قام بعض المفكرين ورجال الدين المسلمين بمحاولات فلسفية ليبرروا انقطاع مجيء الأنبياء الغير مشرعين، أي الذين لا يحملون شريعة جديدة من الله تعالى. هناك محاولتان للخروج بهذه النتيجة، وأصحاب المحاولة الأولى يقولون إن مجيء الرسول محمد عليه الصلاة والسلام الذي هو النبي الكامل الذي جاء من الله تعالى يحمل الشريعة الكاملة، يلغي تماماً أي حاجة لمجيء نبي تابع له.
إنه لمن الممكن القبول بهذه النتيجة لو أن أصحابها أثبتوا أن مجيء هذا النبي الكامل بهذه الشريعة الكاملة يضمن تماماً عدم وقوع الانحراف في فهم هذه التعاليم الكاملة الواردة في كتاب الله المجيد وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام. وبهذا يظل الناس على طريق الهدى المستقيم، متمسكين بأهداب التقوى والصلاح. لكن وبكل أسف فإن هذا الأمر لا يمكن إثباته لا علمياً ولا تاريخياً.
إن هذا الرأي المتهافت لا يؤيده أي دليل ذي معنى أو منطق يقنع العقل، لأن المهمة التي يؤديها الأنبياء لا تنحصر فقط في إحضار كتاب شريعة من الله تعالى. إن النبوة في ذاتها أمر له العديد من الجوانب العظيمة والتأثيرات الهامة. فهل يستطيع أحد مهما بلغ من الجرأة أن يزعم أنه بعد اكتمال الشريعة الإسلامية في الكتاب والسنة لم يعد لوجود الرسول عليه الصلاة والسلام أية أهمية على الإطلاق؟؟!! وهل يكفي الاحتفاظ بالكتاب وسنة حامل الشريعة بعد وفاته لأن يكون بديلاً عن النبوة أو الهدي الإلهي؟؟
إن التاريخ يشهد بكل وضوح أن هذا الكلام غير صحيح مطلقاً...فلماذا تفرق اليهود بعد وفاة موسى عليه السلام....ولماذا أرسل الله لهم النبي يحيى وعيسى عليهما السلام....مع العلم أنهما لم يكونا من الأنبياء المشرعين بل المتممين.
( لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ما جئت لأنقض بل لأكمل فإني الحق أقول لكم الى أن تزول السماء والأرض , لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل ) متى 5 : 17.
ويكفي لتوضيح هذا الأمر ما حدث مع المسلمين بعد انتقال الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى، حيث ظهر الاضمحلال الذي استمر في التأثير على المجتمع الإسلامي بشكل متزايد حتى يومنا هذا.
فقامت اختلافات أدت إلى اقتتال المسلمين فيما بينهم وانقسموا إلى فرق ومذاهب ظلت تتزايد وتتفاقم إلى أن وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم. إن الفرق بين أحوال المسلمين الروحية من تقوى وصلاح اليوم، وبين أحوال المسلمين في حياة محمد عليه الصلاة والسلام أمر لا يحتمل المقارنة. مع أن الشريعة الكاملة التي أتى بها الرسول في ذلك الوقت هي ذاتها التي بين أيدينا الآن والتي أمر الله تعالى بحفظها. والكتاب لا يزال كما هو لا ريب فيه، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وظل كما هو كاملاً بدون تغيير أو تحريف كما كان قبل الأربعة عشر قرناً الماضية.
أما المحاولة الثانية لتبرير انقطاع مجيء الأنبياء بكافة أنواعهم فتقوم على نظرية ارتقاء الإنسان ووصوله إلى مرحلة النضوج الفكري. والمناصر الأكبر لهذه النظرية هو العلامة والمفكر والشاعر العظيم (محمد إقبال)، الذي يعتبره البعض أكبر المفكرين المسلمين في الأزمنة الحديثة.
