صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12
النتائج 16 إلى 28 من 28

الموضوع: مناقشة كتاب العلم فى منظوره الجديد

  1. #16
    تاريخ التسجيل
    Sep 2004
    المشاركات
    2,203
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    وبه نستعين

    جازاك الله خيرا أخى
    eeww2000
    وبارك فيك
    والفائدة أصبحت مزدوجة بإضافة الأخ أحمد المنصور رابط كتاب موريس بوكاى بالعربية
    شكر الله لكما
    الدنيا ساعة اختبار *** فإما جنة وإما نار تحقق من حديث
    http://www.dorar.net/hadith.php

  2. افتراضي

    الاخ الفاضل الموحد, الاخ الفاضل جابر عثراث الكرام,

    بارك الله فيكما لغيرتكما ولكن اسمحا لى ان اعارضكما بخصوص: هل يجوز ترجمة مثل هذا الكلام وبخصوص ازالة النص. لا أتذكر ما جاء فى هتين البيتين فإن كان فيهما سب أو شتم فأتفق معكما (مع إني لا ا تذكر شيئا من هذا).

    اما اذا كان هو مجرد قصور في تعبير الكاتب فأرى من الامانة العلمية هي ترك النص. وحبذا لو بدل القص تمت اضافة ملاحظة لتنيه القارئ (أو لتبين عظمة هذا الدين القيم الذي اتى بما عجز عنه البلاغاء حتى فى اقصى لحظات صدقهم). وسيكون هذا اجمل وأصدق. ومن ناحية اخرى لو اتخدنا هذا كسبيل فى التعامل مع النصوص الذى يوردها الملحدون واللادينيون فسنصل الى نتيجة غلق المنتدى لانه لا يصح ترك الكلام الاشنع وقص الالطف.

    الكلام المكتوب ليس من تأليف استاذنا الكبير eeww2000 ولكن من ترجمته. والصدق فى الترجمة من شروط النقل.

    عموماً أقترح على الاخوة المشرفين نقل الموضوع الى ساحة المكتبة.
    وأسأل الله العلى القدير لى ولكم التوفيق.

  3. افتراضي

    الاخ الفاضل المشرف :
    هذه هى بقية الكتاب و اعتذر عن التاخير لظروف خارجة عن ارادتى و الامر مفوض لحذف ما تراه مخالف لشريعتنا لان ظروفى لم تسمح لى بمراجعته بدقة و لك و لكل الاخوة خالص الاحترام و المودة و السلام عليكم و رحمة الله


