بقلم : أبوإسلام أحمد عبدالله

قبر آخر من قبور الجثث العفنة لجذور الفكر العلماني ومبادئه في شئون المرأة، نكمل به جانباً آخر من كشف فضائح نفايات العقول التي تروج في أسواق المسلمين لفنون الخزي الأخلاقي والعار الأدبي والمهانة السلوكية التي حطت على مصير المرأة المعاصرة في بلادنا، تحت شعارات حرية المرأة، فنقول: ليس مفيداً أن يستمر تغييب أثر الحركة الشيوعية النسوانية (Feminism) على واقع المرأة العربية، وتأثيرها السلبي على مفاهيم ظلت طويلاً كثوابت يصعب الاقتراب منها أو مناقشاتها.

ففي سبيل استمرار سقط المتاع الشيوعي بالمنطقة، ومواجهة المد الرأسمالي الداعي إلى الارتماء كلية في أحضان الغول الأمريكي الكاسر، بذلت الأحزاب والمنظمات الماركسية واليسارية الشيوعية جهوداً كبيرة في استخدام المرأة لصد رياح الخصخصة والملكية الخاصة، باعتبار أن الملكية الخاصة تقف حجر عثرة أمام حرية المرأة وتحقيق أحلام المساواة بالرجل في توَلّي المناصب وشغل الوظائف والأجور وساعات العمل وحق الاقتراع في الانتخابات والترشيح للنقابات والتعيين في المناصب العليا والقيادية.

ثم وهو الأهم في حلم حرية المرأة، حقها في اختيار الزوج أو الصديق أو الصديقة كبديل للزواج، وحق استبداله أو استبدالها بآخر، والمساواة في حقوق الطلاق والمواريث وإرضاع الصغار.

فإذا تناولنا واحدة من حجج الغضب النسواني ضد الرجل، وهو حجة تفضيل صاحب العمل لتشغيل الذكور، لأدركنا بداية ان القضية ليست قضية المرأة المسلمة، إ نما هي عِلة مستوردة من خلال الأحزاب والقوى السياسية المستغربة يميناً أويساراً على السواء، لتزيد الأمة ابتلاءً بهموم تشغلها أومفاسد تُعطل مسيرتها أو تثير فتنة الخلافات والاختلافات بين العلماء والدعاة والمفكرين .

إذ تشهد تكنولوجيا العصر، سباقاً محموماً في مجال التقنيات الصناعية، جعلت (نول) النسيج الذي يعمل بالكهرباء، يصارع الخيوط في تدفق إنتاجه بلمسات رقيقة على أزرار حاسوب (كمبيوتر) صغير، دون تفريق بين لمسة الرجل أو المرأة، إذ أصبح الجميع أمام الأزرار على مستوى واحد تقريباً في الأداء ودرجة الكفاءة.

لكن الذي تشكو منه المرأة، أن أصحاب العمل يفضلون أن يقوم بهذه المهمة ذكوراً، والاستغناء بقدر كبير عن الإناث.

ومثل صناعة النسيج، توجد عشرات بل مئات الصناعات الخفيفة والثقيلة، وبالتالي فإن صاحب العمل ـ من وجهة النظر النسوانية ـ متحيزاً وعدوانياً ضد مصالح المرأة.

وهي وجهة نظر جديرة بالملاحظة، إلا أنها لن تصمد كثيراً، لو أن صاحب العمل كان أنثى واتخذت نفس القرار لمصلحة العمل ضد بنات جنسها، والواقع المعاصر يشهد ويؤكد ذلك كثيراً، بعدما خصخص بنك النكد الدولي حياتنا، وصحصح الانهيار الانهيار الأخلاقي في نساءنا.

ü إن أدبيات الحركة النسوانية في مصر مثلاً، لم تخل من شهادات تقول أنه (برغم تزايد نسبة تشغيل النساء من 6% إلى01 % في سنوات الانفتاح الساداتي (نسبة إلى السادات) مع تزايد نسبة البطالة بين الشباب من 9% إلى 32%، وبرغم اندماج المرأة في العملية الإنتاجية بما يدعم النظريات العلمانية و (التقدمية) لصالح تحرير المرأة، إلا أن هناك حقائقاً تنفي هذه التقدمية، إذ أصبح تشغيل المرأة ـ حسب تعبيرهن ـ وَبالاً على الطبقة العاملة، بل وعلى المجتمع كله، في ظل المد الرأسمالي الذي يجتاح بلادنا، والذي استبدل النمط المهني للمرأة بنمط آخر لمؤهلاتها، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بقوامها وجسدها ولون بشرتها).

وهكذا تبقى مشكلة اضطهاد المرأة أو استغلالها لصالح صاحب العمل، مشكلة قائمة وحيَّة، في حالة عدم توظيفها وإغلاق أبواب العمل أمامها، أو في حالة فتح أبواب العمل وتعدد الأنماط الوظيفية والمهنية، ذلك لأن وجود المشكلة أصلاً، هو ضرورة أيديولوجية فرضتها الأصابع الخفية لبعض القوى الدولية في المنطقة واستدرجتهن إليها، لخدمة مصالحها السياسية والتمرد بهن على القوانين والشرائع والانتماءات غير المرغوب فيها .

إلا أن الأمر استغرق العقل النسواني تماماً، خاصة وأنه سمح لهن بتجاوز الممنوعات والمحظورات في صورة تبدو شرعية ومُقنِعة، كالمشاركة في المجالس، والمزاحمة في الوظائف، وتبادل الأزواج والأصدقاء، وحرية التمتع بالملذات والمراقص والخمور مثل الرجال تماماً ـ إن لم يكن أكثر ـ ومن ثم التحلل من الالتزامات الأسرية، وهذه كلها أعمال مذمومة، وإن اذردها المجتمع الغربي وهضمته معدتها الملتهبة بالكحول الأحمر والخمر المعتقة.

هذا الاستغراق الذي استَدرَج إليه العقل النسواني في الغرب، استطاع الغربيون أن يجنوا من ورائه الثروات الضخمة، خاصة في مجالات؛ مثل السينما والملاهي الليلية وبيوت الدعارة وتجارة الرقيق بأنواعها المختلفة، كما استخدموها في الإيقاع بالحكام والملوك، وإسقاط الأنظمة السياسية وصفقات السلاح، وعمليات التجسس الحربية والأمنية، وتجارة المخدرات، ونشر الأيدز، والصحافة الجنسية، وإعلانات المنظفات وأحذية الرجال وفضائيات الإثارة.

تلك هي المظاهر الأساسية لمفهوم حرية المرأة الذي تتشكل من أجلة جمعيات ومنظمات السواعد والسيقان العارية في كل أنحاء العالم، وكلها مظاهر ترفضها المرأة المسلمة.

ترفضها المرأة المسلمة لا بسبب أيديولوجية الاضطهاد الوهمية التي تسبب سرطاناً مزمناً في رأس المتغربات والشيوعيات العربيات، ولابسبب حكماً شرعياً يمنع تشغيل المرأة في بلاد المسلمين، ولا تحت قهر الرجل للمرأة، إنما لأن عقيدة المرأة المسلمة حددت لها المساحة الحياتية التي تنعم بها لبلوغ أفضل مراتب الجنة، سواءً بسواء مع الرجل، وهو ما اسماه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (الجهاد الأكبر) .

ولا يتصور أحد أن مشكلة تحرير المرأة يمكن أن توضع لها حلولاً جذرية، لأن وجود أنظمة سياسية كثيرة مرهون بها.

فعلى سبيل المثال، نقرأ لواحدة من رموز حركة النسوان الشيوعيات في مصر قائلة: ( بالرغم من انخراط النساء في العمل بدرجة وصلت أحياناً إلى نصف قوة العمل، فإن نظام التعليم في العالم، مازال يربط الفتيات برؤيتهن لوظيفتهن المستقبلية كربات بيوت وزوجات وأمهات، لا كعاملات).

ولأن نظام التعليم ـ حتي في أسوأ صورة، وفي ظل الأيديولوجية الوضعية التي تحكم العالم ـ لا يمكن أن يجد وسيلة للحفاظ على هويته والنهوض إلى مستوى أفضل مما هو عليه، إلاّ بذلك النظام التعليمي الذي يستجيب لفطرة الله التي فطر عليها كل أنثى في مخلوقات الكون كله، ألا وهي ترتيب البيت، ونظافته، وإدارته، وتهيئة المناخ المناسب للزوج لأداء دوره الطبعي، كما فطرها الله للأمومة فأبدع في خَلقِها بطناً تحمل ورَحِماً يلد وثدياً يُرضِع وحضناً للدفء وقلباً للخفقان حباً أو قلقاً، على الصغار والكبار، ولساناً للذكر والدعاء.

ü واحدة أخرى من الحجج التي تُشيعها الحركة النسوانية في بلاد المسلمين، استجابة لتلك القوى السياسية التي أشرنا إليها قبلاً، وهي تشبيه وضع النساء العربيات بوضع العبيد والأقليات العنصرية المضطهدة والجماعات المقهورة.

