المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : السرد القصصي في الخطاب القرآني



فخر الدين المناظر
08-25-2007, 03:20 PM
عبد الرزاق المساوي

إن أول ما سيلفت انتباه المتلقي للخطاب القرآني العظيم ويثير فضوله العلمي والمعرفي هو أنه يحتوي على نصوص سردية قصصية متفرقة على طول خريطته من عتبته الأولى "الفاتحة" إلى عتبته الأخيرة "الناس".. وأنها ليست قصصاً كاملة مستمرة " سنكرونيا " في بنائها، فهي ليست خاضعة لتوالٍ زمني مألوف في كل فعل سردي يتوخى التواصل الهادف أي يرغب في حمل المتلقي على فهم رسالته وفي الوقت نفسه على جعله ينفعل لأثره ويستسلم له..

فحال السرد القصصي في القرآن الكريم جاءت على غير المألوف في جميع الثقافات، وعلى خلاف ما لحظناه في السرديات السابقة عليه سواء ذات الأصول السماوية أو ذات الأصول الوضعية.. فهو نسيج وحده، غير متأثر بغيره.. ومع ذلك فإنه حقق كل ما يمكن أن يتوخاه أي فعل سردي من تواصل هادف وأكثر.. بل لقد استطاع بمزجه للأحداث والوقائع والشخصيات مع المواضيع الأساس التي يتغياها الخطاب القرآني العظيم من خلال أسلوبي الترغيب والترهيب.. لقد استطاع أن يهئ الأسباب النفسية والأجواء الفكرية والأسس العقلية لكي ينفعل المتلقي بالأحداث ويتفاعل معها ويراها أمامه مصورة في شكل شريط على الرغم من تفرقها، ويعيشها مشاهد حية ناطقة وإن كانت متفرقة على مستوى الكتابة فقد اجتمعت على مستوى الذهن وتفاعلت على مستوى الوعي.. كما قد ينصهر المتلقي في بوتقتها كأن له بها صلات معينة أو تجذبه إليها جذبا يدخله أحيانا في تماه من نوع خاص..

هذه الظاهرة تعتبر من خصوصيات الخطاب القرآني ككل، لأننا نلحظ أنه لا يجمع آياته في شكل مواد معينة أو موضوعات محددة، ولا يرتبها حسب مضامينها، ولا يطرحها في إطار حقول موضوعاتية حسب تسلسل الأهمية أو المركزية الموضوعية.. خاصة وأن المواضيع التي يطرقها كثيرة وكثيرة جدا.. إلا أنها مبثوثة في ثنايا الكتاب الكريم ككل..

وتتجلى هذه الظاهرة - ظاهرة الكتابة بالشكل غير المألوف - بكل وضوح في السرد القصصي منه على الخصوص، بل وينفرد بكثير من خصائصها تحلية أسلوب! ية ورؤية جمالية ونظرة وظيفية وأفقا استشرافيا.. وقد تمثل هذه الظاهرة - في نظرنا على مستوى الأدبية- إعجازا بنائيا لهذا المكون من مكونات الخطاب القرآني الفريد..

إنها قصص متفرقة بشكل هندسي متفرد، وبإيقاع منسجم مع مكونات نصوص السور التي وردت فيها أو توزعت في ثنايا آياتها..

فالقصة القرآنية تمتزج بموضوع السورة امتزاجا عضويا لا مجال فيه للفصل بينها وبين غيرها من مجموع موضوعات السورة.. تلك السلسلة من الحلقات المختلفة شكلا، المتناغمة مضمونا، المتناسقة بناء، المتكاملة إيقاعا.. بحيث لو حذفنا القصة -أو قل مشهدا من مشاهدها- من موقعها الوارد في السورة لحصل عدم توازن موضوعي ولاختل المعنى لأن القصة تسهم في بيان مضمون النص وإيضاح معاني الخطاب وتعميق فكرته لدى المتلقي.. في جمال أسلوبي ورونق تعبيري وروعة لغوية ووحدة عضوية، وبكلمة واحدة: في إعجاز متكامل...

لقد جاءت كل قصص القرآن متفرقة حلقاتها موزعة أحداثها لا تجتمع عناصرها المكونة لها في سور بعينها، أو في أماكن منها بذاتها على الرغم من كون مجموعة من السور كانت عناوينها هي أسماء بعض الرسل عليهم الصلاة والسلام(1)، اللهم إلا ما كان من قصة يوسف عليه السلام، وإن كانت هي الأخرى – وهنا تتجلى الفرادة كما قلنا في تقديم القرآن الكريم للسرد القصصي - قد حضيت بالعناية الربانية نفسها التي طالت القصص القرآني جميعه بحيث سرد حلقة من حلقاتها المتميزة في سورة أخرى غير تلك التي تحمل اسمه عليه السلام وهي سورة غافر الآية(34) من قوله تعالى على لسان رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه: {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب}

إن هذه التفرقة على مستوى السرد القصصي، وعدم تجميعه في حيز محدد من خريطة الخطاب القرآني، وعدم التزام مسار زمني كرونولوجي على مستوى كتابته، تفيد تحديدًا عدم تاريخية هذه القصص لكن ليس بالمفهوم الذي يروج له بعض مثقفينا(2)، فالقصص القرآني حقائق حدثت، ووقائع عيشت، وصور تفاعلت في الزمان والمكان حبلى بالواقعية.. وشخصياتها برزت بذواتها بشحمها ولحمها في الوجود.. وحواراتها وصراعاتها وأحداثها وكل ما صوره القرآن الكريم عنها طفحت كلها على سطح الواقع وتحققت في فترات متباينة على مر العصور وتداول الأيام..

