مقدمة لابد منها
إنه من الضروري أن يُفرد لماركس حديث خاص وعقلاني بصفته أبرز الفلاسفة الملحدين في القرن التاسع عشر... ولا يمكن لذي عقل مهما اختلف مع هذه الفلسفة أن ينكر أنها اكتسبت مكاناً سوف يظل دائماً محل احترام عدد كبير من الناس في أنحاء العالم...
لقد كان إنكار وجود الله في الفلسفة الماركسية محصلة متكاملة لفلسفته التي لا تتوافق مطلقاً مع الدين ولم يكن إنكار وجود الله أمراً عارضاً...
لقد اعتبر ماركس أن الناس مثل العناصر التي تتفاعل مع بعضها البعض، بتأثير قوانين اجتماعية واقتصادية تحكمهم... ولذلك فمن الواجب أن يتحرروا من سلطان تدخل الدين الذي يعرقل المسيرة الطبيعية للتقدم... وبالنسبة لماركس لا يوجد للوحي والإلهام مكان في معجم ألفاظ فلسفته...
لقد كان ماركس هو أول من جرّب إعطاء الإنسان حياة جديدة تقوم فقط على قدرة التفكير لديه... ومع أن هذا كان مسلكاً علمانياً خالصاً في أول الأمر... إلا أنه ما لبث أن استحوذ على تقدير من المجتمع... فقد ولد نوع من الديانة السياسية والاقتصادية كانت من خلق الإنسان قامت على إنكار وجود الله... ولم يستغرق الأمر طويلاً إلا وقد تحولت هذه الفلسفة المادية إلى مذهب حياتيّ وصار ماركس هو الرسول الأعظم لهذه الديانة اللاإلهية وكان وسيطها أيضاً... ولهذا فمن الواجب اللجوء إلى ماركس إذا ما أردنا أن ندرس هذه الفلسفة دراسة متعمقة... فقد كان من المقدر أن يتغير وجه العالم بسبب القوة المذهلة لفكرته هذه... وليس لمجرد آليات المادية الجدلية...
وعلى مقياس الصراع بين الأفكار والمعتقدات الإنسانية... نجد أن الدين بما يؤكده على دور الوحي الإلهي باعتباره أكثر الوسائل فعالية في الهداية يقف على الطرف الأقصى للمقياس... بينما تقف الماركسية بإنكارها التام للحقيقة الموحى بها على أقصى الطرف الآخر... وبين هذين الطرفين تقع مختلف الفلسفات التي يقترب بعضها من أحد الطرفين بينما يقترب البعض من الطرف الآخر... ولكن نفي جميع ما يمثله الدين نفياً تاماً ومطلقاً لم يوجد في أية فلسفة من الفلسفات كما هو موجود في فلسفة المادية الجدلية والاشتراكية العلمية...
ويبدو أن من بين جميع فلاسفة أوربا.. كان ماركس هو الأكثر ذكاء وواقعية.. ومع ذلك فقد كان مثالياً بغير أن يعترف بمثاليته... شديد المكر في استراتيجية فلسفته ضد الله تعالى وضد الدين... وعنده لا يعني الله ولا الوحي شيئاً... وكذلك أيضاً لا مكان للإلهام في فلسفته... وهو لا يتفق مع مثالية (هيجل) التي تسبق الحقائق الموضوعية وتساهم في فعاليتها...
ففي فلسفة (هيجل) تولد الفكرة أولاً... ثم تتحقق التغييرات المادية فيما بعد تحت تأثيرها... وعلى ذلك حين تنمو الفكرة إلى مرحلة معينة من النضج وتصير حبلى بأفكار جديدة تخضع هذه الأفكار بدورها لاختبارات التحقيق... وهكذا تنتقل موجات هذه الأفكار موجة إثر أخرى وهي تحول الوقائع غير الموضوعية إلى حقائق موضوعية مشهودة يمكن إثباتها...
يتبع
سلام
Bookmarks