المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الاحكام التشريعية فى الاسلام



ابن القيم
09-04-2004, 05:18 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

انقل لكم هذا المقال لشيخنا "الخطيب" والذى اتمنى ان ينضم الينا ههنا فى هذا المنتدى المبارك .. فهو ممن لهم باع طويل فى الحوار مع الملحدين واللاددينيين .

إن الحديث عن الحكم التشريعية أمر يتعامل معه واقعيا من خلال استجلاء موقفين:

الأول- موقف الباحثين وهم ليسوا على مقصد واحد فبعضهم يبحث لأجل إقناع الآخرين بالحكم الرباني وبعضهم يبحث لأجل إثناء الآخرين عن الحكم الرباني فيكون كمن يتبع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء الزيغ والإضلال والصد عن سبيل الله
وأيًا ما كان المقصد والغرض من البحث فيجب أن ينظر إلى الإجابة عن ذلك على أنها جهد بشري قابل للصواب بقدر ما هو قابل للخطأ
وبالطبع فالكلام هنا لا يشمل الأحكام التي اهتم الوحي بالنص على حِكَمِها

والثاني- موقف المؤمنين وهو موقف متناغم مع معنى الإيمان الذي هو التصديق واليقين فالمؤمن ليس بحاجة إلى البحث عن الحكمة لأنه مسجًى بغطاء الإيمان الذي يقيه زلل العقل الذي حين يعتمد على مقدمات مبتورة ناقصة فيصل إلى نتائج عوراء عرجاء
وعلى هذا فالبحث عن الحكمة التشريعية هو شأن الباحثين وليس المؤمنين
وهل في ذلك ما يغض من قدر العقل في الفكر الإسلامي ؟
كلا بل هو احترام له ووقوف به عند حدوده فالعقل مهما بلغ ذكاؤه محدود بحدود ومقيد بقيود خاصة في التعامل مع أحكام الوحي التي هي بدورها في مكان سامٍ يرتقي فوق قدرات العقل أما إعمال العقل في مجاله فهو أمر محبب وقد دعا إليه القرآن في العديد من آياته وتبقى آفتنا الحقيقية كامنة في الزج بالعقل فيما لا مجال له فيه وهذه هي النقطة التي لا يلتقي فيها الإسلاميون مع غيرهم عند طرح القضايا الدينية لأن غير الإسلاميين يتجاهلون تماما ميتافيزيقياالأديان

· في التصدي للوقوف على الأحكام من خلال القرآن والسنة أو القرآن فقط عند بعض العصرانيين
الواقع أن هذه مسألة جد خطيرة لا ينبغي إغفالها فإنه لا يجيد التعامل مع القرآن والسنة استنباطا للأحكام منهما إلا المؤهلون لذلك الذين بلغوا رتبة الاجتهاد وعلى ذلك فالقفز على التراث الفقهي الهائل الذي خلفه لنا الفقهاء هو أمر مجانب كل المجانبة للصواب
وليس معنى ذلك أننا نقدس الأفراد تقديسنا للوحي لا بل يجب أن ينظر إلى المسألة من زاوية أخرى وهي زاوية التأهيل والتخصص فكما لا يتكلم في الفيزياء إلا فيزيائي ولا في الكيمياء إلا كيميائي ولا في الطب إلا طبيب فكذلك يجب عدم التسور على تخصص الفقهاء الذين امتلأت أجوافهم بالزاد اللازم للاجتهاد وتحصل درجة الاجتهاد كما في الموافقات للشاطبي لمن اتصف بوصفين أحدهما – فهم مقاصد الشريعة على كمالها
والثاني – التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها . وتفصيل ذلك في المرجع المذكور .
وهذا التمكن من الاستنباط الذي أشار إليه الشاطبي هو أثر لمعارف عديدة يجب أن تتوافر لدى المستنبط أهمها ما يلي:
- العلم بالقرآن الكريم
- العلم بالسنة النبوية
- العلم باللغة العربية
- معرفة مواضع الإجماع ومواضع الخلاف
- العلم بأصول الفقه وما فيه من قوانين القياس وغيره
- معرفة مقاصد الشريعة عامة والغاية التي من أجلها بعث الرسول صلى الله عليه وسلم
- صحة النية وسلامة الاعتقاد
- صحة الفهم والنظر العقلى
هذه هي أهم الشروط التي ينبغي أن تتوافر فيمن له التصدي للاجتهاد ، وهناك من توسع في هذه الشروط أكثر من هذا