فهي ليست حكايات دون سند واقعي حقيقي ملموس في زمانه ومكانه.. ولكنها في البناء القرآني لا تمثل ال تاريخ بمفهومه الجامد، ولا يعنيها أن تكون تاريخًا بمعنى الزمن الماضي المتوقف الذي لا علاقة له بالحاضر إلا من حيث أنه أحداث وقعت ومضت، ولا يؤسس للمستقبل أو لا يشجع على النظرة الاستشرافية.. فالله تعالى يقول:{ تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون} هذه الآية الكريمة تتكرر مرتين، في الآية (134) والآية (141) من سورة البقرة، وهذا توكيد لا يدع مجالاً للشك بأن القرآن ليس مجالاً للبحث التاريخي بالمفهوم الرائج عند بعض المثقفين والمفكرين أو عند بعض ذوي الاختصاص، ولا يهدف إلى إيراد التاريخ بالمعنى المتداول في بعض الكتابات المعاصرة.. فكل أمة مسؤولة عما تعمل وانتهى أمرها بانتهاء عصرها أو اندثار مكونات زمانها، ولن تُسأل أمة عما فعلت أمة قبلها أو حتى إذا تزامنت معها.. ولكنها سوف تسأل عما قامت به هي نفسها بدءاً مما استفادته من أعمال الأمم قبلها، وانطلاقا مما أخذته من عبر وتفكر في الأحداث والوقائع.. وارتكازا على ما استخلصته من دروس وحكم.. فالآية لم تجمع بين "أمة قد خلت لها ما كسبت" و "لكم ما كسبتم" بشكل اعتباطي.. أبدا!.. إنه لم يتوقف عند "أمة قد خلت لها ما كسبت" وكفى.. وإنما ألحق بها ما أتى بعدها في سياق دال، وجرس دلالي محكم تنسج خيوطه لفظة "لها" في الزمن الغابر ولفظة "لكم" في الزمن الحاضر، والفعل "كسبت" في الماضي والفعل "كسبتم" في الحاضر والمستقبل.. ليربط بين بداية ونهاية مكونات الزمان التي تختتم في شكل دائري لا يعيد نفسه ولا يكرر ذاته كما شاع بين الناس، وإنما تأتي على قاعدة ﴿} وتلك الأيام نداولها بين الناس{﴾ (آل عمران:140) ولا يستحم في النهر مرتين..

إذن هناك قصدية معينة لا تخفى على كل متلق لبيب للسرد القصصي في القرآن.. فالقصة في القرآن لا تساق دون قصدية بل لغايات معينة وأهداف محدد ومرامي مقصودة، ولذلك نلحظ أن القرآن الكريم يذكر من عناصر ومكونات القصة ما يخدم تلك الغاية ويحقق ذلك الغرض ويبرز تلك المقاصد..

كما أن القصص القرآني ليس ضرب أمثال بالمفهوم الذي يعطى للمثل الذي (" نعجب به وننفعل له فهو صادق بالنسبة إلينا أما صدقه في نفسه فلا يكون موضوع سؤال مادام يثير فينا ذلك الانفعال المعبر عن الإعجاب والتصديق")..(3).. ولكن المنطق القرآني يجعل القصة والمثل احيانا يجتمعان في بعض ا! لخصائص منها الواقعية الحقيقية في سردها، كما يرسم أهدافا من وراء هذا ال سرد يطول الحديث عنها، ونحن نهدف إلى تخصيص هذه القراءة للوقوف على إشكالية طالما أثيرت في عصرنا الحديث وظننا لفترة من الزمن أنها دفنت بفعل عدم ثباتها أمام الحقائق العلمية والاكتشافات الأثرية وردود العلماء الشرعية.. إلا أنها أحييت من جديد من طرف بعض من ينصبون على رأس هرم الثقافة والفكر العربي والإسلامي في عصرنا الحاضر..

هذه الإشكالية هي تلك المقولة التي أبدعها المسيحيون وروج لها المستشرقون ورفع لواءها المستغربون وانساق وراءها المضللون.. تقوم – كما يقول الدكتور محمد عابد الجابري وهو من دعاتها - على("اعتبار القص القرآني نوعا من ضرب المثل، الهدف منه استخلاص العبرة، وبالتالي فلا معنى لطرح قضية الحقيقة التاريخية")(4) ثم يبين ويؤكد ما أجمله هنا في موضع آخر فيقول:(" فكما أننا لا نسأل عن صحة القصة التي وراء الأمثال التي تضرب لموقف أو حال الخ، لأن المقصود ليس أشخاصه بل مغزاه، فكذلك القصص القرآني في نظرنا. والصدق في هذا المجال لا يلتمس في مطابقة أو عدم مطابقة شخصيات القصة والمثل للواقع التاريخي، بل الصدق فيه مرجعه مخيال المستمع ومعهوده") (5)

ب* طبيعتها:

! لكل شيء في الوجود طبيعته الخاصة التي يتحلى بها وتميزه عمن سواه.. تبرزه في هيأته وتظهره في شكله: إما في شكله الذي هو عليه بطبعه وفطرته التي وجد عليها أول مرة.. وإما في شكله الذي تعارف به عليه متلقوه والمتعاملون معه الذين ألفوه وخبروه..

