ثانياً: الشبهة الثانية وجوابها([1]):

*) العقوبات الشرعية والحدود تنافي الرحمة بل تتسم بالعنف والقسوة.

· إن العقوبات الشرعية تتسم بالقسوة والهمجية التي تبعث على الاشمئزاز : ولا تتناسب وروح هذا العصر ، وإنسانيته ، وحمايته لحقوق الإنسان وكرامته دحض هذه الشبهة : وهذه شبهة داحضة من وجوه :



أولاً : تعريف الجريمـة:
الجريمة عند أهل اللغة تأتي بمعنى الجناية وبمعنى الذنب. قال في اللسان: "وجرم إليهم وعليهم جريمة وأجرم: جنى جناية".
وفي تاج العروس، والجرم بالضم الـذنب كالجريمة. وقـال: والمجرمون في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} الكافرون لأن الذي ذكر من قصتهم التكذيب بآيات الله والاستكبار عنها قالـه الزجاج، والذي يلفت النظر، أن لفظة الإجرام وردت في كثير من الآيات الكريمة، وكلها والله أعلم يقصد بها الكافرون أو المشركون ونحوهم من المكذبين والمنافقين. كـما نقله صاحب التاج عن الزجاج، كـما ورد في قوله تعالى: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} (الأنعام: 124) وهي تصل إلى أكثر من خمسين آية3، بينما في السنة لم ترد هذه الكلمة على لسان رسول الله ‘ إلا في حالات قليلة جدا، كـما في حديث سعد بن أبي وقاص _، أن النبي ‘ قال: "إن أعظم المسلمين جرماًَ من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته".([2]) .
وحديث عائشة ~ قالت:" قيل لها إن ابن عمر يرفع إلى النبي ‘ إن الميت يعذب ببكاء الحي، قالت: وهل أبو عبد الرحمن، إنما قال إن أهل الميت يبكون عليه، وأنه ليعذب بجرمه"([3]).

فقد يكون السلف è يتحرجون من إطلاق هذه الكلمة في حق العصاة من المسلمين لما لاحظوه من ورودها في القرآن الكريم في حق الكفار في أكثر المواضع، وإن كان لا يمتنع استعمالها لغة في هذا الموضع، أعني موضع الجناية... والله أعلم

أما عند الفقهاء فقد عرفها الماوردي بقوله: "الجرائم محظورات شرعية زجر الله تعالى عنها بحد أو تعزير".

ثانياً: تعريف العقوبة:

يقول صاحب اللسان: العقاب والمعاقبة أن تجزي الرجل بما فعل سوء، والاسم العقوبة وعاقبه بذنبه معاقبة وعقابا: أخذه به. هذا عند أهل اللغة.
عرفها بعض الفقهاء "بأنها الجزاء المقرر لمصلحة الجماعة على عصيان أمر الشارع".



صور من العقوبات عند الأمم

أما المجتمعات المفرطة المتشددة فمنها بعض المجتمعات الغربية إلى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، فقد عرفت بريطانيا في القرن التاسع عشر التشهير بمرتكبي جنايات الغش في مواد التموين، فكان الخباز الذي يبيع خبزاً يقل وزناَ عن الوزن القانوني، يربط إلى إطار خشبي ويتدلى عنقه من فتحة الإطار، وقد علق بعنقه رغيفٌ، وربما عوقب بوضع أصابع اليدين في آلة ضاغطة أو بالضغط عَلى الساقين، وعرفت الصين حتى تاريخ حديث ألوانا من العقوبات القاسية، كوضع ألواح من الخشب حول أعناق المتهمين ليتمكن الناس من معرفتهم عندما يمرون بهم وقد وقفوا خارج جدار السجن1. وفى الهند أشد وأبشع فقد نشرت جريدة الرياض في أحد أعدادها أن وكالات الأنباء الهندية أعلنت أن إحدى النساء أرغمت خادمتها البالغـة من العمر خمسة عشر عاما على غمس يديها في زيت حار لإثبات برائتها من تهمة سرقـة ساعة وقعت في الأسبوع الماضي في مدينة راجكوت غربي الهند. وقالت الوكالة أن الضحية مانجو لا ديفي نفت التهمة التي وجهتها لها سيدتها بسرقة ساعة، وعندها قامت السيدة التي لم يعلن عن اسمها بإرغام الخادمة على غمس يديها في زيت كان يغلى على النار لإثبات أنها لا تكذب والجدير بالذكر أن مثل طرق التعذيب هذه مألوفة في الريف الهندي، ومن أمثلتها قيام الشرطة الهندية بفقأ عيون عشرين متهما في جرائم السرقة في ولايـة بيهار الهنديـة الشرقيـة مؤخرا وكل هذه المجتمعات المفرطة منها والمفرطة فشل في محاربـة الجريمة، ولا يرجع فشل هذه المجتمعات في محاربة الجريمة لمجرد أن العقوبات لا تتناسب مع الجرائم، بل هناك أمر مهم وهو أن هذه المجتمعات المفرطة والمفرطة لا تؤمن بشرع الله ولا تحكم بحكم الله بل تتبع الهوى في أحكـامها وأنظمتها وتتخبط في اجتهادها ولـذلـك لا يمكن أن تصل إلى نتيجـة مرضية وحالة مسعدة والله تعالى يقول: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ}. (المؤمنون: 71).



الحدود في الإسلام



الحدود في الإسلام جزء من نظـام إلهي كامل أنزله رب العالمين على خاتم رسله ‘ ليكون نظاما يكفل لمن أتبعه السعادة والأمان والاستقرار إلى قيام الساعة {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} (سورة البقرة 138).. وأساس الحدود في الإسلام أنها ضابط يحفظ التوازن بين حقوق الفرد والجماعة معا. فمن حق الفرد على الجماعة تحقيق مصالحه وحفظها، وصيانة حياته ومقوماتها والعمل على حمايته ليس فقط من غيره بل من نفسه أيضا. وللمجتمع كذلك الحق في صيانة كيانه من كل اعتداء أو مساس، وفي الحصول على حياة آمنة وادعة تتسم بالطهر والعفاف. وجميع الجرائم التي حرمها الإسلام إنما هي من النوع الذي لو ترك وشأنه لأدى إلى اضطراب المجتمع، وإشاعة الفوضى والقلاقل فيه.

وينبغي أن يعلم أن الإسلام لا يعتمد على العقوبة في إنشاء الحياة النظيفة بين الناس ولا يتخذها الوسيلة الوحيدة لذلك، وإنما يعمل على الوقاية من الجريمة ومحاربتها بالضمير الوازع، والنفس المهذبة، والسلوك المستقيم، وتوفير أسباب الحياة النظيفة لكل الناس، فمن ارتضى هذه الأسباب واتخذها منهج حياته ارتقى وعز بالإسلام. وسعد بالمجتمع، وسعد به مجتمعه، ومن هجر هذه الأسباب ونفر منها وسعى في الأرض فسادا، دون رادع من خلق أو وازع من ضمير. فهو كمن يتمرغ في الوحل مختارا، وحق للإسلام أن ينزل به عقابه ليحمى الناس من شروره، ويوفر للمجتمع أمنه واستقراره.

والإسلام لم يرصد عقوبة دنيوية لكل انحراف أو معصية، بل إن هناك كثيرا من الانحرافات والمحرمات، اكتفى الإسلام فيها بأن أنذر مرتكبيها بغضب الله وعقابه، وترك تقدير عقابهم الدنيوي للقاضي حسبما يراه كافياً في التأديب والتعزير، ويتلاءم مع أثر المخالفة في المجتمع ، وحينما يقول الفقهاء: إن العقوبة حق اللّه تعالى يعنون بذلك أنها لا تقبل الإسقاط لا من الفرد المجني عليه، ولا من الجماعة أو ولي الأمر، وهم يعتبرون العقوبة حقاً لله كلما استوجبتها المصلحة العامة، وهي دفع الفساد عن الناس وتحقيق الأمن والسلامة لهم .

أما العقوبات المتعلقة بجرائم القصاص والدية فلا تسمى حدا عند بعض الفقهـاء؛ لأنها حق الأفراد، بمعنى أنه إذا عفا المجني عليه أو وليه عن القصاص أو الدية سقطا.



وعلة التفريق هنا أن جرائم الحدود يصيب ضررها المباشر الجماعة أكثر مما يصيب الأفراد، أما جرائم القصاص والدية، فمع مساسها بكيان المجتمع، إلا أن ضررها المباشر يصيب الأفراد أكثر مما يصيب الجماعة، ولقد كانت الشريعة عملية واقعية في إعطائها حق العفو للمجني عليه بالنسبة للقصاص والدية؛ لأنهما يتصلان اتصالا وثيقا بشخصه، ولأن العفو هنا لا يكون إلا بعد حصول التراضي، والتنازل، وصفاء النفس بين الطرفين، وذلك هو غاية عقوبة القصاص والقصد من ورائهـا.


لكن يلاحظ هنا أن الشريعة أباحت في حال عفو المجني عليه، وسقوط القصاص أو الديـة عن الجـاني، أباحت لولي الأمر معاقبة الجاني بعقوبة تعزيرية ملائمة لظروف .

وبعد: فإنه لا يزال البعض يتحرج من إقامة حدود الإسلام. ويثير حول عجاجة من غبار، ويصفها بالقسوة والشدة، وعدم مسايرتنا لروح العصر الذي ارتقت فيه المدارك.











خصائص نظام العقوبات فى الإسلام



أولاً : الربانية:-

- إن الذي شرع الحدود، وحدد العقوبات هو عالم الغيب والشهادة، الخبير بمسالك النفوس ودروبها، العليم بما يصلحها ويقومها {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (سورة الملك 14)، إذا كان الأمر كذلك فتشريع الله لعباده أمرا أو نهيا، حكماً أوْحَدّاً بعيدٌ عن كل معاني النقص والقصور. والمبالغة والهوى، وغير ذلك من صفات الجهل والعجز التي يتصف بها البشر وتتسم بها مناهجهم، وإذا كانت الحدود من تشريع اللّه، فإن اللّه أرأف بعباده وأرحم مما يظن القاصرون، وهو أخبر بما يصلح حياتهم ويهذب طباعهم، فليس لمتشدق أن يتحدث عن قسوة الحدود، وشدة العقوبات، لأنه ليس أبصر بمصلحة الخلق. وأرحم بهم من خالقهم، ومن يظن غير ذلك فقد خرج من الإيمان.

- أن الإسلام قبل أن يستأصل هؤلاء المجرمين ، ويقرر عليهم العقوبات الرادعة ؛ قد أعذر إليهم : حيث قدم لهم من وسائل التربية والوقاية ما كان يكفي لإبعادهم عن الجريمة التي اقترفوها ؛ لو كانت لهم قلوب تعقل ، أو نفوس ترحم . ثم إنه لا يطبقها أبداً حتى يضمن أن الفرد الذي ارتكب الجريمة قد ارتكبها دون مسوّغ ولا شبهة اضطرار . فوقوعه فيها بعد كل هذا دليل على فساده وشذوذه ، واستحقاقه للعقوبات الرادعة المؤلمة . فهو مثلاً لا يقطع يد السارق إلا بعد توفير الوسائل التي تمنع من السرقة ، فقد عمل على توزيع الثروة توزيعاً عادلاً ، وجعل في أموال الأغنياء حقاً معلوماً للفقراء ، وأوجب النفقة على الزوج والأقارب ، وأمر بإكرام الضيف والإحسان إلى الجار ، وجعل الدولة مسؤولة عن كفالة أفرادها بتوفير تمام الكفاية لهم في الحاجات الضرورية من مطعم وملبس ومسكن وغيرها ، بحيث يعيشون حياة لائقة كريمة . كما أنها تكفل أفرادها بفتح أبواب العمل الكريم لمن يستطيعه ، وتمكين كل قادر من أن يعمل بمقدار طاقته ، وتهيئة الفرص المتساوية للجميع . وبذلك يمنع الإسلام الدوافع المعقولة للسرقة ، فإن وقعت بعد ذلك ؛ فإنه يتحقق من ثبوتها ، وانتفاء موانعها ، وعدم وجود شبهة تسقطها ، كأن يرتكبها بدافع الحاجة والاضطرار ([4]) .

وهو يعترف بقوة الدافع الجنسي ، وعنف إلحاحه على البشر ، ولكنه يعمل على إشباع هذا الدافع بالطريق المشروع : طريق الزواج ، فيدعو إلى الزواج المبكر ، ويعين العاجز عن تكاليفه المادية بوسائل كثيرة ، من الزكاة والصدقات ، والنفقة ، وبيت المال . كما أنه يحرص على تنظيف المجتمع من كل وسائل الإغراء والإثارة التي تؤجج الغريزة ، وتحرك كوامن الشهوة . كما أنه يأمر بغض البصر ، وحفظ الفرج ، والاستعفاف ، ومجاهدة النفس والتسامي بها . ويحرص كذلك على شغل أوقات الفراغ ، واستنفاد الطاقة الحيوية الفائضة بالتقرب إلى الله ، والمسارعة إلى الخير ، وفعل كل ما من شأنه أن يحقق لصاحبه النفع في الدنيا والآخرة . وبذلك كله يمنع الدوافع التي تسوِّغ الجريمة . ثم إذا وقعت فإنه يحتاط احتياطاً شديداً في إثباتها ، فلا يقيمها إلا على من أقر بها إقراراً صريحاً أربع مرات ، وطلب تطهيره بالحد ، ولم يتراجع عن إقراره حتى تنفيذ الحد عليه ، أو يكون قد تبجح بارتكابها ، حتى ليراه أربعة شهود وهو على هذه الحال . وهكذا شأن الإسلام في بقية العقوبات ، يعمل على وقاية المجتمع أولاً من دوافع الجريمة ، ثم يدرأ الحدود بالشبهات زيادة في الاحتياط . فليست العقوبة هي الوسيلة الأولى أو الوحيدة للإصلاح والتقويم ، ولكن حين يأتي دورها في التطبيق ، فإنها تمثل مواجهة حاسمة للظاهرة الإجرامية . فهل يبقى بعد ذلك مجال للطعن في عدالة هذه العقوبات ومناسبتها ؟!! ([5]) .



ثانياً : حكيمة رحيمة :-

المتأمل في تشريع الحدود يجد أن علاج النفس الإنسانية بها يتسم بالحكمة والرحمة معا: أما الحكمة فتتجلى في أن لكل جرم حدا معينا، ولكل مخالفة عقوبة خاصة دون غلو أو زيادة. ودون مبالغة أو إفراط، بحيث تلحظ أن الشارع قد سار في هذه الأمور كما سار في غيرها- على أدق المقاييس، وأعدلها، فالذي يريد أن يستمتع بنشوة اللذة عليه أن يتوقع أنه سيذوق من الألم أشده.. والذي يريد الثراء من كسب غيره يعامل بنقيض مقصوده، وتقطع منه أداة كسبه.. والذي يريد أن يحقر غيره بالقذف سيجد التحقير من الجماعة كلها، فتسقط شهادته، ويمشي بينهم لا يوثق له بكلام.
وهكذا.. وهكذا.. ناسبت كل عقوبة جريمتها، ووضعت على أساس محاربة الدوافع التي تدفع إليها كل جريمة، فهي لم توضع اعتباطا، وإنما وضعت على أساس طبيعة الإنسان وفهم لنفسيته وعقله. ولهذا كانت العقوبة في الشريعة الإسلامية قائمة على واقعية علمية فنية تامة الضبط والإحكام، لأنه مما لا شك فيه أن العقوبة التي تقوم على أساس العلم بالطبيعة البشرية، وفهم نفسية المجرم هي العقوبة التي يكتب لها النجاح. لأنها تحارب الإجرام في نفس الفرد وداخله، قبل أن تحاربه في حسه وظاهره، الأمر الذي يجعل الشخص يبتعد حتى عن مجرد التفكير في اقتراف المنكر.
يقول الإمام ابن القيم ’: "لما تفاوتت مراتب الجنايات لم يكن بد من تفاوت مراتب العقوبات، وكان من المعلوم أن الناس لو وكلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك وترتب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية جنسا ووصفا وقدرا، لذهبت بهم الآراء كـل مذهب، وتشعبت بهم الطرق كل متشعب، ولعظم الاختلاف، فكفاهم أرحم الراحمين مؤنة ذلك، وأزال عنهم كلفته، وتولى بحكمته وعلمه ورحمته تقديره نوعا وقدرا، ورتب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة وما يليق بها من النكال، و أنت تلحظ أن هناك تناسباً جيدا بين الجريمة وعقوبتها المقررة لها بحيث لو وضعت واحدة مكان أخرى أو لو عممت عقابا واحدا على جرائم متعددة لظهر لك على الفور الاختلال والاضطراب وعدم العدل في الأحكام.. فالشريعة مثلا عاقبت على السرقة بقطع اليد. ولكنها لم تعاقب على القذف بقطع اللسان، ولم تعاقب على الزنا بالخصاء. وعاقبت في القتل بالقصاص، ولكنها لم تعاقب في إتلاف المال بالقصاص، وسبحان اللطيف الخبير" هذا عن أن الحدود حكمة.. وأما أنها رحمة.. فهي كذلك بالنسبة للمنحرف ذاته، وبالنسبة للمجتمع الذي يعيش فيه.. أما بالنسبة للمجتمع فذلك ظاهر لما تجلبه له من شيوع الأمن والحماية الأموال والدماء! وبما تدفعه عنه من أذى العدوان والقلق والترويع. فإذا أرخص الإسلام دم قاتل، فلكي يحقن ألوف الدماء ويحيط الجماعة كلها بما يحفظ عليها حياتها وأمنها {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (سورة البقرة 179) أي حياة هادئة مطمئنة لا بغي فيها ولا عدوان. يقول ابن القيم ’: "بلغ من رحمة الله تعالى وَجُوده أن جعل تلك العقوبات كفارات لأهلها. وطهرة تزيل عنهم المؤاخذة بالجنايات إذا قدموا عليه، ولا سيما إذا كان منهم بعدها التوبة النصوح والإنابة. فرحمهم بهذه العقوبات أنواعا من الرحمة في الدنيا والآخرة".



ثالثاً : طبيعة العقوبة :-

إن العقوبة ليست مكافأة على عمل مبرور ، وإنما هي جزاء مقرر على ارتكاب جريمة ، يقصد به الإيلام والردع : وإذا لم تكن العقوبة مؤلمة ؛ فليس لتطبيقها أي أثر في الزجر والردع . حتى تأديب الرجل ولده ؛ لا بد أن يكون فيه شيء من الإيلام والقسوة ، ليتأتى تأديبه وإصلاحه وقديماً قال الشاعر الحكيم:

فقسا ليزدجروا ، ومَنْ يَكُ حازماً فليَقْسُ أحياناً على مَنْ يرحمُ

ولا شك أن الإنسان يتمنى ألا توجد في المجتمع جريمة أبداً ، حتى لا توجد عقوبات أصلاً ؛ بحيث يفهم كل فرد ما له فيقتصر عليه ، وما عليه فيؤديه عن طواعية واختيار . ولكن هذا حلم لا يمكن أن يتحقق ، ورغبة خيالية تصطدم بالواقع المعاش . فهناك نفوس جاهلة حمقاء لا تلتزم بما لها وما عليها ، ونفوس شريرة ظالمة قد تأصّل فيها الإجرام والإفساد ، وسعت للإضرار بالآخرين وبخسهم حقوقهم . والحياة لا يمكن أن تستقيم وتنتظم إلا بالالتزام ، واحترام حقوق الآخرين ، وعدم المضارة بهم . فمن خرج عن هذا الالتزام ، وسعى للإضرار بنفسه وبغيره ، كان ردعه واجباً عقلاً وشرعاً ، ولا ردع إلا بقسوة وإيلام . واسم العقوبة مشتق من العقاب ، ولا يكون العقاب عقاباً إذا كان موسوماً بالرخاوة والضعف . فعنصر القسوة - إذاً - يمثل الركن الأساسي لمعنى العقوبة ، فلو فُقدت القسوة فُقدت معها العقوبة بدون شك . ولكن ما هي الدرجة التي يجب أن تقف عندها قسوة العقوبة على جريمة ما ؟ إن الذي يحدد هذه الدرجة هو تصور مدى خطورة الجريمة التي استلزمتها ؛ أي أن القسوة يجب أن تكون ملائمة للجريمة ، فتزيد بزيادة خطورتها وشدة آثارها ، وتنقص بنقص ذلك . وهذه الحقيقة محل وفاق عند جميع المشتغلين بالتشريع والتقنين ، مهما اختلفوا في تحليل فلسفة العقاب . وإن اختلاف القوانين العقابية الوضعية أكبر شاهد على ذلك . فإذا كان في الناس من يصف العقوبات الشرعية بقسوة زائدة على مقتضى هذه القاعدة التي لا خلاف فيها ؛ فسبب ذلك أنهم يخطئون في تقويم خطورة الجرائم التي رتبت عليها هذه العقوبات ، دون أن يعتبروا في ذلك نظرة المشرِّع لها ، وتقويمه لخطورتها . والعجيب أن خصوم الشريعة الإسلامية يدركون هذه الحقيقة ، ويفقهون هذا المعنى ، عندما يكون البحث متعلقاً بقانون من القوانين الوضعية . فرُبَّ كلمة لا نرى بها بأساً ، يتفوه بها فرد من رعايا دولة تطبق قانوناً وضعياً ؛ تواجهه بسببها عقوبة الإعدام . ورُبَّ فاحشة عظمى يجب مكافحتها ، تشيع بين رعايا تلك الدولة ؛ فلا يؤبه بها ، ولا يلتفت إليها بأي نقد أو استنكار !! وليس أيسر على خصوم الشريعة الإسلامية من أن يدافعوا عن كلا المذهبين ؛ بأن كل أمة إنما تسن قوانينها حسب مبادئها وفلسفتها التي تنظر بها إلى الإنسان والكون والحياة . أفيحق لكل أمة أن تسن ما تشاء من قوانين الردع والزجر ، حسب نظرتها إلى الكون والإنسان والحياة - خطأً كانت النظرة أم صواباً - ، ثم لا يحق لخالق الكون والإنسان والحياة أن يشرع هو الآخر قوانين الردع والزجر بما يتفق مع مقاصد شريعته ، ويتسق مع نظام كونه ، ويحقق مصالح عباده ؟!! والحكمة في تغليظ العقوبات الشرعية التي توصف بالوحشية والهمجية ، من قتل القاتل ، ورجم الزاني ، وقطع السارق ، وغيرها من العقوبات المقدرة ؛ ظاهرة جلية ، فإن هذه الجرائم هي أمهات المفاسد ، وكل واحدة منها تتضمن اعتداء على واحدة أو أكثر من المصالح الخمس الكبرى ، والتي أجمعت الشرائع والعقلاء في كل زمان على وجوب حفظها وصيانتها ؛ لأنها لا يمكن أن تستقيم الحياة بدونها . ولأجل هذا كان المرتكب لشيء منها جديراً بأن تغلّظ عليه العقوبة ، حتى تكون زاجرة له ، ورادعة لغيره . وها هي ذي الجرائم الكبرى تعصف بكثير من الدول التي لا تطبق الشريعة الإسلامية ، مع كل ما توفر لها من إمكانيات وقدرات ، وتقدم مادي وتقني ، وأجهزة أمنية وإدارية و استخبارية .



رابعاً: مراعاة المصلحة العليا:-

- إن هؤلاء الطاعنين في هذه العقوبات قد اعتبروا مصلحة المجرم ، ونسوا مصلحة المجتمع ، وأشفقوا على الجاني ، وأهملوا الضحية ، واستكثروا العقوبة ، وغفلوا عن قسوة الجريمة : ولو أنهم قرنوا العقوبة بالجريمة ، ولاحظوا الاثنتين معاً ، لخرجوا موقنين بالعدالة في العقوبات الشرعية ، ومساواتها لجرائمها . فإذا استحضرنا مثلاً فعل السارق وهو يسير في جنح الظلام متخفياً ، ينقب الجدار ، ويكسر القفل ، ويُشهر السلاح ، ويروّع الآمنين ، هاتكاً حرمة البيوت ، وعازماً على قتل من يقاومه ، وكثيراً ما تقع جريمة القتل كوسيلة يتذرع بها السارق إلى إتمام سرقته ، أو الفرار من تبعاتها فيقتل من غير تمييز . وإذا تصورنا حالة النساء والأطفال في البيت وهم يستيقظون ويفتحون أعينهم على وجه السارق المرعب الشرس ، وهو شاهر سلاحه يهدد من يواجهه . وتصورنا ما يُحدثه فعل السارق من قلق عند الناس جميعاً ، وتعطيل لحركتهم ، وبث للرعب في نفوسهم ، وإذهاب لطاقاتهم في حماية أموالهم ، وتأمينها بالمغاليق والأقفال ؛ لأن السارق يبغي المال ، وهو موجود عندهم جميعاً ، فهم معرضون لإجرامه دون تمييز . لو تصورنا هذا أو بعضه مما يحدثه فعل السارق ، ثم قارناه بقطع يده الآثمة الظالمة ؛ لما قلنا عن عقوبته : إنها قاسية ظالمة . وهكذا الشأن في بقية العقوبات ، علينا أن نستحضر جرائمها ، وما فيها من أخطار وأضرار ، وظلم واعتداء ، حتى نستيقن أن الله تعالى قد شرع لكل جريمة ما يناسبها ، وجعل الجزاء من جنس العمل ، وما ربك بظلام للعبيد. قال الشيخ أحمد محمد شاكر ’ : « إن بعض النظريات الحديثة ترفّه عن المجرم حتى يظن أنه موضع إكرام بما جَنَى ، وتدّعي أن القصد من العقاب التربية والتأديب فقط ، وأنه لا يجوز أن يُقصد به إلى الانتقام ، وتزعم أن الواجب درسُ نفسية ( الجاني ) ، فتُلتمس له المعاذير من ظروفه الخاصة ، وظروف الجريمة ، ومن نشأته وتربيته ، ومن صحته ومرضه ، وما يعتمل في جوانحه من عواطف وشهوات ، وما يحيط به من مغريات أو موبقات ، إلى آخر ما هنالك .. ونسي قائلوها أن يَدْرسُوا ( المجني عليه ) هذا الدرس الطريف ، ليَروا أيّ ذنب اجترح حتى يكون مهدداً في سرْبه ، معتدىً عليه في مأمنه من حيث لا يشعر !! ولم يفكروا أي الفريقين أحق بالرعاية : أمَن جعلته ظروفه ونشأته ونفسيّته وما إلى ذلك هادئاً مطمئناً ، لا ينزع إلى الشر ، فكان مجنياً عليه ، أمّن كان على الضد من ذلك ، فكان جانياً ؟! إن الله خلق الخلق وهو أعلم بهم ، وهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، ويعلم ما يصلح الفرد ، وما يصلح الأمة ، وقد شرع الحدود في القرآن زجراً ونكالاً ، بكلام عربي واضح لا يحتمل التأويل » ([6]) .



- إن الله تعالى أراد للناس أن يعيشوا آمنين مطمئنين ، ولن يتيسر لهم ذلك إلا ببتر الفاسدين وقطع دابرهم . وهذه سنة الله في خلقه ([7]): فإن الإنسان إذا كان فيه عضو فاسد ، لا علاج له إلا بقطعه كله أو بعضه ، فلا مناص من الإقدام على ذلك . وهذا الطبيب الذي يستأصل بمبضعه المرهف هذا العضو الفاسد من جسم أخيه ؛ أليس ضربه المبضع في لحمه ، وقطعه الجزء الفاسد من جسمه مظهراً من مظاهر القسوة ؟! ولكنها قسوة هي عين الحكمة والرحمة والمصلحة ، وبخاصة إذا قيست بما يترتب على تركها من هلاك وتلف ، وما ينشأ عنها من آلام وأوجاع تفوق مصلحة بقائها . والمجتمع هو الجسم كله ، وما الفرد الفاسد إلا عضو من أعضائه([8]) .

فهي تحفظ للمجتمع حقه ، ولا تضحي به في سبيل الأفراد الخارجين عليه . والعقوبة التي تحابي هؤلاء الأفراد على حساب الجماعة ؛ إنما تضيع مصلحة الفرد والجماعة معاً ؛ لأنها تؤدي إلى ازدياد الجرائم واختلال الأمن ، وانحلال المجتمع ، وإذا دبَّ الانحلال في مجتمع ، فقل على الأفراد وعلى المجتمع العفاء ([9]) .

قال عز الدين بن عبد السلام : « وربما كانت أسباب المصالح مفاسد ، فيؤمر بها أو تباح ؛ لا لكونها مفاسد ، بل لكونها مؤدية إلى المصالح ، وذلك كقطع الأيدي المتآكلة ، حفظاً للأرواح ، وكالمخاطرة بالأرواح في الجهاد . وكذلك العقوبات الشرعية كلها ليست مطلوبة لكونها مفاسد ، بل لأدائها إلى المصالح المقصودة من شرعها ، كقطع السارق ، وقطّاع الطريق ، وقتل الجناة ، ورجم الزناة وجلدهم وتغريبهم ، وكذلك التعزيرات ، كل هذه مفاسد أوجبها الشرع لتحصيل ما رتب عليها من المصالح الحقيقية » ([10]) .


أما الشريعة الإسلامية فإنها في عقوباتها متوسطة لا إفراط ولا تفريط خاصة عندما تطبق بأمانة وعدالة، فإنَها تؤثر تأثيرا بالغاً في التقليل من الإجرام والحد منه.

فالعقوبـة بصفة عامة هي معالجة الأمراض الاجتماعية فإذا نظرنا إلى المجتمع كوحدة واحدة وجسم واحد، ونظرنا إلى الأفراد وهم يمثلون خلايا الجسم وأعضائه وأطرافـه، أمكننا أن نتصور كيف أن إيقاع العقوبات على بعض الأفراد يعتبر علاجاً للمجتمع، تماماً كما يعالج جسم الإنسان، إما بأدوية مرة، أو بالمضاد، أو بالشق والجراحة، وقـد يصل الأمر إلى بتر العضو وإزالته حتى لا يكـون سببا في تلف الجسم كله، وهذا ما يحصل لخلايا وأعضاء هذا الجسم الكبير المجتمع، فقد يعالج بعض أفراده بالجَلد، أو الهجر أو الحبس أو القطع أو القتل إذا لزم الأمر.


وللعقـوبة من ناحية أخرى أهداف ترجـع إلى الجاني وأهداف ترجع إلى عموم الناس، فبالنسبة للجاني تهدف العقوبة إلى استصلاحه وزجره إذا لم تكن العقوبة متلفه (قتلا)، وبالنسبة لسائر الناس فإن العقوبة تهدف من ناحية إلى حماية مصالحهم الضرورية في الأعراض والأموال والأبدان، والعقول، وغير ذلك من المصالح، ومن ناحية أخرى تهدف إلى ردع المجرمين وتخويفهم وتحذيرهم من الوقوع فيما وقع فيه المتهم فيحل بهم مثل ما حل به من العقوبة.



فهل بعد هذا يقال العقوبات الإسلامية قاسية([11]) ؟!!


أعتقد أنه بعد التوضيح السابق ومعرفة خصائص نظام العقوبات الإسلامي لا يستطيع أحد أن يقف أمام نظام الإسلام وشريعته ولكن مع كل هذه الميزات والخصائص قد تعرضت العقوبات التي شرعها الله سبحانه وتعالى، وشرعها رسوله ‘، لتأديب المجرمـين وزجـرهم وردعهم، من جلد وهجر أو قطع أو رجم أو قتل، للهجوم والسخرية والاستهزاء من قبل كثير من الكُتَّاب، فتارة توصف بأنها وحشية وتارة توصف بأنها عقوبات قاسية قديمة ولا تليق بالعصر الحديث، ومن المؤسف أن نجد مثل هذا الانتقاد عند بعض الكُتَّاب المسلمين.

فهـذا أحـد الكُتَّاب وهو يتحدث عن العقوبات وتطورها يقول:

(( والتعويض المدني يمتاز عن الدية بأنه مرن يزيد وينقص حسب مقدار الضرر الناتج عن الجـريمة، كما أنـه يمتاز عن القصاص في أنه لا يقصد به مجرد الانتقام من الجاني وإنما يقصد به إزالـة الضرر الواقـع على المجني عليه إذا أمكن، أو تعويضه عن هذا الضرر ليخفف أثره إذا لم تكن الإزالة ممكنة، كما أن التعويض المدني يمتاز عن الدية والقصاص في أنـه حق مدني منفصل عن العقوبـة فيمكن للمجني عليه أن يتنازل عنه، ولكن ذلك لا يعفى الجاني من العقوبة التي هي حق للمجتمع([12])))

وفي موضع آخر يقول: "ومنذ بدأت حركة إصلاح النظم الجنائية في العصور الحديثة أصبحت العقوبات البدنية محل هجوم شديد من ناحية الفلاسفة والمصلحين، باعتبار أنها تتضمن امتهاناً لكرامة الإنسانية الواجب رعايتها حتى بالنسبة للمجرمين..." إلى أن قال: "ولم تشذ التشريعات العَربية عن تأثير المذاهب الإصلاحية بل نرى أن التطور التشريعي في بلادنا يأخذ نفس الاتجاه..." ثم يمضى في كلامه... "ورغم أن الاتجاه الحديث يرمى إلى إلغاء هذه- العقوبات الجسمانية، لما يترتب عليها من مهانة وإذلال للآدمي بمعاملته معاملة الحيوان، فإن بعض المؤلفين يرى ضرورة بقائها في أحوال معينة، ولكن الاتجاه الغالب في العالم المتحضر يدعو إلى إلغائها باعتبارها لا تتناسب مع المدنية الحاضرة"([13])أما عقوبة القتل فهي بزعمهم أصبحت محل نقد كثير من الفلاسفة والباحثين، لأنهم يرون أن القتل إجراء وحشي لا يجوز أن يرتكبه المجتمع ضد أحد الأفراد لأي سبب كان مادام يمكن الاستعاضة عنه بالسجن المؤبد([14]).

وعن عقوبة الجَلد: لقد تأثرت التشريعات المعاصرة بالنقد الموجه إلى عقوبة الجلد أو الضرب ذلك النقد الذي يستند إلى منافاتها لكرامة البشرية إذ أن استعمال الضرب في تأديب الإنسان تشبيه له بالحيوان ونزول به إلى مرتبة الدواب مما يتعارض مع الاحترام الذي تقتضيه الَصفة الإنسانية التي لا يمكن نزعها عن الشخص لمجرد ارتكابه جريمة([15]).



هذا نموذج من النـماذج الكثيرة. ونحن نرد على هؤلاء المتهجمين بردين رد مجمـل ورد مفصـل مع الاختصار الذي يقتضيه المقام.




فأما الرد المجمـل:


فإن هؤلاء المتهجمين على العقوبات الإسلامية أحد رجلين، أما كافر بالإسلام لا يؤمن بالله ولا برسوله ‘، وأما مسلم، فبالنسبةَ للكافر فإن القضية مع الكفار أكبر وأعظم من أن تقف عند فرع من فروع الدين فهم أصلا لا يؤمنون بالله سبحانه ومن يزعم منهم أنه يؤمن بالله فهو لا يؤمن به الإيمان الصحيح الكامل، ولا ينطلق في إيمانه من تصور صحيح. فهم لا يؤمنون بالرسول ولا يقرون برسالته ولا يؤمنون بالقرآن ولا بالبعث بعد الموت والحساب والجزاء. وهذه القضايا أخطر وأكبر من قضية العقوبات. فمادام هؤلاء لا يسلمون بأصول الدين ولا يسلمون لله سبحانه بالحكمة والعدالة والرحمة، بل إنهم ليتهجمون على الشريعة الإسلامية ويسخرون منها فمن باب أولى ألا يسلموا بما دون ذلك. وأما المسلم الذي يتهجم على العقوبات الإسلامية فإما أن يكون متظاهرا بالإسلام مجرد تظاهر وهو يبطن الكفر والإلحاد والنفاق، فهذا شأنه شأن الفريق الأول، وإما أَن يكون مسلما ضعيفا جاهلا، فهذا ينبغي أن يعرف أنه لا يصح إيمانه حتى يسلم بكل ما شرعه الله وشرعه رسوله ‘، فالله سبحانه وتعالى عليم حكيم خبير، متصف بكـل صفات الكمال منزه عن كل صفات النقص فأحكامه وشرائعه تبدو فيها صفاته من الحكمة والرحمة وقد ندرك ذلك وقد لا ندركه ولكن مقتضى الإيمان أن نسلم لله سبحانه بكل ما شرعه لنا، وإن كان هذا لا يمنع أن نتحرى الحكمة ونبحث عن أسرار التشريع بأدب مع الله سبحانه ومع رسوله ‘، هذا هو الرد المجمل باختصار.



أما الرد المفصل فإنه:

يحتاج منا إلى وقفات وهى وقفات سريعة حيث أن المقام لا يتحمل الإطالة.


الوقفة الأولى:


مقارنـة العقوبات الإسلامية بالعقوبات في المجتمعات الأخرى لنرى مدى القسوة والشدة فيهما، ولقد تطرق الأستاذ عبد القادر عوده ’ في كتابه التشريع الجنائي الإسلامي إلى شيء من ذلك فقال: "فإذا قدرنا أن الجرائم التعزيرية التي يمكن العقاب عَليها بالقتل تصل إلى خمس جرائم، كانت كل الجرائم المعاقب عليها بالقتل في الشريعة لا تزيد على عشر جرائم عند من يجيزون القتل تعزيرا، وكان عددها لا يزيد على خمس جرائم عند من لا يجيزون القتل تعزيرا، وتلك ميزة انفردت بها الشريعة الإسلامية من يوم نزولها، فهي لا تسـرف في عقوبة القتل ولا تفرضها دون مقتضى، ونستطيع أن نحيط بمدى تفوق الشريعة في هذه الوجهة، إذا علمنا أن القوانين الوضعية كانت إلى آواخر القرن الثامن عشر تسرف في عقوبة القتل إلى حد بعيد، بحيث كان القانون الإنجليزي مثلا يعاقب على مائتي جريمة بالإعدام، والقانون الفرنسي يعاقب على مائة وخمس عشرة جريمة بالإعدام([16]).".

ويقول في موضع آخر وهو بصدد الحـديث عن أساس المسئولية الجنائية، "كانت القوانين الـوضعية في العصور الوسطى والى ما قبل الثورة الفرنسية تجعل الإنسان والحيوان بل والجماد محلا للمسئولية الجنائية، وكان الجماد يعاقب كالحيوان على ما نسب إليه من أفعال ضارة، كـما يعـاقب الإنسـان على ما ينسب إليـه من أفعـال محرمة، وكـانت العقوبة تَصيب الأموات كـما تصيب الأحياء، ولمِ يكن المـوت من الأسباب التي تعفى الميت من المحاكمة والعقاب. ولم يكن الإنسان مسئولا جنائياً عن أفعاله فقط و إنما كان يسأل عن عمل غيره ولو لم يكن عالماً بعمل هذا الغير، ولو لم يكن له سلطان على هذا الغير، فكانت العقوبة تتعدى المجرم إلى أهله وأصدقائه وتصيبهم كـما تصيبه، وهو وحده الجاني وهم البرءاء من جنايته.
وكان الإنسان يعتبر مسئولا جنائيا عن عمله، سواء كان رجلا أو طفلا مميزا أو غير مميز وسـواء كان مختَارا أو غير مختار، مدركـا أو فاقد الإدراك وكانت الأفعال المحرمة لا تعين قبل تحريمها، ولا يعلم بها الناس قبل مؤاخذتهم عليها، وكانت العقوبات التي توقع معينة في الغالب..." الخ ([17])


وكان من الممكن في بعض الشرائع القديمة بل وفي العصور الوسطى في أوربا نفسها أن توقع العقوبات الجنائية على حيوان، أو على جثة الجاني بعد موته أو على من به مس من الجنون([18]).

ولقد ألمحتُ في الفقرة السـابقـة إلى بعض العقـوبات القاسية التي تمارس في بعض المجتمعات كـما في الهند والصين- فالعقوبات الإسلامية كـما نلاحظ من هذا العرض المختصر المقارن أشد ما تكون قتلا أو قطعا ومع ذلك فعدد الجرائم التي يعاقب عليها بالقتل لا يجاوز العشر أو الخمس، والجرائم التي يعاقب عليها بالقطع جريمتان فقط. وسوف نلاحظ فيما بعد الحكمة الدقيقة في سن هذه العقوبات للجرائم الخاصة بها.
والقوانين الوضعية وإن كان أغلبها في العصر الحاضر قد استبدل عقوبة الحبس المؤبد بعقوبة الإعدام وصارت تركز على عقـوبة السجن مؤقتا أو مؤبدا فإن السجن المؤبد أو الطويل الأجـل ليس إلا قتلا بالتقسيـط للمجرم، وقتلا لأسرته معه، فلا هو بالميت الذي استراح من عناء السجن ورهبته وأفضى إلى ما قدم من خـير أو شر، ولا هو بالمطلق سراحه ليعمل ويكدح، وكم تعاني أسرة السجين من الشقاء والضياع، وكم تفقد من العناية والرعاية.

ولقد لخص "عودة" ’ عيوب عقـوبـة الحبس بعـدة نقـاط مؤيـدة بالأرقـام الإحصائية فذكر منها([19]):

أولا: إرهاق خزانـة الدولة وتعطيل الإنتاج: فلاشك أن الدولة سوف تتحمل نفقات كبيرة لإعداد السجون وصيانتها والعناية بها، ومع ذلك فلا يزال السجناء يعانون في كثير من الدول من قلة العناية والرعاية.
ثانيا: إفساد المسجونين : ويقول بهذا الصدد وكان من الممكن أن تتحمل الجماعة هذه الخسارة الكبيرة سنوياً أي نفقات هذا السجن والسجناء لو كانت عقوبة الحبس تؤدي إلى إصلاح المسجـونين، ولكنها في الواقع تؤدي بالصالح إلى الفساد وتزيد الفاسد فساداَ على فسـاده، فالسجن يجمـع بين المجرم الذي ألف الإجرام وتمـرس بأساليبـه، وبـين المجرم المتخصص في نوع من الإجرام وبين المجـرم العادي، كـما يضم السجن أشخـاصاً ليسوا بمجرمين حقيقين، وإنما جعلهم القانون مجرمين اعتبارا كالمحكوم عليهم في حمل الأسلحة أو لعـدم زراعـة نسبـة معينة من القمح والشعير، وكالمحكوم عليهم في جرائم الخطأ والإهمال، إلى آخر ما ذكـره ’. فحاصـل ما ذكـر أن السجن أصبح مدرسة إجرامية يلقن فيها المجرمون العتاة والمعتادون المبتدئين من المجرمين....
إلى أن قال: ولقـد دلت المشاهـدات على أن الرجل يدخل السجن لأمر لا يعتبره العـرف جريمـة كضبـط قطعـة سلاح معـه، وكان المعروف عنه قبل دخوله السجن أنه يكره المجرمين ويأنف أن يكون منهم، فإذا خرج من السجن حبب إليه الإجرام واحترافه بل صار يتباهى به إلى آخر ما ذكر، وهو كلام جيد مدعم بالإحصائيات فيحسن الرجوع إليه.

ثالثا: قتـل الشعـور بالمسئولية: وعقوبة الحبس فوق أنها غير رادعة فإنها تؤدى إلى قتل الشعور بالمسئولية في نفوس المجرمين، وتحبب إليهم التعطل، خاصة من يقضى منهم مدة طويلة في السجن.

رابعا: انعـدام قوة الردع: إن عقـوبـة الحبس قد فرضت على أسـاس أنها عقوبة رادعة ولكن الواقع قد أثبت أنها لا فائدة منها ولا أثر لها في نفوس المجرمين، فالذين يعاقبون بالأشغال الشاقـة وهى أقصى أنواع الحبس لا يكـادون يخرجـون من السجن حتى يعودوا لارتكـاب الجرائم، ولو كانت العقـوبة رادعة لما عادوا، لما عوقبوا عليه بهذه السرعة ثم ذكر إحصائيات تدعم ذلك.

ومن الطريف ما ذكره بعض الكتاب أنهم في أمريكا قاموا بعرض أفلام على السجناء عن بعض المجـرمين وكيف كانت نهايتهم المحـزنة، وأن الجـريمة لم تجرهم إلا إلى الخيبـة والفشل، ثم استطلعوا آراء السجناء ليعرفوا مدى تأثرهم بهذه الأفلام وتأثيرها في سلوكهم، وكان الباحثون يتوقعون أن يعتبر السجناء بمصير المجرمين ويتعظوا، ولكن الذي حصل هو أن السجناء كانوا يركزون على البحث في نقاط الضعف في الخطط التي سلكها المجرمون، ويركزون على الأخطاء التي صدرت عنهم، وكانت سببا في القبض عليهم، فكانوا يقولون لو أن المجرم عمل كذا لنجا، ولو أنه لم يعمل كذا لما قبض عليه وهكذا، مما يدل على تأصل الروح الإجرامية في هؤلاء، وأن السجن لم يزدهم إلا عتوا وتمردا، مصادقا لما ذكره عودة ’.

خامسا: ازدياد سلطان المجرمين بعد خروجهم من السجن وتمردهم على المجتمع.

سادسا: انخفاض المستوى الصحي والأخلاقي نظرا لأن السجون ثابتة المساحة. بينما السجناء يزداد عددهم يوما بعد يوم، وبالتالي ينخفض مستوى الخدمات التي تقدم لهم.

سابعا: ازدياد الجرائم: وقد وضعت عقوبة الحبس على اختلاف أنواعها لمحاربة الجريمة ولكن الإحصائيات التي لا تكذب تدل على أن الجرائم تزداد عاماً بعد عام زيادة تسترعى النظر وتبعث على التفكـير الطويل ثم أورد الإحصائيات الرسمية التي تؤيد ذلك.


ثامنا: وأمر مهم أغفله "عودة" ’ ألا وهو وضع عوائل المسجونين. من ينفق عليها، ومن يقوم بشأنها، ومن يتـولى تصريف شئونها وتدبير أمورها، من يغمر صغارهم بالعطف والمودة، لاشك أن أسرة السجين سوف تتعرض للضياع، وربما لحقت بوليها في ركـاب الإجرام نتيجـة الانحراف الذي ينجـرف بها إلى الإجرام، وبسبب الحاجة الماسة وانعدام الشفقة والعطف، وربما قيل إن المجرم وجوده كعدمه في الأسرة. بل قد يكون وجوده وبالا عليها وسببا في ضلالها وانحرافها إن كان وليا لها أو مجرد فرد من أفرادها ربما قيل ذلك.


ولكننا نقول

أولا: إن أكثر المسجونين والعدد الأكبر منهم ليسوا مجرمين بمعنى الكلمة كـما ذكـر "عودة" ’، وليست قضاياهم بالقضايا الإجرامية الخطيرة، بل قد لا تكون جريمة على الإطلاق، ولكنها مخالفة بسيطة وبالتالي فلا خوف على السجين لأنه ليس مجرما.

ثانيا: إن المجرم مهما كان متماديا في الأجرام فإنه أولى برعاية أسرته وهو أشفق عليها وأرحم بها من غيره، كـما أن الحيوانات المتوحشة تعطف على أبنائها وتربيهم رغم ما فيها من القسوة والوحشية، فكذلك هذا الإنسان المجرم اللهم إلا في الجرائم الخطيرة جدا وهي قليلة نادرة فقد تقتضي المصلحة عزلة الَمجرم وإبعاده عن أسرته لألا يفسدها وهذا نادر.فمن هذه الوقفة يتبـين لنا كيف أن العقوبات الإسلامية هي أفضل بكثير من العقوبات الوضعية التي تتمثل أكثر مما تتمثل بالسجن المؤقت أو المؤبد والذي ذكرنا شيئا من مساؤه وعيوبه فالعقوبات الإسلامية أفضل في حق المجرم وفي حق المجتمع.



وختاماً نقول:

إن الغاية الكبرى من هذه العقوبات هو التخويف والردع الذي يمنع وقوعها ابتداء ، ولا يُحوِج إلى اللجوء إليها إلا في أضيق الحدود : فإن هؤلاء الذين يشنعون بهذه العقوبات يتصورون خطأً أنها كالعقوبات الوضعية ، ستطبق كل يوم ، وعلى أعداد غفيرة من الناس ، فيتصورون في المجتمع الإسلامي مجزرة هائلة : هذا يُجلد ، وهذا يُقطع ، وهذا يُرجم . ولكن الواقع أن هذه العقوبات الرادعة ؛ لا تكاد تنفذ إلا في نطاق محدود ، وعلى أعداد يسيرة غارقة في الفساد ، ومتأصلة في الشر والإفساد ، وفي إيذاء الأمة ، وزعزعة أمنها واستقرارها ([20]) .

وللدكتور محمد سعيد البوطي كلام قيم في هذا المعنى ، أنقله مع طوله ، حيث يقول : « إن ادعاء القسوة والشدة في حدود الشريعة الإسلامية ؛ مظهر من مظاهر السطحية في فهمها ، بل الجهل العجيب بطبيعتها وأنظمتها وقيودها . وإن كل دارس للشريعة الإسلامية يدرك أن ما قد يبدو في حدودها من القسوة لا يعدو أن يكون قسوة تلويح وتهديد . فهو أسلوب تربوي وقائي أكثر من أن يكون عملاً انتقامياً أو علاجاً بعد الوقوع . وهي بهذا تنطلق من أدق الأسس التربوية السليمة للمجتمع . وتبرز هذه الحقيقة إذا لاحظنا الأمور التالية : أولاً : لقد أعلنت الشريعة أن عقوبة الزاني المحصن هي الرجم . وهو إعلان مخيف ، وتلويح بسلاح رهيب ولا شك . ولكنها شرطت لإيقاع هذه العقوبة أحد الشرطين : الاعتراف القاطع الصريح ، أو شهادة أربعة شهود برؤية الفعل على حقيقته . فأما الإقرار : فشيء نادر لا يقام عليه أي اعتبار . وعندما يقع هذا الشيء النادر ؛ فإن على القاضي أن يبادر فيقطع سبيل الإقرار على الزاني قبل أن يتفوه بالاعتراف القاطع الصريح ، وأن ينصحه بالتوبة والستر .. وكلنا يذكر هدي رسول الله ‘ في ذلك . وأما الشهادة : فإن علينا أن نلاحظ أن ثلاثة أرباع الشهادة التامة فيها ؛ تنقلب ردعاً للشاهد وزجراً له عن التفوه بالشهادة ؛ كي يظل المتهم في حماية من الستر ونجوة من العقاب . وحسبك أن تعلم أن عدد الشهود ما لم يتكاملوا أربعة ؛ يعدّون آثمين متلبسين بجريمة القذف ، وتغدو شهاداتهم سبباً لإنزال العقوبة عليهم بدلاً من أن تكون موجباً لأخذ المتهم بجريمة الزنا . فإذا ما تكامل الشهود أربعة ؛ فإن العقوبة تتحول عندئذ إلى المشهود عليه ، حيث يستحق عقوبة الزنا ... فإنه لم يقترف جريمته هذه بحيث رآه متلبساً بها أربعة من الرجال الثقات العدول ، إلا وهو مستعلنٌ بعمله في الناس ، مستهينٌ بكرامة الأمة وسمعة المجتمع . وتصرف من هذا القبيل من شأنه أن ينشر وباء الفاحشة فيه كما تنتشر النار في الهشيم . لا جَرَمَ أن فاحشة تُرتكب بهذا الشكل تستدعي عقوبة صارمة ، تحقق الغاية المرجوّة منها ، وهي العبرة والردع . ثانياً : لقد أعلنت الشريعة الإسلامية أن الحدود تُدرأ بالشبهات ، وهي قاعدة فقهية كبرى ، أجمع على الأخذ بها جماهير الأئمة والفقهاء . ومعنى القاعدة : أن أي احتمال لعدم تكامل شروط إقامة الحد يطوف بالمتهم ، أو بالظرف الذي تمت فيه الجريمة ، يُسقط الحد ويلغي ثبوته . وعلى الحاكم أن يستعيض عنه بما يراه من أنواع العقوبات التعزيرية الأخرى .

وإننا لنتأمل فنجد أن هذه الاحتمالات كثيرة متنوعة لا تكاد تتناهى ؛ وننظر ؛ فنجد لها التطبيقات الكثيرة والمختلفة في عهد الصحابة والتابعين ، كما نجد لها التطبيقات المتنوعة في تخريجات الفقهاء وفتاواهم . فإذا ما ألغي الحد لشبهة ؛ فإن الجاني لا يؤخذ عندئذٍ إلا بمسؤوليتين اثنتين : أولاهما : التسوية الحقوقية ؛ إذا كانت الجناية مما يستلزم ذلك ، كالسرقة وقطع الطريق ، حيث يجب أن يغرم السارق ما قد سرقه .. وهو خطاب وضعي يُواجه به حتى مَنْ لم يكن أهلاً للتكليف . الثانية : عقوبة التعزير ، ويتخير الحاكم نوعها وكيفيتها وكميتها حسب ما تقضي به المصلحة ، ويحقق الغاية من شرع العقوبات .. فتلك هي قصة القسوة التي ينعت بها بعض الناس حدود الشريعة الإسلامية . وإنه لنعتٌ ظالم باطل ، يندفع إليه من لا يريد لهذه الأمة أن ترقى إلى شيء من الالتزام بمنهج الفضيلة والخلق الإنساني القويم . ويشفق على وباء الإباحية الذي تسفيه علينا رياح الغرب والشرق ؛ أن ينقطع سيله ، أو تسكن ريحه . وإنه لشيء مثير للعجب حقاً ؛ أن يُضخم أناس من مظهر هذه القسوة الخيالية التي عرفنا حقيقتها ، في غيبوبة من التأمل العقلي ، ثم لا يلتفتوا بأي نظرة إلى النتائج الإنسانية الحميدة التي تنبسط في ساحة المجتمع كله لدى اتخاذ قرار جاد بتطبيق هذه الحدود . وأعجب من هذا أن يعبِّروا عن مشاعر الرحمة في نفوسهم ، بصدد ما يتخيلونه من قسوة الحدود ، ثم لا يستشعروا أي رحمة بالمجتمعات التي تشيع فيها القرصنة وينتشر الإجرام ، وتزهق فيها الأرواح رخيصة طمعاً في تمزيق عِرْض أو الوصول إلى مال ! ولَكَمْ سمعنا وقرأنا قصص أُسَرٍ طاف بها الموت في جوف الليالي خنقاً أو تذبيحاً ؛ ابتغاء اقتناص ثروة من المال !! كل هذه الشراسة المتوحشة لا تحرك قلوب أولئك الذين يمثّلون الرحمة والرحماء ، حتى إذا ما أقبلت الشريعة الإسلامية تلوّح بعصا التأديب التي لا بديل عنها لتقي المجتمع من هذه الفوضى والوحشية المرعبة ، وتغرس في مكانهما الأمن والنظام والرحمة ؛ استشعَروا القسوة فجأة ، وتذكروا الرحمة على حين غرة !! » ([21]) .









--------------------------------------------------------------------------------

([1])( وهذه الفقرة ملخصة من هذه البحوث المشار إليها وقد أدخلت عليها بعض العناوين من عندي ونقول بعض أهل العلم )انظر بحوث فى الحدود فى الإسلام :

- الحدود في الإسلام - للدكتور جمعة علي الخولي رئيس قسم الدعوة بالجامعة - مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ربيع الآخر - رمضان 1401هـ.

- طبيعة العقوبة في الشريعة الإسلامية ومثاليتها- للدكتور حمد الحماد كلية الشريعة -الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - السنة السادسة عشرة ،العدد الثاني والستون ربيع الآخر جمادى الآخرة 1404هـ.

- دفاع عن العقوبات الإسلامية للشيخ محمد بن ناصر السحيباني - عميد كلية الشريعة بالجامعة - الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - السنة السادسة عشر - العددان الثالث والستون والرابع والستون رجب - ذو الحجة 1404هـ.

- دحض الشبهات التي تثار حول العقوبات الشرعية- د. عبد العزيز بن فوزان بن صالح الفوزان- أستاذ الفقه المساعد ، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، بالرياض - مجلة البيان العدد 192 – شعبان 1424 – أكتوبر 2003 – الصفحة 118.



([2]) أخرجه البخاري انظر فتح الباري ج/13 ص 264.

([3]) المسند ج/6 ص 57، الفتح الرباني ج/7 ص 116.

([4]) وذلك كالسرقة عام المجاعة ، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الضرورة شبهة قوية تدرأ حد السرقة ، وهو ما فعله عمر مع غلمان حاطب بن أبي بلتعة ، حيث درأ عنهم الحد لما سرقوا في عام مجاعة ، وقال رضي الله عنه : (أما والله ! لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم ، حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه ، حلّ له ، لقطعت أيديهم) ، ولأن من شروط قطع السارق : أن يكون مختاراً ، ولا اختيار له عند الجوع الموفي على الهلاك ، ولأن له أن يأخذه ما دام مضطراً إليه ، وقد حكى الماوردي الإجماع على سقوط القطع لشبهة الضرورة ، فقال : (روي عن مروان بن الحكم أنه أتي بسارق سرق عام مجاعة ، فلم يقطعه ، وقال : أراه مضطراً ، فلم ينكر عليه أحد من الصحابة وعلماء عصره ، فكان إجماعاً) ، وعلى الرغم من أن ابن حزم لا يقول بدرء الحد بالشبهة ، إلا أنه ذهب في هذه المسألة مذهب الجمهور ، فدرأ الحد عن السارق للضرورة ، وفي ذلك يقول ابن القيم : (وهذا محض القياس ، ومقتضى قواعد الشرع ، فإن السّنة إذا كانت سنة مجاعة وشدة ، غلب على الناس الحاجة والضرورة ، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما يسد به رمقه ، ويجب على صاحب المال بذل ذلك له ، إما بالثمن أو مجاناً ، على الخلاف في ذلك ، والصحيح وجوب بذله مجاناً ، لوجوب المواساة وإحياء النفوس مع القدرة على ذلك ، والإيثار بالفضل مع ضرورة المحتاج ، وهذه شبهة قوية تدرأ القطع عن المحتاج ، وهي أقوى من كثير من الشبه التي يذكرها كثير من الفقهاء ، لا سيما وهو مأذون له في مغالبة صاحب المال على أخذ ما يسد رمقه ، وعام المجاعة يكثر فيه المحاويج والمضطرون ، ولا يتميز المستغني منهم ، والسارق لغير حاجة من غيره ، فاشتبه من يجب عليه الحد بمن لا يجب عليه ، فدري) ، انظر : إعلام الموقعين ، 3/11 - 12 ، والمغني ، 12/462 ، والمهذب ، 2/282 ، والحاوي الكبير ، 18/108 ، والمحلى 11/343 ، وأحكام السرقة في الشريعة الإسلامية والقانون ، للكبيسي ، ص 320 - 321 ، وحديث غلمان حاطب ، أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ، في كتاب السرقة ، باب ما جاء في تضعيف الغرامة ، 8/278 ، و عبد الرزاق في المصنف في كتاب اللقطة ، باب سرقة العبد ، 10/238 - 239 .

([5])انظر : شبهات حول الإسلام ، ص 154 - 155 ، وفي التشريع الإسلامي ، ص 97 - 98 ، وأثر تطبيق الحدود في المجتمع ، ص 169 ، والمهمة المزدوجة للتشريع الجنائي الإسلامي ، مقال للدكتور : جمال الدين محمود ، في مجلة التضامن الإسلامي ، ص 47 ، ذو القعدة ، 1408هـ .

([6])الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر ، ص 27 - 28 .

([7])حيث نقرأ يوميا عن الجرائم البشعة التي لا تتصـور، حيث تداهم البيوت والمؤسسات المالية ويهجم على المصارف ويختطف التجار والسياسيون، أو أبناؤهم ولا يطلقون إلا مقابل فدية مالية كبيرة، وتختطف الطائرات أما لأغراض سياسية أو لأغراض إجرامية بحته، وأصبح الناس في كثير من الدول التي تزعم أنها متطورة ومتقدمة وفي قمة الحضارة، أصبح الناس يحذرون من التجول بعد غروب الشمس، وهذا الأستاذ محمد قطب يذكر في إحدى محاضراته أنه في سان فرنسسكو حدثه أكثر من شخص وأنه قرأ في الصحف كذلك، أن الإنسان لا يملك أن يخرج وحـده في هذه المدينة بعد غروب الشمس، ويقول: كنت في زيارة قصيرة لمدينة صغيرة في فلادليفيا مدينة أشبه بالمدن الريفية وهي بالنسبة لمدننا كبيرة ولكنها بالنسبة للمدن الأمريكية صغيرة جدا، وجاء الغروب فحدثتنا أنفسنا أن نخرج قليلا للتنزه، فقال لنا المقيمون هناك، احذروا، لا تستطيعون أن تخرجوا، قلنا لماذا، قالوا بسبب العصابات، حيث إنها تبدأ عملها بعد غروب الشمس، قتلا وخطفا وسرقة.
وهذه دولـة من الـدول الحـديثة، المتقدمة صناعيا، وهي ألمانيا، تقول عنها إحدى الجـرائـد اليومية، أنه في تقرير نشر عنها أظهر أن لصوص ألمانيا الغربية يحافظون على سمعة مواطنيهم، بوصفهم شعباً عرف بتفانيه في العمل، فقد أوضح التقرير أن هؤلاء اللصوص يرتكبـون حادث سرقـة كل دقيقة في شتى أنحـاء البلاد، وتقدر لجنة غير حكومية قيمة الممتلكات التي تتعرض للفقد أو الإتلاف نتيجة للسرقات بثلاثة آلاف مليون مارك في العام الواحد، وقد طالبت اللجنة المواطنين الذين يقضون عطلاتهم خارج مساكنهم بتأمين منازلهم بواسطة الأقفال والسلاسل، أو أجهزة الإنذار. ولم يزل الإجرام يفتك بالـدول الغـربية وغـيرهـا حتى أصبـح المجرمون لهم مراكز خطيرة، وكلمة نافـذة، بل أصبـح لهم مؤسسـات رسميـة أو شبه رسمية، تحميهم وتدافع عنهم، حتى صاروا كـما يقال حكـومات داخل الحكومات.

([8])انظر : حد السرقة بين الإعمال والتعطيل ص 209 ، وأثر تطبيق الحدود في المجتمع ، ص 169 .

([9])انظر : التشريع الجنائي الإسلامي ، 1/644 .

([10])قواعد الأحكام في مصالح الأنام ، ص 35 - 36 ، الطبعة القديمة ، 1/12 .

([11])ويعلق أ/ سيد قطب ’ على المعترضين على حكم الله U فى قضية القطع قائلاً(وأعجب بعد ذلك ممن يقولون : إن عقوبة القطع لا تتفق مع ما وصلت إليه الإنسانية والمدنية في عصرنا الحاضر . كأن الإنسانية والمدنية أن نقابل السارق بالمكافأة على جريمته ، وأن نشجعه على السير في غوايته ، وأن نعيش في خوف واضطراب ، وأن نكد ونشقى ليستولي على ثمار عملنا العاطلون واللصوص!

القسوة لا بد أن تتمثل في العقوبة حتى يصح تسميتها بهذا الاسم والله سبحانه وهو أرحم الراحمين يقول وهو يشدد عقوبة السرقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله فهي تنكيل من الله رادع والردع عن ارتكاب الجريمة رحمة بمن تحدثه نفسه بها لأنه يكفه عنها ورحمة بالجماعة كلها لأنه يوفر لها الطمأنينة ولن يدعي أحد أنه أرحم بالناس من خالق الناس إلا وفي قلبه عمى وفي روحه أنطماس والواقع يشهد أن عقوبة القطع لم تطبق في خلال نحو قرن من الزمان في صدر الإسلام إلا في آحاد ; لأن المجتمع بنظامه والعقوبة بشدتها والضمانات بكفايتها لم تنتج إلا هذه الآحاد ثم يفتح الله باب التوبة لمن يريد أن يتوب على أن يندم ويرجع ويكف ; ثم لا يقف عند هذه الحدود السلبية بل يعمل عملا صالحا ويأخذ في خير إيجابي فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم فالظلم عمل إيجابي شرير مفسد ; ولا يكفي أن يكف الظالم عن ظلمه ويقعد بل لا بد أن يعوضه بعمل إيجابي خير مصلح على أن الأمر في المنهج الرباني أعمق من هذا فالنفس الإنسانية لا بد أن تتحرك فإذا هي كفت عن الشر والفساد ولم تتحرك للخير والصلاح بقي فيها فراغ وخواء قد يرتدان بها إلى الشر والفساد فأما حين تتحرك إلى الخير والصلاح فإنها تأمن الارتداد إلى الشر والفساد ; بهذه الإيجابية وبهذا الامتلاء إن الذي يربي بهذا المنهج هو الله الذي خلق والذي يعلم من خلق وعلى ذكر الجريمة والعقوبة وذكر التوبة والمغفرة يعقب السياق القرآني بالمبدأ الكلي الذي تقوم عليه شريعة الجزاء في الدنيا والآخرة فخالق هذا الكون ومالكه هو صاحب المشيئة العليا فيه وصاحب السلطان الكلي في مصائره هو الذي يقرر مصائره ومصائر من فيه كما أنه هو الذي يشرع للناس في حياتهم ثم يجزيهم على عملهم في دنياهم وآخرتهم ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير فهي سلطة واحدة سلطة الملك يصدر عنها التشريع في الدنيا ويصدر عنها الجزاء في الآخرة ولا تعدد ولا انقسام ولا انفصام ولا يصلح أمر الناس إلا حين تتوحد سلطة التشريع وسلطة الجزاء في الدنيا والآخرة سواء و لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله. إ.هـ)(فى ظلال القرآن جـ2 صـ362،363)





([12])العقوبات الجنائية في التشريعات العربية: د. توفيق الشاوي الصفحات 24، 73- 5 7-77.

([13])العقوبات الجنائية في التشريعات العربية. د. توفيق الشاوي الصفحات 24، 73- 75.

([14])العقوبات الجنائية في التشريعات العربية. د. توفيق الشاوي الصفحات 24، 73- 75.

([15])العقوبات الجنائية في التشريعات العربية. د. توفيق الشاوي 24، 73- 75.

([16])التشريع الجنائي الإسلامي ج 1ص 9 68.

([17])التشريع الجنائي ج1 ص 381.

([18])محاضرات عن المسئولية الجنائية في التشريعات العربية. د. توفيق الشاوي ص 32.

([19])نقلتها من التشريع الجنائي ج1 من الصفحة 732-.74. ملخصة بشيء من التصرف.

([20])انظر : شبهات حول الإسلام ، ص 155 .

([21])على طريق العودة إلى الإسلام ، ص 129 - 134 ، مع تصرف يسير .