18
لماذا يستحيل تفسير
جزيء (د ن أ) بواسطة "المصادفة"؟
يبين مستوى المعرفة العلمية الذي وصلنا إليه اليوم أن التصميم الواضح والأجهزة المعقدة في الكائنات الحية يجعلان من نشوئها بالمصادفة أمرا مستحيلا. فعلى سبيل المثال، بفضل "مشروع الجينوم البشري" الأخير، أصبح بإمكان الجميع الآن إدراك التصميم العجيب ومحتوى المعلومات الهائل الموجود في الجينات البشرية.
وفي إطار هذا المشروع، عمل علماء من بلدان كثيرة، من الولايات المتحدة إلى الصين، لمدة 10 سنوات من أجل فك شفرة الثلاثة بلايين شفرة كيميائية الموجودة في جزيء (د ن أ) الواحدة تلو الأخرى. ونتيجة لذلك، تم ترتيب كل المعلومات الموجودة تقريبا في الجينات البشرية في وضعها الصحيح.
وبالرغم من أن هذا تطور مثير ومهم للغاية، كما أعلن الدكتور فرانسيس كولينز Francis Collins، الذي يرأس مشروع الجينوم البشري، فإن هذه ليست سوى الخطوة الأولى في فك شفرة المعلومات الموجودة في جزيء (د ن أ).
ولفهم السبب وراء مضي 10 سنوات والاستعانة بجهود مئات العلماء للكشف عن الشفرات المكوِّنة لهذه المعلومات، يجب أن نفهم ضخامة المعلومات المحتواة في جزيء (د ن أ).
جزيء (د ن أ) يكشف عن وجود مصدر لا نهائي للمعرفة
إن المعلومات المحتواة في جزيء (د ن أ) الخاص بخلية بشرية واحدة تكفي لملء موسوعة مكوَّنة من مليون صفحة، مما يجعل من المستحيل قراءتها كلها في عمر واحد. فإذا شرع شخص ما في قراءة شفرة (د ن أ) واحدة كل ثانية، دون توقف، طوال اليوم، وكل يوم، فسيستغرق ذلك منه 100 سنة. ذلك أن الموسوعة موضع النقاش تضم ثلاثة بلايين شفرة مختلفة. وإذا دوَّنا كل المعلومات الموجودة في جزيء (د ن أ) على ورق، فسيمتد هذا الورق من القطب الشمالي إلى خط الاستواء. وهو ما يوازي نحو 1000 مجلد كبير – وهو أكثر مما يلزم لملء مكتبة كبيرة.
والأهم من ذلك هو أن جميع تلك المعلومات محتواة في نواة كل خلية، وبما أن كل فرد يتكون من نحو 100 تريليون خلية، فإن هناك 100 تريليون نسخة من نفس المكتبة.
وإذا أردنا أن نقارن خزانة المعلومات هذه بمستوى المعرفة الذي وصل إليه الإنسان حتى الآن، سيستحيل علينا أن نقدم أي مثال بنفس الحجم. ذلك أن الصورة التي تقدم نفسها هنا لا يمكن تصديقها: 100 تريليون × 1000 كتاب! سيفوق الناتج عدد حبات الرمل الموجودة في العالم. وفضلا عن ذلك، إذا ضربنا هذا العدد في الستة بلايين شخص الذين يعيشون على الأرض حاليا، وبلايين الأشخاص الذين عاشوا عليها في أي وقت سابق، عندئذ سيفوق العدد قدرتنا الإدراكية، وستمتد كمية المعلومات إلى ما لا نهاية.
وتعتبر هذه الأمثلة مؤشرا على ضخامة المعلومات الملازمة لنا. فنحن نملك أجهزة كمبيوتر متقدمة تستطيع أن تخزن كميات وافرة من المعلومات. ومع ذلك، عندما نقارن جزيء (د ن أ) بأجهزة الكمبيوتر هذه، سنندهش عندما نرى أن أحدث وسائل التكنولوجيا – التي هي نتاج لجهد ومعرفة بشرية تراكمية على مدار القرون – لا تمتلك حتى الطاقة التخزينية لخلية واحدة.
