البراهين الفكرية والواقعية؟.

    أي مجد كان للعرب قبل أن يصنع الإسلام منهم أمة قائدة رائدة ؟ نظرتُ في التاريخ فوجدت أن عروبة عمر بن الخطاب أثبت ألف مرة من عروبة دعاة القومية العربية الأدعياء في هذا العصر ، ومع ذلك فإن عمر بن الخطاب يقول : "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العز بغير ما أعزنا الله أذلنا الله" وقد أقر عمر بن الخطاب على مقالته هذه سائرُ العرب الأقحاح ، في عصره وبعد عصره ، وهم الذين أسسوا للأمة العربية مجداً تاريخياً لم تحلم أمة من الأمم بمثله . لقد أقروه على ذلك ، وما كانوا ليقرُّوه على خطأ ، في حين أن امرأة استطاعت أن تراجعه في قضية المهور وهو على منبر الإسلام ، وهو خليفة المسلمين ، فأعلن في الحال كلمته المشهورة : "أصابت امرأة وأخطأ عمر ، لولا امرأة لهلك عمر".

    وأدعياء العروبة اليوم ، الذين لا يعرف لهم نسب متصل بالأمة العربية يريدون أن ينقضوا هذه الحقيقة التاريخية ، التي أعلنها جيل الأمة العربية الذي عاصر الجاهلية والإسلام ، وأعلنتها بقية الأجيال العربية التي توالدت من بعده .

    أما الأجيال العربية الجاهلية التي كانت قبل الإسلام فلم يتهيأ لها مجد أصيل يصح أن يفتخر به حتى تعلنه ، غير بعض تقاليد وعادات حسنة متناثرة في مجتمعاتهم ورثوها عن الدين الرباني الذي جاءهم به من قبل إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام .

    إن الأمة العربية قد كانت وصارت كما وصف الله في كتابه بقوله تعالى في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول):

    {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.

    وكما وصف الله في كتابه بقوله في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول):

    {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}

    لقد كان واقع الأمة العربية في الجاهلية قبل الإسلام يتلخص بالعناصر التالية :

    1- العداء بين القبائل والبطون العربية ، وقد كان هذا العنصر عاملاً أساسياً من عوامل استمرار الحروب بين القبائل ، والتي كانت تثيرها أحداث تافهة صغيرة .

    2- تخلف سكان الجزيرة العربية اقتصاديا في مختلف المجالات الزراعية والصناعية ، الأمر الذي جعلهم يركزون جل اعتمادهم على الثروة الحيوانية ، وهذه مرتبطة ارتباطاً تاماً بعوامل الجدب والخصب ، وقد أدى التخلف الاقتصادي إلى الفقر الذي ورَّثهم دوافع الغزو لتحصيل وسائل العيش .

    3- تخلفهم الحضاري ، الذي جعلهم مستضعفين في الأرض ومطمعا للإمبراطوريات المجاورة للجزيرة العربية ، ونهباً مقسَّماً بينها ، وتمثلها في تلك العصور الإمبراطوريات الثلاث ، الفارسية والرومانية والحبشية .

    4- انتشار العقائد الوثنية ، والخرافات التي ليس لها أصل فكري يدعمها ، وانتشار الفوضى الأخلاقية والاجتماعية ، التي تعيش على النظم البدائية القبلية ، وتأبى أن تخضع لنظام مدني حضاري عام ، إلا بعض الأخلاق والعادات الكريمة النبيلة ، وبعض أثارة دينية موروثة من ديانة إسماعيل عليه السلام ، ومكتسبات قليلة آتية من الديانتين النصرانية واليهودية ، اللتين كان لهما وجود غير واسع في الجزيرة العربية .

    وهذا الواقع هو الذي وصفه الله بقوله : { وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا}.

    ولما جاء الإسلام ، وجمع هذه الأمة على مبادئه السامية ، وألف بين قلوبها استطاعت أن تتحول من واقعها المتخلف ، وترتقي بسرعة تاريخية مذهلة إلى قمة المجد الرفيع .

    وفي حال الأمة العربية قبل الإسلام وبعده قلت :

    بماذا تفخر العربية الجاهلية؟؟!!..
    مَنْ كان قبل محمد في قومنا نحن العرب
    علماً نفاخر فيه عند ذوي المفاخر في النسب
    الشامخين بعرقهم ممن تحضر أو غلب؟؟
    أفبالملوكِ يتوجون بقصر قيصر ذي المكان؟
    أم بالملوك يتوجون بقصر كسرى ذي الإوان
    أم بالمؤدين الضريبة للنجاشي في هوان؟
    وجميعهم مستأجرون
    مستخدمون مذللون
    وفق الأوامر يحكمون
    ومراسم التمليك تصنع خارجاً وهناك بالإذلال تمهر .
    أبذاك نفخر؟

    * * *

    من كان قبل محمد في قومنا نحن العرب
    علماً نفاخر فيه عند ذوي المفاخر في النسب
    الشامخين بعرقهم ممّن تحضّر أو غلب؟؟!!
    أبأنّ أبرهة الأمير على الجنوب المستبدّ
    القائد الحبشي عاث بأرض قومي لم يُردّ
    وأراد هدم أجلّ بيت عند قومي واستعدّ؟
    أبضعفهم عن ردّه
    وبعجزهم عن صدّه
    حتى دنا من قصده؟؟
    لولا تدارُك ربّ هذا البيت يحفظ بيته لرمى ودمّر
    أبذاك نفخر؟

    * * *
    من كان قبل محمد في قومنا نحن العرب
    علماً نفاخر فيه عند ذوي المفاخر في النسب
    الشامخين بعرقهم ممّن تحضّر أو غلب؟؟!!
    أبعنترٍ وهو الذي ما قاد نحو الفتح جيشاً؟
    أم بالقبائل في الخيا وكلها لم تعلُ عرشاً؟
    أم بالحروب استقطبت أسبابها جملاً وكبشا؟
    وعموم قومي جاهلون
    لا يقرأون ويكتبون
    مستضعفون مشتتون
    إن تُذكر الدور الكبار أو الصغار فإن قومي ليس تذكر
    أبذاك نفخر؟

    * * *

    من كان قبل محمد في قومنا نحن العرب
    علماً نفاخر فيه عند ذوي المفاخر في النسب
    الشامخين بعرقهم ممّن تحضّر أو غلب؟؟!!
    أفبالعلوم ولم يكن منها لهم وفْرُ النصيب؟
    أم بالصناعة وهي عنهم كالشروق مع المغيب؟
    أم بالبناء وما لهم أثرٌ تسجله الشعوب؟
    أبأنهم لا يحسبون؟
    ويهود فيهم يرتعون
    كم يسلبون وينهبون!!
    متعلّلين بأنهم إن يسلبوا قومي فما في الأمر منكر
    أبذاك نفخر؟

    * * *

    من كان قبل محمد في قومنا نحن العرب
    علماً نفاخر فيه عند ذوي المفاخر في النسب
    الشامخين بعرقهم ممّن تحضّر أو غلب؟؟!!
    أبوأد بنتٍ طفلة لم تقترف ذنب الكبار؟
    وتعصّب مستسخف لا عقل فيه ولا ادّكار؟
    وبهضم حقّ للنساء وهضم حقّ للصغار؟
    أم بالعبيد المحقرين
    في غير حرب يؤسرون
    هم بالعذاب يُسَخّرون؟
    من يدعُ منهم للهدى والعدل بين الناس يزجر
    أبذاك نفخر؟

    * * *

    من كان قبل محمد في قومنا نحن العرب
    علماً نفاخر فيه عند ذوي المفاخر في النسب
    الشامخين بعرقهم ممّن تحضّر أو غلب؟؟!!
    أبأنهم كانت لهم عزّى وكان لهم هبل؟
    أبأنهم قد أشركوا بالله أحجار الجبل؟
    أم أنّ من أربابهم تمراً إذا جاعوا أكل؟
    وبذاك كانوا يفخرون
    وإلى الضلالة يهرعون
    ومع الجهالة يسخرون
    من نفحة قدسية للناس تدعوهم إلى : الله أكبر
    أبذاك نفخر؟

    * * *

    من كان قبل محمد في قومنا نحن العرب
    علماً نفاخر فيه عند ذوي المفاخر في النسب
    الشامخين بعرقهم ممّن تحضّر أو غلب؟؟!!
    أبقوم لوط ؟ أم بمدين ؟ أم بعادٍ ؟ أم ثمود
    وجميعهم بادوا بما اقترفوا وما اجترحوا الفساد
    فانظر بلاداً دمّرت أو نكّست بين البلاد
    واستنطق الآثار
    واسأل رسوم الدار
    وابحث عن الدِّيار
    واستقرئ التاريخ عنهم تلقهم عبّاد معصية ومنكر
    أبذاك نفخر؟

    * * *

    لا . لا والكتاب ومن أتمّه *** وأتى به للناس رحمة
    وأظلّ دنيانا بنعمةٍ *** ما فوقها في الكون نعمة
    بنبينا أحمد
    القائد المفرد
    المرسل الأمجد
    الطيّب المحتد...صلّى عليه الله

    * * *

    ما كان قبل محمد في قومنا نحن العرب
    مجدٌ نفاخر فيه إلا أن نلفّق بالكذب
    حاشا سليل المجد إسماعيل صهرهمو الأحب
    وأثارة من حكمة عنه استقرّت في العرب
    نحن بني العرب على طول المدا
    ما جاءنا يوم ونلنا سؤددا
    إلا بإسلام حمانا وهدى
    تاريخنا ومجدنا لقد بدا
    مذ أرسل الله لنا محمداً ... صلّى عليه الله .
    * * *


  5. افتراضي



    الفصْل الحَادي عشر

    أعمال الغزَاة ضِدّ اللغةِ العربيَّة


    1- مقدمة عامّة حول أهمية اللغة .
    2- الاستعمار ومحاربته للعربية الفصحى .
    3- الدعوة إلى نشر العاميّات واللهجات الإقليمية ، واعتبارها لغة العلم والأدب والفن .
    4- نظرة تاريخية إلى حركة التحويل عن الفصحى .
    5- ردود على مزاعم خصوم الفصحى .
    6- دغدغة العواطف القومية القديمة للتحويل عن العربية الفصحى .
    7- مزاعم إصلاح رسم الخطّ العربي .
    8- غزو الفصحى عن طريق العبث بقواعدها .
    9- غزو اللغة العربية بالمفردات الأجنبية الدخيلة .
    10- طلائع المستجيبين لمكيدة إحلال العاميات محلّ الفصحى .
    11- نحن والغزاة .






    ( 1 )

    مقدمة عامة حول أهمية اللّغة
    تتمثل اللغة في الأمة الناطقة بها الصورة التعبيرية الثابتة لثرواتها الفكرية والحضارية والدينية ، وذلك لأن تداول الخاطرة العلمية لدى أمة من المم هو الذي يملي عليها الصيغة التعبيرية الملائمة ، كما أن تداول الصور الحضارية بينها – سواء أكانت مشاعر وجدانية أو آداباً اجتماعية أو منتجات مادية – لا بد أن يملي عليها ألواناً من الصيغ الكلامية ، التي تستطيع أن تكون بها دقيقة التعبير عن مشاعرها ، وآدابها ، ومنتجاتها ، يتولى ذلك النخبة الممتازة من أصحاب المهارات الفكرية والقدرات اللسانية ، القادرين على تطوير الأوضاع اللغوية ، وابتكار ألوان التعبير ، ذات الدلالات الدقيقة الرائعة على المراد .

    كما أن تداول الحقائق الدينية – سواء كانت أفكاراً ومبادئ عقلية أو وجدانية ، أو كانت تشريعاً عملياً ، أو أخلاقاً وآداباً ، أو أخباراً وأنباءً ، أو تنبؤات بما سيأتي – لا بد أن يملي عليها أيضاً ألواناً أخرى من المفردات والصيغ التعبيرية الدينية ، التي تستوعب المعاني المرادة ، وتدل عليها دلالات صحيحة .

    وهذه الصيغ التعبيرية المؤلفة من حروف الهجاء والمفردات والجمل والقواعد والأساليب البيانية هي التي تتكون منها لغة الأمة التي تنطق بها ، وتعطي صورة حالية عنها ، وصورة ثابتة عن تاريخها .

    ونستطيع لدى التحليل أن نقول : إن اللغة هي الجزء المشترك من كيان الأمة ، وهي الوطن المعنوي الواحد لحركة اللسان المعبرة عن حركة الفكر والنفس والوجدان ، وهي في هذا تشبه حدود الأرض التي تحوي داخل محيطها الوطن المادي لحركة جسم كل فرد من أفراد الأمة ، إذ يعبر بذلك عن مطالبه الفكرية والنفسية والوجدانية ، وعن آماله وتطلعاته لنفسه وأهله وذرياته وأمته .

    ولذلك نجد الباحثين يلجأون إلى اللغة ليستنبطوا منها خصائص أمة من الأمم ، كلما عجزت الدلائل الأخرى عن أن تعطيهم صورة صحيحة عنها .

    ورقي لغة من اللغات عنوان رقي الأمة الناطقة بها ، كما أن انطاط لغة من اللغات عنوان انحطاط الأمة الناطقة بها ، والثروة العلمية والثقافية والأدبية والفنية ، التي تقدمها لغة من اللغات ، متمثلة فيما أنتجه العلماء والمثقفون والأدباء الناطقون بها ، أعظم مجد يتمتع به تاريخها الذي يكسو الأمة صاحبة هذه اللغة بحلل من المجد العلمي والحضاري .

    ولدى البحث المقارن في تاريخ اللغات العالمية نلاحظ أن للعربية الفصحى أكبر نصيب عرفته لغة واسعة الانتشار في العالم ، منذ فجر التاريخ حتى عصر النهضة الأوروبية الحديثة . تشهد بذلك هذه الكنوز العلمية والثقافية والحضارية الدينية والمدنية ، المنبثة في المكتبة الإسلامية العربية الجامعة لعشرات الألوف من المؤلفات الضخمة النافعة ، في شتى العلوم ومختلف الفنون والآداب ، والتي يقع في منزلة الرأس منها كتاب الله المنزل ، ثم من دونه كلام الرسول العربي محمد صلوات الله عليه ، ثم تأتي ذخائر الكتب النفيسة التي تستطيع أن تتوج الأمة الإسلامية والعربية بتاج المجد العظيم بين أمم الأرض .

    ومع الحزن الذي يقرّح الفؤاد نجد أن هذه الأمة قد و صلت إلى مرحلة تاريخية رمت فيها هذا التاج العظيم عن رأسها ، وذلك بأسباب شتى ، بعضها قد كان من إهمالا وتقصيرها ، وبعضها قد كان من الغزو المركز المحكم الذي تداهمها به جيوش أعداء الإسلام ، المسلحة بالأسلحة الحديثة المشحونة بدهاء ومكر شديدين .

    لقد أدرك أعداء الإسلام أن الشعوب الإسلامية ما دامت على صلة وثيقة باللغة العربية ، فإنها ستظل مرتبطة بالإسلام وبالقرآن ، وستظل متمسكة بفكرة الوحدة الإسلامية الكبرى .

    ومن أجل ذلك أخذ أعداء الإسلام يوجهون مختلف القوى ، ويتابعون ألوان الجهود ، ويتخذون شتى الوسائل الممكنة لهم ، لصد الشعوب الإسلامية عن اللغة العربية ، وصرف الشعوب العربية عن اللغة العربية الفصحى ، وتغذية اللهجات الإقليمية المحلية ، وتشجيع أبناء الشعوب الإسلامية على أن تكون لغاتها المحلية ولهجاتها الإقليمية العامية البعيدة كل البعد عن اللغة العربية الفصحى هي اللغات المستعملة في كتاباتها المتنوعة ، في العلوم والفنون والآداب والمعاملات وسائر ما يحتاج فيه إلى الكتابة والتسجيل ، وتشجيعها أيضاً على هجر رسم الكتابة العربية ، ووضع الحروف اللاتينية موضعها ، أو إحداث رسم جديد بعيد عن الرسم العربي ، الذي يضم نفائس الثروات العربية الإسلامية في شكله المختصر الجميل ، وإن كان فيه بعض الصعوبة التي لم تكن في يوم من الأيام عائقاً عن الانطلاق في ميادين المعرفة ، على أن هذه الصعوبة أقل من الصعوبات التي يعانيها مثلاً متعلم اللغة الإنكليزية ذات الرسم الحفظي ، الذي لا تطابق فيه بين الرسم والنطق في كثير من مفرداتها .
    ولكن الخطة المدبرة تهدف إلى محاربة الإسلام عن طريق تقليص ظل اللغة العربية الفصحى عن المسلمين ، فهل يكون المسلمون على بصيرة مما يدبّر ضدهم ، فيحذرون من خطط أعدائهم وأعداء دينهم .

    ( 2 )

    الغزو الفكري وخطره


    منذ دخلت القوات الاستعمارية عدداً كبيراً من البلاد الإسلامية ، والدوائر الاستعمارية على اختلاف اتجاهاتها السياسية ، وتباين مصالحها ، ما فتئت تعمل على محاربة اللغة العربية الفصحى بمختلف الوسائل ، بغية إبعاد شعوب هذه البلاد عن مصادر الشريعة الإسلامية ، وفي مقدمتها القرآن الكريم والسنة المطهرة ، ثم كتب التفسير والفقه ، ومن ورائها سائر كتب العلوم الإسلامية والعربية ، وذلك في خطتها لمحاربة الإسلام وهدم وحدة المسلمين .

    ويقوم اليهود في إسرائيل وأجراؤهم في غيرها بالدور نفسه الذي قامت به الدول الاستعمارية .

    فمن الوسائل التي اتخذوها لمحاربة العربية الفصحى محاولة صهر الشعوب الإسلامية المغلوبة بالشعوب الغالبة ، وذلك بفرض لغة الغازين على أفراد الشعب المغلوب ، وقد أخذ فرض لغة الغازين عدة أشكال وصور .

    فمن ذلك جعل لغة المستعمرين لغة إجبارية في المدارس منذ المرحلة الابتدائية حتى المرحلة الجامعية فما فوق ذلك ، واعتبارها هي اللغة الأولى في البلاد ، مع إهمال اللغة العربية ، بدعوى أنها لغة وطنية لا تحتاج إلى تعليم واسع ، وهم يخلطون في هذا الكلام بين اللغة العامية المنتشرة وبين اللغة العربية الفصحى ، لغة القرآن والسنة ، ولغة العلوم العربية على اختلافها ، لتنطلي الحيلة على أفراد الشعب ، فلا يمر على الشعب المغلوب عقود من السنين حتى ينشأ فيه جيل ينطق بلغة المستعمرين ، مثلما ينطق بها أهلها ، وأما لغته العربية الأساسية فتصبح لغة منسية أو شبه منسية ، حتى إذا أراد أن يتكلم بها أخذ يرطن فيها كما ترطن الأعاجم ، متعثراً بالحرف والكلمة وبالصياغة والتركيب ، بَلْه قواعد النحو والصرف .

    ثم يتبع ذلك الإلزام بأن تكون لغة المستعمرين هل لغة دوائر الحكومة ، ودواوين الدولة ، وهذه الصورة لون من ألوان الإلزام القهري للشعب المغلوب على أمره أن ينسى لغته الأساسية ، ويحل محلها لغة الغزاة المستعمرين ، ويرافق ذلك حرمان طالب العمل أو الوظيفة مما يطلبه ما لم يكن متقناً للغة الغزاة المستعمرين إتقاناً جيداً ، وفي هذا أيضاً لون من ألوان الإكراه على صهر الشعب المغلوب صهراً تاماً ، باللغة التي يفرضها عليه غالبوه ومستعمروه .

    وهذا ما حصل في بعض البلاد الإسلامية العربية ، التي غدت زمرة كبيرة من أجيالها لا تحسن النطق إلا باللغة الأجنبية التي فرضتها عليها الدوائر الاستعمارية ، بوسائلها التي تتسم بطابع الإكراه المباشر أو غير المباشر .

    ونجم عن ذلك ابتعاد هذه الأجيال ابتعاداً كبيراً عن مصادر الشريعة الإسلامية ، حتى صار أحدهم وهو العربي الأصيل لا يحسن تلاوة سورة من سور القرآن الكريم ، ولا يحسن قراءة حديث من أحاديث الرسول العظيم ، أو قصيدة من الشعر العربي ، أو كتاب قد كتب باللغة العربية ، مهما كانت عباراته ومفرداته سهلة لينة مستساغة .

    ولولا أن الله أنقذ بعض هذه البلاد بقيام حركات تحويرية ذات طابع إسلامي موصول بالقرآن الكريم ، لاستمرت في الخط الموغل في البعد عن الدائرتين الإسلامية والعربية ، حتى تكون في يوم من الأيام جزءاً لا يتجزأ من جسم الشعب الغازي ، المستعمر بأسلحته ولغته ودينه ، ومن أمثلة ذلك ما حاولته فرنسا في الجزائر ...

    ويمكن تلخيص خطة صهر الشعوب المغلوبة بالشعوب الغالبة بما يلي :

    1- جعل التعليم بلغة الشعب الغالب المستعمر إجبارياً في مختلف مراحل التعليم ، ولجميع الموالد التعليمية .

    2- إهمال اللغة العربية التي هي اللغة الأساسية للبلاد إهمالاً كلياً أو شبيهاً به ، أو جعلها في المراحل الأولى للخطة لغة ثانية لا لغة أولى ، ثم التخفيف من شأنها شيئاً فشيئاً ، حتى تصل إلى مرحلة الإهمال الكلي .

    3- التنفير من اللغة العربية ، بإثارة عبارات الاستهزاء منها ، ومن قواعدها ، والاستهانة بها ، مع الترغيب بلغة المستعمرين ، عن طريق تزيينها في النفوس ، وتوجيه الدعايات المختلفة لعلومها وفنونها وآدابها ، وربط المنافع الاقتصادية والعلمية والسياسية والصلات العالمية بها .

    4- جعل لغة المستعمرين هي اللغة الرسمية لدوائر الدولة المغلوبة ولدواوينها ، وكذلك يفعل اليهود في إسرائيل .

    5- حصر الوظائف والأعمال بالذين يتقنون لغة المستعمرين ، وتتبع دولة إسرائيل هذه الخطة مع الشعب العربي في فلسطين .

    إلى غير ذلك من وسائل أخرى تستخدمها الدوائر الاستعمارية ، لصهر ما يريدون صهره من الشعوب بهم صهراً كليَّاً ، حتى يفقدوا بذلك كل كيانهم الأصلي الشامل لكيانهم الديني واللغوي والتاريخي .

    ويتفق مع الدوائر الاستعمارية في محاربة العربية الفصحى جناحا التبشير والاستشراق ، وتؤازر الأجنحة الثلاثة الدوائر الصهيونية والدوائر الماركسية ، وأعوان جميع هؤلاء الأعداء ، وأجراؤهم ، وأنصارهم ، والسائرون في أفلاكهم .

    ومهمة المسلمين في مضادّة خطط هؤلاء تتجلى بالحرص على وحدتهم الدينية واللغوية التي تمثلها اللغة العربية الفصحى ، لغة القرآن ، ولغة رسول الإسلام محمد ولغة الأمجاد الإسلامية العظيمة .

    ( 3 )

    الدعوة إلى نشر العاميات واللهجات الإقليمية
    واعتبارها لغة العلم والأدب والفن


    من المخططات التي أعدها الغزاة لإقامة السدود بين الشعوب الإسلامية واللغة العربية الفصحى ، اتخاذ مختلف الوسائل لنشر اللهجات العامية الإقليمية ، والتشجيع على أن تكون هي اللغة الرسمية في البلاد ، والتشجيع على أن يكتب المسلمون بها علومهم وآدابهم وأشعارهم وقصصهم وتواريخهم وعقودهم وسائر معاملاتهم ، وأن يهجروا العربية الفصحى نهائياً ، بحجة أن معظم الشعب لا يحسنها ، وأنه متى انطلق يكتب بلغته العامية الدارجة استطاع أن يبتكر ويبدع ، ويساهم مع معظم أفراده في مختلف العلوم والفنون والآداب .

    وما هذه الحجج الضعيفة إلا ذرائع كلامية لخطة تهدف إلى تجزئ الشعوب الإسلامية ، والشعوب العربية ، وإقامة السدود اللغوية بينها ، التي ستجعل من الشعب الواحد شعوباً متعددة بمقدار تعدد أقاليمه ، حتى ينتهي الأمر إلى أن ينطق سكان كلِّ إقليم منها بلغة خاصة ، لا تمتُّ إلى لغة الإقليم الآخر بصلة فعلية إلا صلة الاشتقاق التاريخي من أصل واحد ، وهذا سينسى خلال عدد قليل من القرون ، ويمسي لكل إقليم لغته وقوميته وتقاليده الخاصة .

    ودراسة كثير من اللغات المتعددة في العالم ، تعطينا نماذج تطبيقية شتى ، للغات مختلفة فيما بينها كل الاختلاف ، مع أنها مشتقة في أصلها من لغة واحدة ، يمكن أن نُسميها بالنسبة إليها اللغة الأم ، ولكن انفصال اللهجات المحلية الإقليمية عن بعضها مضافاً إلى ذلك العامل الزمني الذي طالت فيه مدّة الانفصال قد أدى إلى تكوّن لغات متباينة ، لا يفهم الناطق بأحدها على الناطق بالأخرى .

    وقد عرف الأعداء الغزاة هذه الحقيقة لتاريخ اللغات المختلفة بين الشعوب ، فرأوا أن يُحدِثوا عزلاً صناعياً ينشأ عنه لغات متعددة لشعب واحد ، مماثلاً لظروف الانعزال الطبيعي ، الذي نشأ عنه في الأزمان الغابرة لغات مختلفة كل الاختلاف فيما بينها ، مع أنها كانت في أصولها واحدة ، ولكن انفصال أبناء الشعب الواحد عن بعضهم ، وانعزالهم في أقاليمهم ، واستمرارهم في تطوير لهجاتهم الإقليمية خلال حقب مديدة من الزمن ، قد أدى إلى تكوين عدد كثير من القوميات المختلفة ، وعدد كثير من اللغات المختلفة أيضاً .

    ومثال ذلك : اللغات السامية المتفرعة عن أصل ساميٍّ واحد ، واللغات اللاتينية المتفرعة عن الأصل اللاتيني ، وفي الهند ما يزيد على سبعين لغة إقليمية متفرعة عن اللغة الأصلية التي كان سكان الهند الأولون ينطقون بها ، ولولا ظل الدولة الإسلامية التي وحدت الهند طوال قرون على اللغة الأردية الغنية بالمفردات العربية لانفصل الهنود إلى قوميات كثيرة بعدد لغاتهم المختلفة ، ونجد نظير ذلك في الشعب الأندونوسي .

    وقد ظهرت الدعوة إلى العامية داخل البلاد العربية أول ما ظهرت في كتابات عدد من المستشرقين ، إذ قدموها في ثياب الناصحين لسكان هذه الأقاليم العربية ليصرفوهم عن لغة القرآن ، التي ينبغي أن تجمع المسلمين كلهم ضمن جامعة لغوية ودينية واحدة ، فكيف بالشعوب العربية الإسلامية ؟!

    وقد استطاعوا أن يزينوا كلامهم بوجهين : أحدهما إيجابي في صالح العامية الدارجة على ألسنة العامة ، وثانيهما سلبي ضد اللغة العربية الفصحى .

    فأعطوا العامية صفة اللين والسهولة ، والقدرة على تلبية رغبات جميع الأفراد في التعبير عمّا يخطر في أفكارهم ويختلج في نفوسهم ، وألبسوا العربية الفصحى صفات التعقيد والشدة والصعوبة ، وعدم تلبيتها لرغبات جميع الأفراد في التعبير عمّا يخطر في أفكارهم ويختلج في نفوسهم .

    وتظاهر هؤلاء المستشرقون بثياب الناصحين الشرفاء ، إذ زعموا أنهم يريدون للأمة الخير ، إذ أن فتح الباب للكتابة بالعامية سيطلق في الأفراد حوافز الاختراع والابتكار ، دون أن تقف الضوابط والقواعد التي تشتمل عليها العربية الفصحى عائقاً في طريق تسجيل أفكارهم ونشرها ، إلى غير ذلك من هذه المزاعم المغلَّفة بالمكر الشديد ، والتي لا تستطيع أن تقف على أرجلها أمام مناظر جدية مخلصة ، كما أنها لا تستطيع أن تحقق نفسها لدى التطبيق الفعلي .

    فلكل أمة لغة راقية تسجل بها معارفها وعلومها وأفكارها ، وهي لا تخلو من بعض الضوابط اللغوية التي تهيئ للمعاني أن تكون مصونة عن التحوير ضمن الألفاظ الكلامية التي تدل عليها ، ولها أيضاً لغة دارجة سهلة لينة على الألسنة ، يتخاطب أفرادها بها في شؤونهم اليومية ، فإذا أرادوا تسجيل شيء من ذلك صاغوه باللغة الراقية المنضبطة ، التي تحميها القواعد عن الاختلاف في المعاني .

    وهذا لون حضاري رفيع من ألوان الحضارة التي تكسب الأمم مجداً لغوياً راقياً .

    ( 4 )

    نظرة تاريخية إلى حركة التحويل عن الفصحى


    أ- أول من حث على التحول عن الكتابة باللغة العربية الفصحى إلى الكتابة بالعاميات الإقليمية داخل البلاد العربية ، المستشرق الألماني الدكتور "ولهلْم سبيتا" وقد كان مديراً لدار الكتب المصرية خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر ، في كنف الاحتلال البريطاني ففي سنة (1880م) وضع في ذلك كتاباً سماه "قواعد اللغة العربية العامية في مصر" وقد أورد في هذا الكاب نبذة عن فتح العرب لمصر في سنة (19هـ) وانتشار لغتهم بين أهلها ، وقضائها على اللغة القبطية ، لغة البلاد الأصلية حسبما يرى ، والتي لم يبق من آثارها سوى بعض المفردات ، وحاول في هذا أن يثير العنصرية العرقية المصرية ضد اللغة العربية ، ثم اختتم مقدمة كتابه بشرح الفكرة التي راودته طويلاً ، وهي اتخاذ العامية المصرية لغة أدبية إذ يقول : "وأخيراً سأجازف بالتصريح عن الأمل الذي راودني على الدوام طوال مدة جمع هذا الكتاب ، وهو أمل يتعلق بمصر نفسها ، ويمس أمراً هو بالنسبة غليها وإلى شعبها يكاد أن يكون مسألة حياة أو موت ، فكل من عاش فترة طويلة في بلاد تتكلم العربية يعرف إلى أي حد كبير تتأثر كل نواحي النشاط فيها بسبب الاختلاف الواسع بين لغة الحديث ولغة الكتابة".

    ثم أخذ يؤيد فكرته التي دعا إليها بمختلف الأدلة ، فتارة بالنَيل من العربية الفصحى ، وصعوبة قواعدها وطريقة كتابتها ، وأخرى بإعلاء شأن العامية التي يزعم أنه بذل جهداً كبيراً في استنباط القواعد لتنظيمها ، حتى يثبت صلاحها للاستعمال الكتابي ، ثم يقول :

    "وبالتزام الكتابة العربية الكلاسيكية القديمة لا يمكن أن ينمو أدب حقيقي ويتطور ، لأن الطبقة المتعلمة القليلة العدد هي وحدها التي يمكن أن يكون الكتاب في متناول يدها ، أما بالنسبة إلى جماهير الناس فالكتاب شيء لا يعرفونه بتاتاً ، فإذا احتاج رجل عادي من عامة الشعب إلى كتابة خطاب أو تنفيذ وثيقة فعليه أن يضع نفسه وهو مغمض العينين تحت يدي كاتب محترف ، ويجب عليه في ثقة عمياء أن يختم أهم الأوراق بختم لا يمكنه أن يقرأه ، ومن الممكن تقليده ، بل ويقلد في بعض الأحايين".

    قال "ولهلْم سبيتا" كلامه هذا إذ كانت الأمية منتشرة يومئذ ، فحاول تغشية الحقيقية ، بأن نسب التخلف إلى عوامل ذاتية في اللغة العربية الفصحى ، لا إلى عوامل أخرى ناشئة عن التخلف الاجتماعي والثقافي العام ، الذي كان انتشار الأمية بعض مظاهره ، ولو تسنى له الآن أن يطّلع وهو من وراء حجاب الزمن لرأى سيول الأجيال العربية ، التي أصبحت بحمد الله وفضله تحسن القراءة والكتابة ضمن قواعد اللغة العربية الفصحى إجمالاً ولرأى أن أكثرهم قد غدا باستطاعته أن يكتب بها ما يمر في خاطره ، وما يختلج في نفسه ، من أفكار ومعان علمية وأدبية وقانونية وعاطفية ، دون الحاجة إلى المفردات العامية وأساليبها ، ولرأى أن اللغة العربية الفصحى هي اللغة المشتركة الجامعة التي تتفاهم بها جميع الشعوب العربية مهما اختلفت لهجاتها الإقليمية المحلية ، ولو أن الشعوب العربية قد أخذت بنصيحته التي هم في غنى عنها لكانوا اليوم أشتاتاً ، ليس لهم لغة جامعة ، ولعاش كل قسم منهم في عزلة تامة عن أخيه ، ولأدى الأمر بين الشعوب الإسلامية العربية إلى قريب مما وصلت إليه الشعوب الإسلامية ذات اللغات المختلفة .

    وأدرك الدكتور "ولهلْم سبيتا" أن اعتراضات مهمة ستتوجه على مشروعه الخطير ، فحاول أن يقدم المبررات التخديرية التي ظن أنه قد يرضي بها الشعور الإسلامية عند المسلمين فقال :

    "فلماذا لا يمكن تغيير هذه الحالة المؤسفة إلى ما هو أحسن ؟ ببساطة لأن هناك خوفاً من تهمة التعدي على حرمة الدين إذا تركنا لغة القرآن تركاً كلياً".

    وقد أجاب على ذلك فقال :

    "ولكن لغة القرآن لا يكتب بها الآن في أي قطر ، فأينما وجدت لغة عربية مكتوبة فهي اللغة العربية الوسطى ، أي : لغة الدواوين ، وحتى ما يدعى بالوحدة بين الشعوب الإسلامية لا يمكن أن يقلقها تبني لغة الحديث العامية ، إذ أن لغة الصلاة والطقوس الدينية الأخرى ستظل كما هي في كل مكان".

    من الظاهر أنه بهذا الكلام قد حاول تخدير العواطف الإسلامية ، وذر الرماد في العيون ، وذلك لأن الحقيقة التي يعلمها هو بخلاف ذلك ، فلو أن العامية قد انتشرت انتشاراً واسعاً ، وأبعدت لغة القرآن عن الاستعمال ، لأمست لغة القرآن بعد قرون لغة مجهولة تماماً داخل الشعوب العربية ، وتتبعها في ذلك الشعوب الإسلامية قاطبة ، ولغدت العربية الفصحى شبيهة باللغات اللاتينية أو اليونانية القديمة أو السريانية غير المفهومة التي يرددها بعض الكهنة في كنائسهم .

    إن هذه الفكرة الخبيثة بمثابة خنجر مسموم حاول المستشرقون أن يغمسوه في قلب الإسلام ، ولكن الله تبارك وتعالى حمى الشعوب العربية من شرها ، فقامت النهضات المباركة التي تبنت نشر العربية الفصحى داخل هذه الشعوب ، وسارت مع مسيرة محو الأمية وبث المعارف والعلوم المختلفة ، ومهما كنا بحاجة ماسة إلى خطوات أخرى واسعة في هذا المضمار ، فإن حالة اللغة أصلح بشكل عام من ذي قبل ، وإن كان هناك تدن في الخيرة الممتازة من العلماء المتضلعين بالجوانب المختلفة للغة العربية الفصحى .

    ب- وأيد المستشرق الألماني "ولهلْم سبيتا" اللورد "دوفرين" في تقرير وضعه عام (1882م) دعا فيه إلى هجر اللغة العربية الفصحى ، وإحلال العامية المصرية محلها في مصر ، واعتبارها حجر الزواية في بناء منهج الثقافة والتعليم والتربية ، وقال في تقريره :

    "إن أمل التقدم ضعيف في مصر طالما أن العامة تتعلم اللغة الفصيحة العربية – لغة القرآن – كما هو في الوقت الحاضر".

    جـ- ثم تابع الدعوة إلى هذه الفكرة المستشرق الألماني الدكتور "كارْل فولرس" فقد تولى إدارة دار الكتب المصرية خلفاً للدكتور "ولهلْم سبيتا" وحمل بعده لواء الدعوة إلى هجر العربية الفصحى وإلى ضرورة الكتابة بالعامية الدارجة ، ووضع كتاباً سماه "اللهجة العربية الحديثة" وجه العرب فيه لاستعمال الحروف اللاتينية لدى كتابة العامية ، وحاول أن يدرس فيه قواعدها ، ممثلاً بكثير من نصوصها .

    أما مقدمة هذا الكتاب فقد تحدث فيها "كارل" عن اللهجات العربية الحديثة وتعددها بتعدد الأقطار التي انتشرت فيها العربية ، وتحدث عن وجوب دراستها ، لأنها بحسب زعمه لا تمثل حالة انحطاط وتدهور للعربية الفصحى ، وإنما هي لهجات قديمة ، كان لها تاريخ ونمو منفصل يرجع إلى عصور بعيدة ، وزعم أنها تختلف عن اللغة العربية الفصحى اختلافاً كلياً ، وحاول أن يعطيها صورة تستطيع أن تنفذ بها إلى ميدان الكتابة في مختلف العصور والأقطار .

    ثم أخذ يندد بجمود العربية الفصحى ، ويشبهها باللاتينية الكلاسيكية ، ويشبه العلاقة بينها وبين اللهجة العامية في مصر بالعلاقة التي بين اللاتنية الكلاسيكية والإيطالية .

    وغرضه من ذلك حث العرب على أن تكون للغاتهم العامية الدارجة آداب مكتوبة ، في جميع العلوم والآداب والفنون ، لعلَّلها تنافس العربية الفصحى ، وتحتلّ مكانها لديهم ، وعندئذ تموت لديهم الفصحى بطريقة تدريجية ، ويبتعدون عن المصادر الإسلامية الرائعة ، وينقسمون إلى أوصال وأجزاء متباعدة بعدد لغاتهم الإقليمية .

    وإذ زعم أنَّ اللهجات العامية الشائعة ذات جذور عميقة متصلة بلغات قديمة ، فقد حاول بذلك أن يدغدغ في الناطقين بهذه اللهجات مشاعر إقليمية محليّة ، مضادة للمشاعر الدينية المتعلقة بالعربية الفصحى تعلقاً روحياً وعلمياً وتاريخياً ، وحاول أن يحتال في هذا بغير الحيلة التي احتال بها سلفه "ولهلْم سبيتا" وهي التي أورد فيها أن العرب الذين فتحوا مصر هم الذين نشروا لغتهم بين أهلها ، وبذلك قضوا على اللغة القبطية لغة البلاد الأصلية ، وظاهر من كلام "سبيتا" أن العامية الشائعة حالة من حالات الانحطاط والتدهور للعربية الفصحى ، على خلاف كلام خلفه "فولرس" .

    د- وحمل أيضاً لواء الدعوة إلى العامية الدارجة المستشرق الإنكليزي "سِلْدُن ولمور" الذي كان قاضياً في المحاكم الأهلية بالقاهرة ، إبَّان الاحتلال البريطاني ، إذ أصدر في سنة (1901م) كتاباً سماه "العربية المحكية في مصر" اتجه فيه رائد الحملة المستشرق الألماني "سبيتا" فحاول دراسة العامية المصرية الشائعة ، ووضع قواعد لها ، ودعا إلى كتابتها بحروف لاتينية ، وإلى اتخاذها لغة أدبية ، واستغل دعوته هذه ليحقق بها هدفاً من أهداف الغزاة ، هو فصل المسلمين عن لغة القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وكنوز العلوم الإسلامية وإقامة الحواجز بينهم وبين ماضيهم المجيد ، وتفتيت الوحدة اللغوية القائمة بين الشعوب الناطقة بالعربية الفصحى .

    وقد استخدم هذا المستشرق في دعوته أسلوباً أكثر ذكاء من أسلوب من سبقه ، إذ عرض إقناعه لاتخاذ العامية لغة أدبية ، في صور تجعل معارضة الدعوة أمراً ذا خطر أكبر من الخطر الذي يتحاشونه ، هذا الخطر هو انقراض العامية الشائعة والعربية الفصحى معاً ، واحتلال لغة أجنبية محلها ، إذ قال :

    "ومن الحكمة أن ندع جانباً كل حكم خاطئ وجِّه إلى العامية ، وأن نقبلها على أنها اللغة الوحيدة للبلاد ، على الأقل في الأغراض المدنية التي ليست لها صبغة دينية ، وهناك سبب يدعو إلى الخوف هو أنه إذا لم يحدث ذلك ، وإذا لم نتخذ طريقة مبسطة للكتابة فإن لغة الحديث ولغة الأدب ستنقرضان ، وستحل محلها لغة أجنبية ، نتيجة لزيادة الاتصال بالأمم الأوربية".

    ولكن هذا الخطر الذي حاول أن يخوف منه قد حل محله بفضل الله وحمده طمأنينة على العربية الفصحى ، وذلك بعد نحو نصف قرن وأكثر من تحذيراته ، إذ أخذت الفصحى تنتشر وتزدهر ، ويُسهم انتشارها وازدهارها في ارتفاع مستوى العامية الشائعة ، إلى درجات حسنة من الرقي اللغوي ، وذلك بموت كثير من المفردات والأساليب النابية فيها ، الأمر الذي جعل يدنيها شيئاً فشيئاً من قواعد الفصحى ومفرداتها ، وإن كان ما يزال بينهما بون شاسع ، فإن كثيراً من مظاهر انحطاط العاميات قد بدأ يختفي اختفاء يدعو إلى التفاؤل بالتطور إلى الكمال ، والقرب من الأصل الفصيح .

    وأصبح حفظ القرآن بحمد الله ظاهرة منتشرة في الأجيال العربية الناشئة ، ولا يجد حفَّاظه صعوبة في حفظه ، مع أنه قمة الأداء الفصيح للعربية ، ولا يعوقهم حفظه عن الأخذ بجوانب المعرفة ، بل كثيراً ما يساعد على ذلك ، فنجد كثيراً من المتفوقين في دراسة العلوم هم من حفظة القرآن .

    هـ- وفي أثناء هذه الموجة التي أثارها "سلدن ولمور" نشر عالم أمريكي في فقه اللغة مقالة دعا فيها إلى اتخاذ العامية لغة أدبية ، وإلى كتابتها بحروف لاتينية ، وعبر فيها عن أمانيه بإدخال هذا التطور في بلد عربي مسلم ، وسار على الخط الذي سار عليه "سبيتا" من قبل .

    و- وحمل أيضاً لواء هذه الدعوة المستشرقان الإنكليزيان "باول" و"فيلوت".

    أما الأول فقد كان قاضياً في المحاكم الأهلية بالقاهرة ، وأما الثاني فقد كان أستاذاً للغات الشرقية في جامعة "كمبردج" وجامعة "كلكتا" وقد اشتركا في وضع كتاب أسمياه "المقتضب في عربية مصر" حاولا فيه أن يضعا قواعد لتسهيل تعلم اللغة العامية المصرية ، تلك اللغة التي ضاعت كرامتها على حد زعمها بتركها تنساب مفككة بدون ضوابط تربطها ، حتى أصبحت كأنها لا وجود لها ، لأن آدابها ليست مكتوبة ، وأخذا يرددان الشكوى من صعوبة اللغة العربية الفصحى ، ومن صعوبة كتابتها الخالية من حروف الحركة .

    ز- وأخطر من اضطلع بكبر الدعوة إلى إقضاء العربية الفصحى عن ميدان الكتابة والآداب ، وإحلال العامية الشائعة محلها ، وأكثرهم إلحاحاً وطول نفس ، المستشرق الإنكليزي ، "وليم ولكوكس" الذي كان مهندساً للري في القاهرة إبان الاحتلال البريطاني ، فقد وفد إلى مصر سنة (1883م) مع أوائل عهد الاحتلال ، وتولى الإشراف على تحرير مجلة الأزهر سنة (1893م) أي : بعد عشر سنوات من قدومه ، وذلك لمدة أشهر فقط .

    وقد كان لهذا المستشرق نشاط ظهر وتحمّس ملحّ ، في بث هذه الدعوة بين العرب ، فلم يأل جهداً في ذلك .

    ففي سنة (1893م) ألقى في نادي الأزبكية محاضرة بعنوان : "لم لم توجد قوة الاختراع لدى المصريين الآن" .

    وقد ضمَّن هذه المحاضرة الدعوة الملحة إلى الكتابة بالعامية ، وهجر العربية الفصحى ، ونشر هذه المحاضرة بالعربية في مجلة الأزهر ، إذ كانت هذه المجلة تحت إشرافه ، باعتباره ممثلاً لقوة الاحتلال الأجنبية .

    وهذه المحاضرة تدور حول ربط انحطاط قوة الاختراع والابتكار في العصور المتأخرة عند العرب (وهو يخاطب في هذا عرب مصر) بسبب اضطرارهم إلى أن يتقيدوا بالعربية الفصحى ، لدى الكتابة والتأليف ، وأنهم متى كسروا هذا الحاجز ، وصاروا يكتبون وينشرون باللغة العامية الشائعة نمت عندهم من جديد قوة الاختراع والإبداع .

    وقد يبدو هذا الرابط غريباً ، ولكنه استطاع أن يزور له سفسطة ينخدع بها أحداث الأحلام ، ويجد الأجراء فيها مجالاً للبحث وتزويق الألفاظ ، ولذلك حاولوا أن يروجوا لها في بعض صحفهم ومجلاتهم .

    إنه ربط انحطاط قوة الاختراع والإبداع بتقيد الناس لدى الكتابة والتأليف بالعربية الفصحى ، وحاول عن تعمد أن يتجاهل السبب الحقيقي الذي تكمن فيه مشكلة التخلف العام ، وهو لا يمتُّ إلى اللغة بصلة ما ، وإنما يرجع إلى أحاول اجتماعية كثيرة ، أهمها الجهل العام ، وانتشار الأمية ، وانصراف الناس للسعي وراء لقمة العيش ، وانشغالهم بالملذات المؤقتة ، وتكالب أعدائهم عليهم ، إذ أخذوا يفرضون عليهم ظروف التخلف بشكل مباشر أو غير مباشر ، وكان من نتائج تراكب عوامل التخلف عليهم حملهم على السير في الطرق المتعرجة المنحدرة ، بقوى متسارعة تتنامى كلما زادت نسبة الانحدار بعيداً عن مركز الانطلاق الكريم .

    ويتضح من محاضرة "ولكوكس" أن هدفه من الدعوة إلى العامية هو القضاء على العربية الفصحى ، ليحرم المسلمين من تراثهم العظيم الديني والعلمي والأدبي ، تنفيذاً للخطة الماكرة التي تهدف إلى طعن الإسلام في الصميم .

    وفي سنة (1926م) نشر "ولكوكس" رسالة بعنوان : "سورية ومصر وشمال إفريقية ومالطة تتكلم البونية لا العربية" .