وفكرة النضوج الفكري أو (الرُشد الإنساني) هذه تقوم على افتراض أن القرآن المجيد قد نزل من الله تعالى حينما وصل الإنسان إلى مرحلة النضوج الفكري، وعلى هذا لم يعد الإنسان بحاجة إلى هدي آخر من أي مبعوث إلهي آخر، على عكس الأجداد الذين رحلوا في الأزمنة السابقة. وللوهلة الأولى تبدو هذه النظرية كأنها فكرة فلسفية جميلة، ولكن بعد التعمق وإمعان النظر فيها ودراستها يتبين خواؤها وخلوها من أية قيمة. فإن الأساس نفسه الذي تقوم عليه هذه النظرية من أن الإنسان قد وصل إلى مرحلة من النضوج الفكري حتى إنه أصبح قادراً وحده على استنباط الحقائق وانتهاج المنهج الصحيح السليم للسلوك من تعاليم الدين الكامل، هو أساس يخضع للنقاش والجدل من عدة نواح.
ينبغي لنا ألا ننسى أن الإنسان كان دائماً عند كل منعطف من منعطفات التقدم يعتبر نفسه قد وصل إلى قمة النضوج الفكري، وعند كل مرحلة من مراحل التاريخ كان الجيل الذي يعيش تلك المرحلة يعتبر نفسه أيضاً قد بلغ قمة التقدم الإنساني. والناس بشكل عام حين ينظرون من موقعهم الذي وصلوا إليه إلى الأجيال السابقة كانت تلك الأجيال تبدو لهم أقل نضوجاً وأقل تقدماً منهم. ومع ذلك فلم يحدث أبداً أن تصرف الإنسان وحده في أي مرحلة من مراحل التاريخ بحكمة تكفي لهداية نفسه. ودوماً كانت هناك رؤوس ورؤساء مثل فرعون ترتفع لتتحدى الهدي الإلهي، وكان المتمردون على الهدي الإلهي يرفضون قبول الأنبياء الذين جاءوا إليهم في أزمانهم مستخدمين نفس هذا المنطق المغلوط الذي يعتمد على نضوجهم الفكري. وقد كرر الجميع مراراً نفس الادعاء بأنهم قد بلغوا مرحلة من التقدم الفكري يكفل لهم تقرير أمورهم بأنفسهم. غير أن التاريخ يبين أن كل تلك الأجيال كانت على خطأ. وعليه...فمن السذاجة بمكان الزعم بأن الجيل المعاصر هو الوحيد الذي وصل بالإنسان أخيراً إلى الاكتفاء بقدراته الذاتية لكل متطلبات تقدمه الأخلاقي والروحاني.
إن هذه النظرية القائلة بالنضوج الفكري يتضح زيفها من خلال وقائع وحقائق التاريخ. لطالما وقعت الانقسامات بعد وفاة الأنبياء وتعددت الفرق الدينية التي تتولى تقديم التفسيرات المختلفة والمفاهيم المتباينة للتعاليم التي أتى بها الأنبياء، وكانت هذه ظاهرة عامة لم يخل منها أتباع أي نبي من الأنبياء المرسلين على الإطلاق، ولم ينج منها المسلمون أيضاً. وهكذا يتضح أن موضوع بلوغ النضوج الفكري المزعوم لا يؤهل الإنسان لاستنباط الفهم الصحيح للصحف المقدسة، وإنما يقتضي الأمر هدياً إلهياً.
فإذا كان النضوج الفكري للإنسان يعني أنه يستطيع وحده استخلاص الحقائق من دراسته للكتب المقدسة، لكان من المحتم أن ينتج عن ذلك وحدة واتفاق كامل على جميع الأسس في التعاليم الدينية. ولكن للأسف ما نراه اليوم عملياً وكواقع فعلي ملموس يعد فشلاً ذريعاً لهذه الفكرة. والمسلمون الذين تشرفوا بتلقيهم من الله تعالى الكتاب الإلهي الكامل والأخير نجد أنهم ليسوا أقل فرقة وانقساماً، فيما يختص بالتفسير، من غيرهم من أتباع الأديان الأخرى. فما جدوى ما يسمى بالنضوج الفكري للإنسان؟؟ إن تاريخ الأديان يثبت بما لا يدع مجالاً للشك بأنه إذا بدأ الناس ينقسمون إلى فرق ونحل ومذاهب، فإنهم لا يتخلون أبداً عن هذا الانقسام والتشيع ليعودوا إلى التوحد نتيجة لمجهود الإنسان وحده.