وتجدر الإشارة هنا إلى جين مايرز Gene Myers، أحد أبرز خبراء سيليرا جينومكس Celera Genomics، الشركة المنفِّذة لمشروع الجينوم البشري. وتعتبر الكلمات التي أدلى بها فيما يتعلق بنتيجة المشروع إعلانا عن المعرفة والتصميم العظيمين في جزيء (د ن أ): "ما أذهلني حقا هو أسلوب بناء الحياة... فنظامها معقد للغاية، وكأنه مُصمَّم... إذ يوجد به قدر هائل من الذكاء". 68
وهناك جانب آخر مثير، ألا وهو أن كل أشكال الحياة على الكوكب قد نتجت عن أوصاف مُشفرة مكتوبة بنفس هذه اللغة. إذ لا يتكون بكتير، أو نبات، أو حيوان بدون جزيء (د ن أ) الخاص به. ومن الجلي للغاية أن كل أشكال الحياة نشأت نتيجة أوصاف تستخدم نفس اللغة وتنبع من نفس مصدر المعرفة.
ويقودنا ذلك إلى استنتاج واضح. تعيش كل الكائنات الحية في العالم وتتكاثر وفقا لمعلومات خلقها عقل منفرد.
وهذا الاستنتاج يُجرد نظرية التطور من كل مغزى. ذلك أن أساس النظرية هو "المصادفة"، ولكن المصادفة لا تستطيع أن تخلق معلومات. فإذا عُثر في يوم ما على قصاصة ورق بها تركيبة دواء قادر على شفاء مرض السرطان، ستتوحد صفوف البشرية جمعاء لاكتشاف العالِم المعني بل ولتقديم جائزة له. ولن تدور في ذهن أحد الفكرة التالية: "تُرى هل ظهرت التركيبة عندما انسكب بعض الحبر على الصفحة". ذلك أن كل من يملك عقلا وفكرا واعيا سوف يعتقد أن التركيبة قد كتبها شخص ما أجرى دراسة عميقة في مجالات الكيمياء، ووظائف الأعضاء، والسرطان، والعقاقير.
إن ادعاء أنصار التطور بأن المعلومات الموجودة في جزيء (د ن أ) قد تكونت بالمصادفة ادعاء غير منطقي البتة، وهو مساو للقول بأن التركيبة الموجودة على الورقة قد تكونت أيضا بالمصادفة. ذلك أن جزيء (د ن أ) يحتوي على صيغ جزيئية تفصيلية لمائة ألف نوع من البروتينات والإنزيمات، بالإضافة إلى الترتيب الدقيق الذي يحكم كيفية استخدامها أثناء الإنتاج. وإلى جانب تلك المواد، يحتوي الجزيء أيضا على خطط إنتاج الهرمونات حاملة الرسائل وبروتوكولات الاتصالات بين الخلايا المستخدمة في تلك الخطط، وجميع أنواع المعلومات الأخرى المعقدة والمفصلة.
إن الادعاء بأن جزيء (د ن أ) وكل المعلومات الموجودة فيه قد تكونا نتيجة أحداث وليدة المصادفة وأسباب طبيعية يعكس إما جهلا تاما بالموضوع أو دوغماتية مادية. وإن الفكرة القائمة على أن جزيئا مثل جزيء (د ن أ)، بكل المعلومات المدهشة والتركيب المعقد الذي يحويه، يمكن أن يكون نتاجا للمصادفة فكرة لا تستحق حتى أخذها مأخذ الجد. ومن الغريب أن أنصار التطور يحاولون التمويه على موضوع مصدر الحياة، كما هي الحال بالنسبة لموضوعات أخرى كثيرة، من خلال وصفه بأنه "سر لم يُحل".