    وهذه الرسالة تدور حول مزاعم تحايل لإثباتها بأدلة واهية ، وتقضي هذه المزاعم بأن اللغات العامية التي ينطق بها أهل الشام وأهل مصر وليبيا والمغرب وتونس والجزائر ومالطة هي اللغة الكنعانية أو الفينيقية ، أو البونية السابقة للفتح الإسلاميِّ ، ولا صلة لها بالعربية الفصحى ، وهدفه من ذلك كهدف زملائه من دعاة هذه الفكرة إثارة العصبيات القومية لهذه اللغات العامية ضد العربية الفصحى ، حتى يتشجع سكان هذه البلاد على اتخاذ لغاتهم العامية في كتاباتهم العلمية والأدبية والحقوقية وغيرها ، كيما تحلّ محلّ الفصحى ، وبتطاول الزمان تزداد الفروق اللغوية بينهم وبين الفصحى ، فتنقطع صلتهم بها ، وبذلك تنقطع صلتهم بمصادر الدين الإسلامي ، كما تزداد الفروق اللغوية بين سكان الأقاليم العربية ، ومع دسائس فكرية ونفسية وتاريخية تتأصل عصبيات إقليمية ضيقة الحدود ، ثم تتحول هذه العصبيات الإقليمية تدريجياً حتى تكون عصبيات قومية ، وعند ذلك يستطيع الغزاة أن يشحنوها بمقدار كبير من العداء والكراهة وعوامل الشقاق .

    وقد بلغ العداء في نفس المستشرق "ولكوكس" للعربية الفصحى مبلغه ، إذ جعل ينظر إليها وكأنها لغة جوفاء ، لا تحمل أي معنى من المعاني لسامعيها ، ممن يتحادثون بالعامية ، وما هي إلا ألفاظ رنانة فقط ، إذ يقول:

    "ومن السهل جداً أن ترى في هذه البلاد ذلك التأثير المخدر ، الذي تحدثه الألفاظ الرنانة ، التي لا تفهم منها لفظة واحدة في نفس السامع ، إن سماع مثل هذه الألفاظ يقتل في الذهن كل ابتكار بين أولئك الذين لا يقرأون ، كما تقتله أيضاً في نفس الطالب تلك الدروس التي تلقى عليه باللغة العربية الفصحى المصطنعة ، التي تبلغ الرأس دون القلب ، فتمنع من يتسمّون بالعلماء في هذه البلاد من التفكير البكر".

    وهكذا سار في رسالته على هذا النسق من المغالطات الفاحشة التي يعزو فيها حالة التأخر إلى العربية الفصحى .

    وكما هاجم "ولكوكس" في رسالته العربية الفصحى هاجم العرب بشتائم تكشف عن مبلغ حقده الصليبي عليهم ، فهم في نظره كسالى ، قتلة ، لصوص ، قطاع طرق ، جبناء ، ويستند في ذلك إلى مزاعم يسوقها على أنها تجارب شخصية ، ويحاول بذلك أن يحكم الفصل بين سكان سورية ومصر والمغرب العربي ومالطة وبين عرب الجزيرة ، تجزئة لهذه الأمة الواحدة في لغتها وتاريخها ورسالتها الدينية .

    وتصدت الكثرة الكاثرة من الناطقين بالعربية لمهاجمة الدعوة إلى العامية وهجر العربية ، وكان تصديهم مدعماً بالحجج القاطعة ، ومؤيداً بالبراهين الصحيحة ، وأخذوا يفندون المزاعم الواهية التي استند إليها حملة لواء هذه الدعوة ، ويهتكون الأستار عن الأهداف الحقيقية منها ، فلجأ "ولكوكس" إلى الإغراء بالمكافآت التشجيعية للذين يتبارون بكتابة الآداب والعلوم بالعامية ، فلم يظفر من ذلك بطائل يشجعه على تحقيق أمنية الدوائر الاستعمارية والاستشراقية ، ولما رأى أنه مُني بالفشل أعلن إغلاق المجلة التي أسسها لهذا الغرض ، بعد أن أصدر العدد العاشر منها .

    ح- وآزر الدعوة إلى العامية وترك الكتابة بالحروف العربية ، منخدعون ومأجورون ومستغربون من أبناء اللغة العربية ، وتحمس لها طائفة من رجال الكنيسة ، وانتقلت هذه الدعوة من مصر إلى المغرب وإلى لبنان .

    وانجرف في تيارها عدد من قادة الأدب العربي ، ما بين مساير للمستشرقين مسايرة تامة ، ومعتدل متوسط ، ومتخذ بعض الخطوات التي أطلق عليها اسم الإصلاح .

    فكان "لطفي سيد" من أوائل المصريين الذين حملوا لواء الدعوة إلى العامية بعد أن مهد لها دعاتها من المستشرقين .

    وفي إطار الدعوة إلى كتابة العربية بالحروف اللاتينية ، أو إصلاح الكتابة العربية ، قدمت عشرات من المشروعات ، أخطرها مشروع قدمه "عبد العزيز فهمي باشا" لكن مشروعه قوبل بالسخط والنكير الشديدين من حماة اللغة العربية الذائدين عنها .

    وكان من المتوسطين الذين دعوا إلى نشر اللغة الوسطى بين العامية والفصحى : "فريد أبو حديد – توفيق الحكيم – أمين الخولي" .

    ثم دعا "طه حسين" إلى شيء أسماه "تطوير اللغة" بتبديل الخط العربي أو إصلاحه وتهذيب قواعد النحو والصرف ، ولا يخفى ما في ذلك من مكر يقوم على أسلوب التدرج في التحويل ، لتحقيق الهدف الذي دعا إليه المستشرقون .

    ثم حمل لواء الدعوة التي دعا إليها المستشرقون الذين سبق ذكرهم عدد من أدباء العرب في لبنان وغيره ، منهم : "سعيد عقل – أنيس فريحة – ولويس عوض".

    وقد لا نعجب كثيراً إذا وجدنا معظم المتحمسين للفكرة من النصارى ، لأنهم يعبرون في ذلك عن كراهيتهم للإسلام ولغة القرآن ، ولكن نعجب أشد العجب إذا رأينا من أحفاد السلالات العربية الإسلامية من يستأجر للدعوة إليها .

    وعلى الرغم من أن الدعوة لم يكتب لها النجاح في العالم العربي ، إلا أن الغزاة المقنعين لم ييأسوا من تكرير محاولاتهم ، وتحريك أجهزتهم ، لعلهم يحققون بعض أهدافهم الرامية إلى طعن العربية الفصحى ، وطعن الإسلام من وراء ذلك ، وتمزيق وحدة الأمة العربية المسلمة .

    ففي حزيران سنة (1973م) انعقد مؤتمر في "برمّانا" بلبنان ، وفي هذا المؤتمر تقدمت بعض الهيئات الأجنبية بمشروع "العربية الأساسية" ويشتمل هذا المشروع على عناصر هدم لمعالم اللغة العربية ، ولما علم شيخ الأزهر يومئذ الدكتور الشيخ عبد الحليم محمود بما جاء في هذا المشروع أعلن استنكاره ، ووجه التحذير منه .

    وكشف الدكتور "عمر فروخ" في تقريره عما دار في المؤتمر خيوط المكيدة المدبرة ضدَّ اللغة العربية والإسلام ، إذ قال في تقريره :

    "وفي أثناء الجلسات الرسمية للمؤتمر ، وفي الفترات المتعددة بين الجلسات ، جرت بحوث واقتراحات وملاحظات ، جعلتني أوجس خيفة شديدة من المشروع... إن كل ما دار في مؤتمر برمّانا كان يولد فيَّ شعوراً بأن الغاية الأولى والأخيرة من المؤتمر الاهتمام بالعامية... لقد حضر هذا المؤتمر عدد قليل من اللبنانيين ، ونفر من العرب غير اللبنانيين ، (وكثرة) من الأجانب ، لفت نظري أن جلَّهم من الرهبان اليسوعيين ...".

    ( 5 )

    ردود على مزاعم خصوم الفصحى


    من جيد الردود المنطقية التي ظهرت إبان دعوة "ولكوكس" وأنصاره إلى العامية وهجر العربية الفصحى ، رد للأستاذ "إبراهيم مصطفى" إذ بيَّن فيه أن العربية الفصحى تحتل – بحسب صفاتها الذاتية واستناداً إلى المقارنات الموضوعية بينها وبين سائر اللغات – أرقى درجة من درجات الكمال التي تحتلها اللغات المنتشرة في العالم.

    لقد أشار إلى ما قام به علماء اللغات من تقسيم اللغات على تباينها إلى ثلاثة أقسام:

    القسم الأول : لغات أحادية المقطع ، وهي خالية من حروف المعاني ، وعدد كلماتها أقل من غيرها بكثير ، ولا تتغير صيغتها ، ولا تدل على النوع أو الكيفية أو العدد أو الزمن أو النسب بين الأشياء ، ولكن كل ذلك يفهم من تكييف الصوت بهذه المقاطع في الكلام المنطوق ، أما في الكلام المكتوب فيمكن فهمه من مكان الكلمة في الجملة ، ومن أمثلة هذا القسم اللغة الصينية ، وعدد كلماتها قليل جداً ، إلا أن هذه الكلمات تنطق على وجوه صوتية مختلفة للدلالة على المراد ، ويتطلب التمييز بينها مهارة خاصة في السمع ، وقد يعبَّر في هذا القسم من اللغات عن المعنى الواحد بعدد من الكلمات ، كأن يعبَّر عن معنى الأسرة مثلاً بما يلي : (زوج – زوجة – أولاد).

    القسم الثاني : لغات مزجية ، وهي لغات تعتمد على ضمِّ الكلمات بعضها إلى بعض للدلالة فيها على النسب الزمانية والمكانية وغيرها ، مع محافظة كل كلمة منها على صيغتها وشكلها ومعناها ، فالمعنى الذي يمكن تأديته بكلمة واحدة يحتاج للدلالة عليه في هذا القسم من اللغات إلى سطر طويل ، مؤلف من عدة كلمات مرصوصة ، ومن أمثلة هذا القسم اللغة اليابانية .

    القسم الثالث : لغاتٌ اشتقاقية ، وهي لغات تكون الدلالة فيها على مختلف النسب المتعلقة بالزمان أو المكان أو العدد أو الكيفية أو النوع أو غيرها ، بتغيير صور كلماتها عن طريق التصريف والاشتقاق ، مع المحافظة على المادة الأصلية للكلمة ، وللغات هذا القسم حروف معانٍ تربط الألفاظ والتراكيب بعضها ببعض ، ومن أمثلة هذا القسم اللغة العربية الفصحى ، واللغات الأوربية ، ولكن اللغة العربية تحتل المرتبة الأولى بينها ، لأنها تمثل حالة راقية من حالات التقدم الحضاري في الميدان اللغوي .

    إن القسم الأول من هذه اللغات إنما يمثل طوراً بدائياً من أطوار الحضارة اللغوية ، ولا يفي بالتعبير عن كل حاجات الأمم المتقدمة حضارياً ، ويتبعه القسم الثاني فيمثل طوراً أرقى نسبياً من الطور الأول ، وهو مع ذلك لا يفي كل الوفاء بالتعبير عن كل حاجات الأمم المتقدمة حضارياً ، وأما القسم الثالث فهو القسم الذي يمثل أرقى تطورٍ لغوي يفي بالتعبير عن جميع المعاني التي تحتوي عليها الحضارات الراقية .

    ثم أجرى مقارنة بين العربية الفصحى وسائر اللغات الاشتقاقية ، فأثبت أن العربية امتازات بخصائص تجعلها من أليق اللغات وأكثرها تلبية لحاجات العلوم ، فمن خصائصها الأمور التالية :

    أولاً : سعتها ، أي : كثرة عدد مفرداتها ، فبينما نجد عدد كلمات اللغة الفرنسية نحواً من خمسة وعشرين ألفاً ، وعدد كلمات اللغة الإنكليزية نحواً من مئة ألف ، ومعظم هذا العدد اصطلاحات علمية وصناعية ، وبسبب غنى العربية وسعتها نجد فيها للمعاني الشديد التقارب كلمات خاصة بكل معنى منها ، مهما كانت درجة التفاوت ، وبذلك لا يكون محلٌّ للالتباس أو الإبهام اللذين هما آفة العلم والأدب .

    ثانياً : توغلها في ميدان الاشتقاق ، متابعة للمعاني المترابطة ببعضها ، فللمادة الواحدة مصدر للدلالة على المعنى مجرداً عن الزمن ، وأفعال بعضها يدل على المعنى مقترناً حدوثه بالزمن الماضي ، وبعضها يدل على المعنى مقترناً حدوثه بالزمن الحاضر أو المستقبل ، وبعضها يدل على المعنى مقترناً بالأمر بفعله ، وللمادة أيضاً صيغة تدل على الشخص الذي فعل ذلك المعنى أو قام به ، وتسمى اسم الفاعل ، وصيغة أخرى تدل على المفعول به ، وثالثة تدل على زمانه ، ورابعة تدل على مكانه ، وخامسة تدل على النسبة ، وسادسة على التفضيل ، وسابعة على التعجب ، و ثامنة على التصغير ، وهكذا .

    وليس في أية لغة من لغات العالم هذا الانطلاق اللغوي المترابط في ميدان الاشتقاق اللفظي ، المناظر والمناسب لترابط المعاني فكرياً .

    ثالثاً : معظم مشتقاتها تقبل التصريف إلا فيما ندر منها ، وهذا يجعلها في طوع أهلها أكثر من غيرها ، ويجعلها أيضاً أكثر تلبية حاجة المتكلمين .

    وبهذا نستطيع أن نجعل اللغات العالمية مرتبة من الأدنى إلى الأعلى على الوجه التالية :

    1- اللغات أحادية المقاطع ، وهي في المرتبة الدنيا .
    2- اللغات المزجية ، وهي في المرتبة الثانية .
    3- اللغات الأوربية ، وهي في المرتبة الثالثة .
    4- العربية الفصحى ، وهي أرقى اللغات وأمثلها بالعلم .

    وعلى هذا التحليل العلمي المتين كان ردّ "إبراهيم مصطفى" على خصوم العربية الفصحى ، إذن فالذين يحاولون أن يحلو العامية محلها يريدون أن ينحطوا بالأمة العربية في ميدان الحضارة اللغوية ، إضافة إلى أغراضهم الأخرى الرامية إلى فصل المسلمين عن مصادر الإسلام ، وتجزئة الأمة العربية .

    أما الحجج الواهية التي يلوكها خصوم العربية الفصحى في محاولتهم إحلال العاميات محلها فلا تستطيع أن تقف في وجه حقيقة اللغة العربية إلا موقف اللص الجبان ، الذي يحاول أن يسرق الإنسان من نفسه ، ويجعله يتنازل طائعاً عن جزء من كيانه ، وعنصر من عناصر قوته. إن حججهم لا تعدو أن تكون مخادعة كلامية لا أساس لها من الحقيقة .

    وما مثل خصوم العربية الفصحى إلا كمثل جاسوس قوم معادين محاربين ، اندسَّ بين صفوف قوم آمنين مسالمين ، وكان لهؤلاء القوم المسالمين ميراث عظيم من قوة الحرب وآلاته ، ولكن القليل منهم الذين يحسنون استعمال هذه الآلات العظيمة التي لا يملك العدو نظيرها ، فلبس هذا الجاسوس الثعلب المندس فيه ثياب الناصحين ، وجعل يطوف بين صفوفهم ويقول : إن هذه الآلات الحربية المخزونة عندكم معقدة وصعبة الاستعمال ، والقليل منكم هم الذين يحسنون استعمالها ، وإنكم إذا تركتكم هذه الآلات الصعبة جانباً ، واستعملتم الأسلحة التي يُحسن استعمالها كل فرد فيكم ، وهي العصي والسكاكين والحجارة ، فإنكم ستتقدمون وتضاهون أعداءكم في قوتهم ، لأن كل فرد منكم سيساهم في عمل من أعمال الدفاع على قدر استطاعته ، وسينبغ بذلك فيكم أفذاذ قوة وأبطال شجاعة ، وبهذه الطريقة ستتهيأ للجميع فرصة الاشتراك في إحراز التقدم ، وإني ناصح لكم .

    ثم أخذ هذا العدو المندس يكرر هذا الكلام ، ويعيده مرة تلو المرة ، ويقلبه على عدة وجوه .

    فهل يقبل كلامه هذا أحدٌ من العقلاء المخلصين لأمتهم؟

    هيهات... ولكن سيقول الجميع إننا سندرب القادرين والقادرات من رجال أمتنا ونسائهم على استعمال هذه الآلات الحربية الضخمة التي يحويها ميراثنا العظيم ، ولأن نؤخر المعركة مع عدونا مدّة من الزمن بالمطاولة والمراوغة ، حتى نحسن استعمال ما لدينا من آلات حربية معقدة ، خير لنا من أن نعرض أنفسنا لمواجهة التهلكة ، إذ نخوض معارك القرن العشرين بأسلحة القرون الأولى من حجارة وعصيٍّ وسكاكين .

    وما أظنني قد بالغت في ضرب هذا المثل ، لإبانة وجه المكر الذي تنطوي عليه الدعوة التي أخذت تحاول أن تخدع الأمة العربية الإسلامية ، لتهجر العربية الفصحى ، لدى كتابة العلوم والآداب ، ولِتُحِّل محلها العاميات المختلفة فيما بينها اختلافاً كبيراً ، ولتستبدل الرسم اللاتيني برسمها .

    وقد انكشف لنا تماماً أن هدف العدو من ذلك أن يقطع الصلة بين الأمة العربية الإسلامية وبين تاريخها ودينها وعلومها ، ويقيم الحواجز اللغوية الغليظة بين أبناء الأقاليم والأقطار العربية ، كما أقام بينهم من قبل الحواجز السياسية المصطنعة ، وغاية ما لدى ثعلب النصيحة من حجج ما يلي :

    الحجة الأولى : أن كثيراً من سكان الأقطار العربية لا يحسنون الكتابة والقراءة بالعربية الفصحى .

    وقد غدت هذه الحجة بعد أقل من نصف قرن حجة ساقطة ، إذ أخذت العربية المنضبطة وفق قواعد الفصحى تنتشر بين الأجيال العربية الحديثة ، انتشاراً مواكباً لانتشار العلم بينها ، حتى أصبح العامي الذي لا يحسن العربية الفصحى يمج بالذوق استماع النص الملحون ، من الخطيب أو المحاضر أو مذيع الراديو ، ويحسُّ بأن فيه خللاً وإن كان لا يعرف وجه ذلك الخلل .

    الحجة الثانية : أن الاكتشافات العلمية والمخترعات الحديثة كثيرة ، وليس في العربية الفصحى كلمات تدل عليها .

    ويبدو أن هذه الحجة في منتهى الضعف أيضاً ، وردها يكون من وجهين :

    أولهما : أن لغات العالم كلها بما فيها العاميات الشائعة في الأقطار العربية ، ليس فيها كلمات تدل على ما يحدث من مكتشفات علمية ومخترعات حديثة ، وهي تلجأ إلى إدخال مصطلحات حديثة على لغاتها لتدل عليها .

    وثانيهما : أن العربية الفصحى فاتحة بابها لضم أية مصطلحات جديدة لمعان علمية مبتكرة ، وأسماء لمخترعات حديثة ، مثلما اتسعت في عصور التدوين لألوف من المصطلحات النحوية والصرفية والبلاغية والفقهية والفلسفية والطبية والكيميائية والفيزيائية وغيرها ... وكل هذه المصطلحات لم تكن معروفة قبل العصور الإسلامية ، والمجامع العربية مسؤولة عن توحيد المصطلحات الحديثة ، واختيار الألفاظ العربية المناسبة للمستحدثات من المعاني الفكرية ، والأشياء المادية ، ومسؤولة عن تعميمها على الأقطار العربية .

    الحجة الثالثة : صعوبة اللغة العربية ، وهذه الحجة معارضة بالنظير ، فالعاميات التي يدعون إلى ضبطها ستكون أكثر صعوبة من الفصحى المضبوطة بالقواعد ، بسبب الشذوذات الكثيرة الموجودة في هذه العاميات ، يضاف إلى ذلك أن الأمة الواحدة ستحتاج إلى تعلم نحو عشر لغات عامية على الأقل ، حينما يتطاول العهد عليها وتزداد الفوارق في العاميات المختلفة الشائعة في أقاليمها ، أو سيحدث الانفصام التام الذي هو شر من تحمل بعض الصعوبة في تعلم العربية الفصحى .

    على أن شيوع الفصحى سيخفف كثيراً من صعوبتها ، إذ يجعلها مثل لغة التخاطب العادي ، أو داخلة في كثير من عناصره ، وقد وقع بعض هذا فعلاً .

  6. افتراضي


    ( 6 )

    دغدغة العواطف القومية القديمة للتحويل عن العربية الفصحى


    استغل الغزاة من أعداء الإسلام والمسلمين ، دغدغة العواطف القومية القديمة لتحويل الشعوب الإسلامية عن اللغة العربية الفصحى ، وكان لدغدغة هذه العواطف وجوه كثيرة المكر ، يحملها الأجراء ، وينخدع بها كثير من أصحاب الرعونات ، الذين يندفعون بالانفعالات المؤقتة ، التي يصطنع الشياطين لها الظروف والأجواء والبيئات النفسية والفكرية والاجتماعية المناسبة .

    فإذا ظهر مدغدغو العواطف القومية بين ذوي الأعراق الهندية مثلاً أثاروا فيهم القومية الهندية ، وأظهروا حماستهم للحضارة الهندية القديمة ولآدابها وعلومها ولغتها السنسكريتية الأولى ، ونبشوا المقابر المهجورة منذ قرون ، واستخرجوا منها العظام الباليات ، وربطوا في أفكار الهنود التأخر عن ركب الحضارة الحديثة بصلتهم بالإسلام ، وبنفوذ اللغة الأردية التي وحدت شعوب هذه البلاد إثر الفتح الإسلامي تحت راية واحدة ، والتي كتبت بها علومهم وآدابهم التي تصلهم بالإسلام والمسلمين ، في حين أنهم لا يثيرون مثل ذلك في بلاد وثنية بحتة ، مختلفة عن ركب الحضارات تخلفاً فاحشاً يقدر بعشرات القرون ، مع أنها ما زالت محافظة على قومياتها ولغاتها القديمة .

    وإذا ظهروا مثلاً في شمال إفريقية أثاروا بين سكانها القومية البربرية ، وتظاهروا بالحماسة للهجاتها ، وأسرعوا يضعون مختلف الكتب التي تضمن دراسة اللهجات البربرية وقواعدها ، لإحلالها محل العربية الفصحى ، بينما يكتب هؤلاء المستشرقون التقارير السرية إلى حكوماتهم الاستعمارية ، يقولون فيها كما جاء في تقرير بعضهم :

    "من الواجب صرف الجهد إلى التقليل من أهمية اللغة العربية ، لتحويل الناس عنها ، بإحياء اللهجات المحلية ، واللغات العامية في شمال إفريقية ، حتى لا يفهم المسلمون قرآنهم ، وحتى يمكن التغلب على عواطفهم".

    وإذا ظهروا مثلاً في تركيا أثاروا بين الأتراك عواطف القومية التركية الطورانية ، وصوروا لهم أن المدنية والحضارة التركية من أقدم الحضارات ، فهي تتصل بالمدنيات والحضارات البابلية والآشورية القديمة ، ولا صلة لها بالحضارة الإسلامية ، وحاولوا خدعهم بهذه الأقوال ، ثم صوروا لهم أن طريق مجهم رهن بقطع الصلة بينهم وبين الشعوب الإسلامية ، لا سيما الشعوب العربية ، ورهن بالسير في الركب الأوربي الحديث ، وبهدم جميع الأبنية الإسلامية القائمة بينهم ، وصوروا لهم أن خطوات الإصلاح يجب أن تبدأ من هذا المنطلق .

    وقد استجاب حزب تركيا الفتاة ، وجمعية الاتحاد والترقي لهذه الدسائس ، وقادهما المأجورون ، والأعداء المقنعون ، والرعاع المستغفلون ، في المسيرة التي رسمها الغزاة من أعداء الإسلام ، فأثاروا عوامل التفرقة بينهم وبين سائر المسلمين ، وبذلك تقطعت حبال قوية من روابط الوحدة الإسلامية ، وانهارت قوة المسلمين الكبرى ، وأعلن انقلاب "كمال أتاتورك" الخطة العلمانية ، وألغى الخلافة الإسلامية ، وحرم على الشعب التركي النطق باللغة العربية ، حتى في عباداته الدينية ، وألغى الكتابة بالرسم العربي ، وجعل مكانه الكتابة بالحروف اللاتينية ، وجنى الأعداء الغزاة ثمرة دسيستهم ، واستطاعوا بذلك أن يفصلوا مسلمي الترك عن مسلمي العرب حقبة من الزمن ، سار فيها كل من العرب والترك ، ضمن خطوط السير التي رسمها لهم من قبل شياطين الدسائس والمؤامرات على الإسلام والمسلمين .

    وهذا ما جعل المستشرق الألماني "كامغماير" يقرر في شماتة فيقول :

    "إن تركيا منذ حين لم تعد بلداً إسلامياً ، فالدين لا يدرّس في مدارسها ، وليس مسموحاً بتدريس اللغتين العربية والفارسية في المدارس...

    وإن قراءة القرآن العربي وكتب الشريعة الإسلامية قد أصبحت الآن مستحيلة بعد استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية...".

    ولكننا نقول لصاحب هذا التقرير ولكل أجنحة المكر بالإسلام والمسلمين : إنه لن يطول – بعون الله – أثر مكيدتهم ، فستبرز – بإذن الله – النهضات المباركة المضادة لأعمالهم ، ولن يستطيعوا أن يطفئوا نور الله ، والبشائر الإسلامية في تركيا قد ظهرت ، ولا بد أن تتفجر عيونها – إن شاء الله – من ثنايا الصخر الذي سدَّ به الأعداء الغزاة ينابيع الحق والهداية .

    ثم إذا ظهر الأعداء الغزاة بين الشعوب العربية بشكل عام أثاروا بينهم القومية العربية ، وتصيدوا لهم أخطاء الشعوب الإسلامية الأخرى ضدهم ، وهي الأخطاء التي عملت جنود الغزاة على إيجادها أو تنميتها عند أولئك ، كما عملوا على إيجاد نظيرها عند العرب ضد الشعوب الإسلامية غير العربية .

    وحينما يثير الغزاة في العرب عواطف القومية العربية ، يرجعون بهم إلى العصور الجاهلية المتخلفة عن كل ركب حضاري ومدني ، متجاوزين بذلك جميع العصور الإسلامية الذهبية ، التي قاد فيها العرب المسلمون الفتح الديني والحضاري ، منذ ظهور الإسلام ، الذي صنع فيهم ذلك الانقلاب الحضاري التاريخي ، فبدد ظلمات الجاهلية بنور العلم والمعرفة والأخلاق والحضارات الإنسانية الراقية .

    ولكن الغزاة إذ يتظاهرون بالدعوة إلى القومية العربية ، لتقف صفاً واحداً في مواجهة القوميات الإسلامية الأخرى ، يظلون في حالة تخوف من وحدة الشعوب العربية ، حتى مع الرجع الجاهلي ، لأنهم يخشون أن تظل هذه الشعوب على صلة بمصادر الدين الإسلامي ، وتاريخ المسلمين وعلومهم ، فكان لا مندوحة لهم من سلوك خط السير الآخر ، بعد أن رأوا أنهم قد فصلوا المسلمين من العرب عن سائر الشعوب الإسلامية ، تحت ستار القوميات ، وذلك بأن يتابعوا التجزئة ، فيجزئوا الشعوب العربية إلى قوميات أصغر وأقل تجميعاً عددياً من القومية العربية ، بإثارة قوميات تاريخية قديمة لدى سكان الأقاليم العربية ، وبالتنقيب عن العظام النخرة في مقابر القرون الأولى .

    فإذا ظهروا في مصر دغدغوا في المصريين العواطف الفرعونية ، وأحيوا بينهم تاريخ رمسيس ، وبناة الأهرامات ، وأمجاد القرون الأولى السابقة للإسلام ، وزعموا لهم أن العامية المصرية ذات جذور قديمة لا صلة لها بالعربية الفصحى ، وأن تقدمهم الحضاري الآن متوقف على إحياء كل ما له صلة بالآثار الفرعونية ، من علوم وآداب وفنون ، ونصحوهم بأن يهجروا العربية الفصحى ، وبثوا بينهم من يحمل هذه الدسائس ، وأرادوا أن يحمل حزب مصر الفتاة مثل المهمة التي حملها من قبل حزب تركيا الفتاة وجمعية الاتحاد والترقي ، إلا أن معظم جهودهم قد كانت تبوء بالفشل عن تحقيق كامل الغاية المرسومة ، ولا تعطيهم كامل الثمرات التي يرجونها ، بفضل قادة الدفاع الذين تصدوا لفضح مؤامرات الغزاة ، على اختلاف العوامل المحرضة لهم على ذلك ، فكان منهم عوامل دينية ، واحتل أصحابها صف الدفاع الأول ، وكان منها عوامل عربية ، واحتل أصحابها صف الدفاع الثاني .

    وإذا ظهروا في سورية ولبنان والأردن حاولوا أن يدغدغوا في سكان هذه البلاد عواطف القومية السورية الواسعة ، مستغلين أمل شعوب هذه البلدان بالوحدة الكبرى ، التي يرون من خطواتها أنواع الانضمام الجزئي مهما كان نوعه ، وفي ضمن هذه القومية السورية يحاولون أن يحيوا قوميات قديمة سابقة للفتح الإسلامي ، وأن ينبشوا المقابر المهجورة عن عظامها النخرة البالية ، كالفينيقية ، والكنعانية ، إلا أن جهودهم في إحياء القوميات السورية قد باءت بالفشل أيضاً ، فلم يكتب لها النجاح الذي يرجونه منها ، ولم يؤت الثمرة المتوخاة ، للتناقض التام بين شعوب هذه البلدان وبين هذه الدعوة التي ولدت ميتة ، بعد أن كانت هذه البلدان صاحبة لواء الدعوة إلى وحدة الأمة العربية ، يضاف إلى ذلك ارتباط معظم سكانها بالإسلام ارتباطاً عاطفياً قوياً .

    وإذا ظهروا بين الأكراد أثاروا فيهم القومية الكردية ، وهو أمر لا بد أن يظهر مع التعصب للقومية العربية ، وقالوا هم : هؤلاء العرب قد أحيوا قوميتهم العربية غير مبالين بالإسلام ، فما بالكم أنتم لا تفعلون مثل ذلك ، فتحيون قوميتكم الكردية ، وتعملون لها ، وتبرزون كيانكم المستقل بين شعوب الأرض .

    وكذلك يفعلون ، ففي كل شعب لهم وجه ، وفي كل أمة لهم طريقة ، وفي كل حالة لهم لبوس .

    والهدف الذي يرمون إليه على اختلاف وجوههم واحد ، والغاية التي يعملون لها واحدة ، ألا وهي هدم الإسلام ، وإبعاد الشعوب الإسلامية عنه ، وتفتيت وحدة هذا الجيل المنيع الذي يضمُّ الشعوب الإسلامية برابطة الإسلام القوية المتينة .

    ( 7 )

    مزاعم إصلاح رسم الخط العربي


    أما دسائس النصيحة الكاذبة التي تدور حول إصلاح رسم الخط العربي ، فما تزال رياح المستشرقين والمستغربين تدير فيها بين حين وآخر طواحين هوائية مثيرة للجعجعة ، داخل عدد من العواصم العربية ، كأن في هذا الرسم العربي مشكلة كبرى تعوق الناطق العربي عن التقدم ، وتعرقل المسيرة العلمية والإنتاجية المطلوبة.

    أ- فمرة ينادون بإصلاحه عن طريق استبدال الحروف اللاتينية به ، مع أن الحروف اللاتينية قاصرة عن استيفاء حروف الهجاء العربية ، كما يعترف بذلك المستشرق الإيطالي "نالينو" رغم عداوته للإسلام وكتابته ضده ، إذ يقول في اعترافه:

    "إن الخط العربي موافق لطبيعة اللغة العربية ، ولو أدرنا استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية لتحتم علينا إيجاد حروف جديدة نضيفها إلى الأبجدية اللاتينية الحالية ، لكي تعبر عن الأصوات العربية التي تمثلها حروف : ج – ح – خ – ش – ط – ظ – ص – ض – ع – غ – ولاحتجنا كذلك إلى التمييز بين الحروف المتحركة الممدودة وبين الحروف المقصورة" إهـ .

    ونحن نعلم أن الغرض الدفين من هذه الدسيسة ليس هو تسهيل القراءة على المتعلمين ، وإنما الغرض منه – كما سبق أن عرفنا – فصل الشعوب العربية عن ثرواتها الإسلامية ، وقطع الصلة بين الأجيال القادمة وبين القرآن الكريم ، وأحاديث الرسول العظيم ، وسائر الكتب الإسلامية المرسومة بالخط العربي ، وتكليف الأجيال العربية جهوداً عظيمة جديدة لا داعي لها ، بعد أن تفقد كل كنوزها دفعة واحدة .

    ولست أدري لماذا يطالبنا المستشرقون الاستعماريون وأجراؤهم بإصلاح الرسم العربي الموجز ، المساير للمنطوق من الحروف إلا فيما ندر جداً ، مع ترك ضبط حركاتها لحفظ الناطق العربي لمفردات لغته ، ويساعده الشكل على ذلك في بعض المراجع المشكولة ، كما يساعده الضبط التام في المعاجم .

    وعلى فرض التسليم بأن هذا نقص في الرسم العربي ، ففي اللغات الأجنبية ما هو أفحش منه ، مع أننا لم نجد واحداً من الناطقين بتلك اللغات ، ولا واحداً من المستغربين الذين يردّدون أقوال المستشرقين ، ينادي بإصلاح الرسم فيها ، فما هذه المفارقات التي تنم عن العداء للإسلام ومصادره؟.

    إن متعلم اللغة الإنكليزية مثلاً يعاني من عيوب كتابتها ما لا يعانيه متعلم الكتابة العربية ، ففي كثير من كلماتها حروف لا تنطق بحال من الأحوال ، ويكلف متعلم هذه اللغة أن يكتب هذه الكلمات مع زوائدها التي ليس فيها ما يعقل المعنى ، وليس لها قاعدة ثابتة ، ومن الواجب عليه أن يحفظها حفظاً حسبما يلقن طريقة رسمها .

    فمثلاً : الكلمة الإنكليزية التي يجب أن تكتب كما يلي : "write" يجب أن تقرأ "rit" بمعنى يكتب ، وأن يحذف القارئ اعتباطاً دلالة حرف "w" وحرف "E" . والكلمة الإنكليزية الأخرى المماثلة لها لفظاً والمخالفة لها معنى ، يجب أن تكتب كما يلي "right" بمعنى صحيح أو صواب ، وأن يحذف القارئ اعتباطاً دلالة حرفي "GH" . والكلمة التي يجب أن تكتب كما يلي "know" يجب أن تقرأ "now" بمعنى يعرف مع حذف حرف "k" اعتباطاً . والكلمة التي يجب أن تكتب كما يلي : "light" يجب أن تقرأ "lit" بمعنى يضيء أو ضوء ، وأن يحذف القارئ اعتباطاً دلالة حرفي "GH" . والكلمة التي يجب أن تكتب كما يلي : "laugh" يجب أن تقرأ "laf" بمعنى يضحك ، وأن يبدل القارئ بذهنه الحروف "ugh" بحرف "F" . ونظير ذلك كثير جداً .

    والحروف الصوتية عندهم ليس لها صفة صوتية ثابتة ، وقراءتها وكتابتها يجب أن يكون كل منهما معتمداً على السماع والحفظ .

    فلماذا لا ينادي المستشرقون بضرورة إصلاح رسم الكتابة الإنكليزية وغيرها من اللغات ، التي هي بحاجة إلى الإصلاح أكثر من حاجة الكتابة العربية ، حينما ينادون فيما بينهم بإصلاح رسم الكتابة العربية؟!

    ألا يكشف هذا عن أهدافهم السيئة ضد الإسلام واللغة العربية من أساسها؟

    وبهذه المناسبة يطيب لي أن أنصح مخلصاً بإصلاح الكتابة الإنكليزية وغيرها من اللغات اللاتينية .

    ولدى اختبار النتائج على واقع حال دارسي العلوم باللغة العربية ، ودارسي العلوم باللغات الأجنبية ؛ نلاحظ أن رسم الكتابة العربية لم يكن في يوم من الأيام عائقاً لأي ناطق عربي عن متابعة العلم ، ولم نجد أجيالنا العربية الحديثة التي شقت طريقها إلى العلم تتخلف دراسياً عن مستوى الوسط العام الذي عليه الأجيال الأوربية ، مع أن أبناءنا في معظم الأحيان يدرسون لغتين أجنبيتين ، إلى جانب دراستهم علومهم باللغة العربية المنضبطة على قواعد الفصحى ، وبرسم الكتابة العربية .

    ب- ومرة ينادون بإصلاح رسم الكتابة العربية عن طريق إدخال عناصر جديدة في بنية كلماتها .

    وهذه حيلة غير خافية من حيل المراوغة ، أرادوا بها مداراة الشعور القومي عند الشعوب العربية مداراة مؤقتة ، لأن هذا الاقتراح يحمل من عوامل الهدم مثل الذي يحمله الاقتراح الأول سواءً بسواء ، إذ سيؤدي أيضاً إلى قطع الصلة بين الأجيال العربية القادمة وبين كنوزهم العظيمة ، التي تحتوي ثرواتهم العلمية الدينية والدينية ، وهي مكتوبة ومطبوعة بالرسم العربي المتبع .

    كما أنه سيكون مرحلة تمهيدية تعطي المبررات لتحويل الكتابة إلى الحروف اللاتينية ، ما دامت الصلة قد انقطعت فعلاً كلها أو بعضها بالتحوير الجديد ، الذي يريدون له أن يتم عن طريق المجامع العربية .

    وقد تقدمت طائفة بعضها حسن النية وبعضها مجهول الهدف بمقترحات لهذا الإصلاح ، ولكن هذه المقترحات قد باءت بالفشل أمام وعي أكثرية الشعوب العربية ، وبسبب صعوبة المجازفة بخطوة خطيرة من هذا النوع ، من شأنها أن تعبث بجزء ذي أهمية بالغة من كيان الأمة العربية في جميع أقطارها وأمصارها ، إذ لا يخص بلداً بعينه ، أو قطراً واحداً داخل الوطن العربي والإسلامي الكبير .

    وأخيراً اقتصرت بعض المقترحات على تسهيل الكتابة المطبعية فقط ، دون تغيير في أساس الرسم العربي ، وسيظل هذا الاقتراح أيضاً بعيداً عن مجال التنفيذ ، لأنه اقتراح من شأنه أن يسهل على عمال المطابع فقط ولا علاقة للجماهير العربية به ، وخير له أيضاً أن لا يرى النور ، لأن إثمه أكبر من نفعه ، إذ هو منزلق مهما يكن يسيراً فقد يتبعه منزلقات أخرى ، تمس جهور الكتابة العربية ، وتهدم كيانها ، وهو كيان ذو تاريخ عظيم.

    ( 8 )

    غزو الفصحى عن طريق العبث بقواعدها


    ومن الدعوات المشبوهة الهدامة التي أطلقت باسم الإصلاح دعوت نادت بتبسيط اللغة العربية الفصحى وتطويرها .

    وتدفقت تحت هذا العنوان المقترحات العديدة التي تضمنت النيل من أسس قواعد العربية الفصحى ، بغية هدمها باسم تبسيطها وتطويرها.

    فمن ذلك المقترحات التالية:

    المقترح الأول : إلغاء صورة الإعراب في الكلام العربي ، واللجوء إلى تسكين أواخر الكلمات.

    ويحمل هذا الاقتراح في ظاهره التسهيل على الناطق بالعربية ، ولكنه يحمل في باطنه هدم الصروح التي قامت عليها هذه اللغة العظيمة ، وذلك يؤدي مع الزمن إلى التلاعب بمعاني معظم المصادر الإسلامية والعربية ، لأنه متى ألغي الإعراب فقد ألغيت المستندات التي يتحاكم إليها في تحديد المعاني ، ثم تحتاج اللغة الجديدة المسكنة الأواخر إلى قواعد أخرى تضبط بها المعاني.

    ولست أدري كيف تفهم الأجيال التي ستنشأ على إلغاء الإعراب مثل قول الله تعالى في سورة (فاطر/35 مصحف/43 نزول):

    {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}

    وقوله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول):

    {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ...}.

    فلو ألغي الإعراب وسكنت أواخر الكلمات لكان المتبادر في النص الأول أن الله هو الذي يخشى العلماء ، لا أن العلماء هم الذين يخشونه ولكان المتبادر في النص الثاني أن إبراهيم هو الذي ابتلى ربه ، لا أن ربه هو الذي ابتلاه ، مع أن الأمر في كل منهما بعكس ذلك ، وقاعدة الإعراب هي التي حددت هذه المعاني ومنعت عنها الالتباس.

    المقترح الثاني: إيثار كل لهجة أو لغة عربية قديمة توافق العامية ، كإيثار اللغة التي تجعل الأسماء الخمسة تلزم الألف دائماً ، وإيثار اللغة التي تجعل المثنى يلزم الألف في جميع حالاته.

    وهذا المقترح من شأنه أن يكلف المتعلمين تطويع ألسنتهم أن ينطقوا بالعربية مرتين ، مرة يتقنون بها قراءة المصادر الإسلامية والعربية وفق القواعد التي استقرت عليها لغة قريش ، ونزل بها القرآن الكريم ، وأخرى وفق هذا المقترح .

    والأسهل من ذلك التزام الطريقة التي نزل بها القرآن.

    المقترح الثالث : حذف بعض قواعد النحو أو تعديلها ، ومن أمثلة ذلك حذف باب الممنوع من الصرف ، واعتبار جميع الكلمات مصروفة ، وإلغاء قاعدة التخالف بين العدد والمعدود في التذكير والتأنيث وجعل العدد موافقاً لمعدوده دائماً تذكيراً وتأنيثاً ، وإبقاء المفعول به منصوباً في حال بناء الفعل للمجهول ، وإلغاء صيغ جموع التكسير في الأسماء التي يجوز جمعها جمع المذكر سالماً وجمع تكسير ، والاكتفاء بصيغة جمع المذكر السالم ، وإلزام المنادى والمستثنى حالة واحدة من الحالات ، فيكون منصوباً دائماً أو مرفوعاً دائماً.

    وكأني بهذا المقترح يتضمن محاولة وضع لغة جديدة مشتقة من أصول اللغة العربية ، وسيلة لإلغاء اللغة العربية والتخلص منها ومن المصادر العظيمة المكتوبة بها ، خدمة لأغراض الأعداء الغزاة ، تحت ستار التسهيل على الناطق العربي.

    ولا ندري ما سر هذا الإلحاح على تطوير اللغة العربية أو تحريفها أو تغيير أصولها!؟ وكيف يتبناه طائفة من أبناء العربية استجابة للدسائس التي كان قد بثها طائفة من المستشرقين الاستعماريين ، وما يزالون يدفعون إلى تبنيها عدداً من أجرائهم أو السائرين في أفلاكهم من المستغربين؟!

    مع أن في اللغات العالمية الأخرى صعوبات وشذوذات عن القواعد القياسية لا تقل عما في اللغة العربية الفصحى ، ثم لا نجد أحداً من الشرقيين أو المستشرقين ولا من الغربيين أو المستغربين ينادي بإصلاح تلك اللغات ، أو تغيير شيء من قواعدها وأصولها المتبعة ، ومن الثابت أن في هذه اللغات عاميات يجري بها حديث الناس في شؤونهم العامة ، وفيها إلى جانب ذلك لغة راقية منضبطة يكتب بها العلماء والأدباء ، ويسجلون بها آثارهم التي يريدون لها أن تكون خالدة.

    وقواعد كل لغة هي القوانين التي يجب اتباعها ، للدلالة على المعاني التي يريدها من أراد النطق أو الكتابة بتلك اللغة ، ولتأليف الكلام في كل لغة نظام خاص لا يجوز الإخلال به ، ولا يكون الكلام مفهوماً ولا مصوراً للمراد حتى يكون متقيداً به غير زائغ عنه ، وأية محاولة لتغيير هذه القوانين اللغوية المتبعة في أية لغة ، لا تخلو عن أن تكون عملية اختراع لغة جديدة ، اختراعاً كلياً أو جزئياً ، وقد يكون أمر اختراع لغة ما حدثاً من الأحداث التي تقذف نفسها إلى ميادين التجربة في حياة الناس ، لولا ارتباط الناس بتاريخ حضاري عملي صنعته آلاف الملايين من الآباء والأجداد ، ولولا ارتباط لغتهم الموروثة بأهم الأحداث العظيمة التي تربط الناس بخالقهم ، إذ اختارها لإعلامهم بدينه وشرائعه وعظاته وأخباره عن أحداث النبوات والرسالات الأولى.

    وهدم هذه اللغة تصميم على تنفيذ مؤامرة الزيغ عن دين الله ورسالته الخالدة لخلقه ، وتحويل للأمة العربية عن مكان القيادة في مجال الدعوة إلى دين الله ، وبيان رسالة الإسلام للناس ، وقذف بها إلى مؤخرة الأمم ، حيث تجد نفسها مضطرة إلى أن تتلقف صدقات الناس ، بعد أن تركت كنوزها ، إذ يكون عليها حينئذ أن تدفع ضريبة الحماقة التي سلكتها مهانة وفقراً وذلاً ، وأن تقف بين الأمم الأخرى موقف الأيتام على موائد اللئام.

    وهذا ما يريده للمسلمين الأعداء الغزاة.

    ( 9 )

    غزو اللغة العربية بالمفردات الأجنبية الدخيلة


    في العالم العربي غزو جديد تعرضت له اللغة العربية ، إنه غزو متنها بالمفردات الكثيرة الدخيلة من اللغات الأجنبية الشرقية أو الغربية ، مع إمكان ترجمة هذه المفردات بما يفهمه الناطق العربي من لغته.

    وقد نَفَّذ هذا الغزو بقصد أو بدون قصد مترجمو الكتب والبحوث الأجنبية ، وفي مقدمتهم مستوردو الأفكار التي يريدون لها أن تغزو المعاقل الإسلامية ، وتكسر أسوار الحصون الفكرية عند المسلمين ، وقد تعمد هؤلاء أن يبقوا لهذه الألفاظ ظلها الغامض ، حتى يكون لغموضها إشعاع سحري يجعل لها تأثيراً على نفوس أمثال الببغاوات ، من البسطاء الذين تعلموا صناعة الكتابة والقراءة ، فهؤلاء يرددونها دون أن يفقهوا معانيها وما ترمي إليه , كما يسمح لها أن تهيمن على عقول العامة الذين يستسلمون للذين يرددونها , كما استسلموا من قبل لموجة العلوم المادية الحديثة ومصطلحاتها , واضطروا أن يقبلوا بها في مجالات كثيرة , وأهمها المجال الطبي الذين يسمعون فيه حشداً لا حصر له من أسماء الأدوية المستوردة , التي لا حيلة في ترجمتها , وهم يظنون أن كل ما يأتي به العلم الحديث ينبغي أن يكون بلغة لا يفهمونها.

    وامتلأت الكتب الحديثة والصحف والمجلات والخطابات والمحاضرات في الأندية والإذاعات وسائر وسائل الإعلام , بهذا السيل المخيف المتدفق على متن اللغة العربية من المفردات الدخيلة الشرقية والغربية.

    ولست أدري ما حاجة اللغة العربية إلى إدخال مثل كلمة "بيولوجي" في متنها , مع إمكان ترجمتها بما يساوي معناها المراد , وهو "علم الحياة". أو إدخال مثل كلمة "فيزيولوجي" مع إمكان ترجمتها بما يساوي معناها , وهو "علم وظائف الأعضاء". أو إدخال مثل كلمة "سيكلوجي" مع إمكان ترجمتها بما يساوي معناها , وهو "علم النفس".