    الفصل الخامس
    الإنسان والمجتمع
    لو كان الإنسان مجرد كائن مادي، كما تزعم النظرة القديمة، لكان من المعقول أن تتخذ أشياء مادية أبسط، كالآلات، نماذج للسلوك البشري. فلكل آلة دافعة تشغلها، كالبخار أو الكهرباء أو الاحتراق الداخلي. وعلى ذلك كان أهم عنصر في الإنسان، وفقاً لعلم النفس في النظرة القديمة، هو قوته الدافعة. والقوى المادية في الآلة الإنسانية تتخذ شكل غرائز وانفعالات، هي مصدر جميع الأعمال التي يقوم بها الإنسان. أما العقل فلا يملك زمام الأمر لأنه نتاج ثانوي للمادة. إذاً فمفتاح سر النفس البشرية يكمن في اكتشاف أقوى غريزة أو عاطفة تدفع الإنسان وتطغى على كل ما عداها.
    وعلماء النفس في النظرة القديمة يتفقون على أن الغرائز والانفعالات هي التي تقود الإنسان، ولكنهم يختلفون بصدد تحديد الغريزة الأساسية. فبعضهم، مثل هوبز (Hobbes)، يزعمون أنها الخوف من الموت، بينما يقول مالثوس (Malthus) إنها غريزة الجوع، وفرويد (Freud) يقول إنها غريزة الجنس. ولكن متى تحدد الدافع الأساسي فعلوم النفس في النظرة القديمة تبدو متماثلة.
    لقد وضع هوبز، مثلاً، واحدة من أقدم النظريات النفسية في النظرة القديمة. وفي الثلاثينات من القرن السابع عشر ارتحل هوبز إلى القارة الأوروبية حيث تعرف على الأوساط العلمية. فالتقى بغاليليو (Galileo) في فلورنسا وأصبح من الأنصار المتحمسين للعلوم التجريبية حديثة النشأة، وأعتنق هوبز المذهب المادي المنهجي وجرى بحماس وراء إمكانية التوصل إلى فهم علمي جديد للإنسان بالإستناد إلى المادة فحسب.
    ويورد هوبز في مقدمة كتابه المسمى (Leviathan) مقارنة صريحة للإنسان بالآلة، كما يشبه أجزاء المجتمع البشري بأجزاء الآلة. وهو في تفسيره للسلوك البشري يولي الدور الأساسي للعواطف، ويعزو تفاوت الذكاء بين الناس إلى ما بينهم من فوارق في العواطف. فيقول: «إن هذا الاختلاف في الفطن يرجع إلى الاختلاف في العواطف». وبناء على ذلك، فالإنسان الذي يخلو من عواطف قوية يفتقر إلى الحافز: «فقد يكون هذا الإنسان حتى الآن رجلاً فاضلاً بحيث لا يسيء إلى غيره، ولكنه لن يستطيع أبداً أن يكون ذا خيال واسع أو رأي حصيف. فكما أن انعدام الرغبة يعني الموت، كذلك يعني وهن العواطف بلادة الحس».
    ويصف هوبز ما ينجم عن طبيعة الإنسان الانفعالية من صراع محتوم فيقول: «إن التنافس على الثروة والشرف والسيادة أو على غيرها من أسباب السلطة يبعث على النزاع والعداوة والحرب، لأن سبيل المتنافس إلى تحقيق رغباته هو قتل منافسه أو إخضاعه أو الحلول محله أو صده».
    ويقول هوبز إنه لو كان الإنسان يعيش في ظروفه الطبيعية من غير أن يخضع لقيود السلطة الحاكمة لما انفسح المجال لأسباب الحضارة في حياتنا: «فلا فنون، ولا آداب، ولا مجتمع، بل –وهذا أسوأ الأحوال- خوف متواصل، وخطر يهدد الإنسان بالموت العنيف، وحياة عزلة وانزواء وكراهية وبهيمية قصيرة الأجل».
    إنها صورة قائمة. ولكن الإنسان اخترع نظام الدولة لعلاج هذا الوضع الذي لا يطاق. ويشرح هوبز كيف أن حفظ الذات هو الأساس الذي يقوم عليه المجتمع السياسي فيقول: «إن الغاية النهائية أو الغرض النهائي الذي ينشده الناس (وهم المفطورون على عشق الحرية والهيمنة على غيرهم) من فرض هذا القيد على أنفسهم (حيث نراهم يعيشون في مجتمعات تربط بين أعضائها مصالح مشتركة) هي حفظ ذواتهم والإخلاد من ثم إلى حياة أدعى إلى الطمأنينة ، أي بتخليص أنفسهم من حالة الحرب البائسة المترتبة بالضرورة (كما أوضحنا من قبل) على أهواء الناس الفطرية».
    وعلى هذا الأسس يقول هوبز إن الدولة يجب أن تكون دكتاتورية، إذا لن يكفي لكبح أهواء الناس إلا السلطة المطلقة.
    وبعد هوبز بثلاثمائة عام يبدأ فرويد دراسته للإنسان مفترضاً أن لا وجود إلا للمادة: فالمحللون النفسيون «هم في صميمهم أنصار للآلية والمادية شديدو العناد». وفرويد يعتبر أن هذا هو النهج العلمي الوحيد في دراسة النفس البشرية. وهو بالتالي يتبنى نموذج الإنسان الميكانيكي العام الذي وضعه هوبز. وهو يبين ذلك حين يصف نفسه بأنه «عالم نفسي أصر دائماً على ضآلة الدور الذي يقوم به العقل في شئون الإنسان حين تقارنه بالحياة الغريزية».
    ويؤكد فرويد أن غريزة الجنس هي القوة الدافعة للإنسان فيقول: «إن الحب الجنسي قد أعطانا أعمق ما خبرناه من إحساس بالمتعة يطغى على ما سواه، وبذلك زودنا بنمط للبحث عن سعادتنا». ولكن سرعان ما يكتشف المرء أن حافز المتعة هذا يؤدي إلى الصراع: «إن ما يحدد الغاية من الحياة لا يعدو أن يكون برنامج مبدأ المتعة. وهذا المبدأ يسيطر على عمل الجهاز العقلي منذ البداية. وما من شك في فعالية هذا المبدأ، وإن كان برنامجه في صدام مع العالم بأكمله –العالم الأكبر والعالم الأصغر على حد سواء. وليس هناك بتاتاً أي إمكانية لإنجاز هذا البرنامج إذ إن جميع قوانين الكون تصطدم معه».
    ويرى فرويد أن إحباط غريزة المتعة –وهو أمر لا مناص منه –يجبرنا على البحث عن بدائل: «فالحياة كما نجدها أصعب من أن تطاق. فهي تسبب لنا من الآلام والإخفاق أكثر مما ينبغي، وتحملنا مهمات مستحيلة مفرطة في الكثرة. ولكي نطبقها لا نملك الاستغناء عن تدابير ملطفة. وربما كان هناك ثلاثة تدابير من هذا النوع: ازاغات (deflections) قوية تجعلنا نستهين بالبؤس الذي نحن فيه، وإشباعات بديلة تخفف من هذا البؤس، ومسكرات تبلد إحساسنا به. والنشاط العلمي هو ازاغة من هذا القبيل، وكذلك الإشباع الاستعاضي الذي يوفره الفن، وهما وهمان على تناقض مع الحقيقة، ولكنهما مع ذلك فعالان من الناحية النفسية».
    ويواصل فرويد حديثه قائلاً: «وعمليات النقل هذه من الدوافع الجنسي الغريزي (اللبيدو) displacements of libido كالمتعة التي يحس بها الفنان وهو يبدع أو العالم وهو يحل المسائل أو يكتشف الحقائق، قد تبدو «أجمل وأسمى»، ولكن حدتها أخف إذا قيست بحدة المتعة المستمدة من إشباع الحوافز الغريزية الأساسية والفظة. فهي لا تهز كياننا البدني». وهكذا «فالخدر الخفيف الذي يحدثه الفن فينا لا يستطيع أن يفعل أكثر من أن يلهينا إلهاء مؤقتاً عن ضغط الحاجات الحيوية، وهو ليس من القوة بحيث ينسينا الشقاء الحقيقي».
    وهذا النهج، حين يترجم إلى لغة طب النفس الإكلينيكي، يسبب أحياناً صعوبات للمريض. فعلى سبيل المثال، يذكر الطبيب النفساني لورنس هاترر Lawrence Hatterer) أن كثيراً من الفنانين يشعرون بعد مغادرة عيادة الطبيب النفساني بالسخط لسماع تفسيرات من هذا النوع: إن الأديب يكتب لأنه يهوى جمع المظالم أو لأنه ماسوشي سادي (Sadomasochist)، وأن الرسام يرسم ليتغلب على نظام الأمعاء الصارم بالتلطيخ الحر».
    وأسوأ من ذلك أن حوافز الإنسان الغريزية الفظة تتضارب في نظر فرويد مع أهداف المجتمع. وهذا ما ينتج بالضرورة إذا كان «لابد من بناء كل حضارة على الإكراه وإنكار الغرائز»، وإذا كان «من جملة هذه الرغبات الغريزية غشيان المحارم، وأكل لحوم البشر، وشهوة القتل». وكل مجتمع يريد مجرد الحفاظ على نفسه لا مفر له من كتب هذه الرغبات في الإنسان. وعند فرويد أن هذا الكبت يولد في نفس الفرد إحساساً بالحرمان والإحباط. ولهذا السبب يعلن فرويد أن «كل فرد هو عدو محتمل للحضارة، وإن كان يفترض أن الحضارة موضع اهتمام الجنس البشري بأسره».
    ونتيجة ذلك فالإنسان لا يمكنه أبداً أن يكون سعيداً في المجتمع لأن المجتمع يتناقض مع ميوله الفطرية. وعلى ذلك يخلص فرويد إلى أنه «إذا كانت الحضارة تفرض مثل هذه التضحيات الكبيرة لا على نشاط الإنسان الجنسي فحسب، بل على نزعته العدوانية، فنحن نستطيع أن نفهم على وجه أفضل لماذا يصعب على الإنسان أن يحس بالسعادة في كنف الحضارة. فالواقع أن الإنسان البدائي كان أحسن حالاً إذ لم يعرف قيوداً فرضت على غرائزه». والمجتمع الذي هو بعيد عن أن يكون العلاج الذي ظنه هوبز يزيد في رأي فرويد من حدة إحساس الإنسان بالشقاء.
    وبعد فرويد ظهر في العشرينات من هذا القرن تطور آخر في مدرسة علم النفس التابعة للنظرة القديمة، ونعني بذلك المذهب السلوكي. ومؤسس هذا المذهب هو جون ب. واتسن (John B. Watson) الذي حاز على درجة الدكتوراه في علم النفس من جامعة شيكاغو عام 1903. فبعد أن قام واتسن بإجراء تجارب واسعة النطاق على الجرذان والعصافير والقرود سعى إلى إرساء علم النفس كفرع موضوعي كلياً من فروع العلم الطبيعي، ليس أحوج إلى ما سماه الاستبطان من علم الكيمياء أو الفيزياء، على أساس أن السلوك، من بين جميع الأعمال التي يقوم بها الإنسان، هو وحده القابل للمراقبة من الخارج بالتجارب الموضوعية. ففي رأي واتسن أن السلوك وحده، لا الوعي، هو الموضوع الصحيح لعلم النفس.
    والسلوكية لا تحاول أن تستمد العقل من المادة، ولكنها تسأل لماذا ينبغي للعلم أن يعترف بالعقل أصلاً إذا لم يكن قط مصدراً لأي تفسير علمي. وتبعاً لذلك تؤكد السلوكية أن جسم الإنسان هو الحقيقة الإنسانية الوحيدة، وأن من الواجب أن يستبعد «العقل» ومعه جميع بهارجه من مجال العلوم. والسلوكية بهذا المعنى أكثر ايغالاً في المادية من علم النفس الفرويدي. ويمثل التحول عن مذهب فرويد إلى المذهب السلوكي تقدماً في أفول نجم العقل.
    ففي إطار السلوكية أصبح لزاماً أن يستبعد كل ما كان يعزي في السابق إلى العقل، أو أن يصاغ تعريفه من جديد بوصفه سلوكاً يمكن أن يراقب من الخارج.
    ويذكر واتسن أن أول خطوة كان عليه أن يتخذها كعالم نفسي ملتزم بالمنهج العلمي أن يسقط من «مفرداته العلمية جميع العبارات الذاتية كالإحساس والإدراك والصورة الذهنية والرغبة والغاية، بل التفكير والعاطفة لانطوائهما على تعريف ذاتي». ويضيف قائلاً: «إن السلوكي لا يعترف بما يسمى السمات الذهنية أو النزعات أو الميول». أما جوانب العقل التي لا يمكن إنكارها فيتحتم أن تعرف من جديد بعبارات سلوكية فحسب. وهكذا أصبح التفكير يسمى «التكلم دون الصوتي Subvical». ويعلن واتسن أن «التكلم والتفكير، إذا فهما على الوجه الصحيح، يسهمان إسهاماً كبيراً في تحطيم الخرافة القائلة إن هناك شيئاً يدعى «الحياة العقلية».
    فأي صورة للإنسان تسفر عنها السلوكية؟ وتتجلى مادية واتسن المنهجية حين يتحدث عن دواعي التصرفات الإنسانية فيقول: «إن الإنسان بوصفه نتيجة طبيعية للطريقة التي ركب بها وللمادة التي جبل منها، لابد له من أن يتصرف كما يتصرف بالفعل (إلى أن يعيد التعلم صياغته)». والسلوكية تطرح المادة وتركيبات المادة باعتبارها الأسباب الوحيدة لتصرفات الإنسان. والإنسان بهذا المنظار، قطعة هامدة من المادة لابد من تشغيلها بقوى خارجية.
    ومن الجلي أن هذا النموذج مأخوذ عن الفيزياء: فالجسم الساكن يظل ساكناً ما لم تؤثر فيه قوة من الخارج. والإنسان لا يتصرف من تلقاء نفسه، بل يخضع لتصرفات تفرض عليه. وهذا ما يفسر نزوع واتسن إلى تفاسير من قبيل «لحافز والاستجابة». فهو يقول: «إن المقياس أو قضيب القياس الذي يضعه السلوكي أمامه دائماً هو كالتالي: هل أستطيع أن أصف هذا الجزء الصغير من السلوك بلغة الحافز والاستجابة؟. ويقصد واستن بكلمة «الحافز» أي شيء يحدث تغيراً فسيولوجياً في الكائن الحي. أما «الاستجابة» فيقصد بها السلوك القابل للملاحظة، والذي يفضل أن يكون قابلاً للقياس. ومن الجدير بالذكر أن لفظة Stimulus (الحافز) اللاتينية كانت تعني في الأصل «المهماز».
    ويذكر واتسن للسلوكية هدفين اثنين: «التنبؤ بالنشاط الإنساني»، و «صياغة قوانين ومبادئ يستطيع المجتمع المنظم بواسطتها ضبط تصرفات الإنسان». فإذا لم يكن الإنسان أكثر من كيان مادي فليس هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بعدم إمكانية برمجته كما تبرمج الآلة. وقد اصطدمت نظريات واتسن بمقاومة عنيفة من جبهات متعددة. ويعلق واتسن قائلاً: «إن السلوكية لا تناسب الموسوسين. ومن ذلك قوله مثلاً: «الناس على استعداد للاعتراف بأنهم حيوانات ولكنهم «بالإضافة إلى ذلك شيء آخر». وهذا الشيء الآخر «هو الذي يخلق المشاكل، ويندرج تحت هذا «الشيء الآخر» كل ما يعرف بالدين، والحياة بعد الموت، والأخلاق، وحب الأطفال والوالدين والوطن وما شاكل ذلك. والحقيقية العارية هي أنك، كعالم نفسي، لابد لك في هذه الحالة، إذا أردت أن تظل علمي المنهج، أن تصف سلوك الإنسان بعبارات لا تختلف عن تلك التي تستخدمها في وصفك لسلوك الثور الذي تنحره، وهذه الحقيقة قد صرفت وما فتئت تصرف الكثيرين من ذوي النفوس الرعديدة عن السلوكية». على أن «الشيء الآخر» من ذوات الناس الذي يريدون الاستمساك به بعناد هو العقل. ونظراً لما تعرضت له آراء واتسن من نقد، ولأسباب أخرى، اعتزل واتسن المجتمع الأكاديمي نهائياً في عام 1921 وأخذ يشتغل بمهنة تجارية في الميدان الإعلاني.
    ولقد رأينا في فصول سابقة كيف بدأت النظرة العلمية الجديدة بنظرية النسبية وميكانيكا الكم اللتين برهنتا على محورية العقل حتى في مجال الفيزياء. وذكرنا ثانياً ما حظيت به النظرة الجديدة من تأييد كبار العلماء، في مبحث الأعصاب في هذا القرن، الذين كشفوا النقاب عن أدلة تثبت استقلال العقل واستحالة إرجاعه إلى المادة «انظر الفصل الثاني». وفي علم النفس المعاصر حركة تتجه إلى النتيجة ذاتها، وهي أولية العقل. ففي أعقاب الحرب العالمية لثانية شعر كثيرون من علماء النفس أن إخضاع العقل للغريزة في طريقة التحليل النفسي، وإلغاء العقل في السلوكية، قد أفضيا إلى تجريد الإنسان من إنسانيته في علم النفس، معتبرين أن هذا موقف لا يطاق في فرع من فروع المعرفة مكرس لخدمة الجنس البشري.
    وأخيراً التحمت في الخمسينات من هذا القرن «قوة ثالثة» في علم النفس (إلى جانب القوتين الأخريين : التحليل النفسي والسلوكية).
    ويصف العالم النفسي فرانك ت. سفرين (Frank T. Severin) هذه الحركة الجديدة بقوله: إن أتباعها «لا يتكلمون بصوت واحد، ولا يشكلون مدرسة فكرية مستقلة، ولا هم متخصصون في أي مجال ذي مضمون محدد. بل إن كل ما يجمع بينهم هو الهدف لمشترك المتمثل في «أنسنة» علم النفس. ففي اجتماع وطني للرابطة الأمريكية لعلم النفس عقد في عام 1971، قررت هذه الحركة الجديدة أن تطلق على نفسها اسم «علم النفس الإنساني». وهذه هي سيكولوجيا النظرة لعلمية الجديدة. وسنبدأ أولاً بوصف أهداف هذه الحركة الجديدة ومناهجها، ثم نتناول بالبحث ما عندها من أقوال عن الإنسان وعن سعادته وعن علاقة الفرد بالمجتمع.
    ويشرح العالم النفسي ايرفن ل. تشايلد (Irvin L. Child)، الأستاذ بجامعة بيل، المنحي الأساسي لعلم النفس الجديد فيقول: «يعرف علم النفس الإنساني بالإنسان الذي يتخذه نموذجاً له، وبإصراره على أن جملة المعارف العلمية ستتنامى بأقصى قدر من المنفعة إذا هي اهتدت بتصور للإنسان كما يعرف هو نفسه، لا بأي محاكاة غير إنسانية». وما الذي يجعلنا بحاجة إلى نموذج للإنسان إذا كنا نحن أنفسنا من بني الإنسان» فالنموذج شبه مؤقت يؤخذ من شيء يقع خارج موضوع البحث ذاته. وهو يفيد حين تكون طبيعة الشيء بعيدة عنا أو مبهمة. فالنموذج الكوكبي للذرة الذي وضعه نيلزبور (Niels Bohr) يفيد في أغراض معينة، إذ لا سبيل أمامنا لنعرف ما هي أحاسيس الذرة، ولكن لدينا بالفعل معلومات من داخلنا عن كيفية إحساس الإنسان بنفسه. ويواصل تشايلد حديثه قائلاً: «فعلم النفس الإنساني، إذاً، يتكون من جميع تيارات علم النفس الفكرية التي ينظر فيها إلى الإنسان، على ما نحو ما، كما ينظر هو عادة إلى نفسه، أي بوصفه إنساناً، لا مجرد حيوان أو آلة. فالإنسان قوة واعية، وهذه هي نقطة الانطلاق. فهو يجرب، وهو يقرر، وهو يتصرف. فإذا وجدت ظروف يمكن في ظلها أن تتحقق منفعة بالنظر إلى الإنسان تماماً من الخارج، كما لو كان يستجيب لحافز خارجي استجابة آلية منتظمة يتسنى التنبؤ بها، فربما كان الأخذ بنموذج آلي مفيداً في مثل هذه الظروف. ولكن علم النفس الإنساني ينطلق من افتراض كون مثل هذه الظروف حالات خاصة، ومن أن تأسيس علم النفس بأكمله عليها سيكون افتقاراً لهذا العلم، وقيدا من شأنه أن يحول دون تطبيقه العام على فهم طبيعة الإنسان».
    الإنسان قوة واعية: هذه هي نقطة الانطلاق. فأولية العقل هي جوهر علم النفس الإنساني، كما أنها الموضوع الرئيس الذي تدور حوله النظرة العلمية الجديدة. ويضيف سفرين، بوصف ذلك خصيصه جوهرية من خصائص علم النفس الإنساني، أن «الوعي أو الإدراك هو أهم العمليات النفسية الأساسية». أما فيما يتعلق بالمنهج فيتابع سفرين حديثه قائلاً: «إن النظريات السلوكية للعلم ترتكز إلى حد بعيد على نظريات القرن التاسع عشر التي لم تعد تعتبر صحيحة. ومن شأن علماء النفس أن يتمكنوا، بإدماجهم الجديد بما اكتنهه الفيزيائيون والفلاسفة، من وضع منهجيات تكون أكثر انسجاماً مع موضوع بحثهم الفريد من نوعه».
    والعالم النفسي كارل روجرز (Carl Rogers) يردد الرأي نفسه فيقول: «لقد سعى علم النفس، في محاولة منه للمغالاة في منهجه العلمي، إلى اقتفاء أثر فيزياء نيوتن. وقد أعرب أوبنهايمر (Oppenheimer) عن أفكاره بقوة حول هذا الموضوع قائلاً: إن أسوأ ما يمكن تصوره من حالات سوء الفهم هو أن يتأثر علم النفس تأثراً يجعله بصوغ نفسه على غرار فيزياء لم يعد لها الآن وجود، فيزياء عفي عليها الزمن. وأعتقد أن هناك إجماعاً في الرأي على أن هذا هو الطريق الذي قادتنا إليه السلوكية الوضعية المنطقية».
    وفضلاً عن ذلك، إذا كان الإنسان يملك حرية الاختيار فلا داعي إذ ذاك إلى قصر كل السلوك الإنساني على آليات غريزية أدنى من مستوى البشر، ولا حاجة إلى أن يفترض أن الدوافع الواعية للإنسان المعافى ليست هي الأسباب الحقيقية لتصرفاته. وهذا ما يحذر منه العالم النفسي فكتور فرانكل (Victor Frankl) بقوله: «إن كشف الأقنعة عملية مشروعة تماماً، غير أني أرى أن الواجب يقضي بالتوقف عن ذلك حالماً يواجه المرء ما هو أصيل الصدق –ما هو إنساني حقاً- في الإنسان. فإذا لم توقف العملية عند هذا الحد فالشيء الوحيد الذي يكشف عنه «العالم النفسي لكاشف» فعلاً هو «دافعه الخفي»، وأعني به حاجته اللاواعية إلى الحط والانتقاص من إنسانية الإنسان».
    والإنسان في النظرة الجديدة ليس رزمة من ردود الفعل أو الدافع أو الآليات النفسانية، ولا هو نتاج فرعي لقوى خارجية، فالنظرة الجديدة تنشد نموذجاً إنسانياً لدراسة الإنسان، نموذجاً لن تستطيع من دونه أبداً أن نمد يد العون للمحتاجين. ويحذرنا فرانكل قائلاً: «لن نستطيع فعلاً أن نغيث لإنسان في ورطته إذا كنا نصر على أن تصورنا للإنسان ينبغي أن يصاغ على نمط «نموذج الآله» أو على «نموذج الجرذ». ويقول العالم النفسي رولو ماي (Rollo May): «إذا كنا عازمين على أن ندرس الإنسان ونفهمه فنحن بحاجة إلى نموذج إنساني. وقد يبدو هذا أمراً بديهياً، بل ينبغي أن يكون كذلك. غير أن المدهش في الأمر هو أنه ليس كذلك على الإطلاق. فأنا في عجب متواصل للدهشة التي يعرب عنها زملاؤنا العلماء في بعض حقول المعرفة الأخرى كالفيزياء وعلم الأحياء حين يكتشفون أننا نأخذ نماذجنا لا من علومهم فحسب، بل في أحيان كثيرة من أشكال بالية من علمهم كانوا هم أنفسهم قد نبذوها».
    والشكل البالي من العلم الذي يشير إليه ماي آلية لنظرة القديمة وماديتها.
    فالإنسان يملك القدرة على التصرف من أجل تحقيق أهداف ينتقيها هو نفسه. غير أن الأهداف تستند إلى قيم. وعلى ذلك فإن علم النفس في النظرة الجديدة يشمل دراسة القيم، ويوضح روجرز أن علم النفس الجديد يشمل ثروات الفرد الروحية والعقلية فيقول: «في هذا العالم من المعاني الروحية والعقلية ما يستطيع هذا العلم أن يبحث جميع المسائل التي ليس لها معنى لدى السلوكي: الغايات، والأهداف، والقيم، والاختيار، وفهم الذات، وفهم الآخرين، والتصورات الشخصية التي نبني بها عالمنا، والمسئوليات التي نقبلها أو نرفضها وكل عالم الفرد المدرك بالحواس بنسيجه الضام للمعنى».
    ويضيف سفرين قائلاً: «إن أي علم يتصور نفسه متحرراً من القيم هو علم بال وقديم». ويوافق العالم في مبحث الأعصاب. روجر سبري (Roger Sperry)، على ذلك قائلاً: «وفقاً لتصوراتنا الجديدة عن الوعي تصبح القيم الأخلاقية والأدبية جزءاً مشروعاً جداً من علم الدماغ إذ لم تعد تتصور قابلة لأن تحصر في فسيولوجيا لدماغ. ونحن الأن، بدلاً من ذلك، نرى أن القيم الذاتية نفسها تمارس تأثيراً سببياً قوياً في وظيفة الدماغ وسلوكه. وهي عوامل عالمية حاسمة في كل ما يتخذه الإنسان من قرارات، وهي تشكل بالفعل أشد القوى السببية الضابطة التي توجه الأن مجرى الأحداث العالمية».
    ومؤدي ذلك أن حياة الإنسان الفكرية وحياته الأخلاقية وحياته الروحية هي حقائق تماماً مثل حقيقة حياته البيولوجية. ولو كان للعقل حياة خاصة به، مستقلة عن المادة، لكانت محاولة إرجاع الفن والدين والتاريخ والأخلاق والسياسة والمؤسسات الإنسانية إلى الغرائز البدائية والضرورات البيولوجية برنامجاً لا أمل في تحقيقه، ولكن من شأن الإصرار عليه أن يعزلنا عن فهم الإنسان فهماً حقيقياً.
    وإنسان اليوم ينتظر من علم النفس أن يهديه إلى ما هو خير في الشئون الإنسانية. يقول رولو ماي باسم علماء النفس: «نحن ممثلي العلم الجديد المعينين للعمل في ملكوت عقل الإنسان وروحه. وقد أحال إلينا المجتمع، شئنا ذلك أم أبيناه، مهمة تقديم إجابات عن الأسئلة الجوهرية المتعلقة بالأخلاق والروح».
    وأحد الأسئلة الأساسية المتعلقة بالأخلاق ينصب على أولوية بعض القيم على غيرها. ونحن نختار أشياء لاعتقادنا بأنها خير لنا. ولكن هل بعض الأشياء أفضل في جوهرها من غيرها؟ وهل من سبيل إلى تصنيف مراتب السلع الإنسانية؟
    لو كان الإنسان مادة فحسب لكان من المتوقع أن تشدد النظرة القديمة على السلع المادية لجسدية، ولكان يمكن أن يبدو السعي وراء الفنون، بل حتى السعي وراء العلم ذاته، بدائل شاحبة لإشباع الحوافز الغريزية الفظة والأولية». والعالم النفسي أبراهام ماسلو (Abraham Maslow) ينتقد أولئك الذين يحصرون جميع الأنشطة الإنسانية في دائرة الدوافع والغرائز فيقول: «لأن الحاجات الأدنى والأشد إلحاحاً هي حاجات مادية، كالمأكل والمأوى والملبس وما إلى ذلك، فإنهم يجنحون إلى تعميم ذلك على علم نفس مادي بالدرجة الأولى يقوم على الحوافز، ويفوتهم أن هناك كذلك حاجات أسمى، غير مادية، هي أيضاً «أساسية».
    ولكن إذا لم يكن عقل الإنسان من صنع المادة، كما تؤكد النظرة الجديدة، فهذا يعني أن له حياة خاصة به ومستقلة عن المادة، بحيث تكون هناك سلع روحية وسلع مادية على السواء. ونحن نعني بالسلع الروحية القيم الأخلاقية والفكرية والجمالية. ويعرض فرانكل نهج النظرة الجديدة فيقول: «إن طموحات الإنسان الروحية وكذلك احباطاته الروحية ينبغي أن تؤخذ بمعانيها الظاهرة، كما ينبغي عدم التهوين من أثرها، وعدم تحليلها على نحو يفقدها معناها».
    فما هي السلع الروحية عند الإنسان؟ إن من الممكن تقسيمها إلى فئتين عريضتين هما: سلع الفكر وسلع الشخصية. وتشمل الفئة الأولى المعرفة العقلية، لا العلم وحده، وكذلك المهارة الفنية، وسداد الرأي في الشئون العملية، والحكمة. أما الفئة الثانية فتشمل جميع خصال الإرادة الجديرة بالإطراء كالكرم والشجاعة والأمانة.
    وأول ما نلاحظه بشان هذه السلع الروحية أنها لا تكتسب إلا بالاختيار الحر. وعلى حد تعبير فرانكل: «القيم لا تحفز الإنسان ولا تدفعه، بل هي على الأصح تشده. فلا يمكن أن يوجد في الإنسان أي شيء يشبه الحافز الأخلاقي، أو حتى الحافز الديني، بنفس طريقة الغرائز الأساسية. فالإنسان لا يدفع أبداً إلى السلوك الأخلاقي دفعاً، ولكنه في كل حالة يقرر أن يتصرف تصرفاً أخلاقياً.
    أما السلع المادية فيمكن أن تأتينا من الطبيعة أو عن طريق الصدفة. فالإنسان قد يولد قوياً في بدنه، أو قد يكسب ثروة في اليانصيب وعلى نقيض ذلك، يصبح المرء عالماً بيولوجياً أو يكون أميناً لا بالفطرة أو بالصدفة، بل باختياره فقط. فالسلع الروحية لابد من اختيارها. وقد شهد فرانكل تحلل الإنسان من المبادئ الأخلاقية عندما كان سجيناً في عدد من معسكرات الاعتقال النازية إبان الحرب العالمية الثانية. وهو يقول: لقد شهدنا بعضا من رفاقنا يتصرفون كالخنازير في حين كان آخرون يتصرفون كالقديسيين. فالإنسان تكمن فيه كلتا الإمكانيتين. وتحقيق أي منهما يتوقف على قرارات، لا على ظروف».
    والسلع الروحية هي تلك التي يتميز بها الإنسان، وهي تكتسب بالاختيار وحده ويمكن أن تفقد بالاختيار وحده. فمن غير المستطاع مثلا، أن يجرد أحد قسرا من سلع شخصيته. قد يستطيع شخص ما بالقوة، أن يستولى على ممتلكاتنا، أو يعتدي علينا بدنيا. ومن الممكن أن نخسر سلعنا المادية على كره منا. ولكن لا أحد يستطيع أن يكرهنا على أن نكون ظالمين أو جبناء ما لم نرتض ذلك. وغيرنا يستطيع أن يعاملنا كالبهائم، ولكن أن نتصرف كبهائم، حتى داخل معسكر اعتقال، فأمر متروك لنا كلياً.
    والشيء نفسه ينطبق على السلع الفكرية. فهي وحدها التي تبقى لنا حين نكون قد جردنا من كل ما عداها. ويمثل ماى على ذلك بإيراد حالة عجيبة في بابها: «كريستوفر بيرني، وهو شاب بريطاني كان ضابطاً في هيئة الجاسوسية، أنزل بمظلة وراء خطوط العدو في الحرب العالمية الثانية وقبض عليه الألمان. وقد وضع في حبس انفرادي بلا كتاب ولا قلم ولا أوراق للكتابة طوال ثمانية عشر شهراً. على أن بيرني، وهو في زنزانته البالغة مساحتها ستة أقدام في ستة أقدام، قرر أن يراجع كل يوم في ذهنه الدروس التي تعلمها في المدرسة وفي الكلية الواحد تلو الآخر. فأخذ يراجع النظريات الهندسية، وفكر سبنوزا وغيره من الفلاسفة، ويستعرض في ذهنه الملامح العامة للآثار الأدبية التي قرأها، وهكذا دواليك. وهو في كتابه «الحبس الانفرادي» (Solitary Confinement) يبين كيف أن «حرية العقل»، كما يسميها، أبقته سليم العقل خلال عزلة دامت ثمانية عشر شهراً».
    ويشهد فرانكل على أن السلع الروحية تمد بقوة تفوق قوة السلع البدنية. وهو يتذكر كيف أن ذوي الموارد الروحية من زملائه الأسرى في معسكر الاعتقال في آوشفيتس كانوا أحسن حالاً من أولئك الذين يتمتعون بقوة بدنية أعظم. يقول: «الأشخاص ذوو الشعور المرهف الذين كانوا متعودين على حياة فكرية خصبة ربما قاسوا كثيراً من الآلام (كانوا في الغالب ضعيفي البنية)، غير أن الضرر الذي أصاب كيانهم الروحي والعقلي كان أخف وطأة. فقد كان في مقدورهم أن ينسحبوا بأنفسهم من وسطهم الرهيب إلى حياة تتسم بالغنى الداخلي والحرية الروحية. وبهذه الطريقة وحدها يستطيع المرء أن يفسر التناقض الظاهري المتمثل في أن بعض الأسرى من ذوي البنية الأقل متانة كانوا في الغالب أقدر على تحمل حياة المعسكر من الأسرى ذوي البنية القوية».
    إن قدرة الإنسان على الاختيار، بقطع النظر عن تنشئته أو تاريخ حياته، وعلى تقرير اتجاهه في الحياة لا تلقي على كاهله مسئولية جسيمة فحسب، بل ترفعه إلى منزلة تسمو سمواً بعيداً على منزلة العالم المادي.
    وعلم النفس في النظرة الجديدة يقر بأن العقل والعزيمة هما أسمى ملكات الإنسان. وهكذا فلعقل، بدلاً من أن يكون مهرباً أو وهماً كما عند فرويد، هو ملكوت الواقع وتحقيق الذات. وإذا كان العقل والإرادة يميزان الإنسان من الحيوان فدراسة الفنون الجميلة والعلوم وثروات الشخصية هي أسمى أنشطة الإنسان.
    ويصف سبرى النظرة الجديدة إلى العقل فيقول: «العقل والإرادة يحتلان مقعد القيادة، إذا جاز لنا التعبير، فهما يصدران الأوامر ويدفعان ويوجهان فسيولوجيا الجسم والعمليات الفيزيائية والكيميائية بقدر ما توجههما هذه العمليات أو أكثر. وهذه النظرة تعيد العقل إلى مكانته فوق المادة إلى حد ما، لا تحتها أو خارجها أو بجانبها. والفعالية السببية لفكرة أو لمثل أعلى تصبح حقيقة كحقيقة الجزئ، أو الخلية، أو نبضة العصب».
    والعقل والإرادة لا يسيطران على الجسم فحسب، بل يسيطران أيضاً على الانفعالات ويبطلانها عند الضرورة. وبإخضاع الانفعالات للعقل يصبح الوئام والسعادة في متناول الإنسان. ويصف ماسلو، بعد خبرة مهنية طويلة، الشخص الذي وفق بين جميع مكونات طبيعته، لا بالقضاء على انفعالاته، بل بتوجيهها وفقاً لحكم العقل، فيقول: «لا يوجد إلا في الأشخاص الأصحاء علاقة متبادلة بين الابتهاج بالتجربة، والدافع إلى التجربة أو الرغبة فيها، وبين «الحاجة الأساسية» إلى التجربة (فهي تنفعهم في المدى البعيد). وهؤلاء وأمثالهم وحدهم يتوقون باطراد إلى ما فيه خيرهم وخير الآخرين، وإذ ذاك يستطيعون التمتع به بكل جوارحهم، ويقرونه. والفضيلة في نظر هؤلاء الناس هي التي تكافئ نفسها بنفسها، بمعنى أنها تكون متعة في حد ذاتها. ويغلب على هؤلاء الناس أن يفعلوا الخير بصورة عفوية لأن هذا ما يريدون أن يفعلوه، وما يحتاجون إلى فعله، وما يتمتعون بفعله، وما يستحسنون أن يفعل، وما سيظلون ينعمون به».
    وعلى نقيض ذلك، يختار بعض الناس في العادة أن يطلقوا العنان لأهوائهم حتى وإن كانت تناقض ما يعرف العقل أنه خير. والصراع الداخلي هو الذي يتسم به هؤلاء الأشخاص كما يشرح ماسلو: «ما يريد أن يفعله قد يضر به، حتى لو فعله فقد لا يستسيغه، وحتى لو استساغه فقد يستنكره في الوقت ذاته، بحيث تصبح المتعة ذاتها مسمومة أو قد تتلاشى بسرعة. وما يستمتع به في البداية قد لا يستمتع به في وقت لاحق. وهكذا تصبح حوافزه ورغباته وملذاته دليلاً شيئاً للعيش. وتبعاً لذلك يتحتم عليه أن يرتاب في حوافزه وملذاته التي تضلله وأن يخافها. وهكذا يتورط في صراع وانفصام وحيرة. وباختصار يتورط في حرب أهلية».
    إذاً فالانسجام داخل طبيعة الإنسان أمر ممكن في النظرة الجديدة، وكذلك الانسجام بين الفرد والمجتمع للسبب ذاته. أما الصراع بين الناس فيبدو ناجماً عن تركيز النظرة القديمة على السلع المادية. فالمال والسلطان، مثلاً، يؤديان فعلاً إلى التنافس، أما السلع الروحية فلا تؤدي إلى ذلك إذ إنها بطبيعتها سلع مشتركة. وهي تعزز التعاون لأن كل واحد يستطيع أن يكون له فيها سهم دون الإنقاص من حصة أي من الآخرين. والقيم الروحية كالصدق والجمال والطيبة توضح هذه النقطة.
    فالصدق سلعة مشتركة. وهو، خلافاً للسلع المادية، يمكن تشاطره دون خسارة. ويصف الكساندر سولجنتسن (Alexandr Solzhenitsyn) في كتابه «أرخبيل غولاغ» (Gulag Archipelago) معسكراً سوفيتياً لأسرى الحرب درت فيه طائفة من العلماء والمفكرين من جميع الأمتعة البدنية والخارجية وفرضت عليها أشغال شاقة. وكانت تعطي ما لا يزيد على بضع أو نصات من الخبز يومياً فيقول: «في معسكر سماركا كانت طائفة من رجال الفكر في عام 1946 قد وصلت إلى شفا الهلاك. فقد أنهكهم الجوع والبرد، والشغل الذي يفوق طاقتهم. بل لقد حرموا حتى من النوم. ولم يكن لديهم مكان يستلقون فيه إذ لم تكن قد بنيت ثكنات المخابئ. فهل لجأوا إلى السرقة؟ هل اشتكوا؟ هل تذمروا من حياتهم المتلفة؟ كلا. ولما كانوا يتوقعون اقتراب الموت منهم في غضون أيام لا أسابيع فانظر إلى الطريقة التي قضوا بها أوقات الفراغ التي اتسمت بالأرق وهم يجلسون متكئين على الحائط. لقد جمعهم تيموفييف ريسوفسكي على شكل ندوة دراسية، وبادروا إلى تشاطر ما كان يعرفه أحدهم ويجهله الآخر. وهكذا ألقى كل منهم محاضرته الأخيرة على الآخرين. الأب سافلي تحدث عن «الموت غير المشين»، وتحدث مهندس كهربائي عما سيكون عليه علم الطاقة في المستقبل، وتكلم عالم اقتصادي من لينينغراد عما لاقته الجهود الرامية إلى وضع مبادئ علم الاقتصاد السوفياتي من فشل بسبب الافتقار إلى أفكار جديدة. وتحدث تيموفييف نفسه عن مبادئ علم فيزياء الجسيمات الدقيقة. ومن جلسة إلى أخرى أخذ عدد المشتركين يتناقص، فقد صاروا فعلاً في مستودع الجثث.
    هذا الصنف من الرجال هو الذي يستطيع أن يبدي اهتماماً بكل ذلك وهو يحس فعلاً بخدر الموت الداهم. هذا الصنف من الرجال هو المفكر».
    يا لها من إشادة بحياة العقل! فالسلع الروحية ليست دائماً في المتناول فحسب، بل يمكن تقاسمها عندما يكون قد أخذ كل ما سواها.
    والجمال كذلك سلعة مشتركة يمكن تقاسمها دون خسارة حتى في ظل ظروف من الحرمان الشديد. إن فكتور فرانكل يروي من تجربته الشخصية في أحد معسكرات الاعتقال النازية ما يلي: «في المعسكر أيضاً ربما لفت الرجل انتباه رفيقه الذي يعمل بجانبه إلى منظر جميل لشمس الغروب وهي تسطع من خلال الأشجار الباسقة في غابات بافاريا (كما في اللوحة المائية المشهورة للرسام دورر) وهي نفس الغابات التي كنا قد بنينا فيها مصنعاً مخبوءاً للذخيرة ضخم الحجم- وذات مساء فيما نحن مستقلون للراحة على أرضية السقيفة نكاد نموت من شدة الإعياء وفي أيدينا طاسات الحساء دخل علينا أحد زملائنا السجناء على عجل وسألنا أن نهرع إلى ساحة التجمع لنشاهد غروب الشمس الرائع. وفيما نحن وقوف خارج السقيفة شاهدنا الغيوم المنذرة بالشؤم تتوهج في الناحية الغربية والسماء كلها متلبدة بالغيوم ذات الأشكال والألوان المتغيرة على الدوام، من الأزرق الرصاصي إلى الأحمر القاني. وكانت سقائف الطين الرمادية الكثيبة تكشف عن فروق صارخة بالمقارنة، في حين كانت بريكات الماء على الأرض الموحلة تعكس صورة السماء المتوهجة».
    والشيء نفسه يصح على الطيبة، إن الشخصية الخيرة تنفع الناس جميعاً. فالرجل الكريم الشجاع الصادق لا ينفع نفسه فحسب، بل كل ما حوله. الرجل الخير هو خير عام. ويسجل فرانكل في كتابه المسمى «بحث الإنسان عن معنى» (Man’s Search for Meaning) العديد من الأعمال البطولية فيقول: «نحن الذين عشنا في معسكرات الاعتقال نستطيع أن نتذكر الرجال الذين كانوا يمشون بين السقائف وهم يواسون غيرهم فيهبون آخر كسرة لهم من الخبز».
    ولأن السلع الروحية تعزز التعاون، بدلاً من الصراع بين الناس يخلص ماسلو إلى أننا «نستطيع الآن أن نرفض الخطأ الذي يكاد عالمي النطاق وهو أن مصالح الفرد والمجتمع هي بالضرورة متنافية ومتضادة، أو أن الحضارة هي بالدرجة الأولى آلية تحكم وضبط لحوافز الإنسان الشبيهة بالغرائز».