وللقصة بشكل عام طبيعتها التي تميزها عن غيرها من الأجناس التعبيرية والأنواع السردية والأشكال التواصلية الأخرى.. وهي طبيعة لها خصوصيات ذاتية تتمتع بها القصة ذاتها، صنعتها لنفسها بنفسها كنوع من الرسائل التي تعتمد المكونات السردية في بنائها.. ذلك أن السرد في وظيفته (" يركب ويعيد تركيب، ويبدع ويعيد تأسيس سلسلة متكاملة ومتداخلة من الوقائع والأحداث والشخصيات والخلفيات الزمانية والمكانية، لتجعل منها المادة الحكائية..") (6)، ذات المقومات المكتسبة نتيجة التفاعل الداخلي لمكوناتها الشخصية، وبفعل التلاقح المستمر مع كل مكونات الفعل المعرفي والمشهد الثقافي والهندسة العلمية والخريطة الأدبية..الخ.

وللقصة أيضا خصوصيات مكتسبة تساهم في بناء تلك الطبيعة، يفرغها عليها أو يكسبها إياها المرسل:القاص أو الراوي أو السارد، على اعتبار أنه كائن! حي يملك قدرات ومهارات وكفايات نفسية واجتماعية وفكرية وثقافية وعلمية و إبداعية تنتج وتؤثر في إنتاجها بل إنه يعتبر أول متلق نظرا لما يمارسه من قراءة داخلية خاصة به بفعل التدقيق والتنقيح والتنميق..

كما أن من خصوصيات القصة ما يضفيه عليها متلقوها من خلال قراءاتهم المتعددة والمتتالية والمتجددة.. على اعتبار أن المتلقي هو الآخر مشارك فعال في التأسيس والبناء لكونه حاضرا حتى قبل إنتاج الرسالة كمستهدف يتمثله المرسل في ذهنه قبل وبعد الكتابة.. ثم بعد ذلك لقراءاته المتعددة والمختلفة والمتباينة أحيانا، التي يملأ بها الفراغ الذي يحيط بالنص من جميع الزوايا ويسود بها البياض اللامتناهي الذي يغشى السطور والتعابير والكلمات.. ويضيف ما بقيت تحتاجه الرسالة في مستويات تركيبتها الأخيرة فهما وتفسيرا وتأويلا وحتى ليّاً لعنقها أحيانا..

وقد تجتمع كل هذه الخصوصيات – في أعلى مستوياتها – أو يتحقق بعضها - قل أو كثر - لتصاغ في الأخير تلك الطبيعة الخاصة بالقصة ولو في أدنى مكوناتها كطبيعة رسالية..

والقصة القرآنية لها خصوصياتها التي تتشكل منها طبيعتها الداخلية – من جهة - بحكم البناء الذاتي المتنامي دائما بشكل تلقائي، وعند تفاعلها مع باقي مكونا! ت الخطاب الذي تنتمي إليه والذي هو الخطاب القرآني.. وطبيعتها الخارجية – من جهة أخرى- بحكم أنها:

1: ملفوظ سامي صدر عن ذات عالية متعالية علوا كبيرا يمكن اعتبارها السارد الأعلى ولله سبحانه وتعالى المثل الأعلى..

2: متلقاة ومشتغل عليها عبر سيرورة زمانية وصيرورة مكانية من طرف ما لا نهاية من المتلقين المنفعلين والمتفاعلين وحتى المغرضين..

3: معرضة لكثير من القراءات المختلفة المناحي والمتعددة المشارب والتي تراكمت عبر التاريخ حاملة عصارة أفكار أصحابها/المتلقين..

هذه الخصوصيات ضمن مجموعة من الخصوصيات الأخرى تقوم عليها القصة القرآنية وتؤطرها، وتنفرد بها عن غيرها وتكسبها مميزات ترقى بها عما سواها، وتحدد طبيعتها..

1 * القصة حق وحقيقة:

إن القصة القرآنية تنبني في هيكلها ولبها، في قلبها وقالبها، على الحق وتتأسس في روايتها وسردها على الحقيقة، وتجعل ركائزها التي تعتمدها في حكيها ما جرى على أرض الواقع فعلا وليس تخيلا، وهذا يعني أنها بعيدة كل البعد عما يسمى الخيال في شكله الذي ألفته، عبر التاريخ الأدبي وحتى البشري، أشكال وأنواع من القص، حتى تلك التي تن! عت بالواقعية أو ما شاكل ذلك بناء على فلسفات حديثة معينة..

إن القصة القرآنية تصور وأقولها بصوت مرتفع وأكتبها بخط عريض تصور أحداثا ووقائع وممارسات وسلوكات وحتى الأفكار والهواجس وخوالج الأنفس وما تضمر الصدور.. تقوم بها شخصيات مختلفة وهويات متعددة ورموز متباينة في أزمنة معينة تتراوح بين بدايته وما وصلت إليه، وأماكن محددة تتنقل بين مشارق الأرض ومغاربها، وبين السماء والأرض وما لا حدود له.. وفي حالات نفسية متباينة من أعلى مستويات الإيمان إلى أدنى مستويات الجحود والكفران، وفي ظروف اجتماعية مختلفة تتأرجح بين العدالة والطغيان، وتراكمات تاريخية تفرض ذاتها على لا وعي الإنسان.. كل ذلك مأخوذ من واقع الحياة، موجود بالفعل والقوة.. وكل هذا سجله القرآن العظيم..

وهذا لا يعني أنها إخبار أو تدل على مفهوم الخبر لأن القصة القرآنية تستمد فقط من الحقيقة والواقع.. ومن ثمة يحلو لبعض المغرضين القول: إن ما جاء في القرآن الكريم لا يدل على مفهوم القصة بقدر ما يدل على مفهوم الخبر.. فهذا خطأ في الفهم والتقدير لأن بعضهم يظن " أن الفرق بين الخبر والقصة أن الخبر مستمد من الحقيقة وأن القصة من نسيج الخيال ولكن هذا غير صحيح" فـ"الفرق بين الخبر الذي يقتصر ع! لى تزويدنا بالمعلومات والخبر الذي يصور حدثا هو الفرق بين مجرد الخبر وبين القصة " كما يقول الدكتور رشاد رشدي في كتابه فن القصة القصيرة (7)..

لذلك نعتبر القصة القرآنية من خصوصياتها الرئيسة أنها تنبثق عن الواقع الحي، وتحكي لنا الحق المبين، ولا تخرج عن الحقيقة التاريخية قيد أنملة، وتصور ذلك تصويرا رائعا يساير مقومات الخطاب القرآني ذي البعد اللغوي المتين والبعد الموضوعاتي الهادف..

ولتفادي كل لبس فقد صرح القرآن نفسه بهذه الخصوصية، وأكد عليها كحقيقة ثابتة لا يمكن أن يطالها الشك أو الريب.. بشتى أنواع التوكيد حين يقول جل وعلا: ﴿ إن هذا لهو القصص الحق.. ﴾ (آل عمران: 61).. حيث نجد في أسلوب الآية الكريمة نوعي التأكيد أو التوكيد: اللفظي والمعنوي، من مثل "إنّ" الحرف المضعف المعروف بحرف أو أداة التوكيد، ولام الابتداء الدالة على التأكيد وقد فصل بينهما باسم إشارة ليزيد في تأكيد هذه الحقيقة وتوكيد هذه الخصوصية، إنها طبيعة ذاتية وبنية داخلية يحملها هذا التوكيد اللفظي﴿ إن هذا لهو القصص الحق ﴾.. وهكذ يتأكد معنى الآية من كون القصص القرآني ح! ق.. وفي آية أخرى ينسب سبحانه وهو الحق جل وعلا عملية القص في القرآن ال كريم بصريح العبارة لذاته كمرسل وسارد وفاعل أول عز وجل، وبنون العظمة والجلال، ليزيدها وضوحا أكثر على مستوى التوكيد المعنوي، ويعطيها مصداقية تامة لواقعيتها بشكل أمتن.. لقد أفرغ سبحانه على عملية القص من جلال اسمه هبته، ومن عظيم سلطانه قدرته، ومن اسمه الحق طبيعته.. وقال عز من قائل سبحانه وهو الحق وقوله حق في معرض الحديث عن أصحاب الكهف القصة ذات الطابع الأسطوري التي خلخلت مستويات التفكير المنطقي، وزعزعت ذوي القلوب المترددة والعقول المتقلبة.. فكيف إذا كانت هذه حقا وحقيقة وهي تسرد حدثا خارقا، لم يتمكن بعضهم من استساغته لما في قلبه..، ألا يكون ما سواها من القصص واقعا حقا:﴿ نحن نقص عليك نبأهم بالحق. إنهم فتية أمنوا بربهم وزدناهم هدى ﴾ (الكهف:13)..

وتأتي آيات أخر لتؤكد القضية نفسها، وتثبت الأمر ذاته، وذلك أن الحق هو السمة البارزة لهذا القصص القرآني العظيم فيقول سبحانه:﴿ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين ﴾ (هود:119) " حق وموعظة وذكرى " مكونات تتطلب متلق من نوع خاص، متمكن من أدواته التي تسعفه ع! لى رؤية وقراءة الحق والموعظة والذكرى من خلال الطبيعة التي تتمتع بها القصة في السرد القرآني..

هذا المتلقي هو "المؤمنون" الذين يقرأون ويتلون وينفعلون ويتفاعلون ويفعّلون تلك القراءة التي لا تحيد عن الطبيعة القصصية في القرآن الكريم على خلاف أولئك الذين يحاولون إفراغها من الحق والحقيقة والواقعية ويدخلونها في إطار المتشابه من القرآن.. ثم ينقلونها إلى عالم الأمثال التي تضرب لا لكونها حقيقة ولكن لكونها تحمل فكرة فقط ومن ثمة يسار إلى مفهوم الأسطورية التي نعت بها كفار قريش قصص الأولين في القرآن العظيم واقتدى بهم بعض كفار هذا العصر..(8)

إنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ولا من فوقه ولا من تحته ولا من أي جهة قد تخطر بالبال، لأنه بكل بساطة هو قص في ذاته حق ويحمل الحق وإن كان أغلب الناس لا يعلمون، ومن طبيعته توخي الحقيقة واتباعها.. ولأنه يحمل مكونات منطقية داخلية وخارجية تدفع متلقيه إلى الإيمان بصدقيته، فهو أولا وقبل كل شيء صدر عن الحق سبحانه: ﴿ والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ﴾ (الرعد: 1).. وهو جزء من الكتاب الذي أوحى به الله: ﴿ والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مص دقا لما بين يديه﴾ (فاطر: 31).. وليس كذبا أو افتراء ﴿ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ﴾ (يونس: 111).. وأخيرا نقول إنه الحق الذي صدر عن الحق سبحانه، ونزله روح القدس الأمين جبريل عليه السلام بالحق: ﴿ قل نزله روح القدس من ربك بالحق﴾ (النحل:102).. وأوحى به إلى رسول الحق صلى الله عليه وسلم والذي بلغه لكل الذين يحبون أن يتبعوا الحق ﴿ قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم ﴾ (يونس: 108)..

وهكذا يمكن أن تتسع شبكة العلاقات التي تربط بين حلقات الحق والحقيقة من المرسل الأول الذي هو الله عز وجل إلى المتلقي من الدرجة الثالثة في سلم العلاقات التواصلية والذي يعبر عن جملة المؤمنين كما سنبين في الترسيمة الإرسالية التالية التي تسيطر فيها معالم الحق المبين والحقائق التاريخية الواضحة..



المرسل (1)ــ> الرسالة ــ>المتلقي (1)/المرسل (2) ـ> المتلقي (2) /المرسل (3) ـ> الرسالة ــ> المتلقي (3)l l l l l ! l

الله جل جلاله ــ>الوحي ــ> جبريل (ع)ــ> الرسول عليه السلام ــ> القصص الحق/الوحي ــ> المؤمنون

2 * القصة والشهود الإلهي:

ثم إن هذه الحقيقة التي أرسيت عليها دعائم القصة القرآنية وهذا الصدق الذي قامت عليه خصائصها وهذا الحق الذي بنيت عليه أركانها هو نفسه الذي بنيت عليه آيات الله كلها، فهذه مستمدة من تلك.. يقول تعالى: ﴿ تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين ﴾ (البقرة:252).. فهو ليس الحق المرفوع بالسماع.. أو الحقيقة المعتمدة على روايات من الثقاة في إطار الثقافة الشفهية.. أو على حكايات العارفين من بطون الأسفار والكتب العريقة.. أو أن هذا الحق والحقيقة مما خلده الأثريون أو دونه المؤرخون، أو اكتشفه المستكشفون أو درسه وحلله الأنثروبولوجيون أو نشر حقائقه العلماء المتخصصون.. أو تسامر عليه الرواة والحكاؤون الخرافيون..

بل هو الحق والصدق صدر عن الحق سبحانه ﴿ ذلك بأن ا! لله هو الحق ﴾ (الحج: 6).. وهو سبحانه الذي كان بمعية الأحداث كله ا يقصها ويحكيها ويرويها انطلاقا من الحضور الجليل والشهود العظيم والوجود الكريم، وانطلاقا من العلم الواسع والإحاطة الشاملة، أي انطلاقا من وجوده سبحانه وإشرافه تعالى وعلمه المطلق بكل ما يقع وما من شأنه أن يحصل.. ونقل ذلك بكل علم وصدق وأمانة وإحاطة لأن هذه من صفاته سبحانه.. يقول تعالى: ﴿ فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين﴾ (الأعراف:6).. فالغياب كعدم العلم تماما، وليسا جائزين في حقه سبحانه، وكيف يكون غائبا وهو الذي أوحى وأرسل وبعث وهيأ ظروف التلقي من الأول إلى الأخير..؟ كيف يكون غائبا وهو الذي قدر الأمور كلها حق قدرها..؟

والقصص لم ولن يكتسب تمام وجوده الحقيقي، ولم ولن يحقق كمال ذاته الحقة، كوقائع وأحداث فعلية إلا من خلال وجوده هو سبحانه وتعالى.. ولكي تتوفر هذه المصداقية عند المتلقي وتتأكد لديه كان لابد أن يعتمد هذا القص وأن يرتكز هذا الحكي لتزكيته داخليا وخارجيا أفقيا وعموديا، على هذا الشهود الإلهي والحضور الرباني، أي على عدم الغياب كما ذكر النص القرآني..

لأن هذا القصص القرآني بالنسبة للمتلقي يعتبر أحداثا لم يعشها ولم يشهدها، فقد يكون سمع ب! عضها كما وقعت، وقد لا يسمع منها إلا ما تناهى إلى سمعه عبر قصص السمر والسهر والتسلية وقد تكون محاطة للإثارة والفرجة والتسلية بالزيادة أو النقصان، وقد تكون الصورة مشوهة بشكل يفقد القصص كل شيء طبعي فيها أو مكتسب، حتى المتعة نفسها.. وقد تبقى منها مجموعة أحداث يضرب بها المثل ولا تشتهر قصصا واقعيا..

إذن فالقصص في القرآن الكريم يعتبر من الغيب بالنسبة للواقع الذي نزل فيه ليكون بداية العلاج، والزمن الذي أتى فيه ليكون بداية التغيير.. إنه مما لم تدركه الأبصار ولم تحط به العقول سواء بالنسبة للمتلقي (1) أو المتلقي (2) أو المتلقي (3).. لذلك فكأن هذا الغيب حين يقصه شاهد عيان، وحاضر معاين، وعليم خبير ذو رؤية فوقية، لا تخفى عليه خافية، يصبح حينها ذلك القص منتميا إلى عالم الشهادة يتنامى في عالم الحق والحقيقة، ويتمدد على شبكة الواقع والواقعية.. مما ييسر لمتلقيه(2) و(3) عملية الفهم والإدراك بصدق وثقة.. ويسهل عليه عملية الانفعال والتفاعل مع المقصوص تاريخا.. والإحساس بما جاء به وتصوره واقعا.. والحياة في ظلاله والركون إلى حقائقه..

وبيت القصيد هو أن يصدق المتلقي (3) القصة! لأنها صادرة عن صادق سبحانه وموحى بها إلى صادق صلى الله عليه وسلم.. وه ي كلها صدق في صدق شكلا ومضمونا، بنية وغاية، كل مكوناتها تنطق بالصدق.. ومن ثمة ينفعل معها ويستشعرها بكل فكره ووجدانه، ويعيشها بكل جوارحه وجميع حواسه، ويتمثلها في كل سلوكياته.. وإن لم يحضر أحداثها، ولم يعاشر شخصياتها، ولم يلمس وقائعها، ولم يعاين واقع وجودها، ولم يعش زمانها، ولم يتحرك في أماكنها، ولم يتعرف ملابساتها..

إن المتلقي المستهدف ليتصورها أحداثا حية لازالت تنبض بالحياة المستمرة من يوم وقوعها، ويتخيلها وقائع تمر أمامه لترسم له من حاضره ومستقبله أفقا يهفو إليه، ويتمثلها مسلسلا مباشرا ينغمس في متتاليات حلقاته، وقد يتقمصها حينما يتأثر بها تأثرا شديدا..

ويكفي هذا المتلقي أن يتصورها حقا، وأن يؤمن بها وحيا من الحق سبحانه، انطلاقا من أن السارد نفسه جل وعلا يريدها كذلك.. فإذا أراد صاحبها سبحانه أن يعتبرها "القصص الحق" فلماذا نأتي نحن لنجعلها "ضرب أمثال"..؟. يقول الحق سبحانه وتعالى:﴿ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين ! وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون ﴾ (القصص:43).. ويقول سبحانه وتعالى: ﴿ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون﴾ (آل عمران:44) ويقول جل جلاله:﴿ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون﴾ (يوسف: 109)

وبعد كل هذه التأكيدات على واقعية القصة القرآنية ووجود أحداثها حقيقة، ونقلها الصادق للحق والحقيقة التي عيشت، وحيي فيها خلق كثير دون ريب أو شك على خلفية أن الله سبحانه وتعالى الذي قصها هو نفسه بمثابة شاهد عيان، لم يغب عن الأحداث لحظة، ولم تخف عنه ولم تتوار ولا أقل من ذلك.. بل هو سبحانه الذي قدرها تقديرا، ويعلمها قبل وقوعها.. وكل ملابساتها في اللوح المحفوظ قبل خلق الخلق وتقدير الأمر، وحتى الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه كان لا يعرف شيئا مما قص عليه من أنباء إخوانه من الرسل والأنبياء الذين قضوا قبله.. ولا كان يعلم أنباء القرى السابقة، ولا أخبار الأمم الغابرة، ولا الأحداث السالفة.. ولم يك! ن يدرك من الأمر شيئا لا من عنديته قارئا متعلما أو عارفا فطنا أو مطلعا فاهما أو ذكيا متمرسا، ولا من اتصالات داخلية أسرية أو جوارية أو قومية، أو أسفار خارجية أو لقاءات غريبة بعيدة أو قريبة.. ولا من علماء وقته من أهل الكتاب و لا من شيوخ المعرفة في القبائل العربية ولا من كهانها ولا من شعرائها ولا من خطبائها ولا من حفاظ آثارها ولا من أي مصدر من المصادر الشائعة حينها.. ولنستمع إلى الحق سبحانه وهو يصف لنا حال نبيه صلى الله عليه وسلم كيف كانت قبل نزول الوحي عليه: ﴿ وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون ﴾ (العنكبوت:48).. بل علم صلى الله عليه وسلم ذلك بوحي من ربه ﴿ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل﴾ (هود: 49)..

هل يمكن أن يكون فحوى النص الأخير ﴿ ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل﴾ هو مربط الفرس كما يقال..؟ هل يمكن أن يكون هذا هو السبب في عداء العرب لما أوحي الى الرسول صلى الله عليه وسلم بشكل عام ومن القصص بشكل خاص؟.. ألأن العرب كانوا لا يعلمون شيئا من المحكي أم أنهم كانوا لا يفقهونه..؟ أم أنهم كانوا لا يلمون بحقيقة ذلك بما فيه الكفاية، ولا يفه! مونها إلا على أنها للسمر والسهر والتسلية وضرب المثل ليس إلا..؟ أم لأنهم كانوا يتجاهلون الحقيقة أم أنهم يجهلونها..؟ ومن جهل شيئا عاداه؟.. أم لأنهم كانوا يعرفون هذه القصص لكن معرفتهم تؤطرها الحكايات والحدوثات والخرافات والأساطير، وبقايا روايات الأسلاف فاختلط عليهم الأمر..؟ أهذه عقيدتهم التي كانت تحول بينهم وبين الاستفادة من الخطاب القرآني كما هو حال كثير من مفكرينا المعاصرين..؟

ألهذا كان ضلاّل العرب والمتفوهون من كبرائهم وطغاتهم يقولون: ﴿.. قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين *﴾ (الأنفال: 31).. ﴿ وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ﴾ (الفرقان: 5)..؟

أيقولون هذا وهم أول من يعرف طبيعة ابن من أبناء عمومتهم محمد صلى الله عليه وسلم وجبلته ما ظهر منها وما بطن، ويدركون سجيته وتربيته﴿ وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم ﴾ (التكوير: 25).. ويعلمون كيف نشأ بين ظهرانيهم أميا لا يحسن القراءة ولا الكتابة، ويتيما لا يقوى على سفر ولا ضرب في الأرض يبتغي فضلا من علم أو معرفة..! ﴿ألم يجدك يتيما فأوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى ﴾ ; (الضحى: ).. وهم يدركون ويعرفون أنه كان يحب الخلوة ويفضل الوحدة ورضي لنفسه التحنث في غراء حراء.. وأنه كان المجتبى بين أقرانه والمرتضى حكما من بين شيوخهم فيما اختلفوا فيه، وأن ليس لديه مع من يديم الاتصال أو يكثر الجلوس أو يطيل العشرة والرفقة.. ويعرفون إلى أين ذهب وسافر في حياته وعدد ذلك.. ويعلمون كيف كانت حاله صلى الله عليه وسلم بشكل عام.. وقد لبث فيهم من عمره سنينا.. – فهو ابن بيئتهم أفلا يعقلون - قبل أن يفجع طغاتهم بكونه رسولا إليهم.. وقبل أن يصدمهم بنزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم من رب العالمين ﴿ قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون ﴾ (يونس: 16).. ولكن الذي يريد ستر الحقيقة وتشويهها أو تغليف الحق ونكرانه، أو على الأصح تبطيله بدعاوى باطلة.. يتذرع بكل ذريعة تحقق مأربه هذا، ويتوسل كل وسيلة تشفي غليله ذاك، إلا أنه في الحقيقة هو كمن يريد ستر الشمس بالغربال، ومن ثمة فهو ممن قال فيهم الحق سبحانه وتعالى : ﴿ ..وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب﴾ (غافر: 5)..

وأيضا - بعد ! هذا التأكيد كله - لا ينبغي للمتلقي أن يرتاب أو يشك أو أن يماري ويجادل – لا ينبغي له ذلك - في صدق ما أوحي إليه من قصص أو في صدق ما تحمله من مضامين وأحداث وشخوص ووقائع وعلاقات وحوارات ومصائر ووعد ووعيد وجزاء.. يقول الله جل في علاه في معرض الحديث عن قصة خلق عيسى صلى الله عليه وسلم وهي تعتبر خارقة مثلما رأينا عن قصة أصحاب الكهف:﴿ ..الحق من ربك فلا تكن من الممترين﴾ (آل عمران:59).. وهذا الخطاب موجه بشكل مباشر للرسول صلى الله عليه وسلم متلقيا(2) ومن خلاله للمؤمنين متلقيا(3) بحكم الإيمان والتبعية والاقتداء يقول سبحانه وتعالى: ﴿ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم ﴾ (آل عمران:31).. بل إن الأمر موجه لكل الناس قاطبة وليس لمن اتبع النبي الأمي صلى الله عليه وسلم فحسب في مثل قوله تعالى: ﴿ قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم﴾ (يونس:108)..

ج* ختامه مسك:

القصص القرآني بهذا الشكل يمثل نماذج معرفية مستقاة من الحياة الواقعية نستخلص منها العبرة المستديمة، ونستشف منها الرؤية الإيمانية الدائمة، ونت! حلى منها بالقدوة الحسنة المستمرة.. وليست مجرد قصة أو واقعة حدثت، على ا لرغم من أنها أحداث أكيدة، إنما هي حقيقة خالدة مستمرة أبد الدهر.. ونؤمن بحدوثها، ولكن ما يهمنا ليس تحديد زمانها بالتدقيق، أو وقائعها التاريخية المفصلة، ولكن ما وراءها من عبر ومواعظ وحكم ودروس.. ولماذا ذكرت بهذا الشكل؟ وكيف ذكرت بهذه الطريقة وليس بغيرها؟ ولماذا تم اختيار هذا المشهد دون سواه؟ وكيف يمكن أن نترجمها إلى وقائع جديدة ومشاهد منسجمة مع ما نصبو إليه؟... وفي الأخير كيف يمكن أن يكون السرد القصصي في الخطاب القرآني الكريم نبراسا للعودة إلى تحقيق دنيا الخلافة على منهج النبوة كما أخبر ب بذلك الصادق الأمين؟..(9)

يقول الله تعالى ﴿فاقصص القصص لعلهم يتفكرون﴾ ( الأعراف:176).. فهذه القصص دعوة للتفكر في هذه الأسئلة وغيرها من الأسئلة والقضايا.. أي دعوة لتحليلها بحثا عن الإجابة فيها، ودعوة للتفصيل في مكوناتها وتفكيك عناصرها وإعادة تركيبها حتى نتمكن من هندستها على أرض الواقع... ومن ثَم فهي دعوة للفعل أي الالتزام بالنموذج المعرفي الكامن خلفها، أي بالبناء والتركيب. فهي نموذج للتركيبية الفنية والجمالية والحياتية والواقعية، وهي فوق هذا كله تعتبر نوعا من أنواع العبادة التي من أجلها خلق الله الخلق وبعث الرسل وقص القصص ﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾. فليس أفضل من قراءة القرآن وتلاوته وتدبر معانيه ومدارسته وترجمته إلى واقع معيش عبادة..

عبد الرزاق المساوي

هوامش ومراجع:

* من بحث طويل تحت عنوان " قراءة جديدة للسرد القصصي في الخطاب القرآني "

1* كالسور الآتية أسماؤها: يونس وهود ويوسف وإبراهيم (ومريم) و(لقمان) ومحمد ونوح عليهم الصلاة والسلام..

2* انظر محمد عابد الجابري سلسلة مواقف إضاءات وشهادات العدد:47 الطبعة الأولى يناير 2006 الصفحة: 30

3* المرجع السابق نفسه الصفحة:27.

4* القصص في القرآن(2) من ملفات الذاكرة الثقافية مواقف محمد عابد الجابري العدد 48 الصفحة:33

5* القصص في القرآن(1) من ملفات الذاكرة الثقافية مواقف محمد عابد الجابري العدد 47 الصفحة:27

6* التمثيل السردي في رواية الكوني عبد الله إبراهيم – علامات: ج:32 – م: 8/1999 الصفحة:326

7* دار العودة – بيروت الطبعة الثالثة 1984 الصفحتان 20 و 21

8* انظر: الفصل الثامن "المادة التاريخية في القرآن" والفصل التاسع "الأسطورة في القرآن" من الكتاب الالكترون! ي " دوافع للإيمان الإنجيلي.. صراع أدى إلى الاهتداء " لكاتبه أمير ريشاو ي وذلك على الرابط: www.light-of-life.com/arb/aquestion

9* انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة محمد ناصر الدين الألباني المكتب الإسلامي الطبعة الثالثة/1983 المجلد الأول الصفحة: 8 ونقارن بكتاب أحاديث سيد المرسلين عن حوادث القرن العشرين للشيخ عبدالعزبز عزالدين السيروان منشورات دار الأفاق الجديدة بيروت الطبعة الأولى/ 1982 الصفحة: 24 وانظر في شرح الحديث كتاب الرسول r لسعيد حوى دار الكتب العلمية بيروت.. الطبعة الرابعة/ 1979 الصفحة:129..

شريف المنشاوى
08-25-2007, 06:18 PM
جزاك الله خيرا د. فخر الدين ، مقال رائع .

فخر الدين المناظر
08-26-2007, 10:55 PM
أين أنت يا رجل ؟؟ لقد أوحشتنا مداخلاتك ومواضيعك:emrose:

شريف المنشاوى
08-27-2007, 03:07 AM
أين أنت يا رجل ؟؟ لقد أوحشتنا مداخلاتك ومواضيعك:emrose:
بارك الله فيك حبيبنا و أستاذنا الغالي د. فخر الدين
أنا موجود غير مستغنٍ عنكم سيدي :emrose::emrose::emrose:

المساوي
09-28-2007, 06:35 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
يسرني أن يكون هذا الجزء من دراستي المطولة حول السرد القصصي في الخطاب القرآني الكريم
ضمن اختيارات الأخ الفاضل فخر الدين المناظر على هذه المنتديات المباركة التي تحمل راية التوحيد..
وأرجو من العلي القدير أن يوفق الجميع لما يحب ويرضى
وشهر مبارك سعيد وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال وتجاوز عما دون ذلك
إنه سميع مجيب..
ولك مني أخي الفاضل فخر الدين جزيل الشكر والتقدير..

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

فخر الدين المناظر
09-29-2007, 03:20 AM
:emrose:

بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
يسرني أن يكون هذا الجزء من دراستي المطولة حول السرد القصصي في الخطاب القرآني الكريم
ضمن اختيارات الأخ الفاضل فخر الدين المناظر على هذه المنتديات المباركة التي تحمل راية التوحيد..
وأرجو من العلي القدير أن يوفق الجميع لما يحب ويرضى
وشهر مبارك سعيد وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال وتجاوز عما دون ذلك
إنه سميع مجيب..
ولك مني أخي الفاضل فخر الدين جزيل الشكر والتقدير..

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ..

بل كل الشرف لي أن نقلتُ هذه المقالة عن أحد أهل العلم من أمثالك ،، وكم هو جميل أن ينضم إلينا أحد أهل الفصاحة والبيان وعلم اللغة والبلاغة ، فهناك بعض الملاحدة المشاغبون ممن لا يفقه من البلاغة غير إسمها ويتقول على بلاغة القرآن الكريم!!! ... ومن سوء حظ هؤلاء انضمامكم بصفتكم متخصصا في المجال ...

أسأل الله أن يفيدنا بعلمكم ومقالاتكم وكلنا بانتظار دراساتكم وأبحاثكم القيمة على منتدى التوحيد...

تقبل الله صيامكم وقيامكم...