19
لماذا لا تعتبر المقاومة البكتيرية للمضادات الحيوية مثالا على التطور؟
يتمثل أحد مفاهيم علم الأحياء - الذي يحاول أنصار التطور تقديمه بوصفه دليلا على نظريتهم - في مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية. إذ تذكر الكثير من مصادر أنصار التطور المقاومة التي تبديها البكتيريا تجاه المضادات الحيوية كمثال على تطور الكائنات الحية بواسطة الطفرات المفيدة. وقد ظهر نفس الادعاء بالنسبة للحشرات التي تكتسب مناعة ضد المبيدات الحشرية مثل الدي دي تي DDT.
ومع ذلك، فأنصار التطور مخطئون أيضا حول هذا الموضوع.
فالمضادات الحيوية عبارة عن "جزيئات قاتلة" تنتجها كائنات مجهرية لتكافح بها كائنات مجهرية أخرى. وكان أول مضاد حيوي هو البنسيلين، الذي اكتشفه ألكسندر فلمينج Alexander Fleming في سنة 1928. فقد أدرك فلمينج أن العفن ينتج جزيئا يقتل المكوَّر العنقودي البكتيري Staphylococcus، وشكّل هذا الاكتشاف نقطة تحول في عالم الطب. إذ استخدمت المضادات الحيوية المأخوذة من الكائنات المجهرية في مقاومة البكتيريا وكانت النتائج ناجحة.
وسرعان ما اكتُشف شيء جديد. إذ تبين أن البكتيريا تكتسب مناعة ضد المضادات الحيوية بمرور الوقت. وتعمل الآلية على النحو التالي: تموت نسبة كبيرة من البكتيريا التي تتعرض للمضادات الحيوية، ولكن بعضا منها، لم يتأثر بالمضاد الحيوي، يتضاعف بسرعة وسرعان ما يكوِّن مجموعة البكتيريا الكاملة. وهكذا، تكتسب المجموعة بأكملها مناعة ضد المضادات الحيوية.
ويحاول أنصار التطور أن يقدموا ذلك بوصفه "تطور البكتيريا عن طريق التكيف مع الظروف".
ومع ذلك، فالحقيقة مختلفة تماما عن هذا التفسير السطحي. ومن بين العلماء الذين أجروا أكثر البحوث تفصيلا حول هذا الموضوع عالم الفيزياء الحيوية الإسرائيلي لي سبتنر Lee Spetner، المعروف أيضا بكتابه المعنون "ليس بالمصادفة" Not by Chance، الذي نُشر في سنة 1997. ويؤكد سبتنر أن مناعة البكتيريا تحدث بواسطة آليتين مختلفتين، ولكن كلتيهما لا تشكلان دليلا على نظرية التطور. وهاتان الآليتان هما:
1. نقل جينات المقاومة الموجودة فعليا في البكتيريا.
2. بناء مقاومة نتيجة لفقدان بيانات وراثية بسبب الطفرة.
ويشرح الأستاذ سبتنر الآلية الأولى في مقالة نشرت في سنة 2001:
"لقد وُهبت بعض الكائنات المجهرية جينات تقاوم هذه المضادات الحيوية. ويمكن أن تتجسد هذه المقاومة في حل جزيء المضاد الحيوي أو طرده من الخلية... وبإمكان الكائنات المالكة لهذه الجينات أن تنقلها إلى بكتيريا أخرى وتجعلها مقاوِمة أيضا. وعلى الرغم من أن آليات المقاومة تتخصص في مقاومة مضاد حيوي بعينه، فإن معظم البكتيريا المسببة للأمراض قد نجحت في تجميع مجموعات متعددة من الجينات مما أكسبها مقاومة ضد تشكيلة متنوعة من المضادات الحيوية".69
ويواصل سبتنر حديثه قائلا إن هذا ليس "دليلا على التطور":
"إن اكتساب مقاومة ضد المضادات الحيوية على هذا النحو... ليس من النوع الذي يصلح لأن يكون نموذجا أوليا للطفرات المطلوبة لتفسير نظرية التطور... ذلك أن التغييرات الوراثية التي يمكن أن توضح النظرية ينبغي ألا تضيف معلومات إلى جينوم البكتير فحسب، بل ينبغي أن تضيف معلومات جديدة للكون الحيوي biocosm. كما أن النقل الأفقي للجينات ينتشر فقط حول الجينات الموجودة فعليا في بعض الأنواع".70
إذن، لا يمكننا أن نتحدث عن أي تطور هنا نتيجة لعدم إنتاج معلومات وراثية جديدة؛ فالمعلومات الوراثية الموجودة فعلا تتناقلها البكتيريا فيما بينها فحسب.