    ______يتبع________

  4. افتراضي

    الفصل السادس
    العالم
    ينطلق تصور النظرة القديمة للعالم من طريقة فهمه للإدراك الحسي الذي يعتبره تغييراً مادياً. وإذا تأملنا التغييرات المادية نلاحظ أن السبب الواحد يسفر عن آثار مختلفة. عرض 10 غرامات من الشمع، و10 غرامات من الماء، و10 غرامات من البارود للكمية نفسها من الحرارة تجد أن الشمع يذوب والماء يغلي والبارود ينفجر في نفثة من الدخان. وهذه الفروق ليست راجعة إلى العلة، إذ إنها متماثلة في كل من هذه الحالات، وإنما ينشأ اختلاف النتائج عن طبيعة المادة المعنية وعن تركيب جزيئاتها الداخلي. فالذوبان والغليان والانفجار وقائع تتعلق بالشمع والماء والبارود، لا بمصدر الحرارة.
    والنظرة العلمية القديمة تطبق هذا النموذج المادي على الإدراك الحسي. فهي تقول: إذا أحدث حافز خارجي تغييراً في أحد أعضاء الحس فإن استجابة ذلك العضو يمليها نوع المادة المصنوع منها ونمط تركيبه. وهذا يستتبع أن الإدراك الحسي هو في المقام الأول حقيقة تتعلق بعضو الحس ذاته، ولا يتصل بالعلة الخارجية إلا على نحو غير مباشر. ولو أخذنا بهذه النظرة لما استطعنا أبداً أن نعزو أي خاصة من خواص أحاسيسنا إلى عوامل خارجية، مثلما لا نستطيع أن نعزو الذوبان أو الغليان أو الانفجار إلى اللهب الذي يسخن الشمع والماء والبارود. وفي وسعنا أن نفترض أن شيئاً خارجياً، في حد ذاته، يسبب أحاسيسنا، ولكن من غير المستطاع أبداً معرفة أي شيء عنه لأن كل مضمون الإدراك يأتي من عضو الحس ذاته. وهذا النوع من الاستدلال ذاته يصح على عقل الإنسان وعلى ملكاته الإدراكية الأخرى. وعلى ذلك، إذا صح أن الإحساس تغير مادي فمعنى ذلك أن معرفة العالم مستحيلة.
    هذا الفهم المادي لملكات الإنسان الإدراكية وما يلازمه من شكوكية يطغى على النظرة العلمية القديمة منذ بدايتها. على أن النظرة القديمة لم تنته إلى نفي إمكانية معرفة العالم إلا بشكل تدريجي. حدث ذلك حين بدأ السير فرانسيس بيكون، وهو أول من استنبط الطريقة الاستقرائية (Inductive method) في العلوم، بإثارة الشكوك حول الحواس بصفة عامة قائلاً: «عندما تدرك الحاسة شيئاً ما فإدراكها لا يمكن التعويل عليه كثيراً لأن شهادة الحاسة وما يرد إليها من معلومات ترجع على الدوام إلى الإنسان، لا إلى الكون. ومن الخطأ الكبير أن نجزم بأن الحاسة هي مقياس الأمور».
    هذا إلى أن الشك لا يقف عند الحواس، بل يشمل أيضاً أسمى ملكات الإنسان، وهي العقل البشري. وعن ذلك يقول بيكون: «العقل أشد عرضة للخطأ من الحاسة كثيراً. دع الناس يتيهون كما يحلو لهم عجباً بالعقل البشري، عجباً يكاد يبلغ حد العبادة. فالشيء المؤكد هو أنه مثلما تحرف المرآة غير المستوية أشعة الأجسام تبعاً لشكلها ومقطعها، كذلك لا يستطاع التعويل على العقل، حين يتلقى صور الأشياء عن طريق الحاسة، في أن يكون أميناً في نقلها، إذ إنه في نقل انطباعاته يخلط بين طبيعته الخاصة وطبيعة الأشياء».
    وبيكون يأخذ ضمنياً بنموذج مادي للعقل حين يقول: إن العقل، «في نقل انطباعاته، يخلط بين طبيعته الخاصة وطبيعة الأشياء». ولكن إذا لم يكن في مقدور الإنسان أن يثق بحواسه ولا بعقله فكيف له أن يتحقق من أي شيء؟ في اعتقاد بيكون أن لديه البلسم الشافي: إنه التجربة. فهو يأمل أن يصحح خداع الحواس «بتجارب تستنبط بمهارة وببراعة بقصد البت في المسألة. فأنا لا أقيم كبير وزن لإدراك الحاسة المباشر في حد ذاته، ولكنني أحتال للأمر بحيث تقف وظيفة الحاسة عند الحكم على التجربة، ثم تقوم التجربة ذاتها بإصدار الحكم».ولكن في هذه النقطة، يثور السؤال الجلي التالي: إذا لم يكن في المستطاع أن نعول على الحواس في نقل صورة صادقة للعالم فكيف نعول عليها في نقل التجارب؟ وبيكون لا يحل هذه المعضلة، ولكنه يصر على أن الإنسان لا يستطيع أن يعرف العالم إلا بالاختبار العلمي. ويؤكد بيكون أن «طبيعة الأشياء أيسر كشفاً عن ذاتها تحت ضغط الحيلة البارعة منها وهي تمتع بحريتها الطبيعية». ومنذ عهد بيكون أكدت النظرة القديمة أولوية الاختبار على التجربة العادية.
    أما غاليلو فيعتبر الرياضيات السمة الرئيسة للمنهج العلمي الذي يستطيع وحدة تمكين الإنسان من اكتساب معرفة صحيحة بالعالم الطبيعي. فهو يقول عن الكون: «نحن لا نستطيع أن نفهمه ما لم نبدأ أولاً بتعلم اللغة التي كتب بها ونستوعب رموزها. وهذا الكتاب مكتوب باللغة الرياضية، والرموز الواردة فيه هي مثلثات ودوائر وأشكال هندسية أخرى، لولاها لكان من المستحيل فهم كلمة واحدة منه، ومن دونها يهيم المرء عبثاً في متاهة مظلمة».
    ويرى غاليليو أن الرياضيات هي المنطق الجديد للعلم: «نحن لا نتعلم الاستدلال من كثيبات المنطق، بل من الكتب الزاخرة بالبراهين، وهي كتب الرياضيات لا كتب المنطق».
    وهو مطمئن إلى أن الرياضيات هي مفتاح سر الطبيعة نظراً لاكتشافاته العديدة في مجال الميكانيكا حيث تسير الظواهر الطبيعية وفقاً لمبادئ الهندسة. وهذه الوفرة من الحقائق الرياضية في العلم الطبيعي توحى إلى غاليليو أن العالم الذي يقع خارج العقل مكون من خواص رياضية فقط. وفي كتاب له صدر عام 1623 تحت عنوان «المختبر» (The Assayer) يشرح المعنى الذي يفهمه من المادة: «كلما تصورت أي جسم مادي أو عيني أشعر تواً بالحاجة إلى تخيله شيئاً له حدود، وله هذا الشكل أو ذاك، وأنه كبير أو صغير بالقياس إلى أشياء أخرى، وأنه في مكان ما محدد في أي وقت معين، وأنه متحرك أو ساكن، وأنه ملامس أو غير ملامس لجسم آخر، وأنه وحيد عددياً أو هو قليل الوجود أو كثيرة. فأنا لا أستطيع أن أفصل مثل هذا الجسم عن هذه الظروف مهما أطلقت لخيالي العنان».
    وهذا يعني، بعبارة واحدة، أن المادة تتمثل في مقادير وقيم رياضية. وخواص المادة الكمية والقابلة للقياس، كالحدود والشكل والحجم والمكان والزمان والحركة والملامسة والعدد، هي وحدها التي يمكن اعتبارها جزءاً من العالم الحقيقي. أما لماذا نجد غاليليو مطمئناً كل هذا الاطمئنان إلى أن هذه الخواص موجودة في الأجسام الخارجية فذلك لأنه لا يتصور وجود جسم من غيرها يقول: «إنني لا أستطيع أن أفصل عن هذه الظروف أي جسم مهما أطلقت لخيالي العنان». وهذا يستتبع ضمناً أن تيقننا من حقيقة هذه الخواص يرجع إلى الطريقة التى لابد لنا من أن نفكر بها، أي من طبيعة عقولنا ذاتها.
    وماذا عن الخواص غير الرياضية؟ من أين تأتي؟ غاليليو يرى أنها لا تأتي من العالم، بل من عندنا نحن. يقول: «إن الكثير من الأحاسيس التي يفترض أنها خواص كامنة في الأجسام الخارجية ليس له وجود حقيقي إلا فينا». وهو يشرح ذلك بقوله: «أعتقد أن هذه الطعوم والروائح والألوان وغيرها، على هامش الشيء الذي يبدو أنها كامنة فيه، ما هي إلا مجرد أسماء، وهي لا تكمن إلا في الجسم رقيق الإحساس، بحيث ستتلاشى كل واحدة من هذه الخصائص وتبيد لو أزيل الحيوان «إلا أنه لا يطلق الحكم نفسه على الخواص الرياضية، بل يقول: «لو نزعت الآذان والألسنة والأنوف لبقيت الأشكال والأرقام والحركات، لكن دون الروائح أو الطعون أو الأصوات».
    ولقد رأينا في الفصول السابقة كيف تزعم النظرة القديمة أن لا وجود، في نظر العلم، إلا للمادة. أما هنا (في نظرية غاليليو) فنجد تكثيفاً لهذا الادعاء يذهب إلى أن السمات الكمية للأشياء هي وحدها الحقيقة. أما الألوان والروائح والمذاقات والأصوات (ولعلنا نستطيع أن نضيف الجمال والغائية) فليست جزء من العالم الحقيقي.
    وعلى ذلك، ووفقاً للنظرة العلمية القديمة، فليس هناك عالم واحد، بل عالمان اثنان. فمنذ عصر بيكون وغاليليو تبنت النظرة القديمة الفصل التام بين عالم العقل وعالم المادة، بوصف ذلك جزءاً من المنهج العلمي. ثم جاء حين أطلق فيه على هذين الشطرين اسماً «الذاتي» و «الموضوعي» (بدأ الاستعمال الحديث لهاتين العبارتين في القرن السابع عشر). وتترتب على هذا التقسيم إلى عالمين اثنين ثلاث نتائج من حيث المنهج العلمي. أولاً: أن على العلم، في النظرة القديمة، أن يدرس عالم المادة «الموضوعي» لا ملكوت العقل «الذاتي»، إذ إن هدف العلم هو وصف العالم دون الرجوع إلى العقل. ثانياً: أن يصبح الارتياب والتشكك جزءً أصيلا من المنهج العلمي. ثالثاً: أن المنهج العلمي، باستخدامه التجارب وبالتعبير عن نفسه بلغة الرياضيات، هو وحده الذي يقدم معلومات عن العالم.
    وقد كان لآراء النظرة القديمة هذه آثار حاسمة على الفلسفة والفنون. ففي الإمكان أن تفهم الفلسفة الحديثة بوصفها تجلياً تدريجياً لنتائج افتراض كون الإحساس والفهم تغيرين مادتين. فديكارت، الذي يعد أبا الفلسفة الحديثة، يصف الإدراك الحسي كما لو كان نشاطاً من أنشطة المادة فيقول: «علينا أن نفكر أن الشكل الخارجي للجسم المحس يتغير فعلاً بالشيء المحسوس تماماً كما يتغير سطح الشمع بالختم». وقد أفضت هذه البداية بديكارت إلى الارتياب في حواسه وعقله تماماً كما فعل بيكون. فهو يتساءل: ما الذي يضمن أن أياً من أفكاري وأحاسيسي يمثل أي شيء خارج كياني؟ ولكنه لا يلبث أن يرى أنه لا يستطيع أن يشك في أن أفكاره هو موجودة. فحتى لو كانت هذه الأفكار لا تمثل شيئاً خارج نطاق عقله فهي مع ذلك حقيقة. فالتفكير ذاته حقيقة لا سبيل إلى الشك فيها. ومن ثم فهو يقول كلمته المأثورة: «أنا أفكر، إذاً أنا موجود». وعند ديكارت أن «الأنا» هي أدنى إلى اليقين من وجود العالم.
    ويكاد كل الفلاسفة الذين جاءوا من بعد ديكارت يلتزمون بهذا المنطق المتسم بالذاتية، مبتدئين بالذات المفكرة بدلاً من العالم. ولا تزال هذه تعتبر البداية الطبيعية للفلسفة حتى يومنا هذا. من ذلك مثلاً أن جان بول سارتر (Jean Paul Sarter) يعلن أن «ذاتية الفرد هي حقاً نقطة انطلاقنا، وذلك لأسباب فلسفية بحصر المعنى. فلا يمكن أن تكون هناك حقيقة أخرى ننطلق منها عدا هذه: «أنا أفكر، إذاً أنا موجود». فنحن بذلك نملك الحقيقة المطلقة: حقيقة الوعي الذي يصبح واعياً لذته». ويوافق ألبير كامو (Albert Camus) على هذا فيقول: «كل شيء يبدأ بالوعي ولا شيء يساوي شيئاً من دونه».
    إذاً فالحقيقة اليقينية الأولى عند ديكارت ليست العالم، بل الذات المفكرة وبنقطة الانطلاق هذه يصبح وجود العالم وجود العالم ووجود عقول أخرى مشكلة جدية لدى ديكارت، ولدى جميع مذاهب الفلسفة الغربية التي جاءت من بعده. ويستخدم ديكارت وسيلتين للاستدلال على وجود العالم خارج ذاته، وهما فكرته عن الله وأفكاره هو الواضحة والمتميزة. أما المفكرون الذين جاءوا من بعده فلم يكونوا مقتنعين بأي من هاتين الوسيلتين. وعلى حد قول أحد المؤرخين كان كل الناس مقتنعين بوجود العالم الخارجي إلى أن برهن عليه ديكارت. ولكن العالم الذي يزعم ديكارت استعادته بعد تبدد شكوكه في الكون، بصرف النظر عن مدى صحة منهجه أو عدم صحته، ليس عالم التجربة العادية الذي انطلق منه، بل هو عالم المادة لدى غاليليو، العالم الذي لا يقوم فيه العقل بأي دور. فالمادة ذاتها عند ديكارت تفتقر إلى كل خواص الإدراك باستثناء الكم، والكون المادي كله، بما فيه جسم ديكارت نفسه، آلة تتصرف بفعل الضرورة الميكانيكية.
    وديكارت، برغم الحتمية المادية التي يقول بها، يحاول القول بوجود إله وبأن العقل البشري غير مادي. ولهذا السبب قد يخلط المرء، للوهلة الأولى، بين فلسفته وبين النظرة العلمية الجديدة. ولكن من شأن إنعام النظر في هذه الفلسفة أن يبين أن ديكارت يصر أيضاً على العناصر لجوهرية التي تتكون منها صورة العالم في النظرة العلمية القديمة. فهو، كما رأينا في الفصلين الثالث والرابع، يبعد الجمال والغائية عن مجال العلم الطبيعي. كما يأخذ بتقسيم غاليليو لخواص الحواس إلى خواص يعتبرها حقيقة، وأخرى لا وجود لها إلا في العقل. والعالم الذي ينتهي إليه ديكارت بعد شكوكه المريبة هو عالم غاليليو الرياضي الميكانيكي، عالم لا يفسح مجالاً لحرية الاختيار، أو الجمال، أو الغائية، أو العقل. يضاف إلى ذلك أن هذا العالم لا يقدم لديكارت دليلاً على وجود الله ولا على وجود روح في الإنسان. فجميع حجج ديكارت بصدد هذه المعتقدات تستند إلى الاستبطان الآتي من داخل عقل ديكارت وحده. وهذا يغاير تمام المغايرة النظرة العلمية الجديدة، التي تستمد أدلتها على وجود الجمال وحرية الاختيار والغاية والله لا على مادية العقل من العالم ذاته: الانفجار العظيم، والمبدأ الإنساني، ومبحث الأعصاب الحديث، وفيزياء القرن العشرين.
    وديكارت يجد نفسه موزع الهوى بين عالمين متنافرين: عالم المادة الميكانيكي الخارجي، وعالم العقل الداخلي غير المرتبط بالأول. وهو لا يفلح أبداً في التوفيق بينهما، ويحاول المفكرون الذين جاءوا في أعقابه أن يحلوا هذا التوتر إما بنفسي لا مادية العقل وتوكيد مادية كاملة، وإما بإنكار العالم والإصرار على عقل ذاتي صرف، وهكذا يغلب على الفلاسفة المعاصرين أن يكونوا إما مادتين وإما مثاليين.
    ويعد ديكارت اختزل عالم التجربة العادية اختزالاً آخر على يد الفيلسوف جورج باركلي (George Berkeley) الذي يذهب إلى أبعد مما ذهب إليه غاليليو وديكارت. فباسم الدفاع عن الدين من تحدي علم النظرة القديمة يحاول باركلي أن يضعف الثقة بالمادية بإنكاره وجود المادة. وتنصب إحدى حججه على مهاجمة المركز ذي الامتياز الذي يحظى به ما يعرف باسم الخواص الموضوعية فيقول: «فلينظر أي كان تلك الحجج التي يعتقد على ما يبدو أنها تثبت ألا وجود للألوان والطعون إلا في الذهن، فسيجد أن في المستطاع استخدام هذه الحجج ذاتها بالقوة نفسها لإثبات الشيء ذاته فيما يتعلق بالامتداد والشكل والحركة». بل إن باركلي يستعير بعضا من حجج أسلافه لإقامة الدليل على صحة هذه الدعوى. من ذلك مثلا أنه يسترعي الانتباه إلى أن أي جسم، إذا قرب إلى العين، يبدو أكبر حجماً مع أنه ليس هناك تغير حقيقي في هذا الجسم. ومن هنا يخلص إلى أن الحجم ليس شيئاً مطلقاً في الجسم، بل هو مجرد تصور ماثل في أذهاننا.
    وباركلي يقول إن جوهرية المادة تغدو فرضية لا حاجة إليها، إذ لم تعد هناك ضرورة لدعم الامتداد والحركة وغير ذلك من الخواص الرياضية. ولما كانت جميع الخواص مجرد أفكار في عقولنا فهو ينتهي من ذلك إلى أن الضرب الوحيد من الوجود الجوهري هو الذات أو العقل الذي توجد فيه جميع الأفكار. وهكذا لا يعترف باركلي إلا بالوجود الروحي. يقول: «لا وجود بالمعنى الضيق للكلمة إلا لأشخاص، أي لأشياء واعية. أما الأشياء الأخرى فوجودها لا يعدو أن يكون نوعاً من وجود الأشخاص».
    وبهذه الطريقة يعجل باركلي بأقوال العالم الذي كان قد بدأه غاليليو وديكارت. ففي فلسفة باركلي تختفي المادة ذاتها من العالم، فلا يبقى إلا عالم الروح. أما الخطوة التالية، التي تكاد تكون محتومة، فقد خطاها ديفيد هيوم (David Hume) الذي يأخذ بالظواهرية (Phenomenalism) الكاملة وينكر كلا من عالم المادة وعالم الروح. ففي أي هيوم لا شيء يبقى إلا المدركات الذاتية نفسها. وهو بالإضافة إلى ذلك هجوماً شكوكياً، أصبح مشهوراً هذه الأيام، على معرفة الإنسان بالعلة والمعلول، ليختزلها إلى مجرد عادة.
    لقد اكتمل كسوف العالم، فلا سبيل إلى معرفة المادة. ولكن إذا صح ذلك فالعلم نفسه يغدو مستحيلاً. فإذا كنا لا نعرف شيئاً سوى إدراكاتنا وأفكارنا فكيف نستطيع ممارسة الفيزياء؟ وكيف يمكن لفيزياء نيوتن أن تتنبأ بالظواهر؟ إن امانويل كانت (Immanuel Kant) ينبري لحل هذه المشكلة بالذات، وهو إذ يسلم لهيوم بأن الخبرة الإنسانية لا تعدو أن تكون سلسلة من الإدراكات أو الظواهر، يقوم بمحاولة بارعة لإرساء ضرورة القوانين العلمية لا في الطبيعة، بل في بنية العقل البشري. ويقول كانت إن قوانين العلم الطبيعي ذات طابع عالمي لمجرد أن الإنسان لا يقدر أن يفكر في الأشياء الطبيعية بأي طريقة أخرى: «الفكر لا يستمد قوانينه من الطبيعة، ولكنه يفرضها عليه»ويمكن تبين أحد آثار هذا النهج في احتجاج غاليليو بأن الخواص الرياضية لابد من وجودها في المادة لأنه لا يتصور خلو أي جسم منها.
    ويرى كانت أن الفيلسوف هو الذي يجب أن ينهض بمهمة تحديد ووصف مختلف أصناف العقل الضرورية والأشكال البديهية التي يفرضها الإحساس على الأشياء. ويعلن كانت، وهو يحاول ذلك، أن المكان الإقليدي وجميع مقولات نيوتن في الفيزياء هي الطريقة الحتمية التي لابد للعقل البشري- بحكم تكوينه ذاته- من أن يفهم بها العالم المادي. ومن الملاحظ أن استمداد عالمية العلم وضرورته من بنية العقل يستلزم وجود النموذج المادي للعقل الذي شاهدناه في بداية هذا الفصل.
    ويذهب كانت إلى أن حرية الإرادة والخلود والله كانت مسلمات ضرورية للأخلاق، أمور لا سبيل إلى إثباتها، وأن العالم المادي لا يقدم أي دليل يؤيد هذه المعتقدات. وهذا التناقض الظاهري ناشئ عن اشتمال فلسفة كانت على عالمين، لا عالم واحد. فهناك أولاً العالم الداخلي للعقل الذي يتراءى لنا فيه أننا أحرار في تصرفاتنا، وهناك ثانياً عالم الظاهرات الخارجية التي تخضع لقوانين فيزياء نيوتن الحتمية. وهكذا نرى كانت، شأنه في ذلك شأن ديكارت، يشعر أنه مضطر إلى افتراض وجود عالمين لا سبيل إلى التوفيق بينهما.