    ونظيرها كلمات كثيرة , مثل : "جيولوجي – ايديولوجي – سيسيولوجي – آنثروبولوجي – ديماغوجي – ديكتاتوري – ديمقراطي – أوتوقراطي – أورستقراطي – بروليتاريا – راديكالي – فولكلور – كوكتيل" إلى آخر هذا الحشد من المفردات الدخيلة , التي بدأت تغزو متن اللغة العربية من غير حاجة إليها , لإمكان ترجمتها بما يدل على معناها من اللغة العربية الفصيحة.

    أما الأعلام الأجنبية كأسماء الأشخاص , وأسماء الأدوية , وأسماء البلدان , فهذه لا مندوحة من قبولها بألفاظها , ولا مجال للاعتراض عليها , لعدم إمكان ترجمتها , وقد قبلت اللغة العربية منذ القديم هذا النوع , ولكن مجال البحث في ألفاظ المعاني التي يمكن ترجمتها إلى ألفاظ عربية , أو يمكن وضع مصطلحات عربية لها.

    إن قبولنا بتحدي هذه الكلمات الأجنبية في غزوها لغتنا العربية , استخذاء وخنوع لا يرضى به مسلم حريض على لغة الكتاب المجيد , وقد كان من الواجب أن لا يرضى به عربي يرى أنه يناصر قوميته , فما بال جمهورٍ كبير من مثقفينا العرب يفتحون صدورهم لتقبل هذا الغزو الأجنبي للغتهم , ويتولونه بأنفسهم , ثم يتنطعون بين العامة والخاصة بترديد هذه الألفاظ الدخيلة , التي يوهمون بها أنهم أصحاب معرفة واسعة بالعلوم الحديثة , لذلك فما على الجماهير إلا أن تستسلم لقيادتهم وتخضع لإرادتهم.

    والمحذور الخطير في الأمر ما يفعله ترديد المفردات الدخيلة في المكتوبات العربية , وتداولها على الأسماع , من تهيئة الجو المناسب لها كيما تنتشر وتتمكن بين الجماهير العربية , حتى تكون هي الكلمات المحفوظة , وبعد حقبة من الزمن تنسى ترجمتها العربية , ويصير الدخيل هو الأصيل صاحب الدار , إذ تتقبله الألسن , وتنسجم معه الأفكار , ومن شأن هذا الأمر أن يعبّد الطريق أمام موجات جديدة من المفردات الأجنبية العديدة , التي يراد لها أن تغزو لغتنا العربية , وحينما يكثر الدخيل الذي يزاحم المفردات العربية ويحل محلها , تصبح مهمة حملة لواء عزل العربية الفصحى عن ميادين الكتابة والعلم أسهل من ذي قبل.

    وعند ذلك يرى أعداء اللغة العربية أن الفرصة قد سنحت لهم , لإقامة الجدار الغليظ بين الشعوب العربية وبين اللغة العربية الفصحى , وبإقامة هذا الجدار يرون أنهم قد ظفروا بعزل العرب المسلمين عن المصادر الإسلامية , التي ما تزال تجدد فيهم شباب العقيدة والنظم والتعاليم الإسلامية العظيمة.

    ولكن الله تبارك وتعالى سيحفظ كتابه القرآن , رغم مخططات أعداء الإسلام ضده , وسيحفظ اللغة العربية التي أنزل كتابه بها , حتى يظل نوره مشرقاً , ويستمر تعليمه حجةً على الناس , ويبقى صلةً دائمة بين الله ومن يريد أن يسلك سبيل الهداية من عباده , والله متم نوره ولو كره الكافرون.

    ( 10 )

    طلائع المستجيبين لمكيدة إحلال العاميات محل الفصحى


    أول من استجاب للكتابة بالعاميات الإقليمية دور السينما العربية والمسارح , وكتاب الأغاني , وبعض أصحاب المجلات الفكاهية , والهزلية , ومروجو الفنون الشعبية.

    وعلى الرغم من انطلاق هؤلاء في هذا المضمار , مع اختلاف الدوافع التي أملت عليهم ذلك , ومنها دوافع تتصل بمهماتهم الفنية والتجارية البحتة , فقد ظلت النسبة العظمى من هذه الكتابات أقوالاً تُسمع ولا تُقرأ , وما يُقرأ منها فهو ذو طابع زمني , ينقرض بانقراض زمانه , شأنه كشأن معظم الأحاديث والقصص والفكاهات والأمثال العامية , التي تدور على ألسنة العامة في أوقاتها , دون أن يجد فيها الجيل اللاحق الأثر الذي كان يجده فيها الجيل السابق.

    وهذه التجارب التي تمر بها ميادين الفنون , ستقدم الدليل القوى على أن العاميات الإقليمية ليس من شأنها أن يكتب لها الخلود والبقاء , إذ ستنتصر عليها العربية الفصحى , وتثبت أنها هي الجديرة بالبقاء , لما تتمتع به من رقي لغوي , وضبط تامٍ يستطاع معه الطمأنينة على ضمان وسلامة المعاني , وحفظها من الميوعة والتحريف , والبلى مع الزمن.

    وإننا ننصح لهؤلاء الذين اختاروا لأنفسهم مسالك الفنون , أن يتحسسوا بشيء من واجبات لغتهم وواجبات تاريخهم عليهم , وهم من أبناء هذه الأمة , وذلك بأن يرتقوا بلغة الفن شيئاً فشيئاً , حتى يدنوها من العربية الفصيحة , وحتى يساهموا بنشرها بين الجماهير الكثيرة , التي تشاهد فنونهم أو تسمعها , كما نهيب بهم أن يرتقوا بها في مراتب الأدب الرفيع , والتوجيه الكريم إلى مكارم الأخلاق , وإلى مختلف الفضائل الفكرية والنفسية والاجتماعية , وأن لا يجعلوا الميادين الفنية سوقاً لكلّ رخيص مبتذل , ولا مرتعاً للمباذل اللفظية والعملية.

    ولا يظنوا أن الفرق واسع بين العامي والفصيح , فالقضية ميسورة إذا بذلوا في سبيلها بعض الجهد , وما عليهم إلا أن يعربوا الكلمة , وأن يختاروا من المفردات السهلة الدارجة على الألسن ما يوافق الفصيح , وما أظن هذا الأمر صعباً على من يبذل عشرات الألوف لإنتاج مشهد تمثيلي واحد للشاشة أو المسرح.

    أما الأغاني فأمرها أيسر وأسهل , وتصحيحها مطلب قريب المنال لكل قاصد والمسؤولية في هذا تقع على المؤلفين والملحنين والمغنين معاً.

    وعلى كلّ من يريد لأدبه أن يكون خالداً أن يكتبه بلغة القرآن الذي تكفل الله بحفظه , ومن حفظه حفظ العربية الفصحى التي أنزله بها , ولَنْ يظفر الأعداء الغزاة بطائل كبير في حربهم لهذه اللغة العظيمة , ما دام منزل القرآن قد تكفل بحفظه , وخيرٌ لهم أن يبذلوا هذه الجهود الطائلة في أمور تنفعهم في بلادهم وتنفع أمتهم , وما لهم ولهذا الصرع مع كتاب الله واللغة التي أنزله الله بها ؟

    لقد عملوا على هدم الإسلام من كلّ جانب عبر قرون , فلم يظفروا بإلغائه ولا محوه , ورأوا أنهم كلما زادوا المسلمين اضطهاداً ومؤامرات ومكايد , دار الزمن دورته , فتفجَّر حقل إسلامي جديد من جهة من جهات الأرض , فقدم نفسه للعالم نوراً مشرقاً , ودعوة خيرة , وقوة ذات بأس ومنعة.


    ( 11 )

    نحن والغزاة



    تحرص كلّ الشعوب على لغاتها , وتحاول الاحتفاظ بها , ونشرها بين الناس , كما يفعل الاستعماريون , وغيرهم من ذوي النزعات القومية.

    ونلاحظ تمسّك اليهود تمسكاً شديداً بالعبرية , ضمن دوافع دينية وعرقية قومية , ولو نشأ ناشئوهم بين شعب لا يتكلّم العبرية مطلقاً , وقد يصل التعصب ببعضهم إلى رفض تعلم لغة أخرى.

    وتفاخر الأمم بالروائع الأدبية والروائع العلمية المكتوبة بلغاتها والمصوغة بألسنتها ؛ إذ تشعر في ذلك بلون من ألوان المجد المتصل بذاتياتها ولغاتها الممثلة لصورة الرقي الذي بلغه أسلافها , والذي يمنحهم الشعور بأن وراثة عوامل المجد مستمرة فيهم , وهذه العوامل سيكون لها بين حين وآخر ثمرات متجددة , بينما تشعر أمم أخرى بكثير من الخجل والضآلة , إذا لم تجد في تاريخها الغابر روائع علمية أو أدبية تبرهن للناس على مدى الرقي الذي بلغه أسلافها , الأمر الذي قد يشعر هؤلاء الأحفاد بأنهم لا يملكون النصيب الذي يفخرون به من وراثة عوامل المجد , وبأن القصور الذي أصيب به آباؤهم وأجدادهم قد يكبو بهم أيضاً على مرّ الزمن.

    هذه ظاهرة من الظواهر الإِنسانية , ذات الأثر في مجتمعات الناس , وإننا نجد أنفسنا مضطرين لعرضها في ميادين البحث الإِِنساني , سواء أقرها التحليل العلمي أو تردد في إقرارها , لأن كلَّ ظاهرة اجتماعية لا بد أن يكون لها عامل أو أكثر من العوامل النفسية داخل الأفراد , وهي التي تمثل بشكل عام جانباً من خصائص الأمة.

    ولما كانت اللغة العربية الفصحى تحوي ذخائر الروائع الأدبية والعلمية , التي لا تطاولها ذخائر أخرى في العالم ؛ حق للأمة العربية في جميع عصورها أن تفخر بهذه الذخائر , وأن تحرص عليها , وأن تكون وفية لأسلافها , وذلك بالمحافظة على متن لغتها الراقية , وقواعدها التي كتبت بها هذه الذخائر , وضبطت بها علومها وآدابها.

    وجدير بالأمة العربية فوق ذلك أن تفخر بالشرف العظيم الذي منحها الله إياه , إذ أنزل بلغتها العربية الفصحى القرآن المجيد , آخر الكتب الربانية للناس وخاتمها , وجامع زبدة ما أنزل فيها من علم وهداية , وقد امتن الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى الأمة العربية بهذا التشريف إذ قال تعالى في سورة (الزخرف / 43 مصحف / 63 نزول) :
    {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ}.

    أي : وإن القرآن لشرف عظيم لك ولقومك , إذ أنزل باللغة العربية التي تنطقون بها , فتوّج ذخائر علومكم وآدابكم بتاج المجد الخالد , الذي لا يطاوله مجد آخر , لما يتمتع به من حكمة وحق وإعجاز في لفظه ومعناه.

    وإذا اختار الله اللغة العربية الفصحى لإِنزال آخر كتبه للناس بها , الجامع لزبدة ما في الكتب السابقة من هداية وحكمة , والذي أعدّه الله للخلود , وتعهد بصيانته وحفظه من التحريف والتبديل والنسيان والضياع في لفظه ومعناه , فمن المؤكد أن يكون لهذا الاختيار حكمة تتصل بجوهر هذه اللغة وخصائصها , لذلك نجد في القرآن الكريم آيات عشراً تنوه بأنه قرآن عربي :

    أ - فمنها قول الله تعالى في سورة (الشعراء / 26 مصحف / 47 نزول) :

    {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ }.

    فالقرآن بلسان عربي مبين , وظاهر في وصف اللسان العربي بالإِبانة المدح له بالدقة والضبط في تأدية ألفاظه وتراكيبه وقواعده وأساليبه البلاغية للمعاني التي يقصد إليها البليغ , حينما يستخدم هذا اللسان للتعبير عما يريد الإِبانة عنه , واللسان العربي هو اللغة العربية الفصحى التي أنزل الله بها القرآن.

    والقرآن ليس بدعاً بين الكتب المنزلة , فما احتواه من هداية وحق وحكمة قد أنزله الله موزعاً في كتب الرسل الأولين , وهذا ما دلّ عليه قول الله تعالى :
    {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ}

    ب - ومنها قول الله تعالى في سورة (يوسف / 12 مصحف / 53 نزول) :

    {إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}

    وقوله تعالى في سورة (الزخرف / 43 مصحف / 63 نزول) :

    {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ *}.

    ونستطيع أن نفهم من قول الله تعالى في هذين النصين : "قرآناً عربياً لعلكم تعقلون" أن في اختيار إنزاله قرآناً عربياً حكمة عبّر عنها بقوله : "لعلكم تعقلون" أي رجاء أن تعقلوا ما فيه من معانٍ , لأن اللغة العربية لغة فيها من القواعد الرصينة والأساليب البلاغية ما يضبط الدلالة على المعاني الكثيرة المرادة , ولا يسمح لها أن تكون مائجة مائعة رجراجة , أو رجاء أن تعقلوا هذا التشريف الربّاني للغتكم , فتحافظوا على هذا الكتاب , وتحافظوا على هذه اللغة التي اختارها الله من بين لغات الأرض لغة خاتم كتبه للناس بها , مع أن من آياته جلّ وعلا اختلاف ألسنة الناس وألوانهم.

    جـ - ومنها قول الله تعالى في سورة (الأحقاف / 46 مصحف / 66 نزول) :

    {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَـذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ}.

    وقوله تعالى في سورة (فصلت / 41 مصحف / 61 نزول) :

    {حـم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ *}.

    وقوله تعالى في سورة (طه / 20 مصحف / 45 نزول) :

    {وَكَذلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً}.

    وقوله تعالى في سورة (الزمر / 39 مصحف / 59 نزول) :

    {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.

    ففي هذه النصوص يؤكد الله مِنّته على الأمة العربية بإنزال القرآن بلسانها , تشريفاً للغتها وتكريماً لها.

    وإن كتاباً قد بلغ هذا المجد العظيم حقيق بأن تبذل من أجل الحرص عليه حياة أجيال , وحقيق بأن تكون لغته محور لغة الأمة التي شرّفها الله به , وأن يكون صراطه سبيل حياتها , وأن تكون مبادئه وفلسفته أسس عقائدها ومفاهيمها.

    أما الذين يحاولون صرف الأمة العربية والشعوب الإسلامية عن العربية الفصحى , فهم يعملون ليخلعوا عن هذه الأمة مجدها العظيم.

    ومع اعترافنا بأن الخطة الذكية , التي سلكها الأعداء الغزاة , المشتملة على استئجار أجراء من داخل البلاد الإسلامية , لتحقيق أهدافهم في هدم الإِسلام , قد كانت أكثر نجاحاً من خططهم السابقة التي واجهوا بها المسلمين صراحة , وهم يعلنون عداءهم الصريح لهم ولدينهم ولماضيهم وكل ما يتصل بهم.

    ومع اعترافنا أيضاً بأن أبناء المسلمين الذين تربوا على أيدي أعداء الإِسلام , وتأثروا بهم , قد كانوا أكثر إنفاذاً لأفكار الغزاة وأكثر نشراً لها داخل المجتمعات الإِسلامية من الأعداء أنفسهم , لأنهم من جلدتهم , وينطقون بلغتهم , ويتظاهرون بالغيرة عليهم , ويستطيعون أن ينفذوا إلى مراكز القيادة فيهم , ويجد كلٌ منهم عشيرة تناصره , وعصابة تؤازره , وجماهير تحسن به الظن , لأنه بحسب الظاهر غير متّهم على قومه , إذ هو منهم , مع أنه في الحقيقة قد خرج بأفكاره وعواطفه الصادقة عنهم خروجاً بيناً , بسبب عملية الصهر البطيء الذي تعرّض له , من قبل أعداء قومه ودينه , منذ نشأته في المدارس التي تطبق خطط الأعداء , فهو في كل إساءاته لأمته ولأمجادها وأبنيتها الحضارية يحسب أنه يصلح ولا يفسد , ويساهم في تقدم أمته لا في تأخرها , وصاحب هذا الظن شر على أمته من صاحب الخيانة , لأن الأجير الخائن يعمل بمقدار الأجر الذي يدفع له , ويظل جباناً خائفاً يحاذر الفضيحة , أما هذا فإنه يقوم بأعمال الهدم باذلاً كل قوتّه , متحمساً للأفكار الفاسدة التي حملها معتقداً لها , حتى أمست جزءاً من كيانه النفسي والفكري.

    مع اعترافنا بما سبق فإن الإصلاح لا يعدم وسيلة تنفذ إلى الواقع الفاسد , بالإقناع والترغيب والترهيب والتربية والتقويم القسري.

    ولو تسنى للمصلحين الظفر بإقناع الذين انحرفوا من أبناء أمتنا , حتى يعلموا أنهم قد كانوا ضحايا غزو فكري أعده أعداء أمتهم بإحكام بالغ , لهدم مباني مجدها التاريخي العظيم , لانقلبوا بقوة أشد عنفاً على أفكارهم التي حسبوها خيراً وهي شرٌ لهم ولأمتهم , ولعادوا إلى تدعيم المباني التاريخية التي يعملون اليوم على تهديمها , بكل ما أوتوا من قوة.

    وما على الطلائع المؤمنة بالحق والخير إلا أن تضطلع بمهمة نشر ما تؤمن به , غير متواكلة ولا متخاذلة.

    ففي ردّ هجمات التحدي التي يوجهها خصوم اللغة العربية الفصحى بين حين وآخر إلى حصونها وقواعدها , بغية الفصل بين الشعوب الناطقة بها وبين كنوز الإسلام المحفوظة فيها , يجب على العرب خاصة وعلى المسلمين عامة أن يقابلوا هذه الهجمات بالصمود والثبات , إن لم يردوها بهجمات مناظرة على أسس اللغات الأخرى , التي يحاول الناطقون بها نشرها بين أمم الأرض , وإحلالها محلّ لغاتها الأصلية , ويوجهون جهوداً ضخمة على وجه الخصوص لمحو اللغة العربية حاملة رسالة الإسلام.

    وخطة الصمود والثبات تفرض على الأمة العربية ثم على سائر الشعوب الإسلامية أن يعملوا على نشر العربية الفصحى بين الأجيال الناشئة في بلادهم , ثم أن يعملوا أيضاً - إن استطاعوا - على نشرها بين شعوب الأرض قاطبة , بأحدث وسائل النشر , وأقرب أساليب تعليم اللغات , ولا أقل من أن تكون هي لغة التخاطب بين الشعوب الإسلامية التي يبلغ عددها ربع سكان الكرة الأرضية.

    هذا واجب إسلامي يطالب به جميع المسلمين , وهو واجب عربي يطالب به جميع العرب.

    وتتحمل مناهج التعليم وبرامجها وخططها الدراسية وكتبها المدرسية والمدارس التي تطبق ذلك أثقل أعباء هذه المسؤولية الخطيرة.

    وأي تهاون أو تقصير في أمر العناية بالعربية الفصحى من قبل المؤسسات المسؤولة عن وضع المناهج والبرامج والخطط الدراسية والكتب المدرسية , والمسؤولة عن الإشراف على المدارس التي تطبقها , سيكون مساهمة سلبية , تمكن لخصوم اللغة العربية , أن يظفروا ببعض ثمرات هجمات التحدي عليها وعلى الإسلام , الذي يمثل بالنسبة إليها قوة الحماية غير المنظورة , التي يعرفها الخبيرون , ويتجاهلها المغرضون.

    فمن الواجب أن تضم المناهج الدراسية لجميع مراحل الدراسة النسبة الكافية من علوم اللغة العربية , وأن تعطى هذه المناهج من الخطط الدراسية النسبة الكافية من الساعات الأسبوعية , وأن يشجع المؤلفون والمنتجون بكلّ وسائل التشجيع المغرية لابتكار الطرق التعليمية السهلة لهذه اللغة , ولتأليف الكتب الملائمة التي تحبب اللغة العربية لروادها , وأن تقدم العلوم على اختلافها باللغة العربية الفصيحة اللينة السهلة , التي لا تقعير فيها ولا تعقيد , وذلك منذ أول المرحلة الابتدائية حتى نهاية المرحلة الجامعية , وأن لا يسمح بتدريس العلوم المختلفة باللغات الأجنبية , مهما دعت الضرورة إلى ذلك , فضرورة المحافظة على اللغة العربية أشد , والأمر ميسور لمن طلبه وسعى إليه , وأن تعد الجوائز والمكافآت للكتَّاب والأدباء والشعراء الذين يقدمون ثمرات إنتاجهم العلمي أو الأدبي , المتقيد بأصول اللغة العربية متنها وقواعدها والمتقيد بأصول العقائد والأخلاق الإسلامية , وأن تعقد مجالس محادثات عامة أسبوعية أو شهرية في كل معهد علمي مهما كان مستواه الدراسي للطلبة والمدرسين ، يلزم فيها المتحدثون بأن يتقيدوا بالعربية الفصحى ، مهما كانت موضوعات الأحاديث ، ولو كانت من الأحاديث العادية غير ذات الشأن ، وأن تقوم مؤتمرات دورية في العالم الإسلامي يشارك فيها ذوو الاختصاص لاكتشاف أحسن الوسائل لتسهيل نشر اللغة العربية في العالم.

    ويقع قسم آخر من عبء هذه المسؤولية ، على المجامع العربية التي يجب عليها أن تعمل بكل جهدها ، على توحيد المصطلحات العربية لمختلف العلوم والفنون الحديثة ، وأن تصدر في سبيل تحقيق هذه الغاية على شكل دوري مجلة عربية رسمية موحدة ، تنشر فيها ما تتلقاه من طلبات ووضع مصطلحات عربية في مختلف العلوم والفنون ، تفد إليها من جميع المؤسسات التعليمية وغيرها ، ثم تنشر فيها جميع القرارات التي تتخذها بشأن المصطلحات العربية الحديثة ، وقبل أن تتخذ قراراتها لا بد أن تطرح موضوعاتها على الرأي العام العربي ، طالبة تقديم المقترحات حول المعاني العلمية أو الفنية الجديدة التي تريد أن توجد لها مصطلحات عربية.

    ومن الخير أن تحدّد هذه المجامع مكافأة مادية لكلّ مصطلح ينال لدى المجامع العربية أولولية الإقرار ، ومن ثم يلزم الكتاب والمؤلفون والمحاضرون بأن يتقيدوا بهذه المصطلحات التي توضع لها المعاجم الخاصة ، على أن تجدد طباعتها بين حين وآخر ، مضافاً إليها ما استحدث من مصطلحات.

    وأخيراً فإن القسط الباقي من عبء هذه المسؤولية يقع على جميع المؤسسات الرسمية والدوائر الحكومية في جميع البلاد العربية ، وعلى وسائل الإعلام المختلفة الشاملة للإذاعات والصحف والمجلات والأندية والمؤسسات الاقتصادية العامة أو الخاصة.

    أما نشر اللغة العربية بين الشعوب الإسلامية فيتطلب عملاً إسلامياً عاماً تتحمل البلاد العربية فيه قسطاً كبيراً من مسؤوليته.

    ومن وسائل تحقيق هذا الهدف افتتاح مراكز لتعليم اللغة العربية في كل بلد من البلاد الإسلامية ، بالاتفاق مع حكومات هذه البلاد ، ولن تكون مشكلة التمويل كبيرة متى اقتنعت هذه الدول الإسلامية بضرورة الأمر ، إذ ستتحمل كل دولة منها معظم أعباء المراكز التي تؤسس داخل دولتها ، وما على الدول العربية في إطار التعاون مع الشعوب الإسلامية إلا أن تقدم الخبرات والمعلمين المدربين الكتب الملائمة.

    ومن الوسائل تذليل تعلّم وتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها ، وعن طريق الكتب الميسرة السهلة ، والتعليم الإذاعي ، والتعليم التلفزيوني ، وأشرطة التسجيل السمعية ، والسمعية البصرية ، ومعامل اللغة ، والمسابقات العامة ، وغير ذلك.

    هذه طائفة من الوسائل التي نستطيع أن نخدم بها لغتنا العربية ، وستكون فائدتنا جليلة جداً في المجال الدولي العام إذا حققنا هذا الأمل العظيم.

    * * *

  7. افتراضي




    الفصْل الثاني عشر
    الغزاة وتفصيل أعمالهم في الإفساد
    الخلقي والسلوكي

    1- تكسير معاقد الترابط الاجتماعي وتقطيع أوصاله.
    2- العبث بجذور الأخلاق.
    3- طريقا التضليل والاستدراج إلى الانحراف السلوكي.
    4- الوسائل:
    الأولى : استخدام عنصر المال .
    الثانية : استخدام عنصر النساء .
    الثالثة : الاهتمام بالمرأة في مجالات العلم والثقافة والفن .
    الرابعة : فتنة الاختلاط وسفور المرأة .
    الخامسة : استخدام الآداب والفنن .
    السادسة : استخدام عنصر الحكم .
    السابعة : استخدام المسكرات والمخدرات .
    الثامنة : استخدام وسائل اللهو واللعب .
    التاسعة : الاهتمام بإفساد الفتيان والفتيات .
    العاشرة : استخدام وسائل الترف والرفاهية .
    الحادية عشرة : سياسة المستعمرين غير الأخلاقية .
    الثانية عشرة : استخدام الفكر الإلحادي .







    (1)

    تكسير معاقد الترابط الاجتماعي وتقطيع أوصاله


    اجتازت بي السيارة مرة في طريق صحراوي ، فهبت رياح ليست بعاتية ، فشهدت جبالاً ضخمة تحملها أنامل الرياح من جهة نائية عن يمين الطريق ، ثم تضعها في جهة نائية عن يساره ، وقالوا : هذه جبال من رمل ، تتلاعب بها الرياح ، فتنقلها في الصحراء ، بحسب اتجاهاتها ، فقلت : ما أشبه أكثر المجتمعات الإنسانية في هذا العصر بهذه الجبال الرملية ، تتقاذفها الرياح الكونية ذات اليمين وذات الشمال.

    ولما اجتزنا جبال الرمل صادفنا هضبة مرتفعة , تزمجر الرياح العاتية من حولها , تريد أن تقتلعها , وتحملها كما حملت جبال الرمل هناك , فلا تستطيع أن تنال منها نيلاً , إلا غباراً كان قد علق بها فكنسته عنها , وبعض حصىً اختار أن ينفصل عن الهضبة , فعبثت به الرياح , فقلت : ما أشبه هذه الهضبة بمجتمع بشري متماسك بالإسلام , استطاعت الروابط الاجتماعية لديه أن تجد في أفراد معاقد خلقية متينة فتنعقد عليها فتكسب المجتمع قوة الكتلة الواحدة , لا قوة الأفراد المبعثرين , وفرق كبير جداً بين القوتين , إن بطلاً واحداً يستطيع أن يصرع مئة ألف مصارع على التناوب , لكنه متى اجتمع عليه عدد قليل منهم صرعوه مهما بلغت قوته.

    وقد دلت التجربات الإنسانية والأحداث التاريخية أن ارتقاء القوى المعنوية للأمم والشعوب ملازم لارتقائها في سلم الأخلاق الفاضلة , والسلوك الاجتماعي السليم , ومتناسب معه , وأن انهيار القوى المعنوية للأمم والشعوب ملازم لانهيار أخلاقها وفساد سلوكها , ومتناسب معها. فبين القوى المعنوية وفضائل الأخلاق ومحاسن السلوك تناسب طردي دائماً , صاعدين وهابطين.

    إن الأخلاق في أفراد الأمم والشعوب تمثل المعاقد الثابتة التي تعقد بها الروابط الاجتماعية , ومتى انعدمت هذه المعاقد أو انكسرت في الأفراد لم تجد الروابط الاجتماعية مكاناً تنعقد به , ومتى فقدت الروابط الاجتماعية صارت الملايين في الأمة المنحلة عن بعضها مزودة بقوة الأفراد فقط , لا بقوة الجماعة , بل ربما كانت قواها المبعثرة مضافة إلى قوة عدوها ضدها , وذلك بالتصادم الداخلي , وبالبأس الذي يقع فيما بينها.

    وقد أدرك الأعداء الغزاة للإسلام والمسلمين هذه الحقيقة , فعملوا على إفساد أخلاق المسلمين وإفساد سلوكهم الاجتماعي والفردي بكل ما أوتوا من مكر وحيلة ودهاء , ووسائل مادية , وشياطين وسوسة وتضليل , ليبعثروا قواهم المتماسكة بالأخلاق الإسلامية العظيمة , والسلوك الإسلامي القويم , وليفتتوا وحدتهم التي كانت مثل الجبل الراسخ الصلب قوة , ومثل الجنة الوارفة المثمرة خضرة وبهاء , وثمراً وماءً.

    لقد عرف الأعداء الغزاة أن الأخلاق الإسلامية في أفراد المسلمين تمثل معاقد الترابط الاجتماعي فيهم , فجندوا لغزو هذه المعاقد وكسرها جيوش الإفساد والفتنة وعرفوا أن النبع الأساسي الذي يزود الإنسان المسلم بالأخلاق الإسلامية العظيمة إنما هو الإيمان بالله واليوم الآخر. وما فيه من حساب وجزاء , فصمموا على أن يكسروا مجاري هذا النبع العظيم , ويسدوا عيونه , ويقطعوا شرايينه. وعرفوا أيضاً أن تفهم مصادر الشريعة تفهماً سليماً هو الذي يمُد نبع الإيمان بالمعرفة , فمكروا بالعلوم الإسلامية , والدراسات المتعلقة بها مكراً كُبَّاراً , ما بين حجب أو تلاعب أو تشويه أو تجميد أو مضايقة لروادها ومبلغيها , وذلك في حرب مستمرة , لا تعرف كللاً , ولا تعرف مللاً.

    ومن العجيب أن تعمل أجنحة المكر الثلاثة : (المستعمرون والمبشرون والمستشرقون) لغزو الشعوب الإسلامية بخطط الإفساد الخلقي والسلوكي , لتفتيت كتلة المسلمين الصلبة في العالم , في حين أن شعوب هذه الأجنحة مغزوة بشكل أخطر وأكبر من قبل شياطين اليهود في العالم , وهم عن مكر اليهود بهم غافلون.

    نقرأ في "بروتوكولات حكماء صهيون" فنجد معظم مخططاتهم تهدف إلى تفتيت الشعوب وتشتيتها وتقطيع أوصالها , ونشر الفساد فيها , وغرس أصول الرذيلة بين أفرادها , حتى لا تبقى لهذه الشعوب مكارم أخلاق تجمعهم وتشد أواصرهم , ولا عقائد سليمة تغذيهم بالفضائل , وغاية اليهود أن يظفروا بأن تكون لهم وحدهم القوة الجماعية المتماسكة , التي تمكنهم من بسط سلطانهم على الشعوب المختلفة , رغم قلة عددهم في العالم , وقد نفذ اليهود قدراً كبيراً من مخططهم الخبيث في الشعوب النصرانية , قبل أن يتوجهوا بثقلهم الكبير إلى الشعوب الإسلامية , وقبل أن تتولى الأجنحة الثلاثة تنفيذ هذا المخطط في هذه الشعوب.

    والبلهاء من غير اليهود ينفذون في أنفسهم وفي شعوبهم وفي شعوب غيرهم مخططات أعدائهم تسوقهم الخديعة الكبرى , أو تستدرجهم وعود كاذبة , أو رشوات حقيرة , أو فكرة باطلة مزخرفة , أو شعار براق خادع , أو شهوة طاغية.

    وثبتت قيادات الأجنحة الثلاثة أنظارها في دائرة محاربة الأمة الإسلامية , وتهديم شعوبها , غافلة عن عدوها الأكبر وعدو الإنسانية كلها , ويوم تصحو هذه القيادات لا تجد في أيديها شعوبها , إذ تكون هذه الشعوب ساقطة في حبائل المكر اليهودي.



    (2)

    العبث بجذور الأخلاق

    وقد كرس الأعداء الغزاة جهوداً ضخمة لإفساد أخلاق المسلمين , والتلاعب والعبث بالمنابع الأساسية للأخلاق , وهي التي تفجرها العقيدة الإسلامية الراسخة , وتمدها بالقوة والأصالة والثبات , وقد توصلوا إلى كثير مما أرادوا من توهين المسلمين وإضعاف قوتهم , حينما بلغوا إلى العبث في جذور أخلاقهم الإسلامية العظيمة.

    وذلك لأنهم عرفوا بالخبرة التاريخية الطويلة , وبدراسة الأسباب النفسية أن الأخلاق في أفراد الأمم تمثل معاقد الترابط فيما بينهم , وأن النظم الاجتماعية والتعاليم السلوكية التي جاء بها الإسلام والأديان الربانية الصحيحة تمثل الأربطة التي تشد المعاقد إلى المعاقد , فتتكون بذلك الكتلة البشرية المتماسكة القوية , التي لا تهون ولا تستخذي.

    ونضرب على ذلك أمثلة من الأخلاق الإسلامية ومدى تأثيرها في تحقيق الترابط الاجتماعي.

    المثال الأول : خلق الصدق , إن هذا الخلق بوصفه خلقاً ثابتاً في الفرد المسلم السوي معقد من معاقد الترابط الجماعي , إذ تنعقد به ثقة المجتمع بما يحدّث ويخبر في مجال التاريخ والأخبار , أو في مجال نقل العلوم والمعارف , أو في مجال المعاملات المادية والأدبية , أو في مجال الوعود والعهود والمواثيق , وغير ذلك.

    ومتى انهارت في الفرد فضيلة الصدق انكسر فيه معقد من معاقد الترابط الجماعي , فانقطعت بينه وبين مجتمعه رابطة عظمى , وغدا الناس لا يصدقونه فيما يقول , ولا يثقون به فيما يحدث أو يخبر أو يعد , فلا يكلون إليه أمراً , ولا يعقدون بينهم وبينه عهداً , ولا يواسونه إذا اشتكى لهم من شدة , لأنهم يرجحون في كل ذلك كذبه , بعد أن غدت رذيلة الكذب هي الخلق الذي خبروه فيه.

    المثال الثاني : خلق الأمانة , إن هذا الخلق بوصفه خلقاً ثابتاً في الفرد المسلم السوي معقد من معاقد الترابط الجماعي , إذ تنعقد به ثقة الناس بما يضعون بين يديه من مال أو سلطان , وبما يمنحونه من جاه أو تكريم , وبما يكلون إليه من تمثيل لهم في المجالس والمحافل والمجتمعات العامة أو الخاصة , وأشباه ذلك.

    ومتى انهارت في الفرد فضيلة الأمانة انكسر فيه معقد من معاقد الترابط الجماعي , فانقطعت بينه وبين مجتمعه رابطة عظمى , وغدا الناس لا يأمنونه على أي شيء ذي قيمة معتبرة لديهم , خاصاً كان أو عاماً , لأنهم يقدرون في نفوسهم أن سيسطو عليه لنفسه , بعد أن غدت رذيلة الخيانة هي الخلق الذي خبروه فيه.

    المثال الثالث : خلق العفة , إن هذا الخلق بوصفه خلقاً ثابتاً في الفرد المسلم السوي معقد من معاقد الترابط الجماعي , إذ تنعقد فيه ثقة الناس بما يضعون بين يديه من أعراضهم , فتأمنه الأسرة على أعراضها إذا غابت , ويأمنه الجار على عرضه إذا خرج من منزله إلى عمله , وتأمنه الزوجة إذا غاب عنها من أن يختان نفسه , ونحو ذلك.

    ومتى انهارت في الفرد فضيلة العفة انكسر فيه معقد من معاقد الترابط الجماعي فانقطعت بينه وبين مجتمعه رابطة عظمى , وأمسى الناس لا يأمنونه على أعراضهم , ولا يأمنونه على بلادهم ومصالحهم العامة , لأنهم يقدرون في نفوسهم أن أعداءهم سوف يسهل عليهم شراؤه من مغمز عفته , فإذا اشتروه سخروه في خدمة أغراضهم.

    وهكذا سائر الأخلاق الفاضلة الإسلامية , كالعدل , والجود , والوفاء بالوعد والعهد , والإحسان , والعطف على الناس , والتعاون , وغير ذلك من فضائل الأخلاق , وبانهيار كل خلق منها ينكسر معقد من معاقد الترابط الجماعي , وتتقطع ما بينه وبين مجتمعه الرابطة المتصلة بهذا المعقد. وبانهيارها جميعاً تنكسر جميع معاقد الترابط الجماعي , وتنحل جميع الروابط الاجتماعية , ويمسي المجتمع مفككاً منبثاً , كحبات رمل تسفيها الرياح.

    ولا تكون الدعوة إلى التكتل والتجمع ناجحة ما لم يرافقها تأسيس خلقي في الأفراد , ويضمن للجماعة الواحدة معاقد التماسك , وأي تجمع ليس بين أفراده ترابط حقيقي , مشدود في معاقد خلقية متينة فاضلة , فإنه تجمع يشبه تجمع كثبان الرمل من غير أربطة بينها.

    على أنه ليس من المستحيل أن تتحول كثبان الرمل إلى جبال راسخة متينة , تصمد في وجه العاتيات من الريح , ولكن يشترط لذلك شروط يعرفها البناؤون بالإسمنت المسلح. وعلى مثل ذلك يكون للكثبان المفككة من البشر , فإن المادة التي تعقد بينها هي الأخلاق الإسلامية الفاضلة , المدفوعة بقوة الإيمان بالله واليوم الآخر , ويتم ذلك بإعادة بناء الأخلاق الإسلامية في هذه المجتمعات التي تنتسب إلى الإسلام وتترعرع في أمجاده , وهذه المادة العظيمة المدفوعة بهذه القوة الهائلة تحتاج إلى وسيط يحلل عناصرها , ويحكم تغلغلها في الأفراد , وارتباط بعضها ببعض , ألا وهو وسيط التربية والتعليم على الأصول الإسلامية , يضاف إلى ذلك شبكة حكم قوي إداري حازم تشبه شبكة القضبان الحديدية في أبنية الإسمنت المسلح , وذلك لحماية الأمة من الهزات السياسية أو الاقتصادية العنيفة , التي قد تكسر من تماسكها , وتقطع من أوصالها وروابطها.


    (3)

    طريقا التضليل الفكري والاستدراج إلى الانحراف السلوكي

    وكان من أخطر أنواع الغزو الذي غزتنا به جيوش الأعداء ما فعلته من تهديم للأخلاق الفاضلة وأنواع السلوك الإسلامي , وقد هيأ هذا الغزو الخطير المجتمعات الإسلامية لتقبل الوافدات الفكرية من كل جهة. وقلب الأوضاع الاجتماعية للمسلمين رأساً على عقب ، وجعل كثير منها صورة للنقائص الموزعة في البيئات المعادية للإسلام ، شرقية أو غربية.

    ولو كان الأمر واقفاً عند حدود اقتباس ما هو نافع ومفيد منها ، مما فيه تقدم علمي أو صناعي أو تحسين مدني ، وطرح ما هو ضار ومفسد مما هو منافٍ لمكارم الأخلاق ومخالف للعقائد الحقة لكان الأمر من الفضائل التي يدعو إليها الإسلام.

    لكن الأمر قد كان في بعض الأحيان اقتباساً عاماً للنافع والضار ، وتبعية عمياء ، وكان في معظم الأحيان اقتباساً للضار فقط ، مما تنزلق إليه الشهوات والأهواء ، فالناظر في معظم المجتمعات الإسلامية يلاحظ مباينة معظم أخلاقها وعاداتها لمكارم الأخلاق التي يحث عليها الإسلام ، ويفرض على أتباعه التزامها ، والتقيد بحدودها ، وكان من عوامل هذا الانحطاط الخلقي سياسة الغزاة الذين وضعوا أيديهم على معظم بلاد المسلمين حقبة من الدهر ، وانغماس المسلمين في الدعة والترف وشؤون دنياهم الخاصة ، وانشغالهم بالتنازع والخلاف ، وتعلقهم بالدنيا ، وإخلادهم إلى الأرض ، وغفلتهم عن الله والدار الآخرة .

    لقد وجد الأعداء الغزاة أن الأخلاق الإسلامية التي هي من الظواهر التطبيقية للإيمان بالله واليوم الآخر ، من أكبر العوامل الفعالة التي منحت المسلمين قوتهم الهائلة في تاريخهم المجيد ، فأرادوا أن يهدموا فيهم هذه العوامل ، ليوهنوا قوتهم ، ويشتتوا شملهم ، فعملوا على أن يقذفوا في المجتمعات الإسلامية العناصر الفكرية والسلوكية التي تفسد تماسكها الاجتماعي ، وتقطع الأربطة التي تعقد الصلات المحكمة ما بين وحداتها ، وتسلبها سر قوتها.

    وقد سلكوا لتحقيق هذا الهدف طريقين:

    الطريق الأول : التضليل الفكري الذي ينشأ عنه تغيير في السلوك ، لأن العوامل الفكرية ذات أثر فعال في النفس الإنسانية ، والنفس الإنسانية هي مصدر التوجيه إلى أنواع السلوك المختلفة في الحياة ، ويدخل في هذا الطريق جميع عناصر الغزو الفكري الذي جندوا له قسطاً كبيراً من طاقاتهم العلمية والإعلامية . وأخطره الخطط الماكرة الموجهة لتنشئة الأجيال التنشئة المعادية للإسلام عقيدة وعملاً ، منذ نعومة أظفارهم ، في المدارس ، وفي المنظمات الخاصة والعامة.

    الطريق الثاني : الاستدراج إلى الانحراف السلوكي وأخطر صوره ، الغمس في البيئات الفاسدة ، وإيجاد المناخات المفسدة المضلة ، التي تسري فيها العدوى سريان النار في الهشيم.


    ( 4 )

    الوسائل


    وقد عمد الغزاة في حملاتهم للإفساد الخلقي والسلوكي إلى استخدام العناصر التالية : (المال – النساء – الحكم ومطامعه – المسكرات والمخدرات – وسائل الترف والرفاهية – الآداب والفنون – اللهو واللعب ، وغير ذلك).

    وجندوا كل ما يستطيعون تجنيده لإفساد المجتمعات الإسلامية بهذه العناصر ، وسهلوا سبل فتح الدور التي تستدرج إليها طلاب اللذة المحرمة ، وعشاق المال الحرام وحرضوا المتطلعين إلى الرياسة أن يغامروا ويتصارعوا على مظاهر فارغة لا طائل تحتها ، ويبددوا قواهم بالصراع فيما بينهم ، حتى يظفر العدو بهم جميعاً ، ويسخرهم بألاعيبه وحيله لما يريد فيهم وفي جميع المسلمين ، من توهين وتشتيت ، وتغيير جذري لكل مقوّم من مقومات وجودهم ، ووجهوا أجراءهم للقيام بعملية التحويل الكلي لوجود الأمة الإسلامية.

    والأعمال تتوالى وتتكاثر ، والخطط وتطبيقاتها في تجديد مستمر ، والأخطار تتفاقم ، والتحويل المراد يجري تنفيذه بدقة تامة ، وسرعة هائلة.

    فهل من مدكر؟ وهل يتنبه المسلمون إلى وضع الخطط المعاكسة لخطط أعدائهم ويباشرون تنفيذها ، مجندين كل طاقاتهم العلمية والمالية والبشرية القادرة على العمل؟

    وباستطاعة الباحث أن يوجّه ملاحظاته للوسائل التالية من وسائل الغزاة.

    * * *

    الوسيلة الأولى

    استخدام عنصر المال


    المال عنصر خطر فعال ، كم اشتري به رجال ، وكم استُذل به أبطال ، وكم غُيِّرت به أحوال. وقد استطاع الأعداء الغزاة أن يستخدموه على نطاق واسع في إفساد سلوك وأخلاق كثير من المسلمين ، داخل البلاد التي بسطوا عليها سلطان احتلالهم المباشر أو غير المباشر.

    لقد عملوا حتى اشتروا بالمال أصحاب النفوس الضعيفة ، وأخذوا يوجهونهم كما يريدون ، وعملوا على نشر الرشوة والتشجيع على اختلاس الأموال العامة ، ودعم الاحتكارات المحرمة ، والتغاضي عن الغش ، وتهريب المحظورات الدولية ، أو تشجيعها من طرفٍ خفي ، أو المشاركة السرية في تجارتها الممنوعة قانوناً.

    ولئن صادف أن أمسك بعض الموظفين الأمناء مجرماً من هؤلاء المجرمين ، وساقه إلى القضاء بسلطة القانون ، فإن كان هذا المجرم ولاّجاً خرَّجاً ، في دهاليز كبار ذوي السلطة ، ومن الذين دفعتهم إلى مراكزهم الأيدي الخفية للأعداء الغزاة ، استطاع أن يكون بريئاً ، وأن يوقع الموظف الأمين في ورطة كبرى تنتهي به إلى التسريح ، أو إلى عقوبة مادية مهلكة ، وإن لم يكن كذلك أصابته العقوبة القانونية الخفيفة التي تغريه بتكرار جرمه مرة أخرى ، أو أسرعت إليه الأيدي الخفية فاشترته بالعفو عنه ، وجندته في كتائبها المعادية للأمة.

    وخلال ربع قرن استطاع الأعداء الغزاة أن يفسدوا من سلوك المسلمين وأخلاقهم موروثات عريقة كريمة منتشرة في مجتمعاتهم منذ قرون. حتى أمست الرشوة المفسدة لأخلاق الموظفين في كثير من البلاد التي تأثرت بخطط الغزاة من الأمور المنتشرة انتشاراً فاحشاً ، إلى حد أن أكثر الأعمال الإدارية في دوائر هذه البلاد لا تذلل لأصحابها ما لم يضيفوا فيها إلى طابع الدولة القانوني وضريبتها المحددة رشوة تناسب أهميتها ، يضعونها سراً وراء المعاملة ، حتى صارت نفقات كثير من الموظفين تبلغ ضعف مرتباتهم الشهرية أو أكثر ، وقد بلغ الأمر ببعضهم أن يكون له أموال كثيرة وعمارات ضخمة ، وأصل راتبه لا يكاد يكفيه لنفقاته العادية ، كل ذلك بسبب الواردات الإضافية من الرشوات التي يتقاضونها من أصحاب المعاملات.

    وهكذا سرى الداء وانتشر ، ونجم عنه سيئات اجتماعية كثيرة ، هضمت فيها حقوق كثيرة ، وتحولت فيها وسائل كسب المال عند كثيرين من الوجوه المشروعة إلى الوجوه المحرمة ، واضطرت سلطات كثيرة قضائية وإدارية أن تسكت عن المجرمين ذوي النفوذ ، لانغماسها بمثل جرائمهم ، أو بما هو شر منها.

    وقد رأينا أن السلطات الاستعمارية قد سهلت سبيل اختلاس الأموال العامة ، ثم استخدمت ذلك سلاحاً فعالاً لتنفيذ أغراضها في البلاد ، وذلك بأن تشعر المختلسين بأنهم على بوابة الإدانة القضائية والفضيحة العامة ، وبأنهم لا يستطيعون أن يستروا أنفسهم ويتابعوا إشباع مطامعهم الخاصة ما لم يحققوا لهذه السلطات مطالبها في البلاد ، ويخدموا مصالحها بإخلاص ، وقد كان للسلطات الاستعمارية في نشر هذه السيئة الاجتماعية ميدان واسع ، وقد استدرجت إليها كثيراً من ذوي النفوذ ، وكان لها في ذلك عدة أغراض:

    1- فمنها تسخير الذين انطبق عليهم الفخ في تحقيق أهداف الأعداء الغزاة.

    2- ومنها إفساد أخلاق المجتمع الإسلامية ، حتى تنحل عُراه ، ويتناثر عقده.

    3- ومنها إضعاف ثقة الأمة المستعمرة بنفسها وبصلاحيتها لحكم نفسها بنفسها.

    وقد عمل الأعداء الغزاة أيضاً على دعم الاحتكارات المحرمة ، والتغاضي عن كل وسائل الكسب غير المشروع ، حتى يهيئوا لأنفسهم داخل البلاد طبقة من المنتفعين ترى أن استمرار منافعها رهن باستمرار سلطان هؤلاء الغزاة ، لذلك فهي مدفوعة بدافع المنافع المادية إلى دعم وجودهم في البلاد، وتهيئة الاستقرار لهم.