وعلى ذلك فلسنا نقول: إن البحث في القرآن والسنة مباشرة هو حكر على أحد معين بل هو متاح لكل من استجمع الشروط المؤهلة له
والأحكام لا تؤخذ من قارئ للقرآن ولا من مشتغل بالحديث ولكن من فقيه مجتهد أحاط بالنص وما يتعلق به من عموم وخصوص وإطلاق وتقييد وإجمال وبيان ونسخ

ابن القيم
09-04-2004, 05:19 PM
دور العقل فى الوقوف على حكم التشريع الربانى:

يوما ما دار حوار بيني وبين صديق لى من أهل العلم حول الهدف من تشريع بعض الأحكام والتكاليف الشرعية ، كالصلاة والصوم ، حيث وجدته يكرر ما نسمعه فوق المنابر من تعليل لهذه الأحكام ، وبيان لحكمة تشريعها ، مما يكون مقنعا أحيانا ، وبعيدا كل البعد أحيانا أخرى ، فقال لى: هل تنكر أن هناك حكما للتشريع ؟ فقلت: كلا لكننى أنكر التكلف فى ذلك وافتعال ما لا يعد فى ميزان الحق حكما فإن مثل هذا يضر أكثر مما ينفع .
ثم سألته: لماذا نبحث عن حكم التشريع ؟ فأجاب لكى نطمئن إلى عظمة التشريع الإلهى ولكى يكون وسيلة إلى جذب غير المسلمين إلى الإسلام حين يقفون على هذه الحكم قلت: إن هذا لغرض نبيل حقا لكنه أدعى إلى مزيد من الاهتمام والتركيز فى استنباطها حتى تكون مثمرة ومحققة للهدف المنشود منها ولنفرق بين ما هو فائدة قد ترتبت على التشريع وبين ما هو حكمة للتشريع ثم فارقته على أمل أن يتجدد لقاء بيننا ننظر فيه إلى ذات القضية بصورة أعمق ، ثم رأيت أن أثبت رؤيتى حولها فى هذه الكلمات :

بادئ ذى بدء يجب علينا أن نعى أن الحديث عن حكم التشريع هو حديث عن نتاج عقلى بشرى ، إذ إن هناك فرقا بين التشريع الذى هو إلهى ، وبين الحِكَم التى كانت وراء هذا التشريع فإن الحديث عن هذه الأخيرة هو حديث عن فهم بشرى واستنباط عقلى ، وغير خاف أن ما كانت العقول مصدره لا يسلم به عند جميع الناس ، ضرورة أن الناس مختلفون فى أفهامهم وسعة مداركهم ، ومن ثم فإنه لا يجوز لأحد أن يجزم بأن ما ذكره هو حكمة التشريع فى علم الله ، فإن ذلك تأل على الله تعالى ما لم يبين لنا من حكمة ، اللهم إلا إذا ذكرت هذه الحكمة فى القرآن أو جاءت على لسان النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه لا مجال حينئذ سوى التسليم ، وما وراء ذلك مجرد احتمالات قابلة لأن تكون خطأً كما أنها قابلة لأن تكون صوابا
إن الله ـ عز وجل ـ حين منحنا العقل حد له حدوداً لا يتخطاها ، وإن من كمال احترامنا لذاتنا ولعقولنا أن نقف بها عند الحد الذى رسم لنا ، وألا نتجاوزه ، لأن مجاوزة الحد ظلم وطغيان ، ومن الخطأ بمكان أن يعتقد واحد من الناس كائنا من كان – بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم – أنه مستوعب لأسرار الشريعة واقف على حقيقة المراد بكل تكاليفها ، بحجة أن له ذهنا وقادا ، وعقلا حادًّا يجيد التفكير ، وما أكثرهم فى هذه الأيام ،وينبهنا إلى خطورة هذا الاعتقاد الإمام أبوحامد الغزالى فى كتابه العظيم " إحياء علوم الدين " حيث قال:
" فى دقائق سنن الشرع وآدابه ، وفى عقائده التى تعبد الناس بها أسرار ولطائف ليست فى سعة العقل وقوته الإحاطة بها كما أن فى خواص الأحجار أموراً عجائب غاب عن أهل الصنعة علمها حتى لم يقدر أحد على أن يعرف السبب الذى به يجذب المغناطيس الحديد ، فالعجائب والغرائب فى العقائد والأعمال أكثر وأعظم ... فيكفيك من منفعة العقل أن يهديك إلى صدق النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويفهمك موارد إشاراته ، فاعزل العقل بعد ذلك عن التصرف ولازم الاتباع فلا تسلم إلا به "

وهذا ما يفيده كلام "على" حين قال : " لو كان الدين بالرأى لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه ، وقد رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يمسح على ظاهر خفيه "
هذه مقدمة قد تساعدنا على معرفة دور العقل فى الوقوف على حِكَم التشريع الربانى ، إذ ليس أجدى من ان يُشغَلُ العقل بالتفكر فى دين الله وكيف يقوم المرء بخدمته، وكيف يصير الدين أكبر همه ، وما من شك فى أن البحث عن حكم التشريع هو جزء من ذلك الهدف المنشود ووسيلة من وسائل خدمة هذا الدين وإظهار عظمة التشريع الربانى ، لكن يجب علينا أن نعلم أن للعقل حيال ذلك كله حدودا لابد من أن يقف عندها ولا يتخطاها ، لأن الحكمة من التشريع قد تكون ظاهرة فتدرك ، أو خفية فيُسَلَّم للحكم وإن خفيت حكمته ، لأن شعار المؤمن دائما مع ربه هو "سمعنا وأطعنا " فى كل ما يأمر به أو ينهى عنه ظهرت الحكمة من ذلك أو لم تظهر
وفى سبيل تحقيق هذا الغرض السامى الذى أشرت إليه ، دأب كثير من العلماء أثناء معالجتهم للموضوعات التشريعية ، أن يذكروا حكمة التشريع ، وهذا فعل طيب إن لاقى قبولاً واقتناعاً من المخاطب ، وهذا لن يتأتى إلا إذا انعدم التكلف فى افتعال هذه الحكمة ، فمن اللازم إذن أن تكون هذه الحكمة نابعة عن قناعة المتكلم أولاً ، حتى تقابل بقناعة من المخاطب ، فما يخرج من القلب ينفذ إلى القلب ، لكن أن تساق هذه الحكم افتعالاً وتكلفاً فهذا ما لا يرضاه المخاطب ، ولا يتقبله ، إذ كيف يتقبل قولاً لم يقتنع به قائله تمام الاقتناع ، بل ساقه افتعالاً وتكلفاً ، هنا نتذكر القول المشهور : " فاقد الشئ لا يعطيه "
وسأضرب لدعوى التكلف هذه من الأمثلة ما يدعمها كى لا تكون دعوى جوفاء ، لا حراك فيها ولا حياة

المثال الأول: الصلاة بين التريض والتعبد:
ما أكثر ما نسمع ونقرأ لمن يقول : إن حكمة تشريع الصلاة أو من حكم تشريعها أنها رياضة بدنية يستفيد منها الجسم .
فهل يعقل أن يكون الهدف من تشريع الصلاة هو هذا ، أو حتى من أهدافها ؟
الصلاة التى تصل العبد بربه ، وتغذى روحه ، وترتقى بها بعيداً عن شهوات البدن ورغباته ، لا يجوز ـ من وجهة نظرى ـ أن نتدنى بها إلى هذا الحد ، ولو كان التريض وسيلة للتعبد ، لكان من بين التكاليف أن نمشى أو نهرول أو نجرى كل يوم مسافة معينة ، فذلك أنفع للجسم من حركات الصلاة .

المثال الثانى: هل الصوم شرع حقا لكى يحس الغنى بجوع الفقير؟
وذلك أننا كثيرا ما نسمع ونقرأ لمن يقول : إن حكمة تشريع الصوم أن يشعر الغنى بجوع الفقير0 وهو كلام جميل طيب ، ولكن لا يعضده أن الصوم مفروض على الفقير أيضاً ثم ماذا يقال بعدما غرض القرآن نفسه فرضية الصوم وأنه بلوغ رتبة التقوى قال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " (البقرة:183).

المثال الثالث: هل الحكمة من مشروعية الوضوء مجرد النظافة ؟
وذلك أننا كثيرا ما نسمع ونقرأ لمن يقول: إن الحكمة من تشريع الوضوء هى النظافة ، ولست أدرى ماذا يقول صاحب هذه الدعوى فى بديله ، وهو التيمم ؟
والواقع أن كل ما قيل فى ذلك هو حق لا ينكر ، والاعتراض فقط هو على وصفه بأنه حكم للتشريع ، والأجدر أن يطلق على مثل هذا أنه فوائد مترتبة على التشريع ، لأن الحكمة هى التى تصلح أن تكون جوابا عن هذا السؤال " ما الهدف من تشريع حكم كذا ؟ " فحيثما صلحت الإجابة عن هذا السؤال وكانت مقنعة ، جاز لنا اعتبار هذا المذكور من حكم تشريع الحكم فيما يبدو لنا نحن البشر ، وتبقى الحكمة الرئيسة معلومة للمشرع0
إن المؤمن قوام إيمانه الإذعان لله والقبول لأحكامه ظهرت الحكمة أو لم تظهر ، قال تعالى : " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير " [ البقرة : 285 ] ، وقال سبحانه : " إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا " [ النور : 51 ] .
وكاتب هذه السطور يكرر تأكيده أنه لا يعارض الكشف عن الحكمة من التشريع أو البحث عنها بل يدعو إلى ذلك كله بشرط عدم التكلف فى هذا الأمر عندما تكون الحكمة غير ظاهرة - وبالأخص فى الأمور التعبدية التى يتعذر الوقوف على حكمتها إلا من يقيننا أنها إذعان لله وخضوع له ، وذلك وحده يكفينا – وإلا فقل لى بالله عليك لماذا رخص فى الفطر للمسافر وإن كان سفره فى منتهى الرفاهية والدعة ، ولم يرخص فى ذلك لأصحاب الأعمال الشاقة كالفرَّان ، والفلاح الذى يفلح فى أرضه ، والعامل فى حقل البناء وتشييد العمائر؟!!

ما مكمن الخطر فى المغالاة والإسراف فى التعلق بحكم التشريع ؟

مكمن الخطر فى هذا الأمر هو أن يعلق العبد قبوله لأحكام الله ـ عز وجل ـ على ظهور الحكمة أو العلة ، فإن هذا لا يتحقق دائماً ، بل إن ما لم يظهر لنا من هذه الحكم لهو أكثر بكثير مما ظهر ، والمؤمن الحق هو الذى يقبل على حكم الله ظهرت حكمته أو لم تظهر ، وفى التعبد من الطواعية والإذعان مما لم تعرف حكمته ، ولا تعرف علته - كما يقول سلطان العلماء العز بن عبد السلام في كتابه " قواعد الأحكام فى مصالح الأنام "- ما ليس فيما ظهرت علته ، وفهمت حكمته ، وفائدته ، لأن المتعبد لا يفعل ما تعبد به إلا إجلالاً للرب ، وانقياداً لطاعته ... "

والله الهادى إلى سواء السبيل