    وفي أعقاب ذلك حاول جورج هيغل (Georg Hagel) أن يتغلب على أسباب التوتر والتنافر بين عالمي كانت، بافتراضه أن عالم الظواهر الخارجية هو من إسقاط العقل ذاته. ويحاول هيغل أن يبني نظاماً ذهنياً بكليته، لا يكون فيه الفن والدين والعلم، والتاريخ الإنساني وكل الطبيعة، بما في ذلك «الشيء نفسه»، جميعها سوى مخلوقات من صنع العقل البشري الجماعي، أو «الروح المطلقة» كما يسميها هيغل. فبينما يقول بيكون إن العقل، «في نقل انطباعاته، يخلط بين طبيعته الخاصة وطبيعة الأشياء»، يذهب هيغل إلى أن انطباعات العقل هي طبيعة الأشياء. وعند هيغل أن الوعي الإنساني الجماعي ذاته هو علة كل الموجودات ومصدرها وتفسيرها, فالعقل هو الذي يخلق الواقع ويخلق العالم ويخلق الحقيقة. ويزعم هيغل أنه حقق بذلك وحدة كبيرة بين العالم والعقل. ولكن بأي ثمن؟ ما قيمته «حقيقة» هي مجرد ابتداع ذهني محض؟ فهي لا تقول لنا شيئاً عن العالم الذي يقع خارج أفكارنا نحن. وتنزع الفلسفة المعاصرة، كرد فعل إزاء نظام هيغل، إلى الارتياب في كل الفكر التأملي، الذي تعتبره مجرد تركيب نظم مصطنعة ابتدعها العقل البشري. ومن المفترض عموماً أن التوصل إلى أي حقيقة عن العالم أمر مستحيل. يقول سارتر: «باستثناء عبارة ديكارت «أنا أفكر، إذاً أنا موجود»، كل الآراء لا تتجاوز نطاق الاحتمال». أو كما يقول ألبير كامو: «جميع الأفكار مصوغة على طريقة البشر. والعقل الذي يهدف إلى فهم الواقع لا يكتفي إلا بحصره في أنماط فكرية». فكل تفكير هو تشويه أو اختراع. ويفترض كامو ضمنياً، شأن جميع أسلافه منذ بيكون وغاليليو أن الحواس والعقل يتأثران بطريقة التأثير نفسها في المادة. ويلزم من ذلك بالضرورة أننا لا نستطيع ان نعرف إلا إدراكاتنا، لا طبيعة الأشياء بذاتها لأن جميع الأفكار مصوغة على طريقة البشر.
    أما الوجوديون الالحاديون فيشددون على خلو العالم من المعنى وعلى عدم إمكانية فهمه. يقول كاموا: «إن ما يتصف به العالم من تبلد وغرابة هو العبث بعينه». ثم يمضي متسائلاً «ما الذي يمكن أن يشكل أساس ذلك الصراع وتلك القطيعة بين العالم وعقلي إن لم يكن هو الوعي به؟» فلو لم يكن للإنسان عقل لاستطاع على الأقل أن ينعم بسعادة كسعادة الحيوان. ولكن حيث إن الإنسان ابتلى بعقل فهو المخلوق الوحيد الذي يبحث في أرجاء الكون عن معنى ليس بموجود. ما نفع العقل إذا لم يكن قادراً على معرفة أي شيء؟ ويحتج كامو قائلاً: «لو كنت شجرة بين الأشجار، أو قطا بين الحيوانات، لكان لهذه الحياة معنى، أو على الأصح لما كانت المشكلة مطروحة لأنني أكون منتمياً إلى هذا العالم –هذا العالم الذي أقاومه الآن بكل إدراكي-. إن هذا العقل السخيف هو ما يجعلني متضاداً مع كل الموجودات».
    إن الفلسفة المعاصرة تتصف بيأس فكري كلي، هو التخلي عن أمل في معرفة العالم. ويلاحظ كاموا أن «الناس في هذا العصر، باستثناء العقلانيين المحترفين، يائسون من الوصول إلى المعرفة الحقيقية». والمضمون نفسه يأتي من جهات عديدة: العقل عاجز.
    ويشتكي الفيلسوف فريدريك نيتشه (Friedrich Nietzsche) من أن الفلسفة الحديثة بكاملها «تنحصر في نظرية عن المعرفة، وهي فلسفة لا تستطيع أن تتخطى عتبة ذاتها، وقد حرصت كل الحرص على إنكار حقها في الدخول. هذه بالتأكيد فلسفة تلفظ أنفاسها الأخيرة –إنها نهاية، واحتضار، وشيء يثير الشفقة». ويقترح نيتشه نفسه التخلي عن فكرة الحقيقة نفسها والاستعاضة عنها بإرادة القوة.
    إذاً فكسوف العالم، في الفلسفة المعاصرة، كسوف كامل ومطلق. إن البذرة شديدة الضآلة، البريئة في الظاهر، التي زرعها بيكون وغاليليو في القرن السابع عشر قد استغرقت نبفا وثلاثمائة عام لتثمر في عصرنا هذا ثمرة اليأس الفكري المرة، والعدمية (Nihilism)، وانفصام الإنسان عن العالم. هذه هي المحصلة النهائية للفلسفة في إطار النظرة القديمة. وهذا يستتبع بالضرورة أنه، إذا كنا لا نستطيع أن نعرف أي شيء عن العالم فسنكون أيضاً قد خسرنا العلم. ذلك أنه هو أيضاً قد لا يعدو أن يكون نظام تراكيب عقلية وضع على طريقة البشر. وهكذا –ويا للتناقض- نجد أن النتائج الفلسفية التي انتهت إليها النظرة القديمة تفوض أركان هذه النظرة ذاتها.
    هذا إلى أن الصراع في النظرة القديمة بين عالم العقل الذاتي وعالم المادة الموضوعي لا يسري في الفلسفة الحديثة فحسب، بل في الفن الحديث أيضاً.
    فالرسام التعبيري الألماني فرانتز مارك، في معرض وصفه لأهداف فن المستقبل، يظهر المشاكل الفنية التي يثيرها وجود عالمين في النظرة القديمة فيقول: «سوف ينعتق الفن من حاجات الإنسان ورغباته. فنحن بعد اليوم لن نرسم غابة أو بيتاً كما يحلو لنا أو كما يبدو لنا، بل على ما هو عليه في الحقيقة». ولكن أني للفنان أن يعرف شيئً ما بطريقة غير تلك التي يبدو بها لناظريه أو لخياله أو لعقله؟ إن مشكلة «الشيء في ذاته» تؤرق الفنان المعاصر والفيلسوف على السواء.
    والرسام بيت موندريان (Piet Mondrian) يناصر قضية الفن غير الرمزي لأنه «يبين أن» الفن «ليس تعبيراً عن نظهر الواقع كما يتراءى لنا، ولا تعبيراً عن الحياة التي نحياها، بل هو تعبير عن الواقع الحقيقي والحياة الحقيقية وهما غير قابلين للتعريف، ولكن قابلين للتحقيق في اللدائن». فالإنسان لابد من أن يطرد من عالم الفن تماماً كما هو مستبعد من عالم العلم «الموضوعي». ويلخص الرسام والناقد ادوارد وادزويرث (Edward Wadsworth) المبدأ الموضوعي في الفن فيقول: «لم تعد اللوحة نافذة يطل المرء من خلالها على جزء صغير جذاب من الطبيعة، ولا هي وسيلة لإظهار مشاعر الفنان الشخصية، ولكنها هي ذاتها شيء محسوس. فالرسام لا يرسم ما يراه، بل ما يعرف أنه موجود».
    والأدب الحديث كذلك أحس بما تتطلبه الموضوعية. ويصح هذا بصفة خاصة على أولئك الأدباء الذين يحاكون عن وعي أساليب العلم. والمثل الأعلى الذي ينشده بعضهم هو أن يصبحوا كالمراقب الحيادي عند نيوتن. فهم يحرصون على تجنب إصدار أي حكم عن الخير والشر. ويزيد غوستاف فلوبير (Gustav Flaubert) المسألة إيضاحاً فيقول: «لا أظن أن على الروائي أن يعرب عن رأيه في شئون هذا العلم. ولذا ترانى أقتصر على بيان الأشياء كما تبدو لي، وعلى التعبير عما يبدو لي أنه الحقيقة. وينبغي للفن أن يرفع فوق مستوى الميول الشخصية والحساسيات العصبية. لقد آن لنا أن نضفي عليه دقة العلوم الفيزيائية باستخدام أسلوب شديد الصرامة».
    ويعكس أنطون تشيكوف (Anton Chekhov) اليأس الفكري للنظرة القديمة قائلاً: إن على الكاتب أن يتحاشى إصدار أي حكم، شأنه في ذلك شأن مراسل صحيفة أو شاهد في محكمة: «ليس من شأن كتاب القصص الخيالي أن يحلوا مسائل كمسألة وجود اله، أو التشاؤم وما إلى ذلك. فمهمة الأديب تقتصر على وصف من كان يتحدث عن الله أو عن التشاؤم، وبأي طريقة، وفي أي ظروف. وليس للفنان أن ينصب نفسه حكماً على شخصياته أو على أحاديثهم، بل ينبغي له أن يكون شاهداً محايداً لا أكثر. لقد سمعت محادثة عابرة بين روسيين عن التشاؤم –وهي محادثة لا تحسم شيئاً-، وعلي أن أنقل تلك المحادثة كما سمعتها. أما الحكم على قيمتها فأمره متروك لهيئة التحكيم، أي للقراء. ومهمتي لا تعدو أن أكون موهوباً، أي أن أعرف كيف أميز الأقوال المهمة من غير المهمة، وكيف ألقي الضوء على الشخصيات وأتحدث بلغتهم. لقد آن للأدباء، وخصوصاً الفنانين منهم، أن يدركوا أنه لا سبيل إلى فهم أي شيء في هذا العالم».
    والفن في النظرة القديمة، شأنه شأن الفلسفة، حبيس الصراع بين الموضوعية والذاتية. فلكي يكون الأثر الأدبي «موضوعياً» يبدو أن عليه أن يتفادى القيم والمضمون فيصبح بالتالي قصة إكلينيكية. أما إذا كان الأثر الأدبي «ذاتياً» فهو لا يرتفع عن مستوى المزاج الفردي، و «الحساسيات العصبية». وعلى هذا الاعتبار يصبح شكسبير مجرد رد فعل مزاج بعينه إزاء إنكلترا في عصر الملكة اليزابيث، وموزارت (Mozart)، ومايكل أنجلو (Michelangelo) مجرد تعبيرات عن العصرين اللذين عاشا فيهما. ويزيد في تعقيد الأمور أن الجمهور لا يستطيع أن يرى شكسبير إلا من خلال العدسة الخاصة التي ينظر بها هذا الجمهور إلى عصره. وهذا الوضع يبدو ميؤساً منه. يقول أناتول فرانس (Anatole France) شاكياً: «ليس هناك شيء اسمه نقد موضوعي مثلما أنه ليس هناك فن موضوعي. وكل الذين يزدهون بأنهم يضعون أي شيء في آثارهم إلا أنفسهم منخدعون بأكذب الأوهام. فالحقيقة هي أن المرء لا يملك أبداً أن يتجرد من ذاته. ونحن محبوسون في داخلنا كما لو كنا في سجن مقيم. ويبدو لي أن أحسن ما نستطيع عمله هو أن نعترف عن طيب خاطر بهذا الوضع الرهيب، ونقر بأننا نتحدث عن أنفسنا في كل مرة لا نقوى فيها على الصمت. وإذا أراد الناقد أن يتوخى الصراحة كل الصراحة فعليه أن يقول: «أيها السادة، سوف أتحدث عن نفسي حول موضوع شكسبير، أوراسين، أو باسكال، أو غوته».
    لقد تلاشت الحقيقة، فلم يبق هناك إلا وجهات نظر.
    وقبل أن ننتقل إلى النظرة الجديدة، لنلخص بإيجاز ما رأيناه حتى الآن. إن زعم النظرة القديمة أن الإحساس تغير مادي يعني ضمنا استحالة معرفة العالم. ولإنقاذ العلم يقسم غاليليو العالم إلى نطاق عقل «ذاتي»، وإلى عالم «موضوعي» رياضي. ومن هنا ينبغي للعلم، إذا أراد معرفة العالم، أن يعتمد لا على الخبرة العامة، بل على التجارب المتخصصة والرياضيات. على أن الفلسفة الحديثة تكشف تمام الكشف عما يترتب على نظرية الإحساس والفهم المادية من نتائج، مبينة أن نهجا كهذا يفضي إلى كسوف العالم التدريجي، وإلى يأس فكري محتمل، وسخافة تمتع الإنسان بعقل، وتفويض أركان العلم ذاته. وأخيراً فإن الفن في النظرة القديمة يشله الصراع بين الموضوعية والذاتية، وهو فن عاجز عن إدخال القيم في موضوعاته وعن تحديد شخصيته بمعزل عن فكرة انعكاس المزاج.
    أما مبحث الأعصاب في القرن العشرين فهو يؤكد، على نقيض النظرة القديمة، أن الإدراك الحسي ليس تغيراً مادياً ولا نشاطاً من أنشطة المادة (أنظر الفصل الثاني). إن شرنغتون واكلس وبنفيلد يتفقون على أن التغيرات الفيزيائية في عضو الحس وفي مسارات الأعصاب وفي الدماغ توصلنا إلى عتبة الإحساس فقط. والإدراك الحسي، وإن كان يقتضي تغيراً مادياً، هو في ذاته غير مادي. وهذا يعني أن الإحساس عمل سلبي صرف وعملية تلق محض. وملكة الإدراك لا تخلط، كما كان بيكون يظن، بين طبيعتها هي وطبيعة الأشياء لأنه ليس له طبيعة مادية. والشيء نفسه يصح بدرجة أكبر على العقل البشري الذي ليس له عضو بدني على ما يظهر.
    وإذا كانت حواسنا لا تضيف شيئاً إلى الجسم المحس فالذي تنقله إلينا لابد من وجوده في العالم. وهذا يعني أن ليس هناك إلا عالم واحد –عالم تعرفنا به حواسنا تعريفاً صحيحاً- وكما يقول شرودنغر: «العالم ينقل إلي مرة واحدة فقط. فليس هناك عالم موجود وآخر محسوس. والذات والموضوع شيء واحد لا غير. ولا يصح أن يقال إن الحاجز الذي يفصل بينهما قد انهار نتيجة التجربة الأخيرة في العلوم الفيزيائية لأن هذا الحاجز غير موجود «. وقد قادتنا اكتشافات مبحث الأعصاب في القرن العشرين إلى الإقرار بأن هذا الحاجز لم يكن له وجود قط.
    وعندما يقف شخص على ميزان فتشير إبرته إلى الرقم «187» يكون هذا الرقم حقيقة تنصب على كل من الإنسان والميزان. وبالطريقة نفسها فالمعرفة حقيقة تنصب على العارف وعلى الشيء المعروف. والتقسيم إلى عالمين أحدهما «موضوعي» والآخر «ذاتي» ليس طبيعياً ولا حتمياً، ومن المؤكد أنه ليس من الأسلوب العلمي في شيء. ولا حاجة لنا بهذا التقسيم لاكتشاف أي حقيقة عن العالم، بل إنه –إذا أخذ مأخذ الجد- يجعل معرفة العالم أمراً مستحيلاً كل الاستحالة. وتقسيم العالم إلى اثنين أحدهما «ذاتي» والآخر «موضوعي» ليس ضرورياً إلا في المذهب المادي الذي تأخذ به النظرة العلمية القديمة. وما دامت النظرة الجديدة لا تسلم بصحة المادية فلا داعي لها أن ترفض إدراكاتنا كتجارب «ذاتية» وتقسم العالم إلى جزأين اثنين. ويخلص اكلس إلى أن «هذا التمييز بين الموضوعي والذاتي وهم من الأوهام».
    فإذا كانت ثنائية الموضوعية والذاتية تقسيماً كاذباً للتجربة، فما هو التقسيم البديل الذي تقدمه النظرة الجديدة؟ أن فيرنر هايزنبيرغ يجيب عن ذلك بما يلي: «منذ عصر غاليليو كانت التجربة تشكل المنهج الأساسي الذي قام عليه العلم الطبيعي. وقد أتاح المنهج الانتقال من الخبرة العامة إلى الخبرة المتخصصة، أي إلى اختيار حوادث مميزة في الطبيعة يمكن منها دراسة «قوانينها» بصورة مباشرة أكثر مما تفعله الخبرة العامة».
    وتقسيم الخبرة إلى خبرة عامة وخبرة متخصصة تقسيم صحيح. فالخبرة العامة مثلا تكفي لتدلنا على أن الأجسام الثقيلة تسقط، ولكن الخبرة المتخصصة (كالتجارب والقياسات والحسابات الرياضية) تكون ضرورية إذا أردنا أن نعرف ما هي سرعة سقوط الأجسام الثقيلة، أو هل يكون سقوطها حركة متماثلة أم متسارعة.
    والرياضيات لا تسقط التفكير العادي من الفيزياء. فأول تصور لنظرية فيزيائية هو تصور غير رياضي. ويبدي أينشتاين الملاحظة التالية: «الأفكار الجوهرية تقوم بأهم دور في صوغ النظرية الفيزيائية، والكتب التي تتناول علم الفيزياء مليئة بالمعادلات الرياضية المعقدة. غير أن التصورات والأفكار، لا المعادلات، هي البداية لكل نظرية فيزيائية. وفي وقت لاحق لابد للأفكار من أن تتخذ الشكل الرياضي لنظرية كمية لتجعل في الإمكان المقارنة بالتجربة».
    بل إن العالم حين يعبر عن اكتشافاته لا يستطيع أن يعتمد على الرياضيات أو على المصطلحات التقنية الداخلة في حقل اختصاصه دون غيرها، إذ لابد له من تركيب فرع اكتشافه في جذع الخبرة العامة التي تعبر عن نفسها باللغة الدارجة. ويصر هايزنبيرغ على أن «الوصف بلغة واضحة، حتى فيما يتعلق بالفيزيائي، يعد مقياساً لمدى الفهم الذي تم التوصل إليه». ويضيف نيلز بور أن «أي وصف للتجربة الفيزيائية يستند بالطبع، في نهاية المطاف، إلى لغة مشتركة مكيفة وفقاً لتوجيهات محيطنا ولتتبع العلاقات القائمة بين العلة والمعلول».
    على أن النظرة العلمية القديمة ترفض الخبرة العامة إذ تعتبرها غير جديرة بالثقة. ويحاول بيكون وغاليليو ديكارت الاستعاضة عنها بخبرة العلم المتخصصة. إلا أن علماء النظر الجديدة يولون الخبرة العامة اهتماماً كبيراً، مشيرين إلى أن العلم لا يحل محلها، بل هو يبني عليها بوصفها أساساً له. ويعلن هايزنبيرغ، مثلا، أن «من أهم سمات تطوير وتحليل الفيزياء حديثة التجربة المتمثلة في أن مفاهيم اللغة الطبيعية، على ما يكتنف تعريفها من غموض، تبدو أكثر ثباتاً في توسيع نطاق المعرفة من الاصطلاحات الدقيقة للغة العلمية، المشتقة كنموذج مثالي من مجموعات محددة من الظواهر فحسب. والواقع أن هذا لا يدعو إلى الدهشة إذ إن مفاهيم اللغة الطبيعية تصاغ بالاتصال المباشر بالواقع. إنها تمثل الواقع».
    فالخبرة العامة متصلة اتصالاً مباشراً بالواقع وبالعالم. وبوجود هذه الخبرة لا تتدخل بيننا وبين العالم أي نظرية، أو وسيلة، أو وساطة أخرى. فللخبرة العامة بداهة حاسة اللمس التي تطل دائماً على ما تدركه. ويواصل هايزنبيرغ حديثه عن الموضوع ذاته فيقول: «المفاهيم العلمية ذات صياغة مثالية. فهي مشتقة من الخبرة المستفادة بوسائل تجريبية مصقولة ومحددة تحديداً دقيقاً. غير أنه من خلال عملية الصياغة المثالية والتعريف يفتقد الاتصال المباشر بالواقع. والمفاهيم لا تزال تطابق الواقع مطابقة دقيقة جداً في ذاك الجزء من الطبيعة موضوع البحث، غير أن المطابقة قد تزول في أجزاء أخرى تشتمل على مجموعات أخرى من الظواهر».
    إن استرجاع النظرة الجديدة للخبرة العامة يعيد العالم مرة أخرى إلى الإنسان، لا عالم غاليليو أو عالم ديكارت، المجرد من معظم خواص الحواس ومن العقل، ولا أيا من العوالم الذاتية الأضيق أفقاً لدى باركلي، أو هيوم، أو كانت، أو سارتر، بل العالم الذي نعيش فيه بكليته وثرائه. وقد سبق لنا أن رأينا في الفصول الثاني والثالث والخامس كيف أن النظرة الجديدة تؤيد ما كانت الخبرة العامة تقوله دائماً عن قدرتنا على حرية الاختيار، وعن جمال الطبيعة، وعن ماهية الإنسان. ويلاحظ سبري أن العالم «كان يعتبر مسألة تقرها الفطرة السليمة إلى أن جاس العلم وأخذ يقول لنا خلاف ذلك. ومنذ ذلك الحين كان هناك صراع متزايد بين العلماء وسائر أفراد المجتمع حول مفهوم الحضارة والنظرة إلى العالم. وكان هذا الصراع يبلغ ذروة الحدة في العلوم الإنسانية، وخصوصاً في فروع المعرفة التي تعني أكثر من غيرها بالقيم الأخلاقية. وربما كان كلامي في هذا المقام اعترافاً فعلياً بأن العلوم الإنسانية والفطرة السليمة كانت منذ البداية تسير في الاتجاه الصحيح، وبأننا نحن المشتغلين بالعلوم قد ضللنا الطريق».
    ويضيف هايزنبيرغ قائلاً: إن الاعتراف بالخبرة العامة يستلزم بالضرورة نظرة إلى العالم تغاير النظرة القديمة: «إذا وضع المرء نصب عينيه الاستقرار الجوهري لمفاهيم اللغة الطبيعية في مسيرة التطور العلمي فسيلاحظ، بعد تجربة الفيزياء المعاصرة، أن موقفنا من مفاهيم معينة كالعقل، أو الروح الإنسانية، أو الحياة، أو الله يختلف عن مفاهيم القرن التاسع عشر، لأن هذه المفاهيم تنتمي إلى اللغة الطبيعية وهي بالتالي ذات اتصال مباشر بالواقع».