وهذه الحالة تنطبق بدون شك على المسلمين اليوم أيضاً، وبغير تدخل إلهي عن طريق مصلح رباني فمن المستحيل جمع المسلمين وتوحيدهم مرة أخرى تحت راية واحدة. ولكنهم بكل أسف يرفضون هذا الإجراء السماوي رغم أنه باب الأمل الوحيد المفتوح أمامهم.
إن وجود ما يزيد عن سبعين فرقة من المسلمين..رغم وجود الكتاب المحفوظ والسنة المتواترة والأحاديث الشريفة المحققة، كلها تقف دليلاً على عدم صحة الفكرة الفلسفية للشاعر (محمد إقبال) عن نظرية النضوج الفكري للإنسان.
والاختلافات التي تباعد بين هذه الفرق الإسلامية ليست مجرد اختلافات هامشية، وإنما هي أساسية وعميقة، كما أنها تتزايد وتتأصل بمرور الزمن. وعندما نضيف إلى هذه الاختلافات الفقر الأخلاقي المنتشر في العالم الإسلامي، ومأساة وجودهم وكأنهم جسد ميت فقد الحياة، فإن الأمر يصير مؤسفاً يثير عميق الحزن والآسى. وإذا كان الأمل الوحيد الذي يمكن أن يبعث فيهم الحياة هو اعتمادهم على نضوجهم الفكري... فلنقل على الدنيا السلام.. والأولى بالمرء أن يتوضأ كي يكون على استعداد لحضور صلاة الجنازة وقراءة الفاتحة والترحم على الماضي الذي لن يعود...
إنها حقاً فاجعة.. فلماذا لا يدرك هؤلاء – الناضجون فكرياً – أن كتاباً محفوظاً فقط لا يكفي لتزكية النفوس وتطهير القلوب؟؟؟ إذ لو كان الأمر كذلك لاستطاع المسلمون الحفاظ على مكانتهم المثلى ووحدتهم الفكرية... إلا أن الواقع العملي للأسف يظهر بوضوح أن هذه المثالية التي كانت تتمتع بها هذه الأمة في بدايتها قد زالت منذ زمن.. وأنها بعيدة عنها بعد الشرق عن الغرب وبعد السماء عن الأرض...
إن كل ما يمكن أن يقال دفاعاً عن الفكرة التي قدمها الدكتور إقبال لإغلاق نافذة النور الإلهي بهذا السخف الذي يطلق عليه (النضوج الفكري).. هو أنه لم يخترع تلك الفكرة بنفسه.. بل اقتبسها بدون تفكير عميق من الفيلسوف الألماني (نيتشه)... فقد كان نيتشه هو أول من استخدم فكرة النضوج العقلي في العصر الحديث لينفي وجود أية حاجة لتلقي الهداية من الله تعالى.. لقد كان نيتشه يحض الإنسان على الإفاقة من غفوته وأن يستخدم قدراته الخاصة المتمثلة في حواسه الخمس... وكان التعبير الذي وضعه نيتشه لمن يصل لمرحلة النضوج حيث يكون قد تمكن من استغلال جميع حواسه بكامل قدراتها هو الإنسان المتفوق أو "السوبر مان" ومثل هذا الإنسان في رأيه ليس بحاجة لتلقي الهداية من الله تعالى.. فقد اعتبر نيتشه أن الله مجرد ظن أو تخمين.. وليس حقاً ويقيناً.. وقد رأى أن هذه الظنون أو التخمينات قد تولدت خلال العصور التي لم يكن الإنسان فيها قد نضج بما يكفي ليكون سيد نفسه.. والآن حيث بلغ الإنسان مرحلة النضوج الفكري كما استخلص نيتشه في كتابه "هكذا تكلم زرادشت" مشيراً إلى أنه لم تعد هناك من حاجة إلى التمسك بأية ظنيات...
" في زمن ما كان يقول الإنسان الله.. حينما كان ينظر إلى أديم البحار.. لكني علمتك الآن أن تقول: الإنسان المتفوق / السوبرمان."
"إن الإله هو مجرد ظن.. لكني أرغب ألا يتجاوز ظنك إرادتك الخلاقة"
" هل يمكن لك أن تفكر كإله؟؟ هذا هو ما يجب أن تعنيه الحقيقة لك.. أن يتحول كل شيء إلى ما يمكن أن يتصوره الإنسان بفكره.. وما يراه الإنسان.. وما يلمسه الإنسان.. فعليك أن تفكر من خلال حواسك وما يتعلق بها وما يترتب عليها"
"إن الإله ما هو إلا مجرد ظن.. لكن من الذي يستطيع أن يتخلص من صراع الظن إلا بالموت"
وخلاصة ما أدى إليه كتاب "هكذا تكلم زرادشت" هو تمرد نيتشه على الإله الذي يعتبره مجرد ظن.. وذلك الإله هو في الواقع تصور المسيحية عن الإله..
إن هذه بالضبط هي ذات فلسفة إقبال التي أعلنها لإلغاء الحاجة لمجيء نبي بعد أن وصل الإنسان إلى مرحلة النضوج الفكري... وعوضاً عن أن يستخدم إقبال هذه الفلسفة المستعارة والمقتسبة من نيتشه لإنكار الحاجة إلى الهداية الربانية.. نراه قد طوّر فكرة النضوج الفكري بعض الشيء لتناسب معتقداته داخل الإطار الإسلامي.. وبالرغم من أنه لا يزال يعترف بالحاجة إلى المعلم الكامل والكتاب الكامل وما دام ذلك متوفراً.. فهو لا يرى أن تؤرق السماء مضجع الإنسان بتدخلها في شؤون هدايته..
غير إن هذا ليس كل الأمر.. فإن عقيدة النضوج الفكري بعد التعديل الذي أدخله إقبال عليها لاتلغي الحاجة إلى النبوة فحسب... وإنما تلغي كلية أيضاً أية حاجة لوجود اتصال ما بين الله والإنسان.. حتى ولو كان نوعاً من الوحي غير وحي الأنبياء..
ولا بد أن يكون هذا هو الاستنتاج الوحيد المعقول الذي تفرزه عقيدته عن النضوج الفكري.. فإن فكرة النضوج تقتضي استقلالاً كاملاً للإنسان عن أية هداية سماوية إضافية في أي شكل من الأشكال.. فهو قد صار من الكفاءة بمكان حتى أنه يستطيع أن يقرر لنفسه ما يشاءفي ضوء ما منح له من هداية...
يقول إقبال: الإنسان لم يعد طفلاً تمسك بإصبعه الصغير يد نبي لتعينه على أن يخطو بعض الخطوات إلى الأمام.. ألم ينضج هذا الإنسان ويصل لسن البلوغ الفكري لكي يقرر أمر نفسه بنفسه؟؟
قد يبدو هذا المنطق مقبولاً لدى البعض... غير أن نظرة صادقة واحدة إلى التدهور الروحي والانحطاط الأخلاقي الشامل للإنسان اليوم تكفي لتبديد هذه الدعوى واعتبارها مجرد خيال ووهم مغلوط.
المراجع:
تجديد الفكر الديني للعلامة محمد إقبال
Kaufmann, W. (1976) The Portable Nietzsche. Penguin Books. England
Bookmarks