    ومن أخطر ما شجع عليه الغزاة الاستعماريون تهريب المحظورات الدولية ، كالمخدرات ، وذلك بالتغاضي عنها ، وقبول الرشوات فيها ، والمشاركة السرية في تجارتها المحرمة ، ثم العمل على نشر تعاطيها بين الناس ، بغية إماتة روح المقاومة للسلطة المستعمرة ، والرضى بالواقع ، واللجوء إلى الخنوع والذل ، والتخاذل على كل توثب فعَّال ، والذهول عن الآلام المحيطة ، وإبعاد الشعوب الواقعة تحت نير الاستعمار عن كل فضيلة إنسانية ، وخلق كريم ، طلاَّع إلى المجد والحرية ، والكمال الإنساني ، وبخاصة إبعاد الشعوب المسلمة عن الاستمساك برسالة الإسلام العظمى.

    ومن أمثلة ذلك ما كان يفعله الإنكليز في بعض مستعمراتهم ، فقد أدانتهم الشعوب بالعمل على نشر المواد المخدرة القاتلة للإنسانية ، وسجل التاريخ ذلك عليهم.


    * * *

    الوسيلة الثانية

    استخدام عنصر النساء

    ويستخدم الأعداء الغزاة المرأة في الاستيلاء على غرائز مجموعات من شبان الأجيال المتتابعة في البلاد الإسلامية ، وقد فعلوا ذلك منذ بدء النهضة العلمية والصناعية الحديثة ، التي تولى الأوربيون قيادتها في العالم.

    وبعد تملك غرائز الشبان عن طريق النساء يتمكنون من التلاعب بأفكارهم وعقائدهم ، وبإخلاصهم لأمتهم وبلادهم ، وبسلوكهم الإسلامي ، وبسائر أخلاقهم الشخصية والاجتماعية.

    وقد استطاعوا فعلاً أن يسخروا طائفة منهم في ترسيخ قواعد الأعداء المادية والمعنوية داخل البلاد الإسلامية.

    وأحكم قادة الغزو سياسة الغزو الخلقي والسلوكي للشعوب الإسلامية عن طريق الكوافر العواهر ، وتدفق سيلهُنَّ إلى معظم البلاد الإسلامية بأسماء وصفات شتى ، علمية وفنية وتجارية وصناعية ، وامتزجن بالأسر الإسلامية ، وسهلن سبل الفاحشة للمراهقين في أعمارهم أو في عقولهم ، وعملت أجهزة الغازين على أن تدهن الفواحش الصريحة الوقحة بطلاءات فنية متعددة.

    وسرى الداء في الأسر الإسلامية ، لأن عوامل الانحدار أقوى من عوامل الارتقاء في الأمم ، إذ عوامل الانحدار تؤازرها غرائز النفوس وشهواتها وأهواؤها ، وتساعدها سهولة الطريق التي مهدها الغزاة ، ودفع إليها شياطين الإنس والجن ، أما عوامل الارتقاء الأخلاقي والسلوكي فتقف دونها عقبات تطالب النفوس باقتحامها ، وتحتاج إلى قوة إرادة ، ومؤازرة جماعية ، وسلطان ذي بأس ، يحمل الناس على تكلف الصعود ، ويؤاخذهم على التواني ، أو التراجع إلى الوراء المنحط.

    وانهارت مقاومة كثير من الأسر الإسلامية ، المعتزة بأخلاقها والمتمسكة بعفافها ، واندفعت بتيار تقليد الوافدات الجديدة من الأزياء الفاجرة ، ورأت الفتاة المسلمة افتتان الشبان بالمظاهر الخادعة التي تبرز بها الكوافر الفواجر ، فتحرك فيها الدافع الفطري ، فأخذت تسرع خطواتها في تقليد كل وافدة جديدة تقذفها أوربا ، وجرت في سباق مع وافدات الفتنة والفساد ، لتعيد بزعمها ما فقدته من إعجاب الرجل بها ، وبسرعة غير عادية فقدت معظم العواصم في بلاد المسلمين طابعها المحتشم ، الذي تفرضه التعاليم الربانية ، والأخلاق الإسلامية ، وحسرت المرأة فيها حسوراً مستنكراً عند عقلاء جميع الأمم والشعوب ، وتحللت تحللاً ينذر بالانهيار السريع السحيق ، والدمار الخطير ، لأن هذا المنزلق الذي سارت فيه لا بد أن ينتهي بالأمم إلى مثل ما انتهت إليه أمم سابقة ، ذات حضارات كبرى ، من دمار شامل ، حينما انهارت أخلاقها وفضائلها ، إذ فقدت مجتمعاتها الضوابط الأخلاقية ، التي تضبط الغرائز عن التحلل والإباحية.

    وتابعت كتائب هذا الغزو الخطر أعمالها في الإفساد بعنصر النساء ، واتجهت هذه الكتائب إلى مواقع المسلمين من كل حدب وصوب ، واحتلت مجالات توجيهية كبرى في معظم بلاد المسلمين ، وفقد المسلمون معظم مراكزهم التوجيهية ، فكان مما احتله هؤلاء الغزاة المجالات التالية:

    أولاً: مجالات التعليم والتربية ، ومجالات الثقافة على اختلف أنواعها وأشكالها ، وقد أخذ الغزاة في هذه المجالات زمام المبادرة إلى تعليم المرأة وتربيتها ، طبق الأسس التي وضعوها في خطة غزوهم لبلاد المسلمين ، ثم تخرجت الفتيات المسلمات على أيديهم وهن مثقلات بالمفاهيم المنحرفة التي أملوها عليهن ، ومنطبعات بالعادات التي ربوهن عليها ، منذ مرحلة المدرسة الابتدائية حتى نهاية المرحلة الجامعية التي حملن بها شهادات العلم والتعليم والتربية للأجيال القادمة.

    ثانياً: مجالات الفنون المختلفة ، وأهمها الفنون الجميلة وما يتصل بها وبزينة المرأة وفتنتها وإغرائها للرجل ، وجند الأعداء الغزاة في هذه المجالات الوسائل التالية : السينما ، والمسارح ، وكتب القصة والتاريخ وعلم النفس والاجتماع وغيرها من العلوم ، والمجلات ، والصحف ، والإذاعة ، والتلفزيون ، وسائر وسائل الإعلام.

    وقبضوا على نواصي هذه الوسائل قبضاً محكماً ، وأما المسلمون المستمسكون بإسلامهم فلم يظفروا من هذه الوسائل إلا بالمشاركة اليسيرة ، أو ببعض المقاومة للتيار الجارف.

    ثالثاً: مجالات الصناعة والتجارة ، وقد استخدم الغزاة في هذه المجالات وسائل كثيرة ، منها توجيه الجهود لتصميم الأزياء الكفيلة بإغراء المرأة وفتنتها ، والتفنن في ابتكارات مواد زينة النساء ، واستدراجها إلى مواقع التحلل من ضوابط السلوك الإسلامي ، والأخلاق الفاضلة الكريمة.

    ولا يخفى علينا أن الغزاة قد استطاعوا أن يستثمروا أرباحاً ضخمة جداً ، من أموال الشعوب الإسلامية ، في كل هذه المجالات التي غزوها ، إضافة إلى تحقيق أهدافهم المعنوية الرامية إلى هدم أبنية الفضائل الخلقي والسلوكية داخل المجتمعات الإسلامية.

    وانحسر ظل القيادات الإسلامية عن معظم مجالات الإدارة والتوجيه ، واستبد الغزاة وفراخهم وأجراؤهم بالتصرف في هذه المجالات ، وانطلقوا بكل ما لديهم من قوة ومكر ودأب ينفذون خطط تحويل المسلمين عن عناصر مجدهم الحقيقي.

    والمسلمون لا يقومون بالأعمال المضادة البصيرة المتأنية ، ذات النفس الطويل ، والتخطيط البعيد ، والصبر المرير.

    * * *

    الوسيلة الثالثة

    الاهتمام بالمرأة في مجالات العلم والثقافة والفن

    شاعت نظرية ضرورة تعليم المرأة ومشاركتها في مجالات العلوم والفنون الحديثة ، وكانت هذه المقدمة مغرية مقبولة ، ووجدت لها أنصاراً كثيرين ضمن المسلمين الواعين الفاهمين لأسس الدين الإسلامي ، ودعوته المسلمين والمسلمات إلى طلب العلم ، وتتبع المعرفة التي يكون بها كمال العقل الإنساني في صنفي الذكور والإناث.

    وفي المائدة العلمية المغرية بدسم كثير وغذاء نافع ، والمعروضة عرضاً مرضياً للذوق الرفيع ، دس الأعداء الغزاة سم التربية الحديثة الفاجرة ، المتحللة من الأخلاق الفاضلة ، والآداب الكريمة ، والتطبيقات الإسلامية المختلفة التي كان بها مجد المسلمين من قبل ، وما زال تحقيق عودة مجدهم إليهم رهناً بالتزامهم بها ، وتطبيقهم لها في حياتهم.

    وقد أمسك الغزاة زمام المبادرة إلى تعليم المرأة المسلمة ، داخل معظم البلاد الإسلامية ، وفرضوا على الفتيات كما فرضوا على الفتيان من أبناء المسلمين خطتهم التعليمية والتربوية المشحونة بقسط كبير من المفاهيم الاعتقادية والخلقية والسلوكية المنافية لتعاليم الإسلام ، وكان كل ذلك تحت ستار العلمانية التي تزعم أنها لا تتدخل بالدين ، وهي في حقيقة حالها مؤسسات تبشيرية متعصبة ، إلا أنها قد عرفت كيف تستر ذلك باسم العلمانية.

    ودفعت كبريات الأسر الإسلامية فتياتها إلى ميادين العلم والثقافة ، التي تديرها سراً أو علناً إرساليات تبشيرية معادية للإسلام.

    وتهاون المسلمون بإنشاء مدارس الإناث المسايرة للأساليب التعليمية والتربوية الحديثة ، مع المحافظة على العقائد والأخلاق والآداب وسائر التعاليم الإسلامية.

    وخلال عشرٍ من السنين أو تزيد ، استطاعت مؤسسات التعليم والتربية ، الموجهة ضمن خطط أعداء الإسلام ، أن تقنع الفتيات المسلمات اللواتي تعملن فيها ، بأن التقاليد والعادات والأخلاق المنافية لتعاليم الإسلام والمستوردة من بلاد الغزاة أمورٌ حسنة ، ينبغي الأخذ بها. وهان على المرأة المسلمة أن تعرض مفاتنها للرجال الأجانب ، وأن تمشي في الطرقات العامة كأنها في غرفة عرسها. وأن تنظر إلى جميع الأخلاق والآداب والتعاليم الإسلامية نظرة مجافاة في التطبيق ، أو ازدراء في النفس ، ثم تطور الأمر حتى بدأت تنظر إلى أسس العقيدة الإسلامية مثل هذه النظرة ، ثم فقدت في حياتها الخاصة والعامة بواعث عفتها ، وتمسكها بفروض الإسلام ، وأخذت تتبرج تبرج الجاهلية الحديثة ، وهي في مضامينها وكثير في مظاهرها أخطر من الجاهلية الأولى.

    ونظر شبان المسلمين إلى سيل الفتنة المتدفق في الشوارع والأندية والمحافل العامة ، فأقبل نحوه بدافع الغريزة ، وزهد بطلب الحلال ، وعزف عن الزواج المبكر كما أن كثيراً من المتزوجين زهدوا بالحلال الذي يسره الله لهم ، لأنهم يشاهدونه في زينته مرة ، وفي مهنته وخدمته مرات ، أما هذه الفتنة المعروضة على كل نظر فإنهم لا يشاهدونها إلا وهي مجلوة في أكمل زينتها ، ولو أنهم رأوها في ساعات خدمتها ومهنتها لربما فضلوا ما عندهم من حلال عليها ألف مرة.

    على أنه ما من حسن إلا وفوقه أحسن منه ، وشره النفس ، ورغبتها بالتجديد ، وتطلعها إلى تذوق ما لا تملك ، أمور لا حد لها ، كما أنه ما من ذي حسن من جهة إلا وله نقائص من جهات ، وهذه الفتنة معروفة لا ترى إلا من جهة حسنها ، أما نواقصها فمطلية بالأصباغ ، ومحجوبة بالتصنع.

    ثم سرى الداء إلى غير المثقفات ، فزعمن أن تقدم المرأة وعلمها وثقافتها تعني في الحياة خروجها متهتكة حاسرة ، متحللة من جميع القيود الدينية والخلقية ، فأخذن يتسابقن في التهتك وإفساد المجتمعات ، زاعمات أنهن يسرن في طريق صاعدة ، وقد زاغت أبصارهن ببهرج الحياة الجديدة السامة القاتلة ، التي يقدمها الأعداء على أطباق مزينة مزخرفة , فيها ما تشتهي النفوس المريضة , ويسر الأعين الكليلة , وفيها السم القاتل المدفون في مظهر الغذاء الطيب الدسم.

    لقد أدرك أعداء الإسلام خطورة المرأة في إصلاح الأسرة أو إفسادها , وإصلاح المجتمع أو إفساده , فركزوا خططاً مختلفة لتوجيهها إلى ما يضمن تحقيق أهدافهم في المجتمعات الإسلامية , واعتمدوا على تسخيرها في تحقيق أهدافهم في مجالات وأعمال كثيرة.

    ولو أدرك المسلمون خطورة الأمر منذ بدء تعليم المرأة وفق خطط الأعداء الغزاة لأمسكوا بأيديهم أزمة المبادهة , ولو وضعوا بمحض إرادتهم خطط التربية والتعليم , وفق الأسس الإسلامية التي تضمن للمجتمع الإسلامي التقدم العلمي والحضاري والمدني السليم النافع , واقتبسوا بمحض إراداتهم ودراساتهم الحرة كل نافع مفيد , مما توصلت إليه الحضارة الحديثة , غربية كانت أو شرقية.

    * * *

    الوسيلة الرابعة

    فتنة الاختلاط وسفور المرأة

    كان الخلط بين الفتيان والفتيات في معاهد العلم , من الأسباب الكبرى التي هدمت حصناً عظيماً من حصون الأخلاق والآداب الإسلامية , في المجتمعات التي انتشر فيها هذا الخلط.

    وكان ذلك بفعل دسائس الأعداء الغزاة , وفراخهم وأجرائهم من داخل بلاد المسلمين ومن خارجها.

    ورافق هذا الغزو العملي غزو فكري يزين الاختلاط ويحسنه , ويصطنع له المبررات الخادعة , ضمن أطر علم النفس , وعلم الاجتماع , وعلم التربية , والتربية الجنسية , وأكد الميل إليه الدافع الغرزيُّ بين الجنسين , لا سيما في فترة المراهقة التي تتفتح فيها الغريزة الطائشة الرعناء , مع البعد عن دراسة العلوم الإسلامية , وضعف الوازع الديني في القلوب.

    ومع اختلاط الجنسين في معاهد العلم فشت مفاسد كثيرة , في الأخلاق والآداب وكثير من أنواع السلوك , وتطلعت الأجيال الحديثة إلى تقليد الحياة الأوربية بمجونها , بعد أن انغمست في حمأة البيئات الجديدة , التي تسهل طريق الرذيلة , وتهون أمر ممارسة اللذة المحرمة , ولا تعتبر العفة من فضائل الأخلاق , كما لا تعتبر صيانة الأسرة القائمة على الطهارة من الأمور ذات القيمة في المجتمعات الإِنسانية.

    وانزلق كثير من الشبان والشوابّ يتسكع في دروب المهانة مندفعاً بنوازع الأهواء , ولواهب الغرائز , وتطالبه ظروف اللذة المحرمة بأن يقدم للشره طاقاته الجسدية , ويقدم للأوهام قواه الفكرية , ويقدم للقلق والحيرة والشتات عواطفه وانفعالاته , ثم يضحي في وادي الغريزة البهيمية بعقله الحصيف وبإرادته الإِنسانية الشريفة.

    وآخرون من الشبان والشوابّ اصطرعت فيهم عوامل الفضيلة وقواسر الغريزة المشبوبة , في هذه البيئات المختلطة الداعية إلى الخطيئة والفجور , فكانت أفكارهم وقلوبهم ونفوسهم كأنها في ساحة حرب شديدة , يصيبها من دواهي الحرب أكثر مما يصيب المتقاتلين بالأسلحة المادية , وطبيعي أن يَسُرَّ هذا الوضع الأعداء الغزاة , ويثلج صدورهم , وأن يكون ملحوظاً لديهم منذ البداية.

    لقد عرف الغزاة بالتجربة المتكررة أن اختلاط الجنسين في مختلف مجالات الحياة من أسباب انهيار المجتمعات , وانحرافها عن فضائل السلوك , ومتى انهارت المجتمعات فقدت أثقال قوتها الحقيقية , التي تمكنها من الصمود أمام جيوش الغزاة , والارتقاء إلى قمم المجد , ومنافسة كل سابق في علم أو حضارة أو مدنية أو قوة.

    ولو دخل المسلمون في هذا السباق بقواهم الإسلامية الحقيقية لاستطاعوا أن يختصروا الزمن , ويجتازوا في عقود من السنين ما تخلفوا عن السير فيه خلال قرون , ولو راجعوا صفحات تاريخهم لرأوا أن من أسباب تخلفهم انغماسهم في الشهوات , وسعيهم وراء اللذات , وإخلادهم إلى الأرض.

    ويظن الطائشون الغافلون أن الانطلاق من القيود الدينية , والتحرر من الشرائع الربانية والفضائل الخلقية , سبيل من سبل التقدم الذي أحرز فيه كلٌّ من الشرق والغرب السبق في العلوم المدنية , وفي الصناعات , مع أن الحقيقة بخلاف ذلك , إن العقلاء المنصفين في كل من الشرق والغرب , يتخوفون من المصير المدمر الذي تسير في طريقه أجيالهم الحديثة , بتحللها من ضوابط الأخلاق الشخصية والاجتماعية , واستهانتها بالفضائل الإنسانية , ويعتبرون الإباحية التي أخذت تشيع في مجتمعاتهم نذير الانهيار الخطير , والدمار الشامل.

    وسرى داء الاختلاط العام بين الرجال والنساء في مجتمعات الأسر , وفي الحفلات العامة والخاصة , وفي نوادي التسلية والفن والثقافة والرياضة , وفي المسابح العامة , ورافق الفن والرياضة والسباحة العري الكامل أو شبهه , وسرى داء التهتك إلى مختلف المجامع , وتسابق النساء في اتخاذ وسائل الإغراء , وأخذت تنهار مقاومات الأفراد والجماعات , وأمست جاهليات كثيرة متطرفة أموراً واقعة مألوفة غير مستنكرة.

    وانطلق الغزو المدمر للقيم الإسلامية , التي كان بها كيان المسلمين الذاتي , وكان بها مجدهم التليد.

    وحينما يراقب الباحث الاجتماعي هذه المجتمعات المختلطة , التي ليس لها حوافظ من الضوابط الدينية والخلقية , يرى فيها نذير الخطر الذي لامست جذوته الهشيم , فالتهمت جوانب منه , تؤازرها الرياح الكونية التي تهب في جهة النار , لتزيد توقدها وسرعة امتدادها إلى كل معاقل المسلمين.

    والمنغمسون في هذه المجتمعات المختلطة المفتوحة تشغلهم بوارق فتنتها , وتسكرهم كؤوس متعتها , وتخدعهم ألوان بهارجها عن إدراك الخطر الكامن فيها , عليهم وعلى أمتهم وعلى بلادهم , وتنسيهم ما وراء ذلك من عقوبة كبرى , مؤجلة إلى يوم الجزاء , بسبب تجاوزهم حدود الله , وارتكابهم ما يوجب سخطه.

    ويرى الباحث الاجتماعي أيضاً في هذه المجتمعات المختلطة طائفة من السيئات الاجتماعية , التي من شأنها أن تفقد المجتمع الإسلامي تماسكه , وتواده , وتراحمه , وإخاءه , ثم تفقده في آخر الأمر وجوده كله , ومعظم هذه المجتمعات المختلطة قائمة في عناصرها غير الظاهرة على الرياء والنفاق والمخادعة والتفاخر والتكاثر والتحاسد والحيلة وتناهب النعم , وقائمة في عناصرها الظاهرة على التصنع , والمظاهر الكاذبة , والزينة المترفة , والإسراف والتبذير , واللهو واللعب والتسلية , وملء البطون , وإمتاع الحواس باللذات المحرمة , يضاف إلى ذلك ما قد يندرج فيها من قمار ومراهنات وما أشبه ذلك من مبتكرات الشياطين.

    وتُعدّ لهذه المجتمعات المختلطة الثياب الفاخرة التي تبذل فيها الثروات الكثيرة , ولا يجوز في عرف النساء أن يلبسن الثوب الواحد في اجتماعات متعددة , إن التفاخر والتكاثر وموجبات الأناقة عندهن تفرض عليهن التجديد الدائم , مهما أنفقن في سبيل ذلك وبذَّرن , كما أن تصنيع الشعور والوجوه والأجساد وفق أحدث المبتكرات وعند أمهر ذوي الفن من الأمور الضرورية لديهن كالماء والهواء للحياة.

    ويلاحظ في هذه المجتمعات المختلطة المترفة الماجنة أن بذل الأموال الضخمة على موائد الترف والخمر والقمار من الأمور الهينة المعتادة , وكم يكون وراء هذا التبذير الماجن ضرورات ملحة تكتوي بنيرانها أسر هؤلاء المبذرين المترفين , ويكتوي بنيرانها ذوو حاجات كثيرون آخرون , فربّ أطفال يهملون بلا رعاية , ويفرض عليهم تقشف الفقراء , وربّ شيوخ محتاجين عاجزين عن العمل , وربّ نساء لا يجدن ضرورات عيشهن , والمسؤولون عن النفقة عليهم من ذويهم تائهون في دروب الشياطين , يبددون الأموال في مجتمعات اللهو واللذة المحرمة بلا حساب.

    وتبلد حسّ النخوة والغيرة والرجولة في هذه المجتمعات المختلطة الماجنة , وأمست مناخات ملائمة لتجديد الهوى والإعجاب , والتنقل في اللذات , ومد الأعين إلى حظوظ الآخرين , ومدّ شباك الحيلة للصيد , وما يتبع ذلك من مشكلات نفسية واجتماعية , وفتنة في الأرض وفسادٍ عريض , وفي كل ذلك نُذُر خطر كبير , تفقد به الأمة الإسلامية مقومات وجودها التي تؤهلها للصمود عند كل أزمة من أزماتها الداخلية والخارجية.

    لقد أراد الأعداء الغزاة دفع المجتمعات الإِسلامية إلى المباءات المهلكة , التي تزيد في تخلفهم وانهيارهم , في الوقت الذي يحلم فيه المسلمون أن يستعيدوا مجدهم التليد ومكانتهم بين شعوب الأرض.

    وما على العقلاء الراشدين إلا أن يدركوا الخطر المحدق بالمسلمين , إذا هم استمروا في سبل الانحلال والتفلت , وأن يعملوا على اتخاذ كافة الوسائل المادية والمعنوية لرد المسلمين إلى رشدهم , والسير بهم في الطريق المستقيمة الصاعدة إلى مرضاة الله والمجد الخالد.


    تهمة وخديعة للمتحجبات

    انتشرت بين النساء المسلمات خديعة كبيرة عمل على بثها وترويجها بغاة الفتنة والفساد , وقد تضمنت هذه الخديعة اتهام الحجاب بأنه قد صار شعار كثير من الفاسقات اللواتي يتعرضن للفحش , ويجتذبن إليهن الفاسقين من الرجال , أما الحاسرات اللواتي يعرضن مفاتنهن لكل ناظر فلا يتعرض أحدٌ لهن , والغرض من هذه الخديعة تحريض المسلمات العفيفات الشريفات على أن يخرجن سافرات حاسرات.

    وسارت هذه الخديعة وانطلت على كثير من المؤمنات العفيفات في بعض بلاد المسلمين , فأخذن يخلعن ألبستهن الساترة , ويظهرن في الأسواق العامة حاسرات عن رؤوسهن وأذرعهن , وما وراء ذلك , ويتبعن في ذلك مسيرة الفتنة الضالة التي مشت على عرض الشوارع العامة في معظم المدن الإِسلامية.

    ولتمكين هذه الخديعة عمل بغاة الفتنة على اصطناع الشواهد التطبيقية لفكرتها الماكرة , التي أشاعوها بين صفوف المسلمات , فاتخذوا لذلك وسيلتين :
    الوسيلة الأولى : توجيه بعض العواهر الفواجر أن يتسترن بمثل الألبسة التي تتستر بها المؤمنات العفيفات الشريفات , وأن يسرن في الأسواق العامة ويتعرضن للفساق , وهن في هذه الألبسة الساترة المزورة.

    والغرض من ذلك تأكيد الخديعة بشواهد واقعية , ليتقبلها المنخدعون والمنخدعات , ويتأثروا بها , وعندئذ لا يبقى لدعاة الستر والحشمة كلمة مسموعة.

    الوسيلة الثانية : توجيه فريق من الفساق المأجورين أن يتعرضوا للمتسترات العفيفات في الطرقات العامة , ويؤذوهن في عفافهن بفسق من القول , أو الغمز , أو اللمز , أو اللمس , أو الإشارات , أو تثبيت النظر , أو الملاحقة في الطرقات , أو نحو ذلك من رفث متسكع حقير , لتصير هذه القبائح المنكرة عادة لازمة للفساق , فتلجأ المرأة المتسترة العفيفة إلى خلع ألبستها الساترة , فراراً من مضايقات الفساق وأذاهم , وبذلك يتحقق لأعداء الإسلام ما يعملون لنشره بين صفوف المسلمين والمسلمات , ثم يتدرجون بعد ذلك بالمرأة المسلمة حتى يغمسوها في الانحراف والرذيلة كما فعلت المرأة الأوربية.
    وبذلك ينقطع فرع تطبيقي من فروع شجرة الإِسلام.

    لكن المرأة المسلمة العاقلة التي تخشى الله تعالى والدار الآخرة , لا تنطلي عليها هذه الخديعة , بل تنظر في أوامر الله التي توجب عليها الستر , وتعلم أن الله لم يأمرها بذلك عبثاً وهو العليم الحكيم , ولم يكلفها ذلك ليلقيها في العنت أو الحرج , وإنما شرع لها ما شرع ليكون أطهر لقلبها , وأحصن لشرفها , وأبعد لها عن الأذى وأقوم للمجتمع كله , وأكثر صيانة له من الفساد.

    إن المرأة المسلمة العاقلة تقرأ في كتاب الله آيات العفة والستر , فتسرع إلى تطبيق ما جاء فيها راضية بما رضي الله لها , لتنال عنده الأجر العظيم , إنها تقرأ قول الله تعالى في سورة (الأحزاب / 33 مصحف / 90 نزول) :

    {ياأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}.

    وتقرأ قول الله تعالى في سورة (النور / 24 مصحف / 102 نزول) :

    {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

    وتقرأ أوامر الله لها بالعفة فتطيع أمر الله , وتعلم أن ذلك هو الخير لها وللمجتمع الإسلامي كله , ولا تعبأ بالخديعة التي يحاول أعداء الإِسلام نشر فكرتها بين المسلمات , ليخرجوهن من معاقل عفتهن , ويقذفوهن إلى مجامع الفتنة والشر والفساد في الأرض.

    * * *

    الوسيلة الخامسة

    استخدام الآداب والفنون

    ودخلت جيوش الغزاة باسم الفنون الجميلة المختلفة , من أبواب عريضة , إلى المجتمعات المسلمة , واحتلت هذه الجيوش باسم الفنون المسارح , والنوادي الأدبية والفنية , والمعارض , ودور الأزياء , والإذاعة , والتلفزيون.

    واستخدمت الأدب على اختلاف فنونه , والغناء , والتمثيل , والرقص , وعرض الأزياء , ومسابقات ملكات الجمال , أو ملكات الأناقة , والأصوات الجميلة , والأجسام النسائية الفاتنة , ومختلف المواهب البشرية القادرة على الأداء الفنّي المؤثر في الجماهير.

    وتسلّل الفسق والفجور والعري والتهتك وما وراء ذلك إلى المجتمعات المنتمية إلى الإِسلام عن طريق الفنّ.

    وسُخِّرت الصحف والمجلات والكتب ومختلف وسائل النشر الإعلامي والدعائي , لتمجيد الفن , وأهل الفنّ , من رجال ونساء , حتى الفجّار والعواهر , إلى أن صارت الأخبار والدعايات الفنية تستأثر بمساحات كبرى من الدوريات , وتستهوي الجماهير الكثيرة من القراء , لا سيما المراهقون والمراهقات.

    وعمَّ في المجتمعات الإسلامية بلاء كبير عن طريق هذه الوسيلة , وانتشرت بسببها فتن جسام , وفساد في الأرض عريض.

    ونتج عن هذا اجتذاب أنظار الجماهير إلى تمجيد أبطال الفنّ وبطلاته , حتى احتلّ هؤلاء قمماً اجتماعات عالية. فإذا مات منهم ميت مشى في ركب جنازته عشرات الألوف , وأولته وسائل الإِعلام اهتماماً عظيماً , أمَّا إذا مات عالم كبير , أو مناضل عن قومه عظيم , أو مخترع اكتشف ظاهرة كونية مفيدة للإنسانية , أو قائد عسكري بارع , أو قائد سياسيّ مخلص , لم يخرج في جنازته إلا أهله وأصدقاؤه وأحبَّاؤه , والذين يهُمهم استرضاء ذويه , ولم تذكره وسائل الإعلام إلاَّ عرضاً وبأخبار موجزة أليس هذا انتكاساً شنيعاً في المفاهيم.


    * * *
    التعديل الأخير تم 04-09-2007 الساعة 08:05 AM
    من لم يكن له من دينه واعظ ، لم تنفعه المواعظ

  8. افتراضي



    الوسيلة السادسة

    استخدام عنصر الحكم


    تكاد تكون الشهوة إلى الحكم والسلطان في نفوس بعض الناس من أقوى الشهوات الآسرة , التي تهوِّن على صاحبها ارتكاب الجرائم الكبرى في سبيل تلبيتها لولا الضوابط الأخلاقية الإسلامية , والروادع والمرغبات الدينية التي تحجز الإنسان عن ذلك , فتدفعه إلى ابتغاء مَرضاة الله والخوف من عقابه والطمع في ثوابه.

    ويعرف الأعداء الغزاة هذه الحقيقة من حقائق النفوس , لذلك فقد وضعوا في خطط كيدهم للإسلام والمسلمين استغلال عنصر الحكم والطمع به , واستغلوه فعلاً أخبث استغلال , فدغدغوا الشهوات العارمة إليه , وقذفوا في النفوس الخاملة الرغبة العنيفة به , وأفسدوا في مجاله أخلاق كثير من المسلمين أيما إفساد , وحولوا سلوكهم فيه عن منهج الاستقامة والعدل إلى أنواع من السلوك الظالم الآثم الفاسد المفسد , واستطاعوا بذلك أن يمزقوا جماعات المسلمين , ويحطموا كتلتهم الواحدة , ويجعلوها فرقاً مجزأة شتى.

    لقد عرف الأعداء الغزاة كيف يتصيدون الطامحين إلى الحكم , وكيف يحركون إليه الغافلين عنه , وكيف يغرونهم به ويذيقونهم شيئاً من حلاوته , دون أن يعطوهم فرصة الاطمئنان والاستقرار , اللذين من شأنهما أن يدفعا الأكفاء إلى الإصلاح والتحسين , وعرفوا أيضاً كيف يثيرون التنازع عليه , والتقاتل من أجله , وممارسة كل رذيلة وكل جريمة في سبيل الظفر به , والاستئثار بخيراته , والاستبداد بمقاليده ونشروا في طلاب الحكم وممتهني السياسة ما أسموه بالأخلاق السياسية , التي لا تؤمن بفضيلة من الفضائل إلا ببلوغ الغاية مهما كانت الوسيلة , حتى غدت رذائل الكذب والخداع , والنفاق , والوعود المزمع على الإخلاف بها ابتداء , ونقض العهود والمواثيق , والقتل بغير حق , واستلاب الأموال بغير وجه مشروع , وانتهاك الأعراض وغير ذلك من الأمور التي لا يستنكرها العاملون في ميادين السياسة.


    ثم انتقلت عدوى هذه الرذائل إلى الشعوب التي تمنح أمثال هؤلاء السياسيين قيادة حكمها , حتى صارت العملات الرائجة في ميادين المعاملات السياسية هي هذه الرذائل : «كذب - نفاق - تضليل - وعدٌ لا وفاء له - احتيال لبلوغ المصالح الخاصة - فسق وفجور - قتل بغير حق - اتهام بالباطل - إيقاع الغافلين في شرك الجريمة لتسويغ الانتقام منهم والتخلص من معارضتهم أو لتسويغ سلب أموالهم ومصادرة ما تحت أيديهم - إلى غير ذلك من جرائم كثيرة».

    قد نشأ من جراء هذه الرذائل السياسية انهيار خلقي وسلوكي عام ؛ حتى صارت الشعوب لا تمنح أصواتها الانتخابية , ولا تعطي تأييدها لمتحكم مستبد إلا في مقابل أجر معلوم , أو منافع مادية محددة . وتحول السياسيون والمتحكمون من قادة يتحملون المسؤوليات الجسام , ويضحكون في سبيل رفع مستوى شعوبهم , ودفع ضر الأعداء عنهم , ويحكمون بينهم بالعدل والقسطاس المستقيم , إلى تجار جشعين متكالبين , يتقاتلون على الغنائم , ويتزاحمون على الأسلاب , ويتنافسون في تصيد الشهوات المحرمة , والخوض في حمأة الرذيلة.

    وتبعهم في ذلك المخالطون لهم والقريبون منهم , وانغمس في مثل ذلك حماة البلاد ومن وضعت في أيديهم أثقال القوى الحربية , وكانت هذه داهية الدواهي , ففقد هؤلاء الحماة الروح المعنوية التي يجب أن تكون جاهزة للتضحية والفداء , كما هو مقدر لها , لأنهم غارقون في الرفاهية والترف واللذات المحرمة , غير مستعدين أن يتركوها ليواجهوا كفاحاً أو قتالاً , وينشدوا بذلك مثلاً كريمة ورضواناً من الله , ومثل هؤلاء غير مؤهلين للصمود في مواجهة عدوهم مهما كثروا وفاقوا عدوهم عدة وعدداً , لأن أعداد الجيوش إنما تحسب في الحقيقة بمقدار ما فيها من مقاتلين صادقين يحملون الروح المعنوية العالية , لا بمقدار ما فيها من دمى عسكرية , إذا سقطت إحداها تساقطت معها مئات الدمى.

    وأعظم روح معنوية عرفها التاريخ في الجيوش المقاتلة إنما هي الروح المعنوية التي يحملها المسلم الصادق الشجاع , وهي التي تفجرها فيه الغاية العظمى التي يقاتل في سبيلها , إنه لا يقاتل من أجل الدنيا , ولا يقاتل حمية , ولا يقاتل عصبية , ولا يقاتل لمجرد أن قيادته أمرته بالقتال , ولا يقاتل ليقال عنه شجاع أو ذو بأس , إنما يقاتل في سبيل الله , ولإعلاء كلمة الله , ويرجو من الله النصر أو الجنة.


    ومن أجل ذلك استطاع أن يغلب عشرون صابرون مئتين بإذن الله , وأن يغلب أي عدد من المسلمين الصادقين الصابرين عشرة أضعافه , والله مع الصابرين.
    وقد عرف أعداء الإسلام والمسلمين هذه الحقيقة بالشواهد التاريخية , فعملوا على سلب هذه الروح المعنوية العظيمة من أفراد الجيوش داخل البلاد الإسلامية , وعملوا على تبديل غاياتهم المثلى بغايات جاهلية , ثم عملوا على استدراجهم إلى الحجرات المظلمة العفنة المنتنة المخمورة , التي تتراقص على أبوابها الأضواء الخافتة الحمر , بغية أن يذبحوا فيها حياتهم العقلية والنفسية , ويسلبوهم قواهم الجسدية , ويسترقوا منهم الأسرار العسكرية الخطيرة , ويجعلوهم دمى فارغة من معاني الإنسانية الفاضلة , ولكن يبقون لهم المظهر الخادع الذي يغري صاحبه بالتعاظم الفارغ الحقير , ثم انخرط فريق من هؤلاء في حمأة السياسة العفنة ومطامع الحكم , فاشتريت ضمائرهم , واستنزلوا من قبل الشياطين , وقفزوا إلى الحكم ليكونوا أجراء للأعداء , وينفذوا مخططاتهم بدقة تامة على ما يريدون.

    * * *

    الوسيلة السابعة

    استخدام المسكرات والمخدرات


    خلق المسلم الملتزم بالتعاليم الإسلامية لا يسمح له بأن تأسره عادة منحرفة ضارة , مضيعة لعقله , متلفة لجسده , مغضبة لربه.

    وحين اكتسب المسلمون الأولون خلق الطاعة لله ولرسوله استطاعوا أن يخالفوا نفوسهم بإرادة حازمة قوية , وأن يغيروا عادتهم في شرب الخمور , وقد كانت فيهم عادة آسرة , وحينما نزل حكم الله بتحريم الخمر أسرع المسلمون فأراقوا قدورها , حتى جرت بها سكك المدينة , ولم تتحسر نفوسهم عليها , ولم يعتبروا ذلك إتلافاً لمال , مع أنهم كانوا يغالون في أثمانها على عادتهم في الجاهلية , ونزل قوله الله تعالى في سورة (المائدة / 5 مصحف / 112 نزول) :

    {يَـاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ}.

    وسمع ذلك عمر بن الخطاب فقال : انتهينا يا رب انتهينا ، وانتهى المسلمون عنها وأطاعوا لأمر ربهم.

    وقد عرف الأعداء الغزاة – بدراساتهم وخبراتهم – ما في المسكرات والمخدرات من مضار شديدة عقلية وجسدية ونفسية وخلقية ، فعملوا بطرقٍ مباشرة أو غير مباشرة على نشر تعاطيهما في الشبان من أبناء المسلمين ، وفي كل مخالطيهم ، واتخذوا لذلك عدة وسائل ، فكان مما فعلوه تشجيعهم المادي والمعنوي على زيادة حانات الخمر ، وتوسيع دائرة انتشارها فيما استعمروا من بلاد المسلمين ، وإمداد الشعوب الإسلامية بأنواعها المختلفة واتخاذ الوسائل الخفية لتسللها إلى البلاد التي تحرم استيرادها وتؤاخذ على تعاطيها بحكم الإسلام ، وأخذوا يستدرجون الذين يخالطونهم من المسلمين إلى تجرعها شيئاً فشيئاً ، بمختلف الوسائل الماكرة ، ويقدمونها إليهم بأيدي الكوافر العواهر ، ليفقدوا قوى المقاومة في عنف الرغبة المشبوبة إلى ارتكاب الإثم ، ثم يكون من وراء جرعات التجربة أو الإرضاء جرعات كثيرة تدفع بمتعاطيها إلى اعتيادها ، ثم إلى إدمانها ، ثم إلى تضييع صوابه ، وإتلاف جسمه وماله على أبواب حاناتها.

    ونشط تجارهم في جلب أصنافها الكثيرة ، وأخذوا ينشرون بين الناس شباكهم المتنوعة ، ويبثون شياطينهم وأجراءهم ، كي يستدرجوا أبناء المسلمين إلى موائد الخمر ، والأسرّة الحمر ، بغية استنزاف نفوسهم وعقولهم وأموالهم ، وبغية إفساد أخلاقهم وآدابهم ، وتحويل المجتمعات الإسلامية عن دينها ، واستدراجها إلى مواقع أعدائها.

    وقد دلت التجارب على أن الشرور وقبائح الأعمال يستدعي بعضها بعضاً ، ويرتبط بعضها ببعض ، فموائد الخمر تستدعي موائد القمار وجلسات الاستمتاع الحرام ، ثم تجر إلى غرف الفاحشة ، وكل قذارات السلوك هذه تجر إلى رذائل العداوة والبغضاء ، ثم إلى جرائم القتل والخيانة العظمى ، ثم إلى تسليم مفاتيح البلاد إلى أعدائها الطامعين بخيراتها ، الظامئين إلى بسط سلطانهم على مقاليد أمورها. وهي على وجه العموم تصد مرتاديها عن كل خير ، وعن كل علم نافع ، وعن كل عمل مثمر ، وتبدد حياتهم بالمتالف.

    وقد شهدت البلاد الإسلامية التي دخل إليها المستعمرون كيف أفسد هؤلاء سلوك الذين خالطوهم من أبناء المسلمين ، وكيف صدوهم عن دينهم ، وسلبوهم عقولهم ، وبدّدوا طاقاتهم العملية بموائد الخمر والفحش والقمار ، وما انفكوا يستدرجونهم حتى فاق تلاميذ الرذيلة أساتذتهم ، ثم تسلّم هؤلاء التلاميذ قيادة الرذيلة في البلاد ، وصاروا أساتذتها المحليين ، وانبثوا في كل مجال يعلمون الأجيال الناشئة ما كانوا تعلموه بالأمس من أساتذتهم ، وأشياء أخرى أضافوها من حصائل خبراتهم التي اكتسبوها بكثرة الممارسة.

    أما المخدرات فقد عرفنا أنه كان للمستعمرين في نشرها نصيب واسع ، ارتكبوا فيه جريمة إنسانية ما عرف التاريخ نظيرها في الجرائم الإنسانية العامة مع أن القانون الدولي العام يحرم تداولها وتجارتها. وقد سجل التاريخ أن وكلاءهم كانوا يقومون بتهريبها إلى داخل البلاد المغلوبة على أمرها بسلطانهم ، وأنهم كانوا يؤازرونهم على ذلك ، ويشاركونهم في أرباح تجارتها المحرمة ، وأنهم كانوا يشجعون سرّاً على تناولها وإدمانها ، بغية ابتزاز الأموال الحرام من جهة ، وإماتة روح المقاومة في نفوس مدمنيها من جهةٍ أخرى ، لأنهم يعلمون ما فيها من سم قاتل ، يميت في مدمنها معظم القوى الفعالة التي تحرك الإنسان إلى الكفاح وطلب الخلاص من ذلّ الاستعباد ، وتدفعه إلى كل تقدم صاعد.

    * * *

    الوسيلة الثامنة

    استخدام وسائل اللهو واللعب


    من أخلاق المسلمين الأساسية الجد في الأمور ، والعزوف عن اللهو واللعب والهزل والسفاسف ، والبعدُ عن كل قواتل الأوقات دون ثمرات نافعات ، إلا في حدود المُلَح اليسيرة التي تروح عن النفس ضمن لمحات خاطفة ، وتخفف عنها ثقل العمل الجاد المثمر.

    واللهو واللعب في الإسلام قسمان:

    القسم الأول: حرام لا يجوز أصلاً ، كالنرد ومهارشة الديكة ونحوها.

    القسم الثاني: مباح باعتبار أصله ، ولكن يشترط في هذا القسم المباح شروط ، منها : أن لا يفوت حقاً ، أو يضيّع واجباً ، أو يستهلك العمر فيما لا جدوى منه.

    فحين تسمح الأخلاق والآداب الإسلامية بقسط من اللهو واللعب فلا تسح بذلك لأن للهو واللعب غايتان في أنفسهما ، وإنما تسمح بهما لكونهما وسيلتين قد تجدّدان نشاط العامل في عمله ، وتنهضانه من كسل قد انتابه ، أو تعب قد أصابه ، مع اشتراط عدم تجاوزهما حدود كونهما وسيلتين لاستعادة النشاط إلى العمل الجاد النافع.

    أما أن يكون اللهو واللعب غايتين في أنفسهما لتحقيق المتعة وقتل الوقت بهما ، فليس ذلك من الأخلاق ولا من الآداب الإسلامية بحالٍ من الأحوال ، وليس من المقبول في الإسلام شيء اسمه قتلٌ للوقت ، لأن وقت الإنسان في الحياة هو رأس ماله ، هو أجزاء وجوده ، متى انتهت انتهى وجوده ، وهذا يكشف للعاقل أن وقته وطاقاته التي هي قوام حياته أثمن ما لديه في هذه الحياة ، فلا يصح مطلقاً أن تكون ثمناً للهو لا ثمرة له ، أو لعب غير متجه لغاية تستحق ذلك الثمن.

    فما اللهو واللعب بدون ثمرة نافعة أو غاية كريمة إلا عبث من عبث البطالة ، والبطالة في نظر الإسلام صورة من صور الموت في الأجساد الحية ، وقد أخبر الرسول لرجل وهو يعظه : "اغتنم خمساً قبل خمس : شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك" .

    وعن ابن مسعود رضي الله عنه ، عن النبي قال : "لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن خمس : عن عمره فيما أفناه ، وعن شبابه فيما أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه ، وفيما أنفقه ، وماذا عمل فيما علم" .

    وفي ميادين اللهو واللعب تعرض المسلمون لغزوٍ كبير من قبل أعدائهم ، إذ أرسلوا إليهم سيولاً متتابعة من دور اللهو ، وأندية القمار ، ومسارح الرقص والمجون ، وأفلام اللهو والفحش والخلاعة ، ووسائل التسلية ، وأدوات اللعب القاتل للوقت ، ومجلات الصورة الفاجرة والدعوة الجنسية الوقحة ، والنكتة القذرة أو المستهزئة بالدين والفضيلة ، وكتب القصة التافهة أو الماجنة ، وتفاهات الموسيقى النابية والغناء الشاذ اللذين يخاطبان الغرائز ويثيران الشهوات الجانحة.

    وقد ألبسوا كل ذلك أثواب العلم والفن زوراً وبهتاناً ، وعمدوا إلى أن يمتصوا به أفكار المسلمين وعواطفهم وأخلاقهم وكل عاداتهم الكريمة ، ليضعوا محلها ما شحنت به هذه الواردات المتدفقة من أرجاس فكرية وخلقية واجتماعية ، وأرادوا أن يسرقوا بها أوقات المسلمين التي هي أعمارهم ، ورؤوس أموالهم في هذه الحياة.

    والقابضون على نواصي هذه الوسائل في العالم ، المفسدون في الأرض ، وفي مقدمتهم شياطين اليهود ، الذين يقومون بتحويل جميع مجاري الأموال التي تبتزها هذه الوسائل من المغفلين والمخمورين لتصب آخر الأمر في الأحواض الكبيرة التي يمتلكها اليهود ، ولا بأس عندهم أن ترشح قليلاً للذين يجمعونها إليهم ، أو أن تمكث قليلاً في غير أحواضهم ، فإنهم يعرفون كيف يفتحون سدودها بالحيلة والمكر ، ويعرفون كيف يثقبون كل حوض يجمع ضدهم ، وكيف يجعلون هذه الثقوب تصب في المسارب والمجاري التي تنتهي إلى أحواضهم وشياطين اليهود لا يواجهون الأمر بأنفسهم إلا نادراً ما دام لهم وكلاء يقومون عنهم بما يريدون مقابل أجر يعرف اليهود كيف يستردونه مضاعفاً.