  5. افتراضي

    وهناك نتيجة إضافية هي أن العلم مؤسس على اليقين، لا على الشك. فإذا كان هناك في أي وقت تشكيك في نظرية ما يستطيع المرء أن يلجأ إلى حقيقة أعم وأكثر ثباتاً. فالشك ليس مبدأ من مبادئ الاكتشاف العلمي. إن الدهشة، لا الشك، هي التي تبث الحياة في العلوم. ويلاحظ ايرون شرودنغر أن «حب الاستطلاع هو الحافز. فأول شرط ينبغي توفره في رجل العلم هو حبه للاستطلاع. ولابد له من أن يكون قادراً على الاندهاش وتواقا إلى اكتشاف الحقيقة». فالقدرة على التساؤل هي التي تميز العالم الكبير. ويشهد الفيزيائي ليوبولد انفلد (Leopold Infled)، معاون أينشتاين، على ما كان أينشتاين يتسم به من قدرة عظيمة على التساؤل، فيقول: «منذ كان أينشتاين في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمره (هذا ما قاله لي في مناسبات عديدة) كان يطيل النظر في هذه المسألة: ما الذي سيحدث لو أن شخصاً ما حاول الإمساك بشعاع من الضوء؟ لقد فكر في هذه المسألة ذاتها سنوات طويلة فانتهى بأن قاده حلها إلى نظرية النسبية. ونحن نرى في هذا المثال الواحد بعضاً من السمات الهامة لعبقرية أينشتاين. وأول هذه السمات وأهمها القدرة على التساؤل».
    والنظرة القديمة تعتبر القوة أو المنفعة هدف العلم. ومن هنا مساواة بيكون المشهورة بين العلم والقوة. فالنظرة القديمة تتصور العلم إما محاولا غزو طبيعة معادية والسيطرة عليها، وإما ساعياً وراء نعيم مادي مثالي على الأرض من خلال مخترعات علمية بارعة. ولكن إذا كان التساؤل، وفقاً للنظرة الجديدة، هو الذي يستحث العلم فليست القوة إذا هدفه، بل التفكر في الحقيقة. ويعلق انفلد على ذلك بقوله: «من الخطأ أن يفترض أن تطوير العلم بأكمله هو نفعي الطابع. إنه ليس كذلك، فالكثير من تأملاتنا في الذرات وفي الكون إنما تولد من حب الإنسان للاستطلاع، ومن رغبته في التغلغل إلى أعمق أعماق المجهول. فالقيمة النفعية للعديد من نظرياتنا قد تكون صفراً، ولكنها تعيننا على فهم العالم الذي نعيش فيه».
    واسترجاع الخبرة العامة في النظرة الجديدة يعود علينا بمنفعة أخرى: فهو يتيح قيام وحدة جديدة بين العالم المتخصص والرجل العادي. فالتخصص الشديد يخلق صعوبات في كافة حقول المعرفة. يقول شرودنغر: «التخصص ليس فضيلة، ولكنه شر لابد منه»، وهو يضيق أفق العقل إذا كان مفصولاً عن فهم أعم. ويبدي عالم الرياضيات موريس كلاين (Morris Kline) هذه الملاحظة: «إن ثمن التخصص هو العقم. وربما تطلب التخصص براعة فائقة، ولكن قلما يكون ذا معنى». ويؤكد شرونغر مبدأ يقول: إن «المعرفة المعزولة التي تحصلها طائفة من المتخصصين في حقل ضيق لا قيمة لها البتة إلا إذا أدمجت في سائر حقوق المعرفة» والمعرفة الناشئة عن الخبرة العامة تتيح أرضية مشتركة يستطيع أن يلتقي عليها جميع المتخصصين في العلوم والفلسفة والفنون. ولو حاول المرء الاستعاضة عن الخبرة العامة بالمعرفة المتخصصة، كما تقترح النظرة القديمة، لتعسر وجود أي سبب للاتصال فيما بين المتخصصين، أو بين المتخصص وغير المتخصص. ويصر شرودنغر على أنه في أي علم أو حقل من حقول المعرفة «إذا كنت لا تستطيع، على المدى البعيد، أن تروي لكل الناس ما كنت تعمله فعملك كله عديم الجدوى».
    أما بخصوص الفلسفة فالنظرة العلمية الجديدة تتدارك ما يعيب لفلسفة منذ ديكارت من فقر في الخبرة. ويعلق كارل فون فايتزساكر على ذلك بقوله: «إن الذات التي يتحدث عنها ديكارت ذات منزوية. فصلاتها الطبيعية بالواقع مبتورة. لا ذات غير ذات ديكارت تستطيع أن تزعم أن تفكيرها وحده هو الحقيقة المباشرة الوحيدة». والنظرة الجديدة لا ترى سبباً يمنع من أن يكون عالم العالم وعالم الفيلسوف هو عين العالم الذي نعيش جميعنا فيه. ويدعو فكتور فرانكل إلى الاعتراف بيقينيات «حياة عادية لا تحرفها النظريات عن طريقها». وعلى يقينيات الخبرة العامة هذه يمكن تأسيس فلسفة مفعمة بالحكمة وجديرة بالإنسان.
    وأخيراً، فإن تأكيد النظرة الجديدة لأهمية الخبرة العامة لا ينتقص من شأن الفنون، بل يثريها ويضفي عليها صبغة إنسانية. والآثار الفنية العظيمة كانت دائماً تحترم الاستمرارية بين الخبرة العامة والخبرة المتخصصة. ويصف موزارت إحدى قطعه الموسيقية في رسالة وجهها إلى صديق له فيقول: «ثمة مقاطع متناثرة هنا وهناك لا ترضي إلا أهل الخبرة. غير أن هذه المقاطع مكتوبة بأسلوب لا يفوت على الأشخاص الأقل خبرة أن يستمتعوا بها حتى من غير أن يعرفوا السبب». وكل أثر أدبي أو فني فذ يقدم شيئاً ما للناس على اختلاف مستويات خبرتهم. فمسرحيات شكسبير، التي تبلغ من الرفعة ما يكفي لتغذية أوسع العقول ثقافة، هي مع ذلك على قدر من الحسية يكفي للتسلية.
    والفنان، بتأسيس عمله على الخبرة العامة، يستطيع أن ينتج آثاراً خالدة وعالمية. فليس ثمة أثر فني كلاسيكي يمثل مجرد تعبير عن مزاج أو مجرد انعكاس لعصره. يقول الملحن روجر سشنز (Roger Sessions): «إن باخ وموزارت وبتهوفن لم يعكسوا صورة ألمانياً، بل هم ساعدوا على خلقها. ولذلك فأكثر ما نطلبه من ملحنينا ليس موسيقياً «أمريكية»، بل موسيقا عميقة وشاملة التصور، هي نتاج رؤية ناضجة للحياة».
    في النظرة الجديدة يستطيع الرجل العادي والعالم والفيلسوف أن يعرفوا العالم، ويستطيع الفنان أن يصور في فنه خصوبة هذا العالم وثراءه. وقد وجه غوته النصيحة التالية للشعراء، ولكنها تنطبق بالقدر نفسه على أي فنان أو عالم أو فيلسوف: «الشاعر لا يكون جديراً بهذا اللقب ما دام يقتصر على التعبير عن عواطفه الذاتية القليلة، ولكنه ما إن يستطيع تملك العالم والتعبير عنه حتى يصير شاعراً. وإذ ذاك لا ينضب له معين ويستطيع أن يظل جديداً على الدوام. هذا بينما نرى آخر ذا طبيعة ذاتية لا يلبث أن يستنزف سريعاً ما عنده من موارد داخلية نزرة، وأن ينتهي إلى إفسادها بالتكلف. والناس يتحدثون دوماً عن القدماء ولكن المعنى الوحيد لهذه العبارة هو أنها تدعوك إلى أن تلتفت إلى العالم الحقيقي، وأن تحاول التعبير عنه، لأن هذا هو ما صنعه القدماء عندما كانوا أحياء».


    الفصل السابع
    الماضي
    ما هو الموقف الذي يتخذه أنصار النظرة القديمة من أسلافها؟ إن تطوير العلم التجريبي الحديث في أواخر عصر النهضة استهل النظرة القديمة. وأسلافها إذاً هم مفكروا العالم القديم ومفكروا العصور الوسطى. وهؤلاء المفكرون، وقفا للنظرة القديمة، لا يكادون يستطيعون أن يسهموا إلا بقدر نزر من معارفنا عن الطبيعة لأنهم جميعاً عاشوا قبل مجئ عصر التجارب والآلات المعقدة والرياضيات الحديثة. ومعنى ذلك أن العلم الحديث لا يمكن أن يبنى على أسس قديمة. وهذا ما يفصح عنه بيكون في عرضه لموقف النظرة القديمة بقوله: «من العبث توقع إحراز تقدم هام في العلوم بتطعيم الجديد بالقديم. فلابد لنا من أن نبدأ مرة أخرى بداية جديدة كل الجدة».
    والنظرة القديمة تغريها فكرة حلول العلم الحديث محل كل شيء آخر. فهي تعتقد أن التقدم العلمي ياتي بالقطيعة مع الماضي لا بمواصلة السير على هديه. وقد اتخذ الفيزيائي ايرنست ماخ (Ernst Mach) في عام 1903 موقفاً متشدداً يذكرنا بموقف بيكون. فهو يقول: لقد نالت حضارتنا بالتدريج استقلالاً تاماً، محلقة بأجنحتها إلى أعلى بكثير مما بلغته العصور القديمة. وهي تسير الأن في اتجاه جديد كل الجدة، وتركز على التنويرين الرياضي والعلمي. أما بقايا الأفكار القديمة التي لا تزال عالقة بالفلسفة وعلم القانون والفنون والعلوم فهي تشكل عوائق لا مزايا، وهي على المدى الطويل لن تصمد أمام تنامي آرائنا نحن». وعند ماخ أن الماضي الذي سبق عصر العلم هو المقام الأول مستودع أخطاء وافتراضات لا تقوم على أساس. ولا اعتراض عنده على إبداء اهتمام تاريخي محض بالماضي، ولكن ينبغي للمرء ألا يعتبر العصور القديمة مصدراً من مصادر التنوير الفكري.
    وهذا الموقف ذاته من الماضي نجده في فلسفة النظرة القديمة. وديكارت هو أول من سلم بأن دراسة آثار القدماء قد تفيد في أغراض معينة، ولكنه يحذر من أن «هناك خطراً كبيرً إذا نحن انغمسنا انغماساً مفرطا في دراسة تلك الآثار أن نصاب بعدوى أخطائها». وديكارت في تطويره لفلسفته ينحي أسلافه جانباً، ويتكل على ذاته فقط وبعد طول دراسة وسفر كتب ديكارت يقول: «لم أكن قادراً على أن أختار لنفسي شخصاً بعينه يبدو رأيه جديراً بالإيثار، ولذلك لم يكن أمامي اختيار إلا أن ألتمس الهداية من ذاتي».
    والنظرة القديمة تشجع الفنان على رفض أسلافه والتخلي عن الاستمرار مع الماضي، ذاهبة إلى أن الاتكال على الفنانين السابقين يشكل عاتقاً يحول دون الأصالة والإبداع الحر. وقد أعد أمبيرتو بوتشيوني (Umberto Boccioi) في عام 1910 بياناً رسمياً باسم الرسامين المستقبليين يعبر عن هذا الموقف تعبيراً جيداً إذ يقول: نريد أن نحارب بلا هوادة دين الماضي المتعصب وغير المسئول والمتغطرس الذي يغذيه وجود المتاحف المقيت. ونحن نأبى الإعجاب الذليل باللوحات القديمة والتماثيل القديمة والتحف القديمة، والتحمس لكل ما أكلته العثث ولكل قذر وبال، ونعتبر الاحتقار المألوف لكل ما هو حديث وجديد ونابض بالحياة عملاً جائراً وإجرامياً.
    ونحن بموالاتنا الحماسية للمستقبلية نعتزم تحطيم عبادة الماضي، واستحواذ القديم علينا، والتحذلق، وتمسك المعاهد بالشكليات، والازدراء التام لكل محاكاة، وتمجيد كل شكل من أشكال الابتكار مهما بلغ من الجرأة والعنف، وإبعاد كل الموضوعات التي سبق تناولها في مجال الفن، وتصوير وتمجيد الحياة المعاصرة التي تمر بتحول متواصل وعنيف بفضل انتصار العلم.
    إذاً فموقف النظرة القديمة من الماضي واضح في ميادين العلم والفلسفة والفنون. فما موقف النظرة الجديدة من الماضي؟ يحسن بنا أن نبدأ بإلقاء نظرة على الموقف الذي تتخذه النظرة الجديدة من النظرة القديمة.
    النظرة الجديدة، قبل كل شيء، لا ترفض النظرة القديمة جملة وتفصيلاً. فهي تحتفظ بجميع ما اكتشف من حقائق عن المادة في ظل المذهب المادي بوصفها حقائق صالحة على الدوام. هكذا يلاحظ هايزنبيرغ «أن الفيزياء الحديثة لم تغير شيئاً في ميادين العلم الكلاسيكية العظيمة كالميكانيكا والبصريات والحرارة». كذلك تحتفظ النظرة الجديدة بجميع المبادئ السليمة «للمنهج» الذي استحدثه رواد النظرة القديمة، بما فيها ضرورة التجارب والآلات والرياضيات المتطورة في دراسة الطبيعة.
    أما العنصر الوحيد الذي لا تتمثله النظرة الجديدة من عناصر النظرة القديمة فهو منهجها المادي. فالنظرة الجديدة تأخذ عن بيكون منهجه التجريبي، ولكن دون تشكيكه الجذري في ملكات الإنسان، هذا التشكيك الناجم عن نموذجه المادي للإحساس والفهم. كما تتبنى نظرة غاليليو القائلة بمحورية الرياضيات في إحراز التقدم في العلم الطبيعي، ولكنها ترفض دعواه بأن لا حقيقة إلا في الخواص الرياضية.
    والنظرة الجديدة تقبل جميع المكتشفات الحقيقية التي تمت في ظلال المذهب المادي، ولكنها لا تقبل الدعوى القائلة إن تلك المكتشفات تضفي الشرعية على المذهب المادي. ويمثل اكلس موقف النظرة الجديدة حين يقول: «إنني بالطبع أؤيد كل التأييد البحوث العلمية عن السلوك وردود الفعل الشرطية، بل جميع البرامج الحالية لعلم النفس السلوكي. وفضلاً عن ذلك أوافق على أن جزءاً كبيراً من السلوك البشري يمكن أن يفسر تفسيراً شافياً بالاستناد إلى المفاهيم المستحدثة بصدد هذه التجارب. على أنني اختلف اختلافا جذرياً مع السلوكيين في دعواهم بأنهم يقدمون تفسيراً كاملاً لسلوك الإنسان في حين أعلم أنها لا تفسر ذاتي لذاتي لأنها تتجاهل تجاربي الواعية أو تسند إليها دوراً مجرداً من المعنى. وهذه التجارب تشكل في نظري أنا- ومن غير شك في نظر كل واحد منكم أعزائي القراء- الحقيقة الأولى».
    ويتخذ كارل روجرز الموقف نفسه من علوم النفس في النظرة القديمة فيقول: «لكل تيار في علم النفس فلسفته الضمنية الخاصة به عن الإنسان. وهذه الفلسفات، وإن كانت في الأغلب لا تطرح بصراحة، تمارس نفوذها بأساليب خفية هامة. فالإنسان عند السلوكي مجرد آلة، آلة معقدة ولكنها مع ذلك قابلة للفهم، وفي وسعنا أن نتعلم كيف نؤثر فيه بمهارة متزايدة إلى أن يفكر الأفكار، ويتحرك في الاتجاهات، ويتصرف بالطرائق التي نختارها له. والإنسان عند الفرويديين كائن غير عقلاني، رهين ماضيه بلا فكاك وحصيلة ذلك الماضي، أي عقله اللاواعي. وليس من الضروري أن ننكر اشتمال كل من هذه المناهج على حقائق لكي نعترف بأن هناك وجهة نظر أخرى».
    والابتكار، في النظرة العلمية الجديدة، لا يعني تسخيف المتوارث من المعتقدات والأعراف. فبناء نظرية جديدة لا تستلزم هدم النظرية السابقة من أساسها. حتى الثورات العلمية تبقى على استمرارية مع الماضي. ومن ذلك مثلاً أن أينشتاين يقول في معرض شرحه لنظريته في الجاذبية ومقارنتها بنظرية نيوتن: لا يظنن أحد أن ابتكار نيوتن العظيم يمكن أن تطيح به –بأي معنى من المعاني- هذه النظرية أو أي نظرية غيرها. فأفكاره الواضحة وواسعة المدى ستحتفظ بأهميتها إلى الأبد بوصفها الأساس الذي قامت عليه تصوراتنا الحديثة لعلم الفيزياء».
    على أن لفظة ثورة قد تكون مدعاة للتضليل. فالنسبية قد أطاحت بفيزياء نيوتن كنظام عالمي. غير أن قانون نيوتن للتربيع العكسي لا يزال كافياً كل الكفاية لتفسير التجربة العادية. ويمكن في الواقع استنتاجه من النسبية العامة على سبيل المقاربة. يقول ليوبولد انفلد: «ليس صحيحاً كل الصحة أن يقال أن إينشتاين أثبت عدم صلاحية ميكانيكاً نيوتن للتطبيق، بل الأصح أن يقال إنه بين أوجه قصورها. غير أن النطاق الذي تصلح فيه للتطبيق لا يزال واسعاً». ومن الضروري إدخال دقة نظرية النسبية فقط عند التحدث عن حالات خاصة، كحالة السرعات التي تقترب من سرعة الضوء. ولقد كانت معادلات نيوتن كافية كل الكفاية لن توصل الإنسان إلى القمر ثم تعيده إلى الأرض سالماً.
    وكل تقدم في العلم لابد له من استبقاء حقائق الماضي والتأسيس عليها. ويقدم الفيزيائي لويس دو بروجلي صيغة الثبوت على الوجه التالي: متى تم التحقق على نحو يقيني من قانون ما تحققا تقريبيا (فكل عملية تحقق تنطوي على قدر من التقريب) أصبحت نتيجته ثابتة بصورة نهائية، بحيث لا تستطيع أي محاولة تنظير لاحقة أن تنقضها. ولو لم يكن الأمر كذلك لما تيسرت أي معرفة». ولربما أتت نظرية جديدة بدقة تفوق دقة أخرى أقدم منها، ولكنها لا تعكس أبداً أي شيء تم التثبت منه تثبتاً حقيقياً. فقد يحدث أحياناً أن ننبهر بالعنصر الجديد المثير في نظرية جديدة، فتغيب عن أذهاننا الاستمرارية الأساسية. وما لم يفطن المرء إلى تلك الاستمرارية فقد يخيل إليه أن الفيزياء في تقلب متواصل وأنها لا تقوم على أي أساس.
    والنظرة الجديدة لا تقيم استمرارية جديدة مع الماضي العلمي فحسب، بل هي تتيح تناسقاً جديداً مع عصر ما قبل العلم. والواقع أن المبادئ الرئيسة للنظرة الجديدة تتفق مع نظرة العصرين الوسيط والقديم إلى العالم. والنظرة الكونية التي كانت سائدة قبل عصر غاليليو وبيكون هي فيزياء أرسطو. وعلى ذلك، وبغية إيضاح تلك النظرة، سنشير إلى أرسطو في المقام الأول، فلا نستشهد بآراء غيره من المؤلفين إلا على سبيل التكملة.
    يؤكد أرسطو، كما تفعل النظرة العلمية الجديدة، أن العقل لا يمكن أن يرد إلى مادة. وهو، كما يفعل شرنغتون واكلس، يعرف الإدراك الحسي بوصفه نشاطاً غير مادي. يقول: «المراد بالحس ما له القدرة على أن يستقبل في داخله الأشكال الحسية من دون المادة». ويضيف أرسطو قائلاً: إن الفهم ليس نشاطاً مادياً، ويؤكد، شأن بنفيلد، أن العقل الإنساني ليس له عضو بدني. وسواء أكان أرسطو يؤمن بخلود الفرد أم لا فالمسألة هي مثار جدل بين العلماء. على أنه يقول بالفعل: «العقل وحده هو الخالد والأزلي». ولما كان أرسطو لا يستخدم نموذجاً مادياً لتفسير المعرفة فهو لا يتورط في الصعوبات المتعلقة بقضية الذات والموضوع، التي ما برحت تؤرق الفلاسفة منذ أيام ديكارت.
    ويؤكد أرسطو كذلك أن للإنسان قدرة على الاختيار الحر، وهو أمر يتفق مع إقراراه بلا مادية العقل. وهو يميز بوضوح بين الإرادة والعواطف، مؤكداً أن الإرادة هي شهوة عقلانية. ويعرف الاختيار بأنه قرار ناتج عن تشاور داخل العقل فيقول: «الاختيار رغبة مدروسة في الأشياء التي هي في متناولنا».
    ويذهب أرسطو كذلك إلى أن عناصر الشخصية لا تكتسب إلا بالاختيار الحر فيقول: «العناصر الخارجية تأتي من تلقاء نفسها والصدفة هي التي توجدها، ولكن ما من أحد يكون عادلاً أو معتدلاً بفعل الصدفة أو من خلالها»، وهناك فقرات عديدة في كتابيه اللذين يتناولان الأخلاق والسياسة يورد فيها أسباباً لسمو العناصر الروحية على كافة العناصر المادية. وهو يثني على حياة العقل والحياة الأخلاقية، حيث يحكم العقل تصرفات الإنسان وعواطفه، ثناء يفوق ثناءه على جميع أنشطة الإنسان الأخرى.
    وأما الجمال فيعلن أرسطو أنه موجود في مختلف جوانب الطبيعة، وخصوصاً في الأحياء. وأرسطو في كتابه «طبائع الحيوان» (Parts Of Animals) * يشجع المبتدئ على: «دراسة مختلف فئات الحيوانات من غير نفور لأن كلا منها يكشف لنا عن شيء طبيعي وعن شيء جميل. وانتفاء المصادفة وإفضاء كل شيء إلى غاية يتبديان في منتجات الطبيعة إلى أبعد الحدود، والمحصلة الناشئة عن توليداتها وتركيباتها هي شكل من الأشكال الجمالية».
    ويستند أرسطو في حججه إلى بساطة الطبيعة. من ذلك مثلاً أنه، في كتابه «الطبيعة»، ينتقد آناكساغوراس الذي كان يقول بوجود عدد غير محدود من مبادئ الطبيعة فيقول: من الأفضل أن نفترض، كما يفعل امبيدوكليس. جود عدد من المبادئ أصغر ومحدود».
    زد على ذلك أن عناصر الجمال الثلاثة التي عرضنا لها في الفصل الثالث موجودة في كتابات أفلاطون وأرسطو وأفلوطين وغيرهم من المفكرين في عصر ما قبل العلم. فعلى سبيل المثال، كتب توما الاكويني (Thomas Aquinas يقول: «الجمال يتطلب ثلاثة عناصر: أولها وثانيها التناسب الواجب أو التناسق، وثالثها الإشراق لأن الأشياء ذات الألوان الزاهية توصف بأنها جميلة». وهذه هي العناصر الثلاثة نفسها التي حددها أينشتاين وجيل –مان بعد ذلك بسبعمائة عامة.
    ويؤكد أرسطو أيضاً أن «الطبيعة عامة، بل هي علة تعمل لغاية». وهو يرى أن هناك صلة قربي وثيقة بين بساطة الطبيعة وجمالها وغائيتها، فيقول: «الطبيعة لا تصنع أبداً أي شيء من دون غاية ولا تهمل ما هو ضروري». فلا تفريط ولا إفراط. ويصر أرسطو في كثير من مصنفاته على أن الغاية لا غنى عنها في حسن فهم الأشياء الطبيعية ولا سيما الكائنات الحية. وليست الأعضاء الفردية هي وحدها التي ينبغي فهمها ودراستها في ضوء ما صنعت من أجله، بل أن أجزاء الكون في مجموعة موجهة إلى غاية مشتركة. فهو يقول: «علينا أن ننظر أيضاً بأي طريقة من طريقتين تشمل طبيعة الكون الحسن والأحسن. هل كشيء منفصل وقائم بذاته أم كمجموع أجزاء؟ ربما بالطريقتين كلتيهما كما هو شأن الجيش. ذلك أن صالحه يكمن في نظامه وفي قائده على السواء، ولا سيما في الأخير لأنه لا يعتمد على المجموع، بل المجموع يتوقف عليه. والأشياء كلها مرتبة على نحو ما، ولكنها ليست كلها متشابهة. فهناك أسماك وطيور ونباتات. والعالم ليس مرتباً بحيث لا يتصل الجزء الواحد منه بالآخر، ولكنهما مترابطان».
    ومن المبادئ الأخرى للنظرة الجديدة مفهوم المراقبة كما نراه في النسبية وفيزياء الكم. فأرسطو وكثيرون من المفكرين الذين جاءوا من بعده في عصر ما قبل العلم يعترفون بدور الإنسان الفريد كمراقب. ويصدر أرسطو كتابه المسمى « ما بعد الطبيعة» بالعبارة المشهورة التالية: «كل الناس تواقون بفطرتهم إلى المعرفة». وهو لا يرى في الحيوانات أي دليل على التأمل الجمالي أو الفكري في الطبيعة قائلاً: «لحيوانات باستثناء الإنسان تعيش بالمظاهر والذكريات وليس لها إلا اليسير من التجربة المترابطة». فهي تستخدم حواسها للمنفعة فقط، لا لمجرد تحصيل المعرفة أو تذوق الجمال: «الكلاب لا تبتهج برائحة الأرنب البرية، بل بأكلها، غير أن الرائحة هي التي دلتها على مكان الأرانب. كما أن الأسد لا يبتهج بخوار الثور، بل بأكله، ولكنه أدرك من خوار الثور أنه قريب منه، ولذلك يبدو مبتهجاً بالخوار».
    وهناك عدد كبير من المفكرين القدامى الآخرين جنحوا إلى الأخذ بمفهوم المراقبة. يقول شيشرون (Cicero) مثلاً: «إن الإنسان نفسه ظهر إلى حيز الوجود لغرض التفكر في العالم». وإبيقطيطوس (Epictetus) يقول: «إن الله أوجد الإنسان ليكون شاهداً على الله وآثاره، ولكن ليس كمشاهد لهذه الآثار فحسب، بل كمفسر لها أيضاً». ويلاحظ القديس أوغسطين أن العالم يظل ناقصاً لولا وجود الإنسان كمراقب فيقول: «الأشياء تسهم في جعل هذا النسق من العالم المرئي على كل هذا الجمال. فكأنها أرادت، تعويضاً عن عجزها عن المعرفة، أن تصبح معروفة لدينا». وهناك شاعر بوذي ينتمي إلى مذهب زن (Zen)، عاش حوالي القرن السابع للميلاد، صور بلغة شعرية جميلة كيف أن مراقبة الإنسان تكمل العالم:
    الوزات البرية لا تقصد إلقاء صورها في الماء إذ إن الماء لا يملك العقل اللازم لالتقاط صورها.
    وإلى جانب مفهوم المراقبة، يعثر المرء لدى أرسطو على شيء يقابل «المبدأ الإنساني» ويجد له تعبيراً أوفي وأوضح في العصور الوسطى. فأرسطو، إذ يتحدث عن علاقة الإنسان بالطبيعة يقول: «إننا نستخدم كل شيء كما لو وجد من أجلنا. ونحن كذلك بمعنى ما غاية». وهو يضيف عبارة «بمعنى ما» لأن الطبيعة لم تبدع على هدي متطلبات الإنسان فحسب، بل كذلك على هدي غاية الكون المشتركة المشار إليها آنفا. والعلماء المعاصرون، باستنادهم إلى «المبدأ الإنساني» يبينون كيف أن افتراض كون الإنسان غاية الطبيعة يفسر بعض خواص المادة. ويقول أرسطو بالروح نفسه، في مصنفاته البيولوجية، إننا نستطيع فهم جسم الإنسان على أحسن وجه في ضوء علاقته بعقل الإنسان.
    وبحلول العصور الوسطى يزداد المفهوم المرادف للمبدأ الإنساني وضوحاً على وضوح. فقد كتب توما الاكويني يقول: «تلك المخلوقات التي هي أقل نبلا من الإنسان إنما وجدت من أجل الإنسان»، ملبية إما حاجاته البدنية وإما حاجاته العقلية إذ إنه بدراسة هذه المخلوقات يستطيع آخر الأمر أن يرقي إلى معرفة الله. والإنسان في منظور عالم ما قبل العلم هو محور الكون لأن له عقلاً، لا بسبب الاعتقاد بأن الكواكب والنجوم تدور حول الأرض.

  6. افتراضي

    ويرى أرسطو في العالم أدلة وافرة على وجود الله فهو، إذ يرى غائية في الطبيعة، ينتهي إلى أن وراءها عقلاً، قائلاً: «الطبيعة مخططة تخطيطاً آلهياً، وإن لم تكن هي نفسها آلهية». وعلاوة على ذلك، يقر أرسطو بأن الطبيعة زاخرة بالجمال، وهو جمال لا يمكن تفسيره بالضرورة المادية أو بالصدفة. وهو لذلك يعزو جمال الطبيعة للإله بارع الصنعة. وهكذا فهو، إذ ينصح المبتدئين في دراسة علم الأحياء إلا يحجموا بنفور عن دراسة الحيوانات الأكثر تواضعاً، يقول: «لأنه إذا لم يكن لبعضها من الحس والرشاقة ما يستهوي الحس فحتى هذا البعض، بكشفه للإدراك الذهني عن الروح بارعة الصنعة التي صممتها، يعطي لذة عظيمة لجميع أولئك القادرين على تتبع روابط العلية والميالين إلى الفلسفة». والواقع أن تشبيه الله بالصانع الماهر قديم قدم الفلسفة الغربية ذاتها. هكذا نرى طاليس الملطي (Tales of Miletus)، أول فلاسفة الإغريق، يعلن أن «الله هو أسبق الكائنات لأنه غير مخلوق، وأن الكون أجمل هذه الكائنات لأنه من صنع الله».
    أما فيما يتعلق بالطريقة فيعترف أرسطو، شأن علماء النظرة الجديدة، بأولية الخبرة العامة. وهو، خلافاً لغاليليو وبيكون، لا يستبعد أياً من يقينيات الخبرة العامة. بل إنه على نقيض ذلك يؤسس عليها كل دراسته للطبيعة. هذا إلى أن أرسطو يرى أن الدهشة، لا المنفعة، هي العامل الحفاز للعلم. يقول: «إن الناس لا يبحثون اليوم في الفلسفة، كما لم يبحثوا فيها بادئ ذي بدء، إلا بداعي اندهاشهم. فلقد كانوا، بادئ ذي بدء في دهشة أمام الصعوبات الواضحة ثم تقدموا شيئاً فشيئاً. ولما كانوا يتفلسفون طلباً للتحرر من الجهل فمن الجلي أنهم درسوا العلوم لذات المعرفة، لا لأي غرض نفعي».
    وأخيراً يتضح موقف أرسطو من أسلافه في كتابه المسمى «في النفس» حيث يقول: «لأغراض دراستنا للنفس لا بد لنا من التداول في أفكار أسلافنا الذين انتهوا إلى أي رأي حول الموضوع، عسى أن ننتفع بكل ما هو سديد في أطروحاتهم وأن نتفادى أخطاءهم».
    وهو يكاد يصدر كل بحث من بحوثه بدراسة متروية لما قاله سابقوه. فهو، قبل أن يصنف كتابه المسمى «السياسة» قد حلل دساتير 158 حكومة. بل إنه كان حتى بعد أن يسوق حججه توصلاً إلى نتيجة ذات خطر، يجشم نفسه غالباً عناء الرجوع إلى آراء الآخرين. ومن ذلك مثلاُ أنه، بعد أن تناول موضوع السعادة، كتب يقول: «إلا أن علينا أن ننظر فيها لا في ضوء استنتاجاتنا ومقدماتنا فحسب، بل في ضوء ما يقال عنها عموماً لأن البيانات تتفق متى كان الرأي صحيحاً، ولكن الحقائق لا تلبث أن تتصادم متى كان الرأي خاطئاً». وهذا أيضاً يدل على احترامه الخبرة العامة.
    من هذه اللمحة الموجزة نرى أن النظرة العلمية الجديدة ونظرة أرسطو إلى العالم تتماثلان تماثلا يبعث على الدهشة. فكلتاهما تؤكد أن العقل لا مادي، وكلتاهما تعترف بحرية الاختيار عند الإنسان، وبتفوق الروحانيات، وبجمال الطبيعة، وبوجود غائية في الكون، وبالمراقبة، وبالمبدأ لإنساني، كما تعترف بالله، وبأولوية الخبرة العامة، وبالتساؤل بوصفه الحافز إلى العلم، وبأن من الحكمة استطلاع آراء الأسلاف. وجميع هذه المسائل، لتي تنكرها النظرة العلمية القديمة، هي عناصر وحدة بين النظرة العلمية الجديدة وبين نظرة عصر ما قبل العلم إلى العالم. وإذا وضعنا في اعتبارنا التجانس الكبير بين هاتين النظرتين إلى العالم فلن يدهشنا أن نرى هايزنبيرغ يشير دونما تحفظ إلى مفهوم «ما هو بالقوة» بمعناه في الفلسفة الأرسطوطالية لشرح نوع الكينونة الموجودة في الجسيمات دون الذرية. ذلك أن هايزنبيرغ يتجه إلى فيزياء أرسطو، لا إلى مادية النظرة القديمة، لأن الفلسفة الأساسية للأولى أقرب كثيراً إلى علم القرن العشرين منها إلى الثانية.
    ولكن كيف تيسرت كل هذه الاكتشافات التي تحققت منذ قرون بالغة الكثرة دون الاستعانة بالنسبية وبفيزياء الكم ومبحث الأعصاب المعاصر والفيزياء الفلكية؟ إن ما حدث هو أن أرسطو وغيره من المفكرين في عصر ما قبل العلم قد توصلوا إلى هذه الحقائق على أساس الخبرة العامة. والمبادئ الأساسية للنظرة الجديدة، التي تم التوصل إليها من خلال خبرة العلم الحديث المتخصصة، إنما هي إعادة اكتشاف لحقائق معروفة منذ زمن طويل ومؤسسة على الخبرة العامة للبشر جميعاً. وفي هذا الصدد يقول ايرون شرودنغر: «إن علم الفيزياء بشكله الحالي هو لنتاج المباشر للعالم القديم واستمرار مطرد له». ومن هذه الزاوية يتبدى أن النظرة العلمية القديمة تشكل انحرافاً عن الاتجاه السائد في الفكر الغربي دام ثلاثمائة عام.
    من هنا ننتهي إلى أن عناصر النظرة الجديدة لا تستند فحسب إلى ما اكتسبه العلم الحديث من خبرة متخصصة، بل كذلك إلى حجة أكبر كثيراً، هي الخبرة العامة. وبهذا الروح يقول الفيزيائي يوجين فيغنر في كتابه «تماثلات وخواطر» (Symmetries and Reflections): «إن الحجة الرئيسة ضد المادية ليست أنها لا تتفق مع نظرية الكم، بل هي أن عمليات التفكير والوعي أمور لا سبيل إلى إنكارها». فلخبرة المتخصصة للعلم الحديث قد ذكرت الإنسان المعاصر بأشياء ما كان ينبغي له أن ينساها أصلا.
    ولا ريب في أن هناك أخطاء وقعت في الاستنتاجات الفرعية للنظرة الارسطوطالية إلى العالم. ومن ذلك مثلاً أن أرسطو كان يعتقد أن الشمس تدور حول الأرض، وأن المادة التي تتكون منها الكواكب والنجوم تختلف في جوهرها عن جميع عناصر الأرض، وأن الحياة تستطيع في حالات خاصة أن تتولد تلقائياً من المادة الجامدة. ولكن تصحيح هذه الأخطاء لا يقتضي رفض أي من المبادئ الجوهرية التي نعثر عليها في كتابات أرسطو وفي النظرة القديمة على السواء، إذ لم يكن ينبغي لأي من مكتشفات كويرنيكوس أو غاليليو أو أي شخص آخر أن يتطلب من العلم إنكار حرية الاختيار أو الغائية أو الجمال أو الله.
    على أن الاتفاق الرائع بين نظرة العالم القديم والعلم الحديث ينبغي ألا يفضي بنا إلى أن نظن أن النظرة الجديدة لا تتضمن أي عنصر جديد. فعالمنا العلمي يختلف اختلافاً هاما عن عالم القدامى: فهؤلاء كانوا يعتقدون أن العالم هو أساساً في حالة سكون. أما فهمنا المعاصر للعالم فيقوم على أن كل شيء له تاريخ، حتى المادة ذاتها. فالانفجار العظيم والنظريات الفيزيائية الموحدة لكلية تشير إلى بداية تاريخية حتى لأهم قوانين الفيزياء. والنظرة الجديدة تقدم لنا وحدة هي أفخم وأعمق مما تصوره القدامى في أي وقت مضى. فلابد من أن أرسطو كان سيذهل لو علم أن كل عناصر من عناصر أجسامنا قد صنع في قلب نجم قبل مليارات السنين. والتجارب المتقنة، والآلات المعقدة، والرياضيات البارعة المطبقة في الفيزياء المعاصرة تتيح لنا التغلغل في الطبيعة إلى أعماق لم يكن ليحلم بها أفلاطون أو أرسطو، والنتيجة الطبيعية لذلك هي أن التكنولوجيا العلمية قد غيرت ثقافتنا اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. وبفضل سلطان هذه التكنولوجيا اكتسب الإنسان المعاصر أيضاً سلطة أكبر من ذي قبل بشأن رفاهه المادي. وأخيراً فالإنسان المعاصر هو وحده الذي عايش النظرة القديمة إلى النهاية. فلم يحدث قط أن هيمنت المادية على نظرة العالم القديم، كما أن القدماء لم يذوقوا قط كرب كامو، ولا عرفوا الخواء الإنساني الذي أسفرت عنه النظريات النفسية في ظل النظرة القديمة، أو كآبة كون يعتبر بلا خالق وبلا غاية وبلا جمال. والإنسان المعاصر، بعد أن عايش النظرة القديمة ثلاثمائة عام، هو في وضع أفضل من غيره للحكم عليها.
    أما النظرة العلمية الجديدة فتصل بين الإنسان المعاصر والمآثور من حكمة القدماء. وتنطبق الاستمرارية ذاتها على الفنون. فما من فنان كبير سفه أسلافه قط. استمع إلى تنبيه موزارت إذ يقول: «مخطئ من يظن أني نلت فني بمثل هذه السهولة. فما من أحد كرس من وقته وتفكيره مثل ما كرسته للتأليف. وليس ثمة أستاذ كبير لم أعكف على دراسة موسيقاه مراراً وتكراراً».
    إن التقاليد هي الصابورة ballast التي تحفظ للحضارة توازنها، فلولاها لوجدنا رياح الطرز اعتباطية التغير تقذف بنا في كل ناحية. استمع للرسام جان أوغوست أنغر (Jean Augusts Ingres) وهو يتحدى عبادة الجديد التي يمكن أن تكون شديدة التخريب للفنون فيقول: «لا أريد أن أسمع بعد اليوم ذلك الشعار السخيف: «نحن بحاجة إلى الجديد، وبحاجة إلى مجاراة عصرنا، فكل شيء يغير وكل شيء قد تغير». كل ذلك سفسطة. هل الطبيعة تتغير؟ هل يتغير الضوء والهواء؟ وهل تغيرت أهواء القلب البشري منذ أيام هوميروس؟ إن من الجنون أو الكسل أن نزعم أن في وسعنا الاستغناء عن دراسة القديم أو أدب الإغريق والرومان. فذلك مذهب الذين يريدون أن ينتجوا من غير أن يعملوا، وأن يعرفوا من غير أن يتعلموا».
    ويقول ايغور سترافنسكي (Igor Stravinsky): إن السير على التقاليد في الموسيقا لا يقيد الفنان، بل يعزز القدرة على الإبداع ويضمن تواصل لفن: «إن النهج التقليدي حقاً ليس أثراً من آثار عصر ولي إلى غير رجعة، بل هو قوة حية تنير الحاضر وتبث فيه الحياة. والأخذ بالتقاليد لا يعني أبداً تكرار ما حدث، بل يفترض مسبقاً حقيقة ما يستطيع الدوام. فهو يبدو كالمتاع الموروث يتلقاه المرء بشرط أن يجعله يؤتي ثماره قبل أن يسلمه إلى ذريته. والتقاليد تتناقل كيما تأتي بما هو جديد. وهي إذاً تضمن دوام الإبداع».
    ثم إن التقاليد لا تعني المحاكاة العمياء لما فات أوانه. وعلى هذا الصعيد يتفق ت. س إيليوت (T.S. Rliot) مع سترافنسكي على أن التقليد ثروة لا نستطيع أن نتلقاها من موقف سلبي، شارحا دور هذا التقليد في تمكين الفنان من رؤية الأثر الخالد في الأثر الزائل فيقول: «إذا كان الشكل الوحيد للتقليد وتوريثه يكمن في اتباع سنن أهل الجيل الذي سبقنا مباشرة فيما أفلحوا فيه اتباعاً أعمى، أو التزاما بما حققوه من نجاح فينبغي بالتأكيد عدم التشجيع عليه. فقد رأينا كثيراً من هذه التيارات البسيطة لا تلبث أن غابت في الرمال، والتجديد خير من التكرار. أما التقليد الحق فذو دلالة أوسع نطاقاً من ذلك كثيراً. إنه ليس تركة قابلة للتوريث، فإذا أردته كان من المحتم عليك أن تبلغه بالعمل المضني. وهو ينطوي، في لمقام الأول، على الحس التاريخي الذي لا يكاد يستطيع الاستغناء عنه كل من أراد أن يظل في عداد الشعراء إلى ما بعد الخامسة والعشرين من عمره. والحس التاريخي ينطوي على أن تدرك لا مضي الماضي فحسب، بل حضوره أيضاً. والحس التاريخي يلزم المرء بأن يكتب وهو يحس في عظامه لا بالجيل الذي هو جيله فحسب، بل كذلك بأن كل الأدب الأوروبي منذ هوميروس – ومن ضمنه كل أدب بلده ذاته- ذو وجود متزامن ويشكل نظاماً متزامنا. وهذا الحس التاريخي- وهو إحساس بالأثر الخالد والموقوت معاً- هو الذي يجعل من الكاتب كاتباً تقليدياً. وهو في الوقت ذاته يجعله يحس إحساساً مرهفاً بمكانه من الزمن وبكونه حقاً من أبناء عصره».
    والتقليد، كما يدل أصل الكلمة (في اللغات الغربية)، هو «التوريثك العمدي لشيء سرمدي في حقيقته أو عالمي في جماله. والوريث الأجدر بهذا الاسم هو الذي يستطيع أن يجعل الميراث يؤتي ثماراً جديداً. ولذلك كان على الفنان الذي يسعى وراء الجمال، والعالم الذي يجاهد في سبيل الحقيقة، كليهما، أن يستعينا بمعاصريهما وبأسلافهما. فالجمال والحقيقة سلعتان مشتركتان ويتطلبان جهداً مشتركاً.
    والتقاليد تجمع الدنس البشري بأسره على خير مشترك يمتد امتداد القرون ولولاها لما كان هناك رجال من مثال سترافنسكي، أو أينشتاين، أو موزارت، أو إيليوت، ولكانت تلك خسارة ماحقة. ذلك أن سمفونياتهم ونظرياتهم وقصائدهم هي هدايا للجنس البشري بأكمله. فالناس الذين سبقونا يثرون خبراتنا ويضاعفون ملكاتنا. ونحن نستطيع أن نرى بأعينهم، ونفهم بعقولهم، ونحس بفضل نبضات قلوبهم. وبهذه الطريقة وحدها نستطيع أن نبلغ أقصى ما في طوق البشر بلوغه من درجات الكمال.