والنوع الثاني من المناعة، الذي حدث نتيجة طفرة، ليس مثالا على التطور أيضا. فقد كتب سبتنر:
"يستطيع الكائن المجهري أحيانا أن يكتسب مقاومة ضد المضاد الحيوي من خلال الاستبدال العشوائي لنكليوتيد nucleotide وحيد... فالستربتومايسين Streptomycin، الذي اكتشفه سِلمان واكسمان Selman Waksmanوألبرت شاتز Albert Schatz وتم الإعلان عنه لأول مرة في سنة 1944، هو مضاد حيوي تستطيع البكتيريا أن تقاومه بتلك الطريقة. ولكن على الرغم من أن الطفرة التي تخضع لها البكتيريا أثناء العملية تفيد الكائن المجهري في وجود الستربتومايسين، فإنها لا تصلح لأن تكون نموذجا أوليا لنوع الطفرات التي تحتاجها النظرية الداروينية الجديدة. ذلك أن نوع الطفرة التي تمنح مقاومة ضد الستربتومايسين يتضح في الريبوسوم ويقوم بحل تكافئه الجزيئي مع جزيء المضاد الحيوي".71
وفي كتابه "ليس بالمصادفة"، يشبه سبتنر هذا الوضع باختلال العلاقة بين المفتاح والقفل. فالستربتومايسين، مثله مثل مفتاح ملائم لقفله تماما، يتعلق بريبوسوم البكتيريا بإحكام ويوقف نشاطه. وتقوم الطفرة، من ناحية أخرى، بحل الريبوسوم، وبالتالي تمنع الستربتومايسين من التعلق بالريبوسوم. وعلى الرغم من أن ذلك يُفسَّر على أن "البكتيريا تكتسب مناعة ضد الستربتومايسين"، فإن هذه ليست فائدة للبكتيريا بل هي بالأحرى خسارة لها. وقد كتب سبتنر حول هذه النقطة:
"إن هذا التغيير في سطح ريبوسوم الكائن المجهري يمنع جزيء الستربتومايسين من التعلق بالريبوسوم وتأدية وظيفته كمضاد حيوي. وقد اتضح أن هذا التحلل هو فقدان للخصوصية وبالتالي خسارة للمعلومات. والنقطة الأساسية هنا هي أن التطور... لا يمكن أن يتحقق بواسطة طفرات من هذا النوع، مهما كان عددها. ذلك أن التطور لا يمكن أن يُبنى على تراكم طفرات لا تحقق شيئا سوى حل الخصوصية".73
وتلخيصا لما سبق، فإن الطفرة التي تؤثر على ريبوسوم البكتير تجعل هذا البكتير مقاوما للستربتومايسين. ويرجع السبب وراء ذلك إلى "تحلل" الريبوسوم بواسطة الطفرة. ويعني ذلك أنه لم تتم إضافة معلومات وراثية جديدة للبكتير. بل على العكس، تتحلل بنية الريبوسوم، أي، يصبح البكتير "عاجزا". (وقد اكتُشف أيضا أن ريبوسوم البكتير الخاضع للطفرة أقل قدرة على تأدية وظيفته من ريبوسوم البكتير العادي). وبما أن هذا "العجز" يمنع المضاد الحيوي من التعلق بالريبوسوم، فإن ذلك يؤدي إلى نشوء "مقاومة المضاد الحيوي".