    ودسَّ الأعداء الغزاة من كلّ جهة أصابعهم في ميادين الرياضة البدنية التي يدعو إليها الإسلام ، واستطاعوا أن يوجهوها لغير وجهتها السليمة ، وأن يتلاعبوا بالغاية الحسنة التي تهدف إليها الرياضة المثلى ، من تقويم الجسم وترويضه ، وطرد الخمول والكسل وعوامل المرض عنه ، وإعداده إعداداً حسناً للصمود في وجه العدو وإكسابه بعض فضائل الأخلاق ، إلى كونها وسيلة تسلية لجماهير المشاهدين ، يحترفها جماعة من الناس لا غاية لهم إلا المقامرة بأرواحهم بغية الوصول إلى الغلب أو السبق ثم الجائزة ، ثم أدخلوا في الرياضة مفاسد عري الفتيات ، وشوهوا اسم الرياضة الكريم ، وخلطوا في العري بين الفتيان والفتيات ، وألقوا النار على حبيس الجنس ، لينفجر بالفجور ، أو يصاب بالضعف ويفقد قوته ووجوده ، أو يرمي صاحبه بأمراض جسدية أو فكرية أو نفسية ، إضافة إلى ما في ذلك من إفساد خلقي عام ، ومخالفة علنية وقحة لدين الله ، وأمره ونواهيه .

    وقد دخلت مجموعة هذه الوسائل بعواملها المدمرة دخولاً كاسحاً في بلاد المسلمين ، الأمر الذي يوجب على عقلائهم أن يتداركوا واقعهم ، فيقبضوا على نواصي هذه الوسائل كلها في بلادهم قبضاً محكماً ، ويوجهوها لكل صالح نافع مفيد ، يمنع عنها الفساد ، ويبعد عنها شرور أعداء الإسلام والمسلمين ، ويصعد بها حتى تسير في صراط الإسلام المستقيم ، البعيد عن سبل الكفر ، عن كل القناطر والجسور التي تؤدي إليها ، أو تؤدي إلى تمكين العدو من قيادة المجتمعات الإسلامية ، والسير بها إلى سوء المصير.

    وإن أول الطريق إلى النتائج الوخيمة وعواقب الشر المستطير الذي يورد الأمة موارد الهلاك ، ما نشاهد في كثير من فتياننا وفتياتنا من تعلق بالأمور التافهة ، وعشق كبير لها ، وانشغال كلي بها ، وهي من الترهات التي لا ثمرة فيها لفرد أو جماعة.

    لا بد أن ينفطر قلب المؤمن العاقل البصير حزناً على الشباب الضائع بين قواتل العمر من وسائل اللهو ، وقواتل الطاقات من وسائل المجون "لهو وقمار – سكر وفجور – إضاعة للوقت بألعاب الورق والنرد والودع – تتبع للمحرمات وتصيد للمصونات – تخنث وتكسر – تبذل بزي الخنافس الأوربية – تشبه الفتيان بالفتيات وتشبه الفتيات بالفتيان – إلى غير ذلك من أمور كثيرة".

    وشاع في بعض المجتمعات جنسان جديدان في صورة بشرية ، جنس النساء اللواتي أخذن وظائف الرجال وتشبهن بهم ، فخرجن من صنف النساء ولم يستطعن أن يكنّ ذكوراً ، وجنس الرجال الذين تكسروا تكسر النساء وتشبهوا بهن وأخذوا وظائفهن ، فخرجوا من صنف الرجال ، ولم يستطيعوا أن يكونوا إناثاً.

    فإلى أين يا أشباه الرجال ويا أشباه النساء أنتم سائرون ، وإلى أي منحدر أيها الشباب والشواب تهرعون ، وفي أي شرٍ تتنافسون ، إنكم ومعكم أولياؤكم لمسؤولون.

    * * *

    الوسيلة التاسعة

    اهتمام الغزاة بإفساد الفتيان والفتيات

    ووجه الغزاة أثقال خططهم وأعمالهم لإفساد الأجيال الناشئة من بنين وبنات ، باعتبارها صحائف بيضاء لها قابليات التأثر ، وباعتبارها هي التي تكوّن الأمة في المستقبل ، وهي التي تقود أجيالها القادمة ، أما الكبار الذين جفت قابلياتهم للتأثر فقد رأى الغزاة مداراتهم ، وإفساد من يمكن إفساده منهم ، وعزلهم عن مراكز توجيه الأجيال الناشئة ، وانتظار تصفية الزمن لهم.

    واتخذ الغزاة لإفساد أخلاق الأجيال الناشئة وتحويل سلوكها عن منهج الآداب والتعاليم الإسلامية وسيلتي التضليل الفكري والتحويل السلوكي ، أما التضليل الفكري فبالمفاهيم والنظريات الغازية ، وأما التحويل السلوكي فبإيجاد المناخات المادية التي لها قوة التحويل بالتزيين ، والتدريب ، والمحاكاة ، والتقليد ، وإثارة الغرائز والأهواء والشهوات ، وإمدادها بما تميل إليه ، إلى غير ذلك من وسائل تحويلية ، وكان كلُّ ذلك ضمن خطتين:

    الخطة الأولى: أن تأتي كتائب الغزاة إلى بلاد المسلمين بأسماء مختلفة علمية وفنية وصناعية وتجارية وسياحية ورياضية ونحوها ، لتقوم بعمليات الإفساد عن طريق الاختلاط بالبنين والبنات ، والتأثير عليهم ببهرج مظاهر الحياة وزينتها ولذاتها وبالمبتكرات من النظريات والأفكار ، ومن الأزياء والفنون التي تستهوي النفوس ، ويغريها بالمحاكاة والتقليد.

    ومعلوم أن الأجيال الناشئة لم تحصن بعد بالمناعة بالفكرية والمناعة النفسيّة ضدّ أي غزو فكري أو نفسي يمسُّهم بجرثومته ، وذلك بسبب كونهم لم يزودوا بعد بالمفاهيم الدينية الكافية لتحصين أفكارهم ، ولم يزودوا بعد بالعناصر الإيمانية الكافية لتحصين نفوسهم وقلوبهم.

    لذلك فإن تعرضهم للإصابة بوافدات الأوبئة الغازية أمرٌ متحتم إلا من عصمه الله بعصمته.

    والخطة الثانية: أن يستدرج أبناء المسلمين وبناتهم إلى معاقل جيوش الغزاة ، وهم لا حصانة لهم ، ولا مناعة في أفكارهم ونفوسهم ، ولا سلاح في أيديهم ، وهنالك يتسنى لمعاقل الغزو من إفساد المستدرجين إليهم ما لا يتسنى للغزاة داخل بلاد المسلمين ، وبسرعة فائقة تستطيع هذه المعاقل أن تصنع هؤلاء الفتيان والفتيات صناعة جديدة ، تستخدم فيها كل مفاتن مدنياتهم الحديثة ومباذلها ، بعيداً عن مراكز العلم الصحيح النافع ، والصناعة المتقنة المفيدة ، ثم يعودون بعد ذلك غرباء عن أمتهم وعاداتها وأخلاقها ودينها.

    وبطريقة لا تكلف جيوش الغزو شيئاً يمسي هؤلاء الممثلين لجيوش الغزاة داخل بلاد المسلمين ، إذ يحملون بين المسلمين رسالة أعدائهم ، وبأسلوب أشد عنفاً ، وأكثر وقاحة ، وأعظم تأثيراً.

    ولا يخفى علينا ما في مظاهر المدنية الحديثة الأوربية من فتنة لا يملك مقاومة إغرائها أصلب أبنائنا وبناتنا عوداً ، وأقومهم سلوكاً ، وأجودهم فكراً ، إلا النذر اليسير ، فكيف بالذين ليس لديهم أية مناعة أو حصانة ضدها؟!.

    لسنا ننكر أن من هذه المظاهر ما هو حسنٌ بذاته ، جدير بالمسلمين أن يستفيدوه ، ولا بأس في أن يقلدوه ، إذ الإسلام يدعو إليه ويشجع عليه ، ومن ذلك تنظيم المدن ، وهندسة الأبنية مع بعض تعديلات تسهل تطبيق الأخلاق والآداب وسائر التعاليم الإسلامية. ومنها شق الشوارع الضخمة ورصفها وتنظيفها وإنارتها. ومنها إنشاء الحدائق الجميلة في كل حيٍّ وحِلة. ومنها الاهتمام الشديد بالنظافة العامة وشؤون الوقاية الصحية من قبل الدولة , ومن قبل كل فرد من أفراد الأمة . ومنها التقيد بالأنظمة العامة في سير المركبات وسير المشاة , ومراعاة الحق والنظام لدى الركوب في المركبات العامة ولدى النزول منها , وفي كل أمر من الأمور التي يكون للناس فيها حقوق مشتركة , وذلك باحترام حق السابق , وعدم التزاحم بغية تناهب حق السبق. ومنها تنظيم أسواق البيع والشراء , وحسن التعامل فيها. ومنها الحرص على الاستفادة من كل وقت يمر في عمر الأمة أفراداً وجماعات بعمل مثمر مفيد ، أو براحة تدعو إليها الضرورة ، أو بمتعة مباحة تتطلبها الفطرة ، أو تسلية مروحة عن النفس مجددة للنشاط ، إلى غير ذلك من أمور يشهد العقل بحسنها ، ولا تتنافى مع الشرع.

    ولكن حينما يرى أبناؤنا وبناتنا بعض هذه المظاهر الحسنة في المدنية الأوربية تستأثر بإعجابهم ، وتستهويهم وتستدرجهم ، فيظنون أن كل ما فيها حسن وجميل ، وأنه هو الرقي الحضاري الرفيع ، ويعتبرون أن ما شهدوه من مظاهر حسنة إنما هو نموذج عن تقدم أهل هذه البلاد في كل شيء ، وعندئذ ينطلقون في دروب هذه البلاد ولا بصيرة لهم ، قد استولى عليهم الانبهار.

    ووراء الشوارع الزجاجية اللماعة ، التي تتلألأ أضواؤها من كل جانب ، ويجمل فيها النظام واحترام الحقوق ، أقبية ذات أضواء خافتة حمر ، يستدرج إليها المبهورون ، فتنزلق أقدامهم إلى كُنُف اللذات المحرمة القاتلة ، فيتقلبون في أكنافها ، وينفقون فيها من جيوبهم مالاً كثيراً عانى آباؤهم وذووهم جهداً جهيداً حتى جمعوه لهم ، أو عانت أمتهم فقراً كثيراً حتى وفروه وقدموه إليهم ، وينفقون فيها من نفوسهم ذخائر الخلق الكريم الذي توارثته الأجيال المسلمة خلال قرون ، لتقدمه إليهم كنزاً ثميناً ، وينفقون فيها من عقولهم أكمل ما عرفته الحضارات الإنسانية من ميراث فكري ، وينفقون فيها من قلوبهم جوهرة المعرفة الخالدة التي حفظتها لهم العقيدة الإسلامية المصونة من التحريف ، وينفقون فيها فوق كل ذلك قوتهم وصحتهم ، حتى يخسروا شبابهم قبل أن يصبحوا شباناً ، وكهولتهم قبل أن يبدأوا مرحلة الكهولة.

    وكثير من شبابنا الذين تسكرهم أو تخدرهم هذه الأقبية الحمر يظلون غرقى في كنفها حتى تمتص منهم كل مال وقوة ، وعندئذ ترميهم في زوايا دروب الحياة كما ترمي نعالها الباليات.

    وقد يظن الأولياء المباشرون أو غير المباشرين ، أنهم حينما يدفعون أبناءهم وبناتهم في هذه السبل لتحصيل العلم والمعرفة ، ويزودونهم بالأموال ، ويهيئون لهم سبل الرفاهية ، يقدمون لهم خيراً ويجلبون لهم سعادة حاضرة ومستقبلة ، ولكنهم مخطؤون في هذا الظن ، إنهم يدفعون بهم إلى مزالق الفتنة والفساد.

    ولا يعفي الأولياء من المسؤولية أنهم يبذلون الأموال الكثيرة لأبنائهم وبناتهم ، وإنهم يقدمون لهم وسائل فسادهم إذا لم يحيطوهم بالصيانة الكافية . إن إمدادهم لهم بالمال الكثير ودفعهم إلى مخططات أعداء الإسلام ، من الأمور التي تساعدهم على أن يسلكوا سبل الانحراف والشذوذ وفساد الأخلاق ، والانزلاق إلى أودية الكفر ، والخروج الكلي من الإسلام ، فالمال الوفير في أيدي المراهقين والمراهقات ، والشبان والشوابّ يفتح لهم أبواب الفساد ويسهل لهم سبل الشر ، ثم إن العلم الخالي من التربية الصحيحة والدين المتين والصيانة المستمرة يزيد عندهم إمكانيات الحيلة والمكر ، والتعرف على مداخل الفساد ومخارجه ، التي لا يمنعهم عن الدخول فيها إلا رقابة البيئة ، والخوف من انتقاد الناس أو الخوف من سخط أوليائهم.

    إن هذا المزلق الخطر يتطلب من عقلاء الأمة تأملاً طويلاً ، وحزماً شديداً ، وتداركاً قبل فوات الأوان ، وإلا دهمهم الخطر المحقق ، واستفحل عليهم الأمر ، ووقعت القوة كلها في أيدي المفسدين ، وظفر بالمسلمين أعداؤهم ، الذين يعملون دائماً لإفساد أبنائهم وبناتهم وهم في حجورهم ، وجعلهم أعداء لهم ولدينهم.

    ويدفع كثير من المسلمين أبناءهم إلى أيدي أعدائهم ، وينصرفون إلى شؤونهم الخاصة ، وينغمسون فيها لاهين عن فلذات أكبادهم ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

    أما الوسائل التي يمكن اتخاذها لمعالجة هذا الداء فكثيرة ، منها ما هو عام ومنها ما هو خاص.

    أما ما هو عام فيكون بما يلي:

    أولاً: بالقبض على أجهزة التعليم بفكر إسلامي درَّاك ، يحسن التخطيط ، ويحسن وضع المناهج ، حازم في التنفيذ ، مهتم بالتربية الإسلامية التطبيقية ، لا يسلم الأمر – مهما صغر – لغير أهله الموثوقين ، وإن حسنت كفاءاتهم ، لأن زيادة الكفاءة مع انعدام الثقة أشد خطراً من نقصانها.

    ثانياً: بإنشاء المؤسسات التوجيهية التي تهدف إلى تمكين مفاهيم الإسلام النظرية والعملية في نفوس المنتسبين إليها ، وتمتص فراغهم بكل نافع مفيد ، وتوجه طاقاتهم إلى الخير ، وترضي نفوسهم بتسلية مباحة ، فيها رياضة للجسم أو الفكر أو النفس ، كأندية رياضية إسلامية ، ومراكز محاضرات ثقافية أو توجيهية ، ومشاريع سياحات استطلاعية تفتح آفاق الفكر والنفس ، إلى غير ذلك من أمور كثيرة يمكن أن تسهم بشكل إيجابي في إبعاد الأجيال المراهقة عن مزالق الفساد.

    وأما ما هو خاص بالأولياء المباشرين فيكون بما يلي:

    1- بالرقابة الدائمة غير المنفّرة.
    2- بحسن التربية بالحكمة والعقل.
    3- بعدم تيسير أسباب الفساد.
    4- بربط الناشئ بمسؤوليات تمتص فراغ وقته ، منها مسؤوليات علمية أو تعليمية ، أو مسؤوليات أخرى يساهم فيها بإسعاد أسرته وأمته.
    5- بأخذه إلى بيئات اجتماعية صالحة.

    إلى غير ذلك من وسائل كثيرة نافعة.

    * * *

    الوسيلة العاشرة

    استخدام وسائل الترف والرفاهية


    متى غرقت أمة من الأمم في الترف ، وأبطرتها الرفاهية التي تجر ذيولها مستكبرة ، دبت فيها عوامل الانهيار الخلقي ، وبدأت تنسى الله والدار الآخرة ، وتتعلق بزخرف الحياة الدنيا كأنها فيها خالدة ، وتسعى وراء غرائب اللذات ، وتتجدد لديها مطالب مستنكرة من متع الحياة ، وأخذ مترفوها يتنافسون في ابتكار أنواع مستحدثة مما يشتهون أو به يتلهون ، ويبددون فيها أموالهم ، ويبذلون فيها طاقاتهم الجسدية والفكرية والنفسية ، ويتفننون في تصيد المتع من كل وجه ، حتى إذا ما اختبروا ما أباح الله من لذّات سئموها ، ولذَّ لهم أن يتجاوزوا حدود ما أحل إلى ما حرم ، وعندئذ يتسابقون إلى ارتكاب غرائب المحرمات والموبقات ، حتى يفقدوا كل ذوق إنساني مقبول ، ويضعوا أنفسهم في المنتنات القذرات المهلكات.

    وبسبب ذلك تصاب عوامل التقدم العلمي والحضاري فيهم بالركود والخمول ، وثم بالموت والفناء ، لأن طاقاتهم قد اتجهت في طريق آخر طريق لذات الجسد ومتعه ، مع البطر والتفاخر والتكاثر والطغيان ، إذ فتحت لهم أموالهم وما أترفوا فيه كل باب من أبواب الاستمتاع بالحرام.

    ثم تصاب قلوبهم بقساوة شديدة ، تفقد معها كل عطف إنساني ، أو رحمة بالضعفاء وذوي الحاجات ، وربما يجدون لذتهم ومتعتهم في أن يشاهدوا ذل الآخرين وعذابهم بين أيديهم ، ولقد شهدت بعض الامبراطوريات المنقرضة مثل ذلك ، فكان سبب دمارها ، ويقص علينا التاريخ من أنباء الامبراطورية الرومانية الشيء الكثير عن ذلك ، وأنها حينما أترفت لذّ لمترفيها أن يستمتعوا بمشاهدة خلق من خلق الله أمثالهم تفتك بهم الوحوش الضارية ، أو يتصارعون حتى يقتل بعضهم بعضاً ، ويضيفون هذه المشاهدة إلى باذخ ترفهم الذي يستمتعون به.

    هذا الجو المكفهر المجرد من المعاني الإنسانية الكريمة ، المشحون بالأنانية القاتلة ، من أكثر الأجواء النفسية والاجتماعية ملاءمةً لموت الفضائل الخلقية والكمالات السلوكية ، ولنمو الرذائل الفردية والاجتماعية ، وللوصول بالأمة إلى أدنى دركات الانهيار والضعف ، لأنه جو يغري بالطغيان والاستعلاء ، ويسهل فيه الحصول على كل متعة محرمة ، وتنعدم فيه معظم مسببات الزهد في زينة الحياة الدنيا ، وتفقد فيه معظم المذكرات بالله واليوم الآخر ومع نسيان الله واليوم الآخر والسكر بمفاتن الحياة الدنيا ومغرياتها تستشري في الإنسان بهميَّته ، وتنطفئ فيه مصابيح المعرفة التي تهديه إلى الصراط المستقيم ، وتستحوذ عليه شياطين الإنس والجن.

    ومن أجل ذلك كان المترفون في الأرض هم الذين تصدوا لمعارضة رسل الدعوة الإلهية في مواجهة وقحة. وهم الذين تسببوا بنزول عذاب الله في الأمم ، قال الله تعالى في سورة (سبأ/34 مصحف/58 نزول):

    {وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}.

    وقال الله تعالى في سورة (هود/11 مصحف/52 نزول):

    {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}.

    وقال تعالى في سورة (القصص/28 مصحف/49 نزول):

    {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ}.

    وقد أدرك أعداء الإسلام أن الترف والرفاهية والانغماس في اللذات أمور تسبب البطر ، وتوقف كل تقدم علمي وإنتاجي صحيح ، وتصيب الأمة بانهيار خلقي وسلوكي يؤدي بها إلى الضعف والهوان ، والتعلق بالقشور من ظواهر الحياة ، وترك موجبات المجد والقوة ، فخططوا خططهم من أجل إغراق الذين بسط الله لهم في الرزق من المسلمين في أنواع الترف والرفاهية والمتع المحرمة ، ودفعوا إليهم سيول وسائل الترف المشروعة وغير المشروعة من كل جانب ، وزينوها لهم بألوان الترويج والتحسين الفاتن الموشي بالإغراء ، وأثاروا بينهم دوافع التفاخر والتكاثر والتسابق إلى تحقيق أوسع صور اللذة ، فحقق ذلك لأعداء المسلمين غرضين خبيثين:

    الغرض الأول: إفساد أخلاق المسلمين وآدابهم وكل أعمالهم ، وتوهين قواهم بذلك ، وإيقافهم في واقع التخلف.

    الغرض الثاني: ابتزاز أموالهم ، واقتناص خيراتهم ، بما يصدرون لهم من وسائل الترف وزينة الحياة ، وبما يسهلون لهم من سبل محرمة تمتص مختلف طاقاتهم الفكرية والجسدية والنفسية ، ثم تسلبهم كل وازع خلقي يحجز بينهم وبين ما يشتهون من آثام وجرائم.

    وكان لأجنحة المكر نشاطات واسعة في ذلك ، مضافة إلى النشاطات الخبيثة التي تقوم بها اليهودية العالمية ، يدلنا على ذلك الواقع المشهود ، والأقوال المكتوبة ، ففي بروتوكولات حكماء صهيون قولهم : "إن الشباب قد انتابه العته لانغماسه في الفسق المبكر ، الذي دفعه إليه أعواننا من المدرسين والخدم والمربيات اللاتي يعملن في بيوت الأثرياء والموظفين والنساء اللاتي تعملن في أماكن اللهو".

    * * *

    الوسيلة الحادية عشرة

    سياسة المستعمرين غير الأخلاقية

    شاعت أساليب غير أخلاقية في حياة كثير من الشعوب الإسلامية التي سيطر عليها الاستعمار ، وذلك بتأثير الحكومات التي قبضت على ناصية بلادهم بسياستهم الاستعمارية ، إذ كانت هذه السياسة تعتمد في معاملتها لهذه الشعوب على أساليب غير أخلاقية ، كالكذب والخيانة ونقض العهد والغدر والإخلاف بالوعد والرشوة ونحو ذلك من رذائل.

    وكان لهذه الرذائل من الغالبين ردود أفعال مماثلة من المغلوبين ، وكانت ردود الأفعال هذه في أول الأمر أسلحة مضادة ، قاومت بها الشعوب سياسة المستعمرين ، ومع طول العهد وكثرة الممارسة صارت ردود الأفعال عادات مكتسبة ، وسرى داء الانحرافات الخلقية فتمكن من النفوس ، وسيطر على كثير من ظواهر السلوك.

    وحل أسلوب الكذب محل خلق الصدق ، وأسلوب الخيانة محل خلق الوفاء بالعهد ، وأسلوب الإخلاف بالوعد محل الصدق فيه ، وأسلوب الرشوة لشراء الضمائر محلّ التعامل بالحق والعدل ، إلى غير ذلك من أمور كثيرة من هذا القبيل.

    وفشا الداء من الدوائر الحكومية إلى المشتغلين بالسياسة ، ثم إلى الأسواق التجارية ، ثم إلى داخل الأسر ، وإلى العلاقات المادية والأدبية بين الأفراد ، حتى غدت التربية التي ينشأ عليها الأطفال تعتمد على كثير من هذه الأساليب غير الأخلاقية ، وبدأت الأجيال تكتسب من بيئتها هذه الانحرافات ، وتمارسها في حياتها ، وفقدت هذه الشعوب كنوزاً عظيمة من كنوز الأخلاق الكريمة التي توارثتها كابراً عن كابر ، وعمل الإسلام على تأصيلها في نفوسهم وفي أعمالهم.

    إن الهدم سهل ونتائجه سريعة ، ولكن الصعوبة كل الصعوبة في البناء.

    * * *

    الوسيلة الثانية عشرة

    استخدام الفكر الإلحادي

    على الرغم من أن أجنحة المكر الثلاثة تسير على خط معارض لخط الفكر الإلحادي ، فإنها لم تجد بأساً بنشر الفكر الإلحادي الذي تحمل لواءه المادية الشيوعية ، لإفساد الشعوب الإسلامية في عقائدها وأخلاقها وآدابها وسائر أنواع سلوكها في الحياة.

    قد يبدوا هذا عجيباً في أساليب من ينتسبون إلى دين سماوي ، ويبشرون به بين الناس ، ولكن الواقع قد أثبته ، ومبرِّره لديهم أن المسلمين لا يمكن أن يرتدوا عن دين الإسلام الحق ، ليدخلوا في أديان محرفة جاء الإسلام فكشف زيف تحريفاتها ، وإنما يمكن أن يرتدوا عن الإسلام إلى الإلحاد المطلق ، والكفر بكل دين ، وهذه مرحلة ترضي أجنحة المكر الثلاثة ، لأنها تزيح من طريقهم منافسين خطيرين يحملون ديناً حقاً تقبله العقول والنفوس.

    ومكنت أجنحة المكر الثلاثة لدعاة الإلحاد أن ينتشروا بين المسلمين ، وكان ذلك في بعض الأحايين عن اتفاق معهم ، وكان في أحايين أخرى بتدبير منهم واستئجار عناصر لبث الإلحاد ، يضاف إلى ذلك إغضاؤهم عن تحركات الشيوعيين ، وهم خصومهم لتحقيق هذه الغاية ، وفي المراحل الأخيرة ظهر اتفاق ضمني بين المعسكرين المتناقضين في العالم ، على نشر الإلحاد بين الشعوب الإسلامية ، والعمل على تحويل هذه الشعوب عن أخلاقها وآدابها وفضائل أعمالها.

    من الواضح أنه متى قطعت الصلة بين الإنسان وبين الغاية المثلى من وجوده في هذه الحياة أمسى مادياً أنانياً دنياوياً صرفاً ، وهذه المادية التي لا تخشى الله يرافقها باستمرار بواعث الجريمة ، لتلبية مطالب النفس وأهوائها وشهواتها.

    وحين وجد قادة المذاهب السياسية المادية في الأرض الذين يحاولون فرض سلطانهم المباشر أو غير المباشر على كثير من الشعوب أن طريقهم إلى غايتهم هذه مملوءة بالعقبات الأخلاقية ، السائدة في معظم المجتمعات الإنسانية ، عمدوا إلى إلغاء فكرة المبادئ الأخلاقية ، واعتبارها خرافة من الخرافات السائدة ، واستحدثوا نظرية الأخلاق المتطورة التي لا ثبات لها في مفاهيم الناس وأعرافهم ، وبعد هذا وجدوا أن المبادئ الأخلاقية متمكنة في نفوس الناس نظراً إلى ارتباطها بعقيدة الجزاء الرباني ، التي أملتها تعاليم الأديان الإلهية ، فعمدوا إلى إنكار عقيدة الجزاء ، ثم إلى إنكار الخالق جل وعلا ، لأن الإيمان بالله وفق العقائد السليمة لا بد أن يستدعي في نفس المؤمن الاتجاه نحو الحق والخير والفضيلة ، والإيمان بحكمة الله وعدله وجزائه.

    إنهم لم يجدوا وسيلة يدفعون بها الحشود البشرية إلى القيام بأعمال الظلم والقتل وسائر الجرائم التي تخدم غايتهم ما دامت هذه الحشود تؤمن بمبادئ الأخلاق الفاضلة ، والحق الثابت ، والجزاء الرباني ، وما دام الخوف من الإثم يحجزهم عن ذلك ، وما دامت عقيدة الإيمان بالله جاثمة على قلوبهم.

    من أجل ذلك نادوا بأن الدين أفيون الشعوب ، وذلك ليسقوا أتباعهم بهذه العبارة أفيون الجريمة والظلم واستباحة القتل ، واستباحة كل قبيحة تعارفت عليها الأمم والشعوب ، وليجرعوا بها كؤوس الحقد والحسد والكيد لكل خير وفضيلة.

    وجاءت إعلاناتهم الكثيرة توضح مذهبهم المستند إلى إلغاء الأخلاق والأديان والقوانين واعتبارها أوهاماً موضوعة لمصالح طبقية ، وفيما يلي طائفة من أقوال قادتهم:

    1- جاء في البيان الشيوعي الذي أصدره معلم الشيوعية الأول اليهودي "كارل ماركس" ورفيقه "إنجلز" ما يلي : "إن القوانين والقواعد الأخلاقية والأديان أوهام بورجوازية تتستر خلقها مصالح بورجوازية".

    2- وقال "إنجلز" : "إننا نرفض شتى المحاولات التي تحاول أن تفرض علينا أخلاقاً تستند إلى المثاليات ، ذلك لأننا نؤمن أن الأخلاق هي نتاج الأوضاع الاجتماعية ، ولما كانت الأوضاع الاجتماعية متغيرة ، فإن مفاهيم الأخلاق التي نؤمن بها هي كل عمل يؤدي إلى تحقيق انتصار مبدئنا مهما كان هذا العمل منافياً للأخلاق".

    3- وقال "لينين": "يجب على المناضل الشيوعي الحق أن يتمرس بشتى ضروب الخداع والغش والتضليل ، فالكفاح من أجل الشيوعية يبارك كل وسيلة تحقق الشيوعية".

    وقال أيضاً: "إذا لم يكن المناضل الشيوعي قادراً على أن يغير أخلاقه وسلوكه وفقاً للظروف مهما تطلب ذلك من كذب وتضليل وخداع ؛ فإنه لن يكون مناضلاً ثورياً حقيقياً".

    وقال أيضاً: "إن المناضل الشيوعي الثوري الحق هو ذلك الذي يبذل كل تضحية يفرضها عليه تحقيق الهدف الشيوعي ولو تطلب الأمر التضحية بالأخلاق والكرامة والضمير ، فالهدف المثالي الحق هو تحقيق المجتمع الشيوعي وتدعيمه".

    وقال أيضاً: "ويجب علينا أن نتوسل بكل أنواع الحيل والمناورات والوسائل غير القانونية لتحقيق أهدافنا الشيوعية".

    4- وقال "ستالين": "الأخلاق الصالحة في نظرنا هي تلك التي تيسر لنا القضاء على النظام القديم ، وهي تلك التي تدعم النظام الشيوعي ، ولا شيء غير هذا يمكن أن يسمى أخلاقاً فاضلة".

    5- وقال "مالينكوف": "إن الأخلاق الفاضلة في نظرنا هي كل الوسائل التي تؤدي إلى القضاء على النظام القديم ، بينما تؤدي في الوقت ذاته إلى تدعيم النظام السوفياتي".

    وقد أصبحت هذه الأقوال مشهورة شهرة تغني عن نسبتها إلى مصادرها ، وقد ألح القادة اليساريون في العالم على محاربة الأخلاق والدين بهذا الشكل العنيف لينزعوا من نفوس أتباعهم كل ما تبقى فيها من وجدان ، وكل ما خلفته الموروثات الفاضلة فيها ، حتى لا تبطئهم عن ارتكاب أية جريمة في الشعوب ، متى كانت الجريمة سبباً لتحقيق أهداف القادة اليساريين في استعباد الشعوب.

    وبعد هذه الأقوال التعليمية وأشباهها التي واجهها القادة الماركسيون إلى جميع الأحزاب الشيوعية في العالم قامت التطبيقات لها على نطاق واسع.

    ففي سنة (1923م) أعلن المؤتمر الشيوعي الذي عقد للبدء بالحرب ضد الأديان ما يلي : "يوجد داخل اتحاد الجمهوريات السوفياتية ثلاثون مليوناً من المسلمين كانوا يعيشون إلى الآن دون أن يمسهم شيء ، كما أنهم يحافظون على عقائد باطلة ، وخرافات من العصور الوسطى لها صلة بالدين ، وغايتها الإضرار بالثورة ، وبعد أن نظرنا في هذا كله ودرسنا خصائص كل أمة على حدة ، قررنا القيام بالخطط والتدابير الواجب عملها لإزالة هذه العقائد الباطلة من أوساط هذه الأمم".

    وكان من ثمرة هذا القرار الشيوعي منع التعليم الإسلامي داخل الاتحاد السوفياتي وإغلاق المساجد ، حتى تم إغلاق خمسة وعشرين ألف مسجد وتحويلها إلى مراكز لكثير من الأمور الحقيرة.

    وهكذا نجد في أقوالهم وأعمالهم التي لا تحصى عداءً شديداً لعقيدة الإيمان بالله , والتمسك بجميع المبادئ والتعاليم والأخلاق الدينية والإنسانية ، والعمل على إطلاق الوحش البشري ليفتك في العالم ، محققاً مصالح القادة الشيوعيين في العالم ، وممهداً للصهيونية العالمية أن تحقق حلمها في إخضاع كل شعوب العالم لدولتها الخفية أو الظاهرة.

    * * *

    من لم يكن له من دينه واعظ ، لم تنفعه المواعظ

  9. افتراضي



    الفصْل الثالث عشر
    الغزو بالمذاهِبِ الاقتصَادية


    1- مقدمة عامة
    2- بين اتجاهين متباينين.
    3- وسائل إيقاف نشاط غزو المذاهب المخالفة للإسلام.
    4- نظام الإسلام على قمة وعن يمينها ويسارها منحدران.
    5- قدوم المذاهب الاقتصادية المخالفة لنظام الإسلام.
    6- لا تكفي الكلمة وحدها.
    7- الأسس العامة لنظام الإسلام الاقتصادي.
    8- مقارنة بين الأسس العامة للنظام الاقتصادي في الإسلام والنظم الأخرى.
    9- فرية ربط التخلف الصناعي بنظام الإسلام.
    10- اصطناع المناخات المناسبة لتقبل الأفكار والمذاهب الغازية.
    11- التعلل بعدم وجود دولة تطبق نظم الإسلام وتحميها.






    ( 1 )

    مقدمة عامة

    حمل الغزاة إلى المسلمين مذاهبهم الاقتصادية ، وأرادوا من المسلمين أن يتبنوها ويأخذوا بها ، ليسيروا في ركبهم ضمن هذا المجال ، ولينحسروا فيه عن إسلامهم وتطبيقهم له وأخذهم بنظامه.

    وعلى الرغم من المتباين الكبير بين المذهبين الاقتصاديين العالميين الغربي والشرقي ، نلاحظ أن أنصار كلٍّ منهما يعادون الإسلام ويتخوفون من أن يسود نظامه ، أكثر بكثير مما يعادون المذهب المباين لمذهبهم مباينة كلية.

    فالاشتراكيون العلميون الذين يسيرون في طريق معاكس تماماً للرأسماليين ، يتخوفون من نظام الإسلام أكثر من تخوفهم من الرأسمالية ، بل قد يشجعون الرأسمالية المفرطة في البلاد الإسلامية ، لتكون مناخاً ملائماً لانتشار الاشتراكية العلمية ، والرأسماليون كذلك يتخوفون من نظام الإسلام أكثر من تخوفهم من الاشتراكية العلمية ، بل قد يشجعون إقامة النظم الاشتراكية في بلاد المسلمين ، لكشف عيوبها بشكل واقعي ، ولينفر الناس منها نفرة نهائية ، ثم ليرتموا في أحضان الاستغلال الرأسمالي.

    وإذا علمنا أن وراء الرأسمالية العالمية قمة يهودية خفية ، ووراء الاشتراكية العلمية قمة يهودية كذلك ، وعلمنا أن وراءهما معاً مصلحة يهودية عليا تعرف كيف تتصيد الفوائد المادية والسياسية من خلال صراع المذهبين المتعارضين ، لم يخفَ علينا كثيراً سر معاداة أنصار المذهبين المتباينين للإسلام أكثر من عدائهما لبعضهما.

    وعلى الرغم من أن الإسلام يمثل النظام الوسط الحق بين المذهبين المتباينين ، نجد أنصار كلٍّ منهما يغمضون أعينهم عنه إغماضاً كلياً ، ولا يريدون أن ينظروا إليه ولا أن يفسحوا المجال للشعوب حتى تراه فتستمسك به ، وكلما قامت حركة توعية تكشف للجماهير محاسن نظام الإسلام ، أو حركة تطبيق تعمل على إبراز هذا النظام بشكل واقعي ، ولو في جانب من جوانبه ، تضافرت قوى الشرق والغرب لإحباط ذلك ، وعرقلة سبيله ، وتشويه مقاصده ، ثم لا تسمح لأي تطبيق سليم أن يظهر ، وإذا ظهر عملت بسرعة على إلغائه ، وجمعت ما يلزم من طاقات سياسية وغير سياسية لتفشيله ، ودبرت له المكايد الكثيرة.

    وتتآزر في ذلك قوى أجنحة المكر الثلاثة ، والقوى التي تسير في ركابها مع قوى المذاهب الاشتراكية التي تخضع لنظمها دول شرقية معروف ، فالإسلام هو الهدف الرئيس المقصود بالمحاربة من كل هذه القوى ، مهما تصارعت وتعادت فيما بينها ، مع أنه لا يحمل الناس جميعاً إلا الخير وابتغاء السعادة والنجاح ، ولا يدعوهم إلا إلى الحق والهدى.

    ( 2 )

    بين اتجاهين متباينين

    بين اتجاهين متباينين بعيدين عن منهج الوسط الإسلامي ، أراد أعداء الإسلام الواقفون في أقصى الاتجاهين ، أن يحتالوا على المسلمين ليزحزحوهم عن الوسط الحق ، فالمفرطون في اتجاه اليمين من أعداء الإسلام يريدون أن يجذبوا المسلمين إليهم ، والمفرطون في اتجاه اليسار يعملون بطاقات كبرى كي يجذبوا المسلمين إلى يسارهم ، ومن المؤسف أنه ليس للإسلام في هذا العصر قوة مادية كبرى قائمة ، ذات كيان فعال في العالم ، تستطيع أن تثبت المسلمين في منهج الوسط تثبيتاً تطبيقياً ، فضلاً عن أن تجذب إليه من هم في مفرط اليمين ، أو من هم في مفرط اليسار.

    هذا هو واقع الإسلام بين نظامين اقتصاديين قائمين في العالم ، وهذا هو واقع المسلمين بين أنصار هذين النظامين.

    وقد وقفت أسس نظام الإسلام الاقتصادية كالطود المنيع بفلسفتها المحكمة الفذة في العالم ، الكفيلة بتحقيق مصلحة الفرد ، ومصلحة الجماعة ، والكفيلة بدعم قوة الدولة المسلمة ، دون أن تمس كيانها بأذى ، والمنسجمة مع مبادئ العقيدة والعبادة والأخلاق الإسلامية وأهدافها ، والمنسجمة مع نظم الإسلام الأخرى.

    وهذه الأسس تقع في دائرة الوسط بين أطراف تبعد كل البعد أو بعضه عن المصالح العظمى التي يهدف إليها الإسلام.

    وأعداء الإسلام يحاربون تطبيق نظام الإسلام المتعلق بشؤون المال حرباً لا هوادة فيها ، وحربهم هذه هي جزء من حربهم العامة للإسلام ، وجزء من أعمالهم الكبرى التي يريدون منها إبعاد المسلمين عن تطبيق نظم الإسلام الكفيلة بتحقيق أفضل صور العدالة الممكنة في الواقع الإنساني ، والتي من شأنها أن تجذب شعوب العالم إلى الإسلام ، وتضيف إلى صروح المسلمين الأولى صروح مجد جديد ، وتعيد إليهم قوتهم ودولتهم الكبرى.

    وقد غدت أسلحة النظم الاقتصادية لأعداء الإسلام شرقيين وغربيين ، هي الوسيلة الهامة في هذا العصر للغزو الفكري والمادي الذي يغزون به المسلمين.

    وسبب ذلك أن معظم المسلمين يجهلون حقيقة نظام الإسلام المتعلق بشؤون المال ، ولا يهتمون بتطبيقه ، وقد غزت النظم الأخرى المناهضة لنظام الإسلام ميادين النشاط الاقتصادي في بلادهم ، فهم يعيشون في وضع قلق ملفق مرقع بين الأنظمة المختلفة ، فلا هو نظام إسلامي ، ولا هو نظام غربي ، ولا هو نظام شرقي ، وهذه المرحلة التي وصل إليها المسلمون في واقعهم التطبيقي مرحلة مساعدة جداً لتحقيق أهداف أعدائهم فيهم . إنها المرحلة التمهيدية التي تهيئ للغزاة فرصة الغزو الكاسح ، لأن المنافذ الاقتصادية من أخطر المنافذ التي تعبر منها جيوش الأعداء ، حتى تصل إلى المقاتل التي تريد القبض عليها وإحكام غلها بأغلال الفولاذ.

    وأمام هذا الخطر الداهم المنذر بحلول المصيبة الكبرى ، يجب على قادة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، أن يكشفوا للجماهير المسلمة حقيقة نظام الإسلام المتعلق بشؤون المال ، بكل أسسه وتطبيقاته ، وأن يستفيدوا من مرونة الشريعة الإسلامية في وضع أشكال تطبيقية لا تتعارض مع أسس الإسلام ، كفيلة بأن توجد في بلاد المسلمين كل ازدهار اقتصادي ، وانتعاش اجتماعي ، حتى تستطيع تطبيقاتهم الملائمة للإسلام أن تقف في وجه هذا الغزو الذي يحارب المسلمين وهم في عقر دورهم ، والذي يحمل فيه بعض أبناء المسلمين أسلحة العدو الغازي ضدهم ، ويقاتلون به أهليهم وذويهم حماقة وجهلاً ، وطمعاً وغروراً.

    ( 3 )

    وسائل إيقاف نشاط غزو المذاهب المخالفة للإسلام


    لإيقاف نشاط غزو المذاهب الاقتصادية المعادية للإسلام في بلاد المسلمين ، يجب على المسلمين أن يتخذوا وسائل الدفاع الكفيلة بصدّ أي هجوم يركزه أعداء الإسلام ، ويجب عليهم أن يسدوا كل ثغرة يمكن أن يتخذها الغزاة معبراً لهم ، ينفذون منه إلى عقول المسلمين أو قلوبهم أو نفوسهم.

    ويبدو لي أن وسائل الدفاع يشترط فيها قبل كل شيء تسليح معظم المسلمين على اختلاف مستوياتهم المعاشية بالقناعات الفكرية الراقية ، التي تجعلهم واعين لنظام الإسلام تمام الوعي ، قادرين على شرحه والدفاع عنه ، متحمسين لتطبيقه.

    وبث هذه القناعات في عقول المسلمين وقلوبهم رهنٌ بتحليل نظام الإسلام المتعلق بشؤون المال – كسباً واستثماراً وإنفاقاً – تحليلاً دقيقاً ، وبتفصيله تفصيلاً شاملاً ، وبصياغته صياغة ملائمة لأسلوب العصر ، وبإبراز كمال النظريات الحكيمة والأسس الواقعية التي بني عليها ، وبكشف مصالح الناس العامة والخاصة المرتبطة بتحقيقه ، وبمقارنته بالنظم الأخرى الإنسانية ، التي لاحظت جانباً من مصالح الناس ، وأهملت جانباً ، ولم تعترف بالله الخالق البارئ المصور حاكماً للناس مشرعاً.

    وعقب استكمال تحقيق هذا الشرط تأتي مرحلة تحويل واقع المسلمين المرقع الملفق ، البعيد عن تطبيق نظام الإسلام تطبيقاً صحيحاً شاملاً ، وذلك بحمل المسلمين على تطبيقه بسلطان العقيدة وسلطان القانون والحكم.

    أما سلطان العقيدة فله في داخل قلوب المسلمين ونفوسهم قوة دافعة وقوة رادعة ، وله من دعاة الإسلام الموجهين قوة مذكرة.

    وأما سلطان القانون فيتولاه الحكم الإسلامي المؤيد من جمهور المسلمين ، الرادع بسيف العدل ، والملزم بقوة السلطان.

    وحينما يتبنى الحكم الإسلامي تطبيقه ، فلا بد أن يطرح الصيغة القانونية الجديدة للنظم المالية ، بعد أن توضح على أسس إسلامية بحتة ، مع العلم بأن أسس النظام الإسلامي المتعلق بشؤون المال تتسع لأي شكل تطبيقي متطور ، يتضمن تسهيل أعمال الناس المالية ، وتنشيط تقدمهم المدني ، وازدهار واقعهم الاقتصادي ، وانتعاش واقعهم الاجتماعي ، ومسايرة ركب المدنية الحديثة ، في أحسن صورة من صور تقدمها ، مع الخلاص من عيوبها ، والسلامة من آفاتها وانحرافاتها شرقية كانت أو غربية.

    وتسليح المسلمين بالقناعات الفكرية الراقية التي تجعلهم واعين لنظام الإسلام تمام الوعي ، لا يكفي فيه مجرد إثارة العواطف الإسلامية العامة ، والبكاء على أمجاد المسلمين المضيَّعة ، وتوجيه اللوم والنقد للجماهير المسلمة البعيدة عن تطبيق الإسلام ، ولكن لا بد مع ذلك من تجنيد الطاقات الفكرية في العالم الإسلامي بكل الوسائل الممكنة ، للقيام بعملية تسليح المسلمين بهذه القناعات.

    ليس نظام الإسلام المتعلق بشؤون المال من التعقيد بشكل يستعصي على تفهم الجماهير المسلمة له ، ولكن الأنظمة الأخرى التي غزت عالمنا الإسلامي قد استخدم الغزاة في نشرها جميع أسلحة القرن العشرين الإعلامية ، وأسلحة أخرى غير إعلامية ، فيها من الضغط الشديد على المسلمين ما تنهار أمامه الجدران المتآكلة في واقعهم.

    من أجل ذلك اقتضت ظروف المقاومة الحديثة مقابلة السلاح بمثله أو بما يقاربه ، ومن أجل ذلك اقتضت الحرب الفكرية الحديثة تجنيد كل طاقات المسلمين الفكرية ، لإبراز نظام الإسلام المتعلق بشؤون المال كسباً وإنفاقاً واستثماراً ، بالأسلوب المشرق الذي تبدو الأنظمة الأخرى أمامه كما يبدو قزم قميء ضعيف أمام عملاق وسيم الطلعة ذي بأس شديد ، أي : تبدو كما هي في واقع حالهم ، ويبدو نظام الإسلام كما هو في واقع حاله.

    ومن الحسن في تجنيد هذه الطاقات الفكرية بذل الجوائز السخية للعاملين في هذا الميدان ، وتشكيل اللجان المتنوعة ، من باحثين إسلاميين ، ومن ذوي علم واسع وخبرات طويلة في شؤون المال والاقتصاد والاستثمار في مختلف بلدان العالم الإسلامي ، يرافقها مؤتمرات عامة للمناقشة والبحث ، ثم تختم بلجان عليا للتنسيق والتصفية ، ثم يصدر عنها الإعلان النهائي بتحديد الأسس العامة لنظام الإسلام المتعلق بشؤون المال ، والتوصيات بمشاريع قوانين إسلامية ، تعالج مشكلات العصر المتعلقة بهذا الجانب من جوانب نظم الحياة.

    ( 4 )

    نظام الإسلام على قمة وعن يمينها ويسارها منحدران


    إن مثل الإسلام في عقائده ومبادئه ونظمه كمثل صراط مستقيم على قمة المفاهيم للحقائق الكبرى ، وللفلسفة الراقية لحياة الإنسان بدءاً ومعاشاً ومعاداً ، وهو الارتفاع الأسمى البارز من الخط الوسط ، ولهذا الصراط جانبان عن اليمين وعن اليسار ، فمن تجاوز يمين الصراط أخذ يتجه منحدراً من وراء اليمين ومن تجاوز يسار الصراط أخذ يتجه منحدراً من وراء اليسار ، وغاية كلا الانحدارين الوصُولُ إلى السحيق المليء بالعذاب الأليم ، البعيد البعيد عن الطريق الموصل إلى رضوان الله وسعادة الدارين ، الدنيا والآخرة ، طريق الله الحق الذي يبدأ في دار الدنيا بالعمل الصالح والتزام شريعة الله ، وينتهي في الجنة بالجزاء الأوفى عند مليك مقتدر كريم.

    وفي نظام الإسلام المتعلق بشؤون المال نجد هذا الصراط الذي حددت شريعة الله جانبيه ، وحذرت من تجاوز حدّيه ، وأنذرت من تسوِّل له نفسه المعصية والمخالفة بالخسران في الدنيا والعقاب في الآخرة.

    وفي المنحدر من وراء يمين هذا الصراط تجد شتى المذاهب الاقتصادية المسماة بالمذاهب الرأسمالية ، وفي المنحدر من وراء يسار هذا الصراط نجد شتى المذاهب الاقتصادية المسماة بالمذاهب الاشتراكية.

    وليس الإسلام في نظامه شيئاً من هذه ولا من تلك ، ولكنه نظام فذ متكامل بذاته ، ربما نجد في بعض أجزاء الأنظمة الرأسمالية شبهاً ببعض أجزاء منه ، وربما نجد أيضاً في بعض أجزاء الأنظمة الاشتراكية شبهاً ببعض أجزاء منه ، ولكنه في مجموعة كائن مستقل نابض بحياة راقية قويمة.

    ولست أجد لهذا التشابه الجزئي بينه وبين أجزاء من الأنظمة الأخرى ، مثلاً أقرب من التشابه الذي نلاحظه بين الإنسان المخلوق في أحسن تقويم ، وبين المخلوقات الأخرى المنحدرة عنه في المرتبة التكوينية انحداراً كبيراً.

    فلو أن جماعة من الذئاب المفترسة الغادرة حاولت أن تثبت أنها هي الكائن الأقوم بين الحيوانات ، واستغلت قوة بطشها أمام عائلة بشرية ضعيفة منعزلة في طرف غابة الذئاب ، وفرضت عليها أن تنضم إلى فصيلة الذئاب ، أفيجعلها من فصيلة الذئاب وجود التشابه بين الإنسان والذئب ، في أن لكل منهما عينين وأذنين ، ولساناً وشفتين؟ أم يظل الإنسان كائناً غير الذئب ولو كان بينهما تشابه في كثير من أجزاء الجسد؟.

    إن أحداً لا يمكن أن يقبل هذه الفرية المستندة إلى حجة هذا التشابه الجزئي.

    لكننا مع الأسف نجد في المسلمين من ينطلي عليهم مثل هذا التحوير والتحريف في الحقيقة ، بالنسبة إلى نظام الإسلام المتعلق بشؤون المال ، والأنظمة الأخرى التي هي من أوضاع الناس.

    وأعداء الإسلام يحاولون أن يتصيدوا بعض المسلمين ، إلى اعتناق مذاهبهم بشبكة التشابه الجزئي بين النظام الإسلامي والأنظمة الأخرى.

    فأصحاب النظم الرأسمالية يتصيدون بهذه الشبكة بعض المسلمين لتطبيق نظامهم ، وأصحاب النظم الاشتراكية العلمية الملحدة يتصيدون بهذه الشبكة أيضاً بعض المسلمين لتطبيق أنظمتهم الاشتراكية العلمية ، وليس الإسلام في حقيقة نظامه المتعلق بشؤون المال باشتراكي ولا برأسمالي ، وإن كان لكل منهما شبه ببعض ما في الإسلام.

    فالذي يقول : رأسمالية الإسلام ، أو اشتراكية الإسلام ، معتمداً في ذلك على بعض التشابه الجزئي ، يقع تحت تأثير وهْمٍ كبير ، وهذا القول شبيه في مضمونه بقول قائل : ذئبية الإنسان ، معتمداً في قوله هذا على وجود أجزاء متشابه بين الإنسان والذئب ، كوجود العيون مثلاً في كلٍّ من النوعين.

    وسبب الوقوع في هذا الوهم عدم تصور الوحدة التامة المتكاملة في نظام الإسلام ، المباينة في هيئتها التركيبية للأنظمة الأخرى.

    لذلك كان على الباحثين أن يعرضوا نظام الإسلام عرضاً كاملاً ، يبين حقيقته المستقلة الفذة ، التي اختارها الله في شريعته لعباده.

    وشاعت المغالطات الخطيرة ، التي أخذ مطلقوها يحاولون صبغ الإسلام بصبغة مذاهبهم ، ليسهلوا نفوذ مذاهبهم إلى صفوف المسلمين ، دون أن تصطدم بعقبة معارضة المسلمين لها ، بوصفها تناهض مبادئ الإسلام ، وتسعى إلى تقويض دعائمه.

    وحاول أنصار كل مذهب من هذه المذاهب أن يجد في الإسلام تأييداً لجانب من جوانبها ، ليلبِّس بذلك على المسلمين ، ويجعل الإسلام وكأنه صاحب هذه المذاهب ، أو يوافق عليها.

    وفي دوامة هذه المغالطات الرامية إلى تشويه حقيقة الإسلام ، واصطناع الجو الملائم لتسلل المذاهب المخالفة له إلى صفوف المسلمين ، نجد مثلاً في مجموعة المذاهب الاقتصادية المتعارضة في العالم ، أن أنصار المذاهب الرأسمالية في البلاد الإسلامية يختبؤون وراء الإسلام ليحميهم من هجمات أنصار المذاهب الاشتراكية ، ويدرأ عنهم ضرباتها ، بحجة أن الإسلام يعترف بالملكية الفردية ويحميها ، ويفسح مجال حرية العمل والكسب والتجارة ، ولا يسد أبواب المنافسة الشريفة في تحصيل الثروات ، كما أن أنصار المذاهب الاشتراكية يقدمون الإسلام إلى الصف الأول في معركتهم مع أنصار المذاهب الرأسمالية ، بحجة أن الإسلام يحتوي على مبادئ اشتراكية تتجه إلى تحقيق العدالة بين الناس.

    وبين صراع الرأسماليات والاشتراكيات التي يزج كل منهما بالإسلام في أتون معركتهما ، يتلقى الإسلام في بلاد المسلمين معظم الضربات ، مع أن الإسلام بريء من الفريقين المتصارعين ، وأي منهما انتصر فالإسلام خاسر ، وإن صح وجوده في حلبة الصراع فإما أن يكون فريقاً وحده ضد الفريقين معاً ، وإما أن يكون حكماً عدلاً يسجل على كل فريق منهما خطأه وصوابه ، ويحاول أن يرد كل مخطئ إلى وجه الصواب . ولكن مسكين هذا الحَكَم العدل ذو العقل الراجح الناضج في الجسم واهن ضعيف ، لا يقوى على كبح جنون المتصارعين ، وقد تآمرت عليه أندية الفريقين ليقوضوا دعائم مدرسته القديمة ، التي لو تهيأ لها أن تنهض نهضة حديثة لأخذت بطولة العالم.

    مسكين هذا الحَكَم العدل على الأنظمة في العالم ، يتَترَّسُ به الرأسماليون في بلاد المسلمين ، فيتلقى ضربات الاشتراكيين على الرأسمالية ، ويتترس به الاشتراكيون ، فيتلقى ضربات الرأسماليين على الاشتراكية.

    فمن للإسلام يحمله باسمه الحقيقي ، وتطبيقه الحقيقي ، حتى يستطيع أن يصرع به سائر الأنظمة في العالم ، وينال به كأس البطولة التاريخية ، التي لا ينافسها منافس على مر العصور ، مع سعادة الدنيا للفرد وللجماعة الإنسانية ، وسعادة الأخرى بالظفر برضوان الله والجنة ، والنجاة من سخط الله والنار؟؟.

    إن الإسلام الرأسمالي وفق مفهوم الرأسماليين إسلام مزيف ، أرادوا أن يروجوه في صفوف المسلمين ، ليختلط عليهم أمر دينهم ، ويقبلوا بالزيف الرأسمالي الدخيل ، الذي أرادوا له أن يحل محل الأصل الإسلامي ، ويمحوه من الفكر والتطبيق ، وإن الإسلام الاشتراكي وفق مفهوم الاشتراكيين إسلام مزيف ، أرادوا أن يروجوه ضمن صفوف المسلمين ، ليختلط عليهم أمر دينهم ، ويقبلوا بالزيف الاشتراكي الدخيل الذي أرادوا له أن يحل محل الأصل الإسلامي ، ويمحوه من الفكر والتطبيق.

    فاحملوا أيها المسلمين إسلامكم حقاً نقياً سليماً من كل زيف ، لتنالوا به بطولة العالم أجمع.

    ( 5 )

    قدوم المذاهب الاقتصادية المخالفة لنظام الإسلام


    قدمت إلى بلاد المسلمين جيوش المذاهب الاقتصادية المعادية للإسلام ، والغازية لعقول وعواطف المسلمين الجاهلين بحقيقة النظام الإسلامي المتعلق بشؤون المال ، فاصطدمت بالحركات الإسلامية الواعية ، المجردة من الأسلحة المادية الفعالة ، وأخذت هذه الحركات تنشط في حدود إمكانيات الدعوة البيانية التي لديها ، بما يشبه أعمال الصيانة والترميم والمكافحة.

    وقد ظفرت هذه الحركات الإسلامية ، بأن تصون معظم جماهير المسلمين عن أن تخدعها مغريات جنود العدو المنبثين داخل الصفوف ، بحجة أن هذه المذاهب الاقتصادية الغازية معادية للإسلام ، ولكنها لم تظفر بصيانة عقول جماهير المثقفين ، لأنها كانت بعيدة عن مواقعهم الاجتماعية ، ومواقعهم الفكرية ، فلم تتخذ لصيانتها الوسائل الحديثة ، القادر على مجابهة أسلحة جيوش الغزو الفكري ، القادمة في أقنعة العلوم المادية ، التي أحرزت أوربا فيها السبق الماهر.

    وأثر الغزو الفكري أثره في عقول حشد من المثقفين بالثقافات المعاصرة ، البعيدين عن الثقافة الإسلامية الصحيحة ، والمقبلين على تسلم مراكز الإدارات والتوجيه ، والمؤسسات الخاصة والعامة ، وهكذا امتدت حركات الغزو الفكري إلى مراكز القوة الفعلية في بلاد المسلمين ، بينما عامة المسلمين في غفلة عن ذلك.

    وقيادات الدعوة الإسلامية منخدعة بالحشود المسلمة ، التي لا تملك شيئاً من القوة الفعلية في البلاد إلا الكثرة العددية فقط ، مع ضعف في وسائل المجابهة الجدلية ، أمام فئات المثقفين الذين تأثروا بفكرة هذه المذاهب الغازية ، وزاد نشاط المتأثرين بالغزاة المنبثين في صفوف المسلمين ، واتسعت دوائر أعمالهم ، وبدأوا ينشرون هذه المذاهب في صفوف جماهير المسلمين ، ويوجهون اهتمامهم البالغ إلى فئات العمال والكادحين ، والذين لا تصل إليهم لقمة العيش إلاَّ بعرق غزير ، وجهد وفير.

    واصطدموا مع هذه الفئات المتمسكة بعقيدتها الراسخة بالإسلام ، واستعصى أكثرهم عن أن يتنازلوا عن عقيدتهم من أجل مغريات هذه المذاهب ، فابتدعوا لهم فكرة الفصل بين الدين وبين المذاهب الاقتصادية ، وزعموا لهم أن هذه المذاهب لا تصطدم مع الدين ، فلا تمس جانبه بحال من الأحوال ، ولا مانع من أن يكون الإنسان مسلماً أو نصرانياً يؤدي فروضه الدينية كلها ، وملتزماً مع ذلك مذهباً اقتصادياً شرقياً أو غربياً ، فالدين شيء والسير في ركاب هذه المذاهب شيء آخر.

    واستطاعوا بهذه الحيلة أن يسرقوا إلى صفوفهم جماهير من غير المثقفين يدعمونهم في المجالات العامة ، وهؤلاء يسيرون في ركابهم منخدعين بما يمنونهم من مستقبل حافل بالرفاهية والمساواة ، وقد ساعدهم على جلب هذه الجماهير الكادحة إلى صفوفهم ، واقع حال المسلمين المخالف للإسلام في التطبيقات الاقتصادية المنتشرة في البلاد ، التي اعتمدت على أسس فوضوية ملفقة غير إسلامية ، قد تنتهي بالإثراء غير المشروع ، كالإثراء عن طريق الربا ، أو الغش ، أو الغبن الفاحش ، أو الاحتكار ، أو استغلال الوظيفة وتسخير قوة السلطان ، أو التحايل والسرقة غير المباشرة ، وأشباه ذلك مما لا يقره الإسلام بحال من الأحوال.

    وهكذا نفذ أعداء الإسلام إلى مراكز القوة داخل كثير من البلاد الإسلامية ، وتعطلت طاقات الكثرة المسلمة غير المنتظمة ، وأمست القلة المسيرة هي صاحبة السلطان المهيمن ، وأخذت تفرض ما حملته من مذاهب الغزاة ومبادئهم على الناس بقوة السلطان.

    ( 6 )

    لا تكفي الكلمة وحدها


    إن الكلمة وحدها لا تكفي مهما كانت ذات أثر بياني ؛ إذا لم تكن مصحوبة بالتطبيق العملي المقنع للجماهير بمضمونها ، في صد غزو فكري يحمل شعار التطبيق ، مسلح بأسلحة القرن العشرين الإعلامية وغيرها.

    إن كلمة الموعظة الآسرة تعطي سحراً إقناعياً مؤقتاً ، لكنها لا تلبث أن تنطلق من نفس سامعها مع الأثير ، كما انطلقت من لسان قائلها ، ما لم يدعمها العمل المستمر ، الذي تنفعل به الحواس الظاهرة والباطنة في الإنسان ، مع مشاهدة ثمراته النافعة.

    الكلمة هي النافذة التي يطل منها نظر الفكر لمشاهدة الحقيقة ، ولكنها ليست هي الحقيقة ، إن الحقيقة هي الصورة الواقعية التي ترشد إليها الكلمة ، فإذا أطل نظر الفكر من نافذة الكلمة فلم يشاهد الصورة الواقعية التي أرشدت إليها أقفل النافذة ، وبحث عن الحقيقة بنفسه ، أو من خلال كلمة أخرى.

    ومما يؤسف له أن المسلمين في واقعهم الحالي الذي انحدروا إليه ، لا يستعملون لصد الغزو العملي على الإسلام والمسلمين ، إلا سلاح الكلمة العاطفية غير المدعمة بالبيان الكافي ، والمجردة عن التطبيق العملي لها.

    إن هذا السلاح بهذا الشكل قد غدا مثل الأسلحة الخلَّبية التي تسمع صوتاً ولا تحدث أثراً ، وقد عرفت الجماهير المسلمة نوع هذا السلاح الخلبي ، وتبلد حسها نحوه ، لكثرة الاستماع إليه ، فلم تعد تنفعل به ، ولا تتأثر بمضمونه.

    لو لبث أصحاب الكلمات قروناً يمتدحون النظام الإسلامي المتعلق بشؤون المال ، في حال أنهم يخالفونه في التطبيق ، أو يجاملونه مجاملة صورية لا تنفذ إلى أعماق مشكلة الحياة التي يعيشها الناس ، أو ينافقون له ببعض أعمال طفيفة يؤدونها ، وأجسامهم إليها ثقيلة ، ونفوسهم بها شحيحة ، فإنهم لن يستطيعوا أن يدخلوا إلى قلوب الناس بأقوالهم المجردة عن الأعمال ، ولن يستطيعوا أن يملكوا مشاعرهم ما دامت مشكلة العيش تنهش في بطونهم ، وتغلي في أكبادهم ، ولن يستطيعوا أن يقفوا في وجه الغزو الفكري الذي يحمل إليهم المذاهب الاقتصادية المعادية للإسلام ، القادمة من وراء الحدود ، والتي تمنيهم بالأماني العريضة ، وتضع على بوابة الطريق الذي تدعوهم إليه أقواس الورد والريحان ، وتفرش مقدمته بالخمائل الزمردية . ومهما يكن وراء هذه الخمائل الخادعة من جوع وظمأ وأسر وعذاب ، فإن كلمة التحذير وحدها لا تكفي لردهم عن دخول هذه البوابة المغرية ، ما دامت مشكلة العيش تنهش في بطونهم ، وتغلي في أكبادهم ، وما دام الواقع الذي يعيشون فيه مخالفاً للنظام الذي يُدعَوْن للمحافظة عليه.

    هذه هي التجربة التي عاشت في ظروفها بعض البلاد الإسلامية ، واكتوت بنيرانها.

    وعظة هذه التجربة تتلخص بوجوب تدارك الأمة الإسلامية في كل بلاد المسلمين بالتطبيق الفعلي لنظام الإسلامي المتعلق بشؤون المال ، قبل أن يفلت زمام الأمر في سائر بلاد المسلمين ، من الأيدي الحارسة للإسلام المؤمنة به الحريصة على إعلاء كلمة الله في الأرض ، لا سيما في هذا العصر الذي نجد فيه الغزو الثقافي القادم من وراء حدود البلاد الإسلامية يكتسح الأجيال الناشئة بسرعة فائقة.

    وللتطبيق الفعلي شروطه ومراحله وأسبابه ، وعلى المسلمين أن يخططوا لذلك بفكر عميق وبصر نافذ ، ثم يباشروا بالتنفيذ دون إهمال ولا تسويف ، فإن دولاب الزمن المتسارع بأحداثه لا ينتظرهم.

    إن كل الذين يعيشون في المجتمعات التي تنتسب إلى الإسلام ، يلاحظون مدى بعد هذه المجتمعات عن التطبيق الإسلامي ، وهذا هو السبب الذي جعل المذاهب الأخرى تغزو بلاد المسلمين ، وفيما يلي صورة مقتضبة عن واقع الانحراف:

    1- من أبرز العناصر التي اهتم بها نظام الإسلام المتعلق بشؤون المال تحريم الربا وإيجاب الزكاة.

    أما تحريم الربا فهو وقوف في وجه نوع كبير من أنواع الإثراء غير المشروع الذي لا يوافق عليه الإسلام في نظامه العادل.

    وأما إيجاب الزكاة فهو وسيلة كبرى من وسائل حل مشكلة الفقر ، الذي لا بد أن يتعرض إليه بعض أفراد الأمة .

    والمسلمون الذين يغارون على إسلامهم ، ويحذرون من أن تغزو بلادهم المذاهب الاقتصادية المعادية للإسلام ، يخالفون بشكل عام في هذين الأمرين معاً.

    فيتعاملون بالربا ضمن أسس النظام الرأسمالي اليهودي في العالم ، ولذلك نشاهد أن معظم النشاطات الاقتصادية في بلاد المسلمين لا تتورع عنه ، مع أنهم يتترَّسون بالانتساب إلى الإسلام ، حينما تغير عليهم هجمات المذاهب المخالفة ، التي تنازعهم كل شيء مما يملكون.

    ويمنعون الزكاة التي من شأنها أن تسكت عنهم البطون الجائعة بسبب الفقر الذي أصابها ، من جراء العجز عن العمل ، أو عدم تيسر أسبابه ، أو من جراء عدم تطبيق نظام الإسلام في المجتمع ، بشكله الكامل المتطور مع ظروف الأحوال الاجتماعية.

    2- وصورة الاستغلال الفاحش هي العملية السائدة التي تواضعت عليها مفاهيم الناس بشكل عام.

    فنرى الاحتكار المحرم في الإسلام وسيلة منتشرة من وسائل هذا الاستغلال داخل كثير من المجتمعات التي تنتسب إلى الإسلام ، ويُعمي الطمع المستغلين ، ويطمس بصائرهم ، فلا يخشون عقاب الله ، ويسارعون إلى الاحتكار ، ليتحكموا بالأسعار ، وليجمعوا ثروات كبيرة فاحشة ، على حساب ذوي الحاجات الذين ألجأتهم الضرورات إلى دفع الأثمان العالية ، لأنهم لا يجدون حاجاتهم إلا عند المحتكرين.

    ونرى الغش المحرم في الإسلام وسيلة منتشرة من وسائل هذه الاستغلال ، وهو في منطق الحقيقة سرقة مغلفة بغلاف التجارة الحرة ، والرسول قال فيه : "من غشّ فليس منا".

    ونرى الغبن الفاحش الذي يدفع إليه عامل الشره وحب الإثراء على حساب الآخرين دون بذل جهد مكافئ ، وسيلة منتشرة من وسائل هذا الاستغلال ، مع أنه غير مشروع في نظام الإسلام.

    إن انتشار هذه الأمور وأشباهها مما هو مخالف لنظام الإسلام يهيئ للغزاة بيئة صالحة لنشر مذاهبهم ، واجتذاب المظلومين إلى صفوفهم ، واستخدامهم مطايا يمتطونها لتحقيق أغراضهم في بلاد المسلمين ، وجنوداً متطوعين لهدم حصون أمتهم من داخلها.

    وهذا ما مرت بتجربته القاسية بعض البلاد الإسلامية ، وقد عرف الغزاة من تجاربهم الطويلة كيف يستفيدون من الأخطاء المنتشرة في الأمة ، لإحكام خطتهم وتنفيذها ، وقد يعملون في بعض البيئات على توسيع دائرة هذه الأخطاء وتشجيعها بشكل غير مباشر ، ليسهل عليهم توجيه الانتقادات الشديدة ، وإثارة النقمة في صفوف الجماهير عليها وعلى كل واقعهم ، وإقناعهم بضرورة التغيير الجذري لكل الأسس التي عليها الأمة ، تخلصاً من هذا الواقع المنحرف ، ويوحون لهم بحتمية التحويل الثوري الذي ينسف كل القيم السائدة في المجتمع.

    ويأتي دور العمل الإسلامي الواعي ، لتدارك وضع المسلمين قبل أن يستفحل الخطر ويتجاوز الحدود ، ويغدو من العسيرة إقامة السدود في وجه سيله المدمر.

    وعلى كل عمل إسلامي واعٍ أن يضع في حسابه تغيير هذا الواقع المخالف لنظام الإسلام ، ضمن خطة مقاومة جيوش الغزو الفكري للعالم الإسلامي ، القادم بالمذاهب الاقتصادية المبنية على أسس معادية للإسلام ، تعمل على هدمه ، واجتثاثه من أصوله.

    ولا يحتمل أمر هذا الخطر الداهم التهاون والتواني ، أو اليأس والخنوع ، فلكل عمل نتيجة ، ولكل جهد ثمرة ، وحسب باذل الجهد ابتغاء مرضاة الله أن ينال رضوان الله ثمرة لما بذل من عمل .

    كيف يتسنى الظفر بصدد هجمات المذاهب الاقتصادية المعادية للإسلام ، والمسلمون منغمسون في مخالفاتهم لنظامه ، وتجاوزهم لحدود أحكامه؟!.

    كيف تحجز الجماهير التي تشعر بالنقمة من الواقع المؤلم المخالفة لأحكام الإسلام ،عن أن تسير في ركب الذين يفتحون لها أبواب الأماني العريضة ، ويذللون في طريقها مقدمات الانزلاق ، ولو كان من وراء السير في ركاب هذه المغريات الخادعة البلاء المدمر؟؟

    كثير من الناس قصيرو النظر ، تطيش بهم الآمال ، وتسوقهم بوارق الطمع ، وتجمعهم كل ضجة محدثة ، لا سيما حينا تستحكم بهم الحاجة ، وتزوغ أبصارهم لما يظمؤون إليه.

    وقد عرف الغزاة بدراساتهم النفسية كيف يتصيدون مطاياهم من المسلمين.

    لو قيل للشاة التي عض عليها الجوع الشديد وهي في حظيرتها المحصنة ، إن الذئب في الوادي يوزع العلف على الشياه الجائعة لصدقت ذلك ، وهبطت إلى الوادي ، لتأخذ نصيبها من العلف ، ولأنساها جوعها الشديد أنها ستنزل لتكون هي العلف للذئب.

    وكذلك كثير من الناس حينما تلح عليهم الحاجة وتنبح في أحشائهم الضرورة ، تضطرب مداركهم ، وتستخذي إرادتهم ، ويفقدون توازنهم الفكري فيسلمون رقابهم إلى أيدي أعدائهم الذين سيقتلونهم حتماً ، وذلك متى لوحوا لهم بوعد كاذب يحرك طمعهم إلى تلبية حاجتهم ، وسد ضرورتهم التي أفقدتهم مشاعرهم المتزنة الواعية.

    فما دامت المشكلة المعاشية قائمة دون أن يعمل المسلمون على حلها ، بتطبيق النظام الإسلامي المتعلق بشؤون المال فإنهم سيغدون جميعاً طعمة في فم الذئاب العالميين ، الذين يراقبون بدقة بالغة مشكلات العالم الإسلامي ، التي تسهل لهم طريق العبور إلى صفوف المسلمين ، والاستيلاء عليهم بسلاح الخديعة وسلاح القوة ، ولكن سلاح الخديعة غالباً ما يكون هو السلاح الفعال الذي يدخل إلى القلوب ، دون أن يشهر على الوجوه.

    فهل إلى يقظة من سبيل؟؟!.

    من لم يكن له من دينه واعظ ، لم تنفعه المواعظ

  10. افتراضي



    ( 7 )

    الأسس العامة لنظام الإسلام الاقتصادي


    إن الإسلام الذي يعمل أعداؤه على هدم نظمه ، وإبعاد المسلمين عن تطبيقها ، يقوم نظامه المتعلق بشؤون المال على أسس أربعة كافلة عند التطبيق تحقيق التقدم الاقتصادي في أحسن صوره ، والعدالة الاجتماعية في أكمل أحوالها ، والجسدية الواحدة للمجتمع الإسلامي كله.

    الأساس الأول : العمل الحر ضمن الخطوط المأذون بها في اللوائح التفصيلية لنظام العمل الإسلامي.

    وتقع مسؤولية مباشرة العمل على كل فرد قادر عليه ، غير مفرغ لصالح الأمة الإسلامية ، أو لصالح سلامة الأسر وسعادتها واستقرارها.

    وتقع مسؤولية تهيئة مجالات العمل ووسائله وشروطه وتكافؤ فرصه على المجتمع كله ، وتمثله القيادة الحاكمة الحكيمة.

    الأساس الثاني : التكافل الأسري ، وتقع مسؤولية هذا التكافل على من لهم زائد على كفايتهم الفردية داخل أسرتهم ، تجاه باقي أفرادها العاجزين عن الكسب ، أو الذين لم تتيسر لهم وسائل العمل ، أو النساء القائمات بأعباء الخدمات المنزلية ، المفرغات لها ، تكريماً لهن عن التبذل.

    الأساس الثالث : التعاون الاجتماعي ، وتقع مسؤولية هذا التعاون على كل فرد من أفراد الأمة ذكوراً وإناثاً ، إذا توفر لديه فائض يزيد عن حاجاته ، وعن حاجات من ألزم بكفالته من أهله وذوي قرابته وكل تابع لأسرته.

    الأساس الرابع : دواعم روابط المجتمع الإسلامي ، وهي تتمثل بالمنح والعطايا والهدايا ، والصدقات والوصايا ، وإكرام الضيف ، والمآدب والولائم المشروعة ، ويلحق بهذه الدواعم نظام الميراث ، وغير ذلك من كل تملك مشروع لا يأتي عن طريق جهد يبذل ، ولا يدخل في نطاق الأساسين الثاني والثالث.

    ويلاحظ في هذه الدواعم تمكين روابط المجتمع الإسلامي ، الذي يبدأ بتمكين روابط الأسرة ، ثم ينتقل إلى ما وراءها ، فهي تشد أواصر التآخي والتواد والتراحم ، وتقوي مفهوم الجسدية الواحدة للأمة المسلمة.

    والمجتمع الإسلامي القائم على مفهوم الجسدية الواحدة ، المتماسكة بروابط الإخاء والمحبة والتواد والتراحم والتكافل والتعاون ، يخالف المجتمعات الرأسمالية ، القائمة على ترجيح مفهوم الوحدات الفردية الأنانية ، ويخالف المجتمعات الاشتراكية ، القائمة على فكرة الوحدات الفردية المبعثرة ، المرتبطة ارتباطاً قهرياً بقيادة واحدة.

    وضمن هذه الأسس الإسلامية الأربعة ، تدور دواليب نظم العيش الرغيد السمح ، الذي لا كسل فيه ولا بطالة ، والممتلئ بالحركة والعمل ، والتفاؤل والأمل ، والتآخي والتعاطف والتواد والطمأنينة القلبية والنفسية ، والرضا عن الله ، والبعيد عن ثورات حقد النفوس وحَسَدِها ، مع حدٍّ من طمع النفوس الزائدة وجشعها ، وحجز بينها وبين جميع أنواع الظلم والعدوان.

    وبالدافع القلبي في كل فرد مسلم صادق الإيمان ، والدافع الجماعي القائم على ركن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والسلطة الحاكمة المسلمة التي تطبق شريعة الله ، يتم للنظام الإسلامي التطبيق الأمثل.

    وأخص العمل بمزيد من الشرح في الفقرة التالية:

    شرح العمل في الإسلام

    يعتبر العمل القانون الطبيعي الذي ربط الله به رزق كل دابة في الأرض ، فلا محيد لكائنٍ حيٍّ عنه بوجه من الوجوه ، إذن فلا غرو أن يكون هو الأساس الأول لتحصيل الرزق ، ولذلك نجده هو الأساس الأول في جميع النظم الاقتصادية الربانية والإنسانية.

    ويحاول أعداء الإسلام باستمرار أن يصوروه بصورة مشوهة يبدو فيها وكأنه يشجع على الكسل والبطالة والخمول ، وعدم مسايرة كل تقدم حضاري.

    ويتصيدون الأدلة على ما يفترون من واقع المسلمين الذي صاروا إليه ، المخالف لتعاليم الإسلام ، زاعمين أن هذا الواقع هو الصورة التطبيقية له ، مع أن الإسلام قد أعلن أن العمل والكدح فيه هو فطرة الحياة ، فقال الله تعالى في سورة (الانشقاق/84 مصحف/83 نزول):

    {ياأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ}.

    فكل إنسان كادح ومدعو إلى الكدح ، ولكنه إما أن يكدح في الخير فينال خيراً ، وإما أن يكدح في الشر فينال شراً ، ولذلك أمره الله بأن يستقيم ويلتزم جانب التقوى فيما يكدح من أجله ، فقال تعالى عقب الآية السابقة:

    {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَى سَعِيراً}.

    وربط الإسلام تحصيل القوت الذي هو مادة الحياة الأولى – بعد التنفس – بالمشي في مناكب الأرض ، فقال الله تعالى في سورة (الملك/67 مصحف/77 نزول):

    {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}.

    وسلط الله أيدي الناس على جميع ما في الأرض ليحسنوا التصرف فيه بما هو لهم خير ، فقال الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول):

    {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً..ز}

    وقال في سورة (الجاثية/45 مصحف/65 نزول):

    وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }.

    فالإسلام يحمل للإنسانية كل دوافع التقدم والازدهار ، المصونين من عوامل الفساد والانهيار ، ولكن أساء مسلمو عصور الانحطاط إليه ، بتخلفهم الذي ساهمت في صنعه عوامل شتى ، منها مكايد أعدائهم له ، ومنها نفوسهم التي بطرت وانغمست بالشهوات ، وأخلدت إلى الأرض ، ومزقتها أيدي الخلاف والتنازع ، وأخذت تغط في نوم عميق ، وجهل مطبق ، بعد أن بلغ حملة الإسلام الأولون شأواً عظيماً من اليقظة والعلم ، والتقدم الحضاري ، بتأثير الروح العظيمة التي نفختها فيهم تعاليم الإسلام ، إذ فهموه على وجهه الصحيح ، وتمثلوه في سلوكهم أفراداً وجماعات وقيادات.

    ولما كان العالم في سباق نحو القوة ، ولما كان التقدم الاقتصادي في البلاد جزءاً منها وشرطاً أساسياً لها ، كان على المسلمين أن يتجهوا بشطر عظيم من طاقاتهم البشرية إلى تحسين أوضاعهم الاقتصادية متآزرين ، وأن يستغلوا كل ما يمكن استغلاله من الأرض ، ويدخلوا في جميع مجالات العمل من أبوابها العريصة ، وفي مقدمتها مجالات الاستثمارات والاستخراجات والتصنيع والبحث العلمي. لأن التنمية الاقتصادية الواعية المنضبطة مع تعاليم الإسلام ، من شأنها أن ترفع مستوى الشعوب الإسلامية ، وتكبح جماح البطرين ، وجشع المستغلين ، وتدفع البؤس والبطالة عن الذين أقعدهم البؤس عن أن يكونوا عناصر ذات فعالية مفيدة للمسلمين ، وبذلك يستطيعون أن يدخلوا في سباق القوة مع الدول المتقدمة المعاصرة ، عملاً بقول الله تعالى في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول):

    {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}.

    وأنت خبير أن عصب القوة المادية في هذا العصر مرتبط بتقدم الاقتصاد وازدهاره ، وبمقدار ما يضعف الاقتصاد العام في البلاد تضعف القوة المادية المطلوبة للأمة ، التي يجب على المسلمين أن يعدوها لتواجه قوى أعدائهم الذين يتربصون بهم الدوائر ، ويعملون لهدم كل مجدٍ لهم من داخل بلادهم وخارجها.

    فلا مجال في ميادين إعداد القوة بكل صورها ، واستكمال شروطها التي لا تكون إلا بها ، إلى نظريات الزهد والرضا بالقليل ، والبعد عن مجالات التنمية والاستثمارات المختلفة.

    فالزهد الصحيح يكون في أن يبذل المسلمون كل إمكانيات القوة التي وهبهم الله إياها ويملؤوا حياتهم كدحاً وعملاً ، ثم يزهدوا في لذائذ الحياة وشهواتها وترفها وحب جمع المال وكنزه ، ويحسنوا ضبط نفوسهم بالتقشف ، ويجعلوا ثمرات كدحهم في خدمة الاقتصاد العام للمسلمين ، وفي خدمة إعداد القوة التي أمرهم الله بها لمواجهة أعدائهم وأعداء دينهم.

    وليس الزهد في ترك العمل واللجوء إلى البطالة والكسل ، والخمول في الزوايا والتكايا ، والعيش على فضلات الناس وصدقاتهم ، فهذا مما لا يرضى به الإسلام بحال من الأحوال.

    أما التفرغ للتعلم والتوجيه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو جزء من العمل ، وهكذا عرفنا موقف الإسلام من العمل.

    ولكن الإسلام جعل للعمل منهجاً يقوم على أسس واضحة تضمن جلب المنافع الحقيقية المعتبرة ، ودفع المضار الحقيقية ، العاجلة والآجلة ضمن نظرة شاملة عميقة.

    وتتنوع طبيعة العمل طبقاً لتنوع طرق الكسب التي فيها للناس منافع ومصالح ، ويمكن تصنيف العمل في مجالات خمسة:

    المجال الأول : مجال الاستثمارات ، ويدخل في هذا المجال كل عمل يؤدي إلى استثمار واستنتاج وحدات طبيعية جديدة ، كالاستثمارات الزراعية المختلفة ، والاستنتاجات الحيوانية المتنوعة ، وما يلحق بذلك.

    المجال الثاني : مجال الاستخراجات ، ويدخل في هذا المجال كل عمل يؤدي إلى حيازة شيءٍ مما خلق الله للناس وأودعه في مكان ما من الأرض برها وبحرها وجوها ، كالصيد ، وقطف ثمار الغابات العامة ، والانتفاع بأشجارها ، والانتفاع بنبات الأرض الطبيعي ، وكاستخراج الجواهر والمعادن وأشباهها ، والمواد الكيميائية والعضوية ، واستخراج المياه والنفط ولحوم البحر وحليته ، وهكذا إلى سائر ما هو مسخر للإنسان في الأرض وفي السماء.

    المجال الثالث : مجال التصنيع ، ويشمل هذا المجال كل عمل يقوم على أساس تحويل هيئة المواد الأولى ، إلى أشكال وصور جديدة تركيبية أو تحليلية ، تحقق للإنسان مصلحة من المصالح ، أو منفعة من المنافع.

    المجال الرابع : مجال الخدمات الخاصة أو العامة ، الدينية والدنيوية ، ويشمل هذا المجال أعمال التجارة ، والإدارة والتوجيه والتربية والتعليم والحراسة والدفاع والصيانة والنقل وأشباه ذلك.

    المجال الخامس : مجال البحث العلمي والفني ، ويشمل هذا المجال أنواع التفرغ للبحث العلمي والفني ، الذي يهيئ للأمة عوامل تقدمها وازدهارها المستمر ، والذي من شأنه أن يزيد في شأو الحضارات والمدنيات السليمة زيادة مستمرة ، وفق النتائج التي يتوصل إليها الباحثون ، أو يصون دين الأمة وأخلاقها واستقامتها على صراط الله ، وتماسك بنائها ضد عوامل الانهيار والهدم الداخلية والخارجية.

    قيود العمل:

    لكن حرية العمل في هذه المجالات مقيدة بقيود إسلامية ، تهدف إلى منع أنواع الضرر أو الظلم والعدوان على حقوق الآخرين أفراداً أو جماعات ، ومنع كل ما فيه إضرار بسياسة الدولة الإسلامية ، أو توهين لقوتها وسلطانها ، ومنع كل ما فيه تشجيع على مخالفة مبدأ من مبادئ الإسلام ، أو حكم من أحكامه العملية التي ألزم المسلمين بها فعلاً أو تركاً.

    ولذلك نلاحظ أن من العمل ما هو مأذون به شرعاً ، ومنه ما هو محظور تقف دون حرية ممارسته حدود إسلامية ، ونستطيع أن نجمل القواعد العامة التي أقيمت عليها الحدود الإسلامية التي تحجز حريات العمل داخل أسوارها ، وتحرم عليها تجاوزها ، في القواعد التالية:

    القاعدة الأولى : منع حرية العمل عن كل ما فيه إضرار بالفرد أو عدوان على حق من حقوقه , والإضرار المحظور هنا يشمل أنواع الإضرار بالنفس أو الجسم أو العقل أو المال أو العرض.
    القاعدة الثانية : منع حرية العمل عن كل ما فيه إضرار بالمجتمع أو عدوان على حق من حقوقه العامة , والإضرار المحظور هنا يشمل أنواع الإضرار الذي يمس كيان وحدة المسلمين , أو يمس مصالحهم , أو حقوقهم العامة.
    القاعدة الثالثة : منع حرية العمل عن كل ما فيه إضرار بالدولة الإِسلامية , أو عدوان على حق من حقوقها , والإضرار هنا يشمل أنواع الإِضرار السياسي أو الإداري أو المالي أو العسكري , أو غير ذلك.
    القاعدة الرابعة : منع حرية العمل عن كل ما فيه إضرار أو إخلال بمبدأ من مبادئ الإِسلام المتعلقة بالعقائد أو بالشرائع , أو عدوان على شيء منها بأية وسيلة ظاهرة أو خفية , كالأعمال التي من شأنها أن تفسد عقائد المسلمين , أو أخلاقهم , أو تميل بسلوكهم عن صراط الإسلام وأحكام الشريعة الربانية.

    ( 8 )

    مقارنة بين الأسس العامة للنظام الاقتصادي في الإِسلام
    والنظم الأخرى


    يروج أنصار المنظمة الاقتصادية الرأسمالية والاشتراكية لأنظمتهم بذكر ميزاتها , ويعترف الباحثون الحياديون والناقدون الاقتصاديون لهم ببعض هذه الميزات , ويوجهون ضد كل من هذه الأنظمة الانتقاد بما فيها من المساوئ.
    ولدى التحقيق نجد كل ما يذكرونه لها جميعاً من مميزات حقيقية موجوداً في نظام الإسلام الاقتصادي , وكل ما يوجهون ضدها من انتقادات حقيقية غير موجودة في نظام الإِسلام الاقتصادي , فنظام الإِسلام بريء من كل مساوئها جامع لكل فضائلها.

    ما يذكرونه من مزايا الأنظمة الرأسمالية :

    يذكر الباحثون الاقتصاديون عدداً من مزايا الأنظمة الرأسمالية أهمها المزايا التالية :

    الأولى : إطلاق الحافز الفردي , وبإطلاق الحافز الفردي تتقدم الصناعة ويزدهر الاقتصاد.

    والمقدار الخير من هذه المزية متوافر في نظام الإسلام , فهو يطلق في الأفراد الحوافز لبذل قصارى جهدهم في العمل والتحرك المستمر , رغبة في تلبية الفطرة الإِنسانية التي تحب الحيازة والتملك , كما قال الله تعالى في سورة (آل عمران / 3 مصحف / 89نزول) :

    {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}.

    ولكن الإسلام هذّب هذا الحافز الفردي , فخفف من غلوائه , وحد من طمع الإِنسان وجشعه بما شرع من نظم , وبما كلف الإِنسان من واجبات.

    الثانية : إتاحة المنافسة بين الأفراد , وبذلك تتقدم الصناعة ويزدهر الاقتصاد.

    والمقدار الخير من هذه المزية متوافر أيضاً في نظام الإِسلام , فبينما تتيح النظم الرأسمالية المنافسة من أبواب عريضة , نجد الإِسلام يتيحها بشكل معتدل , لا يُسمح فيه بإطلاق حرية الفرد إطلاقاً يؤدي إلى استغلال الآخرين , والعدوان على حقوقهم , وتقييد حرياتهم , وإيذائهم بالمضاربة وألوان الاحتكار , وأشباه ذلك مما لا خير فيه.

    الثالثة : إتاحة الحرية الاقتصادية , فبهذه الحرية تنطلق طاقات الأفراد في مختلف المجالات , ويشمل النشاط الاقتصادي كل جوانب التقدم والازدهار.

    والمقدار الخير من هذه المزية متوافر في نظام الإسلام , فبينما تتيح النظم الرأسمالية الحرية الاقتصادية بشكل قد يؤدي إلى الظلم والعدوان , نجد الإِسلام يتيحها ضمن الحدود التي وفق فيها بين المصلحة الفردية , ومصلحة الجماعة , ومصلحة الدولة الإسلامية , وأهداف أسس الإسلام الاعتقادية والتشريعية.

    والحرية الاقتصادية ضمن الحدود الإسلامية تحقق جوانب المصلحة المقصودة منها , وتحجزها عن الطغيان المؤدي إلى العدوان أو إهدار حريات الآخرين أو الإفساد في الحياة.

    ما يذكرونه من مزايا الأنظمة الاشتراكية :

    ويذكر الباحثون الاقتصاديون عدداً من مزايا الأنظمة الاشتراكية أهمها ما يلي :

    الأولى : حيازتها المقومات التي تمكن رعاياها من استخدام الموارد والعوامل الإنتاجية المتاحة لهم أفضل استخدام هامش .

    وهذه الميزة المقدرة للأنظمة الاشتراكية التي ينعدم فيها الحافز الفردي والحرية والمنافسة , هي متوافرة في نظام الإِسلام بصورتها المثالية , لأن المجتمع المسلم حينما يعمل على استخدام الموارد والعوامل الإِنتاجية يكون مدفوعاً بمحركين عظيمين :

    المحرك الأول : الواجب الإِلهي الذي يأمر بإعداد المستطاع من القوة والمساهمة في التقدم والارتقاء العمراني والحضاري.

    المحرك الثاني : الحافز الفردي المتماسك مع الجماعة بقوة الإِخاء والحب والتفاني في الإتقان والتحسين , والمتطلع إلى أكبر قدر من الربح المأذون به في شريعة الله.

    الثانية : تهيئة العمل لجميع أفراد المجتمع.

    وهذه المزية متحققة في الإِسلام بشكل أرقى مما هي عليه في الأنظمة الاشتراكية , وذلك لأن كل قادر على العمل مكلف به , ويطالب المجتمع المتمثل بالدولة الإِسلامية بتهيئته له , إلا النساء , فلهن حق التفرغ للقيام بواجبات الخدمات المنزلية مع كفالتهن , ولهنّ أن يعملن إن أردن ضمن شروط المحافظة على عفافهن , وعدم اختلاطهن بالرجال الأجانب , ومع موافقة الزوج إذا كان العمل يؤثر على حقوقه , أو يقتضي الخروج من دار سكنها.

    وأما العاجزون عن العمل فهم مكرمون مصونون مكفيون بالكفالة الإِسلامية عن طريق الأسرة , أو عن طريق الصندوق العام المعد لهذه الغاية , الذي تصب فيه موارد الزكاة والصدقات وغيرها مما هو مقرر في نظام الإِسلام لتحقيق الكفالة الاجتماعية.

    وبهذا نلاحظ أن نظام الإِسلام قد اشتمل على المقدار الخير من المزايا التي يذكرها الباحثون الاقتصاديون لكلٍّ من الأنظمة الرأسمالية والأنظمة الاشتراكية , مع براءته من جوانب الشطط التي تؤدي إلى الظلم والعدوان والإِفساد في الأرض.

    ما يذكرونه من مساوئ الأنظمة الرأسمالية وعيوبها :

    يكشف الناقدون الاقتصاديون عن مجموعة من مساوئ الأنظمة الرأسمالية وعيوبها , ويمكن تلخيصها فيما يلي :

    1- إطلاقها الحرية الفردية بشكل يشجع الأفراد على اتخاذ كل وسيلة للاستغلال , ولو أدى ذلك إلى سلب الآخرين حرياتهم سلباً لا يكشفه القانون أو لا يحرمه , ولو أدى ذلك أيضاً إلى الإِضرار بالجماعة.

    2- تشجيعها على سيادة الغرائز المادية البحتة , التي لا تعترف بالقيم الإِنسانية الروحية , الفردية والجماعية , ولذلك نرى كبار أصحاب رؤوس الأموال في العالم لا يهتمون بسعادة البشرية إلا من خلال حصولهم على أكبر مقدار من الربح , وتنمية ثرواتهم.

    3- إتاحتها الفرصة لكبار أصحاب رؤوس الأموال أن يوجهوا السلطة السياسية إلى ما يحقق أغراضهم , أو يتحكموا بها عن طريق المال , ليتمكنوا بذلك من احتكار ما يريدون من تجارة , أو صناعة , أو علم.

    4- ما يتولد عنها من الرغبة باستعمار الشعوب واستغلالها وامتصاص خيراتها.

    5- إتاحتها الفرصة لأن يكون المال دُولة بين طبقة الأغنياء فقط , مع حرمان السواد الأعظم منه.

    إن هذه المساوئ الموجودة في النظم الرأسمالية غير موجودة في نظام الإِسلام , ووجودها في النظم الرأسمالية ناشئ عن البواعث النفسية التي اعتمدت عليها هذه النظم , وهي الأنانية الفردية وعدم الشعور بواجب الجماعة , ويجعلها تستشري عدم وجود الضوابط التي تحد من تصرفات الناس وحرياتهم , بخلاف نظام الإِسلام في كل ذلك , فالبواعث فيه مصلحة الأفراد والجماعة وتحقيق أهداف الدين , وهو محصن بالضوابط التي تحد من تصرفات الناس وحرياتهم وتجعلها منحصرة في حدود الخير بعيدة عن الشر وكل أسبابه.

    ما يذكرونه من مساوئ الأنظمة الاشتراكية وعيوبها :

    ويكشف الناقدون الاقتصاديون عن مجموعة من مساوئ الأنظمة الاشتراكية وعيوبها , ويمكن تلخيصها فيما يلي :

    1- محاربتها للفردية بجميع خصائصها , وكبتها لحريتها.
    2- تبنِّيها لفكرة "الصراع بين الطبقات" القائم على أسس الحقد والحسد والكراهية , وإعلانها نفي الأخوة بين جميع الناس , لذلك كان شعارها : "يا عمال العالم اتحدوا" ولم يكن شعارها "يا أيها الناس".
    3- تبنِّيها لفكرة العمل على تغيير العامل كله بجميع أنظمته ومبادئه الدينية والخلقية والقانونية , لا على إصلاح الفاسد , وإتمام مكارم الأخلاق , وإكمال جوانب الصلاح فيه.
    4- حضها على الاستهانة بكل القيم الدينية والإِنسانية والأخلاقية , في سبيل تحقيق الغايات التي تسعى إليها هذه الأنظمة , وتشجيعها على استخدام كل وسيلة غير أخلاقية وغير إنسانية , في سبيل تحقيق غايات حملة هذه الأنظمة ودعاتها.
    5- إتاحتها الفرصة لقيام ألوان الحكم الطبقي الحاقد المستبد ، الذي لا مجال فيه لظهور الحريات السياسية والاجتماعية .
    6- تبينِّيها لوسيلة التدمير لكل ما هو قائم في المجتمعات ، عن طريق الأعمال الثورية ، وإحلال روح "الثورة والصراع والكراهية" محل روح "الحب والإخاء والتواد والتراحم".
    7- ما يتولد عنها من عقد إنسانية ، تحرم الأفراد من شروط سعادتهم في الحياة ، إذ تحجزهم عن تلبية رغباتهم الإنسانية ، وإطلاق خصائصهم البشرية.
    8- إجهازها على الحافز الفردي للإنتاج والعمل ، الأمر الذي ينشأ عنه تخفيض الإنتاج العام ، وزيادة المشكلات الاقتصادية العالمية تعقيداً.

    يضاف إلى كل ذلك أنها قائمة بالأساس على معاداة الأديان ، ومحاربة تعاليمها ونظمها ، والأخلاق الكريمة التي تحض عليها ، حرباً لا هوادة فيها ، إلا في حدود المهادنات المرحلية ، التي تقتضيها الظروف السياسية ، أو ظروف العمل لنشر مبادئها.

    وهكذا تبينت لنا مساوئ النظم الرأسمالية وعيوبها ، ومساوئ النظم الاشتراكية وعيوبها.

    أما نظام الإسلام فهو بريء من مساوئ وعيوب كل هذه النظم ، خالٍ من ويلاتها وآثارها الظالمة الآثمة.

    كان أنه مشتمل على مزايا ومحاسن كل هذه النظم ، مضافاً إليها فضائل خاصة به ، إذ يعتمد على الإيمان بالله واليوم الآخر ، ويهدف إلى خير الإنسانية وسعادتها ، إذ يعتمد على الإيمان بالله واليوم الآخر ، ويهدف إلى خير الإنسانية وسعادتها ، ويأمر بالتعاون والتآخي والتواد والتراحم ، واعتبار المجتمع الإسلامي كله بمثابة جسد واحد ، إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.

    إنه ليس في نظام الإسلام طغيان الرأسماليات ، التي تفسح المجال للأفراد والعصابات القليلة المستغلة بالتآمر ، والمحمية بسلطان القانون ، أن تعتدي على حقوق الجماعة ، وتفترس بوسائلها الذكية الماكرة حريات الآخرين ، حتى تستغل جهدهم وثمرة كدهم بأقل مما يستحقون ، أو تختلس أموالهم بحيل اقتصادية متسترة بالصبغة القانونية ، وإرادتهم في كل ذلك مكرهة إكراهاً غير مباشر . وليس في نظام الإسلام احتكارات الأنظمة الرأسمالية ،ولا رباها ، ولا رشواتها ، ولا تحكمها بالسلطة وتوجيهها لها ، ولا ظلمها ، ولا ماديتها المكتالبة على الدنيا ، ولا شحها وفقدها للمعاني الإنسانية النبيلة ، ولا الفقر المدقع في بعض أفراد المجتمع الذي تسود فيه إلى غير ذلك من سيئات وعيوب .

    وليس في نظام الإسلام ما في الأنظمة الاشتراكية من سطو على أموال الناس ، وتطلع إلى إلغاء الملكية الفردية إلغاءً تاماً ، وما فيها من إلغاء للحريات وإماتة للحوافز الفردية ، وحقد طبقي ، وصراع بين الناس ، وما فيها من تقسيم الناس إلى سادة حاقدين حاكمين بسلطان القوة وأسلوب العنف الشديد ،وعبيد مسخرين بلقمة العيش ، وبأدنى مستويات مطالب الحياة ، دون أن يكون لهم حرية اختيار ما يريدون إلا في حدود يسيرة ، وما فيها من انعدام معاني الإخاء والتعاطف الإنساني ، وانعدام الرغبة الصادقة بالعمل والإنتاج ، وبرفع مستوى اقتصاد الأمة ، إلى غير ذلك من أمور كثيرة .

    وبهذا تظهر لنا منزلة الإسلام العظمى ، القابضة على ناصية المجد ، والتي لا يستطيع أن ينافسه فيها منافس.

    إلا أن الإسلام لا يجد في هذا العصر أنصاراً يحملونه ويطبقونه ويحمونه على ما يجب.

    ( 9 )

    فرية ربط التخلف الصناعي بنظام الإسلام

    يربط أعداء الإسلام التخلف الصناعي الذي وصل إليه المسلمون في عصور الانحطاط بالإسلام نفسه ، ويحاولون إيهام المسلمين بأن تخلفهم في ميادين الصناعة التي حازت فيها دول أوربا سبقاً باهراً ، قد كان بسبب استمساكهم بنظم الإسلام ، وهذه فرية يمكر بها الغزاة مكراً بالغاً ، إذ يجعلون المسلمين الهاجرين لإسلامهم ، المخالفين له في أعمالهم ، حجّةً عليه ، مع أن الإسلام بنصوصه الثابتة الواضحة الصريحة هو الحجة عليهم وعلى الناس جميعاً.

    وقد استطاع الأعداء أن يخدعوا بهذه الفرية بعض أبناء المسلمين ، ويستدرجوهم إلى مناهجهم وخططهم وتطبيق نظمهم.

    إن كل نظام في العالم تحمله أمة من الأمم دون أن تطبقه في حياتها إنْ هو إلا حبر على ورق ، أو نصوص تقال بالأفواه ، وهيهات أن تظهر للمكتوبات أو الأقوال آثار ما لم تترجم في حياة الناس إلى أعمال.

    وقد سجل التاريخ أن كثيراً من عوامل التخلف قد ساهم في نشرها بين المسلمين أعداء الإسلام نفسهم ، وذلك بعد أن سبق المسلمون سائر الأمم في ميادين الصناعات والعلوم ، لما عملوا بما دفعهم إليه دينهم من العمل والسبق في كل شيء ، والتطلع إلى ذروات المجد المتجددة ، التي لا يفتأ يتجدد فيها جديد ، فكلما احتل الصاعد إليها ذروة وجد من بعدها ذروة أخرى.

    وكانت السياسات الاستعمارية تتآمر على بلاد المسلمين تآمراً كبيراً ، لمنع المسلمين عن التطور والتقدم في ميادين الصناعة ، خشية أن ينشئوا في بلادهم المصانع الكبرى التي تساهم في تحريرهممن سلطان الاستعمار الاقتصادي ، ولكي يبقوا ضمن نطاق الشعوب المستوردة ، التي تقدم للمستعمرين المواد الأولى من أرضها أو كدّها ، بالأثمان البخسة التي تحددها المؤسسات الاستعمارية ، ثم تستوردها بعد أن يتم تصنيعها في بلاد المستعمرين بالأثمان العالية ، التي تحددها هذه المؤسسات المحتكرة ، ذات السلطان النافذ في البلاد بقوة الاحتلال العسكري.

    وحينما تلقص ظل الاستعمار المباشر عن بعض البلاد الإسلامية ، بدأت شعوب هذه البلا تتجه نحو شيء من التحرر الاقتصادي ، وأخذت تتدرج نحو التصنيع ، وترفع عنها ذل الاستعمار الصناعي.

    ولكنها ارتكبت خطيئة السير في ركب النظم الاقتصادية الرأسمالية ، ولم تتقيد بتعاليم الإسلام ، ولم تحمِ نفسها بحماية من الله.

    وراقب الغزاة ظاهرة التقدم نحو الصناعة في هذه البلاد ، ولم يرضهم هذا الأمر ، لأنه وسيلة إلى الاكتفاء الذاتي ، والاستغناء عن الصناعات الأجنبية ، فأسرعت دوائرهم ومؤسساتهم فوضعت الخطط الم اكرة المقنعة لشل حركة التقدم ، وإيقاف عجلة النشاط الصناعي بأية وسيلة ، وبسرعة خاطفة استطاعت مؤسسات الغزاة بوسائلها الماكرة التي لا تظهر بها على مسرح العمليات ، أن توقف عجلة التقدم الصناعي ، وتعمل على تهديم مراكز الصناعة في البلاد باسم تحسينها ، وباسم إصلاح الأوضاع الاجتماعية ، ووكل الله رجال الصناعة في هذه البلاد لأنفسهم ، إذ لم يحتموا في حصون النظم التي شرعها الله لعباده ، ونفذت العقوبة الإلهية ، وقُضي أمر الله ، وداعي الإسلام ينادي لا نجاة إلا بالعودة إلى الإسلام وتطبيق أحكامه.

    ( 10 )

    اصطناع المناخات المناسبة لتقبل الأفكار والمذاهب الغازية

    أفضل مناخ مناسب لنمو الجراثيم الضارة وانتشارها ، حجب نور الشمس ، وتراكم القذارات ، والرطبة ، وتكاثف السكان ، ونقص الغذاء.

    وقضية المناخ المناسب لانتشار أفكار الغزاة في صفوف المسلمين ، من القضايا التي تحظى بعناية كبرى من قبل الأعداء ، فهم ما يزالون يوصون أجراءهم بالعمل على إيجاد المناخ المناسب لبث أفكارهم ومبادئهم ومذاهبهم ، وعرقلة كل تقدم من شأنه أن يفسد عليهم خططهم.

    لذلك تعمل أجهزتهم بطاقات كبيرة ، لإبعاد المسلمين عن تطبيق أنظمة الإسلام على الوجه الصحيح ، لأن هذا التطبيق الصحيح سيقنع الجماهير المسلمة بكمال أنظمة الإسلام ، وبأنها خير أنظمة يمكن أن تحقق للناس السعادة والرفاهية والإخاء والمحبة.

    وفي سبيل تهيئة المناخ المناسب ، نلاحظ أن المنظمات الاشتراكية العالمية ، قد ترى أن من وسائلها دفع البلاد الإسلامية إلى تطبيق الرأسمالية المفرطة ، لتهيئة المناخ البشري المناسب لانتشار مذاهبها المعادية للإسلام ، ولإلقاء جرثومة الحقد والعداء والصراع بين الطبقات ، فمتى تمَّ له ما تريد استطاعت أن تسوق الشعوب سوقاً سهلاً ، لا تتكلف فيه عناءً كبيراً ، ثم تجهز على البقية الباقية من قيمها الخلقية والدينية والاجتماعية.

    وفي سبيل تهيئة المناخ المناسب ، نلاحظ أن الدوائر الرأسمالية العالمية قد ترى أن من وسائلها دفع البلاد الإسلامية إلى تطبيق الأنظمة الاشتراكية المفرطة ، مع صيانتها من الانزلاق السياسي إلى أحضان خصومها الاشتراكيين العالميين ، لتهيئة المناخ البشري المناسب لتقبل سلطان الرأسماليين السياسي والاجتماعي والاقتصادي ولزحزحة المسلمين عن حصانتهم الدينية الفردية والاجتماعية.

    وواجب المسلمين أمام خطط الغزاة الرامية إلى تهيئة المناخات المناسبة ، لنشر ما يريدون نشره من أفكارهم ومذاهبهم ، أن لا يدّعوا مجالاً تتجمع فيه شروط المناخ المناسب لانتشار أفكار أعدائهم ضمن صفوفهم ، وأن يحصنوا مجتمعاتهم من جيوشها الوبائية الغازية بمختلف وسائل التحصين.

    ومن الوسائل التي يجب عليهم أن يحصنوا مجتمعاتهم بها ما يلي:

    أولاً: أن يفتحوا النوافذ لجماهير المسلمين كي تشرق عليهم أنوار المعرفة الإسلامية الحقة ، بأسلوب مشرق أخاذ ، ولا يدعوهم يعيشون في الظلمة الفكرية ، التي لا ترى فيها المعارف الإسلامية على وجهها الصحيح ، وإلا فإن شياطين الإنس سيخيلون لهم في الظلمات ما يشاؤون ، ويحمِّلُونهم من الضلالات والأباطيل ما يريدون.

    ثانياً: أن يعملوا على تنظيف المجتمعات الإسلامية من قذارات الانحراف في السلوك ، التي تجدها الغزاة مناخاً ملائماً لانتشار جراثيمهم فيها.

    ثالثاً : أن يرفعوا في المجتمعات الإسلامية حرارة الحياة والعمل ، ويجفِّفوا مستنقعات الخمول والكسل ، ورطوبات التواني والإهمال ، حتى لا تكون هذه الأمور مناخاً ملائماً لنمو الجراثيم الفكرية ، التي يلقيها الغزاة في صفوفهم.

    رابعاً: أن يتعهدوا أمكنة الكثافة للجماهير الإسلامية ، كالمدارس ، والمعاهد والجامعات ، والأندية والجمعيات ، والأسواق التجارية ، وسائر المجتمعات ، خشية أن تسري فيها عدو الإصابة بالجراثيم الفكرية الوبائية الخطرة على عقائد المسلمين ومفاهيمهم.

    خامساً: أن يقوموا بكل عمل إيجابي بسد حاجات من قصرت أيديهم عن تحصيل مطالب عيشهم وعيش أسرهم ، حتى تقوى إرادتهم على مقاومة الوباء ، وتكون لديهم قوة جسدية ومناعة نفسية تقيهم الإصابة بجرثومة الفساد الفكري والاعتقادي ، التي يقذفها إليهم الأعداء والغزاة.

    وباتخاذ هذه الوسائل الإيجابية والسلبية وما يشبهها ، يمكن وقاية المجتمعات الإسلامية من عدوى الإصابة بالضلالات الفكرية والاعتقادية والأخلاقية ، وعدوى المذاهب الهدامة الوافدة على بلاد المسلمين.

    ( 11 )

    التعلُّل بعدم وجود دولة تطبق نظم الإسلام وتحميها

    يناقشني الكثيرون ممن يسمون أنفسهم طلائع الفكر العربي الحديث ، المتأثرين بمذاهب الغزاة وأفكارهم لا سيما المذاهب الاقتصادية ، حول بعض نظم الإسلام ، ويأخذ الحوار مجراه المنطقي ، ويتبين لي جهلهم التام بنظم الإسلام ، أو معرفتهم ببعض جوانب منها دون استكمال الصورة المشرقة التامة لها ، أو أنهم يحملون مفاهيم مشوهة عنها ، تلقوها عن الكتب الأجنبية التي ألفها المستشرقون أو تلامذتهم ، وشوّهوا فيها صورة المفاهيم الإسلامية أيما تشويه.

    ويأخذ النقاش حظه من البحث والبيان الصحيح لحقيقة الإسلام ونظمه ، ويكتشف هؤلاء خطأ الصورة التي كانت في أذهانهم ، ويدركون كمال نظم الإسلام ويعترفون بذلك.

    عندئذ أدعوهم إلى تبني نظم الإسلام والدعوة إليها ، وهجر النظم الأخرى التي يدعون إليها بحماسة ، ويحاولون تطبيقها على الناس بوسائل العنف والقوة ، فيعتذرون عن تبنيها والدعوة إليها ، بأنه لا توجد دولة ذات قوة فعالة تطبقها ، وتحميها بصدق وأمانة حتى يسيروا في ركابها.

    والاعتذار بهذا العذر خدعة شيطانية لتثبيط طاقات المتطلعين إلى حياة أفضل ، عن التجمع لعمل ما يجب عمله من أجل نقل نظم الإسلام من حيز الفكرة والعقيدة إلى حيز التطبيق والعمل ، وعوامله الأساسية لدى التحقيق تعود جذورها إلى ضعف أو انعدام الإيمان بالله واليوم الآخر وعدم الشعور بالمسؤولية نحو الخالق.

    وقد قلت لبعض هؤلاء : إنك سرت في ركاب دعوة لم يكن لها وجود إطلاقاً في بلاد المسلمين ، ثم استطعتم بالتجمع والتآزر والسعي والعمل أن تفرضوها بالقوة على الأمة التي لا تدين بها ، فلماذا لا يتجمع الطلائع المثقفون – إذا كانوا مخلصين حقيقة لأمتهم وبلادهم – ويتبنون النظم الإسلامية ، التي تعترف معي بأنها أتم وأكمل من أي نظم أخرى ، ثم يسعون لتطبيقها على شعب يؤيد تطبيقها كل التأييد ، ولا يجرؤ على معارضتها منافق؟؟..

    قلت له هذا الكلام ، وفي نفسي من الحسرة على هذه الأمة الضائعة عن طريق رشادها لوعات.

    ولكنه مع الأسف الشديد ظل كغيره منجرفاً مع التيار الظالم ، منخدعاً بفتنة الظفر المؤقت الذي أصابه دعاة هذه النظم المعادية للإسلام ، وهم لا يدرون إلى أي مصير سحيق ينحدرون ومعهم القطعان البشرية السائمة.

    ولو أ، دولة مسلمة صدقت في تطبيق النظم الإسلامية على وجهها الصحيح ، لقدمت للعالم أفضل صورة لمجتمع مثالي سعيد آمن مطمئن متكافل متعاون متواد متراحم ، كأنه الجسد الواحد.

    ولكن متى سادت النظم الإسلامية في مجتمع ما ، وفي وقت ما ، فإن استمرار سيادتها ودوام نفعها مرهونان برقابة ساهرة ، تتابع تطبيقها بدقة ، وحماية دائمة لها بالتنظيمات والترتيبات الإدارية ، وصيانة مستمرة لها بمختلف وسائل الصيانة ومنها عقوبات المخالفين ، لئلا يتلاعب بمفاهيمها أو تطبيقاتها أصحاب المصالح الخاصة ، وهم يخفون جرائمهم وانحرافاتهم ضمن حصانتها ، ولئلا تعدو عليها عوادي الغزاة.

    إن حدود الله في شرائعه لعباده ، تشبه حدود الأرض بين الدول ، فمتى أهملت دولة حدودها ، فلم تقم بحراستها وحمايتها من عدوان المعتدين عليها ، تعرضت للعدوان ، وتساقطت قطع من بلادها في أفواه المفترسين ، ثم استبيحت كل أرضها وسقطت دولتها.

    وبين الحق والباطل وأنصار الحق وجنود الباطل صراع لا ينتهي ، وما نام أنصار الحق نومة إلا كانت نومتهم مدداً لجنود الباطل وقوتهم في الأرض.

    * * *

    من لم يكن له من دينه واعظ ، لم تنفعه المواعظ

  11. افتراضي



    الفصْل الرابع عشر
    مَا تُعانيه الحَركات وَالمؤسَّسّاتُ الإسْلاَميَّة
    من قبل الغزاة وأنصارهم والسّائرين في ركابهم


    1- مقدمة عامة
    2- الكمين والإثارة
    3- الفقر الذي تعاني منه المؤسسات والحركات الإسلامية






    ( 1 )

    مقدمة عامة

    تقوم بين حين وآخر في مختلف البلاد الإسلامية نهضات إصلاحية ، تتبنى الدعوة إلى الإسلام ، والعمل على نشر علومه ، إلى جانب العلوم الأخرى ، لإبراز عنصر التآخي بين علوم الدين وعلوم الدنيا ، ولتوضح قيمة الثقافة الإسلامية المفترى عليها ، وكشف حقيقتها النا صعة للشبان المثقفين بالثقافات المعاصرة ، ولبيان أثرها في سعادة الإنسان ، ودفعه إلى ميادين المعرفة الحقة ، التي من شأنها أن تسلط يد الإنسان على كل ما في الوجود من قوة ، ضمن نظام محكم يضمن مصلحة الإنسانية وسعادتها ورفاهيتها ، ولتعمل على تقويم أخلاق المتزودين منها ، وتهذيب سلوكهم في الحياة وجعلهم عناصر إنسانية راقية صالحة لبناء مجتمع مثالي كريم.

    وتجاهد هذه النهضات جهاداً مريراً ، حتى تبني مؤسساتها الصغيرة بالكفاح والعرق وشظف العيش ، دون أن تتلقى تأييداً أو مساعدة ذات بال من ذوي الغنى أو ذوي السلطان ، حتى إذا بدأت تقف على أقدامها ، وتنشط في تحقيق بعض غاياتها التي تهدف إليها ، تفتحت عليها عيون أعداء الإسلام من كل جانب ، وأخذت تراقب أعمالها وخطواتها بدقة ومكر وحذر ، وتتباع كل تحركاتها ، ثم تعمل على إحباط مشروعاتها بمختلف الوسائل المقنعة والسافرة ، من داخلها ومن خارجها ، وقد تدفع لمحاربتها هيئات أخرى من ضمن صفوف المسلمين ، يغررون بها ويخدعونها ويشوهون أمامها وجه الحقيقة ، كما يسلطون عليها بعض الدوائر ذات السلطة في الدولة.

    وتكون محاربتها بسد الموارد عنها ، حتى تصاب بالفقر المدقع ، فتتلاشى بنفسها ، أو بالتخذيل عنها بشتى الوسائل الماكرة ، أو بإفساد غايتها وطريقتها من داخلها ، إذا استطاع أعداء الإسلام أن يدسوا فيها عناصر سيئة مرتبطة بهم ، تغري القائمين عليها بأنواع مختلفة من المغريات ، أو بسد أبواب العمل والرزق عن المنتسبين إليها ، أو بتلسيط أنواع الاتهامات ضد القائمين عليها ، حتى لا يكونوا محل ثقة الناس ، فإن لم تنجح كل هذه الوسائل عملوا على إلغائها ومصادرتها بأيدي أجرائهم ، وملاحقة القائمين عليها بالاضطهاد والتشتيت ، والاتهام بالأكاذيب المختلفة المزورة ، والافتراءات التي لا أصل لها ، وقد يعملون على هدمها بشكل سافر وقح لا مبرر له بحال من الأحوال.

    وتتعاون أجهزة الغزاة كلها على ذلك ، مهما كانت فيما بينها متنازعة على المصالح ، أو مختلفة في المبادئ.

    وهكذا يفعلون كلما نشطت حركة إسلامية واعية في بلد من بلاد المسلمين ، وأجهزتهم التي تخدمهم كثيرة ، ومخططاتهم واقفة بالمرصاد لكل نشاط إسلامي ، صغيراً كان أم كبيراً.

    فمتى يكون المسلمون على يقظة من أمرهم وهذا هو عدوهم؟!

    ( 2 )

    الكمين والإثارة


    من خطط الحروب المسلحة (الكمين والإثارة) وذلك بأن يعد العدو كميناً مسلحاً إعداداً جيداً ، ليثب عن يقظة تامة وبشكل مفاجئ على فريق من جيش عدوه ، وهو في حالة غفلة عن مداهمة الخطر ، ثم يستدرج هذا الفريق بإثارة طمعه بصيد ثمين في غير مكان الكمين ، وفي غمرة اتجاه الفريق إلى مطمعه يفاجئه الكمين ويمعن فيه قتلاً وأسراً.

    على مثل هذه الخطة نجد أعداء الإسلام يدبرون للمسلمين ولقياداتهم مكايد سياسية ، يوقعونهم بها في شباك لم يكونوا يحسبون له حساباً.

    ومن أمثلة هذه المكيدة أن يضعوا المسلمين في أزمة تهزهم هزاً عنيفاً ، حتى تضيق صدورهم ، ويشتد الخناق عليهم ، وينتظروا يوم الخلاص بفارغ الصبر ، ويصبحوا مستعدين للتورط في أمر لم يعدوا له عدته ، ثم يقذفون شرارة المكر على هشيم متراكم يكاد يلتهب ولو لم تمسسه نار ، مع بوارق أمل يهيئون جو المسلمين العام إلى التفاؤل به ، في حين أنهم قد أعدوا جنودهم القابعين في كمين أو أكثر ، مشحونين بالحقد والجنون اللازم للنكاية بالجماهير المسلمة ، التي سيطرت عليها حالة الانفعال والتأثر الشديدين ، ويقنعون جنودهم وأجراءهم بأنهم تحت خطر القضاء عليهم من قبل جماهير المسلمين ، فما عليهم إلا أن يبطشوا بطشاً مسرفاً لا هوادة فيه ، دفاعاً عن أنفسهم.

    وفي خضم هذا المتلاطم الانفعالي النفسي بين صفوف المسلمين الذين لم يحسبوا حساباً لمعركة فعلية ، تنطلق صيحات ألم شديد من حناجر الجماهير المسلمة ، تطالب بحقها في الحياة ، فيندفع إليهم أجراء أعداء الإسلام بأسلحتهم الحديثة ، وحقدهم الكبير على الجماهير المسلمة ، التي لا تحمل أي لون من ألوان الأسلحة المادية ، كأنهم قادمون إلى معركة حربية دامية ، فيها مختلف آلات الحرب الحديثة ، ويمعنون بالمسلمين العزل إرهاباً وتعذيباً وتقتيلاً.

    ويمن الأعداء الغزاة على أجرائهم إذ دلوهم على مكامن الخطر ، وبهذه الطريقة الماكرة المقنعة التي يدبرها الغزاة يجعلون جماهير المسلمين يفضلون الحكم المباشر من قبل دولة العدو ، على حكم أجرائه وعبيده ، الذين هم من جلدة الأمة ، ولكنهم يتنكرون لها ولمبادئها ولقيمها ولأبطالها الذين كان لهم الفضل الأكبر في تحرير البلاد.

    والمسلمون المنتشرون في مشارق الأرض ومغاربها مدعوون إلى اليقظة التامة ، لما يحاك ضدهم من مكايد ودسائس ، وإلى العمل على إفساد خطط العدو الرامية إلى اجتثات دينهم والخلاص منهم وجعلهم أجراء مسيرين.

    ( 3 )

    الفقر الذي تعاني منه المؤسسات والحركات الإسلامية

    بينما تتلقى المؤسسات التبشيرية في العالم المساعدات الضخمة من مختلف الدول الاستعمارية ، وتجد لديها كل سند مادي وأدبي وسياسي وعسكري ، الأمر الذي يمكن هذه المؤسسات من متابعة جهودها التبشيرية داخل معظم البلاد الإسلامية ، إذ يتجمع لديها رصيد عظيم من الأموال والخبرات وجنود العمل ، ورصيد آخر سياسي وعسكري يشد أزرها ، ويضاعف وزرها.

    وبينما يتلقى كثير من المستشرقين الذين يحملون في الظاهر رسالة البحث العلمي البريء ، ويحملون في الباطن رسالتي التبشير والاستعمار معاً ، ما يحتاجون إليه من مساعدات مادية وعلمية وأدبية وسياسية وعسكرية.

    نجد المؤسسات الإسلامية التي تحاول أن تقف في صف الدفاع عن الإسلام والمسلمين ، والدعوة الصادقة إلى صراط الله ، كما نجد الباحثين الإسلاميين الذين نذروا حياتهم لنشر الإسلام والدفاع عنه وعن الأمة الإسلامية الكبرى ، في حالة يرثى لها من معاناة الفقر المدقع ، والحرمان الشديد ، وحجب الخبرات الفنية ، والمعلومات الضرورية عنهم.

    يضاف إلى ذلك تسديد الأهداف إلى الفريقين بغية قصم ظهورهما ، أو تحويلهما عن طريقهما ، أو إفساد عناصرهما ، أو وضع العقبات الكثيرة في طريقهما ، لإيقاف نشاطهما أو عرقلة أعمالها.

    وتضطر المؤسسات الإسلامية في كثير من الأحيان أن تقف موقف المستجدي من أيدي المحسنين المسلمين ، التي ترشح عليها بالعطاءات الشحيحة لدعم مشاريعها.

    ويضطر الباحثون الإسلاميون أن يجمدوا أقلامهم حينما تقف في وجوههم عقبات النشر ، أو تضطرهم ضروروات العيش إلى قتل أوقاتهم في أعمال الكسب التي تحجبهم عن التفكير الحر والإنتاج الرفيع.

    ولو كانت المؤسسات الإسلامية على تفاوت إمكانيات عناصر العمل فيها ، تتلقى جزءاً من ألف مما تتلقاه المؤسسات التبشيرية ، لاستطاعت أن تخدم القضايا الإسلامية المختلفة خدمات جلى ، ولاستطاعت قوة الدينار الذي يدعم نشاطها أن تجمد قوة آلاف الدولارات والجنيهات والفرنكات والروبلات والماركات ، التي تدعم أنواع النشاط التي تقوم بها المؤسسات التبشيرية والجمعيات الاستشراقية في العالم والدوائر الاستعمارية.

    والعملية الحسابية في ذلك لا تحتاج إلى رياضيات عالية ، وإنما تحتاج إلى شيء من البصر الثاقب والخبرة التجريبية.

    أما البصر الثاقب فإنه لا بد أن يلاحظ أن قوة الحق التي يرجحها في العقول وزنها الذاتي ، يكفيها من القوى المادية ما يبرزها ويحسن عرضها ، ويحبب النفوس بها.

    بخلاف الباطل فإنه عديم القوة الذاتية ، ولن يجد له رجحاناً في العقول ، وإنما يجد لديها رجحاناً مزوراً ، بمقدار ما تستطيع مرضيات المطامع النفسية و التزويرات والتزيينات الكلامية ، أن تطفئ من نور العقل ، وتحجب من تفكيره السديد ، وقلما تستطيع المطامع والتزويرات اليسيرة أن تحجب التفكير السديد.

    من أجل ذلك يكون درهم يسد الحاجة الضرورية مع فكرة ذات وزنٍ ذاتي ، أثقل وأقوى من مئة درهم مع فكرة ليس لها وزن ذاتي ، فضلاً عن فكرة ذات قوة عكسية تطيش بكفة الميزان إلى الأعلى ، ولو لم يكن في الكفة المقابلة إلا الفراغ المطلق ، أما إذا زادت نسبة الدراهم إلى ألف درهم في جانب الباطل ، ونقص الدرهم إلى دانق لا يُسمن ولا يغني من جوع في جانب الحق ، فإن زوغان الأبصار من شدة الجوع ، مع بريق الغنى الذي يستجلب الطمع في جانب الباطل ، من شأنه أن يقلب وضع الإنسان السوي ، فيجعل عاليه سافله ، وبذلك يشاهد الأشياء على غير ما هي عليه في الواقع.

    وأما التجربة فقد أثبتت أن بعض الدعاة الإسلاميين البسطاء ، الذين يعملون بدافع ذاتي من قلوبهم ، يعادل عشرات المبشرين المعدين إعداداً علمياً عالياً . ومرجع ذلك يعود إلى ما سبق بيانه.
    من لم يكن له من دينه واعظ ، لم تنفعه المواعظ

  12. افتراضي



    القِسمُ الثَّاني
    الغَزْو بالهُجُوم المبَاشِر عَلى الإسْلاَم
    من قبل الغزاة وأنصارهم والسّائرين في ركابهم


    وفيه مقدمة وثمانية فصول:

    الفصل الأول : شبهات حول المثالية والواقعية في الإسلام
    الفصل الثاني : شبهات حول الروحية والماديّة.
    الفصل الثالث : شبهات حول بعض العبادات في الإسلام
    الفصل الرابع : شبهات حول الزكاة
    الفصل الخامس : شبهات حول العقوبات في الإسلام
    الفصل السادس : شبهات حول الرق
    الفصل السابع : شبهات حول حقوق المرأة في الإسلام
    الفصل الثامن : أجوبة أسئلة تشكيكية موجهة من قبل منظمة الآباء البيض التبشيريّة





    المقَـــــدّمَـــــة




    تفاعلت عوامل الحنق في نفوس أجنحة المكر الثلاثة ، وفي نفوس سائر أعداء الإسلام ، على اختلاف مللهم ونحلهم ومذاهبهم الدينية أو الإلحادية ، فزينت لهم أن يسلكوا سبيل مهاجمة أسسه وقواعده ، وأحكامه العظيمة ، ونظمه وتشريعاته الحكيمة ، والطعن بكتاب الله ، والطعن بالرسول محمد صلوات الله عليه ، وبالسنة المطهرة المروية عنه.

    ولكنهم بعد عراك عنيف وصراع مديد كان مثلهم:

    كناطحٍ صخرة يوماً ليوهنها فلم يَضِرْها وأوهى قرنه الوعلُ

    والسبب في ذلك لا يعود لجيوش الدفاع الكثيرة التي أعدّها المسلمون لمقاومة هجمات أعداء الإسلام بتركيز وإحكام ، وإنما يعود لحقيقة الإسلام القوية الثابتة المشرفة ، التي لا تزعزعها التمويهات والتشويهات والتلفيقات وإثارة الشبهات ، والأكاذيب والافتراءات ، والتي لا تطفئ أنوارها أفواه الأفاكين ، ولا تغشيها السحب الدخانية التي تطلقها متفجرات الشياطين ، إلا تغشية يسيرة ، ثم يمر عليها الزمان فتنقشع ، ويظهر لكل عين مبصرة دفقات الإشراق الكاسح للظلمات ، التي تتفجر بها حقيقة الإسلام المضيئة ، ويتحقق بذلك البيان القرآني إذ يقول الله تعالى في سورة (التوبة/9 مصحف/113 نزول):
    {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}

    ولقد كان خيراً لهم – لو كانوا منصفين – أن يبحثوا عن الحق بحث العالم المتجرد عن كل عامل أناني ذاتي ، وأن يتبعوه وينصروه ، دون أن ينظروا إلى حملة هذا الحق ، سواء أكانوا أعداءً لهم أو أصدقاءً ، فالحق من شأنه أن يؤاخي بين طلابه وعشاقه وحملته والمستمسكين به ، ويجعلهم أحبة متصافين ، ولو كانوا بالأمس أعداءً متحاربين.

    ما بالهم في شؤون الدنيا لا يغمطونها ولا يجحدون حقائقها ، مهما طرحت بين أيديهم من حقائق ، فإذا طرح الإسلام حقيقة من الحقائق بين أيديهم حاصوا ، وأخذوا يسددون لها السهام ، ويجرحونها ، ويجحدونها ، ويثيرون حولها المطاعن الكاذبة والشبهات الملفقة؟!.

    إنهم ينظرون إلى المسلمين نظرة عداء ، فلو عرض عليهم المسلمون منجماً من مناجم الذهب في بلادهم ، أو حقلاً من حقول النفط ، أفلا يتسارعون إليه بحثاً وتنقيباً ، ويستخرجون خيراته وينتفعون بها؟.

    أفيقولون بعد أن يشاهدوا الذهب الحقيقي : هذا شَبَه وليس بذهب ، ثم يزهدون به وينصرفون عنه؟

    أم يتنافسون على استخراجه وربما يتقاتلون عليه؟

    إننا وجدناهم من أكثر الناس بحثاً عن الجواهر والمعادن وأشباهها وكل نافع مفيد من كنوز الأرض ، في أي بلد من بلاد الدنيا ، ويقدرونها حق قدرها ، ويعرفون قيمتها الحقيقية.

    فما دلهم إذ عُرضت عليهم حقيقة من حقائق الإسلام تشهد لها دلائل الفكر ودلائل التجربة والواقع اضطغنت قلوبهم ، وثارت فيهم عصبيّات جاهلية موروثة ، وأخذتهم العزة بالإثم ، ونفروا نفرة الباطل من الحق؟

    لماذا لا تكون إراداتهم سائرة على وتيرة واحدة في كل قضايا الحق ، ما يتعلق منها بدنياهم ويخدم شهواتهم ، وما يتعلق منها بآخرتهم ويخالف أهواءهم؟!

    ألأن الذهب والنفط وما أشبههما وسيلة ثرائهم وقوتهم في الدنيا ؟ . إنهم لو أنصفوا لعلموا أن الحقائق الدينية أعظم لهم ثروة وقوة ، وأخلد لهم حضارة ومجداً ، و لكن ليصدق فيهم قول الله تعالى في سورة (الروم/30 مصحف/84 نزول):

    {وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ }.

    إنهم حين يهاجمون أحكام الإسلام وشرائعه العظيمة ، لا يقدمون بدلها إلا أحكاماً ناقصة غير ملائمة للواقع الإنساني ، ولا كفيلة بتحقيق أفضل صورة ممكنة لإسعاد الناس ، وإقامة الحق والعدل بينهم.

    وينطبق عليهم فيا يفعلون قصة المثل التالي:
    سكنت عائلة بشرية في غابة معظم من فيها قرود وثعالب ، وأخذت هذه العائلة البشرية تمارس عيشها داخل هذه الغابة وفق طريقتها البشرية ، إلا أن جماعات القرود والثعالب أخذت تسخر من هذه العائلة ومن طريقة عيشها ، ومن أنظمة حياتها وأخذت القرود تقهقه بأصواتها المنكرة العالية متهكمة بها ساخرة منها ، ثم أخذت نابغات من القرود والثعالب تعرب عن أسباب استغرابها من هذه العائلة البشرية ، وأسباب استنكارها لها.

    قال فريق منها : ياللعجب العجاب ، إن هؤلاء الساكنين معنا في هذه الغابة يمشون على أقدامهم ، مع أن الوضع الملائم الذي تقتضيه الطبيعة أن يكون المشي على أربع ، وترددت في الغابة أصداء موجات متعاقبة من قهقهة القرود وعواء الثعالب.

    ثم قال فريق آخر : وأعجب من ذلك أنهم لا أذناب لهم ، مع أن الوضع الذي تقتضيه الطبيعة أن يكون لهم أذناب ، إذ إن معظم ساكنات الغابة من ذوات البأس والشدة وذوات أذناب ، فعلق على ذلك ثعلب خبيث ، وقال : لعل أذناب هؤلاء مقطوعة.

    وكثرت الانتقادات على هذه العائلة البشرية المسكينة بين هذه الجموع البهمية الكثيرة . القرود تسخر منها لأنها لا تستطيع أن تتسلق الأشجار الباسقة الشاهقة بالسرعة التي يستطيعها القرد ، والثعالب تسخر منها لأنها لا تعرف كيف تصيد الدجاج والبطَّ بأسنانها وأظفارها ، ولا تستطيع ابتلاعها وازدرادها بلحمها وريشها وعظمها وحشوها ، وهكذا إلى آخر الفروق بينها وبين الناس ، والذي يقوي مركز هذه القهقهات الساخرات أنها ذات قوة وكثرة في الغابة.

    وبسب كثرة الانتقادات التي هي من هذا النوع ، وبسبب تتابع مظاهر السخرية والتهكم تأثر بعض صغار العائلة البشرية من ذكور وإناث ، فأخذوا يتنازلون عن صفاتهم البشرية ، وطرائق عيشهم الخاصة وأنظمة حياتهم.

    فمنهم من تعلم المشي على أربع ، ومنهم من ذهب يستجدي من القرود والثعالب أذناباً ليضيفها إلى جسده ، وبعضهم حلا له أن يرتدي جلوداً من جلود موتاها ، ليبدو مظهره مثل مظهرها ، وأخذ يتعلم طريقة عيشها وفوضى حياتها ، ولما انغمش هؤلاء الصغار في هذا العالم الجديد ، عادوا إلى أهليهم بنظريات التحويل وبتنكيس الأوضاع الإنسانية داخل أسرتهم ، لتساير سكان الغابة في فوضها وبهميتها ، هرباً من نظرات الاستنكار وقهقهاته التي تستقبلها بها جماعات القرود والثعالب.

    هذا هو مثل الإسلام العظيم في عقائده وأحكامه ونظمه ، بين مجموعات الفوضويات والنظم العرجاء العوراء المذنبة الوحشية ، ومثل الشبهات والانتقادات التي يقذفها التافهون والمغرضون شطر الإسلام ، بغية أن يشوهوا صورته الرائعة الجميلة في تناسقها المتكامل البديع ، وبغية أن يسوقوا أتباعه وأنصاره أو أبناءهم وذريّاتهم إلى عالم الفوضى الذي يعيشون فيه ، أو إلى مباءات النظم الناقصة المشوّهة التي حسنها في نظرهم ممارستهم الطويلة لها ، ولا بدّ أن نذكر هنا قول الله تعالى في سورة (الملك/67 مصحف/77 نزول):
    {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ}

    وقول الله تعالى في سورة (الأعراف/7 مصحف/39 نزول):
    {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}
    من لم يكن له من دينه واعظ ، لم تنفعه المواعظ

  13. افتراضي






    الفصْل الأوّل

    شُبهَاتٌ حَوْلَ المثَاليّةِ وَالمادّيَّةِ في الإسْلاَم




    شُبهَاتٌ حَوْلَ المثَاليّةِ والوَاقعيَّة في الإسلام


    من الشبهات التي يثيرها الأعداء الغزاة والسائرون في أفلاكهم ، شبهتان متناقضتان:

    الشبهة الأولى : اتهام الإسلام بأن دعوته إلى فعل الخير والتحلي بالفضائل تعتمد على الترغيب بالثواب الماديّ المعجل أو المؤجل ، ويزعمون – على سبيل التضليل – أن المثالية في فعل الخير والتحلي بالفضائل تقضي بأن يسعى الإنسان إلى تحقيق الخير لمجرد أنه خير ، لا يترتب على فعله من ثواب وأجر يعود على الفاعل.

    إنهم يثيرون هذا على سبيل الخداع الجدلي ، الذي لا مضمون له في واقع فلسفتهم المرتكزة على أسس مادية بحتة ، ولهم في هذا التضليل غرضان:

    الغرض الأول : صرف أبناء المسلمين عن جوّ المؤثرات الترغيبية والترهيبية المشحونة بها نصوص الشريعة الإسلامية ، لأنها من أفعل وسائل الإصلاح والتقويم للنفس البشرية ، التي تنزع فيها الغرائز والأهواء والشهوات إلى الإثم والظلم ، ولا تقبض عليها المثاليّات النظرية إلا قبضاً يسيراً.

    الغرض الثاني : التمويه على الصغار من أبناء المسلمين الذين لم يخبروا الحياة بعد ، ولم يكتشفوا صور الخصائص النفسية للإيمان ، ليجذبوهم بذلك إلى صفوفهم وليخدعوهم بمثاليات جوفاء ، حتى يقدموا أنفسهم ضحايا مجانية ، وهم يجهلون أنهم يحقّقون بتضحياتهم للقادة المضلين غايتهم الموغلة في الماديّة ، التي لا تعترف بشيء من المثاليّات.

    إنَّ الغزاة المضلين يستخدمون كل ذكائهم ، ليقدّموا صغارنا أحداث الأحلام وقوداً في مطبخ السلاح الذي يعدّ,نه للتسلّط على الشعوب الإسلامية ، والتحكّم بمصائرها ، والانتفاع بخيراتها ، في مادية مغرقة ، ليس لها غاية إلا إشباع الغرائز الجسدية والنفسية ، وتلبية الشهوة العارمة إلى استعباد الناس.

    والمتأمل في أسس الإسلام ومبادئه وأحكامه وشرائعه ووسائل تربيته للناس وتوجيههم لفعل الخير وترك الشر ، والتحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل ، يلاحظ عناصر ثلاثة:

    العنصر الأول : الدعوة المثالية ، والدفع إلى نشدان الكمال المطلق.
    العنصر الثاني : التطبيقات الواقعية الملائمة للواقع الإنساني.
    العنصر الثالث : الوسائل المنسجمة مع الخصائص الإنسانية.

    وهذا أفضل ما يمكن تصوره في فلسفة ما لهذا الكائن الإنساني ، المزوَّد بالعقل المتطلع إلى المثاليات والباحث عنها ، والمزوّد بطاقات ماديّة ومعنوية تقف به عند حدودٍ لا يستطيع تجاوزها ولا الزيادة عليها ، والمزوّد بغرائز وشهوات تنبح في داخله بإلحاح لتحقيق مطالبها.

    وأية فلسفة تحاول إصلاح هذا الكائن المركب من هذه العناصر الثلاثة على أساس تلبية واحد منها فقط ، أو اثنين ، وإهمال سائرها ، فإنها فلسفة محكومة عليها بالفشل الذريع ، وستضع الإنسانية في طريق الانحدار المهلك ، بدل أن تأخذ بها صاعدة في سلم الكمال الإنساني.

    ضمن هذه الفلسفة الإسلامية العظيمة ، القائمة على العناصر الثلاثة المذكورة ، تدور مبادئ الشريعة الإسلامية وأحكامها ووسائل إصلاحها للناس وتهذيبها لأخلاقهم وتقويمها لأنواع سلوكهم في الحياة.

    وضمن هذه الفلسفة الراقية استطاع الإسلام أن يقبض على نواصي شعوب مختلفة اللغات ، وقوميات متباينة الاتجاهات ، عبر أجيال وقرون ، واستطاع أن يسير بها متآخية متوادة في طريق السعادة الإنسانية ، وأن يدفع بها إلى الصعود المتتابع في سلم الحضارة المثلى.

    فإذا سأل الناس عن الخير الأمثل في واقع تطبيقي وجدوه في مجتمع المسلمين – يوم كان الإسلام حاكماً عليهم ، والقرآن متمثلاً في أخلاقهم وأعمالهم- وإذا سألوا عن الفضيلة وجدوها عندهم ، وإذا بحثوا عن الحق والعدل ، وجدوهما في دينهم وشرائعهم وأقضيتهم ، وإذا فتشوا عن القوة المتماسكة المتراصة ، وجدوها في صفوفهم.

    وهذا ما أذهل أعداء الإسلام الذين أعمتهم عصبياتهم الدينية والقومية ، وأثار حقدهم وحسدهم ، ولذلك أخذوا في تهديم الأسس التي كان بها للمسلمين ذلك المجد التليد.

    وأعداء الإسلام يخشون أن يعود المسلمون إلى الاستمساك بالأسس الإسلامية الصحيحة ، فيعود لهم مجدهم السليب.

    وكل مثالية يدعيها أعداء الإسلام إنما هي مثالية مزورة ، غايتهم منها التضليل والخداع ، ولو كانت لهم مثاليات حقيقة صادقة قابلة للتطبيق الإنساني لرأى الناس أثرها في السلم أو في الحرب ، ولكنهم لم يستطيعوا ولن يستطيعوا أن يسجلوا في تاريخهم الطويل إلا صور المادية المفرطة ، المرتبطة بالأنانيات الفردية ، أو العنصرية ، أو العصبية المذهبية.

    بخلاف الفلسفة الإسلامية العظيمة القائمة على الدعوة المثالية والدفع إلى نشدان الكمال المطلق ، والتطبيقات الواقعية الملائمة للواقع الإنساني ، والوسائل المنسجمة مع الخصائص الإنسانية ، فإنها هي الفلسفة الوحيدة في العالم التي أثبتت التجربة الإنسانية كمالها وأهليتها للخلود ، خلال قرون حافلة بكل المشكلات والعقبات التي تتعرض إليها الأمم ، منذ أيام نشأتها وبنائها ، حتى أيام قوتها وشدتها ، ثم إلى أيام شيخوختها وهرمها ، بيد أن هذه الفلسفة الإسلامية كفيلة – لو استمر المسلمون ملتزمين بها – أن تمنحهم الشباب الدائم المتجدد فيهم مع تجدد أجيالهم.

    وذلك لأن عنصر الدعوة المثالية ونشدان الكمال المطلق يشبع في الإنسان نوازعه العقلية والوجدانية المتطلقة باستمرار إلى المثاليات ، وأن عنصر التطبيقات الواقعية الملائمة للواقع الإنساني يعالج ارتقاء الإنسان إلى الكمال ضمن إمكاناته واستطاعته الواقعية ، أما عناصر الوسائل المنسجمة مع الخصائص الإنسانية فهو يداوي ويداري غرائز الإنسان ودوافعه النفسية وشهواته وأهواءه التي هي جزء من كيانه في الحياة ، فلا يصح بحال من الأحوال طرحها أو إهمالها.

    إن هذه الفلسفة العظيمة في دعوتها المثالية تحرر الإنسان من عشق المادة وعبادتها ، وتربطها بمثالية عبادة الله وحده لا شريك له ، وفي هذا غاية الدفع المثالي ، لأن نقل غاية الأعمال الإنسانية من أهدافها المادية ، إلى ابتغاء مرضاة الله الخالق الرازق الذي بيده ملكوت السماوات والأرض وهو على كل شيء قدير ، وله وحده الألوهية ، وهو وحده الذي يجازئ على الخير خيراً وعلى الشر شراً ، هو غاية المثالية ، فالله تعالى هو مثالية الوجود ، وهو واضع مفاهيم الخير والشر في الحياة ، وخالق موازين الإحساس بها في ضمائر الناس ، فابتغاء مرضاته لا بد أن تكون هي مثالية الغايات.

    وأما في تطبيقاتها الواقعية ، فإنها حينما تكلف الإنسان السعي إلى كماله الإنساني لا تتجاوز حدود طاقاته الجسدية أو الفكرية ، كما أنها تعطي غرائزه وشهواته ومطالبه النفسية من الدنيا بالمقدار الذي يصلح ولا يفسد ، وفي هذا غاية التكميل والتهذيب الواقعي ، الذي يشرئبّ إلى المثاليات في جانب الفكر والضمير ، ويسير مع أحسن صور الواقع في جانب ال غرائز والدوافع الجسدية والنفسية.

    وأما في وسائلها المنسجمة مع الخصائص الإنسانية ، فإنها قائمة بعد الإقناع الفكري والوجداني على وسيلتي الترغيب والترهيب ، فهي تطمئنه عن سلامة اتجاهه لاكتساب سعادته في الحياة الدنيا ، إذا هو تقيد بتعاليم الإسلام ، وتَعِدُه وعد حق وصدق بالسعادة الأخروية العظمى الشاملة للسعادة الروحية المثالية ، والسعادة الجسدية والنفسية التي هي وسيلة مادية للنعيم الروحي وتحجزه أيضاً عن المضرات والمهلكات الدنيوية بالوسائل الدنيوية الرادعة ، وتحذره تحذير حق وصدق من الشقاء الأخروي الشامل للشقاء الروحي في الجانب المثالي ، وللشقاء الجسدي الذي هو وسيلة مادية للعذاب الروحي ، وهذه هي أفضل الأسس لوسائل الإصلاح المنسجمة مع الخصائص الإنسانية.

    الشبهة الثانية : اتهام الإسلام بأنه مثالي بعيد عن الواقعية الإنسانية ، وظاهر أن هذه الشبهة مناقشة في مضمونها للشبهة الأولى.

    ففي مجموعات الشبان المثقفين بالثقافات المادية المعاصرة من أبناء المسلمين الذين يهزهم الوجدان الديني أحياناً ، يندس أعداء الإسلام أو أجراؤهم والسائرون في أفلاكهم ، فينفثون بينهم سمومهم ضد نظم الإسلام وأحكامه وواقعيتها ، فيقولون للتشكيك بالإسلام والتنفير منه:

    إن الإسلام تعاليم وأنظمة مثالية غير ممكنة التطبيق ، وإن حياة الإنسان الواقعية تستدعي أنظمة وتعاليم واقعية ممكنة التطبيق.

    ثم يبنون على هذه المقدمة الكاذبة فيقولون:

    وبما أن الإسلام شيء مثالي غير واقعي فإنه غير صالح لأن يكون دستور حياة الناس ، وما على الأجيال المسلمة إلا أن تسعى وراء أنظمة وضعية واقعية ، مستفادة من التجارب والاختبارات الإنسانية.

    هذا ما يقولون ، ومن هذا المدخل القائم على المغالطة والكذب يحيكون نسيجاً إقناعياً ، يضللون به فريقاً من أبناء المسلمين ، ومما يساعد على تمكن هذا النسيج الإقناعي في نفوس هؤلاء انعدام الصورة التطبيقية الكاملة لنظم الإسلام في مجتمعات المسلمين اليوم.

    وفي كشف موجز للتضليل الذي اشتملت عليه هذه الشبهة ، نلفت النظر إلى أن من الأمور البدهية في الشريعة الإسلامية ، أن الإسلام مثالي الغاية واقعي التطبيق ، فهو لدى توجيه المسلمين إلى تحديد الأهداف والغايات من صور سلوكهم في الحياة يسمو بهم إلى الغايات المثالية ، التي ترتقي بالوجدان الإنساني إلى كماله ، دون أن يؤثر هذا الارتقاء الوجداني أي تأثير معوق في السلوك الواقعي المهذب ، الذي يحقق الكمال الإنساني في صورته الممكنة ، المنسجمة مع متطلبات الواقع انسجاماً تاماً ، وحينما يرغب الإسلام بالمثاليات التطبيقية فإنه يجعلها مجالاً لتسابق المجدين المتطلعين إلى الكمال التطبيقي ، ولا يجعلها أمراً إلزامياً واجباً.

    إن دراسة أحكام الشريعة الإسلامية ووصاياها تكشف لكل باحث ، أن المثالية في الإسلام حينما تكون أمراً واجباً فإنها تكون مثالية وواقعيّة معاً ، إذ تكون مثالية ميسورة التطبيق ، وهذه المثالية الواجبة منحصرة في العقائد والغايات والأهداف ، ومعلوم أن المثالية في هذه الأمور لا تتعارض مع الواقعية بحال من الأحوال ، لأنها ممكنة التطبيق ، فليس من العسير على الإنسان أن يعتقد العقيدة المثالية ، وليس من العسير أن يجعل غايته من أعماله العبادية أو غيرها غاية مثالية.

    وحينما تكون المثالية أمراً غير واجب ، فهي مثالية موضوعة في مدى نظر الإنسان الأعلى ، حتى تكون مغرية له بالتطلع المستمر إلى الأحسن والأفضل والأنفع والأكمل من صور العمل واحتمالاته ، وليس من الصعب على الإنسان أن يجعل الكمال المثالي في كلّ أمرٍ من أموره مطلباً أسمى ينشده ويسعى إليه قدر استطاعته دون أن يكون ملزماً به لدى التطبيق العملي.

    أما الواقعية في التطبيق العملي فتظهر لكل دارس لأحكام الشريعة الإسلامية ، والإسلام في تطبيقاته العملية ملتزم جانب الواقعية أروع التزام ، ولعله أكثر تسامحاً من أي نظام في العالم معتمدٍ على الأسس الواقعية فيما يأمر به أو ينهي عنه.

    وطبيعي أنه ليس من الواقعية في شيء أن يترك المجرمون والشاذون في الأرض يعيثون فساداً وخراباً ، وينشرون الآلام الكثيرة ، مجاراة لواقعيتهم المنحرفة وإن أي تفكير يحاول أن يبرر الجرائم وأنواع الشذوذ المفسدة في الأرض ضمن إطار الفلسفة الواقعية ، إنما هو تفكير شياطين المجرمين المفسدين في الأرض ، الذين لا يريدون إصلاحاً ، ولا ينشدون كمالاً ، ولكنهم يريدون أن يخرجوا بني آدم من جنة الحق والخير والفضيلة ونشدان الكمال ، وأن يقذفوا بهم في جحيم الباطل والشر والرذيلة وحضيض النقص ، وأن يوقعوهم في سخط الله.

    وإن الذين يدعون الواقعيات في أنظمتهم لا يستطيعون أن يقيموها في دولهم إلا بسلطان الحكم الصارم ، فلو أنها واقعيات كما يحاولون أن يصوروا معنى الواقعية لما احتاجت إقامتها إلى سلطان الحكم الصارم ، الذي يعتمد على أسلوب واحد من أساليب التربية ، وهو أسلوب الإرهاب والإلزام القهري.

    أما الإسلام فيعتمد على أساليب الإقناع الفكري أولاً ، ثم على وسائل التربية العملية المختلفة ، ومنها وسائل الترغيب ، ثم على وسائل الترهيب والتحذير والعقوبات المادية ، وهذه هي الوسائل الواقعية التي يتمّ بها تقويم أكبر نسبة ممكنة من الناس.

    * * *
    من لم يكن له من دينه واعظ ، لم تنفعه المواعظ

  14. افتراضي





    الفصْل الثاني

    شُبهَاتٌ حَوْلَ الرُّوحيَّة وَالمادّيَّةِ في الإسْلاَم



    شُبهَاتٌ حَوْلَ الروحية والماديَّة في الإِسلام


    فريق من الأعداء الغزاة يتهمون الإسلام بأنه دعوة روحية بعيدة عن تلبية مطالب الحياة المادية ، فهو لا يناسب الواقعية الوجودية ، وفي مقدمة هذا الفريق مَنْ يطلق عليهم "المادّيون الوجوديون".

    وفريق آخر يتهمون الإسلام بأنه مادي مفرط في المادية ، بعيد عن السمو الروحي الذي ينبغي أن يرقى إليه الإنسان ، وفي مقدمة هذا الفريق الثاني المبشرون وأنصارهم.

    والإسلام في حقيقة نظامه وتشريعاته وأحكامه بريء مما يقوله عنه هؤلاء ، وما يقوله عنه أولئك.

    إن الإسلام متكامل الجوانب الفكرية والنفسية والروحية والمادية ، كالإنسان ، فكما أن الإنسان مؤلف من روح وعقل ونفس وجسد ، فالإسلام ذو جوانب تعطي كل عنصر من هذه العناصر حقه ، وبذلك يتم التطابق المثالي بين عناصر هذا الدين التي يكمل بعضها بعضاً وبين عناصر هذا الكائن الإنساني ، التي جعلت منه مخلوقاً في أحسن تقويم ، وهو ما وصفه الله به في قوله تعالى في سورة "التين/95 مصحف/28 نزول":
    {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}

    ولما كان الإنسان في أحسن تقويم أنزل الله له ديناً قيماً ليلائم واقعه أفضل ملاءمة ، وأودع الله في فطرة الإنسان موازين عقلية ووجدانية يدرك بها ملاءمة هذا الدين له ، وفي الدلالة على ذلك قال الله تعالى في سورة (الروم/30 مصحف/84 نزول):
    {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}

    وقال سبحانه في سورة (البينة/98 مصحف/100 نزول):
    {وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُواْ الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ}

    والتطابق العجيب بين عناصر الإسلام وعناصر الإنسان ، الذي يبدو الإسلام فيه مفصّلاً تفصيلاً رائعاً على مقدار خصائص الإنسان الفكرية والروحية والنفسية والجسدية ، هو الذي جعل من الإسلام صورة فذة في الوجود ، وهو الدليل المادي المستمر الذي يدل على أن الإسلام شريعة ربانية منزلة من عند الله.

    لأنّ مثل هذه الصورة الرائعة التفصيل ، المحكمة التقويم ، على مقدار خصائص الإنسان وحاجاته الدنيوية والأخروية ، العاجلة والآجلة ، والمسايرة للعصور التي يمر بها في أطوار حياته على هذه الأرض ، لا يمكن أن تكون من وضع الناس.

    ذلك لأن براهين العقل وتجارب الحياة تثبت أن النظم الوضعيّة الإنسانية مهما ارتقت فإنها لن تصيب الحكمة الشاملة لمختلف جوانب مصالح الناس ، وما يسعدهم في دنياهم وأخراهم ، ولئن أصابت في جانب منها فإنها لن تصيب في كلّ الجوانب ، بل لا بد أن يظهر نقصها أو فسادها في جوانب كثيرة ، متى وضعت موضع التجربة ، ومرت عليها الأعصر المختلفة.

    وكون الإسلام صورة حية مطابقة للحكمة الشاملة في كلّ زمان ومكان شاهدٌ عدلٌ على أنه شريعة من عند الله الذي خلق الأنفس كلها ، وخلق فيها خصائصها وغرائزها وحاجاتها ومطالب حياتها ، فهو يعلم ما يناسبها ، قال الله تعالى في سورة (الملك/67 مصحف/77):
    {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}

    وإذا كان الإسلام كذلك ، وقد جمع بين المثالية والواقعية في أروع صورة ممكنة التطبيق ، وكفل للناس سعادة دنياهم وأخراهم ، فخليق به أن يبيح للناس أن يأخذوا نصيبهم من زينة الحياة الدنيا و متعها ، بلا إسراف ولا إجحاف ، ولا طغيان ولا عدوان على حقوق الناس ولا تجاوز لحدود الله في أوامره ونواهيه ، وخليق به أن يلزم الناس بأداء ما فرض الله عليهم من فروض ، وما أوجب عليهم من واجبات تتعلق بما وهبهم في هذه الحياة الدنيا من قدرات فكرية ونفسية وقولية وجسدية ، وبما وهبهم من مال أو سلطان أو جاه أو رعاية ، وأن يترك لهم بين هذا وذاك مجالاً واسعاً للتنافس في الخيرات ، والتسابق إلى ابتغاء مرضاة الله ، في كدح واجتهاد ومجاهدة للنفس على ما يرضيه سبحانه وتعالى.

    في وهذا الميدان الواسع المعد للتسابق والتنافس الشريفين يقف رقباء التسجيل ، وفي نهاية حلبة السباق يقدم الحكم العدل جوائز المتسابقين كل بحسب استحقاقه.

    وحينما خلق الله الغرائز في الناس لم يشأ أن يحرمها من تلبية مطالبها الفطرية ، ضمن حدود ضواط المصلحة والحكمة وابتلاء الإرادة . ولكن شاء أن يضعها على مائدة الحياة الدنيا ، وأذن لها أن تأخذ نصيبها الذي ينفعها ولا يضرها ، ولم يأذن لها أن تمتد مطامعها إلى أنصبة الآخرين الذين هم شركاء معها في هذه المائدة ، وحرم عليها أشياء قليلة ضمن مباحات كثيرة ، دون أن ترتبط بهذه الأشياء التي حرمها عليها مطالب فطرية ملحة ، بعد أن يسر في مائدته الواسعة شتى المجالات المباحة ، الكفيلة بتلبية مطالب هذه الغرائز.

    وضمن هذا الجو السعيد – الذي لا كدح فيه يزيد على كدح أي إنسان يحاول أن يتمرد على شريعة الله وأحكامه – تمت ظروف ابتلاء الإرادة التي يجتازها المؤمنون المتقون بنجاح.

    الزينة:

    ومن بديع حكمة الله في خلقه أنه ألبس مطالب الحياة أثواب مطالب الشهوات ، لتكون هذه الشهوات بمثابة المحرّض الذاتي على تناول حاجات الجسد ، التي تمده بالبقاء إلى أمده المقدّر له ، أو على ممارسة الغرائز التي تمد النوع بالتكاثر والبقاء ، إلى الأمد المقدر لبقاء النوع ، أو لبقاء الحياة على هذه الأرض ، أو على السعي لتحقيق حاجات نفسية ترتبط بها مصلحة من المصالح الإنسانية الفردية أو الجماعية.

    ومجالات مطالب الحياة الجسدية أو النفسية أو الفكرية تعرض للإنسان زينتها ، لتجذبه إليها ، وتحببه بها ، وبذلك يتم بينها وبين مطالب الحياة علاقة التجاذب.

    فحينما تعرض الوردة مثلاً زينتها التي تتمثل بألوانها الزاهية ، وعرفها الشهيّ الطيب ، وملمسها المخملي ، فإنها تقول بلسان حالها للعين الذواقة : هنا يستوقف النظر . وتقول للشم المرهف : من هنا يسنتشق العبير . وتقول للشفاه الناعمة : هنا يحلو المقام . ولولا أن هذه الحواس تلائمها هذه الخصائص ما انجذبت إليها ، ولاهفت نحوها ، ولا رأت فيها شيئاً من الزينة.

    ولقد أبدع القرآن أيما إبداع ، إذ اختار لفظة الزينة للتعبير عن الخصائص التي أودعها الله في الأشياء ، ليكون فيها ملاءمة وجذب للغرائز والطبائع التي فطر الله الأنفس عليها ، وتلك نعمة كريمة من نعم الله في الحياة ، ولو أن حاجات الحياة مرتبطة بأشياء لا زينة فيها ، فلا ملاءمة بينها وبين شهوات الأنفس وغرائزها وطبائعها ، لكان السعي لاستمرار الحياة مشكلة قد تستعصي على الحل.

    ولست أدري ماذا سيحدث لو كان الطعام مكروها في الأنفس غير مشتهى ، مثل الدواء المر الكريه ، ولو كان الشراب مما تعافه الأنفس كالنفط ، وكانت بقية حاجات الحياة على هذا الشكل؟

    إنه من غير شك سيختار معظم الأحياء الفناء على البقاء ، فسبحان من زين لنا حاجات أجسادنا وحاجات أنفسنا حتى نسعى إلى طلبها سعياً ذاتياً.

    أقسام الزينة

    واستنباطاً من النصوص القرآنية ، ومن ملاحظة الأشياء والأعمال المزينة للناس ، نستطيع أن نقسّم الزينة إلى ثلاثة أقسام:

    القسم الأول : الزينة الربّانية.
    القسم الثاني : الزينة الشيطانية.
    القسم الثالث : الزينة الحيادية ، التي يمكن أن تستخدم في الخير وطاعة الله عزّ وجل ، ويمكن أن تستخدم في الشر ومعصية الله عز وجل . فإن استخدمت في الخير وطاعة الله ألحقناها بالقسم الأول ، فكانت من قبيل الزينة الربّانية. وإن استخدمت في الشر ومعصية الله تعالى ألحقناها بالقسم الثاني ، فكانت من قبيل الزينة الشيطانية.

    1- فمن أمثلة القسم الأول (الزينة الربّانية) تزيين الإيمان ، وإرادة الخير ، وفضائل الأخلاق ، والعمل الصالح ، في قلوب المؤمنين.

    ومن هذا القسم ما جاء في قول الله تعالى خطاباً للمؤمنين أصحاب رسول الله في سورة (الحجرات/49 مصحف/106 نزول):

    {وَآعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَـكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}

    فتزيين الإيمان في قلوب المؤمنين من قسم الزينة الربّانية المحضة.

    2- ومن أمثلة القسم الثاني (الزينة الشيطانية) تزيين الأعمال السيئة للكافرين والعصاة ، كتزيين الشيطان لهم قتال المسلمين ، وشرب الخمور ، وظلم عباد الله ، وحبَّ المعاصي والمخالفات ، وقتل أولادهم سفهاً بغير علم ، ونحو ذلك.

    ومن هذا القسم ما قصّه الله على رسوله من أحوال الأمم السابقة ، في سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول) بقوله عزّ وجلّ:

    {وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ}.

    ومنه ما نزل في شأن الذين خرجوا لقتال المسلمين في بدر من مشركي مكة ، وهو قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول):

    {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنْكُمْ إِنَّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنَّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.

    3- ومن أمثلة القسم الثالث (الزينة الحيادية) حبّ الشهوات من النساء ، وحبّ البنين ، وحبّ المال ، وحبّ المآكل والمشارب ، وحبّ المراكب ، وحبّ الخيل المسوّمة والأنعام والحرث ، إلى غير ذلك ممّا جعل الله فيه زينة للناس ، فالزينة في كلّ ذلك من خلق الله ومن فطرته التي فطر المزيّناتِ والنفوس علهيا ، ليمتحن إرادات الناس بها.

    وزينة أفراد هذا القسم إن استخدمت في حدود ما أذن الله ، دون عدوان ، ولا ظلم ، ولا بغي ، ولا إسراف ، ولا تبذير ، ولا تجاوز إلى مواطن الضرر ، كانت زينة ملحقة بقسم الزينة الربّانية.

    وقد دلّ على أنها تلحق بالزينة الربّانية ضمن هذه الحدود قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأعراف/7 مصحف/39 نزول):

    {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }

    أمّا إن استخدمت زينة أفراد هذا القسم في غير ما أذن الله وأحلّ ، فإنّها تُلْحَق عندئذٍ بقسم الزينة الشيطانية.

    لذلك جعل الله المبذرين إخوان الشياطين ، والتبذير أهون من معاصي أكل أموال الناس بالباطل ، وأهون من الظلم والعدوان والقتل بغير حق ، والزنى ، ونحو ذلك من آثام.

    فاستخدام الزينة الحيادية في غير ما أذن الله هو من اتباع خطوات الشيطان الذي يزين للناس الإثم والفسوق والعصيان.

    وقد ضرب الله أمثلة للأشياء الكثيرة التي زيّنها لعباده ، وجعل زينتها زينة حياديّة ليبتلي إرادتهم بها ، ويكشف المطيعين والعاصين عن طريقها.

    وفي بيان ما فيها من زينة فطريّة إشارة إلى أنّ ميل الإنسان إليها لا يعتبر نقيصةً من نقائصه ، بل هو أمر "فطري" في أصل تكوينه ، ولكنّ الإنسان بانحرافه عن منهج الاعتدال الذي رسمه الله له ، هو الذي يضيف إلى نفسه بانحرافه عن منهج الاعتدال الذي رسمه الله له ، هو الذي يضيف إلى نفسه النقيصة ، ويهوي بها إلى دركات الشرّ والإثم ، وهذا عملٌ إرادي من أعماله.

    ومن الأمور التي جعل الله فيها زينة حيادية قابلة لأن تستعمل في الخير ، وتستعمل في الشرّ ، ما ذكره بقوله في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول):

    {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}

    وحُسن المآب يكون لمن استقام في الدنيا على الصراط الذي رسمه الله للمتقين.

    ومنها ما ذكره الله بقوله في سورة (النحل/16 مصحف/70 نزول):

    {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}

    ولعل في قوله تعالى : {ويخلق ما لا تعملون} إشارة إلى المركبات التي ألهم الله الإنسان اختراعها وصنعها ، وإلى ما سيلهمه من ذلك حتى آخر الدهر.

    ومنها ما ذكره الله بقوله في سورة (الكهف/18 مصحف/69 نزول):

    {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً}

    ماذ كره بقوله فيها أيضاً:

    {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً}

    فليس من شذوذ الطبيعة الإنسانية أن يكون لديها ميل فطري إلى هذه الأشياء التي ألبسها الله أثواب الزينة ، ليسعى الإنسان في طلبها ، ويؤدي وظيفته الفردية والاجتماعية والنوعية في هذه الحياة الدنيا.

    ولكن الميل بالزينة الحيادية إلى غير ما أذن الله ، واستخدامها في معصيته ، هو الذي يجعلها ملحقة بالزينة الشيطانية.

    وباستطاعتنا توضيح الأمر بالمثال التالي:

    لقد حدد الله لتأدية الوظيفة الفردية في الحياة أن يأكل الإنسان ويشرب مما يسر الله له في الأرض وأباح له من دون إسراف ولا تبذير ، وأن يبتعد عن المضار مهما كانت إغراءاتها ، وزين له المآكل والمشارب بخصائص تميل إليها الأنفس . فمن أخذ منها ضمن الحدود التي حدَّها الله أدى وظيفته أداءً حسناً ، ومن تجاوز هذه الحدود فقد سلّم قياده إلى الشيطان ، وللشيطان عند ذلك وسائل كثيرة يزين له فيها الشر والفساد في الأرض والطغيان والظلم والعدوان ، وبهذا التزيين الشيطاني ينقلب الإنسان إلى شرهٍ نهم ، يتهافت على الاستزادة من الزينة ، تهافتاً يقذفه به إلى التهلكة ، وهذا التجاوز من شأنه أن يقلب الوضع الطبيعي فيفسد الزينة الحيادية ، ويجعلها زينة ضارة ، وبذلك تكون زينة شيطانية ، وهذا ما التزم به إبليس إذ قال لربه فيما حكى عنه في سورة (الحجر/15 مصحف/54 نزول):

    {رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ...}.

    أي : ربّ بما حكمت علي بالغواية بسبب عصياني ما أمرتني به لأزيننّ لبني آدم سبيل معصيتك ، حتى يخرجوا عن صراط الهداية ، وينغمسوا في الإثم والظلم والعدوان.

    ونظير ذلك يقال في الوظائف الأخرى ، كالوظائف الاجتماعية التي تميل إليها غرائز الأمومة والأبوة ، وحب الاجتماع ، والرغبة بالسلطان ، وكالوظئاف النوعية التي تجذب الرجل إلى المرأة ، والمرأة إلى الرجل لحفظ النوع ، ففي كلٍّ منها قدر معتدل له صراط مستقيم ترافقه زينة ربانية ، ووراء ذلك قدر جائر زائد زيادة فاحشة عن حاجات الوظائف الفطرية ، فيه ضرر وإثم ، وله سبل متعرجة ملتوية تنحدر بسالكها إلى سحيق التهلكة ، ترافقها زينة خادعة شيطانية.

    ولقد حار أعداء الإسلام بماذا يتهمونه ، أيتهمونه بالصوفية المغرقة المنافية لطبيعة الإنسان؟ أم يتهمونه بأنه مادي بعيد عن الكمالات الروحية؟ ولكنهم لا يظفرون من إطلاق أية شبهة منهما بطائل ، لأن الإسلام في واقع حاله قد كان بين ذلك قواماً.

    فالذين يصورون الإسلام دعوة صوفية تطارد الغرائز الإنسانية أنّى وجدتها ، وتحاول أن تسلخ الإنسان عن بشريته ، وتحجر على كلّ شهواته فلا تدع لها متنفساً إنما هم مفترون ، يقولون على الله ما لا يعلمون ، ويكذبهم في تصويهم هذا قول الله تعالى في سورة (الأعراف/7 مصحف/39 نزول):

    {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }

    فهذا النص القرآني يعلن بصراحة تامة أن ما أخرج الله لعباده من زينة وما رزقهم من طيبات حلال هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا ، وأما غير المؤمنين فقد سكت عنهم ، لأنهم لم يؤمنوا بالله حتى ينظروا فيما أحل لهم أو حرّم عليهم ، ولكن طبيعة تيسير الوسائل لهم تقضي بأن يصيبوا منها كما يصيب منها غيرهم من خلق الله ، وفق سننه الدائمة في كونه ، إلا أنه لما انتقل إلى الحديث عما أعدّ الله من زينة يوم القيامة ، قررّ أنها لن تكون لغير المؤمنين يومئذ ، قال تعالى : {خالصة يوم القيامة} وذلك لأن حكمة الله اقتضت أن تكون دار الابتلاء دار اشتراك ، أما دار الجزاء فهي دار تمييز ، فالمؤمنين يكونون في دار النعيم منها ، والكافرون يكونون في دار العذاب الأليم.

    والذين يصورون الإسلام مادياً بعيداً عن السمو الروحي هم أيضاً مفترون ، يقولون على الله ما لا يعلمون ، ويكذبهم في تصويرهم هذا قول الله تعالى في سورة (الحديد/57 مصحف/94 نزول):

    {اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}

    وقول الله تعالى في سورة (الكهف/18 مصحف/69 نزول):

    {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً}

    ونظيرهما نصوصٌ قرآنية أخرى كثيرة ، وهذه النصوص تسور الغرائز والشهوات التي تدعوها زينة الحياة الدنيا ومغرياتها ، بأسوار تضم منافعها فتأذن بها ، وتحجز عن مضارها فتحرّمها ، وتضع خطوطاً على الزيادات التي لا فائدة منها فترغب بتركها ، وتلفت نظر المسلم إلى مراتب الكمال الروحي ، فتدعوه إلى أن يصعد في سلمها مرتبة فمرتبة ، حتى يسمو على الملائكة في مراتبهم الروحية الخالصة من شوائب الغرائز والشهوات ، وتغذي قلبه بالعفة عن الشهوات التي فيها إثم ومعصية لله ، وبالزهد في زوائد المتاع الفاني التي قد تُطغي وتصرف عن الخير وتصد عن الفضيلة ، وحينما تزهده بزوائد المتاع الفاني تعلق قلبه بالباقيات الصالحات التي هي خير عند الله ثواباً وخيرٌ أملاً.

    ولما كان الناس أصنافاً ثلاثة في هذه الحياة الدنيا : كافرين غارقين في متاعها ظالمين لأنفسهم ، ومؤمنين ملفقين يخلطون عملاً صالحاً وآخر سيئاً ، ومتقين وسابقين في الخيرات بإذن الله وتوفيقه ، جاء في آية سورة (الحديد) الآنفة الذكر فقرات ثلاث كل واحدة منها تلائم صنفاً من هؤلاء الأصناف ، وهي قوله تعالى : {وفي الآخرة عذاب شديد ، ومغفرة من الله ، ورضوان".

    فالكافرون الغارقون في متاع الحياة الدنيا الظالمون لأنفسهم يلوِّح لهم بالعذاب الشديد ، والمؤمنون الملفّقون الذين يخلطون عملاً صالحاً وآخر سيئاً يلوِّح لهم بالمغفرة من الله ، والمتقون والسابقون بالخيرات يلوِّح لهم بمنزلة الرضوان من الله.

    وفي سلم الكمال الصاعد إلى مغفرة الله ورضوانه يتنافس المتنافسون من المؤمنين المتقين ، وفي درك الهبوط إلى عذاب الله الشديد وسخطه يتهاوى المتكالبون على الدنيا وزينتها بمعصية الله ومخالفة أوامره ونواهيه ، ويقال لمن كفر منهم يوم القيامة ما جاء في قول الله تعالى في سورة (الأحقاف/46 مصحف/66 نزول):

    {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ}

    منهج الاعتدال:

    مما سبق يتضح لنا أن منهج الإسلام هو منهج الاعتدال ، ويكون بإعطاء كل ذي حقٍ حقّه ، فللجسد حقوقه في الحياة ، وللروح حقوقها ، ولا إفراط ولا تفريط ، ولا تعارض بين حظوظ الدنيا المشروعة وطلب حظوظ الآخرة العظيمة ، فحظوظ الآخرة تطلب بابتغاء مرضاة الله في أعمال الحياة الدنيا ، وطلب ما أباح الله من زينة الحياة الدنيا لا يتنافى مع ابتغاء مرضاة الله .

    وبين زينة الحياة الدنيا وشهوات الأنفس المشرئبة إليها تقف حدود الله ومدركات العقل وضوابط الإرادة ، لكبح جماح الشهوات عن الإفراط الذي يسوق الإنسان إلى الضرّ والأذى ومعصية الله بفعل ما نهى الله عنه أو بترك ما أمر به.

    وتقف حدود الله ومدركات العقل لضبط إرادة الإنسان عن التفريط بحقوق النفس والجسد ، حتى لا يقسو الإنسان عليها فيحرمهما مما أباحه الله وأذن به ، مما تستد عيه ضرورات الحياة وحاجاتها.

    وفي منهج الوسط الذي لا إفراط فيه ولا تفريط تسير الحياة السعيدة في هذه الدنيا ، وهذا هو منهج المسلم العارف بدينه الملتزم لتعاليمه ووصاياه.

    فلا حرج على المسلم أن يتمتّع بنوع من زينة الحياة الدنيا ، عن طريق الزواج المشروع ، الذي لم يجعل الإسلام له قيوداً عسيرة صعبة الدنيا ، بل رغب فيه وحض عليه ، ثم أرشد المسلمين إلى الاعتدال وعدم الإسراف ، حتى لا ينفقوا في مجاله كل طاقاتهم ، فيحرموا أنفسهم من خيرات أخرى لدنياهم وآخرتهم ، هذا هو منهج الإسلام المعتدل ، السائر بين جانبي تفريط وإفراط. فمن وراء ذات اليمين كره الإسلام التبتل ، لما فيه من تفريط بحق النفس والجسد ، وحق الحياة الداعية إلى بقاء النوع ، فإذا بلغ التبتل إلى مستوى الإضرار الجسد أو العقل أو النفس ، أو التحريض على الفسق والشذوذ ، كان محرماً ولم يجز للمسلم عندئذ أن يعزف عن الزواج وهو قادر عليه . ومن وراء ذات الشمال كره الإسلام الإفراط الذي قد يضيع قسطاً من الواجبات أو الوظائف الأخرى ، ولو لم يكن في الإفراط تجاوز لحدود الله ، وحرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وحرم كل ما فيه تجاوز لحدود الله التي حدها لعباده.

    ولا حرج على المسلم أن يتمتع بنوع من زينة الحياة الدنيا عن طريق جمع المال بالسعي الجميل والعمل الشريف المشروع ، بل حضّ الإسلام على الكدح وحث على العمل ورغب فيه ، وجعله أهم وسيلة من وسائل كسب الرزق في الحياة ، وأقام للكسب حدوداً تمنع العدوان والظلم والبغي وأكل أموال الناس بالباطل ، ومنهج الإسلام في كسب الرزق ومنهج معتدل سائر بين جانبي تفريط وإفراط . فمن وراء ذات اليمين لم يأذن الإسلام للمسلم بالبطالة والكسل وعدم الأخذ بوسائل الكسب ، سواء أكان ذلك زهداً أو اكتفاء بالنفقة التي تأتيه من عمل الآخرين ، ما لم يكن متفرغاً لعمل آخر ذي نفع عام ، كالبحث العلمي والدعوة إلى الله والقيام بمصالح المسلمين العامة ، فهذا من سبل العمل ذات الأهداف السامية والنفع العام ، وقد نهى الإسلام عن البطالة والكسل لما فيهما من تفريط بحق النفس والجسد والأسرة ومنافاة لوظائف الحياة . ومن وراء ذات الشمال كره الإسلام الشره والطمع والتكالب على جمع الأموال ، وحرّم الظلم والعدوان وأكل أموال الناس بالباطل تحريماً جازماً.

    ولا حرج على المسلم أن يتمتع بنوع من زينة الحياة الدنيا عن طريق المآكل والمشارب والملابس المتنوعة ، ولكن ضمن منهج معتدلٍ لا إفراط فيه ولا تفريط . فمن وراء ذات اليمين لم يأذن الإسلام للمسلم أن يحرم جسده من طعام وشراب تستدعيهما ضرورة الحياة ، ولباس يدفع عنه أذى الحر والبرد ويستره ، وكره التقشف الزائد الموهن للجسم والمضعف للقوى ، لما في ذلك من تفريط بحق الجسم . ومن وراء ذات الشمال كره الإسلام الإسراف الذي قد يؤدي إلى الأذى ، أو يشغل عن الواجبات ، أو يورث القلب قسوة ونزوعاً إلى الطغيان ، وحرّم الإسراف المضر بالجسم أو النفس أو العقل ، والمضيع للواجبات ، وحرّم أنواعاً يسيرة من الأطعمة والأشربة والألبسة التي لا خير فيها للإنسان.

    وكذلك كان منهج الإسلام بين المادية والروحية منهجاً وسطاً ، لا إفراط فيه ولا تفريط ، أما الذين يختارون لأنفسهم سبل الإفراط أو التفريط ، متجاوزين حدود منهج الإسلام السوي ، فقد زُين لهم سوء عملهم ، ويصدق عليهم قول الله تعالى في سورة (محمد/47 مصحف/95 نزول):

    {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ }

    فهل في هذا المنهج الإسلامي العظيم شبهة يتذرع بها خصوم الإسلام فينتقدوه بها؟

    ولكن أعداء الإسلام يحلو لهم دائماً أن يفتروا عليه ، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون.

    * * *

    من لم يكن له من دينه واعظ ، لم تنفعه المواعظ

  15. افتراضي






    الفصْل الثالث

    شُبهَاتٌ حَوْلَ بَعْض العبَادات في الإسْلاَم




    شُبهَاتٌ حَوْلَ بعض العبادات في الإِسلام


    لا يدع أعداء الإسلام جانباً من جوانبه إلا ويثيرون حوله شبهة تافهة مردودة من شبهاتهم ، ففي العبادات الإسلامية يحاولون تشكيك أبناء المسلمين ببعض ما هو منها ، أو يصورون صوراً من عند أنفسهم أو يفهمون مفاهيم خاطئة ، ثم يوجهون الانتقادات على ما صوروا وعلى ما فهموا ، وليس الإسلام في واقع حاله كذلك.

    فقد يتهمون المسلمين بأنهم يعبدون الكعبة أو يعبدون الحجر الأسود ، مع أن الكعبة في عقيدة المسلمين مركز في الأرض لتوحيد اتجاه المسلمين عند عباد الله بالصلاة ، ولتوحيد مطاف المسلمين عند عبادة الله بالطواف ، والحجر الأسود علامة لتحديد الركن الذي يبدأ الطواف من عنده من أركان الكعبة . ورمز لمبايعة رب الكعبة على الطاعة والمحبة.

    ويشككون بعبادة رمي الجمار في الحج ، مع أن هذه العبادة تعبير مادي عن جانب الكفر بالطواغيت ، الذي هو جزء من الإيمان ، إذ لا يتم إيمان المؤمن حتى يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله .

    ويشككون بالتيمم بدل الطهارة بالماء عند فدقه أو تعذر استعماله ، مع أن التيمم عمل رمزي يقدم فيه المسلم عذره لربه ، بأنه لم تتيسر له الطهارة بالماء ، فأدى شكلاً يشبه جزءاً حركياً من أعمال الطهارة .

    وعلى هذا النمط يثيرون شبهاتهم الضعيفة المردودة ، وللرد عليها جملة واحدة أضع بين يدي القارئ تعريف موجزاً بأسس العبادات في الإسلام ، وبياناً مختصراً جداً لمفاهيمها العامة .

    يلاحظ الباحث المتأمل أشكال العبادات التي شرعها الله للناس في الإسلام فيراها نموذجاً فريداً رائعاً ، مطابقاً لجوانب الحكمة الفكرية والنفسية والاجتماعية ذات الفلسفة الراقية ، الملائمة لواقع الناس في حياتهم الدنيا.

    إن الحكمة الإسلامية في جانب العبادات قائمة على مجموعة من الأسس الفكرية العظيمة ، يتضح لنا منها الأسس التالية:

    الأساس الأول : الإنسان مخلوق لله وحده ، ومن واجب هذا المخلوق أن يعترف لخالقه بالربوبية ، وأن يعبده وحده لا يشرك بعبادته أحداً ، ذلك لأن جميع ما في الكون مخلوق لله ، فلا يستحق شيء منه أن يتقرب إليه بأي شكل من أشكال العبادة ، فأي يتقرب إلى غير الله بأي لون من ألوان العبادات هو شرك بالله سبحانه.

    الأساس الثاني : حقيقة العبادة الخضوع القلبي والفكري والنفسي لله تعالى ، والاعتراف له بالعظمة والجلال ، والإقرار له بكمال الربوبية والألوهية ، والالتجاء إليه في كل مطلب ، والثناء عليه بما يليق بجلاله ، وشكره على نعمائه.

    لكن طبيعة الحياة المادية للإنسان ، تستدعي بحسب ظروفه المعاشية ، أن يعبر عن هذه العبادة القلبية والفكرية والنفسية بصيغ مادية ، تدل بصورتها الظاهرة على ما يعتمل في داخل الإنسان من معاني العبادة الحقة ، لأنه يعسر على كل إنسان أن يستجمع معاني العبادة الحقيقية في داخله من غير أن يغلف ذلك بعمل مادي . لذلك كان لا بد للإنسان من أن يتجه في عبادته لربه اتجاهاً مادياً يعبر به عما في قلبه وفكره ونفسه من معاني العبادة.

    الأساس الثالث : متى فقدت العبادة المادية جانبها الداخلي في الإنسان كانت نوعاً من أنواع الرياضة البدنية البحتة ، أو عملاً من الأعمال الجوفاء التي لا أثر لها في سلوك الإنسان.

    ولذلك جاء في الحديث الصحيح قول الرسول : "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" وجاء في المأثور عن الرسول أيضاً : "ليس للإنسان من صلاته إلا ما عقل منها" أي : إلا ما كان منها مرافقاً لمعاني العبادة القلبية والفكرية والنفسية . وروى الدارمي بإسناد جيد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله : "كم من صائم ليس له من صيامه إلا الظمأ ، وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السّهر" أي : لأن كلا من هذا الصيام وهذا القيام قد كان عملاً أجوف فارغاً من معاني العبادة الحقة ، التي من شأنها أن تكون متغلغلة في داخل نفس الصائم القائم ، ومؤثرة في سلوكه.

    الأساس الرابع : أن من تمام الحكمة الربانية أن الله لم يترك لعباده أ، يختاروا لأنفسهم أشكال عباداتهم لربهم ، ولكنه حددها لهم وفق حكمته ، وأمرهم أن يتقيدوا بها ، وأن لا يتجاوزوا حدودها العامة.

    ولو أنه سبحانه ترك ذلك للناس لتفرقوا في تحديد أشكال العبادات ، ولاختاروا منها أموراً بعيدة عن منطق الحكمة ، فلربما اختار بعضهم ما فيه تعذيب شديد للأجسام والنفوس ، وقد اتجه إلى مثل هذا بعض فلاسفة الهنود ، ولربما اختار بعضهم ما فيه إرضاء للشهوات وإشباع للغرائز وانغماس بكل موبقة ، وقد اتجه إلى مثل هذا بعض مخترعي العبادات لأنفسهم ، إلى غير ذلك مما لا تقبله فلسفة الحياة القويمة.

    الأساس الخامس : ولما حدّد الله للناس أشكال العبادات التي ينبغي له يعبدوه بها ، اقتضت حكمه العالية أن يجعلها متنوعة على مقدار ما في الحياة من أشكال متنوعة ، يمارسها الناس في أعمالهم الخاصة أو العامة ، مما تدعو إليه مطالب حياتهم الفردية والاجتماعية.

    ضمن هذه الأسس قامت فلسفة أشكال العبادات في الإسلام ، وبذلك كانت في مركز القمة ، فمن تبصر بها ورعاها لم يجد فيها مدخلاً ينفذ منه عدو إلى تشكيك.

    لقد عرف الناس في أعمالهم التي تستدعيها حاجاتهم حركات الوقوف والانحناء وهبوط الجبهة إلى الأرض ، كما عرفوا من مظاهر التعظيم والإجلال لملوكهم ورؤسائهم أشكال الوقوف والركوع والسجود ، فقضت مشيئة الله أن يخصص الإنسان لعبادة ربه طائفة من الأعمال التي تشاكل ما يقوم به عادة في حاجاته ، كما قضت مشيئته أن يكرّم الإنسان عن أن يذل لمخلوق مثله ، فأمره أن يقوم ويركع ويسجد لله وحده لا شريك له ، وأن لا يفعل مثل ذلك في تعظيم غير الله تعالى.

    وضمن هذا شرع الله للناس عبادة الصلاة ، التي تحتوي في أعمالها المادية الجسدية على القيام والركوع والسجود ، ليقدم الإنسان في هذه الحياة قسطاً من أعماله في طاعة ربه ، مع شرط تحقق معاني العبادة القلبية والفكرية والنفسية ، ضمن أداء الأعمال المادية في الصلاة.

    وعرف الناس في حياتهم الطعام والشراب والإمساك عنهما بالإرادة ، والحرمان منهما عند الفقد . أو عند حاجة الحمية الصحية ،فشرع الله لهم عبادة لصوم ، كما شرع لهم عبادة الفطر في يومي العيد وأيام التشريق ، ليخصص الإنسان من هذا النوع من أعماله المعتادة في حياته طائفة لعبادة ربه.

    وعرف الناس في حياتهم تحصيل المال وبذله في حاجاتهم ومطالبهم الخاصة ، فشرع الله لهم عبادة الزكاة ، ليخصص الإنسان جزءاً مما يبذله من ماله في عبادة ربه.

    وعرف الناس في حياتهم التعبير عما يخالج نفوسهم من أفكار بما يتكلمون به من أقوال ، فشرع الله لهم عبادات التلاوة والأذكار والتسبيح والتحميد والدعاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح لكل مسلم ، إلى غير ذلك من عبادات قولية.

    وعرف الناس في حياتهم القيام بالأسفار للتجارة والسياحة والنزهة وغيرها من منافع الحياة ، فشرع الله لهم عبادة السفر إلى بيته الحرام ، لأداء مناسك الحج والعمرة ، وليشهدوا منافع لهم.

    وتعتبر مناسك الحج والعمرة صوراً رائعة من صور العبادات.

    لقد عرف الناس من مظاهر إلحاح المحبين الطواف على دار المحبوب ، فشرع الله لهم عبادة الطواف حول الكعبة بيت الله المقدّس ، ليعلنوا في مقام عبوديتهم لله تعالى أنهم في مقام المحبين له ، اللائذين بعظمته.

    كما عرف الناس من مظاهر الإلحاح في الطلب الصبر في تكرار السعي لبلوغ ما يرجونه من حاجات الدنيا ، فشرع الله لهم عبادة السعي ذهاباً وعوداً بين الصفا والمروة ، ليلحوا في طلب عفو الله والجنة ، وجعل ذلك منسكاً من مناسك الحج والعمرة.

    وعرف الناس من مظاهر مطالبهم الجماعية إنشاء الأسواق والمنتديات والحفلات العامة ، فشرع الله لهم عبادة الوقوف بعرفة في يوم جامع ، وجعلها منسكاً من مناسك الحج.

    وعرف الناس من مظاهر أفراحهم في أعيادهم ذبح الذبائح ، والتوسعة على أهليهم بأكل اللحوم ، فشرع الله لهم عبادة ذبائح الهدي والأضاحي ، توسعة على أنفسهم وعلى أهليهم وعلى الفقراء والمساكين.

    وعلى هذا القياس نلاحظ فلسفة مشروعية عبادة المبيت بمزدلفة ، والمبيت بمنى من مناسك الحج ، وعبادة التجرد من الثياب المخيطة عند الإحرام بالحج أو العمرة للرجال ، وعبادة الحلق أو التقصير عند التحلل منه.

    ولن يجد المتأمل الباحث صعوبة في تدبر الحكمة من نسك رمي الجمار ، الذي شرعه الإسلام ، ضمن مناسك الحج.

    إن هذا النسك لون من ألوان العبادة ذو معنى عميق في نفس المسلم العارف بمقاصد الشريعة الإسلامية ، ذلك لأنه عمل يشعر بمدى ما بلغه المؤمن من إرغام لشياطينه التي توسوس داخل نفسه ، بعد ما أدى عباداته المتنوعة لله تعالى ، فهو يقهر بصيغة الرمي المادية أنواع شياطينه الثلاثة : شيطانه الذي يوسوس في فكره فيفسد عليه عقيدته ، وهو أكبر شياطينه ، وشيطانه الذي يوسوس في قلبه فيفسد عليه أخلاقه ، إذ يحرك فيه الحقد والحسد والطمع وسائر أمراض القلوب ، وهو شيطانه الأوسط ، وشيطانه الذي يوسوس في نفسه ، فيحرك له أهواءه وشهواته وغرائزه ، ويفسد عليه سلوكه ، وهو شيطانه الأصغر ، فإذا قذف المؤمن بالحجارة الصغيرة الأماكن التي خصصها الشارع رمزاً لعوارض الشيطان في الأنفس فقد أعلن بصيغة مادية ما جزمت به إرادته من إرضاء للرحمن وامتثال لأمره ، وكفر بالطواغيت وإرغام للشيطان وطرد لوساوسه.

    وضمن هذه الفلسفة الحكيمة الرصينة تتجلى لنا حكمة مشروعية عبادة كف البصر عن محارم الله ، وإحصان الفرج عن الزنى وسائر الموبقات ، وكف اللسان عن الكذب والغيبة والنميمة ، وهكذا إلى آخر أنواع العبادات التي شرعها الله لنا .

    ومن تدبر هذه الحقائق ونظائرها ، سقطت من نفسه وساوس أعداء الإسلام وشبهاتهم التي يحاولون جهدهم بثَّها للتشكيك بالإسلام وبكماله وبربَّانيته.

    * * *
    من لم يكن له من دينه واعظ ، لم تنفعه المواعظ

صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 123 الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. صراع مع الملاحدة حتى العظم-عبد الرحمن الميداني
    بواسطة قسورة في المنتدى المكتبة
    مشاركات: 20
    آخر مشاركة: 10-19-2012, 02:40 PM
  2. أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها كتاب الكتروني رائع
    بواسطة Adel Mohamed في المنتدى المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 04-03-2009, 07:44 PM
  3. كتاب أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها لأول مرة مفهرس للمكتبة للشاملة
    بواسطة أبو سلمى المغربي في المنتدى المكتبة
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 03-26-2009, 10:36 PM
  4. كواشف زُيُوف - عبد الرحمن حسن حبنّكة الميداني
    بواسطة قسورة في المنتدى المكتبة
    مشاركات: 20
    آخر مشاركة: 02-19-2009, 10:14 PM
  5. الاستعمار و التبشير
    بواسطة الأسمر في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 13
    آخر مشاركة: 03-20-2006, 01:20 PM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء