الإعجاز التصويري
"التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن, فهو يعبر عن الصورة المحسة المتخيلـة عن المعنى الذهني، وصور الحالة النفسية والحادث المحسوس والمشهد المنظــور, وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية، ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحيــاة والحركة المتجددة، فإذا بالمعنى الذهني هيئة، وإذا بالحالة النفسية لوحة، وإذا النموذج الإنساني شاخص، وإذا الطبيعة مجسمة، وإذا الحوادث والمشاهد والقصص والمناظــر يرجعها لنا فيجعلها شاخصة حية، فإذا أضفت لهذا المشهد وهذه الصورة الحـــوار فكأنك تتخيل مشهد من مسرحية أو فيلم يعرض أمامك.."
(سيد قطب - التصوير الفني في القرآن)
ويقسم لنا سيد قطب -رحمه الله- التصوير إلى قسمين..
1- المعاني الذهنية
يخرج لنا الأشياء والمواقف بصورة حية محسوسة .. وإليكم بعض النماذج..
يريد الله أن يبين لنا أن الذين كفروا ليس لهم أمل في الجنة، وأن قبولهم في الجنة أمر مستحيل .. هذه الألفاظ يعبر عنها القرآن بأعجاز بليغ في صورة فنية رائعة بقوله تعالى
{ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ}
(سورة الأعراف، 40)
فيرسم لنا القرآن صورة إنسان يمسك بحمل غليظ "الجمل" ويحاول أن يدخله في فتحة إبره "سم الخياط" فهل يمكن ذلك؟؟
يستحيل ..! فتخيل ذلك لتعبر بها عن استحالة دخول الكفار الجنة
=====
ويصور لنا القرآن صورة فنية عن أعمال هؤلاء الذين كفروا .. وأنها ليست بشيء مهما كثرت أعمالهم .. لأنها خلت من الإيمان فلا قيمة لها .. ولا يستطيعون جمعها لأن الله قد شتتها
{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ}
(سورة إبراهيم، 18)
فهؤلاء الكفار يوم القيامة يحاولون جمع أعمالهم كمن يحاول جمع الرماد المتطاير مع الريح في يوم عاصفة.
=====
وصور لنا صورة المشرك الذي يحاول أن يجمع الأموال والأنصار والمناصب فيقول تعالى..
{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}
(سورة الحج، 31)
فهو كالذي سقط من السماء فجاء طير سريع وخطفه فجأة .. فلا أحد يعلم أين ذهب به .. أو كالذي سقط من السماء فجاءت ريح فأنزلت فيه مكان بعيد جدا ليس له نهاية .. فهذا الشخص ليس له بداية "خر من السماء" وليس له نهاية "في مكان سحيق"
=====
ويصور لنا صورا لأقسام المتصدقين .. فيقول واصفا المرائي
{ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الكَافِرِين}
(سورة البقرة، 264)
[color=sky blue]فالمُرائي[/color] ... كالحجر اليابس "صفوان" الذي عليه طبقة رقيقة من التراب فيخيل للناس أنها أرض خصبة صالحة للزراعة .. ولكن عندما يصيبها المطر "الوابل" ينكشف الحجر ويظهر للناس أنها أرض غير طيبة..
ويصف لنا صورة المتصدق المخلص بقوله..
{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
(سورة البقرة، 265)
والمتصدق المخلص .. كالبستان الذي ينبت على تل مرتفع يكون كله تراب من أوله إلى آخره "ربوة" فإن أصابها المطر "الوابل" أعطت ضعف ثمارها .. حتى ولو كان المطر خفيفا "الطل" فإنها ستعطي الثمار .. ولا فرق عند الله بين كثير وقليل إذا صلحت النية
=====
2- المعاني النفسية
يصور لنا بها خلجات النفس .. وما يدور في خلد الناس في بعض الأحوال .. نذكر بعضا منها..
يكشف الله لنا عن حال الذي هيّأ الله له العلم فتركه وفر منه وانشغل بالدنيا وملذاتها، فيقول تعالى واصفا إياه بصورة رائعة
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}
(سورة الأعراف، 175،176)
فهذا حال من ترك العلم ولهث وراء الدنيا..
=====
ويضرب الله لنا مثل المؤمن الذي لم يستقر الإيمان في قلبه .. فهو متزعزع العقيدة راغب في الدنيا
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}
فيصفه الله أنه على طرف الهاوية فعند أول اختبار له يسقط فيها .. فذلك ليس له ربح لا في الدنيا ولا في الآخرة
=====
ويمثل لنا يوم القيامة.. ذلك اليوم المفزع وما يحدث فيه من بعث وحشر للناس ..
{خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ}
(سورة القمر، 9)
وإنه لمن أعجب المناظر التي تفيد الكثرة .. منظر الجراد المنتشر المتزاحم .. فالناس يوم الحشر كالجراد المنتشر في الأرض
=====
كما وصف لنا يوم القيامة بقوله
{إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلا}
(سورة الإنسان، 27)
فيا عجبا من هذا الوصف!! من يستطيع وزن اليوم؟؟ يزنه من خلقه .. ويدل لنا على شدته على النفوس..
=====
ومن أعجب ما هو موجود في القرآن .. أسلوب قص المناظر .. فعندما وضع سيدنا يوسف عليه السلام صواع الملك في متاع أخيه "بن يامين" وأخذه بحجة السرقة .. وحالوا أن يسترجعوه فلم يفلحوا .. عندها اجتمعوا وذكروا بعضهم بالوعد الذي وعدوه أباهم بحماية أخيهم فقال كبيرهم
{ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَفِظِيِن * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}
(سورة يوسف، 81،82،83)
فمن بعد ما ذكر ما حصل معهم في مصر انتقل مباشرة إلى رد فعل يعقوب عليه السلام .. ولم يحتج إلى ذكر أنهم رجعوا وقابلوا أبيهم فشعر بفقدان ولده فسألهم عنه فقالوا إنه سرق .. إلى آخر الأحداث..
يتبع بإذن الله
Bookmarks