لكن الواقع الاجتماعي في بلادنا ـ غيره في بلاد الدنيا ـ يشهد أن مجموع النساء ليس جماعة منفصلة يمكن عزلها عن شوائج المجتمع والأسرة والبيت، ولا يمكن إقصائها في قاعات المؤسسات التعليمية أو الاجتماعية أو الحكومية أو الدينية، حتى نتمكن من الإشارة إليهن: هؤلاء هن نسوان مصر (مثلاً)، ثم تبدأ دراسة أحوالهن كمجتمع مستقل يشكو الغبن والاضطهاد، ففي البيئة العربية نجد المرأة في بيوت الفقراء والأغنياء، وفي بيوت العمال وأصحاب العمل، وفي الريف والحضر، وفي المساجد والأسواق، وفي حقول المُستَغَلين (بفتح العين) وقصور المُستَغِلين (بكسر العين)، ذائبة تمام الذوبان في ثنايا المجتمع، لايقبل العقل وضعهن في فراغ خارج الدائرة الإنسانية ولا حتى خارج الدائرة الاجتماعية.

وحتى لو سلَّمنا بما يعتنقه العلمانيون من أقوال فريدريك أنجلز في كتابه الشهير (أصل الأسرة والملكية الخاصة والدولة ـ نيويورك 1979) من أن ظهور الملكيات وانقسام المجتمع إلى طبقات، هو الذي أدى إلى إخضاع النساء، فهل من اللائق بسط هذا القول على مجتمعات الكون كله ؟ طبعي أن في ذلك الفهم خلل شديد.

ü إن الدخان الذي تثيره الحركات النسوانية للشيوعية العَدَمية تحت شعار (التقدمية)، والعلمانية المتوحشة تحت شعار (العولمة)، لاشك أنه أصاب كثيرون وكثيرات بالعمى، لكن المهم الذي يجب أن نعرفه، أن النار التي كمُنَت تحت رماد هذا الدخان، لم يكن مقصوداً بها غير هدم مصانع ومتاجر وإنتاج الرأسمالية على رؤوس أصحابها، وما أوهام تحرير النساء، إلا صورة من صور النضال الشيوعي ضدها.

كما لم يكن مقصوداً بأوهام تحرير المرأة في بلاد أخرى إلا هدم مصانع الشيوعية على رؤوس أصحابها، وصورة من صور النضال العلماني لاستخدام المرأة ضدها.

فكانت المرأة في النظامين حتى يومنا هذا، ألعوبة للكسب غير المشروع، وتحقيق الأهداف الخفية لنظم غير مرئية، تحرك الجميع من كواليس المسرح السياسي والعسكري وحشي الوسائل والأهداف.

ذلك هو ما كشف عنه أنجلز بوصفه أحد أنبياء الاشتراكيين، ومصدر الوحي والإلهام الشيوعي الذي لايقف عند الجسد الرأسمالي، بل عليه أن يتجاوز ذلك إلى كل علاقاته وإفرازاته، حتي لو كانت تلك الإفرازات هي حياة البشر ذاتها، فيقول أنجلز نصاً: (في ظل الرأسمالية تتم عملية إنتاج ضروريات الحياة من خلال عملية اجتماعية، أما عملية تجديد النوع البشري ـ تنشئة الأطفال ـ كعملية خاصة فتتم أساساً في محيط الأسرة المغلق، وترجع جذور اضطهاد المرأة إلى هذه الازدواجية بين النساء وضروريات حياتهم، ولذلك لا يمكن فصل النضال الثوري من أجل تحرير النساء، عن النضال الثوري ضد الرأسمالية).

إنها في الحقيقة دعوة مجنونة لهدم الأسرة ككيان مقدس، بإسقاط عماده الأساسي وهو المرأة، بتغييبها عن دورها في تجديد النوع البشري، وقطع شريان حياتها الذي يرتبط حبله السُرّي بالزوج والأولاد والأمن والاستقرار، حتى ترتوي زراعات العلمانية الخبيثة، ويصطبغ الكون كله بلون دمائها الأحمر القاني، وإلا فلن يشفى الكون كله من مرض وهمي، اسمه (حرية المرأة)، إن سقطت راياته من الأيدي الشيوعية تلقفتها الأيدي الصهيونية، فإن عجزت عن حملها، تم تدويلها ألكترونياً كضرورة من ضرورات بقاء السقوط، لتستمر مسيرة الانتحار الإرادي للمرأة، والمرأة العربية في المقدمة.