وأخيرا، لا يوجد مثال على طفرة "تُنشئ معلومات وراثية". ويقوم أنصار التطور، الذين يريدون أن يتخذوا من مقاومة المضاد الحيوي دليلا على التطور، بتناول الموضوع بطريقة سطحية للغاية وبالتالي فهم مخطئون.
وينطبق ذات الوضع على المناعة التي تكتسبها الحشرات ضد الدي دي تي والمبيدات الحشرية المشابهة. ففي معظم تلك الحالات، تُستخدم جينات المناعة الموجودة فعليا. ويعترف عالم الأحياء التطوري فرانسسكو أيالا Francisco Ayala بهذه الحقيقة قائلا: "يبدو أن الاختلافات الوراثية اللازمة لمقاومة أكثر أنواع المبيدات تنوعا كانت موجودة في كل مجموعة من مجموعات الكائنات التي تعرضت لهذه المركبات التي صنعها الإنسان".73 وجدير بالذكر أن بعض الأمثلة الأخرى التي تم تفسيرها بواسطة الطفرة، كما هي الحال تماما مع طفرة الريبوسوم المذكورة أعلاه، هي عبارة عن ظواهر تسبب "عجزا (نقصا) في المعلومات الوراثية" الخاصة بالحشرات.
وفي هذه الحالة، لا يمكن الادعاء بأن آليات المناعة في البكتيريا والحشرات تشكل دليلا على نظرية التطور. ذلك أن هذه النظرية تستند إلى التأكيد على أن الكائنات الحية تتطور من خلال الطفرات. ومع ذلك، يشرح سبتنر أنه لا المناعة ضد المضادات الحيوية ولا أي ظواهر حيوية أخرى تشير إلى مثل هذا المثال على الطفرة:
"لم تُلاحظ قط الطفرات المطلوبة للتطور الكبير. ذلك أن الطفرات العشوائية التي تمت دراستها على المستوى الجزيئي - والتي يمكن أن تمثل الطفرات المطلوبة من قبل النظرية الداروينية الجديدة - لم تضف أي معلومات. والسؤال الذي أتناوله هو: هل الطفرات التي تمت ملاحظتها من النوع الذي تحتاجه النظرية لدعمها؟ ويتضح في النهاية أن الإجابة هي كلا!"74
20
ما هو نوع العلاقة بين الخلق والعلم؟
كما أوضحنا في كل القضايا التي تناولناها حتى الآن، فإن نظرية التطور مخالفة كليا للاكتشافات العلمية. ذلك أن هذه النظرية، التي نتجت عن المستوى العلمي البدائي في القرن التاسع عشر، قد دحضتها تماما الاكتشافات العلمية المتوالية.
ويبحث أنصار التطور الذين كرسوا أنفسهم تكريسا أعمى للنظرية عن حل في العموميات، إذ لم يتبقَّ لهم أي أساس علمي. ومن أكثر ما يلجئون إليه في هذا الصدد هو استخدام الشعار المبتذل القائل بأن "الخلق نوع من الإيمان، وبالتالي لا يمكن اعتباره جزءا من العلم". ويرى أصحاب هذا الادعاء أن التطور نظرية علمية، بينما الخلق مجرد معتقد. ومع ذلك، فإن تكرار مقولة إن "التطور علم، والخلق معتقد" ناشئ عن منظور خاطئ كليا. ذلك أن أولئك الذين يكررون تلك المقولة يخلطون بين العلم والفلسفة المادية, فهم يعتقدون أن العلم ينبغي أن يظل في حدود المادية، وأن غير الماديين لا يحق لهم مطلقا التعبير عن آرائهم. ومع ذلك، فالعلم نفسه يرفض المادية رفضا باتا.
أنْ تدرس المادة شيءٌ وأنْ تكون ماديا شيءٌ آخر
دعونا في البداية نعرِّف المادية بإيجاز حتى ندرس المسألة بقدر أكبر من التفصيل. إن المادية فلسفة موجودة منذ دولة اليونان القديمة وهي تستند إلى فكرة أن المادة هي الشيء الوحيد الموجود. ووفقا للفلسفة المادية، فإن المادة كانت موجودة منذ الأزل وستظل موجودة طوال الوقت، ولا يوجد شيء بخلاف المادة. ومع ذلك، فهذا ليس ادعاءً علميا لأنه لا يمكن أن يخضع للتجربة والملاحظة. إنه ببساطة معتقد، أو بالأحرى عقيدة دوغماتية.
ومع ذلك، فقد اختلطت هذه العقيدة الدوغماتية بالعلم في القرن التاسع عشر، بل إنها أصبحت الدعامة الأساسية له. إلا أن العلم ليس مجبرا على قبول المادية؛ فالعلم يدرس الطبيعة والكون، ويقدم النتائج دون أن يحده أي تصنيف فلسفي.
وفي مواجهة ذلك، يلجأ بعض الماديين في كثير من الأحيان إلى تلاعب ساذج بالكلمات. فهم يقولون: "المادة هي موضوع الدراسة الوحيد للعلم، ومن ثم، فإن دارسها لا بد أن يكون ماديا". أجل، العلم لا يدرس غير المادة، ولكن "دراسة المادة" مختلفة جدا عن "كون دارسها ماديا". ذلك أننا عندما ندرس المادة، ندرك أن المادة تحتوي على قدر كبير جدا من المعرفة والتصميم بحيث لا يمكن أبدا أن يكونا قد نتجا عن المادة نفسها. ونستطيع أن ندرك أن المعرفة والتصميم هذين هما نتاج لفكر بارع، حتى إذا لم نتمكن من رؤية صاحب الفكر بشكل مباشر.
فعلى سبيل المثال، دعونا نتخيل كهفا لا نعرف ما إذا كان أحد قد سبقنا إليه من قبل. إذا لم نجد شيئا عند دخولنا هذا الكهف سوى الغبار والثرى والأحجار، يمكننا أن نستنتج أنه لا يوجد شيء هناك غير مادة موزعة عشوائيا. ومع ذلك، إذا كانت على الجدران صور مرسومة بمهارة وملونة بألوان مذهلة، فقد نفترض أن كيانا مفكرا قد سبقنا إلى هذا الكهف. وقد لا نتمكن من رؤية هذا الكيان بشكل مباشر، ولكن يمكننا أن نستنتج وجوده مما أنتج.
العلم دحض المادية
يدرس العلم الطبيعة بنفس الطريقة الموضحة في ذلك المثال. ولو كان كل التصميم الموجود في الطبيعة لا يمكن أن يُفسَّر إلا بالعوامل الطبيعية، لكان يمكن للعلم أن يؤكد المادية. ومع ذلك، فقد كشفت العلوم الحديثة أن هناك تصميما في الطبيعة لا يمكن تفسيره بالعوامل الطبيعية، وأن كل المواد تحتوي على تصميم أوجده خالق.
فمثلا، تثبت كل التجارب والملاحظات أن المادة وحدها لا يمكن أن تكون قد أنشأت الحياة، ولهذا السبب ينبغي أن تنشأ الحياة من خلق ميتافيزيقي. وقد مُنيت كل تجارب أنصار التطور في هذا الاتجاه بالفشل. إذ يستحيل أن تكون الحياة قد خُلقت من مادة غير حية. ويدلي عالم الأحياء ونصير التطور أندرو سكوت Andrew Scott بالاعتراف التالي حول هذا الموضوع بالمجلة الشهيرة نيو ساينتست:
"خُذ بعضا من مادة، سخنه مع التحريك وانتظر. هذه هي الرؤية الحديثة للتكوين. من المفترض أن تكون القوى "الأساسية" للجاذبية، والمغنطيسية الكهربائية، والقوى النووية الشديدة والضعيفة هي التي قامت بالباقي... ولكن كم من هذه الحكاية الرائعة قد تم إثباته إثباتا قاطعا، وكم منها يظل تخمينا متفائلا؟ في الحقيقة، إن آلية كل الخطوات المهمة تقريبا، بدءا من المواد الكيميائية التي تتشكل منها مواد أخرى وانتهاء بأول خلايا يمكن تمييزها، موضوع مثير إما للجدل أو للارتباك التام."75
ويرتكن أساس الحياة إلى التخمين والجدل لأن العقيدة المادية الدوغماتية تصر على أن الحياة نتاج للمادة. ومع ذلك، تبين الحقائق العلمية أن المادة ليست لديها مثل هذه القوة. وقد أدلى الأستاذ فريد هويل، عالم الفلك والرياضيات الذي حصل على لقب الفارس عن إسهاماته العلمية، بالتعليق التالي حول هذا الموضوع:
"لو كان هناك مبدأ أساسي للمادة قاد الأجهزة العضوية بطريقة ما إلى الحياة، لكان من السهل إثبات وجوده في المختبر. فعلى سبيل المثال، بإمكان المرء أن يأخذ حوض سباحة كمثال على الحساء البدائي ويملأه كما يشاء بأي مواد كيميائية ليست ذات طبيعة حيوية. ثم يضخ فوقه، أو خلاله، ما يشاء من غازات ويسلط عليه أي نوع من الإشعاع يتبادر إلى مخيلته. وليدع التجربة تستمر لمدة عام ليرى كم إنزيما من الألفي إنزيم (البروتينات التي تنتجها الخلايا الحية) قد ظهر في الحوض. أنا سأجيبك، لذا وفّر الوقت والعناء والتكلفة اللازمة لإجراء التجربة فعليا. لن تجد شيئا على الإطلاق، ربما باستثناء راسب قطراني مكون من أحماض أمينية وكيماويات عضوية أخرى بسيطة". 76
وفي الواقع، إن المادية واقعة في مأزق أسوأ من ذلك. فالمادة لا تستطيع حتى أن تكوِّن الحياة عند اتحادها مع المعرفة البشرية والوقت، ناهيك عن أن تكوِّنها من تلقاء نفسها.
إن الحقيقة التي ألقينا عليها نظرة موجزة هي حقيقة أن المادة لا تستطيع أن تشكل التصميم والمعرفة من تلقاء نفسها. ومع ذلك، فإن الكون والكائنات الحية الموجودة فيه تحوي تصميما ومعرفة بهما قدر غير عادي من التعقيد. ويبين لنا ذلك أن التصميم والمعرفة الموجودين في الكون والكائنات الحية هما من عمل خالق يملك قوة ومعرفة لا نهائيتين، خالق وُجد قبل المادة ويتحكم فيها.
وإذا تأملنا بعناية، فسنجد أن هذا استنتاج علمي تماما. وهو ليس "معتقدا"، بل حقيقة مكتسبة من خلال ملاحظة الكون والكائنات الحية الموجودة فيه. لذلك فإن ادعاء أنصار التطور بأن "التطور علم بينما الخلق معتقد لا يمكن أن يدخل الحقل العلمي" ما هو إلا خدعة سطحية. وصحيح أنه إبان القرن التاسع عشر كان هناك خلط بين المادية والعلم، وأن العقيدة المادية الدوغماتية قد حادت بالعلم عن طريقه. ومع ذلك، حدثت تطورات لاحقة في القرنين العشرين والحادي والعشرين أطاحت تماما بهذا المعتقد العتيق البالي، وأظهرت في النهاية حقيقة الخلق التي أخفتها المادية. وكما أوضح العنوان الرئيسي "العلم يجد الله" “Science Finds God”، الذي استخدمته مجلة نيوزويك Newsweek الشهيرة في عددها التاريخي الصادر في27 تموز/ يوليو 1998، فبالرغم من كل الخداع المادي، يجد العلم الله، خالق الكون وكل ما فيه.
Bookmarks