  7. افتراضي

    الفصل الثامن
    الحاضر
    حتى الآن ركزنا في حديثنا على أوجه التضاد بين النظرة العلمية القديمة والنظرة العلمية الجديدة في مجالات المادة والعقل والجمال والله وعلم النفس والعالم والماضي. ونحن الآن على استعداد للموازنة بين هاتين النظرتين بوصفهما وحدتين كاملتين. ونتوقع من أي نظرة كونية أن تكفل ثلاثة عناصر: الرحابة والوحدة والنور: فمن رحابتها نتوقع أن تحتفظ بوفرة ما نخبره ونحس به، ومن حدتها أن تحقق الانسجام بين الأشياء بطريقة بسيطة، ومن نورها أن يجعلنا نفهم أشياء هي لولاه غامضة.
    وفي كل من هذه الفئات الثلاث تقصر النظرة القديمة عن النظرة الجديدة. فمن حيث الرحابة تتسم النظرة القديمة بضيق الأفق، ذاهبة إلى أنه لا سبيل إلى معرفة أي شيء ما خلا المادة وخواصها. وهي تواجه عناء في التوفيق بين القيم الأخلاقية والجمالية والفكرية والغاية والله. ويشتكي ايرون شرودنغر في كتابه «العقل والمادة» (Mind and Matter) من الصورة الهزيلة التي يقدمها «عالم العلم». ولكن إذا تدبرنا كلماته أدركنا أنه إنما يتحدث عن النظرة القديمة. يقول: «لقد أضحى «عالم العلم» من الايغال الرهيب في الموضوعية حيث لم يعد يترك مجالاً للعقل ولأحاسيسه المباشرة. وعالم العلم مجرد من كل ما كان معناه مرتبطاً على وجه الحصر بالذات المتأملة والمدركة والواعية. وأنا أعني بالدرجة الأولى القيم الأخلاقية والجمالية، بل أي قيم أخرى من أي نوع، أي كل ما له صلة بمعنى ونطاق الموضوع بأكمله.
    ويوافق روجر سبري على أن مادية النظرة القديمة ضيقة الأفق قائلاً: «الوعي وحرية الإرادة والقيم، ثلاث شوكات قديمة العهد في جنب العلم. وقد أثبت العلم المادي عجزه عن معالجتها حتى بصورة مبدئية لا لمجرد كونها عسيرة المركب فحسب، بل لإنها تتعارض تعارضاً مباشراً مع النماذج الأساسية. ولقد اضطر العلم إلى التخلي عنها، بل إلى إنكار وجودها، أو إلى القول إنها تقع خارج نطاقه. وهذه العناصر الثلاثة تشكل، عند السواد الأعظم من الناس بالطبع، بعض أهم الأشياء في الحياة. وعندما ينكر العلم أهميتها، بل وجودها، أو يقول إنها خارج نطاقه، فلابد للمرء من أن يتساءل عن جدوى العلم».
    ويسهب شرودنغر في كتابه «الطبيعة والإغريق» (Nature and the Greeks) في بيان أوجه قصور النظرة العلمية القديمة فيقول: «إن الصورة التي يرسمها العلم للعالم الحقيقي حولي صورة ناقصة جداً. صحيح إنه يقدم حشداً ضخماً من المعلومات الواقعية، ويسلك كل تجربتنا في نظام رائع الاتساق، ولكنه يسكت سكوتاً فاضحاً عن كل ما هو قريب فعلا إلى قلوبنا، كل ما يهمنا حقاً أنه لا يستطيع أن يقول لنا كلمة واحدة عن الحمرة والزرقة، عن المرارة والحلاوة، عن الآلم الجسدي واللذة الجسدية، ولا هو يعرف شيئاً عن الجمال والقبح، عن الخير والشر، أو عن الله والأزلية، صحيح أن العلم يدعي أحياناً أنه يجيب عن أسئلة في هذه المجالات، إلا أن الأجوبة هي في الأغلب على قدر من السخف لا نميل معه إلى أخذها مأخذ الجد».
    ويوافق فيرنر هايزنبيرغ على أن مادية النظرة القديمة ضيقة الأفق قائلاً: «لقد استحدث القرن التاسع عشر إطاراً بالغ الجمود للعلم الطبيعي، لم يكن يشكل إطاراً للعلم وحده، بل لوجهة نظر جماهير غفيرة من الناس، وفيه كانت المادة هي الحقيقة الأولية. كان ينظر إلى تقدم العلوم وكأنه حملة صليبية لغزو عالم المادة، وكانت المنفعة شعار ذلك العصر.
    ولقد كان هذا الإطار من الضيق والجمود بحيث تعسر وجود مكان فيه الكثير من المفاهيم في لغتنا، وهي مفاهيم كانت دائماً تدخل في صميم هذه اللغة، كالعقل أو النفس البشرية أو الحياة. وكان من العسير جدا أن تعثر في هذا الإطار على متسع لأجزاء الحقيقة التي كانت محور الدين التقليدي والتي أمست تتراءى الأن كالوهم تقريباً. وزاد عداء العلم للدين، فلم تستثن من هذا الاتجاه، بصورة مؤقتة على الأقل، إلا القيم الأخلاقية للدين المسيحي. وهكذا حلت الثقة في الأسلوب العلمي وفي التفكير العقلاني محل سائر ضمانات العقل البشري الأخرى».
    والنظرة القديمة، بسبب جمود إطارها، لا تطرح أبداً أسئلة معينة. فكثير من المسائل يصبح نتائج مقررة محتومة. من ذلك مثلا أن فرويد يفترض أن الله خرافة ثم يحاول أن يفسر سبب إيمان الناس بهذه الخرافة. وهو لا يورد أي ذكر للحجج المؤيدة أو المناقضة لوجود الله. وينهج داروين نهجاً مشابهاً لهذا: ففي كتابه «أصل الإنسان» The Descent of Man)) تراه لا يناقش مسألة وجود الله أو عدم وجوده، بل يقصر حديثه على الإيمان بالله وبالخلود، ثم يرجم بالغيب حول الطريقة التي أمكن بها ظهور هذه المعتقدات بوصفها نتيجة «ثقافة متقادمة العهد». وهذه إجراءات طبيعية ومنطقية إذا نحن افترضنا أن لا حقيقة إلا في المادة.
    أما النظرة الجديدة فهي، على عكس ذلك، تشمل حقائق العالم المادي وتفسح المجال للبحث في الحقائق الروحية أيضاً. والعقل في النظرة الجديدة ليس مدعاة للارتباك، بل هو على عكس ذلك، إذ إن استقلال العقل ومحوريته في الكون هما مدار البحث. فالنظرة الجديدة لا تنتقص، على أي نحو، من أهمية أو سلامة الأبحاث في الدماغ، أو البيولوجيا الجزيئية، أو الدراسات التي تتناول سلوك الحيوان، ولكنها تقول لنا ببساطة إنه لا ينبغي أن نتوقع من هذه العلوم أن تفسر ظاهرة العقل. ويعلق هابزنبيرغ على ذلك بقوله: «تلك الجوانب من الواقع التي توصف بكلمات مثل «الوعي» أو «الروح» يمكن ربطها على نحو جديد بالتصور العلمي السائد في عصرنا».
    أما بخصوص الوحدة فالنظرة القديمة تعدنا ببساطة جذابة: كل شيء مادة فحسب. ولكن المرء لا يلبث أن يرى أن هذا إغراق واهم في تبسيط الأمور، إذ إن النظرة القديمة لا تفلح أبداً في التوحيد بين العلوم. ويعلق هابزنبيرغ على ما يتسم به القرن التاسع عشر من مادية وآلية فيقول: «كانت الميكانيكا المثال المنهجي لكل العلوم. ولئن كانت هذه النظرة إلى الطبيعة قد عجلت على نحو حاسم بتقدم العلوم فلم يلبث أن تجلى عجزها عن خلق وحدة باقية بين فروعها المختلفة. وأخيراً لم يكن في المستطاع وجود مكان مناسب في هذه النظرة إلى الطبيعة لذاك المجال العظيم من ملكوت الواقع الذي يشمل العمليات الذهنية».
    والنظرة القديمة، إلى جانب عجزها عن التوحيد بين العلوم، تخلق قطيعة بين العلوم والفنون. فهي ترى أن العلوم هي مجال الحقيقة، ولكنها حقيقة مجردة من كل القيم. وهي تعتبر الفنون مجال قيم فردية لا أساس لها من الحقيقة (أنظر الفصل الثالث). والنظرة القديمة تولد خصومة بين العلم والدين (أنظر الفصل الرابع)، وتضع خبرة العلوم المتخصصة والخبرة العامة على طرفي نقيض (أنظر الفصل السادس). والنظرة القديمة لا ترى استمرارية بين العلم الحديث والفكر القديم (أنظر الفصل السابع). وأخيراً فإن مادية النظرة القديمة تقوض في نهاية الأمر أسس العلم ذاته (أنظر الفصل السادس). وهي بهذا المعنى لا تتفق حتى مع نفسها، ومن العسير تصور افتقار إلى الوحدة يفوق هذا الافتقار.
    أما النظرة الجديدة فهي، بالمقابل، تضفي على العلوم وحدة جديدة مذهلة، وحدة عميقة وبعيدة المدى في آن معاً. ففي القرن العشرين تلتقي الفيزياء ومبحث الأعصاب وعلم النفس الإنساني عند المبدأ نفسه، مبدأ عدم قابلية إرجاع العقل إلى مادة. وأولية العقل تربط نظرية النسبية بميكانيكا الكم، وبحوث الدماغ بالانفجار العظيم، وشدة القوى النووية بحجم الكون. والنظرة الجديدة، فضلا عن توحيدها للعلوم، توحد من جديد بين العلم والفن لأن كلاً منهما يدرس الجمال وينشده بطرائق مختلفة كما مر بنا في الفصل الثالث. كذلك فالنظرة الجديدة تتيح التوفيق بين العلم والدين (انظر الفصل الرابع)، وتبين كيف أن الخبرة العامة تشكل أساس فروع المعرفة، بما فيها العلم نفسه (انظر الفصل السادس). وأخيراً فالنظرة الجديدة تعود بالعلم الحديث ثانية إلى المآثور من حكمة القدماء، وقد تجلى ذلك في ما استشهدنا به من آراء المفكرين في عصر ما قبل العلم (الفصل السابع) الذين استطاعوا أن يفهموا، سائرين في ذلك على هدي الخبرة العامة، المبادئ الأساسية التي تشكل في رأينا النظرة الجديدة. فوحدة النظرة الجديدة أمر لافت للنظر.
    أما فيما يتعلق بالضوء فثمة أشياء كثيرة، كالجمال، لا أمل للنظرة القديمة في تفسيرها. فالمادية لا تعترف إلا بنوعين من العلل: الصدفة والضرورة. ولكن أيا من هذين النوعين لا يستطيع، كما رأينا في الفصل السادس، أن يفسر الجمال المشاهد في الطبيعة. ولهذا السبب يرى داروين أن النظرة القديمة لا تلقي ضوءاً على المسألة التالية فيقول: «إن كيفية الإحساس أول ما تطور في عقل الإنسان مسألة غامضة جداً».
    بل إن المادية، كما رأينا في الفصلين الأول والرابع، عاجزة حتى عن أن تقدم لنا فهما كاملاً للمادة. أما الحقائق غير المادية فالنظرة القديمة لا تلقي عليها أي ضوء. فهي لا تستطيع أن تفهم العقل لأنها تتصوره نتاجاً ثانوياً للمادة. وقد اتخذت محاولة إرجاع العقل إلى مادة أشكالاً متنوعة في إطار برنامج النظرة القديمة. فبعضهم يفترض أن المادة تطورت إلى عقل من تلقاء نفسها، بينما يأمل آخرون أن يقدم مبحث الأعصاب آخر الأمر تفسيراً للعقل بلغة الفيزياء والكيمياء. بل إن هناك بعضاً آخر ما زال يأخذ بنموذج مادي لكيفية أداء الدماغ لوظائفه. فأنصار فكرة «الذكاء الاصطناعي» يبحثون عن قواعد في التفكير تمكنهم من إنتاج فهم ومنطق حقيقيين في قطعة معدنية. هذا مع أن التحدث عن «قوانين» العقل، أو عن «بنية» العقل يعني في حد ذاته افتراض نموذج مادي.
    يقول جون اكلس: «تروعني سذاجة الأقوال والحجج التي يسوقها أنصار فكرة محاكاة الحاسبة الالكترونية للإنسان. فليس ثمة من دليل إطلاقاً على صحة ما يدلي به من أقوال تفيد أن الحاسبات الإلكترونية، متى بلغت مستوى كافياً من التعقيد، ستحقق هي الأخرى وعياً بذاتها».
    ويحتج جوزيف وايزنباوم (Joseph Weizenbaum)، أستاذ علم الحاسبات الإلكترونية بمعهد ماستشوستس للتكنولوجيا، قائلاً: «لقد سادت تفكير الأوساط الشعبية والعلمية على السواء فكرة عن الذكاء مفرطة في السذاجة كل الإفراط. فالإنسان ليس بآلة. والحاسبة الإلكترونية والإنسان ليسا نوعين من جنس واحد».
    وذلك أن النظرة القديمة، حين يتعذر عليها تفسير الحقائق الروحية بلغة المادة وحدها، تفزع في الغالب إلى المستقبل، مفترضة أن الجواب سيأتي بعد قرن آخر أو قرنين آخرين من البحوث. وهذا ما يسميه اكلس «مادية وعود مسرفة وغير قابلة للإنجاز». أما النظرة الجديدة فهي، على نقيض ذلك، مؤسسة على ما هو معروف الآن، لا على اكتشاف خيالي يأتي به المستقبل. فالنظرة القديمة هي دائماً حلم، أو وعد، أو أمل لا يتحقق أبداً. وباكتشاف نظرية النسبية وميكانيكا الكم أصبح الناس ينظرون إلى البرنامج المادي نظرتهم إلى شيء غير قابل للتحقق من حيث مبدؤه ذاته. والحلم العقيم بأن يأتي يوم تستطيع فيه المادة أن تقدم تفسيراً للعقل، أو لحرية الإرادة، أو للجمال، شبيه بحلم الكيميائيين القدامى أن يحولوا الرصاص إلى ذهب.
    وعلاوة على ذلك، تستمد المادية الكثير من أضوائها من الخيال، ذاهبة إلى أنه إذا كانت المادة وحدها هي الموجودة فكل ما هو واقعي لابد من أن يكون قابلاً للتصوير. ذلك أن جزءاً من جاذبية النظرة القديمة يعود إلى كونها تصور العالم بتعابير يسيرة التصور، مثل المكان الأقليدي وذرات نيوتن التي تشبه كريات البلياردو صغيرة الحجم. ولكن الحقائق الجديدة، التي تمثلتها نظرية النسبية وفيزياء الكم، قد حملت العلم على تجاوز التفكير بالصور. فالذرة ، كما يعرفها عالم الفيزياء في القرن العشرين، قابلة للفهم، ولكنها غير قابلة للتصوير الحرفي. وكذلك شأن المكان رباعي الأبعاد في نظرية النسبية، الذي يمكن فهمه، لا تصويره. والنظرة الجديدة أقرب إلى الفكر وبالتالي تتطلب أكثر مما تتطلبه النظرة القديمة.
    ومن شأن الإصرار على التفكير بالصور أن يقلل من نور العلم بشكل خطير، إذ أن الكثير من الأشياء لا يمكن فهمها أبداً إذا هي أخضعت لهذا القيد. والفيزيائي ويليام تومسون (السير كلفن)، وهو من علماء القرن التاسع عشر، يواجه مشاكل لاعتقاده بأن التفسير العلمي معناه تفسير مادي ميكانيكي ممكن التصور. فهو يقول: «لا تشعر نفسي أبداً بالرضا حتى أستطيع أن أصنع للشيء نموذجاً ميكانيكيا. فإذا تمكنت من صنع نموذج ميكانيكي استطعت فهمه. ولكن ما دمت غير قادر على أن أصنع نموذجاً ميكانيكاً منذ البداية حتى النهاية فلا أستطيع فهمه. وهذا هو سبب عجزي عن فهم نظرية الضوء الكهرومغنطيسية».
    إن من شأن الاقتصار على الاعتراف بتفاسير مادية، ميكانيكية، أن يعوق تقدم العلم. ومن حسن الحظ أن النظرة الجديدة أعتقت العلم من استبداد الخيال وأعادت إلى العقل حقه المشروع في الهيمنة. فالنظرة الجديدة تستطيع أن تفهم الذرات والمكان رباعي الأبعاد والعقل اللامادي دون أن تتقيد بنماذج مادية ميكانيكية ممكنة التصوير.
    إن افتقار المادية إلى الضوء قد كبل العلم الحديث، فجعله ينزع إلى تكييف الموضوع قسراً تبعاً للطريقة بدلاً من تكييف الطريقة تبعاً لمتطلبات الموضوع محل البحث. فالمادية ترفض الجزء الأكبر من الخبرة العامة، بما فيه الجمال والقيم والغائية والعقل وحرية الإرادة، بوصفها وهما من الأوهام. والنظرة القديمة، كما ذكر شرودنغر فيما تقدم، لا تستطيع أن تفسر أعمق اهتمامات الإنسان. ولكنها تعللها تعليلاً مرفوضاً. فالبرنامج المادي الميكانيكي الذي ساد في القرن الماضي كان مقدوراً له الفشل بسبب افتقاره إلى الضياء. ويلاحظ أينشتاين أن «العلم لم يفلح في تنفيذ البرنامج الميكانيكي بطريقة مقنعة. وما من عالم فيزيائي في العصر الحاضر يؤمن بإمكانية إنجازه».
    ولكن، إذا كانت المادية واهنة كل هذا الوهن من حيث الرحابة والوحدة والضياء فكيف بدت هذه النظرة إلى العالم معقولة، حتى كمنهجية، لغاليليو ولغيره من المفكرين؟ الجواب على ذلك هو أنهم كانوا يكافحون الفلسفة المدرسية السائدة في عصرهم. وقد جاء مدرسيو عصر الانحطاط بعد نحو 300 سنة من كبار اللاهوتيين في العصور الوسطى أمثال توما الاكويني وبونافنتورا، وكانوا مفكرين تعوزهم الأصالة والاستنارة. وقد هيمنت مذاهبهم العقيمة على المدارس والمعاهد في أواخر عصر النهضة. ويشتكي بيكون وديكارت وهوبزولوك وكثيرون غيرهم ممن تعلموا في هذه المدارس من مشاحنات المدرسين المتواصلة ومماحكاتهم التافهة التي تغرق في المجردات دون أن تقدم حلاً لأي شيء، وكانت دروسهم وكتاباتهم تسف في الغالب فتستحيل إلى جدل عنيف. والمدرسيون، بتطبيقهم الخاطئ للأسلوب اللاهوتي على الفلسفة والعلوم الطبيعية، قد أسبغوا على آثار أرسطو حجية مغالى فيها تكاد تعادل حجية الكتاب المقدس.
    وكان واضحاً لكل ذي عقل سليم أنه لابد من صوغ نموذج جديد للعلم. وكان ينبغي لهذا النموذج الجديد، على عكس الفلسفة المدرسية المتداعية التي كانت فيها الغيبيات والخوارق تبدو طاغية على كل شيء، أن يعود إلى الأشياء الملموسة والحقيقية التي لا تقبل الجدل، إلى عالم المادة الفيزيائي. وهذا التحول الفكري في تصور العالم عن العصور الوسطى إلى عصر النهضة يمكن أن يوصف بكثير من العمومية بأنه تحول عن الروحانيات إلى الماديات. وكان التحول في أول الأمر يبدو أكثر تشديداً على عالم المادة منه رفضاً لعالم الروح. ويتجلى هذا التغير في علوم عصر النهضة وفلسفته وفنونه تمييزاً له من العصور الوسطى. وقد سبق أن رأينا في الفصل السادس كيف يأخذ غاليليو بمادية منهجية، كما نلحظ ذلك أيضاً لدى فرانسيس بيكون الذي يعتبر العلوم الطبيعية «أم العلوم» وأصلها جميعاً، ويعلن أن «لا وجود في الطبيعة إلا لأجسام فردية تقوم بأعمال فردية محضة وفقاً لقانون ثابت». ويضيف قائلاً: «ينبغي أن تكون المادة، لا الأشكال، موضع اهتمامنا». على أن المادية لم تصبح عقيدة قائمة بذاتها، تولد في النفوس رغبة في تفسير كل الأشياء بلغة المادة، إلا في وقت متأخر.
    ثم إنه، تصحيحاً لإساءة استعمال المدرسين للسلطة، كان ينبغي للنموذج الجديد للعلم ألا يؤسس على الوحي أو على سلطة البشر، بل كان لابد من تأسيس العلوم الطبيعية على التجربة والعقل فحسب. وهناك ما يسوغ شكوى بيكون من أن المدرسين في عصر الانحطاط أحالوا العلم عقماً بسلطة استبدادية فيقول: «تقف الفلسفة والعلوم العقلية كالتماثيل، تعبد وتمجد، ولكن لا تحرك ولا تقدم. لأنه متى حدث أن عهد الناس بآرائهم إلى غيرهم ليعنوا بها فهم منذ تلك اللحظة لا يوسعون دائرة العلوم ذاتها، ولكنهم ينحطون إلى المهمة الذليلة المتمثلة في تنميق آثار كتاب معينين وزيادة بطانتهم. وأولئك الكتاب أنفسهم اغتصبوا نوعاً من الدكتاتورية في العلوم».
    وليس بالمستغرب أن يعارض غاليليو وآخرون غيره التعلق بفيزياء أرسطو تعلقاً ينم عن عناد وقلة بصيرة. ذلك أن غاليليو، في رسالة وجهها إلى كبلر (Kepler)، يورد مثالاً مشهوراً فيقول: «آه يا عزيزي كبلر، كم كنت أود أن نشترك معاً في ضحكة مجلجلة. فهنا، في «بادو» يقيم كبير أساتذة الفلسفة، الذي رجوته مراراً وبإلحاح أن ينظر إلى القمر والكواكب من خلال منظاري، فكان يرفض ذلك بعناد. ليتك كنت هنا معي، إذاً لانفجرنا في ضحكات مدوية ونحن نصغي إلى هذه الحماقة الفريدة، حين نسمع أن أستاذ الفلسفة في بيزا يكد ذهنه في حضرة الدوق الكبير بحجج منطقية، كما لو كانت تعاويذ، يستخدمها لجعل الكواكب الجديدة تختفي من السماء».
    لقد ظن الأستاذ أن لا حاجة له أن ينظر من خلال المنظار لأن أرسطو لم يذكر أقمار المشترى، وبالتالي لا يمكن أن يكون له وجود. ويقول غاليليو في مكان آخر

  8. افتراضي

    لزائفة، يبدي الملاحظة التالية: «من المحتم أن هناك أخطاء أخرى من هذا القبيل لا حصر لها، أخطاء لا يستطيع أي إنسان حي أن يستبينها بسبب الضباب الذي يغلفنا به النوع الذي نأخذ به من الثقافة الغربية. فالمؤثرات الثقافية قد حددت الافتراضات التي ننطلق منها بصدد العقل والجسد والكون. وهي تطرح الأسئلة التي نلقيها، وتؤثر في الوقائع التي تلتمسها، وتقرر التفسير الذي نعطيه لهذه الوقائع، وتوجه ردود أفعالنا إزاء هذه التفاسير والاستنتاجات».
    ولما كانت مادية النظرة القديمة تشكل الأساس الذي تقوم عليه جوانب شديدة التنوع من ثقافتنا فقد اكتسبت هالة من الحصانة بحيث لا تجدي مهاجمتها بالحجج لأنها أشمل وأبعد مدى من أن تتأثر بهذا النوع من النقد. والسبيل الوحيد إلى إسقاطها عن عرشها هو الاستعاضة عنها بنظرة جديدة كل الجدة، وهذه مهمة يستحيل على أي شخص بمفرده أن يقوم بها. وهذا بالذات هو التفسير الذي يقدمه اللاجئ السوفياتي يوري غلازوف (Yuri Glasov) حين يشرح كيف أن قوة الماركسية، مثلاً، لا تقوم على الحقيقة، بل على ضخامتها وعلى مزعوم احتكارها للكمال. يقول: «الاتحاد السوفيتي هو بلد الأيديولوجية الماركسية اللينينية الرسمية، هذه الأيديولوجية أتى تتغلغل في كافة مستويات المجتمع تغلغلاً شاملاً ومستعصياً قد يفوق تغلغل الدين في ظل أي حكومة كهنوتية. وهناك أناس كثيرون يتراءى لهم أن التلقين الماركسي يسري في عروقهم، ولكن حتى هذا الشعور بأنهم أشربوا فيضا من الأيديولوجية الماركسية لا يمدهم بأي قوة للصمود أمامها. فمن الخصال التي يتسم بها المواطن السوفياتي أنه ينتقد النظام أو أيديولوجيته في بعض تفاصيلها، ولكنه لا ينتقده أبداً في مجمله. وكلما تعمق الفرد في دراسة الماركسية اللينينية تفاقم إحساسه بأنه، رغم معارفه وخليفته، عاجز عن الإطاحة بالتراث الماركسي. ذلك أنه يشعر برهبة استثنائية إزاء تصوره أنه سيجد نفسه في الخواء دون أي نظرية أو أيديولوجية البتة، إذ ليس لديه أي شيء يستعيض به عنها –لا نظرية مقبولة ومختبرة، ولا منظور عالمي مثل هذه السمات».
    والماركسية لا تعدو أن تكون ضرباً واحداً من مادية النظرة القديمة، ولكنها مثال جلي على صعوبة الفكاك من نظرة كونية مستحكمة. صحيح أن المرء قد يختلف مع النظرة السائدة في حضارته إلى العالم، بل قد يكافحها، ولكنه لن يكون في أي حسن صنواً لها كقوة اجتماعية.
    ومادية النظرة القديمة قد هيمنت منذ عصر النهضة على ثقافتنا، فأثرت اختيارنا للمناهج، وفي مقولاتنا الفكرية، وفي تخيلاتنا، بل فيما نستخدمه من مفردات. فمنذ أيام هوبز، مثلاً، يستخدم معظم الكتابات في علم النفس مفردات ميكانيكية من غير أن يدرك أصحابها في الغالب أصلها المستمد من النموذج الآلي للإنسان. ومنذ عصر داروين تتردد عبارة «البقاء» على جميع الألسنة لتفسير كل الأشياء تقريباً.
    والنظرة الكونية تحظى بقوة عظيمة وتتخلل كل شيء، ولكنها ليست أهم عنصر من عناصر المعرفة الإنسانية. فالخبرة المشتركة بين الناس كافة هي التي تشكل الأساس المطلق الذي تقوم عليه المعرفة الإنسانية. لماذا، إذاً، لم يلجأ أحد إلى الخبرة العامة بغية تصحيح ضيق المذهب المادي؟ الجواب هو أن هذا لم يكن وارداً لأن النظرة القديمة قوضت وسفهت حجية الخبرة العامة، كما مر بنا في الفصل السادس. وهكذا رأينا النظرة القديمة، بمجرد أن رسخت أقدامها، تبدأ بتقديم تفسير جديد للمعلومات المستفادة من الخبرة العامة، مبرزة بعضها ورافضة بعضها الآخر. ورأيناها تقرر، لرجل العلم ولرجل الشارع على السواء، ما هو حقيقي وما ليس بحقيقي، وتحدد المكان الذي ينبغي له فيه أن يبحث عن إجابات عن تساؤلاته، وتقرر نيابة عنه ما الذي يستطيع أن يتوقعه، وكيف ينبغي له أن يفسر النتائج. وبهذه الطريقة اغتصبت مادية النظرة القديمة، تدريجياً مهمة الخبرة العامة ذاتها.
    وبسبب رفض النظرة القديمة للخبرة العامة لم يكن في المستطاع التغلب عليها إلا بسلطة واحدة فقط هي سلطة الخبرة العلمية المتخصصة، تلك الخبرة التي تشكل مصدر النظرة الجديدة. وهذه النظرة الجديدة، ما تأكيدها على استقلال العقل وأوليته، لا تقوم في أي من جوانبها على الإدعاء بأنها تقدم «عزاء» أكبر مما تقدمه المادية. فلو كانت النظرة القديمة صحيحة لكان لزاماً علينا أن نتعلم التعايش معها، أيا كان مبلغها من العدمية أو الإزعاج. ولكن الواقع هو أن تلك النظرة أثبتت قصورها لتعذر المواءمة ما بين منهجها وبين الحقائق التي كشفتها نظرية النسبية، وميكانيكا الكم، ومبحث الأعصاب، والفيزياء الفلكية. وهكذا يصر يوجين فيغنر على أنه، في فيزياء القرن العشرين، «قادت دراسة العالم الخارجي ذاتها إلى ما يفيد أن مضمون الوعي هو حقيقة مطلقة». وعلى ذلك، فإن ضرورة الاستعاضة عن النظرة القديمة لا تنشأ عن كون هذه النظرة لا تقدم لنا عزاء، بل عن كونها مضللة. وكل ما في الأمر هو أن المادية، بعد أن اختبرت على أوسع نطاق ممكن في جميع فروع العلم، قد أخفقت في اجتياز امتحان التجربة.
    وفي الوقت الراهن، تتأرجح ثقافتنا بين النظرة القديمة والنظرة الحديثة، وكما رأينا في الفصول السابقة فإن علم الفيزياء ومبحث الأعصاب في القرن العشرين يعترفان باستقلال العقل وعدم قابلية إرجاعه إلى مادة. غير أن هناك فروعاً أخرى من المعرفة لا تزال إلى حد بعيد خاضعة لنفوذ النظرة القديمة، وبعض العلماء يناصر النظرة الجديدة بوضوح وثبات، وكان هؤلاء أول من تخطى النظرة القديمة لأن كشوفهم العلمية الكبرى قادتهم إلى التخلي عن المادية. ومن المفكرين المعاصرين من يواصل عمله بشكل يكون كلياً ضمن إطار النظرة القديمة. كما أن هناك آخرين يعترفون ببعض عناصر النظرة الجديدة، ولكنهم يحاولون الاحتفاظ بالإطار العام لمنحي النظرة القديمة. على أن الترابط القائم داخل النظرة القديمة من جهة وداخل النظرة الجديدة من جهة أخرى يجعل قيام تسوية لا تناقض فيها بين النظرتين أمراً بعيد الاحتمال.
    أما فيما يتعلق بالمستقبل فلا تزال هناك أشياء كثيرة عن المادة ينبغي اكتشافها، ولكن المادية ذاتها تبدو كأنها أصيبت بالإرهاق. صحيح أنها تستطيع أن تبقى، ولكنها لن تبقى إلا على حساب تحولها لتصبح تدريجياً أكثر ضيقاً وأشد تعصباً وظلامية. أما النظرة العلمية الجديدة، من جهة أخرى، فينتظر لها مستقبل مرموق. وقد رأينا أنها غيرت بالفعل طبيعة الفيزياء المعاصرة. ومن المنتظر أن تتجه حقول المعرفة التي قولبت نفسها على غرار الفيزياء القديمة إلى التكيف في نهاية الأمر مع الفيزياء الجديدة، بكل ما يترتب على ذلك من نتائج. فأولية العقل تعطي لكافة العلوم منظوراً جديداً ونوراً جديداً. والنظرة الجديدة تبشر بتحرير وإنارة كل حقل من حقول المعرفة، ميسرة بذلك قيام نهضة حقيقية في عصرنا.
    وفي وسعنا أن نتوقع تحول الفلسفة المعاصرة، تشجعها على ذلك النظرة الجديدة، عن يأسها الفكري إلى بحث صحي ونشيط عن حكمة ترتكز على يقينيات الخبرة العامة. أما فيما يتعلق بالدين فالظاهر أن مستقبل النظرة الجديدة يوحى بالعودة بثقافتنا إلى الإيمان بوجود الله الواحد، وبإعادة التأكيد على الجانب الروحي من طبيعة الإنسان. وأخيراً، وعلى صعيد الفنون، تزيل النظرة الجديدة من علم النفس وعلم الكونيات أسباب النفور والعبثية، مستعيضة عنهما بالغائية والله والجمال والعناصر الروحية وكرامة الإنسان. وهكذا نجد للفنون مرة أخرى ما يستحق أن تمجده وللشاعر ما هو جدير بأنشودته: إن الكون هو المكان الطبيعي للإنسان.




    تم بحمد الله

  9. #24
    تاريخ التسجيل
    Jul 2010
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    1,721
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    1

    افتراضي

    يرفع للفائدة
    الكتاب يتناول قضايا مهمة
    ومواضيع مثيرة
    باقتباسات من كلام كبار العلماء الغربيين
    سلِم ... تسلَم ...
    فإنك لا تدرى غور البحر إلا وقد أدركك الغرق قبل ذلك ..


  10. #25
    تاريخ التسجيل
    Jul 2010
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    1,721
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    1

    افتراضي

    يرفع
    سلِم ... تسلَم ...
    فإنك لا تدرى غور البحر إلا وقد أدركك الغرق قبل ذلك ..


  11. #26

    افتراضي

    للرفع
    إن عرفتَ أنك مُخلط ، مُخبط ، مهملٌ لحدود الله ، فأرحنا منك ؛ فبعد قليل ينكشف البهرج ، وَيَنْكَبُّ الزغلُ ، ولا يحيقُ المكرُ السيء إلا بأهلِهِ .
    [ الذهبي ، تذكرة الحفاظ 1 / 4 ].
    قال من قد سلف : ( لا ترد على أحد جواباً حتى تفهم كلامه ، فإن ذلك يصرفك عن جواب كلامه إلى غيره ، و يؤكد الجهل عليك ، و لكن افهم عنه ، فإذا فهمته فأجبه ولا تعجل بالجواب قبل الاستفهام ، ولا تستح أن تستفهم إذا لم تفهم فإن الجواب قبل الفهم حُمُق ) . [ جامع بيان العلم و فضله 1/148 ].

  12. #27
    تاريخ التسجيل
    Apr 2011
    المشاركات
    2,598
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    3

    افتراضي

    أستغفر الله العظيم و أتوب إليه

  13. #28
    تاريخ التسجيل
    Jul 2010
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    1,721
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    1

    افتراضي

    كتاب قيم
    سلِم ... تسلَم ...
    فإنك لا تدرى غور البحر إلا وقد أدركك الغرق قبل ذلك ..


صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. [The New Story of Science] العلم في منظوره الجديد *PDF*
    بواسطة وائل عاشور في المنتدى المكتبة
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 02-16-2013, 11:20 PM
  2. كتاب العلم فى منظوره الجديد
    بواسطة الموحد في المنتدى المكتبة
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 05-26-2012, 03:24 PM
  3. العلم الجديد الذي وزع في ميدان التحرير
    بواسطة عبدالرحمن الحنبلي في المنتدى قسم الحوار العام
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 08-05-2011, 02:25 PM
  4. مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 08-01-2006, 09:42 PM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء