صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 15 من 28

الموضوع: مناقشة كتاب العلم فى منظوره الجديد

  1. افتراضي مناقشة كتاب العلم فى منظوره الجديد

    الاخوة الاعزاء :

    السلام عليكم و رحمة الله :



    ساضع هنا باذن الله و عونه ملخص لكتاب موجود عندى منذ 15 عام و تاثرت به جدا و الكتاب اسمه


    The New Story of Science
    By
    Robert M. Augros
    George N. Stanciu

    وقد ترجم و طبع بالعربية فى سلسلة عالم المعرفة التى يصدرها او كان يصدرها المجلس الوطنى للثقافة بالكويت تحت اسم العلم فى منظوره الجديد و الامر مفوض للسادة المشرفين لوضعه فى منتدى الكتب او منتدى الحوارات ربما يناقشنا فيه احد او نتناقش فيه سويا و بعد ان انتهى بعون الله من وضع الكتاب ساضع بحث نثبت فيه بعون الله ان القران او الاسلام لا يتناقض باى صورة من الصور مع هذه النظرة العلمية الجديدة بل العكس هو الصحيح على سبيل القطع بالدليل و الله من وراء القصد .

    و المترجم اسمه كمال خلايلى و الذى يقول فى تصديره للكتاب صفحة 7 :

    صنف هذا الكتاب اثنان من الاساتذة المعروفين فى امريكا الشمالية احدهما متخصص فى فلسفة العلوم و الاخر فى الفيزياء النظرية و الهدف الذى يرمى اليه المؤلفان هو هدم اركان المادية العلمية تلك النظرية الكونية التى استهلها فرانسس بيكون وجاليلو فى مطلع القرن السابع عشر و استمرت الى العقود الاولى من القرن العشرين ثم اثبات وجود الله تعالى و بيان الحكمة و الغاية من ابداع الكون و خلق الانسان و ذلك بالاستناد الى النتائج التى انتهى اليها اقطاب العلماء و الباحثين المعاصرين فى مجالات الفيزياء و الكوزمولوجيا و مبحث الاعصاب وجراحة الدماغ وعلم النفس الانسانى.

    ويدور البحث فى هذا الكتاب فى شكل موزانة بين مقولات المذهب المادى الذى يسميه المؤلفان النظرة العلمية القديمة ومقولات النظرة العلمية الجديدة التى اخذت تتبلور فى مطلع القرن العشرين و التى كان لعلمى الفيزياء الحديثة و الكوزمولوجيا الحديثة بمفاهيمهما الجديدة للزمان و المكان و لنشاة الكون وتطوره الفضل الاول فى ارساء دعائمها و توطيد اركانها كنظرة بديلة من المادية .

    و يتتبع المؤلفان جذور المذهب المادي التاريخية مع بيان تطوره الى ان اكتمل شكله فى اواخر القرن التاسع عشر بعد نشر عالم الطبيعة الانحليزى تشارلز داروين نظرية فى النشوء و التطور من طريق الانتخاب الطبيعى و بقاء الاصلح و روج لها من العلماء من روج حتى خلفت ابعد الاثر و ابقاه فى التفكير العلمى و الفلسفى ربما الى يومنا هذا و على الرغم من ان رواد النظرة القديمة لم يكونوا من الملاحدة فقد انتهت الى ما انتهت اليه من انكار وجود الله و الاستخفاف بالقيم الاخلاقية و الدينية وبالمعانى الروحية و النفسية و السعى الى تفسير السلوك البشرى كله و العقل و الارادة بلغة الدوافع و الغرائز و الفسيولوجيا.

    و يعرض المؤلفان للظروف التى نشات فى ظلها النظرة العلمية القديمة التى اصطبغت بصيغة مادية صرفة كرد فعل ازاء الفلسفة المسيحية التى كانت سائدة فى العصور الوسطى و قد بنيت على منطق ارسطو و مفهومه لما وراء الطبيعة و كانت تسعى الى عقلنة اللاهوت المسيحى و لكن هذه الفلسفة وصلت فى عهودها المتاخرة الى حالة من الجمود و التحجر العقلى و التخبط الفكرى حدث بعلماء العصر الى الاعراض عنها و ارساء اسس العلوم الطبيعية على العقل و المشاهدة الحسية و التجارب العلمية لا على الفكر النظرى المحض او على سلطة احد من البشر .

    و كانت الكنيسة الكاثوليكية فى ذاك العصر تضطهد العلماء بحجة ان نظرياتهم العلمية لا تتفق مع نصوص الكتاب المقدس او مع ما ارتضته من اراء ارسطو و غيره من فلاسفة اليونان و ما اكثر من اعدم من هؤلاء العلماء و من حرق و لعل قصة جاليليو لا تخفى على القارىء المثقف فقد نشر هذا ايد فيه نظرية كوبرنيكوس القائلة ان الارض وجميع الكواكب السيارة تدور حول الشمس وحول نفسها مخالفا بذلك نظرية بطليموس فى المحورية الارضية و هى النظرية التى حظيت بتاييد الكنيسة الكاثوليكية فحوكم و اضطر رغم انفه الى التراجع عن رايه كتابة.

    هذه اذا هى الظروف التى نشات فى ظلها النظرة العلمية القديمة التى تطورت فى العصور اللاحقة الى مذهب مادى صارم يؤمن بازلية المادة و يرفض من ثم كل ما هو غيبى و لا يعترف فى تفسيره لمختلف الظواهر الا بنوعين من العلل هما الضرورة و الصدفة . انتهى الاقتباس

    هذه مقدمة الكتاب فما رايكم اعزكم الله و نصركم

    و الحمد لله رب العالمين

  2. افتراضي

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    عندى أقتراح لعله يكون مناسباً , سنترك الكتاب فى هذا القسم للمتابعة مع منع التعقيب من الزملاء الملحدين حتى يتم الى نهايته , وبعد الانتهاء من الكتاب ننقل نسخة منه الى المكتبة ونفتح المجال للتعقيب .

    فما رأيك أخى ؟
    وما قدروا الله حق قدره

  3. افتراضي

    على بركة الله نبدا و هو وحده المستعان

  4. افتراضي

    يعني بجد عايز تضع كتاب طبعه عالم المعرفة هنا ؟؟؟؟

    و هل تدخله بواسطة الكي بورد ؟؟؟؟

    أم لديك طريقة لا أعرفه ؟؟؟

    أخي لو عندك أي طريقة غير الكي بورد ألحقني بها أرجوك

  5. افتراضي

    كتاب العلم فى منظوره الجديد

    تصدير

    بقلم المترجم
    صنف هذا الكتاب اثنان من الاساتذة المعروفين في أمريكا الشمالية أحدهما متخصص في فلسفة العلم ، والآخر في الفيزياء النظرية يرأس كلية العلوم الرياضيات في إحدى الجامعات الكندية. أما الهدف الذي يرمى إليه المؤلفان فهو هدم أركان المادية العلمية ، تلك النظرة الكونية التي استهلها فرانسيس بيكون وغاليليو في مطلع القرن اسابع عشر واستمرت إلى العقود الأولى من القرن العشرين ، ثم إثبات وجود الله تعالى وبيان الحكمة والغاية من إيداع الكون وخلق الإنسان ، وذلك بالإستناد إلى النتائج التي انتهى إليها أقطاب العلماء والباحثين المعاصرين في مجالات الفيزياء والكوزمولوجيا ، ومبحث الأعصاب ، وجراحة الدماغ ، وعلم النفس الإنساني.

    يدور البحث في هذا الكتاب في شكل موازنة بين مقولات المذهب المادي ـ الذي يسميه المؤلفان "النظرة العملية القديمة " ـ ومقولة النظرة العملية الجديدة التي أخذت تتبلور في مطلع القرن العشرين ، والتي كان لعلمي الفيزياء الحديثة والكوزمولوجيا الحديثة ، بمفاهيمهما الجديدة للزمان والمكان ولنشأة الكون وتطوره ، الفضل الأول في إرساء دعائمها وتوطيد أركانها كنظرة بديلة من المادية .

    يتتبع المؤلفان جذور المذهب المذهب المادي التاريخية مع بيان تطوره إلى أن اكتمل شكله في أواخر القرن التاسع عشر بعد أن نشرعالم الطبيعة الإنكليزي تشارلز داورين نظريته في النشوء والتطور من طريق الانتقاء الطبيعي وبقاء الأصلح وروج لها من العلماء من روج حتىخلفت أبعد الأثر وأبقاه في التفكير العملي والفلسفي إلى يومنا هذا . وعلى الرغم من أن رواد النظرة القديمة لم يكونوا من الملاحدة فقد انتهت إليه من إنكار وجود الله والاستخفاف بالقيم الأخلاقية الدينية ، وبالمعاني الروحية والنفسية ، والسعى إلى تفسير السلوك البشري كله والعقل والإرادة بلغة الدوافع والغرائز والفسيولوجيا.

    ويعرض المؤلفان للظروف التي نشأت في ظلها النظرة العلمية القديمة التي اصطبغت بصبغة مادية صرفة كرد فعل إزاء الفلسفة المدرسية , وهي الفلسفة المسيحية التي كانت سائدة في العصورالوسطى ، وقد بنيت على منطق أرسطو ومفهومه لما وراء الطبيعة ، وكانت تسعى إلى عقلنة اللاهوت المسيحي . ولكن هذه الفلسفة وصلت في عهودها المتأخرة إلى حالة من الجمود والتحجر العقلي والتخبط الفكري حدت بعلماء العصر إلى الإعراض عنها ، وإرساء العلوم الطبيعية على العقل والمشاهدة الحسية والتجارب العلمية ،لاعلى الفكر النظري المحض أو على سلطة أحد من البشر.

    كانت المسيحية الكاثوليكية في ذلك العصر تضطهد العلماء بحجة أن نظرياتهم العملية لاتتفق مع نصوص الكتاب المقدس ، أو مع ما ارتضته من آراء أرسطو وغيره من فلاسفة اليونان وعلمائهم . وما أكثر من أعدم من هؤلاء العلماء ومن حرق . ولعل قصة غاليليو لاتخفى على القارئ المثقف . فقد نشر هذا كتاباً أيد يه نظرية عالم الفلك البولندى كوبرنيكوس القائلة أن الأرض والجميع الكواكب السيارة تدور حول الشمس وحول نفسها ، مخالفاً بذلك نظرية بطليموس في المحورية الأرضية ، وهي نظرية حظيت بتأييد الكنسية الكاثوليكية ، فحوكم اضطر رغم أنفه إلى التراجع عن رأية كتابة .

    هذه إذا الظروف التي نشأت في ظلها النظرة العملية القديمة التي تطورت في العصور اللاحقة إلى مذهب مادي صارم يؤمن بأزلية المادة ، ويرفض من ثم كل ما هو غيبي ، ولايعترف في تفسيره لمختلف الظواهر الأ بنوعين من العلل هما الضرورة والصدفة .

    إزاء هذه النظرة العلمية مادية النزعة برزت إلى الوجود في مطلع القرين العشرين نظرة علمية كان من ألمع روادها آباء الفيزياء الحديثة كأينشتاين، وهاييزنبيرغ ، ويور وكثيرين غيرهم ممن استحدثوا مفاهيم جديدة كل الجدة أطاحت بالمفاهيم والنظريات الفيزيائية السابقة التي كانت رائجة منذ عصر أرسطو وحتى أواخر القرن التاسع عشر . فقد أثبت أينشتاين ، مثلا ، نسبية الزمان والمكان ، بل الحركة . وبين الفيزيائي الدانمركي نيلزبور أن الذرة ليست أصغر جسيم يمكن تصوره ، كما كان نيوتن يظن ، بل أنها هي الأخرى مكونة من نواه يحيط بها عدد لاحصرله من الإلكترونات . أجمعت آراء كبار علماء الفيزياء النووية والكوزمولوجيا على أن الكون بما يحويه من ملايين المجرات ومليارات النجوم والكواكب قد بدأ في لحظة محددة من الزمن يرجع تاريخها إلى مابين 10، 20 مليار سنة ، فثبت بما لايدع مجالاً للشك أن المادة ليست أزلية ، وأن للنجوم آجالاً محددة تولد وتموت كالآدميين ،وأن الكون المادي نفسه في تطور وتمدد مستمرين ، بل أن من بين الفيزيائيين الفلكيين المعاصرين من قادته نتائج أبحاثه إلى القول إن الكون كان مهيئاً منذ الإنفجار العظيم لتطور مخلوقات عاقله فيه ، وأن الإنسان في مركز الغاية من إيداعه .فرأوا في ذلك كله في الجمال المنتشر في الطبيعة على جميع المستويات هدفاً وخطة مرسومة ،فآمنوا بعقل أزلي الوجود منتصب وراء هذا الكو ن واسع الأرجاء يدبره ويرعى شؤونه.

    ثم أعقب هذا الجيل من الفيزيائيين والفلكيين جيل آخر من العلماء المتخصصين في مبحث وقفوا حياتهم كلها على دراسة جسم الإنسان فانتهت بهم أبحاثهم إلى الإقرار بأن الإنسان مكون من عنصرين جوهريين ـ جسد فان وروح لايعتريها الفناءـ وبأن الإدراك الحسي ، وأن كان يتوقف علىعمليات فيزيائية وكيميائية ، ليس شيئا ماديا بحد ذاته ، وخصلوا كذلك إلى مايفيد بأن العقل الدماغ شيئن مختلفان تمام الإختلاف ، وأن الإرادة ولاأفكار ليستا من صنع المادة ولا من إفرازاتها ، بل هي ، على عكس ذلك ، تؤثر تأثيراً مباشراً في العمليات الفسيولوجية ذاتها .

    وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية شعر كثيرون من علماء النفس أن اخضاع العقل للغريزة في طريقة التحليل النفسي وإلغاءه في المذهب السلوكي قد أفضيا إلى تجري الإنسان من إنسانيته ،فالتحمت في الخمسينات من هذا القرن قوة ثالثة عرفت فيما بعد باسم " علم النفس الإنساني " . ومن أبرز رواد هذه المدرسة فرانلك وماي الذين يعترفون بأولية العقل ، وبعدم قابلية حصره في الخواص الكيميائية والفيزيائية للمادة ، وبكون الانسان البشري كله بلغة الدوافع والغرائزوالضرورات البيولوجية وردود الفعل الآلية ، ويؤمنون عوضا عن ذلك بما يسمى القيم الأخلاقية والجمالية والجوانب الروحية والنفسية والفكرية.
    هذه لمحة موجزة عن هذه النظرة العملية الجديدة التي سيجد القارئ مزيداً من التفاصيل عن مقولات روادها ونتائج أبحاثهم في ثنايا هذا الكتاب.
    ******



    توطئة الكتاب بقلم السير جون اكلس

    انها لمسؤولية جسيمة و شرف عظيم لى ان اقدم لهذل الكتاب الفريد من نوعه . يطرح هذا الكتاب فكرة مؤداها انه خلال القرون السابع عشر و الثامن عشر و التاسع عشر تكون لدى علماء الفيزياء و الكوزمولوجيا بشكل تدريجى تصور ما للعالم وهو ما يسميه المؤلفان النظرة القديمة غلبت عليه بشكل متزايد نزعة مادية.
    ان ما يحظى به علم الفيزياء من قدرة عظيمة على تفسير الظواهر و ما تكشف عنه مبتكرات تكنولوجية هائلة قد اضل الرجل العادى بحيث جعله يزداد بعدا وفتورا عن المعتقدات الدينية و القيم الروحية بعد ان تعرض مفهوما العقل و العمليات الذهنية للخطر بل للرفض.
    على ان الثورة التى حدثت فى علمى الفيزياء و الكوزمولوجيا فى القرن العشرين قد غيرت شكت هذه الصورة . ذلك ان المراقب الواعى اصبح فى فيزياء الكم عنصرا اساسيا بوصفه مشاركا فى عمليات القياس العلملية. و انبثاق الكون من انفجار عالمى فريد يعرف بالانفجار العظيم منذ نحو 12 مليار سنة قد غير مفهومى المكامن و الزمان و كشف عن قصة عجيبة من الظروف تصل مجموعتنا الشمسية بكوكبنا الارضى و بنشاة الحياة و بالتطور البيولوجى لتنتهى بظهور الانسان.


    وهكذا بعد أن كان الإنسان يعتبر مخلوقاً يسكن كوكباً متواضعاً يدور حول نجم لاشأن له في مجرة تحوى 100 مليار نجم آخر، أصبح الآن يقوم بدور المشارك في مسرحية كونية عظيمة ، هذا إلى جانب جميع الأحداث الكونية بدءاً بالإنفجار العظيم فصاعداً كانت قد صممت بحيث تسمح بوجود مخلوقات واعية في مكان ما من الكون المتمدد وفي حقبة من حقب تاريخه . كل هذه أدلة تحمل في طياتها الإقناع الكافي بنشوء تصور كوني جديد للعالم. فالنظرة القديمة هي في سبيل إفساح المجال أمام نظرة جديدة تركز على الإنسان بوصفه مراقباً ومشاركاً واعياً وتفرد للعقل وللعمليات الذهنية مكانة تضاهي مكانة العالم المادي.
    إن في مفهومي " النظرة القديمة " و " النظرة الجديدة" تبسيطا مثيراً يستحق المؤلفان عليه الثناء لإجترائهما على عرض النزاع الدائر بعبارات يستطيع القارئ فهمها . والواقع ا هناك الشيء الكثير من التشوش في متاهة الأيدولوجيات المتصارعة . ففي معاني الفيزياء الوكوزمولوجيا استطيع أن أفهم بوضوح الأساليب الفنية للنظرة القديمة والنظرة الجديدة . غير أنني أتردد في أن أمير بوضوح شديد بين هاتين النظريتين فيما يتعلق بمجال تخصصي وهو معضلة العقل والدماغ. فلئن كنت أميل إلى الإلتزام بمعظم مبادئ النظرة القديمة من الناحية العلمية فإنني انحرف عنها من وجهة النظر الفلسفية.
    إننا الآن نتأرجح بين النظرة القديمة ونظرة جديدة في طور التخلف ـ وهو أمر يصدق حتى على الفيزياء حيث تبقى نيوتن الكلاسيكية أساساً ضرورياً لكل المبتكرات التكنولوجية ، بل لرحلة العودة من القمر .
    ولعل من مزايا هذا الكتاب أنه يتيح لن تقييم الصراعات الدائرة بين أنصار كل من النظرة القديمة والنظرة الجديدة ،ويضعنا في مكان ذي امتياز نل منه على خطوط المعركة بمكاسبها وخسائرها.بيد أن هناك خطرا يتمثل في أن صراع الإيديولوجيات ربما رسمت حدوده بدقة مفرطة لايحس بعض القراء معها أنهم ملتزمون بأي من هاتين النظريتين ،زد على ذلك أن ثمة جوانب عديدة من الصراع الفعلي لم يعرض لها المؤلفان كالتطور وعلم الوراثة ،والبيولوجيا الاجتماعية والأنثروبولوجيا ، والتطور البيولوجي للوعي عند الحيوان ، ومنشأ الوعي البشري العجيب .كما أن المؤلفين ، لدى عرضهما للنظرة الثنوية الجديدة إلى العالم ، لم يتطرقا لفلسفة كارل بوير بعوالمه رقم 1 ، 2، 3 .كذلك فإني لست مقتنعاً بمعالجتهما لمسألة الإبداع الفني . إذا فهناك الشيء الكثير مما يمكن تناوله في مجلد آخر يسير على نفس النسق العام لموضوع الكتاب .
    إنني على يقين من أن هذا الكتاب سيثير خصومة أنصار النظرة القديمة المتحمسين لها ، ولن تقتنع أغلبيتهم بفحواه ، ولكنه سيروق كثيراً من الشباب الذين تثير سخطهم الأقوال المتغطرسة كتلك التي أدلى بها رسل ،والمقولة في مدخل الكتاب .
    إننا جميعا نحس بالنفور من أيديولوجية لاترى الوجود وهي تغرس في النفوس اليأس الدائم . أماجاذبية النظرة الجيدة فهي ـ كماجاء في خاتمة الكتاب ـ تستبدل بهذه القسوة الفظيعة " غائية الوجود وخالق الكون والجمال والثروات الروحية وكرامة الإنسان ".













    مـدخل
    لكل حضارة من الحضارات تصور كوني للعالم ،أي نظرة يفهم وفقا لهاكل شيء ويقيم .والتصور السائد في حضارة ماهو الذي يحدد معالمها .ويشكل اللحمة بين عناصر معارفها ، ويملى منهجيتها ، ويوجه تربيتها ، وهذا التصور يشكل إطار الإستزادة من المعرفة والمقياس الذي تقاس به ، وتصورنا للعالم هو من الاهمية بحيث لاندرك أن لدينا تصوراً ما إلا حين نواجه تصوراً بديلاً ، إما بسفرنا إلى حضارة أخرى ، وإما باطلاعنا على أخبار العصور الغابرة ، وإما حين يكون تصور حضارتنا للعالم في طور التحول.
    والحضارة الغربية مابرحت ، منذ عصر النهضة ، تضع لسلطان العلم التجريبي . بيد أن النظرة الكونية التي تولدت إبان عصر النضة تواجه في الوقت الراهن تحدياً من علم القرن العشرين ، الأمر الذي يفضي إلى وجود نظرتين علميتين متنافستين . وعلى حد تعبير أحد مؤرخي الحضارات " توماس بري " " Thomas Berry" : " فالقضية كلها قضية نظرة. ونحن الآن بالذات نواجه مشكلة لأنه ليس لدينا نظرة مقبولة . فلا النظرة القديمة تؤدي دورها على الوجه السليم ، ولانحن تعلمنا النظرة الجديدة .
    أما النظرة العملية القديمة فهي المادية العملية التي تؤكد أن لاوجود إلا للمادة ، وأن الأشياء جميعاً قابلة للتفسير بلغة المادة فحسب ، وهكذا يتحتم أن تكون حرية الإختيار وهما من الأوهام مادامت المادة غير قادرة على التصرف الحر. ولما كانت المادة عاجزة عن أن تخطط أو تهدف إلى أي شيء ، فلا سبيل إلى العثور على حكمة وراء الأشياء الطبيعية ، بل أ العقل ذاته يعتبر نتاجاً ثانوياً لنشاط الدماغ . ويصور برتراند رسل ( Bertrand Russell) ، بما تميز به من قوة وضوح ، بيان مكان الإنسان في النظرة القديمة على النحو:
    " لأن يكون الأنسان نتاج أسباب لاتملك العدة اللازمة لما تحققه من غايات ، ولا يكون منشؤه ونموه وآماله ومخاوفه وصبواته ومعتقداته مجرد حصيلة ارتصاف ذرات عرضي ، ولأن تعج أي حماسة مشبوبة أو بطولة ، أو أي حدة في التفكير أو الشعور ، عن الإبقاء على حياة فرد واحد فيما وراء القبر ، ولأن يكون الإندثار هو المصير المحتوم لكل عناء الأجيال ، ولك التفاني ، ولكل عبقرية الإنسان المتألقة تألق الشمس في رابعة النهار، كل هذه الأمور إن لم تكن حقا غير قابلة للجدل فإنها مع ذلك تقترب من اليقين إلى حد يتسحيل معه على أي فلسفة ترفضه أن يكتب لها البقاء . وعلى ذلك لايمكن بناء موطن الروح بأمان إلا في إطار هذه الحقائق وعلى اساس رائخ من القنوط لمقيم "
    ولكن العلم ، منذ كتب رسل هذه الكلمات عام 1930 ، مر بسلسلة مثيرة من الثورات : أولاً في الفيزياء على أيدي أينشتاين ( Einstein) ، وبور ( Bohr) ، وهايزنبيرغ Heisenberg) ) ،ثم في مبحث الأعصاب بفضل شرنغتون ( sherrington) ، واكلس
    ( Eccels) ، وسبري ( sperry) ، وبنفيلد ( penfield ) ، وفي علم النفس بفضل فرانكل ( Frankl) ، وماسلو ( Maslow) ، وماي May وفي علم الكونيات بفعل نظرية " الإنفجار العظيم " ، و " المبدأ الإنساني " . إن هذه المكتشفات لم تقلب التصور الحديث للإنسان ولمكانته في العالم فحسب ، بل هي تقدم ، على غير توقع منا ، تفسيرا ُ جديداً يغاير تفسير رسل . ويلاحظ الفيزيائي هنري مارجينو Henry Margenau أن " العقيدة الأساسية للمذهب المادي هي أن الحقيقة كلها تكمن في المادة ، وهذا رأي كان مقبولاً بعض القبول في آخر القرن الماضي . غير أن أمورا كثيرة حدثت في هذه الأثناء تكذب هذا الرأي " ،كما يعلن الفيزيائي فيرنر هايزنبيرغ أن " الفيزياء الذرية المعاصرة قد نأت بالعلم عما كان يتسم به من إتجاه مادي في القرن التاسع عشر".
    والنظرة الكونية هي من الحيوية بحيث لايستطاع تغيرها بسهولة أو بسرعة ، حتى لو توافرت أدلة قاهرة تدعو لإحداث تغيير. ومايحدث بدلا من ذلك دائما هو نشوء نزعة تطويع المعارف الجديدة بإلباسها قسراً ثوب النظرة القديمة . ويبدي هارولد موروفتس (Harold Morwitz) ، عالم الطبيعيات الإحيائية الجزيئية ، الملاحظة التالية : " يبدو أن المفاهيم التي هي فعلا عميقة الغور تستغرق مايقرب من خمسين عاماً حتى تستقر مايقرب من خمسين عاما حتىتستقر في الضمير المشترك لأهل الفكر . ولذا فإن معظمنا قد بدأ الآن فقط يدرك كامل وقع بعض الأفكار التي مافتئت تختمر في مجال الفيزاء منذ الربع الأول من هذا القرن. وهذا الكتاب محاولة لتجميع عناصر النظرة العلمية الجديدة هذه.
    ونحن ، إذ نستخدم عبارتي " النظرة العلمية القديمة" ،" والنظرة العلمية الجديدة ". لانعني بذلك أن جميع العلماء يقتسمون انقساماً إلى معسكرين فالنظرتان في الأغلب تتجليان على صورة اتجاهات ذهنية عامة ، وليس كل عالم يقبل جميع النتائج المترتبة على أي منهما . كذلك فإن النظرة القديمة ، تلك التي شهدناها لتونا عند رسل ، لم تظهر مكتملة الشكل حين بدأ عصر العلم الحديث.
    فقد كان هناك ، كما سنرى ،تطور تاريخي معين. أضف إلى ذلك أننا ، إذ ننتقد النظرة القديمة ، لانرغب إطلاقاً أن نشكك في الحقائق الوفيرة التي اكتشفت في إطارها. وأخيراً فإن في نيتنا أن نبرز التضاد بين النظرة القديمة والنظرة الجديدة لا في تفاصيلهما التقنية ، بل باعتبارهما نظرتين إلى العالم ، مع التركيز على آثارهما الفلسفية العامة على الإنسان وعلى الكون.


    الفصل الأول
    المادة
    الثورة تطيح بالنظام القديم وتنشيء مكانه نظاماً جديداً ، وعلى ذلك إذا أردنا أن ندرك أهمية أي ثورة فعلينا أولا ان نفهم النظام القديم. والنظام القديم في الفيزياء الحديثة هو نظام نيوتن ويمكن تبين جوهر هذا النظام من الطريقة التى يجيب بها على ثلاثة اسئلة ما هى مقومات الكون المادى ؟ هنالك ثلاث حقائق المادة و المكان و الزمان .
    و المادة فى راى نيوتن مكونة من جسيمات كبيرة و صلبة و متحركة وغير قابلة للاختراق ذات احجام و اشكال مختلفة اما خواص المادة فيعدد منها نيوتن التمدد و الصلابة و اللااختراقية و القصور الذاتى و طبيعة هذه الجسيمات اى الذرات و خواصها ثابتة الى الابد و الذرة تعتبر اصغر جسيم ينقل تصوره اما الزمان و المكان فكلاهما فى تصور نيوتن حقيقتان مطلقتان اى انهما سيظلان كوجوديين حتى لو فنيت كل الاشياء المادية فى الكون و يصف نيوتن المكان كما يلى ان المكان المطلق بطبيعته ذاتها و دون علاقة باى شىء خارج عنه يظل متماثلا و غير متحرك ويضيف قائلا ان الزمان المطلق و الصحيح و الرياضى بذاته و حكم طبيعته يتدفق باطراد من غير ان تكون له علاقة باى شىء خارجى فهو يعتقد ان الزمان و المكان لا نهائيا المدى و انهما عالميان و غير قابلين للتغير.

    ما هو التغير ؟ يشرح نيوتن ذلك بقوله ان التغيرات التى تطرا على الاشياء المادية تقتصر على مختلف عمليات انفصال هذه الجسيمات الثابتة و على عمليات اتحادها و حركاتها الجديدة .

    كيف تطرأ التغيرات ؟ القوانين الطبيعية تنظم حركة المادة في إطار الزمان والمكان المطلقين . ويصف نيوتن الهدف المثالي لنظامه قائلاً " إن استخلاص مبدأين عامين أو ثلاثة مبادئ عامة للحركة من الظواهر ، ثم إظهار كيفية انبثاق خواص ونشاط جميع الأشياء المادية من هذه المبادئ التي يكون قد تم استجلاؤها سيمثلان خطوة كبيرة في ميدان الفلسفة .وليس للباحث العلمي من دور في هذا النظام يتجاوز دور المشاهد الحيادي .فقد كان يفترض أن الكون المادي وجميع خواص المادة يمكن فهمها دون إقحام العقل في النظام.
    وقد حقق نظام نيوتن نجاحاً في العديد من المجالات ، ولاسيما في مجالي الفيزياء والكيمياء ، وأحرز النظام القديم تقدماً بفضل جهود علماء من أمثال فاراداي ( Faraday) ، وكلفن (Kelvin) ،وهيرشل ( Herschel) ومئات غيرهم ، وتمت له الغلبة بشرحه ظواهر الحركة والحرارة والضوء والكهرباء . وطبيعي أن هذا النجاح ولد في النفوس رغبة في توسيع نطاق هذا الأسلوب في الشرح بحيث يشمل جميع حقول المعرفة ، بما فيها علوم الأحياء والنفس والتاريخ والإقتصاد. وقد أسفرت إمكانية الكشف عن أسرار جزء كبير من العالم الطبيعي ، بافتراض وجود المادة وحدها ، عن دفع بعض العلماء تدريجيا إلى اعتبار المادة جزءا من الاسلوب العلمي ذاته ، على نحو جعل الباحث العلمي ، بصرف النظر عن معتقداته الشخصية ، يمضي في حججه العلمية على أساس افتراض كون المادة وحدها هي الحقيقة ، أو أنها ، على الأقل ، كل مايمكن معرفته بطريقة علمية . ولعل في وسعنا أن نطلق على هذا اسم " المادية المنهجية" .وواضح أن نيوتن نفسه لم يكن من المؤمنين بالمذهب المادي ، إذا لم يكن يأمل أن يشرح عن طريق نظريته في الميكانيكا جميع الأشياء ، بل " جميع الأشياء المادية ".

    وقد كتب لهذا البرنامج البقاء وحقق بالفعل آمالاً كبيرة. وكان لدى العلماء في القرن التاسع عشر كل مايدعوهم إلى الإعتقاد بأن القرن العشرين سيكمل بناء هذا النظام ، بل كان كثير من علماء الفيزياء يعتقدون أن دورهم في تقديم هذا التفسير قد اكتمل أساساً.

    وأحرز القرن العشرين بالفعل فتوحات باهرة ، ولكنها لم تكن بأي حال من النوع المتوقع . فالاكتشافات الجديدة لم تكمل فيزياء نيوتن ، بل أطاحت بها.ففي المقام الاول هدم أينشتاين في عام 1905 ركنين أساسيين من أركان النظام القديم . فنظرية النسبية الخاصة قادت علم الفيزياء إلى التخلى إلى الأبد عن فكرتي المكان المطلق والزمان المطلق . ذلك أن أينشتاين أثبت أن علاقات المكان والزمان وقوانين الحركة لايمكن تعريفها إلا بوصفها الموقف الشخصي للمراقب ولظروفه المادية. أما السمات الأخرى لنظرية النسبية الخاصة ، كتكافؤ المادة والطاقة ،فهي في الواقع نتائج مترتبة على محورية المراقب .وبفضل النسبية الخاصة أضحى المراقب فجأة جزءا أساسياً من عالم الفيزياء.ولم يعد في مقدور الباحث العلمي أن يعتبر نفسه متفرجاً حيادياً كما في نظام نيوتن.

    ثم حدثت ثورة متشابهة في فيزياء الجسيمات . فقد أثبت ايرنست رزرفورد (Ernest Rutherford) عام 1911 أن الذرة تتكون من نواة متناهية الصغر يحيط بها حشد من الإلكترونيات . وحاول الفيزيائيون أن يفسروا تركيب الذرة استناداً إلى فيزياء نيوتن ، غير أن كل محاولة من محاولاتهم كانت تسفر عن تناقضات تبعث على الإحباط. وأخيراً أدى هذا الفشل إلى التخلى كلياً عن نظام نيوتن على المستوى الذري وإلى التعجيل بتطوير ميكانيكا الكم في العشرينات من هذا القرن على أيدي علماء من أمثال نيلزبور Niels Bohr وفيرنرهابزنلبلاغ Werner Heisenberg ، وبمجيء ميكانيكا الكم تضاعفت أهمية دور المراقب في النظرية الفيزيائية. يقول الفيزيائي ماكس بورن Max Born : " لايمكن وصف أي ظاهرة طبيعية في مجال الذرات إلا بالرجوع إلى المراقب رجوعاً لا إلى سرعته فحسب كما في حالة النسبية ، بل إلى جميع أنشطته لدى قيامه بالمراقبة وبتركيب الآلات وما إلى ذلك".

    ويشرح الفيزيائي جون ويلر John Wheeler هذا فيقول :
    " كان من الطبيعي على مدى فترة طويلة من الزمن أن يعتبر المراقب ،وهو ينظر إلى الكائنات ، محميا من ملامستها بلوح زجاج ثخين يبلغ سمكه عشرة سنتمترات .أما ميكانيكا الكم فهي ، خلافا لذلك ، تعلمنا أن العكس هو الصحيح . فمن المستحيل مراقبةأي جسم ، مهما بلغ من الصغر ، كالإلكترون ، من دون كسر ذلك اللوح والولوج إلى داخل هذا الجسم بالآلات القياس المناسبة . زد على ذلك أن تركيب الأجهزة لقياس أي من إحداثيات الإلكترون يحول اليا دون وضع المعدات المطلوبة لقياس سرعته أو زخمه في المكان نفسه وفي الوقت نفسه . والعكس صحيح . فعلمية القياس ذاتها تحدث في وضع الإلكترون تغيرا لاسبيل إلى التنبؤ به . وهذا التغير يختلف بحسب قياسنا للموقع أو للزخم والخيار المتعلق بما يراقبه المرء يحدث اختلافا لاسبيل إلى استرجاعه فيما ينتهي إليه من نتائج . وهكذا تمت ترقية المراقب ليصبح مشاركا و ما اوحت به الفلسفة فى غابر الازمنة تبينه لنا اليوم " ميكانيا" الكم بقوة مثيرة للأعجاب . فعالمنا اليوم بطريقة غريبة ، عالم قائم على المشاركة .
    وهكذا أصبحت أصغر جسيمات المادة غير قابلة للتعريف بمعزل عن خيارات وأفعال المراقب الذى هو ضرورى لا كشاهد فحسب بل كمشارك و يبين الفيزيائى يوجين فيغنر Eugene Wegner ما يترتب على ذلك من نتائج بالنسبة لدور العقل في العالم فيقول " عندما تم توسيع نطاق النظرية الفيزيائية ليشمل الظواهر الميركوسكوبية ، من خلال استحداث ميكانيكا الكم ، عاد مفهوم الوعي مرة أخرى إلى المقدمة، إذ لم يعد ممكنا صياغة قوانين ميكانيكا الكم بشكل متسق كليا دون الرجوع إلى الوعي " . ولما كانت المادة في أدنى مستوياتها لا تفهم إلا باستخدام العقل فقد انتهى فيغنير من ذلك إلى أن العقل هو إحدى حقائق الوجود المطلقة قائلاً " هنالك نوعان من الحقيقة أو الوجود : وجود وعي وحقيقة أو وجود كل شيء آخر . ومما يدعو للحيرة الشديدة أن وجود النوع الأول من الحقيقة يمكن أن ينسى .

    ويصف فيغنر وجهة نظر النظام القديم فيقول" كان جل العلماء الطبيعيين إلى عهد غير بعيد ، ينكرون بشدة " وجود" العقل أو الروح . على أن النجاح الباهر الذي حققه علم الفيزياء الميكانيكية و العيانية بصورة أعم ، وكذلك علم الكيمياء ، قد حجب الواقع الجلي ،ذلك الذي يقول أن الأفكار والرغبات والعواطف ليست من صنع المادة .وكان مقبولاً عند العلماء الطبيعيين على نحو يشبه الإجماع إن لاشيء هناك سوى المادة.

    وعلى ذلك ، فإن نظرية النسبية وميكانيكا الكم تمثلان خروجا مشتركاً بينهما على تفسير نيوتن بادخالهما العقل في المعادلة .فلقد حلت الفيزياء في القرن العشرين تدريجياً محل المذهب المادة بتأكيدها أن الفكر يقوم بدور جوهري في الكون . وأنه لأمر مثير حقاً أن يصدر هذا التأكيد عن علم الفيزياء .فلو قدر للمادة أن تصادف نجاحاً في أي مكان لتوقع لها المرء أن تنجح في مجال دراسة المادة ذاتها.

    أن الحقائق الجديدة التي كشفتها نظرية النسبية وميكانيكا الكم لا يمكن أن تتواءم مع النظرية القديمة . فلا هيكل المكان ـ الزمان ، ولا خواص الجسيمات الأولية يمكن أن يصفا دون الرجوع إلى مراقب مشارك ، أي إلى عقل . ولقد كانت النظرة القديمة لاتتضمن إلا المادة القوانين الطبيعية . أما النظرة العلمية الجديدة فمن المحتم عليها أن تتضمن المادة والقوانين الطبيعية والعقل .

    ---------يتبع -----------

  6. افتراضي

    يرفع للتذكرة , ونحن فى شوق لتكملة باقى الكتاب .
    وما قدروا الله حق قدره

  7. افتراضي

    الفصل الثاني
    العقل

    يقتضي مبدأ البساطة ، فيما يبدو ، أن يفسر العلم الأشياء الطبعيية بلغة المادة وحدها ، مالم يثبت أن مثل هذه النهج غير قابل للتطبيق . وفي هذا السياق تبدو النظرة القديمة إلى العقل معقولة إلى حد بعيد. فهي تحتج بأن جميع الأشياء الطبيعية تنشأ في نهاية المطاف عن تفاعلات بين جسيمات تتكون منها هذا الأشياء . وهكذا فالماء سائل على نحو ما نعرفه لأن جزيئاته تنزلق بجانب بعضها بعضا بقليل من الإحتكاك . والمطاط متمغط لأن جزيئاته بحكم مرونتها تغير شكلها بسهولة .والماس شديد الصلابة لأن ذرات الكربون الموجودة فيه متراصة بشكل على هيئة شعرية محكمة النسج . ولابد أن الأمر نفسه ينطبق على العقل.

    ويذكر عالم الأحياء توماس هـ . هكسلي Thomas H.Huxely ، وهو من علماء القرن التاسع عشر ، أن " الأفكار التي أعبر عنها بالنطق ، وأفكارك فيما يتعلق بها إنما هي عبارة عن تغيرات جزيئية. فخير طريقة للبحث في العقل ،من زاوية النظرة القديمة ، هي إظهار كيفية أنبثاق العقل من المادة .
    وإحدى النتائج التي تستتبعها هذه النظرة هي أن العقل البشري لايستطيع أن يختار بحرية لأن المادة لا تتصرف إلا بضرورة ميكانيكية. وهذا هو السبب في نزوع النظرة القديمة إلى تفسير تصرفات الإنسان بلغة الغريزة، والفسيولوجيا ( علم وظائف الأعضاء ) ،والكيمياء .والفيزياء ، فلا مجال هناك لحرية الاختيار.

    والواقع أنه لو أحذنا بالمذهب المادي بمفهومه الضيق فلا مناص من إنكار أي تأثير للعقل أو للإرادة في الدماغ .فالتغيرات المادية هي التي تسبب الأفكار ، لا العكس ، وقد عبر و.ك كليفورد W.K.Clifford ، أحد علماء الرياضيات في القرن التاسع عشر ، في محاضرة له عن العلوم عن هذه الفكرة بإيجاز بليغ " إذا قال أحد أن الإرادة تؤثر في المادة فقوله ليس كاذباً فحسب ، وإنما هو هراء " .
    ويصف هكسلي العلاقة بين العقل والجسد على هذا النحو :
    " يبدو أن الوعي متصل بآليات الجسم كنتيجة ثانوية لعمل الجسم ، لا أكثر ، وأن ليس له أي قدره كانت على تعديل عمل الجسم مثلما يلازم صفير البخار حركة القاطرة دونما تأثيرعلى آليتها "..

    ومن المستلزمات الأخرى لتصور العقل وفقا للنظرة القديمةأن لاشيء في الإنسان يمكن أن يبقى بعد الموت . فإذا كان التفكير والإرادة نشاطين من أنشطة الدماغ فليس هناك سبب يجعلنا نفترض أن هذين النشاطين يمكن أن يستمرا بعد فناء الدماغ ، وإذا كان كل جزء من أجزاء الإنسان مادة فلابد من أن يكون كل جزء منه عرضه للفناء. ففي النظرة القديمة لاخلود إلا للمادة.

    وعلى ذلك ، كان للنظرة القديمة برنامج واضح لتفسير العقل ، ولكن مامن أحد في القرن التاسع عشر استطاع أن يحدد بالضبط كيفية انبثاق العقل من المادة . وكان علماء الفسيولوجيا يتوقعون أن يأتي المستقبل بالجواب . وفي عام 1886 كتب هكسلي يقول " وهكذا سيوسع علم وظائف الأعضاء في المستقبل شيئا فشيئا من عالم المادة وقوانينها إلى أن يصبح مساويا في امتداده نطاق المعرفة و الشعور والعمل . وقد تطلع الكثيرون إلى القرن العشرين لإنجاز هذا البرنامج المادي.
    ولقد جاء القرن العشرون بكشوف رائعة عن الفسيولوجيا، ولكنها لم تكن بأي حال من النوع المتوقع . فالكشوف الجديدة لم تكمل النظرة القديمة ، ولكنها قدمت نظرة جديدة بدات بالسير تشارلز سرنغتون الذي يعتبر مؤسس فسيولوجيا الأعصاب الحديثة . ونتيجة بحوثه الرائدة في الجهاز العصبي والدماغ خلص شرنغتون إلى مايلي " هكذا ظهر فرق جذري بين الحياة والعقل . فالحياة هي مسألة كيمياء وفيزياء ، أما العقل فهو يستعصي على الكيمياء والفيزياء".

    ويقصد شرنغتون بالحياة الإشارة إلى التغذية الذاتية ، واستقلاب الخلايا( الايض ) cell Cetabolism والنمو ، فهو يقول أن هذه الظواهر تتم بواسطة قوانين الفيزياء والكيمياء ويمكن تفسيرها بلغة هذين العلمين .أما أنشطة العقل فهي تتجاوز آليات الفيزياء والكيمياء.
    ويوافق على ذلك السير جون اكلس ، المتخصص في مبحث الأعصاب ، فيقول : " التجارب التي تنم عن الوعي تختلف في نوعها كل الاختلاف عما يحدث في آلية الأعصاب . ومع ذلك فإن مايحدث في آلية الأعصاب شرط ضروري للتجربة . وإن كان هذا شرطاً غير كاف ".
    فلنورد مثالا لتوضيح المراد من أقوال اكلس وشرنغتون ، ماذا يحدث ، مثلا ، عندما يرى سقراط شجرة؟ تدخل أشعة الشمس المنعكسة من الشجرة في بؤبؤعين سقراط ،و تمر من خلال العدسة التي تركز صورة مقلوبة ومصغرة للشجرة على شبكة العين فتحدث فيها تغيرات فيزيائية وكيميائية .فهل هذا هو الإبصار ؟ كلا ، إذ لو كان سقراط فاقد الوعي لأمكن تركيز تلك الصورة على شبكية عينيه ، محدثة نفس التغيرات الفيزيائية والكيمائية ، ولكنه في هذه الحالة لايبصر شيئا. وبالمثل ، تركز آلة التصوير على صورة ما ، فيتعرض " الفيلم " الموجود في الآلة لتغيرات فيزيائية وكيميائية،ولكن آلة التصوير لاتبصر بالمعنى الحرفي في الألوان والأشكال التي تسجلها.

    أما إذا أردنا أن نفسر إبصار سقراط فنحن بحاجة إلى أكثر من ذلك كثيراً. فالشبكية ، وهي صفحة من المستقبلات شديدة التراص ( عشرة ملايين مخروط ومائة مليون قضيب) ، تبدأ ، حين ينشطها الضوء المنبعث من الشجرة ،بإرسال نبضات الى العصب البصري الذي ينقلها بدوره إلى قشرة الدماغ البصرية . وكل شيء إلى الآن قابل لأن يفسر بلغة الفيزياء والكيمياء . ولكن أين مكان اللون الأخضر من كل هذا؟ فالدماغ نفسه رمادي اللون أبيضه . فكيف يستطيع أن يتلقى لونا جديداً دون أن يفقد لونه السابق ؟ وكيف يستطيع دماغ سقراط أن يبصر الضوء إذا كان دماغه مغلقاً ومعزولاً تماما عن أي ضوء؟ ويكون الأمر معقولا لوان سقراط ، حين وجه بصره نحو الشجرة ، لم يحس إلا بأزيز من الكهرباء في دماغة ، ولكن النشاط الكهربائي والكيميائي لدماغه ، الذي يمكنه من الإبصار بطريقة ما ، هو بالضبط مالايراه سقراط ، وبدلا من ذلك فسقراط عندما ينظر يرى الألوان والأشكال والحركات والضوء ، وكلها بأبعادها الثلاثة . بل من العسير أن نتخيل كيف يكمن لأي من هذه الأشياء أن ينشأ عن المواد الكيميائية والكهرباء .

    ويؤكد أكلس على سر الإدراك الحسي فيتسائل " أليس صحيحاً أن أكثر تجاربنا شيوعاً تقبل دون أي تقدير لما تنطوي علي من غموض هائل ؟ ألسنا لا نزال كالأطفال في نظرتنا إلى مانقبله من تجاربنا المتعلقة بالحياة الواعية . فلا نتريث إلا نادراً للتفكير في أعجوبة التجربة الواعية أو لتقديرها ؟ فالبصر ، مثلا ، يعطينا في كل لحظة صورة ثلاثية الأبعاد لعالم خارجي ، ويركب في هذه الصورة من سمات الإلتماع و التلون مالاوجود له إلا في الإبصار الناشيء عن نشاط الدماغ . ونحن بالطبع ندرك الآن النظائر المادية لهذه التجارب المتولدة من الإدراك الحسي كحدة المصدر المشع والطول الموجي للإشعاع المنبعث . ومع ذلك فعمليات الإدراك ذاتها تنشأ بطريقة مجهولة تماما عن المعلومات المنقولة بالرموز من شبكية العين إلى الدماغ.
    فالصورة التي تسلط على الشبكية ، مثلا ، لاتعود أبدا إلى الظهور مجددا في الدماع ، بل لابد للعقل الواعي من أن يعيد تركيبها من أنماط النبضات المرموزة. فكل عملية إدراك حسي تتكون من ثلاث مراحل : المنبه الأصلي لعضو الحس ، والنبضات العصبية المرسلة إلى الدماغ ، ونمط النشاط العصبي المثار في الدماغ ، ويلخص أكلس هذه العملية فيقول : " أن عملية النقل من عضو الحس إلى قشرة المخ تستخدم نمطا من النبضات العصبية معبراً عنها برموز تشبه رموز مورس ، وتنحصر فيها النقاط في تسلسلات زمنية شتى . ومن المؤكد أن هذا النقل المرموز يختلف تمام الإختلاف عن عملية الحفز الأصلي لعضو الحس المعني ، كما أن النمط المكاني / الزماني للنشاط العصبي المثار في قشرة المخ مختلف هو الآخر كل الأختلاف .

    وعملية الترجمة المزدوجة هذه تضخم أعجوبة الإدراك الحسي . ذلك أن هذه السلسلة من الترجمات الفيزيائية / الكيمائية تسفر عن تجربة حسية محددة كإبصار " اللون الأخضر " ، وفي هذه النقلة ما يبعث على قدر من الذهول ليس أدنى إثارة للعجب من حالة شخص يفهم فجأة نصا ترجم له من لغة يجهلها إلى لغة أخرى يجهله كذلك.
    إذا فعالم الإحساس، وفقا للنظرة الجديدة ، يتوقف على عالم الفيزياء والكيمياء ، ولكنه ليس مقصوراً عليه . وقد تفيد مقارنة مافي إيضاح هذا الفارق الدقيق : فمن المؤكد أن وجود كتاب ما يتوقف علىعناصر الورق والصمغ والحبر التي يتكون منها ،ومن دونها لايمكن أن يوجد الكتاب. ومع ذلك ، فالكتاب لايٌفهم فهماً كافياً بمجرد إجراء تحليل كيميائي للحبر ولألياف الورق . وحتى لو عرفنا طبيعة كل جزء من جزيئات الورق والحبرمعرفة كاملة فذلك لايكشف لنا شيئا عن محتوى الكتاب . ذلك أن محتوى الكتاب يشكل نظاماً أسمى يتجاوز عالم الفيزياء والكيمياء . وبطريقة مماثلة تؤكد النظرة الجديدة أن أحاسيسنا تتوقف علىأعضاء الجسم ، ولكن لايمكن حصرها في الخواص الفيزيائية والكيميائية للمادة.
    و يتناول شرنغتون مثال البصر لايضاح النظرة القديمة التى يسميها مخطط الطاقة لا تستطيع ان تعلل احساسنا بنجم نراه فمخطط الطاقة يتناول هذا الاحساس و يصف مرور الاشعاع من النجم الى العين و الصورة الضوئية الصغيرة التى تتشكل له فى قاع العين و ما يسفر عنه ذلك من النشاط الضوئى الكيميائى فى الشبكية و شلشلة التفاعلات التى يحتمل ان تحدث ابنداء بالعصب و انتهاء بالدماغ و كذلك التشويش الكهربائى فى الدماغ و لكنه لا يقول شيئا عن ابصارنا للنجم فمخطط الطاقة لا يفسر ادراكنا ان للنجم سطوعا و اتجاها وبعدا و لا كيفية تحول الصورة فى قاع العين الى نجم نراه فوق رؤوسنا نجم لا يتحرك رغم أننا و أعيننا حين نحمل الصورة معنا ولا هو يفسر أخيرا إدراكنا الأكيد أن الشىء المرئى هو نجم و مخطط الطاقة يتناول النجم بالبحث كواحد من الأشياء التى يمكننا مشاهدتها ولكنة يسكت سكوتا تاما عن إدراك العقل له وقد يقال عنه انه يوصلنا الى عتبة فعل الإدراك ليودعنا هناك وهو فيما يبدو ينقلنا الى صميم المكان و الزمان المرتبطين بالتجربة الذهنية ولكنة لا يعطينا اى إشارة خفية أخرى .

    إذا فالنشاط الفسيولوجى و الكيميائى للدماغ وفقا للنظرة العلمية الجديدة أمر ضروري للإحساس متزامن معه ولكنه ليس الإحساس بعينه والمادة وحدها لا تستطيع أن تفسر الإدراك الحسى فالنظرة القديمة تستطيع أن تتحدث عن الموجات الضوئية والتغيرات الكيميائية والنبضات الكهربائية فى الأعصاب ونشاط خلايا المخ أما عن عمليات الإبصار و الشم و الذوق و السمع واللمس ذاتها فليس عند المادية ما تقوله .
    إن الإدراك الحسى حقيقة ولكنة ليس المادة ولا هو من خواص المادة وليس فى مقدور المادة ان تفسره ومن هنا يخلص شرنغتون الى ان كون وجودنا مؤلفا من عنصرين جوهريين أمر ليس فى تصورى ابعد احتمالا بطبيعته من اقتصاره على عنصر واحد فالنظرة الجديدة تفترض وجود عنصرين جوهريين فى الإنسان : الجسم و العقل .
    لقد تناولنا بالبحث حتى الآن مثالا واحدا وهو الإدراك الحسى ولكن ماذا تقول النظرة الجديدة عن العقل البشرى قبل ان نطرف هذه المسالة يلزم أولا ان نميز بوضوح بين العقل وملكتنا العقلية الأخرى وسنفعل ذلك بإيجاز وبطريقة معقولة استنادا الى ما نشترك فيه جميعا من تجارب داخلية.
    أن كلمة إدراك تعنى ( المعرفة او الوعى ) وبهذا المعنى فاى نشاط ينطوى على معرفة أو إدراك هو من لنشطة العقل المدرك فالمسالة كلها تبدأ بالإدراك الحسى والحواس الخارجية هى الأساس الأول لكل المعارف الإنسانية ومصدرها ومن دون المعلومات الآتية من هذه الحواس لا يكون لدى الذاكرة اى شىء تتذكره ولا للخيال اى شيء يتصوره و لا للعقل اى شىء يفهمه وكل حاسة من الحواس الخمس – البصر و الشم والسمع و الذوق واللمس – تدرك صفة محددة من صفات الأشياء المادية . فحاسة البصر وحدها تدرك الألوان وحاسة اللمس درجات الحرارة والأنسجة والضغوط وبعض الصفات الأخرى كالحجم والشكل يمكن إدراكها بأكثر من حاسة واحدة . فنحن نستطيع مثلا ان نعرف حجم قطعة نقدية عن طريق حاسة البصر أو حاسة اللمس واللمس وحده بين الحواس الخارجية الخمس موزع على مختلف أنواع أجزاء الجسم أما الخواص الأربع الأخرى فكل منها يقتصر على عضو متخصص : العين ، أو الأذن أو الأنف أو اللسان .
    وإلى جانب الحواس الخارجية نجد تحت تصرفنا مجموعة كبيرة من ملكات الإحساس الداخلى . نأمل لحظة اننا نملك القدرة على الإحساس لا بالبياض وبحلاوة الطعم فحسب بل على ادراك الفارق بينهما فالعين يدرك البياض و لا تدرك الحلاوة واللسان يدرك الحلاوة ولا يدرك البياض فلا اللسان ولا العين يستطيعان التمييز بين البياض و الحلاوة لأن أيا منهما لا يدرك الأثنين معا . ويصدق هذا القول نفسه على الفرق بين ارتفاع الصوت وارتفاع الحرارة . ذلك لأن أى ملكة قادرة على مقارنة شيئين لا بد لها من أن تعرفهما كليهما . وما من حاسة خارجية تستطيع أن تؤدى هذه المهمة تبعا لذلك لا بد من أن تكون فينا حاسة داخلية تستطيع أن تدرك جميع الصفات التى تدركها الحواس الخارجية وأن تميز بينهما .

    ونحن كذلك نملك القدرة على أن نستدعى أمورا لم تعد حاضرة . فعملية التذكر شىء حاضر بالفعل ، ولكن الشىء الذى نتذكره ليس كذلك ، إذ إن إدراكنا الحسى الأصلى قد زال على نحو ما ولكنه مع ذلك تحت تصرفنا فالذاكرة لا تستحضر التجربة الماضية فحسب ، بل تستحضرها بوصفها حدثا ماضيا ، وتستطيع ترتيبها من حيث صلتها بتجارب أخرى ماضية . بل إن الأدعى الى الدهشة هو قدرتنا على أن نجعل أنفسنا نتذكر الشىء المنسى .صحيح أن الذاكرة تخوننا أحيانا فلا نستطيع أن نتذكر اسم شخص ما ، ولكننا نستطيع فى الغالب أن نحمل أنفسنا على تذكره بالتركيز على أمور أخرى مرتبطة بذلك الاسم .
    والخيال ملكة حسية داخلية أخرى نستطيع بواسطتها أن نتصور لا الأشياء المدركة بالحواس فحسب ، بل الأشياء التى لا تدرها هذه الحواس كجبل من ذهب أو فيل بحجم البرغوث ، فالخيال ، بخلاف الذاكرة ، يستخدم المعلومات الواردة من الحواس الخارجية الخمس بحرية وبطريقة إبداعية .
    ثم إن قدرتنا على الإحساس بالعواطف ، كالحب والغضب والفرح و الخوف والأمل و الرغبة والحزن ، تربطنا بالعالم بطريقة أخرى مختلفة كذلك . فكل عاطفة تنشأ من فعل ملكة حسية ، سواء كانت حاسة خارجية كالخيال ، أو الذاكرة فالغضب مثلا يثيره الإحساس بالضرر او الإهانة والخوف يحركه تخيل وقوع شر يتهددنا فى المستقبل والحزن يسببه الإحساس بألم حاضر أو تذكر ألم مضى زمانه كذلك من طبيعة العاطفة أن يحس بها ، بل إن العواطف تسمى أحيانا أحاسيس لوثاقة صلتها بحاسة اللمس ، ورغم ذلك ، ومع أن الأحاسيس تسبب وتلازم على الدوام كل عاطفة ، فإن العواطف ذاتها ليست أفعالا تندرج تحت الإدراك الحسى . فالخوف لا يدل على مجرد الإحساس بشىء ما ، وإنما يدل على موقف أو رد فعل إزاء ذلك الشىء . والعاطفة ليست عملية الإبصار ، ولكنها رد الفعل إزاء الشىء المبصر والذى يجعلنا نميل ‘ليه أو يدفعنا بعيدا عنه .
    والحيوانات العليا تمارس معظم القدرات المذكورة حتى الأن . ولكن إذا كان الإنسان أكثر من مجرد حيوان فمن المحتوم أن تكون هناك قدرة خاصة تميزه من سائر الحيوانات الأخرى . وإن إلقاء نظرة على مراتب الأحياء كفيلة بأن تقودنا إلى اكتشاف تلك القدرة .
    فنحن نلاحظ أن النباتات تتحرك من خلال النمو ، غير أنها لا تدرى إلى أين تمضى . فالشجرة تمد جذورها إلى أعماق التربة ، لا لأنها تدرك أن الماء والمواد المغذية موجودان هناك . ومن جهة أخرى ، فالحيوانات تدرك بحواسها إلى أين تمضى ، ولكنها لا تدرى لماذا . فالعصفور ، مثلا بفضل قدرته على الإبصار ، ينتقى المواد المناسبة لبناء عشه ، و غير انه لا يبنى هذا العش لأنه يدرك أن ذلك ضرورى للتوالد بل إن ردود فعل العصفور تثيرها حوافز معينة بطريقة أليه فشمس الربيع الدافئة تجعل الغدد النخامية عند العصفور تفرز بعض الهرمونات التى تحرك نشاط بناء العش والعصافير التى تحقن بهرمون الإستروجين الأنثوى تشرع فى بناء الأعشاش فى غير أوانها .
    النباتات تحرك نفسها ، ولكنها لا تدرى إلى أين تمضى والحيوانات تدرك إلى أين تمضى ، ولكنها لا تعرف السبب ولإكمال مراتب الأحياء لا بد من وجود مخلوقات لا تعرف فقط إلى أين تمضى ، ولكن لماذا تمضى ايضا ونحن البشر نشكل هذه المخلوقات ، والملكة التى تمكننا من فهم علل الأشياء تسمى العقل أو الفكر وهى تسمى كذلك سلطان العقل ( power reason ) لأننا بواسطتها نتعرف على علل الأشياء وما من قوة حسية تستطيع أن تؤدى هذه الوظيفة . فاللسان ، مثلا ، يدلنا على أن البحر مالح ولكنه لا يفسر لنا علة ملوحته .
    والعقل كذلك يمكننا من إدراك ما هية الأشياء و هو أمر لا تستطيع الحواس القيام به ولا ملكة الخيال ذاتها فإذا حاولنا مثلا أن نتخيل ما هو الحيوان فالصورة التى ترتسم فى أخيلتنا الحسية تختص بحيوان بعينه له صفات محددة من حيث الحجم والشكل واللون ومن المستحيل تكوين صورة حسية لما يشترك فيه جميع الحيوانات ومع ذلك فليس من المستحيل على العقل أن يفهم ما هو الحيوان .
    والمكان الذى يتحدث عنه أينشتاين لا يمكن تصوره يقول عالم الفيزياء الفلكية وليم كوفمان ( william kaufman ) ما نصه : ومن المستحيل عمليا أن نتصور متصل المكان و الزمان الملتوى ذا الأبعاد الأربعة فالمكان الرباعى الأبعاد لا يستطيع أن يحس به أو يتخيله حتى علماء الفيزياء والرياضيات ولكن يمكن فهمه والعقل فى مجال العلوم يسمو على قيود الخيال وهو حاسة داخلية فالعقل البشرى إذا ليس متميزا من الخيال فحسب بل هو قدرة إدراكية تفوقه بكثير والعقل لا الحواس هو الذى يصنع العلم لأنه وحده يستطيع أن يستكشف ماهية الأشياء وعللها .
    والعقل يطلق عليه أحيانا اسم الفهم ( understanding ) وهى تسمية مناسبة لأن طبيعة الأشياء تمكن تحت صفانها الظاهرية التى تفهمها الحواس ومن هنا فتسمية الفهم مشتقة من قدرة العقل على معرفة ماهيه الأشياء وعللها .
    وأخيرا هناك ملكة أخرى تفصلنا عن عالم الحيوان وهى الإرادة ومن اليسير التمييز بين الإرادة والعاطفة لأن الاثنين يمكن أن تتصادما و الأعمال الجريئة تبرهن على أن الإرادة تفرض نفسها حتى على الخوف من الموت فالعواطف تثيرها الحواس ولكن الإرادة تختار وفقا لما يراه العقل ( reason ) بل إننا كثيرا ما نقول إن فلانا من الناس قد تغلب على عاطفته لأنه كان عنده سبب وجيه للقيام بذلك فالحيوان يتبع حكم الإحساس والعاطفة ولكن الإنسان يتمتع بقدرة على الاختيار وفقا لما يفهمه عقله .
    أما وقد رأينا ما يميز العقل البشرى والإرادة البشرية من ملكاتنا الأخرى ففى وسعنا الأن أن نعود إلى مسالة ما تقوله النظرة الجديدة بشأن العقل والإرادة وفيما يتعلق بالعلاقة بين العقل والإرادة تم بعض أروع اكتشافات القرن العشرين خلال عمليات جراحية أجراها ويلدربنفيلد على أدمغة ما يربو على ألف مريض فى حالة الوعى وملاحظات بنفيلد حول وظيفة الدماغ تفوق فى حجيتها وكمالها جميع الإدلة السابقة غير المباشرة المستفادة من بحوث أجريت على حيوانات ومن عمليات جراحية أجريت على أدمغة أشخاص مبنجين وكان بنفيلد ، و الذى يعود له الفضل الأول فى ادماج مباحث الأعصاب وفسيولوجيا الأعصاب وجراحة الأعصاب ، وقد شرع فى بحوثه الرائدة فى الثلاثينات من هذا القرن غير أن الأثار الكاملة المترتبة على اكتشافه لم تتضح إلا حين نشر كتابه المسمى ( لغز العقل ) ( the mystery of the mind ) .
    إن بعض أنواع الصرع قابل للعلاج عن طريق الجراحة فبعد أن يبنج الجراح المريض تبنيجا عاما ، ويزيل بطريقة جراحية جزءا من جمجمته لتعريض الدماغ يعيده إلى وعيه ونظرا لانعدام الإحساس فى الدماغ نفسه يستطيع الجراح أن يستكشفه بواسطة الالكترود ( القطب الكهربائى ) وأن يحدد مستعينا بالمريض موقع الخلايا التى تسبب النوبات الصرعيه وأن يزيل هذه الخلايا .
    وفى عام 1993 اكتشف بنفيلد بمحض الصدفة أن تنبيه مناطق معينه فى الدماغ بالكهرباء تنبيها خفيفا يحدث استرجاعا فجائيا للذاكرة عند المريض الواعى لقد ساورت بنفيلد الشكوك أول الأمر ، ثم أخذته الدهشه فعندما لامس الالكترود قشرة مخ شاب تذكر هذا الشاب أنه كان جالسا يشاهد لعبة ( بيسبول ) فى مدينة صغيرة ويراقب ولدا صغير يزحف تحت السياج ليلحق بجمهور المتفرجين وهناك حالة مريضة أخرى سمعت الات موسيقية تعزف لحنا من الألحان ويروى بنفيلد هذا الخبر فيقول اعدت تنبيه الموضع نفسه ثلاثين مرة محاولا تضليلها وأمليت كل استجابة على كاتبه الاختزال وكلما أعدت تنبيه الموضع كانت المريضة تسمع اللحن من جديد وكان اللحن يبدأ فى المكان نفسه .ويستمر من اللازمة إلى مقطع الاغنية وعندما دندنت ، مصاحبة الموسيقا ، وكان ايقاعها يسير بالسرعة المتوقعة له .

    وكان المرضى يحسون دائما بالدهشة لتذكر الماضى بمثل هذه التفاصيل الحية ويفترضون على الفور أن الجراح هو المسؤول عن تنبيه الذاكرة التى ما كانت تتاح لولاه وكان كل مريض يدرك أن التفاصيل هى من واقع تجارية الماضية وكان من الواضح أن الأشياء التى كان قد أولاها عنايته هى وحدها التى أودعها فى محفوظات دماغه .
    وكان بنفيلد من وقت لأخر يحذر المريض أنه سينبه دماغه ولكنه لا يفعل ذلك وفى مثل هذه الحالات لم يكن المريض يذكر أى ردود فعل إطلاقا .
    ثم إن ملامسة المنطقة الخاصة بالنطق فى الدماغ تؤدى إلى فقدان نؤقت للقدرة على الكلام ( حبسه ) عند المريض ونظرا لانعدام الإحساس فى الدماغ فالمريض لا يدرك أنه مصاب بالحبسه إلا عندما يحاول أن يتكلم أو يفهم الكلام فيعجز عن ذلك ويروى بنفيلد ما حدث ذات مرة ( أخذ أحد مساعدى يعرض على المريض صورة فراشة وضعت الالكترود ( القطب الكهربائى ) حيث كنت أفترض وجود قشرة المخ الخاصة بالنطق فظل المريض صامتا للحظات ثم طقطق باصابعه كما لو كان غاضبا ثم سحبت الالكترود فتكلم فى الحال وقال : الأن أقدر على الكلام إنها فراشة لم اكن قادرا على النطق بكلمة ( فراشة ) فحاولت أن أنطق بكله ( عثة )
    لقد فهم الرجل بعقله الصورة المعروضة على الشاشة وطلب عقلة من مركز الكلام فى دماغه أن ينطق بالكلمة التى تقابل المفهوم المائل فى ذهنه وهذا يعنى أن ألية الكلام ليست متماثلة مع العقل ، وإن كانت موجهة منه فالكلمات هى أدوات تعبير عن الأفكار ، ولكنها ليست الأفكار ذاتها وحين عجز المريض عن التفوه بالكلمة لانسداد الكلام عنده استغرب وأمر بالبحث عن اسم شىء مشابه هو ( العثه ) وعندما فشل ذلك أيضا طقطق بأصابعه غضبا ( إذ إن هذا العمل الحركى لا يخضع لمركز الكلام ) وأخيرا عندما انفتح مركز الكلام عند المريض شرح تجربته الكاملة مستخدما كلمات تناسب أفكاره وقد استنتج بنفيلد أن المريض حصل على كلمات من الية الكلام عندما عرض مفاهيم ونحن نستطيع الاستعاضة عن ضمير الغائب فى عملية الاستبطان هذه بكلمة عقل فعمل العقل ليس عملا أليا )
    وتوصل بنفيلد إلى نتائج مماثلة فى مناطق الدماغ التى تضبط الحركات : ( عندما جعلت أحد المرضى يحرك يده بوضع الالكترود على القشرة الحركية فى أحد نصفى كرة دماغه كنت أساله مرارا عن ذلك وكان جوابه على الدوام ( أنا لم احرك يدى ولكنك أنت الذى حركتها ) وعندما أنطقته قال : أنا لم أخرج هذا الصوت أنت سحبته منى )
    وهذه الحركات اللااديه تشبه إجفال ساق المريض لنقرة خفيفة بمطرقة الطبيب وكلنا يدرك أن مثل هذه الحركات ليست أفعالا إرادية ويلخص بنفيلد ذلك بقوله : إن الالكترود يمكن أن يخلق عند المريض احاسيس بسيطة متنوعة كأن يجعله يدير رأسه أو عينيه أو يحرك أعضاءه أو يخرج أصواتا أو يبلغ وقد يعيد إلى الذاكرة إحساسا حيا بتجارب ماضية ، أو يوهمه بأن التجربة الحاضرة هى تجربة مألوفة أو أن الأشياء التى يراها تكبر وتدنو منه ولكن المريض يظل بمعزل عن كل ذلك وهو يصدر أحكاما على كل هذه الأمور وربما قال : إن الأشياء تكبر ) ولكنه يستطيع مع ذلك أن يمد يده اليسرى ويقاوم هذه الحركة .
    ونتيجة مراقبة مئات المرضى بهذه الطريقة ينتهى بنفيلد إلى أن عقل المريض الذى يراقب الموقف بمثل هذه العزلة والطريقة النقدية لا بد من أن يكون شيئا أخر يختلف كليا عن فعل الاعصاب اللاإرادي ومع أن مضمون الوعى يتوقف إلى حد كبير على النشاط فالإدراك نفسه لا يتوقف على ذلك .
    وباستخدام أساليب المراقبة هذه استطاع بنفيلد أن يرسم خريطة كاملة تبين مناطق الدماغ المسؤولة عن النطق و الحركة وجميع الحواس الداخلية و الخارجية غير انه لم يكن فى المستطاع تحديد موقع العقل أو الإرادة فى اى جزء من الدماغ فالدماغ هو مقر الإحساس زالذاكرة والعواطف والقدرة على الحركة ولكنه فيما يبدو ليس مقر العقل أو الإرادة .
    ويعلن بنفيلد أنه ما من عمل من الأعمال التى نعزوها إلى العقل قد ابتعثه التنبيه بالالكترود أو الإفراز الصرعى ) ويضيف قائلا : ( ليس فى قشرة الدماغ أى مكان يستطيع التنبيه الكهربائى فيه أن يجعل المريض يعتقد أو يقرر شيئا و الالكترود يستطيع أن يثير الأحاسيس و الذكريات غير أنه لا يقدر أن يجعل المريض يصطنع القياس المنطقى ، أو يحل مسائل فى الجبر بل إنه لا يستطيع أن يحدث فى الذهن أبسط عناصر الفكر المنطقى والالكترود يستطيع أن يجعل جسم المريض يتحرك ولكنه لا يستطيع أن يجعله يريد تحريكه إنه لا يستطيع أن يكره الإرادة فواضح أذا أن العقل البشرى و الإرادة البشرية ليس لهم أعضاء جسدية .
    وبناء على ما تقدم لا ترى النظرة الجديدة استحالة فى تاثر الإرادة فى المادة ويشرح اكلس ذلك فيقول : تعلمت بالتجربة الثابتة أننى بالتفكير والإرادة أستطيع أن أتحكم بافعالى إذا شئت ذلك وليس فى وسعى أن أفسر تفسيرا علميا كيف يستطيع التفكير أن يؤدى إلى الفعل ، ولكن هذا العجز يأتى مصداقا لكون علوم الفيزياء والفسيولوجيا فى وضعها الراهن بدائية للغاية وأعجز من أن تتصدى لهذه المهمة العسيرة وحين يؤدى التفكير إلى الفعل أجدنى مضطرا كعالم متخصص فى الأعصاب إلى افتراض أن تفكيرى يغير بطريقة تستعصى على فهمى تماما أنماط النشاط العصبى التى تؤثر فى دماغى وهكذا يصبح التفكير يتحكم بشحنات النبضات الناشئة فى الخلايا الهرمية الشكل للقشرة الحركية فى دماغى كما يتحكم أخر الأمر بتقلصات عضلاتى والأنماط السلوكية الناشئة منها .
    فاذا كانت الإرادة البشرية غير مادية فليس مما ينافى العقل أن تتصرف بغير طرق المادة أى بحرية اختيار ومن ثم فالنظرة الجديدة لا ترى فى الاعتراف باستقلال الإرادة فينا أى مجانبة للأسلوب العلمى ويخلص من ذلك إلى أنه ليس هناك إذا أسباب علمية وجيهة لإنكار حرية الإرادة ، والتى لا بد من افتراض وجودها إذا أردنا ان نتصرف كباحثين علميين بل إن إنكار حرية الإرادة يجعل من العلم كله أمرا منافيا للعقل فعلى العالم ألا يسأل : ما هو الصحيح ؟ بل ما هو الذى نحن مهياون لاعتقاده ويقول الفيزيائى كارل فون فايتز ساكر ( الحرية شرط من شروط التجربة فانا لا أستطيع أن أجرى التجارب إلا حين لا يكون فها فعلى وتفكيرى محكومين بالظروف والحوافز والعادات بل بحرية اختيارى )
    زد على ذلك أن النظرة الجديدة لا ترى فى قدرة العقل على توجيه انشطة الدماغ أمر مستحيلا ويصف عالم الأعصاب روجر سبرى الثورة الفكرية التى حدثت فى علم النفس خلال السبعينات من هذا القرن والتى أحدثت انقلابا مثيرا فى معالجة الوعى فيقول : ( لقد قلبت المبادىء السلوكية التى سادت طوال نصف قرن ونيف وأخذ علم النفس فجاة يعالج أحداث ذاتية كالصور الذهنية والأفكار الباطنية والأحاسيس و المشاعر و الأفكار وما إليها بوصفها عوامل ذات دور سببى حقيقى فى وظيفة الدماغ وفى السلوك وأصبحت مضامين الأستبطان وعالم التجارب الداخلية كلها مقبولة على نحو فجائى كعوامل تستطيع أن تؤثر فى العمليات الفيزيائية والكيميائية التى تتم فى الدماغ ولم تعد تعامل بوصفها جوانب منفعلة وغير موجودة .
    وينتهى سبرى من ذلك إلى أن الخواص المخية العليا للعقل والوعى هى التى تملك زمام الأمر فهى تكتنف التفاصيل الفيزيائية والكيميائية وتحملها وتهيمن عليها وهى التى تحدد الحركات وتتحكم نزوليا بحركة النبضات العصبية ونموذجنا الجديد أى المبدأ الذهنى – هو الذى يشغل العقل والخواص الذهنية ويعطيها سبب وجودها وتطورها فى نظام مادى .
    إن المعرفة والقيادة تتطلبان قدرا من البعد فلا يمكن أن يمون العقل ظاهرة ثانوية مصاحبة لألية الأعصاب إذا أريد له أن يعاين ويوجه الكل ويقول بنفيلد : ( أن العقل لا الدماغ هو الذى يراقب ويوجه فى أن معا فالعقل هو المسؤول عن الوحدة التى نحس بها فى جميع أفعالنا وأفكارنا و أحاسيسنا وعواطفنا ويضيف اكلس ( إن وحدة التجربة الواعية يتيحها العقل الواعى نفسه لا ألية الأعصاب )
    ولو كان الدماغ حاسبة الكترونية بالغة التعقيد فلا بد له إذا شأنه شأن الحاسبة من أن يوجه من قبل العقل ويقول بنفيلد ( إن الحاسبة الالكترونية و الدماغ هو كذلك لا بد من أن تبرمجها وتديرها قوى قادرة على الفهم المستقل ويحدد بنفيلد دور العقل هكذا : ( إن ما تعلمنا أن نسميه العقل هو الذى يركز الانتباه فيما يبدو والعقل يعى ما يدور حوله وهو الذى يستنبط و يتخذ قرارات جديدة وهو الذى يفهم ويتصرف كما لو كانت له طاقة خاصة به وهو يستطيع أن يتخذ القرارات وينفذها مستعينا بمختلف أليات الدماغ و هكذا فان توقع العثور على العقل فى احد اجزاء الدماغ او فى الدماغ كله ، واشبه بتوقع كون المبرمج جزءا من الحاسبة الالكترونية .
    وبناء على الأدلة سالفة الذكر لا يرى بنفيلد أى أمل فى النهج المادى للنظرة القديمة إزاء العقل فيعلن : إن توقع قيام ألية الدماغ العليا أو أى مجموعة من ردود الفعل ، مهما بلغت من التعقيد بما يقوم به العقل ، وبأداء جميع وظائفة أمر محال تماما ويوافق عالم الإحياء أدولف بورتمان على ذلك فيقول : ( ما من كمية من البحث على النسق الفيزيائى أو الكيميائى .يمكنها أبدا أن تقدم صورة كاملة للعمليات النفسية والروحية والفكرية .
    كما أن بنفيلد لا يتوقع أن يقوم علم وظائف الأعضاء فى المستقبل كما كانت تتوقع النظرة القديمة بإظهار اتبثاق العقل من المادة فيقول : ( يبدو من المؤكد أن تفسير العقل على أساس النشاط العصبى داخل الدماغ سيظل أمر مستحيلا كل الاستحالة ) ولذلك فهو يرى أنه أقرب إلى المنطق أن نقول أن العقل ربما كان جوهرا متميزا ومختلفا عن الجسم )
    ومن دواعى السخرية أن بنفيلد بدا أبحاثة بهدف اثبات العكس تماما فيقول : ( طوال حياتى العلمية سعيت جاهدا كغيرى من العلماء إلى إثبات أن الدماغ يفسر العقل فهو قد بدأ مسلحا بجميع افتراضات النظرة القديمة غير أن الأدلة حملته أخر الأمر على الإفراد بأن العقل البشرى و الارادة البشرية حقيقتان غير ماديتين ويعلن بنفيلد ياله من أمر مثير إذا ، أن نكشف أن العالم يستطيع بدوره أن يؤمن عن حق بوجود الروح وإذا كان العقل والإرادة غير مادتين فلا شك أن هاتين الملكتين على حد تعبير اكلس ( لا تخضعان بالموت للتحلل الذى يطرأ على الجسم والدماغ كليهما ) .

    -----------يتبع ----------

  8. افتراضي القـــــــــرآن والعلم الحديث

    يرفع للفائدة. وكذلك يوجد كتاب جيد للبرفيسور موريس بوكاى تحت الرابط:

    القـــــــــرآن والعلم الحديث

  9. افتراضي

    الفصل الثالث
    الجمال

    يقول الفيزيائي لويس دوربروجلي (Louis de Broglie): «وكان الإحساس بالجمال في كل عصر من تاريخ العلوم دليلاً يهدي العلماء في أبحاثهم». والجمال كان ولم يزل مبدأ أساسياً من مبادئ العلوم. ولكن المادة، وفقاً للنظرة القديمة، ليس لها إلا خواص كمية كالوزن والحجم والشكل والعدد. وحيث إن الجمال ليس من جملة هذه الخواص فالنظرة القديمة تميل إلى اعتباره خاصة من خواص المراقب، لا صفة من صفات الأشياء الطبيعية. وفي عام 1630 كتب ديكارت (Descartes) يقول: «لا يدل الجميل ولا البهيج على أكثر من موقفنا في الحكم على الشيء المتكلم عنه». ويوافق سبينوزا (Spinoza) على ذلك فيقول: «الجمال ليس صفة في الشيء المدروس بقدر ما هو الأثر الذي ينشأ في الإنسان نفسه الذي يدرس ذاك الشيء».
    وقد أحدث هذان المفكران وآخرون غيرهما تيارا قوياً دام زماناً طويلاً. وبعد ذلك بقرنين من الزمان أبان تشارلز داروين (Charles Drawin) عن موقف النظرة القديمة من الجمال فكتب يقول : «من الجلي أن الإحساس بالجمال يتوقف على طبيعة العقل بصرف النظر عن أي صفة حقيقية في الشيء محل الإعجاب».
    وكان فرويد (Freud) يشعر أنه مضطر إلى حصر الجمال في دائرة الغريزة قائلاً: «من دواعي الأسف أن التحليل النفسي ليس عنده ما يقوله عن الجمال. وكل ما يبدو مؤكداً أنه مستمد من مجال الشعور الجنسي».
    فإذا لم يكن الجمال صفة من صفات الطبيعة، كما تزعم النظرة القديمة، فهناك أمران اثنان يترتبان على ذلك: أولهما أن الجمال، على رغم احتمال كونه متعة شخصية، لا يمكن أن يكون موضع جدل علمي إذ أنه لا يعيننا بتاتا في اكتشاف حقائق الطبيعة. وثانيهما أن الفنون الجميلة، بقدر ما تنشد الجمال، لا يمكن أن يكون بينها وبين العلوم أي شيء مشترك. وفي النظرة القديمة تصور العلوم أحياناً على أنها باردة المشاعر، ولكنها واقعية، والفنون على أنها دافئة المشاعر، ولكنها هوائية المضمون، بحيث يتوقع من علم الحشرات أن يسكت عن جمال الفراشة سكوت الشعر عن خمائرها الهضمية.
    وعلى نقيض ذلك، نجد الجمال في النظرة الجديدة وسيلة من وسائل اكتشاف الحقيقة العلمية. من ذلك مثلا أن جيمس واتسن (James Watson) في كتابه «اللولب المزدوج (The Double Helix) يذكر كيف أن الجمال هدى إلى اكتشاف التركيب الجزيئي لـ دن DNA فيقول: «كنا نتناول طعام الغداء ويقول كل منا للآخر إنه لابد من وجود تركيب على هذا الجانب من الجمال. «وأقر جميع الحاضرين تقريباً بأن تركيباً في مثل هذا الجمال لابد من أن يكون موجوداً».
    ويجمع أبرز علماء الفيزياء في القرن العشرين على أن الجمال هو المقياس الأساسي للحقيقة العلمية. فالفيزيائي رتشارد فينمان Richard Feynmann)) يرى «أن المرء يمكن أن يستبين الحقيقة بفضل جمالها وبساطتها». ويعلن هايزنبيرغ (Heisenberg) إن «الجمال في العلوم الدقيقة وفي الفنون على السواء هو أهم مصدر من مصادر الإستنارة والوضوح».
    وكبار علماء الفيزياء النظرية في عصرنا هذا أحرزوا كشوفاً كبيرة بنشدانهم الجمال. ويلاحظ فيرنر هايزنبيرغ فيما يتعلق بميكانيكا الكم- وهو المجال الذي قام فيه ببحوث رائدة- أنه ثبت في الحال أن «النظرية مقنعة بفضل كمالها وجمالها التجريدي». وعلماء الفيزياء يرون أن نظرية النسبية العامة هي أجمل النظريات الفيزيائية الموجودة على الإطلاق. ويشيد ايرون شرودنغر (Schrodinger Erwin) بها على هذا النحو: «إن نظرية إينشتاين المذهلة في الجاذبية لا يتأتى اكتشافها إلا لعبقري رزق إحساساً عميقاً ببساطة الأفكار وجمالها». كما أشار أينشتاين نفسه إلى جمال هذه النظرية في خاتمة مقالته الأولى عن الجاذبية حيث قال: «لا يكاد أحد يفهم هذه النظرية تمام الفهم يفلت من سحرها».
    والجمال معيار أساسي في الفيزياء لدرجة أنه يقدم حتى على التجربة. ويعلن الفيزيائي بول ديراك (Paul Dirac) أن «وجود الجمال في معادلات العالم أهم من جعل هذه المعادلات تنطبق على التجربة». ونستطيع أن نفهم ذلك إذا تصورنا العالم النظري أمام كمية ضخمة من البيانات التجريبية المذهلة. فأي النتائج هي الأهم؟ وكيف ينبغي أن تفسر جميعها؟ ما هو النمط الملاحظ؟ والجمال في هذا المقام دليل جدير بالثقة. يقول الفيزيائي جورج تومسون (George Thomsort: «إن المرء يستطيع دائماً أن يقدم نظرية، أو عدداً كبيراً من النظريات، لتفسير حقائق معروفة، بل للتنبؤ بحقائق جديدة أحياناً. والجمال هو الفيصل. فالنظريات بعضها صعب المأخذ ومحدود النطاق وتعسفي. وقلما تدوم هذه طويلاً».
    بل إن الجمال يتحدى «الحقائق». ومن الأمثلة التوضيحية على ذلك واللافتة للنظر ما نجده في بحث علمي قدمه الفيزيائيان ريتشارد فينمان ومرى جيل – مان (Murry Gell-Mann) عام 1958 وعرضاً فيه نظرية جديدة لتفسير التفاعلات الضعيفة. وكانت النظرية تناقض بشكل صارخ عدداً من التجارب.
    أما الجانب الرئيس الجذاب فيها فكان الجمال. وقال العالمان فينمان وجيل- مان: «إنها نظرية عالمية متناسقة وهي أبسط الإمكانات، مما يدل على أن تلك التجارب غير صحيحة». ويعلق جيل –مان على ذلك بقوله: «غالباً ما يطرح العالم النظري مقداراً كبيراً من البيانات على أساس أنها إذا كانت لا تنسجم مع خطة أنيقة فهي غير صحيحة. وقد حدث هذا معي مرات عديدة، كما في نظرية التفاعلات الضعيفة: لقد كانت هناك تسع تجارب تناقض النظرية وكلها بلا استثناء غير صحيحة. فإذا كانت لديك نظرية بسيطة تتفق مع سائر قوانين الفيزياء، ويبدو أنها تفسر فعلاً ما يحدث، فلا عليك أن وجدت كمية قليلة من البيانات التجريبية التي لا تؤيدها. فمن المؤكد تقريباً أن تكون هذه البيانات غير صحيحة».
    إن الجمال في الفيزياء هو السمة الغالبة. فالتجربة تخطئ في الغالب والجمال قلما يخطئ. فإذا اتفق أن وجدت نظرية أنيقة للغاية لا تنسجم مع مجموعة من الحقائق فهي لا محالة واجدة لها تطبيقاً في مجال آخر. فخلال العشرينات من هذا القرن، مثلاً، أصبح الرياضي والفيزيائي هرمان فيل (Herman Weyl) مقتنعاً بأن نظريته في القياس لا تنطبق على الجاذبية، ولكنه نظراً لكمالها الفني لم يرد التخلي عنها كلياً. وقد تبين بعد ذلك بوقت طويل أن نظرية فيل نلقي ضوءاً على ديناميكاً الكم الكهربائية، فجاء ذلك مصداقاً لحسه الجمالي.
    والجمال –وهو أبعد ما يكون عن الأسلوب غير العلمي- يبث الحياة في العلم. والجمال الذي يبحث عنه الفيزيائيون ليس نتاج عاطفة فردية أو خصوصية، بل هو على عكس ذلك. فالفيزيائيون أنفسهم يشيرون إلى ثلاثة عناصر محددة للجمال. ويلخص أينشتاين هذه العناصر الثلاثة للجمال العلمي بعبارة واحدة فيقول: «النظرية تكون أدعى إلى إثارة الإعجاب كلما كانت مقدماتها أبسط، والأشياء التي تربط بينها أشد اختلافاً، وصلاحيتها للتطبيق أوسع نطاقاً».
    فالبساطة إذاً هي العنصر الأول من عناصر الجمال. ويقصد بعبارة «الأشياء التي تربط بينها أشد اختلافاً» الطريقة التي تنسق بها النظرية بين أمور متباينة. وهكذا نستطيع أن نطلق على العنصر الثاني اسم «التناسق». واتساع نطاق تطبيق النظرية يراد به روعتها، لأي مدى وضوح النظرية بحد ذاتها وإلقائها الضوء على غيرها من الأشياء. إن العبارة التي استخدمها جيل –مان والتي وردت آنفاً نظرية بسيطة تنسجم مع سائر قوانين الفيزياء، ويبدو أنها تفسر فعلاً ما يحدث «تصور الجوانب الثلاثة للجمال بعبارة واحدة مختصرة -البساطة والتناسق والروعة- ويتطلب كل من هذه العناصر شرحاً موجزاً.
    البساطة- توجد نظريات أخرى في الجاذبية إلى جانب نظرية أينشتاين، ولكن ما من نظرية من النظريات تؤخذ مأخذ الجد لافتقارها إلى البساطة. ويلاحظ عالم الفيزياء الفلكية روجر بنروز (Roger Penrose) أن «معظم النظريات المنافسة ثبت بطلانها بالحجج المقنعة. أما القلة القليلة الباقية فهي على الأغلب مستنبطة مباشرة بحيث تنسجم مع تجارب سبق إجراؤها بالفعل. وليس هناك أي نظرية منافسة تداني النسبية العامة في أناقتها وبساطة افتراضها».
    ومبدأ البساطة يستلزم شيئين اثنين –الكمال والاقتصاد- ويقول لنا عالم الرياضيات والفيزياء هنري بوانكاريه (Henri Poincare) «لأن في البساطة والضخامة كلتيهما جمالاً فنحن نؤثر البحث عن حقائق بسيطة وعن حقائق كبيرة». والنظرية الجميلة بهذا المعيار لابد لها من أن تأخذ في الحسبان كل الحقائق، وألا تشمل إلا ما هو ضروري. فلا تفريط ولا إفراط. أجل إنه معيار يصعب استيفاؤه. ويقول هازنبيرغ عن نظرية الكم: «لقد اتضح على الفور أنها مقنعة بفضل كمالها وجمالها التجريدي».
    التناسق- يعلن أينشتاين أنه «لا علم من غير الاعتقاد بوجود تناسق داخلي في الكون». ويصف هايزنبيرغ التناسق بأنه «انسجام الأجزاء بعضها مع بعض ومع الكل». والنظرية الجيدة في أي علم من العلوم هي التي توفق بين حقائق عديدة لم تكن فيما مضى تربط بينها صلة. كما أن التناسق يدل ضمناً على التماثل. إن في جميع قوانين الفيزياء تماثلا ساراً. يقول ويلز: «إن كل قانون من قوانين الفيزياء مرده إلى شيء من التماثل في الطبيعة». ويضيف هايزنبيرغ أن «خواص التماثل تشكل على الدوام أهم سمات النظرية» وقانون نيوتن الثالث مثال معروف على التماثل في الفيزياء: لكل فعل دائماً رد فعل معاكس ومساو له». وهذا التماثل التام موجود على المستوى دون الذري حيث يقابل كل نوع من الجسيمات جسيم مضاد له الكتلة نفسها، ولكن بخصائص معاكسة. بل إن التنبؤ الصحيح بوجود العديد من الجسيمات دون الذرية تم في المقام الأول على أساس هذا التماثل.
    الروعة- للنظرية التي تتسم بهذه الصفة وضوح شديد في ذاتها. وهي تلقي ضوءاً على الكثير من الأشياء الأخرى، موحية بإجراء تجارب جديدة. إن نيوتن، مثلاً، قد أدهش العالم بتفسيره للأجسام الساقطة، ولظاهرتي المد والجزر، ولحركة الكواكب والمذنبات بثلاثة قوانين بسيطة. ويعلن جورج تومسون: «إنه لأمر جميل في الفيزياء كما في الرياضيات أن تستطيع نظرية من النظريات الجمع بين ظواهر تبدو شديدة الاختلاف، وتبين اتصال الظواهر بعضها ببعض اتصالاً وثيقاً، أو أن تجمع بين مختلف عناصر الظاهرة الواحدة». وهذا بالضبط ما تفعله نظرية النسبية العامة بطريقة أنيقة ومدهشة كما يشير إلى ذلك عالم الفيزياء الفلكية س. تشاندراسيكار (S. Chandraskhar) بقوله: «إنها تكمن أساساً في الربط بين مفهومين جوهريين بوضع أحدهما بجانب الآخر، وهما مفهومان ظلاً يعتبران حتى ذلك الحين مستقلين تمام الاستقلال: مفهومي المكان والزمان من جهة، ومفهومي المادة والحركة من جهة أخرى». وعلاوة على ذلك، أثبتت النسبية العامة روعتها غير العادية بإلقائها الضوء على علم الكونيات، والفيزياء الفلكية، وميكانيكا الكم.
    والنظرة القديمة تذهب إلى أن البساطة وغيرها من عناصر الجمال ليست من قوانين الطبيعة، ولكنها على أبعد تقدير من قوانين العقل البشري. ونيوتن لا يوافق على هذا الرأي، بل يعزو الجمال إلى المشاهد. ويؤكد ويلر أن «كل قانون من قوانين الفيزياء مرده إلى شيء من التماثل في الطبيعة»، لا إلى تماثل عقولنا. ويؤكد ماكس بورن أن «الفيزيائي الحقيقي يؤمن إيماناً راسخاً ببساطة الطبيعة وبوحدتها رغم أي ظواهر معاكسة». وقد قال هايزنبيرغ ذات مرة في حديث جرى بينه وبين أينشتاين: «أعتقد مثلك تماماً أن لبساطة القوانين الطبيعية صفة موضوعية، وأنها ليست مجرد نتيجة اقتصاد في التفكير. وإذا كانت الطبيعة تقودنا إلى صيغ رياضية على جانب عظيم من البساطة والجمال فنحن لا نملك إلا الاعتقاد بصحتها، وبأنها تكشف عن سمة حقيقية من سمات الطبيعة».
    ويضيف تشاندراسيكار قائلاً: «كلنا نحس بجمال الطبيعة، وليس مما ينافي العقل أن تشترك العلوم الطبيعية في بعض جوانب هذا الجمال». وهذا يعني مرة أخرى أن الطبيعة، لا الإنسان، هي مصدر الجمال. ولماذا نعثر على جمال في العلوم الطبيعية؟ لأن الطبيعة تزخر بالجمال. ويعلن الفيزيائي ديفيد بوم (David Bohm) أن «كل ما يمكن العثور عليه في الطبيعة يكاد يتكشف عن شيء من الجمال في الإدراك الفوري كما في التحليل الفكري على السواء». ويقول هنري بوانكاريه: «العالم لا يدرس الطبيعة لأن في دراستها منفعة، ولكنه يدرسها لأنه يجد متعة في ذلك، وهو يجد في دراستها متعة لأنها جميلة. ولو لم تكن الطبيعة جميلة لما كانت جديرة بأن تعرف ولما كانت الحياة جديرة بأن تعاش».
    ويضيف كارل فون فايتزساكر تفسيراً لذلك فيقول: «إن مبدأ الاقتصاد في التفكير الذي يتردد على الألسنة يفسر، على أحسن الفروض، سبب بحثنا عن قوانين بسيطة، ولكنه لا يفسر سبب عثورنا عليها». فالنظرة الجديدة إذا تطرح الجمال معياراً في العلوم لأن الطبيعة جميلة. ومن وجهة النظر هذه فالعالم الذي يعمى عن رؤية الجمال هو عالم ضئيل الحظ من العلم.
    ولأن الفيزياء في النظرة الجديدة تعترف بأن الجمال خاصة من خواص الطبيعية فهي بذلك تشق طريقاً مشتركاً بين العلوم والفنون الجميلة. والفيزيائي والروائي ش.ب. سنو (C.P. Snow)، بعد خبرته في كل من العلوم والفنون، مؤهل بطريقة غير عادية للتحدث عن الجمال الموجود في كلا المجالين. فهو يقول: «كل من اشتغل في أي وقت بعلم من العلوم يعرف مدى ما حصل عليه من لذة جمالية. أي أن أحدنا، في ممارسته الفعلية للنشاط العلمي وفي ميسرته إلى اكتشاف ما، بالغاً ما بلغ من التواضع، لا يملك إلا أن يحس بوجود الجمال. فالتجربة الذاتية، تجربة المتعة الجمالية، هي على ما يظهر عين المتعة التي يحصل عليها المرء من نظم قصيدة، أو تأليف رواية أو قطعة موسيقية. لا أخال أحداً استطاع أن يميز بين الأمرين. وتاريخ الكشوف العلمية المدون زاخر بهذه اللذة الجمالية. وخير إيضاح لذلك، فيما أعلم، ورد في كتاب صنفه غ. هـ. هاردي (G.H. Hardy) تحت عنوان «دفاع عالم رياضيات» (Apology A Mathematican(. وقد قال الروائي غراهام (Graham Greene) ذات مرة إنه يعتقد أن هذا الكتاب يعد، إلى جانب توطئات هنري جيمز، خير رواية على الإطلاق كتبت عن التجربة الفنية».
    وعناصر الجمال لا توجد في الفيزياء فحسب، بل إن لها أيضاً ما يناظرها في الفنون. فالبساطة مثلاً، هي بجلاء هدف من أهداف الفنان. ومن المسلم به عموماً أن الآثار الفنية الجليلة تفي بالمعيار الصارم المتمثل في تفادي النقصان أو الحشو. ومن المؤكد أن ألبرت دورر (Albert Durer) كان يفكر بمبدأ البساطة حين أسدى للفنانين هذه النصيحة: «هناك وسط عدل بين الإفراط والتفريط. حاولوا أن تهتدوا إليه في جميع أعمالكم». ويثني فنسانت فان جوخ (van Gogh Vincent) على بساطة واقتصاد الفنانين اليابانيين فيقول: "آثارهم سهلة سهولة التنفس. وهم يرسمون شكلاً من الأشكال بجرات قليلة كما لو كان الأمر سهلا سهولة تزرير معطفك. آه، ينبغي أن أفلح ذات يوم في أن أرسم شكلاً بجرات قليلة». ويتحدث يوهانز برامز (Johammes Brahms) عن صعوبة تحقيق البساطة في الموسيقا فيقول: «ليس التأليف صعباً، ولكن الصعب صعوبة مذهلة أن تطرح جانباً ما كان زائداً من النغمات». وكما أن النظرية العلمية الجميلة فسيحة الأفق على بساطتها كذلك تعبر اللوحة الممتازة عن مجموعة واسعة النطاق من التجارب بطريقة بسيطة. يقول هنري ماتيس (Henry Matisse): «أود أن أصل إلى تلك الحالة من تكثيف الأحاسيس التي تشكل لوحة الرسم».
    وفي وسعنا أن ندمج في العنصر الثاني –التناسق- التماثل والتناسب اللذين يشير إليهما الفيزيائيون. يقول دورر: «من دون التناسب الصحيح لا يمكن لأي شكل أن يكون كاملاً مهما اجتهد في إنجازه». وبغية التحقق من التماثل والتوازن كان النحات والفنان ألبيرتي (Alberti)، الذي عاش في عصر النهضة، يوصي بالنظر إلى شكل اللوحة المنعكس في المرآة فيقول: «إنه لأمر عجيب كيف أن أي عيب في اللوحة يكشف عن بشاعته في المرآة. ولذلك ينبغي للأشياء المستمدة من الطبيعة أن تعدل باستخدام المرآة». والمشكال (Kaleidoscope) الذي يستخدمه الأطفال يبين كذلك كيف أن التماثل المنعكس يمكن أن يضفي الجمال على الأشياء الباهتة.
    وقد شبه الملحن كريستوف غلوك (Christph Gluck)، الذي عاش في القرن الثامن عشر، التناسق في الموسيقا بالتناسب في الشكل المرسوم فقال: «إن أدنى تغيير في الخط الكفافي (Outline)- وهو أمر لا يقضي بتاتاً على الشكل في رسم كاريكاتوري- يمكن أن يشوه كلياً صورة لسيدة حسناء. واعظم الجوانب الجمالية للحن أو للتناسق تصبح عيوباً ونقائص إذا استخدمت في غير مكانها المناسب». والرسامون يتحدثون عن «الصداقة» بين ألوان معينة وعن تناسقها الطبيعي. ويصف ماتيس هدفه في الرسم فيقول: «متى عثرت على العلاقة اللازمة بين جمع درجات إشراق الألوان لابد من أن تكون النتيجة تناسقاً حياً بين الألوان، وهو تناسق يشبه التناسق في قطعة موسيقية. وأظل أسعى وأواصل السعي من أجل تحقيق هذا التناسب في جميع أجزاء القطعة إلى أن أجده». والهدف الذي يسعى إليه ماتيس مشابه لهدف عالم الفيزياء النظرية الذي يسعى جاهداً إلى تنسيق البيانات في أبسط صورة لها.
    والعنصر الأخير من عناصر الجمال هو التألق. يقول ادوار مانيه (Edouard Manet): «الضوء هو الشخصية الرئيسة في لوحة الرسم». ويقترح ليوناردو دا فينشي (Leonardo da Vinic)، في الكتيب الذي وضعه عن فن الرسم، رسم أشخاص رسماً تخطيطياً وهم يجلسون في مدخل بيت مظلم فيقول: «هذا الأسلوب في معالجة وتكثيف الضوء والظل يضيف الشيء الكثير إلى جمال الوجوه». غير أن الضوء يكتسب بهاء خاصا وإشراقاً قوياً عندما يقسم إلى ألوان. ومن هنا جمال غروب الشمس، وقوس قزح، والأسماك الاستوائية، والفراش، والأزهار، ومن دواعي إعجابنا بالرسوم الانطباعية التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر أنها تؤكد على الجمال الاستثنائي للضوء واللون.
    أما بخصوص الموسيقا فمما لا سبيل إلى إنكاره أن وضوح الصوت عنصر من عناصر جماله. يقول آرون كوبلاند (Aaron Copland): «أن الجرس في الموسيقا هو نظير الضوء في لوحة الرسم». فالجرس أو «اللون النغمي» يمكن الأذن من التمييز بين الناي والبوق حتى حين تعزف الآلتان كلناهما النغمة نفسها. وفي القرن التاسع عشر أخذ الملحنون يستخدمون اللون النغمي لإنتاج تألق موسيقي أشبه بتألق الألوان الملاحظ في الرسوم اللانطباعية. ويعلق رمسكي –كورساكوف (Rimsky -Korsakov) على هذه الحركة في الموسيقا بقوله: «إن عصرنا الذي أعقب عصر فاغنر هو عصر التألق والإبداع الخيالي في تلوين الجرس الأوركستري. وقد بلغ برلييوز (Berlioz) وغلينكا (Glinka)، وليست (Liszt)، وفاغنر (Wagner) وغيرهم بهذا الجانب من الفن الموسيقي الذروة، فتفوقوا بهذه الصفة على أسلافهم» إذاً فالتألق واللون كلاهما من عناصر الجمال في الرسم والموسيقا على السواء.
    ويشدد الفيزيائي ستيفن فاينبيرغ (Steven Weinberg) على الوحدة الجديدة بين العلم والفنون الجميلة فيقول: «هناك أوجه شبه معينة بين العلم والفن، أولها أن العلماء يلتمسون الجمال والبساطة، ونحن نلتمس ذلك لاعتقادنا بان القوانين الأساسية التي تشكل ركائز الطبيعة لابد من أن تكون بسيطة. ولذلك نفتش عن أوجه بساطة قد تعكس أوجه البساطة المطلقة في نواميس الطبيعة. وقد اكتشفنا في مجال تخصصي- وهو فيزياء الجسيمات الأولية –أن الطبيعة أبسط كثيراً مما تبدو في ظاهرها. وهذه البساطة تتخذ شكل مبادئ التماثل. ومن ذلك مثلا أن هناك تماثلاً عميقاً بين جسمين أوليين –النيوترون والإلكترون- رغم ما يبدو في الظاهر من اختلاف تام بين خواص كل منهما».
    ويشير فاينبيرغ إلى وجه شبه آخر يكمن في الطريقة التي يعمل بها كل من العلماء والفنانين فيقول: «العلماء، شأنهم في ذلك شأن الفنانين، يعتمدون اعتماداً شديداً على الحدس. فغالباً ما أعرض عن منهج كامل في البحث لمجرد إحساسي بأنه غير صحيح، أو قد أمضي شهوراً في تطوير منهج آخر لمجرد إحساسي بأنه صحيح».
    وهكذا فالبساطة والتناسق والتماثل والتناسب والتألق والوضوح –وهي عناصر نلحظها في أجمل النظريات الفيزيائية- لها نظائر موازية في الجمال الذي نده في الرسم والموسيقا. وليس من العسير أن نتصور أن هذه المعايير الجمالية ذاتها تنطبق كذلك على الشعر والرقص وغيرهما من الفنون. والنظرة الجديدة تبين أن عناصر الجمال غير المرئي والذهني في الفيزياء تماثل عناصر الجمال المرئي والمسموع في الفنون الجميلة. إن العالم والفنان في النظرة الجديدة ينشدان الهدف الجمالي نفسه عبر مسالك مختلفة. يقول هايزنبيرغ: «لعل من الصواب أن نقول إن عالم الشعر كان مألوفاً لدى جميع العلماء الكبار حقاً. ومهما يكن من أمر فالفيزيائي يحتاج كذلك إلى اكتشاف أوجه التناسق بين الظواهر الطبيعية».

  10. افتراضي

    الفصل الرابع

    الله

    وفقاً للنظرة العملية القديمة، المادة أساسية والعقل ثانوي. وهذه البديهة تتجلى في أسلوب النظرة القديمة إلى الإنسان في العالم: نظرة زراية للعقل البشري وإعلاء لشأن الكون المادي اللامحدود واللاشخصي، تذهب إلى أن الإنسان، إذا قيس بالأرض أو الشمس أو المجرة، تافه من حيث الحجم وغير ذي شأن من حيث القوة. والنظرة القديمة تنكر على الإنسان ما تعتبره مغالاة منه في إحساسه بأهميته الذاتية قائلة: إن كوبرنيكوس (Copernicus) قد خلع الإنسان المغرور عن عرشه في مركز الكون، وأن عليه أن يدرك أنه مخلوق بالغ الصغر يسكن كوكباً تافهاً يدور حول نجم لا شأن له.
    ذلك أن منطق المادية ينكر الغائية، ذاهباً إلى أن الكون ليس سوى مادة، وبالتالي لا يمكن أن يكون في الأشياء الطبيعية أي هدف، لأن المادة لا تستطيع أن تقصد هدفاً أو ترسم خطة، بل تتصرف بضرورة ميكانيكية داخلية فحسب. وبالتالي يتحتم على التفسيرات العلمية أن تقتصر على الأسباب المادية والميكانيكية فحسب. وبيكون (Bacon)، وديكارت (Descartes) كلاهما يستبعد من العلوم الطبيعية أي دعوة إلى الغائيه. يقول بيكون: «إن مطلب الغائية يفسد العلوم بدلا ان يرقى بها " و ديكارت يقول نفس الشىء " كل ضروب الغائية لا قيمة لها في الأشياء المادية أو الطبيعية». وصحيح أن هذا الرفض يستند إلى أسباب تتعلق بالمنهجية، إذ إن بيكون وديكارت لم يكونا من المؤمنين بالمذهب المادي أو من الملاحدة، ولكن النتيجة تظل واحدة، وهي أنه لا مكان للغائية في علوم النظرة القديمة.
    فهل لله مكان في مثل هذا الكون؟ لقد كان نيوتن يؤمن بذلك، فحاول أن يحتفظ بمكان للألوهية في نظامه الميكانيكي الخاص بالسماوات. ففي رسالة وجهها إلى الدكتور ريتشارد بنتلي (Richard Bentley) في عام 1692 أكد نيوتن على أن الله ضروري لإحداث حركة الكواكب وإرساء البنية الأصلية للمجموعة الشمسية قائلاً: «إن حركات الكواكب الراهنة لا يمكن أن تكون قد انبثقت من أي علة طبيعية فحسب، بل كانت مفروضة بفعل قوة عاقلة».
    وإذا كان نيوتن غير مستعد لاستبعاد الله من العلوم فلم يكن هذا شأن غيره. ومن أمثلة ذلك أن الرياضي والفلكي الشهير بيير –سيموت لابلاس –(Pierre Simon Laplace)، حين سأله نابليون عن مكان الله في نظامه الميكانيكي الخاص بالأجرام السماوية، أجابه بما يلي: «يا سيدي لست بحاجة إلى هذا الافتراض». وبحلول القرن التاسع عشر كان الكثيرون يذهبون إلى أن الله لا يرى بالعقل ولا بالعين. وأصبحت العلوم شيئاً فشيئاً أقرب إلى اللاأدرية (أو الغنوصية). والواقع أن لفظة «لا أدرية» كانت في ابتكار عالم الأحياء توماس هكسلي في عام 1869. ويعرب كارل ف. غاوس (Carl F. Gauss) وهو أعظم علماء الرياضيات في القرن التاسع عشر، عن هذه الشكوك فيقول: «هنالك مشاكل أعلق على حلها أهمية تفوق بما لا حد له، تلك التي أوليها للمسائل الرياضية، كتلك المتعلقة بالأخلاق، أو بعلاقتنا بالله، أو بقدرنا ومستقبلنا، ولكن حلها خارج كلياً عن متناولنا، وهو يقع كلياً خارج ميدان العلم».
    وذهب مفكرون آخرون إلى أن العلم لا يفسح المجال للاأدرية. وحجتهم في ذلك أن الكون آلة تدير نفسها بنفسها وبالتالي لا تحتاج البتة إلى أي سبب فوق الطبيعة. وإذا كانت المادة أزلية فلا يبدو أن هناك حاجة إلى خالق. وهكذا اعتبر الكثيرون أن الإلحاد أدنى إلى الصدق وأكثر اتساقاً مع النظرة العلمية القديمة.
    وفرويد هو أحد ممثلي هذا الموقف من الدين في النظرة القديمة، فهو يعلن أن «أديان البشر يجب أن تصنف باعتبارها وهماً من أوهام الجماهير». فالإنسان في الأديان إنما يبحث عن مهرب من الواقع. ويتابع فرويد حديثه قائلاً: «إن الأفكار الدينية نشأت من ضرورة حماية الإنسان لنفسه من قوة الطبيعة المتفوقة والساحقة». والناس في رأي فرويد يميلون إلى الاعتقاد بوجود أب وراء هذا الكون لأنهم، بوصفهم أطفالاً، بحاجة ماسة إلى رعاية أب. وهكذا فإن الإنسان هو الذي يخلق الله، لا العكس، ويضيف فرويد أن البشر «لابد لهم من أن يعترفوا لأنفسهم بكامل عجزهم وتفاهة دورهم في آلية الكون. فهم لا يستطيعون بعد اليوم أن يكونوا محور الخليقة أو موضع عناية آلهية خيرة». وفيما يتعلق بالدين يتنبأ فرويد بأن «هذه الطفولية Infantalsm مقدور لها أن تتجاوز بالتأكيد»، ويتحتم على الإنسان أن يتحلى بالشجاعة للاعتراف بأنه وحيد في هذا الكون الفسيح واللاشخصي.
    وقد أنتجت النظرة القديمة في القرن التاسع عشر بعض المؤلفات التي تتسم بحماسة استثنائية وتهاجم الدين باسم العلم. ونذكر على سبيل المثال لا الحصر أن عام 1975 شهد صدور كتاب «تاريخ الصراع بين الدين والعلم» (The History of the Conflict between Religion and Science) لمؤلفه جون و. دريبر (John W. Draper)، وهو أول رئيس للجمعية الأمريكية لعلوم الكيمياء. وبعد ذلك بعشرين عاماً، في 1895، ألف أندرو د. وايت (Andrew D. White)، وهو أول رئيس لجامعة كورنيل، كتابه «تاريخ المعركة بين العلم واللاهوت في المسيحية» (Ahistory of the warfare of Science with Theolgy in Christendom). ويكفي عنواناً الكتابين دليلاً على الاتجاه السائد آنذاك.
    فماذا تقول النظرة العلمية الجديدة عن كل هذا؟ أولاً، إن لديها أنباء مثيرة عن الكون ذاته. يقول عالم الفيزياء الفلكية دنيس شياماً (Dennis Sciama) «لعل أهم اكتشاف علمي من اكتشافات القرن العشرين هو أن الكون بأكمله، بوصفه كلية واحدة، قابل للبحث العقلاني باستخدام أساليب علمي الفيزياء الفلك». وقد تيسرت هذه النظرة الجديدة إلى الكون بمجيء نظرية النسبية العامة لأينشتاين وهي، خلافاً لنظرية نيوتن في الفيزياء، قد جمعت بين الجاذبية والمكان والزمان. يقول ويلر: «لقد علمنا أينشتاين أن المكان عنصر مشارك في الفيزياء، لا ميدان للفيزياء فحسب». والشيء نفسه ينطبق على الزمان. وعملية التوحيد هذه زودت الفيزيائيين للمرة الأولى بأدوات البحث المفصل في بنية الكون بأكمله وفي أصله ومآله. فبعد نشر النسبية العامة رأينا الفلكي ويلم دي سيتر (Willem de Sitter)، والرياضي ألكساندر فريدمان (Alezander Friedmann) يستنتجان من النظرية الجديدة، كل على حدة، أن الكون آخذ في التمدد. وسرعان ما ثبت ذلك بالمشاهدة. فخلال العشرينات من هذا القرن اكتشف الفلكي ادوين هبل (Edwin Hubble)، أثناء تحليله للضوء المنبعث من المجرات البعيدة، أن جميع المجرات الممكن رصدها يتباعد بعضها عن بعض. وكان هذا هو أول مفتاح لأسرار تاريخ الكون. فإذا كانت المجرات تتباعد الأن بعضها عن بعض فلابد إذاً من أنها كانت في الماضي السحيق متحدة، مما يدل على أن للكون بداية.
    ثم جاءت إشارة ثانية من مجال الفيزياء النووية. فلقد كان كيميائيو القرن التاسع عشر يعرفون أن الشمس لا يمكن أن تحرق وقوداً تقليدياً. فالاحتراق الكيميائي العادي لم يكن يصلح تفسيراً لطاقة الشمس، إذ لو كانت كتلة الشمس كلها فحماً لأحرقت نفسها في غضون ثلاثمائة عام. وظلت الشمس لغزاً إلى حين اكتشاف الطاقة النووية في السنوات الأولى من القرن العشرين. وأخيراً تمكن الفيزيائيان هانز بيته (Hans Bethe)، وكارل فون فايتزساكر (Carl Von Weizsacker) في عام 1938 من تقديم تفسير كامل لكيفية إنتاج الشمس للطاقة من خلال تحول العناصر النووية. ففي قلب الشمس يتحول لهيدروجين للطاقة من خلال تحول العناصر النووية. ففي قلب الشمس يتحول الهيدروجين إلى هليوم، منتجاً الطاقة والضوء. وعلى مدى ملايين السنين كانت العمليات التي تتم داخل كل نجم تكون شيئاً فشيئاً لا الهليوم فحسب، بل جميع العناصر الأثقل: الكربون والأكسجين والسليكون والحديد وسائر العناصر. وكان معنى ذلك أنه إذا كانت كل العناصر الثقيلة في الكون قد تكونت من الهيدروجين في قلوب النجوم فلابد إذاً من أن الكون كله تقريباً كان مركباً في البداية من الهيدروجين. وهذا يدل مرة أخرى على أن للكون بداية.
    وأخيراً، تقدم الفيزيائي جورح غاموف (George Gamow) في عام 1948، بعد أن جمع الأدلة المستمدة من تباعد المجرات ومن دورة حياة النجوم، برأي مفاده أن الكون نفسه نشأ من تمدد بدئي للمادة أطلق عليه اسم «الانفجار العظيم». ويفترض أن كرة النيران فائقة الحرارة قد تمددت بسرعة كالانفجار ثم بردت. وباستخدام الفيزياء النووية بين غاموف كيف أن الجسيمات دون الذرية التي كانت موجودة في أسبق المراحل أنتجت، بتأثير درجات الحرارة والضغوط اللاحقة، ذرات الكون حديث لنشأة. وفضلاً عن ذلك بين أنه، نتيجة لعمليات التمدد والتبريد، لابد من تشتت وهج خافت من الإشعاع الأساسي بشكل منتظم في جميع أرجاء الكون.
    وظل تنبؤ غاموف معلقاً طوال عدة أعوام. ثم اكتشف آرنوبنزياس (Arno Penzias) ، وروبرت ويلسون (Robert Wilson) في عام 1965، بمحض الصدفة، وباستخدام جهاز ضخم لالتقاط الموجات الصغرى، إشعاعاً ضعيفاً منبعثا من الفضاء. وبعد أن قاس بنزياس وويلسون هذا الإشعاع بدقة لم يسبق لها مثيل وجدا أنه يقرب من 3.5 درجة فوق الصفر المطلق. ولم يكن الإشعاع أشد كثافة في اتجاه الشمس أو في اتجاه مجرة التبانة (Milky Way). ولذا لا يمكن أن تكون المجموعة الشمسية أو المجرة مصدر هذا الإشعاع. فلم يبق إلا تفسير واحد وهو أنه بقية من الإشعاع الأصلي الناتج من «الانفجار العظيم».وهذا الدليل القائم على المعاينة أكد نظرية الانفجار العظيم.
    فعالمنا، إذاً، تولد في أعقاب تمدد هائل في المادة. ويشير حجم التمدد ومعدل سرعته الحاليان إلى أن الكون بدأ منذ ما يتراوح ما بين 12 و20 مليار سنة. وفي جزء من السكستليون Sextillion (1000000 6) من الثانية بعد البداية كانت كل المادة الموجودة في الكون معبأة في مساحة أصغر كثيراً من الحيز الذي يشغله بروتون واحد. وكانت الكثافة في تلك المرحلة تهول الخيال: تصور أن الكواكب والنجوم والمجرات بكاملها، وكل المادة والطاقة في الكون كانت جميعها محتواة في حيز لا يكاد حجمه يعادل شيئاً. وفي لحظة الصفر من بداية الزمن كانت الكثافة غير متناهية دون حدوث أي تمدد في المكان على الإطلاق. وكانت تلك اللحظة لحظة بداية المكان والزمان والمادة. وينبغي ألا نتصور أن الانفجار العظيم أحدث تمدداً في المادة في مكان قائم بالفعل. فالانفجار العظيم هو نفسه تمدد المكان. وهذا يمكن أن يفهمه العقل، ولكن لا يمكن أن يتصوره الخيال.
    على أن أنصار النظرة القديمة لم يرتاحوا إلى فكرة بداية مطلقة. ومن أجل ذلك استنبطوا نظريات بديلة في أصل الكون لاستنقاذ أزلية المادة. وقد وضع الفلكي السير فريد هويل (Sir Fred Hoyle) واحدة من هذه النظريات البديلة، هي فرضية استقرار حال الكون Steady –state Hypothesis. وهذه الفرضية تستلزم تولد الهيدروجين تلقائياً في جميع أرجاء الكون. غير أن اكتشاف إشعاع الأساس الكوني أدى إلى استبعاد هذا البديل بشكل قاطع.
    وهناك فرضية أخرى طرحت تجنباً لافتراض بداية للكون، هي نظرية نوسان الكون Oscillating Universe. ومؤدي هذه النظرية أنه إذا كان في الكون كمية كافية من المادة فإن شد الجاذبية سوف يوقف في نهاية المطاف التمدد الحالي ويعكسه، بحيث ينتج من ذلك آخر الأمر انهيار ثان لكل المادة في ما قد يصح أن نطلق عليه اسم «الانكماش العظيم». وتوحي نظرية النوسان (الذبذبة) هذه بأن «انفجارا عظيماً» آخر يرجح أن يعقب عملية الانهيار، وأن الكون ربما ظل ينوس على هذا النحو بين عمليات «انفجار» و«انكماش» إلى الأبد. وبهذه الطريقة يمكن الحفاظ على أزلية المادة. وعلى هذه النظرية يعلق ستيفن فاينبيرغ مؤلف كتاب «الدقائق الثلاث الأولى» (The First Three Minutes)، وهو وصف دقيق للمراحل الأولى من نشأة الكون، قائلاً: «بعض المتخصصين في علم الكونيات تشدهم نظرية نوسان الكون فلسفياً، خصوصاً وأنها تتجنب ببراعة، شأن نظرية استقرار حال الكون، مشكلة النشأة الأولى. غير أنها تواجه صعوبة نظرية شديدة واحدة: ففي كل دورة من تمدد الكون وانكماشه تطرأ على نسبة الفوتونات إلى الجسيمات النووية (أو على الأصح درجة التعادل الحراري لكل جسيم نووي) زيادة طفيفة بفعل نوع من الاحتكاك يعرف بلزوجة الحجم (bulk viscosity). وفي هذه الحالة، في حدود ما نعلم، سيبدأ الكون كل دورة جديدة بنسبة جديدة للفوتونات إلى الجسيمات النووية تكون أكبر من سابقتها بقليل. وهذه النسبة ضخمة في الوقت الحاضر ولكنها متناهية، بحيث يصعب أن نتصور كيف يمكن أن يكون العالم قد مر في السابق بعدد من الدورات غير متناه».
    وتستند حجة فاينبيرغ في هذه المسألة إلى نتيجة محتومة مترتبة على إحدى الخواص الجوهرية للمادة، وهي القانون الثاني للديناميكاً الحرارية. ويقول هذا القانون إن المادة إذا ضغطت سخنت وارتفعت درجة تعادلها الحراري (الأنتروبيا). وهكذا كلما ازداد عدد «الانكماشات العظيمة» للكون ازدادت حرارته ودرجة تعادله الحراري. وحيث إن درجة حرارة الكون ودرجة تعادله الحراري محدودتان في الوقت الراهن فلابد من أنه كانت له بداية. ومن المفترض أن يبدأ كل «انفجار عظيم»، في إطار نوسان الكون، بدرجة حرارة أعلى من درجة حرارة الانفجار الذي سبقه، ومن هنا لزم أن تكون درجة حرارة الكون في ختام سلسلة طويلة من الانفجارات العظيمة والانكماشات العظيمة أعلى كثيراً من 3.5 درجة مطلقة.
    والواقع أن الحجج المستفيضة المتعلقة بالديناميكا الحرارية لا تشير إلى أي تكرار على الإطلاق في عملية التمدد الأصلي. يقول الفيزيائي سدني أ. بودمان (Sidney A. Blidman): «إن عالمنا لا يمكن له أن يرتد في المستقبل. والأكوان المغلقة المنسوبة إلى فريدمان (Friedmann) كانت تسمى فيها مضي الأكوان المتذبذبة. ونحن ندرك الأن أن أي كون مغلق لا يمكن أن يمر إلا بدورة واحدة من دورات التمدد والانكماش بسبب ضخامة الأنتروبيا المتولدة في كوننا الذي هو أبعد ما يكون عن النوسان. وسواء أكان الكون مغلقاً أم مفتوحاً، مرتداً أم متمدداً على وتيرة واحدة، فإن التحولات غير العكوسة في أطوار الكون تدل على أن للكون بداية ووسطاً ونهاية محددة». كذلك فإن نظرية النوسان لا تنسجم مع النسبية العامة. ومن هنا يخلص جون ويلر إلى أن عملية انكماش كبيرة واحدة من شأنها أن تنهي الكون إلى الأبد، فيقول: "لو حصل انهيار في الجاذبية فسنكون قد وصلنا إلى نهاية الزمن. وما من أحد قط استطاع أن يجد في معادلات النسبية العامة أدنى حجة تؤيد القول «بعملية تمدد أخرى» أو بوجود «كون ذي دورات»، أو أي شيء آخر سوى النهاية.
    يبدو إذاً أن المادة ليست أزلية بالرغم من كل شيء. وكما يعلن عالم الفيزياء الفلكية جوزف سلك (Joseph Silk) فإن «بداية الزمن أمر لا مناص منه». كما يخلص الفلكي روبرت جاسترو (Robert Jastrow) إلى أم «سلسلة الحوادث التي أدت إلى ظهور الإنسان بدأت فجأة وبعنف في لحظة محددة من الزمن، وفي ومضة ضوء وطاقة.
    فهل من مكان لإله في كون كهذا؟ الفيزيائي ادموند ويتيكر (Edmund Whittaker) يعتقد كذلك. فهو يقول: «ليس هناك ما يدعو إلى أن نفترض أن المادة والطاقة كانتا موجودتين قبل الانفجار العظيم وأنه حدث بينهما تفاعل فجائي. فما الذي يميز تلك اللحظة عن غيرها من اللحظات في الأزلية؟ والأبسط أن نفترض خلقاً من العدم، أي إبداع الإرادة الإلهية للكون من العدم». وينتهي الفيزيائي إدوارد ميلن (Edward Milne)، بعد تفكره في الكون المتمدد، إلى هذه النتيجة: أما العلة الأولى للكون في سباق التمدد فأمر إضافتها متروك للقارئ. ولكن الصورة التي لدينا لا تكتمل من غير الله».
    أما النظرة العلمية الجديدة فترى أن الكون بمجموعة –بما في ذلك المادة والطاقة والمكان والزمان- حدث وقع في وقت واحد وكانت له بداية محددة. ولكن لابد من أن شيئاً ما كان موجوداً على الدوام، لأنه إذا لم يوجد أي شيء من قبل على الإطلاق فلا شيء يمكن أن يوجد الآن. فالعدم لا ينتج عنه إلا العدم. والكون المادي لا يمكن أن يكون ذلك الشيء الذي كان موجوداً على الدوام لأنه كان للمادة بداية. وتاريخ هذه البداية يرجع إلى ما قبل 12 إلى 20 مليار سنة. ومعنى ذلك أن أي شيء وجد دائماً هو شيء غير مادي. ويبدو أن الحقيقة غير المادية الوحيدة هي العقل (أنظر الفصل الثاني). فإذا كان العقل هو الشيء الذي وجد دائماً فلابد من أن تكون المادة من خلق عقل أزلي الوجود. وهذا يشير إلى وجود عاقل وأزلي خلق كل الأشياء. وهذا هو الذي نعنيه بعبارة «الله».
    ولكن ما هو رد النظرة الجديدة على ادعاء النظرة القديمة أن أهمية الإنسان تتضاءل بجانب الكون واسع الأرجاء، وأن الإنسان «لم يعد يستطيع أن يكون محور الخليقة أو موضع عناية إلهية خيرة».
    إن النظرة الجديدة تبدأ بتصحيح سوء فهم يقول براندون كارتر (Brandon Carter) عالم الفيزياء بجامعة كيمبرج: «لقد علمنا كوبرنيكوس درساً حصيفاً جداً، وهو أنه يجب ألا نفترض دون مسوغ أننا نحتل موقعاً مركزياً محظوظاً في الكون. ولكن مما يؤسف له أنه كانت هناك دائماً نزعة (ليست دوما على هامش الشعور) لتوسيع نطاق هذا الدرس ليشمل عقيدة، هي موضع شك كبير، تقول إن وضعنا ليس له امتياز بأي معنى من المعاني».
    ويقول كارتر إنه ينبغي اعتبار بعض ظروف الكون الأولية، التي كانت مواتية للحياة بشكل مدهش، أنها «تؤكد نظريات الفيزياء وعلم الكونيات (النسبية العامة والانفجار العظيم). وكان يمكن من حيث المبدأ استخدام هذه النظريات للتنبؤ مسبقاً بجميع هذه الظروف قبل رصدها. غير أن هذه التنبوءات تتطلب الاستعانة بما يمكن أن يطلق عليه اسم «المبدأ الإنسان». ومفاده أن ما يمكن أن نتوقع رصده لابد من أن يكون مقيداً بالظروف الضرورية لوجودنا كمشاهدين (فبالرغم من أن موقعنا ليس مركزياً بالضرورة فإن له امتيازاً إلى حد ما).
    ويشير ستيفن هوكنغ ((Steven Hawking عالم الفيزياء الفلكية بجامعة كيمبرج، إلى المبدأ الإنساني «لدي تصديه للتساؤل عن مبررات القول إن الكون يتمدد بمعدل السرعة المناسب تماماً لتفادي انهيار آخر فيقول»: إن «التفسير الوحيد الذي نستطيع أن نقدمه يستند إلى رأي طرحه ديك (Dicke) (1961). وكارتر (1970)، وهو أن هناك ظروفاً معينة ضرورية لتطور كائنات حية عاقلة: ففي كل الأكوان الممكن تصورها لن توجد كائنات تشاهد الكون إلا حيث تتوفر هذه الظروف. ولذلك يقتضي وجودنا أن تكون للكون خواص معينة. ومن ضمن هذه الخواص في ما يبدو وجود نظم متماسكة بفعل الجاذبية كالنجوم والمجرات، وفترة زمنية متطاولة تكفي لحدوث تطور بيولوجي. فلو كان الكون يتمدد ببطء مفرط لما كانت له هذه الخاصية الثانية لأنه كان سينهار سريعاً من جديد. ولو كان يتمدد بسرعة مفرطة لكانت المناطق التي تزيد كثافتها عن المتوسط زيادة طفيفة، أو التي تكون سرعة تمددها أقل بقليل، ستظل تتمدد إلى ما لا نهاية بحيث لا تشكل نظماً متماسكة. وهكذا يبدو أن الحياة ممكنة لا لشيء إلا لأن الكون يتمدد بالسرعة المطلوبة بالضبط لتفادي انهيار آخر.
    ونخلص من ذلك إذاً إلى أن خواص لكون ووجودنا، كليهما، نتيجتان لتمدد الكون بمعدل السرعة الحرجة تماماً. وحيث إننا لم نكن نستطيع أن نشاهد العالم في شكل آخر، لو لم نكن هنا، فإن في وسع المرء أن يقول إن توحد خواص الكون هو، بمعنى ما، نتيجة مترتبة على وجودنا».
    ويمكن تفسير حجة هوكنغ بطريقتين مختلفتين. فالنظرة القديمة كانت تعتبر أن أي شيء في الكون يفضي إلى الحياة هو من باب الصدفة، وأن «الكون، سواء أكان له معنى أم لم يكن، كان على أي حال سيظهر إلى حيز الوجود ويجري مجراه حتى لو كانت الظروف الثابتة والأولية تحول إلى الأبد دون تطور الحياة والوعي. فالحياة جاءت اتفاقاً وهي طارئة على آلية الكون» كما يصور ويلر موقف النظرة القديمة.
    أما البديل فهو أن ننظر إلى الكون على أنه يستهدف الحياة والإنسان. وهذا يتطابق مع ما يطلق عليه كارتر اسم «المبدأ الإنساني القوي» الذي يقول إن الكون (وبالتالي الثوابت الجوهرية التي يتوقف عليها) لابد من أن يكون بحيث يسمح بقبول مراقبين داخلة في مرحلة ما». وبهذه الروح يتساءل ويلر: «أي معنى يمكن استخلاصه من الحديث عن «الكون» ما لم يكن هناك أحد واعياً لوجوده. ولكن الوعي يتطلب الحياة. والحياة، أياً كان تصورنا لها، تتطلب عناصر ثقيلة. وعملية إنتاج عناصر ثقيلة من الهيدروجين الأصلي تتطلب احترافاً نووياً حرارياً. وهذا أمر يتطلب بدوره طبخاً في باطن النجم يستغرق مدة تساوي عدة مرات حاصل ضرب الرقم 10 في نفسه 9 مرات من السنين. ولكن لكي يمر على الكون مثل هذه المدة من الزمن فلابد من أن يكون له، وفقاً للنسبية العامة، امتداد في المكان يقرب مما يقطعه الضوء في حاصل ضرب الرقم 10 في نفسه 9 مرات من السنين. فلماذا يكون العالم إذاً بهذه الضخامة؟ لأننا موجودون فيه»!

  11. افتراضي

    إنه قلب مذهل لتصور النظرة القديمة. فضخامة الكون تعتبر سبباً في جعل الحياة ممكنة. هذا إلى أن المبدأ الإنساني ليس مقصوراً على علم الكونيات. فالفيزيائي فريمان دايسن (Freeman Dyson) يبين كيف أن القوى التي تربط بين النيوترونات والبروتونات في نواة الذرة لابد من أن تكون –حتى هي- على ما هي عليه كيما تصبح الحياة ممكنة. يقول: «لو أن القوى النووية كانت أقوى بقدر طفيف مما هي عليه لوجد الدبروتون، ولا تحد كل الهيدروجين المودة في الكون تقريباً، متحولاً إلى دبروتونات أو نوى أثقل، ولكان الهيدروجين عنصراً نادراً، وتعذر وجود نجوم كالشمس تعيش طويلاً باحتراق الهيدروجين في قلوبها احتراقاً بطيئاً. ومن جهة أخرى، لو كانت القوى النووية أضعف بقدر ملحوظ مما هي عليه الآن لما أمكن احتراق الهيدروجين مطلقاً، ولما كنت هناك عناصر ثقيلة، وبالتالي لما وجدت الحياة. فإذا كان تطور الحياة، كما يبدو مرجحاً، يتطلب نجماً كالشمس يزود طاقة بمعدل ثابت طوال مليارات السنين فمعنى ذلك أن شدة القوى النووية كان لابد لها من أن تنحصر في نطاق السنين فمعنى ذلك أن شدة القوى النووية كان لابد لها من أن تنحصر في نطاق ضيق نوعاً ما لجعل الحياة ممكنة».
    ويمكن إيراد العديد من الأمثلة الأخرى. فعلى سبيل المثال يلاحظ دايسن أنه: لو تبدلت القوانين بحيث لا تتوقف الإلكترونيات عن استبعاد بعضها بعضاً لما بقيت أي عملية من العمليات الكيماوية الأساسية التي نعرفها. وهناك العديد من المصادفات المواتية الأخرى في الفيزياء الذرية. ومن دون هذه المصادفات ما كان للماء أن يوجد على هيئة سائل، ولا لمجموعات ذرات الكربون أن تشكل جزئيات عضوية معقدة، ولا لذرات الهيدروجين أن تشكل جسوراً بين الجزئيات قابلة للكسر».
    إذاً فخواص المادة، على أصغر نطاق وعلى الكون كله، تبدو ملاءمة للحياة ملاءمة فذة. ولا توجد هناك شواهد كثيرة على ذلك فحسب، بل إن حدوث أدنى زيادة أو نقصان في الكمية الثابتة يجعل من الحياة في كل حالة أمراً مستحيلاً. ويتحدث ويلر عن جملة الأكوان، ولكنه يشير إلى أن عدداً صغيراً جداً منها كان يمكن أن يصلح للحياة. وبعد أن استعرض دايسن هذا النمط العريض ينتهي إلى أن ذلك يدل على غاية مستهدفة، لا على الصدفة، قائلاً: «كلما ازددت دراسة للكون وفحصاً لتفاصيل هندسية وجدت مزيداً من الأدلة على أن الكون كان يعرف بطريقة ما أننا قادمون». فبعض الظروف الضرورية للحياة كان قد ركب تركيباً في الانفجار العظيم منذ بداية البداية.
    ويؤكد ويلر أنه «لم يظهر سبب واحد يفسر لماذا يكون لبعض الثوابت والظروف الأولية ما لها من القيم سوى أنه لولا ذلك لما تيسرت المراقبة كلما نعرفها». وهو تبعاً لذلك، ولابد من أن يعزو المسألة إلى الصدفة، نراه يتساءل: أليس من الأرجح أن نقول إنه «ما من كون يمكن أن يبرز إلى حيز الوجود ما لم يكن مضموناً له أن ينتج لحياة والوعي والشهود في مكان ما ولمدة قصيرة من الزمن في تاريخه المقبل؟ «إن الحياة لم تأت اتفاقاً، بل إن ويلر، على نقيض ذلك، يؤكد أن» ميكانيكا الكم قادتنا إلى أن نأخذ بجدية ونفحص وجهة النظر المعاكسة تماماً، وهي أن المراقب لازم لخلق الكون لزوم الكون نفسه لخلق المراقب». ومع أن الإنسان ليس مادياً فى مركز الكون فهو علي ما يظهر في مركز الغاية من خلقه. وكما يقول ايرون شرود نفر فالكون من دون الإنسان يكون أشبه بمسرحية تمثل في قاعة تخلو مقاعدها من جمهور المشاهدين.
    والكون الذي يستهدف ظهور الإنسان يستلزم بداهة وجود عقل يوجهه، لأن المدة لا تستطيع من تلقاء نفسها أن تهدف إلى أي شيء. ومن هنا فلنظرة الجديدة تقود مرة أخرى إلى الاعتقاد بوجود عقل يوجه الكون بأكمله وجميع نواميس الطبيعة وجميع خواص المادة إلى غاية. ونحن نطلق على هذا العقل اسم الله. ويصف هايزنبيرع منهجية النظرة القديمة فيقول: إن ميكانيكا نيوتن وجميع الأجزاء الأخرى من الفيزياء الكلاسيكية التي صيغت على نسقها انطلقت من الافتراض القائل إن المرء يستطيع أن يصف العالم من غير التحدث عن الله أو عن أنفسنا»، أي عن عالم ليس وراءه عقل يدبره. ولكن النظرة الجديدة تبين أن العكس هو الصحيح في كلتا الحالتين. فالانفجار العظيم والمبدأ الإنساني كلاهما يشير إلى وجود عقلين في كلا طرفي الكون.
    والنظرة الجديدة لا تقتصر على تأكيد أولية العقل في الكون، بل هي تؤكد أيضاً أن الجمال جزء من بنية العالم (أنظر الفصل الثالث). وهذه النظرة الجديدة تقودنا كذلك إلى الأدلة على وجود الله.
    إن الطبيعة تزخر بالجمال. ففي عالم الجماد، مثلاً تظهر الجيودات (geodes)* والأحجار الكريمة البلورات جمالاً في التناسق واللون والإشراق لا سبيل إلى إنكاره. ومن الأمثلة اللافتة للنظر على ذلك الندف الثلجية. ويوضح الشكل 3 التنوع المدهش في أنماط الندف الثلجية وكلها تستند إلى الشكل السداسي. والندف الثلجية الاثنتا عشرة المبينة في الشكل 3 تظهر في «البلورات الثلجية" (Snow Crystals)، وهو كتاب يحتوي على ألفي شكل لندف ثلجية بذل د. أ. بنتلي في تصوريها غاية جهده وعنايته طوال مدة تقرب من خمسين عاماً. ويقدم و. ج همفريز (W.J. Humphreys) لهذا الكتاب بالنظرة التأملية التالية: إن الثلج، الثلج الجميل، الذي يصفه الشاعر النشوان بأنه غطاء الشتاء النظيف الأملس للغابة والحقل، ما برح منذ قديم الزمن يتحدى الأقلام أن تصفه، والفراش أن ترسمه وتصور آثاره العجيبة. والجمال الذي تشيعه في النفس أصغر ندفة منه أو أصغر بلورة تسبح بتؤدة بين السماء والأرض لا يقل عن ذلك سحراً. وهو يلح علينا بإصرار لأنه لا يقتصر على أن يحرك فينا الاستجابة للرقة والأناقة التي تجعل منا بشراً، بل يثير أيضاً رغبتنا وحب استطلاعنا في معرفة كيفية وسبب وجود هذه الجوهرة بالغة النقاء ذات الجمال الفائق والأشكال التي لا حصر لها».
    ومصممو المنسوجات والفنانون يستوحون الأفكار من فهرس الندف الثلجية الذي وضعه بنتلي، ويستعينون بما يسميه همفريرز معرض الطبيعة الدائم للزخرفة التوشيعية وتصاميم الجواهر والحلي».
    إن صغرى العواصف الثلجية تسقط على الأرض تربليونات من الندف الثلجية. وربما كانت كل ندفة منها فريدة من نوعها. وما من أحد استطاع حتى الآن أن يفهم مجمل العمليات والظواهر الفيزيائية لكيفية تشكل الندف الثلجية وإن كان جيمز لانغر (James Langer) الذي يعمل في مركز الفيزياء النظرية في سانتا بابرا، قد وضع لها، بعد سنوات طويلة من العمل المضني، نموذجاً رياضياً يبعث على التفاؤل.
    فهل تستطيع آليات الطبيعة أن تفسر جمال الندف الثلجية، أو زبد البحر، أو أقواس قزح، أو غروب الشمس؟ إن جمال هذه الجوامد ينتج بالضرورة من قوانين الفيزياء والكيمياء، وهي قوانين جميلة في ذاتها كما رأينا في الفصل الثالث. وبفضل قوانين الطبيعة هذه لا يمكن أن يتولد من ذلك كون بشع. فجمال الجوامد مركب في آلية الطبيعة ذاتها. لنأخذ قياساً تمثيلياً لذلك. فقد يستطيع أحدنا أن يبني مصنع سيارات مجهزاً كلياً بمعدات ميكانيكية لإنتاج عربات جميلة. بل هو قد يستطيع أن يركب في الآلية الجمال الناتج عن التصميم واللون. ولكن الجمال في السيارة لا يصبح بذلك ضرورة مطلقة، إذ تظل العربات البشعة قادرة على أن تنقل الركاب بفعالية. ومن الممكن اختراع آلات لإنتاج عربات كهذه وبالطريقة نفسها. ليست هنالك أي ضرورة مطلقة تفرض في المقام الأول أن تشتمل القوانين الفيزيائية للطبيعة على البساطة والتنسيق. ولنا أن تتصور كوناً آخر ذا قوانين طبيعية غير متماثلة ومعقدة لغير ضرورة ينتج ندفاً ثلجية بشعة بضرورة ميكانيكية.
    الضرورة، إذاً، لا تقدم تفسيراً نهائياً للجمال الذي نجده في الجوامد، كما أنها لا تستطيع أن تفسر الجمال الموجود في النباتات والحيوانات. إن عالم الأحياء أدولف بورتمان (Adolf Portmann)، وهو حجة معترف به في موضوع أشكال الكائنات الحية وعلاماتها المميزة، يشير إلى سمات كثيرة لا تفسرها الضرورة. ويشير بورتمان كذلك إلى أن الأوراق ضرورية للشجرة لإنتاج طعامها، «ولكن هناك الشيء الكثير، في شكل الورقة وخطوطها، مما ليس تكيفاً مع البيئة، بل هو تصوير ذاتي محض». إن متطلبات التخليق الضوئي (Photosy- nthesis) تفسر سبب وجود الأوراق على الشجرة في المقام الأول، ولكنها لا تفسر سبب اختلاف ورقة القيقب عن ورقة البلوط.
    والشيء نفسه يصح على الحيوانات. ففيما يتعلق بريش الطيور، مثلاً، يلاحظ بورتمان أنه «ساد الاعتقاد مدة طويلة من الزمن أن الريش ليس له دور سوى تيسير عمليتي تعديل الحرارة والطيران. ولكن علينا الآن أن نضيف دوراً ثالثاً وهو التعبير عن الذات، لأن هناك أصنافاً كثيراً من الريش تغلب على تركيبها الخارجي الزخرفة».
    وجسم الإنسان يبرهن على أن الضرورة لا تفسر الجمال. فصوت الإنسان أكثر براعة وتعبيراً من أي آلة موسيقية. والضرورة لا تستلزم أن يكون للإنسان صوت قادر على إخراج أنغام حلوة، إذ كان يكفي أن يكون له صوت رتيب وممل، أو صوت خشن، للاستغاثة أو للتعبير عن حاجات بدنه. وداروين نفسه أقر بأن الضرورة لا تستطيع أن تفسر ما حيي به الإنسان من مواهب موسيقية فطرية. فقد قال: «وحيث أن الاستمتاع بالأنغام الموسيقية والقدرة على إطلاقها ليسا من الملكات التي تعود على الإنسان بأدنى منفعة في عاداته اليومية الحياتية، فلا بد من تصنيفهما في عداد أكثر الملكات التي حيي بها غموضاً». والضرورة قد تفسر لماذا يكون صوت عصفور جميلاً في عين عصفور آخر، ولكنها لا تفسر لماذا يكون جميلاً في عين الإنسان. وعلى هذا الاعتبار نسأل: لماذا ينبغي أن يكون النمر أو الشوك جميلاً في عين الإنسان؟
    ولكن إذا كانت الضرورة لا تفسر الجمال فلعله نتيجة الصدفة. وإذا كان الأمر كذلك لزم إن يكون الجمال نادراً. ولكن الواقع خلاف ذلك. فالطبيعة تزخر بالجمال. يقول ديفيد بوم إن «كل ما يمكن العثور عليه في الطبيعة، تقريباً، يتبدى عن شيء من الجمال سواء في الإدراك الفوري له وفي التحليل الفكري». من ذلك مثلاً أن جميع الحيوانات تقريباً تكشف عن شيء من التناسق كما يشير إلى ذلك بورتمان. بل إن بعض أجناس الحيوان تكشف عن درجة مذهلة من التناسق تضاهي بها الآثار الفنية الرائعة . والواقع أن كل مستوى من مستويات البحث يكشف عن عوالم جديدة من الجمال في الطبيعة. ويصف ثورو (Thoreau)، على سبيل المثال، جمال حقل أعشاب فيقول: «وإذ كنت واقفاً على أرض ج. ب. براون في الجهة الجنوبية راقبت مروحة الخصبة والريانة غير المقصوصة في الجهة الشمالية وهي تتموج بفعل الريح الشرقية. إنه لمشهد جميل. كانت الأعشاب تتحرك كأمواج من الضوء والظل على امتداد عرض أرضه، وكبخار منخفض الارتفاع يلتف فوقها فيضفي حياة عجيبة على المنظر الطبيعي، وكأنها ثوب متلون يتعاوره الضوء والظل. إنها صورة مثيرة يسهل أن تغفلها العين، وتوحي بأننا نخوض ونبحر في اللحظة الحاضرة في خضم من العشب وهو يلين ويتموج تموج الماء تحت الريح».
    وقد صور كبار الرسامين اليابانيين الأناقة البسيطة التي يشهدها المرء في لفيف واحد من الأعشاب. وتبدو في الشكل (5) لوحة للخيرزان، وهو أكبر أنواع الأعشاب.
    ويكشف المجهر عن الهندسة الخفية لتركيب الخلايا في ورقة عشب واحدة. وفي صالات العرض والمتاحف صور لأجزاء من النبات إلتقطت لجمالها الفتان بالمجاهر العادية وبمجاهر المسح الإلكتروني.
    وفي داخل الخلية الحية تكشف الأشعة السينية عن تركيب جزئ الـ (DNA) وهو قالب الحياة – الذي يصفه واتسن المشترك في اكتشاف تركيبه بأنه جميل. وأخيراً، فإن المكونات الذرية لهذا الجزئ ذاته تفهم بلغة معادلات رياضية تتسم بجمال ذهني كما يقول الفيزيائيون.
    وهكذا نرى أن الشاعر والرسام وعالم الأحياء والكيميائي والفيزيائي يلتقون جميعاً بجمال العشب. وجمال الطبيعة ليس جمالاً سطحياً، بل هو متغلغل في الأعماق. وفي جميع الأشياء الطبيعية، حية وغير حية، وفي كل مستوى داخل كل شيء حي، من مروج الأعشاب إلى الإلكترون والبروتون والنيوترون، نرى الجمال متغلغلاً في الطبيعة. وهذا الجمال الوفير هذه الوفرة والمتنوع هذا التنوع في شتى المستويات لا يمكن أبداً أن ينشأ من الصدفة. وينتهي الفيزيائي هنري مارجينوا إلى أن جمال الطبيعة لا يمكن عزوه إلى الصدفة أو الضرورة فيقول: إننا لا نعتقد أن الجمال منحصر في عين الناظر، بل إن هناك سمات موضوعية تكمن على الأقل وراء بعض التجارب الجمالية، إن لم نقل وراءها جميعاً، مثل معدلات تردد أنغام الوتر الكبير، أو تناسق الأشكال الهندسية، أو الجاذبية الجمالية للألوان المتنامية المتجاورة. صحيح أنه ليس في أي من هذه الأشياء ما يساعد على البقاء، ولكنها جميعاً منتشرة في الطبيعة انتشاراً يصعب جداً أن يكون مجرد صدفة. ونحن نذهل لتغريد العصافير، ونسق الألوان في الأزهار (هل للحشرات حس جمالي؟)، ولتناسق ألوان ريش الطيور، وللجمال الذي لا يضاهى في ورقة القيقب الذاوية، ولونها عميق الحمرة، وعروقها الزرقاء، وأطرافها الذهبية. فهل في هذه ما يساعد على البقاء حين تكون الورقة مشرفة على السقوط؟».
    فإذا كانت الصدفة والضرورة، كلتاهما عاجزتين عن تفسير الجمال فلابد من وجود شيء غير هذين البديلين. فحيثما تصرفت العلة بفعل ضرورة فلابد من وجود داع لهذا التصرف، ولكنه تصرف أغلقت دونه جميع المسالك باستثناء مسلك واحد. أما الصدفة فهي من الناحية الأخرى تقبل البدائل، ولكن ليس هناك سبب يفسر تحقيق بديل دون غيره. والطريق الوسط بين هذين الطرفين علة تقبل البدائل، ولكن لديها في الوقت ذاته سبباً يفسر اختيارها لواحد منها دون سواه. فهل من شيء في تجاربنا يعمل بهذه الطريقة؟ واضح أن هناك شيئاً كهذا: إنه عقل كل منها.
    تأمل، للحظة قصيرة، حرفياً يصنع سكيناً لتقطيع الخبز لاستخدامه الشخصي. من الجلي بالضرورة أنه ستكون للسكين الجديدة شفرة، إذ أنه من دونها لن يستطيع قطع الخبز. أما تصميم المقبض المزخرف والمرصع فلا نستطيع عزوه إلى الضرورة لأن السكين قادر على أن يقطع الخبز بنجاح دون حاجة إلى أي زخرفة على الإطلاق. والحرفي يختار بمحض إرادته أن يزين أداته بالزخارف. ففي وسعه أن يضيف الزخارف أو لا يضيفها. فإذا اختار أضافتها توفرت له تشكيلة غير محدودة من التصاميم ينتقي منها ما يشاء. فزخرفة السكين تقبل البدائل؛ ومع ذلك فهناك سبب لوجودها وهو أن الفنان لا يريد سكيناً نافعاً فحسب، بل سكيناً جميلاً أيضاً. فالزخرفة إذاً ليست نتاج الصدفة ولا الضرورة، بل هي تصرف يتسم بحرية الاختيار. والعقل الذي يختار بحرية، إذاً، هو الطريق الوسط بين الصدفة والضرورة.
    وعلى النحو ذاته، لما كان الجمال في الطبيعة بالغ الوفرة فلا يمكن أن يكون ناشئاً من الصدفة، إذ لا بد له من سبب. ولكن هذا السبب لا يمكن حصره في نهج واحد، إذ ليس من ضرورة مطلقة تفرض أصلا وجود الجمال في الحيوان والنبات والجماد. وعلى ذلك يبدو أن الجمال المشاهد في الطبيعة ناشئ من علة لا تحكمها الضرورة، ولكن لديها مع ذلك سبباً يفسر تصرفها. وهذه العلة هي عقل، ومن ثم فإن هناك عقلاً مسؤولاً عن جمال الطبيعة وهذا العقل القائم وراء الطبيعة يطلق عليه كل الناس اسم «الله».
    رأينا في الفصل الثالث كيف أن النظرة الجديدة تجمع مجدداً بين العلوم والفنون الجميلة من خلال فهم الجمال. كما أن الشعراء، في تأملهم جمال الطبيعة، يدركون بدورهم أنه من صنع عقل ما. ومن أمثلة ذلك أن «ثورو»، إذ يرى أن الجمال لا يمكن أن تفسره الضرورة، يستبين الفنان الآلهي وراء الطبيعة، فيقول: «السماء تمطرنا وتسقط علينا ثلوجاً كالدرر. يا له من عالم عجيب هذا الذي نعيش فيه! أين متاجر الجواهر والحلي من ذلك؟ ليس هناك ما هو أجمل من ندفة ثلج أو قطرة ندى. أكاد أقول إن صانع هذا العالم تتجلى براعته في كل ندفة ثلج أو قطرة ندى يسقطها علينا. ونحن نظن أن الأولى تتماسك بطريقة ميكانيكية وأن الأخرى تسيل فتتهاوى بكل بساطة، ولكنهما في الحقيقة حصيلة حماس، ونتاج نشوة، أضيفت عليهما اللمسات الأخيرة بأقصى مهارة الفنان».
    والبشر يلحظون يد الله في ندفة الثلج وفي غروب الشمس وفي حقل الأعشاب. وعظمة الجمال وجلاله يحملان توقيع الله الذي لا شبهة فيه. يقول توماس مان (Thomas Mann) الجمال وحده إلهي ومرئي في آن معاً». أما إمرسون (Emerson) فيقدم لنا النصيحة التالي: إياك أن تفوت أي فرصة لمشاهدة أي شيء جميل لأن الجمال خط بيد الله. إنه قداس يقام على جانب الطريق. رحب بالجمال في كل وجه حسن، وفي كل سماء صافية، وفي كل زهرة جميلة، واشكر الله على ذلك.». وتعبر اليزابيث باريت برواننغ (Elizabeth Barret Browning) عن هذا الإحساس ذاته في بيتين من الشعر قصيرين:

    *********

    وهكذا ففي النظرة الجديدة نجد أن أصل الكون وبنيته وجماله تفضي جميعاً إلى النتيجة نفسها، وهي أن الله موجود.

    ----------------يتبع--------------

    متابعة إشرافية
    الموحد

  12. #12

    افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم

    كتاب قيم جداً .......... جزاك الله خيراً eeww2000

  13. افتراضي

    يرفع

    جزاك الله خيراً eeww2000

  14. افتراضي

    **********
    هل يجوز ترجمة كلام كهذا نرجو التعديل أو الحذف

  15. افتراضي

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    الأخ جابر

    تم حذف بيت الشعر من مداخلة الاخ eeww2000 , وجزاك الله خيراً على التنبيه .
    وما قدروا الله حق قدره

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. [The New Story of Science] العلم في منظوره الجديد *PDF*
    بواسطة وائل عاشور في المنتدى المكتبة
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 02-16-2013, 11:20 PM
  2. كتاب العلم فى منظوره الجديد
    بواسطة الموحد في المنتدى المكتبة
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 05-26-2012, 03:24 PM
  3. العلم الجديد الذي وزع في ميدان التحرير
    بواسطة عبدالرحمن الحنبلي في المنتدى قسم الحوار العام
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 08-05-2011, 02:25 PM
  4. مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 08-01-2006, 09:42 PM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء