المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : وقفات في الرد على مبحث مناط الكفر في الموالاة للشيخ عبد الله القرني ...



الموحد السلفي
10-15-2007, 08:44 PM
هذه بعض مشاركات مجموعة لي في سياق التعليق على مبحث (مناط الكفر في الموالاة للشيخ عبد الله القرني )حاولت أن أوفق بينها لتكون في سياق مؤتلف يسهل الاستفادة منها - إن وجد فيها شيء يستفاد منه - وهذا بناءا على طلب بعض الإخوان ... والله الموفق

***************
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وأعمالنا والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد :

فإن الشيخ عبد الله القرني وفقه الله من أهل العلم الفضلاء وإني وإن لم أتشرف بلقائه والحديث معه فلقد رأيته مرة واحدة في مدينة جدة منذ قرابة العشر سنوات وهممت بعد التعرف عليه والثناء على جهده أن اذكر له بعض الملاحظات على كتابه الضوابط كي يتم الكتاب على ما ينبغي أن يكون مرجعا صحيحا خاليا من الشوائب خاصة في هذه المسائل ، ولكن كعادة أهل العلم بعد المحاضرة يلتف الناس حولهم ولم تكن ثمة فرصة غير هذه للقائه فقدر الله وما شاء فعل ...
ولعل في التعليق على مبحث الشيخ ( مناط الكفر بموالاة الكفار ) أتعرض لبعض المؤاخذات على كتابه الضوابط فإن هذا المبحث يعد كالتطبيق لما قد قرره الشيخ من أصول أعتقد أنها خاطئة في الكتاب المذكور وأسأل الله أن يتسع صدر الشيخ لنا في هذه التعليقات وأن يسامحنا إن تجاوزنا حدود الأدب أو اللياقة وان يصحح لنا ما قد نخطئ فيه والله ولينا ومولانا وهو المستعان سبحانه ...
واشرع في التعليق على مبحث ( مناط الكفر بموالاة الكفار) فإن الشيخ وفقه الله قد أقامه على أصلين ذكرهما في مقدمة مبحثه وفي آخره وكررهما في ثناياه ...
أولهما :
أن المولاة والمعاداة أصلها في القلب وهي في أصلها المحبة والبغض أو القرب والبعد ..
ثم بنى وفقه الله على هذا الأصل ( مسألته ) : وهي أن من أتى بالمحبة للمؤمنين والبغض للكافرين فقد أتى بأصل الولاء وما دون ذلك من الأعمال الظاهرة والباطنة فإنه يدخل في كمال الولاء ...
والأصل الثاني: هو دلالة قصة حاطب رضي الله عنه على أن الكفر بالموالاة ومظاهرة المشركين مقيد بأن يكون على الدين وأنه إذا كان لغرض دنيوي فإنه يكون كفرا دون كفر أو معصية من المعاصي ....
قال وفقه الله :
" ويستند التفريق بين موالاة الكفار على دينهم وبين موالاتهم لغرض دنيوي إلى أساسين :
- أحدهما: حقيقة أصل الولاء والبراء، وما يقتضيه بيان تلك الحقيقة من التفريق بين ما ينافي أصل الولاء والبراء وما ينافي كماله، ......
- وأما الأساس الثاني للدلالة على التفريق بين موالاة الكفار على دينهم وموالاتهم لمجرد غرض دنيوي فيستند إلى دلالة النصوص على أن موالاة الكفار لغرض دنيوي ليست كفراً لذاتها، ويكفي في الدلالة على ذلك ما جاء في قصة حاطب  ....."
- وقرر الشيخ وفقه الله في ثنايا بحثه " أصلا ثالثا" وإن لم يسمه أصلا وهو أن الكفر المتعلق بهذه المسالة كفر باطن لا تعلق له بالظاهر(كالنفاق ولا يدل عليه عمل ظاهر وليس من سبيل لمعرفة هذا لكفر الباطن إلا بإقرار صاحبه واستفصاله ...
حيث قال : " والمقصود هنا أن النهي عن موالاة الكافرين جاء في سياق أنه من صفات المنافقين، الذين لم يحققوا الإيمان الباطن وإن أظهروا الإسلام، ومع أن كفر المنافقين باطن فقد ذكر الله من موالاتهم للكفار ما هو من الموالاة الظاهرة لهم، كقعودهم معهم وهم يستهزئون بآيات الله، ونصرتهم للكافرين، حتى أمكن أن يقولوا لهم ما ذكره الله عنهم أنهم قالوا للكفار {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) [النساء:141]، وجاء في وصفهم كما في السياق السابق من سورة المائدة قوله تعالى:{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) } [المائدة :2 5] قال الإمام ابن جرير : ( يعني بمسارعتهم فيهم مسارعتهم في موالاتهم ومصانعتهم ) ( ).
ومقتضى ذلك ألا يكون في مجرد ما يظهرونه من موالاة الكفار ما يدل لذاته على كفرهم في الظاهر، ولذا كان كفرهم باطناً لا ظاهراً، وإذا كان الكفر بما يظهره المنافقون من موالاة الكفار مقيداً بالباطن أمكن أن تحصل الموالاة للكفار في الظاهر ممن يضعف إيمانه من المؤمنين، دون أن يلزم من ذلك الكفر، لا في الظاهر ولا في الباطن، فيمكن على هذا أن تحصل من المؤمن المظاهرة للمشركين وإعانتهم على المسلمين، لمجرد غرض دنيوي، مع ثبوت أصل البراءة من الكفار .
وإذا كان الكفر قد يكون باطناً دون أن يكون عليه دليل في الظاهر، كحال المنافقين، وقد يكون ظاهراً، بحيث يمكن العلم به من حال المعين، مما يظهر منه من قول أو فعل، فإنه لا يجوز الحكم على معين بالكفر لمجرد ما يظن أنه حقيقة حاله في الباطن، وإنما يحكم عليه بالكفر استناداً إلى ما يقتضي الحكم عليه بذلك في الظاهر،... "
فهذه هي الأصول التي كانت منطلق الشيخ في مبحثه ...
الأول راجع لحقيقة ومعنى الولاء والبراء ، وأنهما في القلب ...
والثالث راجع أن من أنواع الكفر وان منه كفر باطن لا تدل عليه الأعمال الظاهرة ولا يستلزم شيئا منها ...
والثاني راجع لدلالة قصة حاطب رضي الله عنه في أن المولاة ليس منها شيء مكفرا إلا إذا كان مقيدا بمحبة الكفار على دينهم لا لغرض دنيوي ...
فهي في الحقيقة مقدمات يبنى بعضها على بعض ...
وسيكون الرد على هذا أيضا مقسما على قسمين قسم يختص بالأصل الأول والثالث والقسم الأخر حول قصة حاطب رضي الله عنه وإبطال الاستدلال بهذه القصة على ما ذهب إليه الشيخ وفقه الله ..
فأما الأصل الأول وما يتعلق به مما هو في الأصل الثالث فالرد عليه من وجوه :
الأول : تقرير قاعدة التلازم بين الظاهر والباطن وبيان أن الشيخ وفقه الله قد اخطأ تقريرها في كتابه " ضوابط التكفير" وأهمل إعمالها في هذه المسالة !!!
فإن قاعدة التلازم بين الظاهر والباطن هي القاعدة المحكمة والفاصلة بين أهل السنة والمرجئة ، ولعل هذا البحث كان ثمرة لهذا الخطأ !
فالشيخ وفقه الله قد قسم هذه القاعدة في كتابه إلى أربعة أقسام مما أذهب بقاعدتيها وكونها أصلا فاصلا بين أهل السنة والمرجئة !
يقول الشيخ وفقه الله في كتابه :
الحالة الأولى: الكفر الباطن.
وذلك كحال المنافقين، الذين هم في حقيقة أمرهم كفار، لكن لا يمكن الحكم عليهم بالكفر لتظاهرهم بالإسلام. ..
- الحالة الثانية: الدلالة القطعية للظاهر على الباطن.
وذلك كسب الله أو رسوله أو دينه، فإن ذلك كفر ظاهر، ولا يمكن أن يصدر عن مؤمن يحب الله ورسوله ودينه. فإن السب بغض وكراهية، ولا يكون إيمان أبداً في قلب من لم يحب الله ورسوله ودينه. ولا ينظر هنا إلى استحلاله أو عدمه، فإن السب كفر بذاته، وهو دال دلالة قطعية على قصد من تلبس به، وإذا اجتمع الكفر الظاهر مع القطع بأن القصد غير محتمل غير ما به الكفر لزم تكفير من تحقق منه ذلك.
الحالة الثالثة: الاحتمال في الفعل الظاهر.
وذلك بأن يكون الفعل داخلاً في عموم المخالفة، لكن لا يكون قاطعاً في الدلالة على أنه كفر،...
الحالة الرابعة: الاحتمال في القصد.
في هذه الحالة يفترق الحكم على الفعل عن الحكم على الفاعل. فقد يكون الفعل كفراً بالأدلة الشرعية على ذلك، لكن لا يكون القصد بالفعل مطابقاً للفعل. ا. هـ
فهذه الحالات الأربع في الحقيقة تبطل قاعدة التلازم !
وهذا التقسيم لا دليل عليه وهو محض تحكم لم يسبق اليه شيخنا وفقه الله
فالحالة الأولى والثالثة والرابعة لا تلازم فيها بين الباطن والظاهر ..
والحالة الثانية التلازم فيها مطلق ( هكذا تحكما ) !!
فأربعة أقسام قسم واحد لأهل السنة وثلاثة أقسام هدية سلفية لأهل الإرجاء !
وأصل هذه كله هو الخلط بين الكفر على الحقيقة والكفر الحكمي المبني على الظاهر وكفر النوع وكفر المعين وأحكام الدنيا وأحكام الآخرة...
ومنشأه إعمال قواعد هذه في هذه ...
فالتلازم بين الظاهر والباطن حكم يخص العموم والحقيقة لا العين والحكم ..
كقولنا حقيقة الإيمان قول وعمل واعتقاد فنحن نقرر الحقيقة وندخل فيها الاعتقاد وإن كنا لا نطلع عليه وليس لنا ان نشق عن الصدور ونقف على الاعتقاد بل نتعامل فقط عند الحكم على الناس مع العمل الظاهر والقول الظاهر كأسباب ظاهرة ولكن عند تقرير الحقيقة فإننا نقررها كما هي في الظاهر والباطن ...
والتلازم بين الظاهر والباطن من هذا القبيل .. فنحن نقرر التلازم لتقرير حقيقة الإيمان والربط بين أجزائها لا للتحقق من موافقة الظاهر للباطن وتعليق الأحكام عليها لموافقة الحقيقة بل الأحكام تكون على الظاهر على كل حال بإجماع المسلمين ...
والذي يقرر أن بعض أعمال القلوب لا تستلزم أعمال الجوارح الظاهرة التي تحققها أو تنافيها هو كمن يقول أن كل أعمال القلوب لا تستلزم أيا من أعمال الجوارح تماما!
أو كمن يقول عدم التلازم أصلا !!!
ومعلوم أن هذه القاعدة هي من أهم قواعد أهل السنة في الرد على المرجئة الذي يخرجون العمل الظاهر من الإيمان ...
والشيخ هنا في هذا المبحث يجعل المحبة التي هي أعظم أعمال القلوب - كما قرر هو- في كتابه والتي هي أصل جميع أعمال القلوب واصل الولاء والبراء لا تستلزم أعمالا ظاهرة تحققها أو تنافيها ! فإن كان هذا العمل الجليل القدر العظيم الشأن الذي يقوم عليه مدار الدين كله لا يستلزم أعمالا في الظاهر تحققه فما الذي يستلزم من بقية الأعمال ؟
وماذا بقي من التلازم إذا كانت أصل جميع الأعمال لا تلازم بينه وبين الظاهر ؟!
فهذا خرق لهذه القاعدة على الحقيقة مهما قيل أننا نقررها ونحتج بها...

ثانيا :
ذكر الشيخ وفقه الله في كتابه الضوابط تقريرا لهذه المسالة واحتج لها ببعض الأقوال عن شيخ الإسلام رحمه الله فأنقلها وما يليها حيث قال :
( فلو بطلت مسألة المحبة بطلت جميع مقامات الإيمان و الإحسان ولتعطلت منازل السير إلى الله. فإنها روح كل مقام ومنزلة وعمل. فإذا خلا منها فهو ميت لا روح فيه. ونسبتها إلى الأعمال كنسبة الإخلاص إليها بل هي حقيقة الإخلاص. بل هي نفس الإسلام. فإنه الاستسلام بالذل والحب والطاعة لله. فمن لا محبة له لا إسلام له البتة. بل هي حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله، فإن الإله هو الذي يألهه العباد حباً وذلاً وخوفاً ورجاءً وتعظيماً وطاعة له مألوه، وهو الذي تألهه القلوب أي تحبه وتذل له. و أصل التأله التعبد. والتعبد آخر مراتب الحب، يقال عبده الحب وتيمه إذا ملكه وذلله لمحبوبه. فالمحبة حقيقة العبودية)
ومن عجيب الأمر أن الشيخ وفقه الله قد جعل المحبة القلبية أصل أعمال القلوب جميعها بل أصل الدين كله !.. ليس فقط أصل الولاء .. كما في هذا المبحث وقرر وفقه الله أن هذه المحبة لها لوازم ظاهرة وباطنة بدونها تكون هذه المحبة غير معتبرة ، ولا أدري لماذا رجع في هذا المبحث القهقري وأبطل ما كان قرره في كتابه ؟!
يقول الشيخ وفقه الله في كتابه الضوابط :
( إذا كانت حقيقة العلاقة بين العبد وربه هي المحبة لله والافتقار إليه فإن لها لوازم وعلائم لا تصح إلا معها. إذ ليست مجرد دعوى يدعيها العبد بلا بينة ولا تحقيق. بل لابد لتحقيق هذا الأصل من تحقيق لوازمه ومقتضياته الظاهرة والباطنة.
فأما للوازم الباطنة فأعمال القلوب من الرجاء والخوف والإنابة والإخلاص وغيرها، لأنه إذا تحققت المحبة وصحت تبعها عمل القلب ويندرج في هذا جميع أعمال القلوب، فهي كلها تابعة للمحبة نابعة عنها. لأن المحبة هي مدار الدين كله ظاهره وباطنه.
و إذا لم تتحقق أعمال القلوب لم تكن المحبة حقيقية ولا صادقة، ..................
وأما اللوازم الظاهرة فتتلخص في إتباع أوامر الله واجتناب نواهيه والدعوة إلى دين الله.
وأصل ذلك أن من أحب الله حقيقة لا بد أن تكون إرادته تابعة لإرادة الله ومحبته، فما أحبه الله وأمر به أحبه العبد والتزم به. وما كرهه الله ونهى عنه كرهه العبد وانتهى عنه.
وتحقيق ذلك بإتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والالتزام بالشريعة، وقد قال تعالى: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ }. فمن أحب الله حقيقة فلا بد أن يتبع رسوله، فعلم أن من لم يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يلتزم بشريعته فليس محباً لله. فلا تكون المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم إلا بتحقيق المحبة، كما لا تصح المحبة إلا بتحقيق الإتباع للرسول صلى الله عليه وسلم فهما أمران متلازمان لا يصح أحدهما إلا بالآخر .
وعلى قدر قوة المحبة وضعفها يكون الإتباع كذلك، وفي هذا المقام يتفاوت الناس تفاوتاً عظيماً. وهذه هي حقيقة زيادة الإيمان ونقصانه، حتى إذا انتفى الإتباع بالكلية انتفت المحبة بالكلية .............................فكما لا يصرف المؤمن عن ربه محبوبات الدنيا وشهواتها، فكذلك لا يصرفه خوف لو كان التحريق بالنار عن محبته و الإيمان به .
وهكذا تبين من كل ما تقدم من البحث عن حقيقة الإلوهية – أو العبودية – أنها محبة لله تستلزم طاعته والالتزام بشرعه. أو قل هي كمال
الطاعة لكمال المحبة. فالمحبة هي الأصل في العلاقة بين العبد والرب والطاعة ناشئة عنها ولازمة لها .)
وهذا النقل يوضح أن ثمة تناقض أو قل اختلاف في أقوال الشيخ سواء في نفس الكتاب أو بين الكتاب وبين هذا المبحث فتأمل قول الشيخ : " فلا تكون المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم إلا بتحقيق المحبة، كما لا تصح المحبة إلا بتحقيق الإتباع للرسول صلى الله عليه وسلم فهما أمران متلازمان لا يصح أحدهما إلا بالآخر ."
كيف لمن يقرر هذا التقرير البديع أن يتوصل في مبحث كهذا أن من يقود الجيوش ضد هذا الرسول ليقاتله أو يقاتل أتباعه فيبذل نفسه أو ماله في سبيل إظهار الكفار عليه أو على المؤمنين من الممكن أن يكون لديه المحبة وأصل الولاء له ؟!
- وهذا الاختلاف يظهر بالمقارنة بين شقي كتاب الضوابط ،..
الشق الأول : وهو الجزء البديع من الكتاب - إلا هنات قليلة – وهو الباب الأول والثاني وفيه تقرير لحقيقة الإيمان الكفر والرد على المرجئة والخوارج في بابين من أبدع ما يكون وفيه تقرير لقاعدة التلازم على وفق منهج أهل السنة والجماعة وحق لهما أن يكونا مرجعا علميا للباحثين عن الحق في هذه المسائل خاصة وان تقريرهما من قرابة عقدين من الزمان يوم أن كان هذا الكلام عزيزا جدا ..
الشق الثاني: وهو يبدأ من باب ضوابط تكفير المعين وشروط التكفير وموانعه والمدقق فيه يشك أن شخصا آخر هو الذي كتب هذا المبحث ليس هو من قرر هذا التقرير البديع في أول الكتاب!
وأنا إن كنت لا أحب أن أجعل التعليق هنا تعلقا على الكتاب ولكن أجدني مضطرا لشيء من ذلك وسأحاول أن يكون بقدر الإمكان متعلقا بما في هذا المبحث ..
فالشيخ وفقه الله قرر تقريرا بديعا لمسالة التلازم في أول كتابه واحتج به على المرجئة وقرره بما يتوافق مع كلام أهل السنة والجماعة تلازما مطلقا في إطار تقرير مسالة الإيمان وجنس العمل ، ثم جاء في الباب الثالث (ضوابط التكفير) وأقحم هذه القاعدة وقيدها بشروط وموانع لا دليل عليها بما يرجع على هذه القاعدة بالنقض!!!
*** والأهم من ذلك هو أن مسالة التلازم بين الظاهر والباطن لا دخل لها في الحكم على المعين بالكفر والإسلام ،فهذا باب آخر لا علاقة له بهذه القاعدة إطلاقا كما سبقت الإشارة إلى ذلك ...
فمحل القاعدة كما سبق هو بيان حقيقة الإيمان والكفر من جهة التنظير والرد على أهل البدع الذين اخرجوا موجب أعمال القلوب الباطنة من الإيمان بحجة أن هذا يستلزم تجزيء الحقيقة الواحدة وفصلوا بين الظاهر والباطن فكانت هذه القاعدة المطلقة للتتميز بين أهل السنة والمرجئة في هذا الباب كغيرها من حقائق الدين كالتوحيد والإيمان وأنواع الكفر ... ...
أما الحكم على المعين فبابه العمل الظاهر فقط ...
*** وهذا من أظهر الأخطاء في هذا المبحث !
ولكن من يتأمل ما جاء به الشيخ يجد أنه يبني أخطاء على أخطاء فهو وفقه الله لما فرق بين الحكم بالإسلام وبين الحكم بالكفر فجعل الأول على الظاهر فقط ، بينما الحكم بالكفر يكون على الظاهر والباطن معا ! كان لابد أن يقحم هذه القاعدة حيث لا مجال لها ...
وكما هو معلوم أن الأحكام الدنيوية جميعها هي على الظاهر كما هو إجماع أهل السنة والأدلة المعتبرة ...
ومعلوم أيضا أن الشروط والموانع التي وضعها أهل السنة لتكفير المعين شيء آخر لا دخل لها بمسالة التلازم كما أنها لم توضع لأجل التحقق من الكفر الباطن أصلا كما يقرر الشيخ فهذا خطأ شنيع ما كان ليصدر من مثله ..

قال شيخ الإسلام رحمه الله : " وبالجملة فأصل هذه المسائل أن تعلم أن الكفر نوعان: كفر ظاهر، وكفر نفاق، فإذا تُكلم في أحكام الآخرة كان حكم المنافق حكم الكفار، وأما في أحكام الدنيا فقد تجري على المنافق أحكام المسلمين".
ويقول: "وهكذا كان حكمه  في دمائهم وأموالهم كحكمه في دماء غيرهم، لا يستحل منها شيئاً إلا بأمر ظاهر، مع أنه كان يعلم نفاق كثير منهم".
ويقول الشاطبي: "إن أصل الحكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصاً، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير عموماً، فإن سيد البشر مع إعلامه بالوحي، يُجري الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم، وإن علم بواطن أحوالهم، ولم يكن ذلك بمخرجه عن جريان الظواهر على ما جرت عليه". الموافقات (2/205)
يقول الحافظ ابن حجر ((من بدل دينه فاقتلوه)).: " هو عام، يُخَص منه من بدله في الباطن ولم يثبت عليه ذلك في الظاهر، فإنه تجرى عليه أحكام الظاهر... وإظهار الإيمان يحصن من القتل، وكلهم أجمعوا على أحكام الدنيا على الظاهر، والله يتولى السرائر". فتح الباري (12/273- 274)
فهذا إجماع صريح في أن الأحكام في الدنيا سواء كانت في الكفر كما تقدم أو الإسلام على الظاهر فلزم بيان خطأ الشيخ وفقه الله في هذه المسالة وما بناه عليها فهو خطا لا شك فيه
كما أن استحداث الشيخ شرط القصد بالفعل أو الباعث على الفعل وهو في الحقيقة
( قصد الكفر ) في إجراء الأحكام الظاهرة من أكبر المؤاخذات عليه ولا دليل على اعتبار هذا القصد إطلاقا ، وهو قد لجأ إليه لما قرر أن الحكم بالكفر يكون على الظاهر والباطن معا وليس على الظاهر فحسب كما سبق ، وإن تجاوزنا اللفظ فيكون في الأعمال المحتملة الدلالة على مراد فاعلها فحسب فما بال الشيخ يفتح الباب على مصراعيه ؟!
وكما سبق فإن تقسيم الشيخ لحالات التلازم الأربع هي من عجائبه !
ودليها محض تحكم فما الذي يمنع مثلا أن تدخل الحالة الثانية في الحالة الرابعة إلا محض التحكم ولماذا لا يرد الاحتمال في القصد على الساب ؟!.. لماذا ؟ اللأن هذا غير معقول كما يقول الشيخ ؟... هل هذا تأصيل علمي مقبول ؟!
وهل يرد هذا الاحتمال على من يقول جاهلا إن الله ثالث ثلاثة ؟ أو إن المسيح ابن الله ؟ أو يرد على من يسجد للصنم ؟
فما فعله الشيخ وفقه الله في هذه القاعدة نقض لها وتفتيت لا دليل عليه والصحيح الذي هو مقتضى عموم الأدلة الشرعية وكلام أهل العلم والمحققين منهم أن التلازم بين الظاهر والباطن تلازم مطلق، وأن هذا لا دخل له في مسالة تكفير المعين ولا شروطه وموانعه فهذا كله خلط لا دليل عليه ...
وللمرجئة الذي احتج عليهم الشيخ بالتلازم أن يرجعوا عليه في مسالة جنس العمل ويقولوا أن تخلف العمل الظاهر لا يلزم منه بالضرورة تخلف الإيمان الباطن ..فكما أن الكفر الأكبر الذي في القلب(موالاة الكفار) لا يوجب في الظاهر عملا مع وجوده في الباطن فكذلك قد يوجد أصل الإيمان في الباطن مع تخلف موجبه في الظاهر ..
وجواب الشيخ عن هذا هو جوابنا في هذه المسالة ..
ولكن خطورة هذا الكلام أنه في مقام التأصيل ووضع الضوابط ومع ذلك فأدلته لا تساعد على تقريره...
والتلازم في الحالة الرابعة يفتح الباب لجميع النواقض المكفرة أن تتعلق بالباطن رغم تكرار الشيخ انه بهذا لا يعلق الحكم على الأمور الباطنة ولكنا نقول إن لم يكن هذا كذلك فماذا يكون ؟!
ومحاولة جعل السب وبعض الإعمال في حالة خاصة وتسميتها بالقطعية واستثنائها من الحالة الرابعة ليس بصحيح ولا يسلم للشيخ فيها !
بل نجعل الحالة الثانية (القطعية ) حجة على الحالة الرابعة إذ لا فرق بينها فكلها نواقض مكفرة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، فجعل بعضها قطعي الدلالة على القصد والأخرى ليست قطعية تحكم بلا دليل ، ومن فرق فعليه الدليل .
ولا دليل على ذلك إلا الرأي المجرد فضلا أنه لا دليل على هذا التقسيم أصلا...
وعليه فإذا كانت جميع المكفرات تتوقف على إقرار صاحبها بقصده للكفر فهي بذلك ترجع جميعا إلى الحالة الثالثة وهي مسالة العمل المحتمل الدلالة والقصد المحتمل والتي يتوقف فيها الحكم على المكلف وقصده من عمله ،وفي هذا إبطال لدلالة الأعمال المكفرة على ذلك وجعلها بمنزلة الأعمال محتملة الدلالة التي يستفصل عن قصد صاحبها من عمله هل أراد به الكفر أم لا ؟!
.... وهذا كله لم يسبق إليه الشيخ وفقه الله ...

- قال شيخ الإسلام رحمه الله :
" الإيمان والنفاق أصله في القلب وإنما الذي يظهر من القول والفعل فرعٌ له ودليل عليه ، فإذا ظهر من الرجل شيء من ذلك ترتب الحكم عليه . ومعلومٌ أنه إذا حصل فرع الشيء ودليله حصل أصله المدلولُ عليه اهـ 2/453
- وقال رحمه الله :
" فلا يجوز أن يدعى أنه يكون في القلب إيمان ينافي الكفر بدون أمور ظاهرة لا قول ولا عمل وهذا هو المطلوب، وذلك لأن القلب إذا تحقق ما فيه أثر في الظاهر ضرورة لا يمكن انفكاك أحدهما من الآخر فالإرادة الجازمة للفعل مع القدرة التامة توجب وقوع المقدور " 7/645
- وقال :
" وهنا أصول تنازع الناس فيها ، منها إن القلب هل يقوم به تصديق أو تكذيب ولا يظهر قط منه شيء على اللسان والجوارح وإنما يظهر نقيضه من غير خوف . فالذي عليه السلف والأئمة وجمهور الناس أنه لا بد من ظهور موجب ذلك على الجوارح "
- قال ابن القيم رحمه الله :
( الإيمان له ظاهر وباطن، وظاهره قول اللسان وعمل الجوارح وباطنه تصديق القلب وانقياده ومحبته فلا ينفع ظاهر لا باطن له وان حقن به الدماء وعصم به المال والذرية .
ولا يجزىء باطن لا ظاهر له الا اذا تعذر بعجز أو إكراه وخوف هلاك فتخلف العمل ظاهرا مع عدم المانع دليل علي فساد الباطن وخلوه من الايمان. الفوائد ص 117
- وما يقال في الإيمان يقال في الولاء فإنه ركن فيه فيقال فيه أيضا" ولا يجزئ باطن لا ظاهر له إلا إذا تعذر بعجز أو إكراه "
أما كفر النفاق والذي بنى عليه الشيخ الحالة الأولى من حالات عدم التلازم ثم بنى على ذلك أن ثمة كفر باطن لا يستلزم عملا ظاهرا فهذا من أعجب ما رأيت !!
فإنه من المعلوم أن ليس ثمة عمل في القلب اسمه " نفاق " وإنما هو نوع يرجع إلى تخلف بعض الأعمال القلبية أو فسادها كأصل الإخلاص والتعظيم والمحبة وغير ذلك وكل هذا أعمال للقلوب تستلزم في الظاهر ما يحققها بحسب قاعدة التلازم بين الظاهر والباطن .. فإن كان ثمة عارض منع ذلك كخشية السيف ،فإنها لا تظهر أو تظهر على وجه لا تقوم به البينة الشرعية..
وهذا لا يقال فيه أنه لا تلازم بين الظاهر والباطن لوجود العارض والمانع الذي لا يعود على القاعدة بالإبطال أو حتى الاستثناء كما فعل الشيخ وجعله قسما في المسالة ..
والنفاق كما قلنا يرجع لتخلف أعمال القلوب ولذا حكى الله سبحانه عن المنافقين أعمال الكفر كالاستهزاء والسب وغير ذلك مما جاءت به الآيات فهل يقال أنه كفر باطن ليس من الأعمال ما يدل عليه كما فعل الشيخ بالمحبة ؟!
وهذا كما يقال إن توحيد الربوبية يستلزم توحيد الالوهية ومعلوم أن كثير من المشركين قد يحقق الكثير من معاني توحيد الربوبية ومع ذلك لا يوحد الله في الإلوهية لوجود العارض ولا يعود ذلك على القاعدة بالإبطال..
- وأيضا فإن تصديق القلب يستلزم عمله من المحبة الانقياد أو بحسب الأمر المصدق به فهذا كله ما لم يكن ثمة عارض فإذا وجد عارض يحول بين تصديق القلب ومحبته وانقياده فإن هذا لا يعود على التلازم الذي بينهما بالإبطال ...
ومسالة أن هذا كفر نفاق لا يعني أن هذا الكفر كفر باطني كما يقرر الشيخ ولا يستدل بأي من الأعمال عليه وإلا فالكثير من المكفرات المجمع عليها قد ترجع في الأصل إلى كفر النفاق ككفر السب والاستهزاء :
قال تعالى :
( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون * أولئك الذين أشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين )
فالاستهزاء في الأصل هو من عمل المنافقين فهل يقال له هو كفر نفاق باطن ؟
وقال تعالى :
" يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم "
قال شيخ الإسلام :
( و أيضا فإن المنافقين الذين نزل فيهم قوله تعالى : ( و منهم الذين يؤذون النبي و يقولون هو أذن قل أذن خير لكم ـ إلى قوله ـ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم )
وقال -رحمه الله
: وقول من يقول عن مثل هذه الآيات أنهم كفروا بعد إيمانهم بلسانهم مع كفرهم أولا بقلوبهم لا يصح لأن الإيمان باللسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر فلا يقال قد كفرتم بعد إيمانكم فإنهم لم يزالوا كافرين فى نفس الأمر وان أريد أنكم أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان فهم لم يظهروا للناس إلا لخواصهم وهم مع خواصهم ما زالوا هكذا بل لما نافقوا وحذروا أن تنزل سورة تبين ما فى قلوبهم من النفاق وتكلموا بالإستهزاء صاروا كافرين بعد إيمانهم ولا يدل اللفظ على أنهم ما زالوا منافقين وقد قال تعالى يا أيها النبى جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا الا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما فى الدنيا والآخرة فهنا قال وكفروا بعد إسلامهم فهذا الإسلام قد يكون من جنس إسلام الأعراب فيكون قوله بعد إيمانهم وبعد إسلامهم سواء وقد يكونون ما زالوا منافقين فلم يكن لهم حال كان معهم فيها من الإيمان شيء لكونهم أظهروا الكفر والردة ولهذا دعاهم الى التوبة فقال فإن يتوبوا يك خير لهم وان يتولوا بعد التوبة عن التوبة يعذبهم عذابا أليما فى الدنيا والآخرة وهذا انما هو لمن أظهر الكفر فيجاهده الرسول بإقامة الحد والعقوبة.."
فما الفرق بين هذا وبين قوله تعالى " بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فان العزة لله جميعا "
فكونهم منافقين لا يعني ان كفرهم باطن وانهم لا يصدر منهم أعمالا تدل على نفاقهم وكفرهم

ثالثا :
وعلى فرض أن الشيخ وفقه الله أصر على أن أصل الولاء والبراء الذي هو ركن التوحيد والإيمان لا يستلزم عملا ظاهرا ثبوتيا يحققه ولا منافيا يناقضه وجعله مدفونا هكذا في القلب لا يظهر إلا كماله ولا ينقض إلا بزواله !
فرغم بطلان ما سبق ...
فإنا نحتج على الشيخ وفقه الله بالأدلة الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بما تنقض هذا الأصل وتثبت أن لأصل الولاء صور ظاهرة لا محالة تنقضه وتبطله ويلزم من وجودها في الظاهر زواله وبطلانه في الباطن ..
قال تعالى :
" لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة"
فهذه الآية نص في كفر من يتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين إلا ما كان مكرها على ذلك فله حكم المكره .
قال الإمام الطبري رحمه الله :
إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم وتضمروا لهم العداوة ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر ولا تعينوهم على مسلم بفعل
قال الإمام البغوي رحمه الله :
ومعنى الآية أن الله تعالى نهى المؤمنين عن موالاة الكفار ومداهنتهم ومباطنتهم إلا أن يكون الكفار غالبين ظاهرين أو يكون المؤمن في قوم كفار يخافهم فيداريهم باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان دفعا عن نفسه من غير أن يستحل دما حراما أو مالا حراما أو يظهر الكفار على عورة المسلمين والتقية لا تكون إلا مع خوف القتل وسلامة النية قال الله تعالى إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ثم هذا رخصة فلو صبر حتى قتل فله أجر عظيم
قال ابن كثير رحمه الله :
" أي إلا من خاف في بعض البلدان والأوقات من شرهم فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته "
وهذا التفسير من الأئمة يوضح بجلاء أن المولاة تكون ظاهرا وباطنا وأن المسلم منهي عنها في الظاهر والباطن ...

فلو قيل إن الموالاة التي تستحق أن يكون المرء ليس من الله في شيء - يعني كافرا - هي الموالاة الباطنة لما كان لقوله تعالى إلا أن تتقوا منهم تقاة معنى !
فهي كقوله سبحانه وتعالى : من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من اكره " كما ذكر أكثر المفسرين ...
فلو كان الكفر المذكور في الباطن كما يقول الشيخ لما كان لاستثناء المكره فائدة لأن الإكراه لا يكون على ما في الباطن..
واستثناء الإكراه والتقية في كلا الآيتين يدل على أن الكفر المقصود هو الكفر الظاهر لا الباطن وإلا لما كان للاستثناء معنى وهذا يجليه قول الامام الطبري السابق :
(ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر ولا تعينوهم على مسلم بفعل
)
فهذه الآية قاطعة في أن الكفر في مسالة الولاء يكون باطنا وظاهرا وان قول الشيخ أنه كفر نفاق أو كفر باطن لا يعني أنه لا يستلزم كفر في الظاهر .. وهذا واضح مع ما سبق بفضل الله ..

ومما هو جدير بالذكر أن الشيخ وفقه الله كان ينبغي عليه في مبحثه أن يطرح كل ما في الموضوع من آراء، ثم يرجح أيا ما يشاء ! لا أن يخلي البحث إلا من قوله وكان المسألة ليس فيها إلا ما أبداه، فهل يخفى على الشيخ وفقه الله أقوال أهل العلم في التكفير بمظاهرة المشركين على المسلمين مجردة عن الاعتقاد

هل يخفى على الشيخ حفظه الله نواقض الإسلام العشرة للشيخ محمد ابن عبد الوهاب ومنها مظاهرة المشركين على المسلمين .. أم أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب قيد النواقض كلها بالاعتقاد ؟!

هل يخفى على الشيخ وفقه الله الإجماع الذي ذكره الشيخ ابن باز في كفر من أعان الكفار بأي نوع من أنواع المعاونة ومن قبله إجماع ابن حزم وغيره
فإن خفي عليه وأظنه لا يخفى إن شاء الله فنذكره بطرف من ذلك ونحيله على البقية ...
لان في قلوبنا حزن أن يصف الشيخ مخالفه بأن لديه غلو في التكفير والله المستعان :
- قال الشيخ ابن باز رحمه الله :
( وقد أجمع علماء الإسلام على أنَّ من ظاهر الكفار على المسلمين وساعدهم بأي نوع من المساعدة فهو كافر مثلهم ) مجموع الفتاوى والمقالات 1/274
فهل مثل هذا الإجماع يترك ولا يشار إليه ويستدل بكلام غيره من المعاصرين ؟!!
إن قوة هذا النقل ليست في أنه رأي عالم مثل الشيخ رحمه الله ولكن قوته تكمن في أنه ينقل إجماعا يقضي على كل خلاف ...
وحتى لو كان رأيا مجردا للشيخ فهو من القوة بمكان ألا يهمل فضلا من أن يوصف صاحبه بأن لديه غلو في التكفير !
وهذا الإجماع منقول ومقرر معناه ويفسر بعضه بعضا ودليه واحد عبر القرون وهو قوله تعالى : " ومن يتولهم منكم فإنه منهم "
- قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله
الثامن : مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين ، والدليل قوله تعالى " ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين".) . الدرر السنية 10/92
- وقال أيضا :
( إن الأدلة على كفر المسلم إذا أشرك بالله أو صار مع المشركين على المسلمين ـ ولو لم يشرك ـ أكثر من أن تحصر من كلام الله وكلام رسوله وكلام أهل العلم المعتمدين ). الرسائل الشخصية ص 272
وتأمل هذا النقل الصريح للشيخ رحمه الله والذي يقطع الطريق على كل من يوهم بأن الشيخ يقيد كفر الموالاة باية قيود :
- قال رحمه الله في رسالته للشريف :
"" النوع الثالث: من عرف التوحيد وأحبه واتبعه. وعرف الشرك وتركه, ولكن يكره من دخل في التوحيد ويحب من بقي على الشرك. فهذا أيضاً كافر, وهو ممن ورد فيه قوله تعالى:
( ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم).
النوع الرابع: من سلم من هذا كله ولكن أهل بلده مصرحون بعداوة التوحيد واتباع أهل الشرك وساعون في قتالهم ويتعذر أن تركه وطنه يشق عليه, فيقاتل أهل التوحيد مع أهل بلده ويجاهد بماله ونفسه. فهذا أيضاً كافر .."
فتأمل النوع الرابع الذي ذكر الشيخ عنه أن صاحبه ممن عرف التوحيد وأحبه واتبعه وعرف الشرك وتركه وسلم من كره الموحدين وبغض المشركين لكنه فقط قاتل أهل التوحيد مع أهل بلدته من المشركين فكان كافرا ...فهل الشيخ محمد ابن عبد الوهاب غال في التكفير ؟ وهل مثل هذه الأقوال الصريحة تترك وينقل عن غيره ؟!

- وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمهم الله ( الدرر8/326) : "فمن أعان الكفار أو جرّهم إلى بلاد أهل الإسلام أنها ردة صريحة بالاتفاق"

- وقال الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله ( الدرر15/479) : فيمن تولى الكفار ونصرهم وأعانهم على المسلمين أن هذه ردة من فاعله يجب أن تجرى عليه أحكام المرتدين ، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة المقتدى بهم" ..
- وقال الشيخ سفر الحوالي حفظه الله "إن نصرة الكفار على المسلمين - بأي نوع من أنواع النصرة أو المعاونة ولو كانت بالكلام المجرد - هي كفر بواح ، ونفاق صراح ، وفاعلها مرتكب لناقض من نواقض الإسلام - كما نص عليه أئمة الدعوة وغيرهم - غير مؤمن بعقيدة الولاء والبراء" .. , وما أكثر ما يختلف الشيخ مع شيخه في هذه المسالة وفي غيرها!!
لاحظ معي اخي الكريم أن ما سبق كله تقرير من اهل العلم - ومنهم المحققون بلا شك - أن المسالة مجمع عليها وكلهم يفسر التولي المكفر بالنصر والمظاهرة والمعاونة وكلهم يستدل بالآية نفسها على وقوع الكفر بمجرد الفعل ...
وأخيرا نصل إلى أقدم إجماع في المسالة ألا وهو :
قال ابن حزم رحمه الله في المحلى (11/ 138) :
( صح أن قوله تعالى "وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُم" إنما هو على ظاهره بأنه كافر من جملة الكفار ، وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين )
ولقد أثار البعض شغبا حول هذا الإجماع ومراد ابن حزم رحمه الله من معنى التولي حتى أنهم حملوه وفسروه على أن التولي المذكور في الآية هو التولي على الدين !
ولكي أبين خطا هذا التوجه أنقل من كلام ابن حزم نفسه ما يوضح أنه رحمه الله قد عمل بمقتضى هذا الإجماع رغم وضوحه :
قال رحمه الله :
( وكذلك من سكن بأرض الهند والسند والترك والسودان والروم من المسلمين، فإن كان لا يقدر على الخروج من هنالك لثقل ظهر أو لقلة مال أو لضعف جسم أو لامتناع طريق؛ فهو معذور، فإن كان هنالك محاربا للمسلمين معينا للكفار بخدمة أو كتابة؛ فهو كافر) اهـ.
المحلى 11/200
وقال أيضا : (ولو أن كافرا غلب على دار من دور الإسلام وأقر المسلمين بها على حالهم، إلا أنه هو المالك لها المنفرد بنفسه في ضبطها، وهو معلن بدين غير الإسلام؛ لكفر بالبقاء معه كل من عاونه وأقام معه، وإن ادعى أنه مسلم) [اهـ.
فهل يقال بعد ذلك أن من يذهب لتكفر المعاون والمناصر والمظاهر للكفار عنده غلو في التكفير ؟!
هذا ولا أظن يخفى عليكم عشرات النقولات عن الأئمة رحمهم الله في هذا المعنى
رابعاً :
أقول الأصل الأول الذي انطلق منها الشيخ حفظه الله في معنى الموالاة قاصر!
فالولاء وإن كان أصله القرب والمحبة والقرب إلا أنه أنواع وصور متعددة وهو كما فسر بالمحبة فقد فسر بغيرها واستعمل فيها أكثر مم استعملت في المحبة كالنصرة والمعاونة فهي أيضا من معانيه في أصل الوضع...
وكون اللفظ أصله في اللغة كذا لا يعني بالضرورة أن ترجع جميع معانية على ذلك الصل لأنه قد ينتقل في استعمل الشرع عن هذا الأصل كما هو معلوم ومن ذلك لفظ افيمان في اللغة والصلاة والحج وغير ذلك ... فكيف إذا كانت النصرة هي اظهر معاني الولاء في اللغة والشرع ؟!
وقد عرفه العلماء بهذا وهذا وغيره من المعاني لكن ما يهمنا التركيز عليه هو معنى النصرة والمظاهرة التي أطبق المفسرون على تفسير آيات التولي بها والتي يغفلها كل من يتكلم من المخالفين...
والعجيب أن الشيخ حفظه الله قد نقل من أقوال أهل اللغة ما يعضد ذلك ولكنه حصر جميع هذه المعاني في المعنى الذي أراده وجعله أصله ومنطلقه ...
قال الشيخ وفقه الله في رسالته :
وجاء في الصحاح: ( الوَلْيُ: القرب والدنو، يقال: تباعد بعد وَلْيٍ والوليّ ضد العدو، والموالاة ضد المعاداة والمولى الحليفُ)
) والوِلاية بالكسر: السلطان. والوَلاية والوِلاية: النصرة. يقال: هم عليَّ وِلاية أي: مجتمعون في النصرة) فما بال الشيخ وفقه الله اختزل كل هذه المعاني في المحبة ...
وأزيد هنا ما جاء في لسان العرب من معنى الولاء :
" قال: والـمَوْلـى الـحَلِـيفُ، وهو من انْضَمَّ إِلـيك فعَزَّ بعِزِّك وامتنع بمَنَعَتك؛ قال عامر الـخَصَفِـي من بنـي خَصَفَةَ:
همُ الـمَوْلـى وإِنْ جَنَفُوا عَلَـيْنا وإِنَّا مِنْ لِقائِهم لَزُورُ
قال أَبو عبـيدة: يعنـي الـمَوالِـي أَي بنـي العم، وهو كقوله تعالـى: {ثم يخرجكم طِفْلاً والـمَوْلـى: الـمُعْتَقُ انتسب بنسبك، ولهذا قـيل للـمُعْتَقِـين الـمَوالـي، قال: وقال أَبو الهيثم الـمَوْلـى علـى ستة أَوجه: الـمَوْلـى ابن العم والعمُّ والأَخُ والابنُ والعَصباتُ كلهم، والـمَوْلـى الناصر، والـمولـى الولـي الذي يَلِـي علـيك أَمرك، قال: ورجل وَلاء وقوم وَلاء فـي معنى وَلِـيَّ وأَوْلِـياء لأَن الوَلاء مصدر، والـمَوْلـى مَوْلـى الـمُوالاة وهو الذي يُسْلِـمُ علـى يدك ويُوالـيك، "
وجاء في القاموس المحيط :
"الوَلْيُ: ي القُرْبُ، والدُّنُوُّ، والمَطَرُ بعدَ المَطَرِ، وُلِيَتِ الأرضُ، بالضم. والوَلِيُّ: الاسمُ منه والمُحِبُّ، والصَّدِيقُ، والنَّصيرُ. ووَلِيَ الشيءَ، وـ عليه وِلايَةً وَوَلايَةً، أَو هي المَصْدَرُ، وبالكسر: الخُطَّةُ، والإمارَةُ، والسُّلطانُ. وأوْلَيْتُه الأمْرَ: وَلَّيْتُه إياهُ. والوَلاءُ: المِلْكُ. والمَوْلَى: المالِكُ، والعَبْدُ، والمُعْتِقُ، والمُعْتَقُ، والصاحِبُ، والقريبُ كابنِ العَمِّ ونحوِه، والجارُ، والحَليفُ، والابنُ، والعَمُّ، والنَّزيلُ، والشَّريكُ، وابنُ الأُخْتِ، والوَلِيُّ، والرَّبُّ، والناصِرُ، والمُنْعِمُ والمُنْعَمُ عليه، والمُحِبُّ، والتابِعُ، والصِّهْرُ"
فإذا كان الولاء له كل هذه المعاني والتي كانت النصرة من أبرز معانيه مع المحبة وغير ذلك مما ذكر وكل هذا في أصل الوضع ...
فمن الخطأ أن نقرر أن هذا اللفظ أصله كذا في اللغة ثم نحمل كل استعمالات الشارع عليه !
وهذا كمن فسروا الإيمان فقالوا إن أصله في اللغة هو التصديق وإن الله سبحانه وتعالى قد خاطب العرب بهذه اللغة فيكون معنى الإيمان في استعمالات الشارع ومراده هو التصديق فاخطئوا خطا بينا !
وكان جواب أهل السنة عليهم انه لا يلزم أن يكون اللفظ في اللغة على معنى أن يكون في الشرع على نفس هذا لمعنى وضربوا الأمثلة على ذلك بلفظ الحج والصلاة وغيرها … محتجين عليهم أن اللفظ قد ينتقل عن معناه في أصل الوضع ...
بل ذكر المحققون منهم أن الإيمان في اللغة عند التدقيق ليس معناه التصديق فحسب بل فيه معنى زائد على ذلك وهو الأمن ... وكل هذا مقرر في مظانه من كتب شيخ الإسلام
** ففي هذه المسألة .. فإذا كان الولاء في اللغة هو المحبة فهذا لا يلزم أن يكون في الشرع كذلك ، فلقد استعمل على غير هذا المعنى في مواطن عديدة من كتاب الله ،
ولا أدل من إطباق المفسرين على تفسير آيات التولي بالنصرة والمعاونة ...
فكيف إذا انضم ألى ذلك أن الولاء في اللغة أيضا يكون على معنى النصرة والمعاونة ؟!
فالواجب أن نحدد استعمال الشرع لأي من هذه المعاني بدلا من أن نجعلها في صورة واحدة ونغض الطرف عن بقية الصور وكأن هذه الصور والمعاني ليست من معناه ... فأين التحقيق العلمي ؟
فإن قيل في قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء " يعني نصراء وأحلاف فهو تفسير صحيح لغة واصطلاحا ،إن قيل أحبابا فهو أيضا صحيح لغة واصطلاحا وإن قيل موالي لكان صحيحا لغة واصطلاحا ...
ولكن أيهم انسب للسياق وأيهم مراد الشارع والذي يستحق حكم الكفر لمن يفعله بقوله " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " هذه مهمة المحققين من أهل العلم
ولقد فسر المفسرون هذا الموالاة بمقتضى ما سبق من معاني ...
فجاء في تفسير القرطبي رحمه الله :
" قوله تعالى‏{‏ومن يتولهم منكم‏}‏ أي يعضدهم على المسلمين ‏{‏فإنه منهم‏}‏ بين تعالى أن حكمه كحكمهم؛ وهو يمنع إثبات الميراث للمسلم من المرتد، وكان الذي تولاهم "ابن أبي" ثم هذا الحكم باق إلى يوم القيامة في قطع الموالاة؛ وقد قال تعالى‏{ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار‏} (‏هود‏:‏ 113‏)‏ وقال تعالى في ‏‏(آل عمران) {‏لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين‏} (‏آل عمران‏:‏ 28‏)‏ وقال تعالى‏{‏لا تتخذوا بطانة من دونكم‏} (‏آل عمران‏:‏ 118‏) وقد مضى القول فيه‏.‏ وقيل‏:‏ إن معنى ‏{‏بعضهم أولياء بعض‏}‏ أي في النصر ‏{‏ومن يتولهم منكم فإنه منهم‏}‏ شرط وجوابه؛ أي أنه قد خالف الله تعالى ورسوله كما خالفوا، ووجبت معاداته كما وجبت معاداتهم، ووجبت له النار كما وجبت لهم؛ فصار منهم أي من أصحابهم‏" ا.هـ

وكثير من المفسرين على ذلك منهم من يفسرها بالمحبة ومنهم من يفسرها بالنصرة ومنهم من يفسرها بالولاء ( العتق )
ولكن لما كان الحكم المقرر لهذا العمل هو الكفر فقد يقيد البعض هذه المعاني بما يضبطه ، كالمحبة مثلا فلما كانت المحبة قد تختلط بالمحبة الفطرية أو غيرها من أنواع المحبة الجائزة أو المباحة أو حتى المحرمة قيدت بالمحبة على الدين ليكون السياق متفق مع الحكم الذي حكم الله به .وهذا لا إشكال فيه وأكثر صور الولاء على هذا القيد ومع ذلك فهذا لا يتعارض مع التكفير بالنصرة والمظاهرة فهي من أبرز معاني التولي ، فمن فسر بالمحبة وقيدها بالمحبة الدينية لم يمنع تفسيرها بالنصرة بدون هذا القيد بل جعل بعضهم النصرة لازمة للمحبة على الدين أو إرادة ظهور الكافرين وإن لم يحب دينهم ويرضاه في الحقيقة كما ذكر الإمام الطبري وقد يستخدم هذا المعنى في سياق والمعنى الأخر في سياق آخر وكلها صحيحة فيقيد هنا ولا يقيد هناك كما سبق عن القرطبي في تفسيره لآيات التولي وفي قصة حاطب ...
وسيأتي مزيد بيان حول هذا إن شاء الله ... والله اعلم
هذا وإن المشكلة أحيانا تحصل من أن تهيمن فكرة معينة على الباحث عند بحثه فيتخذها مرتكزا ويجعلها منطلقا ، وهذا يجعل الباحث أحيانا في تعامله مع النصوص وأقوال أهل العلم حاكما عليها لا محتكما إليها وهو أشبه بمن قيل فيه " اعتقد ثم استدل" ، ولذا تجده يعتصر النص أو النقل حتى يخرج بما يشبه الفكرة التي سيطرت عليه فإن وجد فيها إشارة أو ذكر لما يريد ولو لم يكن له صله بالموضوع عظمه وكبره وسلط الضوء عليه ، ولذا تجده يحيط بالنص إحاطة السوار بالمعصم، فيوجه القارئ قبل النقل وبعده وربما أثناءه ويفسر قول العالم في هذا المكان بقول آخر له في سياق مختلف بل لعله يفسره بنقل لعالم آخر!
ليتصور القارئ وكأنه أمام سياق واحد في نقل واحد فلا يعطي للقارئ فرصة أن يتأمل المعنى أو يتدبر ما أمامه ، وهو مع كل ذلك لا يدعي انه استنباط أو تأويل أو ملحظ بل يزعم دائما انه نص الآية ومنطوقها ...
و الذي يحزن القلب أن يحصل هذا من الفضلاء أهل العلم والفضل يتبعون مثل هذا الأسلوب ( أحيانا ) فهو يعلم أن للعالم هذا مخالفون كثر أو أنه أوثق منه ,وأضبط بل إن لهذا العالم أقوالا واضحة وصريحة فيبدأ بما يتوافق معه من متشابه كلام العالم ومحتمله ثم يضعه في صورة المحكم بالأسلوب الذي سبق الإشارة إليه ثم يحمل كلامه الأخر على هذا المعنى ليحمل القارئ على ما أراد هو من النقل لا ما أراد صاحبه فيتصور القارئ أن ليس في المسالة غير هذا وأنها على قول واحد لا يرد عليه اختلاف بل ويزيد أن المخالف لهذا غال وإنا لله وإنا إليه راجعون ...

و لو سألنا عن معنى التولي الذي فسره العلماء في قوله تعالى :
" يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ، بعضهم أولياء بعض "
أهو المحبة ؟! أهو النصرة والمعونة ؟ أهو الميراث ؟ أهو العتق ؟ أهو الولاية والسلطان ؟
أي من هذه المعاني التي هي من معنى التولي لغة واصطلاحا أراد الله سبحانه وتعالى ؟
نجد الشيخ وفقه الله وغيره لم يتعرض لهذا إطلاقا !
إنما التركيز على نقطة معينة هي المنطلق والأساس أن التولي على الدين هو ما يستحق حكم الآية !
ما معنى هذا التولي ؟
لماذا لا تطرح التفاسير المعتمدة لهذه الآية وتترك للمتأمل أن يتأملها والقارئ أن يتدبرها ؟!
هذا وإن منطلقنا دائما وحجتنا الباقية والمتوافقة مع كلام أهل العلم وقواعدهم في الأصول والتفسير أن التولي في الآية هو" النصرة والمعونة" وهو ما عليه عامة المفسرين على اختلاف عباراتهم ، وان هذا المعنى الذي فسروا به التولي هو لغة واصطلاحا من معاني الولاء ، وأن الحكم في الآية ومن يتولهم منكم فإنه منهم صريح في تكفير من يظاهر الكفار وينصرهم ويعاونهم على المسلمين دون قيود ، وانه باعتراف الشيخ وفقه الله ليس ثمة دليل على أية قيود وإنما الأمر كما ذكر وفقه الله يرجع لمعنى التولي !
قال الشيخ في مبحثه :
" والحاصل مما تقدم أن تقييد الكفر بموالاة الكفار بأن تكون الموالاة لأجل دين الكفار إنما يستند إلى حقيقة الولاء و البراء.....
وقال : وهذا معنى ما قرره العلماء في النقول السابقة عنهم، على اختلاف عباراتهم، ويبين استنادهم إلى هذا الوجه ، وكونه كافيا عندهم في الدلالة على تقييد الكفر بموالاة الكفار لأجل دينهم أنهم لم يذكروا في مستند تقييدهم للموالاة أنه قد وردت نصوص أخرى تقيد الإطلاق في الآيات الواردة في الحكم بالكفر بموالاة الكفار، وأهمية ذلك أن يعلم أنه ولو لم يستدل بالنصوص الدالة على عدم الكفر بموالاة الكفار لمجرد غرض دنيوي فإن مجرد العلم بحقيقة الولاء والبراء، والتفريق بين ما ينافي أصله وبين ما ينافي كماله فيه الدلالة الكافية على أن الكفر بموالاة الكفار ليس مطلقاً، بحيث يشمل كل موالاة لهم، وإنما هو مقيد بموالاتهم لأجل دينهم " . ا .هـ
يعني ليس ثمة نصوص مقيدة
وقد أثبتنا فيما سبق الكثير من معاني التولي في أصل الوضع والاصطلاح ..
وبعد هذا نزعم أن معنى الآية واضح وصريح ومدعم بإجماع الأمة الذي سبق نقله فأي حجة بعد هذه الحجة وأي وضوح بعد هذا الوضوح ...
وقد سبق طرف من كلام أهل العلم حول هذا المعنى ..
بعدما أظهرنا المنطلق الذي ننطلق منه وهو بإبراز معاني الولاء لغة وشرعا وبينا أن هذه المعاني قد تتلازم مع المحبة وقد لا تتلازم وأن المعنى المتفق عليه بين المفسرين في معنى الولاء في الآية هو النصرة والمعونة...
نذكر هنا منطلقا أخر يمليه العمل بمقتضى قواعد الأصول ألا وهو :
أن لفظ الولاء هنا ( يتولهم ) لفظا مطلقا ( يشتمل كل معاني الولاء المذكورة سابقا ) وعلى فرض أن السياق أو نص الآيات لم تحدد أيا من هذه المعاني هو المقصود ..
وقد حكم الله سبحانه وتعالى على من يتخذ الكفار أولياء بالكفر وانه منهم ..
فالأصل أن يكون هذا الحكم على إطلاقه في كل صورة من صور الولاء إلا ما استثنى الشارع نفسه ..
هذا هو الأصل وهو الذي تدل عليه قواعد أصول الفقه واللغة ..
فإن جاء وقال البعض أنتم تكفرون بكل صور الولاء نقول له : نعم هذا هو الأصل إلا ما دل الدليل على إخراجه من هذا الأصل ،كمحبة الأب والأم الكافرين الفطرية وإكرامهم والانبساط لهم وطاعتهم في الحدود التي ذكر الشرع ...وكقصة حاطب رضي الله عنه وما روري عن ابي لبابة رضي الله عنهم أجمعين وغير ذلك....
على تفصيل يرجع كله لهذا الأصل ..
وهذا طرف من كلام آهل العلم :
قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير الآية :
1- والصواب من القول فـي ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالـى ذكره نهى الـمؤمنـين جميعا أن يتـخذوا الـيهود والنصارى أنصارا وحلفـاء علـى أهل الإيـمان بـالله ورسوله، وأخبر أنه من اتـخذهم نصيرا وحلـيفـا وولـيا من دون الله ورسوله والـمؤمنـين، فإنَّه منهم فـي التـحزّب علـى الله وعلـى رسوله والـمؤمنـين، وأن الله ورسوله منه بريئان. وقد يجوز أن تكون الآية نزلت فـي شأن عُبـادة بن الصامت وعبد الله بن أبـيّ ابن سلول وحلفـائهما من الـيهود، ويجوز أن تكون نزلت فـي أبـي لُبـابة بسبب فعله فـي بنـي قريظة، ويجوز أن تكون نزلت فـي شأن الرجلـين اللذين ذكر السدّيّ أن أحدهما همّ بـاللـحاق بدهلك الـيهودي والآخر بنصرانـي بـالشأم، ولـم يصحّ بواحد من هذه الأقوال الثلاثة خبر يثبت بـمثله حجة فـيسلـم لصحته القول بأنه كما قـيـل. فإذ كان ذلك كذلك فـالصواب أن يُحْكم لظاهر التنزيـل بـالعموم علـى ما عمّ، ويجوز ما قاله أهل التأويـل فـيه من القول الذي لا علـم عندنا بخلافه غير أنه لا شك أن الآية نزلت فـي منافق كان يوالـي يهودَ أو نصارى، خوفـا علـى نفسه من دوائر الدهر، لأن الآية التـي بعد هذه تدل علـى ذلك، وذلك قوله: فَتَرى الَّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِـيهِمْ يَقُولُونَ نَـخْشَى أنْ تُصِيبَنا دَائِرَةٌ... الآية.

فهذا تفسير صريح من إمام المفسرين لمعنى التولي في هذه الآية بلا شك ..

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: إنَّ اللّهَ لا يَهْدِى القَوْمَ الظَّالِـمِينَ.
2- يعنـي تعالـى ذكره بذلك، أن الله لا يوفق من وضع الولاية فـي غير موضعها فوالَـى الـيهود والنصارى مع عداوتهم الله ورسوله والـمؤمنـين علـى الـمؤمنـين، وكان لهم ظهيرا ونصيرا، لأن من تولاهم فهو لله ولرسوله وللـمؤمنـين حرب.
3- أُولئكَ بعضُهمْ أوْلياءُ بَعْضٍ يقول: هاتان الفرقتان، يعني المهاجرين والأنصار، بعضهم أنصار بعض، وأعوان على من سواهم من المشركين، وأيديهم واحدة على من كفر بالله، وبعضهم إخوان لبعض دون أقربائهم الكفار. وقد قيل: إنما عنى بذلك أن بعضهم أولى بميراث بعض، وأن الله ورَّث بعضهم من بعض بالهجرة والنصرة دون القرابة والأرحام،...
4- والَّذِينَ آمَنُوا الذين صدقوا بالله ورسوله، ولَمْ يُهاجِرُوا قومهم الكفار، ولم يفارقوا دار الكفر إلى دار الإسلام. ما لَكُمْ أيها المؤمنون بالله ورسوله المهاجرون قومهم المشركين وأرضَ الحرب، مِنْ وَلايَتِهِمْ يعني: من نصرتهم وميراثهم. وقد ذكرت قول بعض من قال: معنى الولاية ههنا الميراث،
5- القول في تأويل قوله تعالى :
{وَٱلَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي ٱلأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}
يقول تعالى ذكره: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بالله ورسوله، بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ يقول: بعضهم أعوان بعض وأنصاره، وأحقّ به من المؤمنين بالله ورسوله.
6- (من اتخذ الكفار أعواناً وأنصاراً وظهوراً يواليهم على دينهم ويظاهرهم على المسلمين فليس من الله في شيء، أي قد برئ من الله وبرئ الله منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر)
وقوله على دينهم لا إشكال فيه لأنه قال بعد ذلك : (ومن تولى اليهود والنصارى من دون المؤمنين فإنه منهم، أي من أهل دينهم وملتهم. فإنه لا يتولى متولٍ أحداً إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض، وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى ما خالفه وسخطه، وصار حكمه حكمه)
فهذا هو المفهوم الصحيح لكلام هذا الإمام فلا يتولى متولٍ أحداً إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض...
شاء أم أبى لأنه لازم له لا محيد له عنه لا أنه قيد !!!
- الإمام النسفي :
1- {ياأيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا اليهود والنّصارى أولياء} أي لا تتخذوهم أولياء تنصرونهم وتستنصرونهم وتؤاخونهم وتعاشرونهم معاشرة المؤمنين. ثم علل النهي بقوله {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ }[الانفال:37] وكلهم أعداء المؤمنين، وفيه دليل على أن الكفر كله ملة واحدة {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ }[المائدة:15] من جملتهم وحكمه حكمهم، وهذا تغليظ من الله وتشديد في وجوب مجانبة المخالف في الدين {إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ }[المائدة:15] لا يرشد الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفرة {فَتَرَى ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ }[المائدة:25] نفاق {يُسَـٰرِعُونَ } حال أو مفعول ثانٍ لاحتمال أن يكون من رؤية العين أو القلب {فِيهِمْ } في معاونتهم على المسلمين وموالاتهم {يَقُولُونَ } أي في أنفسهم لقوله على «ما أسروا» {نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ }[المائدة:25] أي حادثة تدور بالحال التي يكونون عليها {فَعَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِىَ بِٱلْفَتْحِ }[المائدة.
2- {أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ }[الانفال:27] أي يتولى بعضهم بعضاً في الميراث، وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة وبالنصرة دون ذوي القرابات حتى نسخ ذلك بقوله {وَأُوْلُو ٱلاْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ }[الأحزاب:6] وقيل: أراد به النصرة والمعاونة.
البيضاوي :
{وَٱلَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى ٱلاٌّرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ }
{وَٱلَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } في الميراث أو المؤازرة، وهو بمفهومه يدل على منع التوارث أو المؤازرة بينهم وبين المسلمين. {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ } إلا تفعلوا ما أمرتم به من التواصل بينكم وتولى بعضكم لبعض حتى في التوارث وقطع العلائق بينكم وبين الكفار.
الثعالبي :

1- وقوله سبحانه: {وَٱلَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ }[الانفال:37]؛ وذلك يجمع الموارثَةَ والمعاوَنَةَ والنُّصْرة،

2- وقوله سبحانه: {يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ أَوْلِيَاء }[المائدة:15]: نهى اللَّه سبحانه المؤمنين بهذه الآية عَن اتخاذِ اليهودِ والنصارَىٰ أولياءَ في النُّصْرة والخُلْطة المؤدِّية إلى الِٱمتزاج والمعاضَدَة، وحُكْمُ هذه الآيةِ باقٍ، وكلُّ مَنْ أكثر مخالطةَ هذَيْن الصِّنْفين، فله حَظُّه من هذا المَقْت الذي تضمَّنه قوله تعالى: {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ..
- القرطبي :
وقد سبق النقل عنه وأيضا قال رحمه الله :

{أُوْلَـٰئِكَ} رفع بالابتداء. {بَعْضُهُمْ} ابتداء ثان {أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} خبره، والجميع خبر «إنّ». قال ٱبن عباس: «أولياء بعض» في الميراث؛ فكانوا يتوارثون بالهجرة، وكان لا يرث من آمن ولم يهاجر من هاجر فنسخ الله ذلك بقوله «وَأُولُوا الاٌّرْحَامِ» الآية. أخرجه أبو داود. وصار الميراث لذوي الأرحام من المؤمنين. ولا يتوارث أهل ملّتين شيئاً. ثم جاء قوله عليه السلام:
«ألحِقوا الفرائض بأهلها»
على ما تقدّم بيانه في آية المواريث. وقيل: ليس هنا نسخ، وإنما معناه في النصرة والمعونة؛ كما تقدّم في «النساء». {وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ} ابتداء والخبر {مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ} وقرأ يحيى بن وثَّاب والأعمش وحمزة «من وِلايتهم» بكسر الواو. وقيل هي لغة. وقيل: هي من وليت الشيء؛ يقال: ولِيٌّ بيّن الوَلاية. ووالٍ بيّن الوِلاية. والفتح في هذا أبيَن وأحسن؛ لأنه بمعنى النصرة والنسب. وقد تطلق الوِلاية والوَلاية بمعنى الإمارة.............................. الرابعة ـ قوله تعالى: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ} الضمير عائد على الموارثة والتزامها. المعنى: إلا تتركوهم يتوارثون كما كانوا يتوارثون؛ قاله ٱبن زيد. وقيل: هي عائدة على التناصر والمؤازرة والمعاونة وٱتصال الأيدي.
ولتراجع الآية وكلام القرطبي رحمه الله ففيها تنوع استخدام أهل العلم لمعنى الولاء للكثير من معانيه ...
الإمام البغوي :
1- {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ}، في العون والنصرة ويدهم واحدة على المسلمين، {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ}، فيوافقهم ويعينهم، {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ}.
{فَتَرَى ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ}، أي: نفاق يعني عبد الله بن أُبي وأصحابه من المنافقين الذين يُوالون اليهود، {يُسَـٰرِعُونَ فِيهِمْ}، (أي في معونتهم وموالاتهم، {يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ}، دولة، يعني: أن يدول الدهر دولته فنحتاج إلى نصرهم إيّانا، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: معناه نخشى أن لا يتمّ أمر محمد فيدور الأمر علينا، وقيل: نخشى أن يدور الدهر علينا بمكروه من جدب وقحط، ولا يعطنا الميرة والقرض، {فَعَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِىَ بِٱلْفَتْحِ}، قال قتادة ومقاتل: بالقضاء الفصل من نصر محمد على من خالفه، وقال الكلبي والسدي: فتح مكة، وقال الضحاك: فتح قرى اليهود مثل خيبر وفدك، {أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ}، قيل: بإتمام أمر محمد ، وقيل: (هذا) عذاب لهم، وقيل: إجلاء بني النضير، {فَيُصْبِحُواْ}، يعني: هؤلاء المنافقين، {عَلَىٰ مَآ أَسَرُّواْ فِىۤ أَنفُسِهِمْ}، من موالاة اليهود ودسّ الأخبار إليهم، {نَـٰدِمِينَ}.

2- {أُوْلَـٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ}، دون أقربائهم من الكفار. قيل: في العون والنصرة. وقال ابن عباس: في الميراث وكانوا يتوارثون بالهجرة، فكان المهاجرون والأنصار يتوارثون دون ذوي الأرحام، وكان من آمن ولم يهاجر لا يرث من قريبه المهاجر حتى كان فتح مكّة انقطعت الهجرة وتوارثوا بالأرحام حيث ما كانوا، وصار ذلك منسوخاً بقوله عزّ وجلّ: {وَأُوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَـٰبِ ٱللَّهِ} (الأنفال: 75)، {وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلـٰيَتِهِم مِّن شَىْءٍ}، يعني: في الميراث، {حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ}، قرأ حمزة: {وَلـٰيَتِهِم} بكسر الواو والباقون بالفتح، وهما واحد كالدلالة والدلالة. {وَإِنِ ٱسْتَنصَرُوكُمْ فِى ٱلدِّينِ}، أي: استنصركم المؤمنون الذين لم يهاجروا...

وألخص ما سبق لننتقل إلى قضية الغرض الدنيوي وأثرها في التكفير وضوابطه :
ذكرت فيما سبق أن كون الولاء أصله المحبة الباطنة يجاب عليه بأمرين :
الأول: أن هذا لا يعني أن لا يستلزم أعمالا ظاهرة تدل عليه..
والثاني: أن الولاء من معانية في أصل الوضع والاصطلاح النصرة والمعاونة
- وذكرت أن الانطلاق في البحث من هذا المنطلق خطا ظاهر وغير منضبط ...
- واظهر دليل بالإضافة إلى ما سبق أن أصل الإيمان في القلب ولم يقل أن من حققه في الباطن فقد حقق أصل الإيمان إلا أهل التجهم والإرجاء
أيضا فإن العبادة أصلها الخضوع والتذلل ولا يقال أن من حقق هذا الخضوع وهذا التذلل في القلب فقد حقق العبادة المطلوبة ..
- بل إن أصل الإيمان في عبارات ابن القيم رحمه الله في كتاب الصلاة جعله التصديق والمحبة وعبر بلفظ المحبة عن أعمال القلوب ولا يقال طبعا أن من حقق المحبة المذكورة دون لوازمها فقد حقق أصل الإيمان
- الولاء لا يقتصر معناه على المحبة فقط بل إن من معانيه في اللغة والاصطلاح النصرة وإن لم تكن ثمة محبة فقد تتلازم مع المحبة وقد لا تتلازم كما قال الله سبحانه وتعالى عن الكافرين من اليهود والنصارى " بعضهم أولياء بعض " مع قوله سبحانه وتعالى في اليهود ‏{‏وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة‏}‏ وقال في النصارى ‏{‏فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة‏}‏‏.‏
والآيات في ذلك كثيرة ...
وكذلك من معاني الولاء العتق والسلطان والميراث وغير ذلك من المعاني وقد نقلت من ذلك شيئا فيما سبق ..
- وذكرت أن تفسير العلماء للولاء بالنصرة في آية التولي وغيرها هو الصحيح وهو ما يتوافق مع السياق ومنهم من يفسرها بالمحبة والمودة ويقيدها بأن تكون على الدين وهذا صحيح لا إشكال فيه ولا تعارض بين التفسيرين فالنصرة والمحبة من معاني الولاء وكذا الميراث والعتق وقد فسرت الآية وغيرها على كل هذه المعاني فما كان يستحق التقيد بأن يكون على الدين كالمحبة وغيرها قيد وما كان لا يلزم منه ذلك كالنصرة والمظاهرة فلا يقيد والأصل عدم التقييد...
- علما بأن أخر الآية يؤكد صدق تفسير الولاء بالنصرة والمعونة للكافرين على المسلمين ،
وأن التولي المذكور لم يكن على الدين بل كان لغرض دنيوي وهو نص لا ادري كيف تذهب بنا الغفلة فنتجاوزه إلى التقاط الكلمات من هنا وهناك ...
فقوله سبحانه :" فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم..... " ... لم يسارعون فيهم ؟ هل لأجل محبتهم أو محبة دينهم أبدا والله بل كانوا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم في حرب ضروس وبغضاء وتقاتل فهل جاء الإسلام ليحبب المشركين في اليهود ودينهم ؟ !!!
بل كما ذكر الله سبحانه وتعالى سبب المسارعة وهو قوله سبحانه " يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة "
فمن أصدق من الله قيلا ؟
- وذكرت ايضا ان المنطلق الصحيح المتوافق مع أصول البحث والاستدلال على فرض عدم التسليم بهذا التفسير هو أن يقال أن لفظ الموالاه هنا عام مطلق يشمل كل معاني التولي بلا قيود ومن يتولهم بأي نوع من التولي فهو منهم فيقال أن جميع الصور تدخل في الآية ولا يستثنى منها إلا بنص فتكون كل صور التولي مكفرة إلا ما يدل الشرع على إخراجه من هذه الصور .... وهذا أصل
******************
الغرض الديني أو الدنيوي وتأثير على الأحكام الظاهرة :
أولا : الغرض الديني أو الدنيوي لا اعتبار له في الأحكام الظاهرة لأنه أولا :
أمر باطن والأحكام تناط بالأعمال الظاهرة بإجماع أهل السنة ..
فهو ليس وصفا ظاهرا تناط به الأحكام وهذا يعتبر علة قادحة في التعليل بمثله كما هو معلوم عند كافة الأصوليين...
وثانيا : الغرض الدنيوي ليس وصفا منضبطا له حدود يمكن أن تناط به الأحكام فلا هو ظاهر ولا هو منضبط وأي منهما يبطل اعتباره في الأحكام الظاهرة..
ثالثا : لا دليل صريح على اعتبار الغرض الديني أو الدنيوي في الأحكام الظاهرة ..
بل الأدلة على عدم اعتباره وهو أشبه بالأوصاف الطردية التي لا تعلل بها الأحكام لعدم مناسبتها وإذا اعتبرت فيتعلق الحكم بمظنتها لا بها لخفائها وعدم ضبطها .
رابعا : إذا كانت الأعمال الظاهرة كمظاهرة الكافرين على المشركين ومعاونتهم بالنفس والمال والسلاح وغير ذلك كما يقول الشيخ هي من قبيل المعاصي دون الكفر ولا تدل بذاتها على محبة ظهور الكافرين أو محبة دينهم فما هو تاثيرالغرض الدنيوي أو الديني هنا ؟!
ولماذا إقحامه إذا تقرر أن العمل في أصله معصية ؟
فإن قيل أنه معصية إذا كان لغرض دنيوي قلنا فما حكم هذا العمل في الأصل ؟
فإن قيل هو كفر في الأصل وإذا كان لغرض دنيوي فهو معصية قلنا ما الدليل على كونه كفر في الأصل ؟ فإن قيل الآيات تدل على ذلك قلنا وما بال المحبة القلبية هنا ؟ ولماذا لم تفسر بها الموالاة ؟
وإن قيل هو في الأصل معصية قيل فما تأثير الغرض هاهنا إذا كان العمل في اصله معصية ؟
فإن قيل إذا دخل الغرض الديني عليه صار كفر ا
قلنا وهل يصح أن نقول على هذا الاعتبار أن جميع المعاصي كفر على اعتبار إن استحلها أصحابها ؟ بمعنى أن نقول الزنا كفر والسرقة كفر وشرب الخمر كفر وعقوق الوالدين كفر باعتبار إذا استحلها أصحابها ؟!
والخلاصة
أن الأعمال في ذاتها مجردة عن الغرض الديني والغرض الدنيوي إما أن تكون كفرا وإما أن تكون معصية هذا من جهة الدليل الشرعي ...
وفي مسالة الولاء كذلك إما أن يكون موالاة الكافرين كفرا وإما أن تكون معصية دون الكفر وإما أن تنقسم إلى صور يكون منها كفرا ومنها دون ذلك ...
فإن كانت كفرا فلا تأثير لأي من الغرضين لأن المرجع هو الدليل وإن كانت معصية فلا تأثير أيضا لأن المرجع هو الدليل ، وإن قيل أن ثمة صور محتملة للكفر وغيره يعمل فيها بمثل هذا الغرض فيقال هذا هو المطلوب ... وليس كل الأعمال على هذه الصورة ...

خامسا : قد قيد آخرون جميع المكفرات بنفس القيد الذي قيد به الشيخ الكفر في مسالة الموالاة واستدلوا بنفس دليله على أن الكفر إذا كان لغرض دنيوي فلا يكون كفرا مخرجا من الملة فبماذا يرد الشيخ وفقه الله على ذلك ؟
فإن قال هو دليل خاص قيل لا دليل على التخصيص والأصل أن لا تخصيص إلا بنص ... فإن قال نعم هو عام في جميع المكفرات - وهذا ما نلزمه به - فقد ولج بابا عظيما من الإرجاء لم يسبق إليه ونحن يقينا ننزه الشيخ عن ذلك ولكن يبقى أن يبقى أنه يوافق هؤلاء على شيء من منهجهم الباطل ...
سادسا : الآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة تدل على عدم اعتبار هذا الغرض في الأحكام الظاهرة ، بل جعله الله سبحانه وتعالى في غير ما آية سببا لكفر جميع الكفار بل للمعاندين منهم الذين هم أشد الناس كفرا وجحودا..
قال تعالى عن الكفار:
{ مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَليْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللهِ وَلهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ . ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }
فأخبر سبحانه أنه لم يحملهم على الكفر إلا حظوظ الدنيا، فآثروها على الآخرة... فكيف يكون سبب كفرهم عذرا لهم ..
قال شيخ الإسلام رحمه الله :
وقال أيضاً : (( قوله : { مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَليْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللهِ وَلهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ . ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ . أُوْلئِكَ الذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُوْلئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ . لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الْخَاسِرُونَ } ، فقد ذكر تعالى من كفر بالله من بعدِ إيمانِهِ وذكر وعيدَه في الآخرة ، ثم قال: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلى الآخِرَةِ } وبَيَّن تعالى أَنَّ الوعيد استحقوه بهذا .
ومعلومٌ أَنَّ باب التَّصديق والتَّكذيب والعلم والجهل ليس هو من باب الحبِّ والبُغْضِ ، وهؤلاء يقولون إِنَّما استحقُّوا الوعيدَ لزوال التَّصديق والإيمان من قلوبهم ، وإِنْ كان ذلك قد يكون سببه حبَُ الدُّنيا على الآخرة ، والله سبحانه وتعالى جعل استحبابَ الدُّنيا على الآخرة هو الأصل الموجب للخُسْران . واستحباب الدُّنيا على الآخرة قد يكون مع العلم والتَّصديق بأَنَّ الكفر يضرُّ في الآخرة ، وبأَنَّه مالَه في الآخرة من خَلاق .
و "أيضاً" فإِنَّه سبحانه استثنى المكْرَه من الكفار ، ولو كان الكفر لا يكون إلاّ بتكذيب القلب وجهله لم يُسْتَثْنَ منه المُكرَه ، لأَنَّ الإكراه على ذلك ممتنعٌ فعُلِمَ أَنَّ التَّكلُّم بالكفر كفر إلاَّ في حال الإكراه .
وقوله تعالى : { وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا } . أي : لاستحبابه الدُّنيا على الآخرة ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً ، يبيع دينَه بعَرَضٍ من الدُّنيا ) فمن تكلَّم بدون الإكراه ، لم يتكلَّم إلاَّ وصدرُه منشرحٌ به ))

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله :
والثانية قوله تعالى : (( ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة )) .
فصرح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد أو الجهل أو البغض للدين أو محبة الكفر ، وإنما سببه أن له في ذلك حظاً من حظوظ الدنيا فآثره على الدين . (كشف الشبهات)
وقال تعالى في اليهود : " {أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون}."
وقال تعالى : "فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهما مما يكسبون " فهل هناك أصرح من هذا ؟!
وقال تعالى : "من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون"
وقال جل شأنه : "وويل للكافرين من عذاب شديد * الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال مبين"
وقال تعالى : ( فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة ...) وهذا نص في مسالة المولاة
- وقال تعالى : " بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فان العزة لله جميعا "
وهذا أيضا نص في الموالاة ...
قال الطيري رحمه الله : ( القول في تأويل قوله تعالى الذين يتخذون الكافرين أوليآء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا)
أما قوله جل ثناؤه الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين فمن صفة المنافقين
يقول الله لنبيه يا محمد بشر المنافقين الذين يتخذون أهل الكفر بي والإلحاد في ديني أولياء يعني أنصارا وأخلاء من دون المؤمنين يعني من غير المؤمنين
أيبتغون عندهم العزة يقول أيطلبون عندهم المنعة والقوة باتخاذهم إياهم أولياء من دون أهل الإيمان بي فإن العزة لله جميعا يقول فإن الذين اتخذوهم من الكافرين أولياء ابتغاء العزة عندهم هم الأذلاء الأقلاء فهلا اتخذوا الأولياء من المؤمنين فيلتمسوا العزة والمنعة والنصرة من عند الله الذي له العزة والمنعة الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء فيعزهم ويمنعهم وأصل العزة الشدة..."
وقال الإمام البغوي:
" ( الذين يتخذون الكافرين أولياء ) يعني يتخذون اليهود أولياء وأنصارا أو بطانة ( من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة ) أي المعونة والظهور على محمد  وأصحابه وقيل أيطلبون عندهم القوة ( فإن العزة ) أي الغلبة والقوة والقدرة ( لله جميعا )"

قال أبو السعود في تفسيره :
( أيبتغون عندهم العزة ) إنكار لرأيهم وإبطال له وبيان لخيبة رجائهم وقطع لأطماعهم الفارغة والجملة معترضة مقررة لما قبلها أى أيطلبون بموالاة الكفرة القوة والغلبة قال الواحدى أصل العزة الشدة ومنه قيل للأرض الشديدة الصلبة عزاز.."
وقال الشيخ السعدي :
" أي الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر بأقبح بشارة وأسوئها وهو العذاب الأليم وذلك بسبب محبتهم الكفار وموالاتهم ونصرتهم وتركهم لموالاة المؤمنين فأي شيء حملهم على ذلك ( أيبتغون عندهم العزة )وهذا هو الواقع من أحوال المنافقين ساء ظنهم بالله وضعف يقينهم بنصر الله لعباده المؤمنين ولحظوا بعض الأسباب التي عند الكافرين وقصر نظرهم عما وراء ذلك فاتخذوا الكافرين أولياء يتعززون بهم ويستنصرون.."
وقوله (فأي شيء حملهم على ذلك ) أليس هو الباعث الذي جعله الشيخ مانعا من التكفير ؟
!

وقال صلى الله عليه وسلم : "بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافر ويمسي مؤمنا ويصبح كافر يبيع دينه بعرض من الدنيا " الحديث
قال الشيخ ابن باز رحمه الله " وذلك بأن يتكلم بالكفر، أو يعمل به من أجل الدنيا، فيصبح مؤمناً، ويأتيه من يقول له: تسب الله تسب الرسول، تدع الصلاة ونعطيك كذا وكذا، تستحل الزنا، تستحل الخمر، ونعطيك كذا وكذا، فيبيع دينه بعرض من الدنيا، ويصبح كافراً أو يمسي كذلك، أو يقولوا: لا تكن مع المؤمن ونعطيك كذا وكذا لتكون مع الكافرين، فيغريه بأن يكون مع الكافرين، وفي حزب الكافرين، وفي أنصارهم، حتى يعطيه المال الكثير فيكون ولياً للكافرين وعدواً للمؤمنين، وأنواع الردة كثيرة جداً، وغالباً ما يكون ذلك بسبب الدنيا، حب الدنيا وإيثارها على الآخرة؛...
فهذه آيات من كتاب الله تعالى وأحاديث من كلام النبي صلى الله عليه وسلم تبين بجلاء ان سبب اتخاذ الكافرين أولياء ومسارعتهم فيها هو الأغراض الدنيوية من المال والعزة والقوة ، ولم يجعل أيا منها مانعا من التكفير أي من علماء الإسلام...
واختم بكلام لشيخ الاسلام رحمه الله :
"- والنبي إذا أمر بالقتل أو غيره من العقوبات والكفارات عقب فعل وصف له صالح لترتب ذلك الجزاء عليه كان ذلك الفعل هو المقتضي لذلك الجـزاء لا غيره كما أن الأعرابي لما وصف له الجماع في رمضان أمره بالكفارة ، ولما أقر عنده ماعز والغامدية وغيرهما بالزنا أمر بالرجم ، وهذا مما لا خلاف فيه بين الناس نعلمه ، نعم قد يختلفون في نفس الموجب هل هو مجموع تلك الأوصاف أو بعضها ، وهو نوع من تنقيح المناط ، فأما أن يجعل ذلك الفعل عديم التأثير والموجب لتلك العقوبة غيره الذي لم يذكر فهذا فاسد بالضرورة .
لكن يمكن أن يقال فيه ما هو أقرب من هذا : وهو أن هذا الرجل كذب على النبي كذبا يتضمن انتقاصه وعيبه ، لأنه زعم أن النبي حكمه في دمائهم وأموالهم ، وأذن له أن يبيت حيث شاء من بيوتهم و مقصودة بذلك أن يبيت عند تلك المرأة ليفجر بها ، ولا يمكنهم الإنكار عليه إذا كان محكما في الدماء والأموال .
ومعلوم أن النبي لا يحلل الحرام ، ومن زعم أنه أحل المحرمات من الدماء والأموال والفواحش فقد انتقصه وعابه ، ونسب النبي إلى أنه يأذن له أن يبيت عند امرأة أجنبية خاليا بها ، وأنه يحكم بما شاء في قوم مسلمين ، وهذا طعن على النبي وعيب له ، وعلى هذا التقدير فقد أمر بقتل من عابه وطعن عليه من غير استتابة وهو المقصود في هذا المكان ، فثبت أن الحديث نص في قتل الطاعن عليه من غير استتابة على كلا القولين .
ومما يؤيد القول الثاني أن القوم لو ظهر لهم أن هذا الكلام سب وطعن لبادروا إلى الإنكار عليه ، ويمكن أن يقال : ربهم أمره ، فتوقفوا حتى استبانوا ذلك مـن النبي لما تعارض وجـوب طاعـة الرسـول وعظم ما أتاهم به هذا اللعين ، ومن نصر القول الأول قال : كل كذب عليه فإنه متضمن للطعن عليه كما تقدم .
ثم إن هذا الرجل لم يذكر في الحديث أنه قصد الطعن والإزراء ، وإنما قصد تحصيل شهوته بالكذب عليه وهذا شأن كل من تعمد الكذب عـليه فإنه إنما يقصد تحصيل غرض له إن لم يقصد الاستهزاء به ، والأغراض في الغالب إما مال أو شرف كما أن المسيء إنما يقصد - إذا لم يقصد مجرد الإضلال - إما الرياسة بنفاذ الأمر وحصول التعظيم ، أو تحصيل الشهوات الظاهرة ، وبالجملة فمن قال أو فعل ما هو كُفر كَفر بذلك وإن لم يقصد أن يكون كافرا إذ لا يقصد الكفر أحد إلا ما شاء الله. "
************************************************** *****
قصة حاطب رضي الله عنه
ذكر الشيخ وفقه الله حديث علي رضي الله عنه : ( بعثني رسول الله والزبير والمقداد بن الأسود، وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة، ومعها كتاب، فخذوه منها، فانطلقنا تعادى بنا خيلنا، حتى انتهينا إلى الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي من كتاب. فقلنا: لتخرجن الكتاب فإذا فيه: من حاطب بنأو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله : ، فقال رسول الله أبي بلتعة إلى أناس من أهل مكة، يخبرهم ببعض أمر رسول الله يا حاطب ما هذا؟ قال: يا رسول الله لا تعجل علي، إني كنت امرءًا ملصقًا في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة، يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذا فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدًا يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفرًا ولا ارتدادًا ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول : قد صدقكم. فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق. قال: إنه قدالله شهد بدرًا، وما يدريك لعل الله أن يكون قد أطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم )
وعلق الشيخ وفقه الله : وفي هذا الحديث الدلالة على أصلين، هما قوام الاستدلال على أن موالاة الكفار لمجرد غرض دنيوي ليست كفرًا. فأما الأصل من مكاتبة قريش وإفشاء سر رسول اللهالأول فما دل عليه الحديث من أن ما فعله حاطب داخل في عموم موالاة الكفار ومظاهرتهم على المسلمين، وأما الأصل الثاني فما دل لم يكفر بتلك الموالاة؛ لأنها لم تكن موالاة للمشركينعليه الحديث من أن حاطبًا على دينهم، وإنما كانت لمجرد غرض دنيوي وهو حماية أهله وماله بمكة.
والتعليق على هذا أقول :
أما الأصل الأول وهو دخول فعل حاطب رضي الله عنه في عموم الموالاة فنعم وأهل العلم في التفريق بين الموالاة والتولي على حالين :
فمنهم من يفرق بينهما ويجعل التولي كفرا والمولاة ليست بكفر إلا أن تكون على الدين
ومنهم من يجعله بابا واحدا ويقسمه إلى موالاة مكفر ة ومولاة غير مكفرة..
وهذا التقسيم بحد ذاته والذي يقول به بعض من يحتج بهم الشيخ وفقه الله على مذهبه
كالعلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ هو حجة على من يجعل كل صور الموالاة أو التولي دون الكفر ...
وعلى ذلك فأن إدراج بعض العلماء لفعل حاطب في باب الموالاة الغير مكفرة ليس معناه انه يعد جميع الصور كذلك .. فينبغي معرفة منهج من يحتج بكلامه في هذا الباب .. وسيأتي كلام الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ ...
والفعل قد يكون جنسه كفرا وهو ليس بكفر كالحلف بغير الله فهو كما جاء في الحديث "من حلف بغير الله فقد أشرك " ومع ذلك فهو ليس بشرك اكبر إلا على أوجه ذكرها أهل العلم
أو كالطواف حول القبر وغير ذلك
وفعل حاطب يدخل في عموم الموالاة بل في عموم الإعانة أيضا ومع ذلك فقد يصل إلى الكفر وقد لا يصل لأنه حالة خاصة و صورة محتملة كما سيأتي ... ..
والصورة المحتملة تختلف عن القطعية في أن القطعية واضحة الدلالة على الإعانة وإرادة ظهور الكفار كمن يقاتل في صفوف الكفار أو يتبرع لهم بماله وسلاحه ورأيه ،فهذا لا يشك عاقل في انه قصد أعانتهم ومظاهرتهم أراد ظهورهم وانتصارهم ، أما المحتملة فهي وإن كانت من هذا الجنس إلا أنها لا يقطع معها بهذا المعنى لما يحيط بها من قرائن تدل على ذلك وهذه الصور المحتملة هي التي يجب فيها الإستفصال دون غيرها لورود الاحتمال على دلالتها ...
و لان التكفير لا يقع بالظنون ولا بما يحتمل ، بل لا بد من القطع عند ورود الاحتمال ...
أما الصور الظاهرة القاطعة فلا يقال فيها بالاستفصال لأنها ظاهرة الدلالة وهذا أمر معروف لا يخفى على أحد..
والمخالف يقول لكن المكاتبة وما فعله حاطب هو إعانة فعلية ولها أثرها في الحروب ... والجواب عليه أننا لم نقل أن فاعلها مسلم مطلقا بل قلنا كما قال الشافعي ليس هذا بكفر بين ... فعله محتمل للكفر وغيره يدل على عظم عمله وخطورته ... هذا أولا
وثانيا :أن كون عمله إعانة فعلية لا يغير من الأمر شيئا فكونه لا يقصد الإعانة أو أن عمله لا يدل على ذلك بصورة قاطعة هو مناط الحكم عليه أما كونه إعانة للكفار فقد يعينهم بالكثير من الطرق عن طريق الخطأ فقد يمكن الكفار من المسلمين بجهله وحماقته إذا كان قائدا وكل هذا لا يعني أنه ظاهرهم أو أعانهم على المسلمين وأبواب الإعانة الفعلية كثيرة كالتجارات والكثير من المعاملات وغيرها فهي إعانة فعلية ولكن هذا باب آخر يختلف عن ما نحن فيه ..

والصور المحتملة مثل ما يقال في ألفاظ السب الصريح والمحتمل فما كان صريحا في السب والاستهزاء فانه قاطع في استحقاق الحكم بالكفر على قائله ولو ادعى خلافه أما ما كان محتملا فالقول قول قائله ويجب هنا الاستفصال لورود الاحتمال في قصده للمعنى المكفر من اللفظ لا لقصده الكفر ! ولذا قال سبحانه وتعالى " لا تقولوا راعنا " لما كان اليهود يقصدون به الاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ لأنهم يعنون به الرعونة ..
وأبدله سبحانه بقوله " وقولوا انظرنا " ..والألفاظ قد تكون في أصل الوضع على معنى وفي الاستعمال والاصطلاح على معاني أخرى ، فيراعى معنى اللفظ في عرف الاستعمال خاصة في ألفاظ السب والتنقص وهل هذا اللفظ صريح في هذا المعنى أو لا في عرف الاستعمال فإن كان صريحا اخذ به وإلا فلابد من الاستفصال عند احتمال اللفظ لأكثر من معنى ...
وهذا أصل ( أي التفريق بين الصريح في الدلالة والمحتمل ) جاءت به الشريعة وقررته في الكثير من أبوابها ...
فمثلا في باب الشرك اختلف العلماء في صورة الطواف بالقبر هل هي شرك بذاتها أم أنها بدعة لا تكون شركا إلا إذا قصد تعظيم المقبور واتفقوا على الكثير من صور الشرك الصريح كالدعاء والذبح وغير ذلك
فإذا جاء وقال قائل نستفصل في كل صور الشرك فلا شك انه مخطئ ويحتاج أن يراجع أصوله ...
وهنا في قصة حاطب رضي الله عنه جاء الشيخ وفقه الله مع إقراره أن فعل حاطب - محتمل الدلالة - وسحب حكم فعل حاطب على جميع صور الموالاة وجعلها جميعا في حكم المحتمل من الأفعال ولم يراعي أنه صورة محتملة من جنس صور قطعية ...

فنحن لدينا ثلاثة أنواع من صور الموالاة :
1- صور قطعية الدلالة على المولاة أو التولي وحكمها كفر مخرج من الملة ومن أظهرها التصريح بمحبة دين الكافرين والرضى به وكذلك من ينصرهم الكفار ويظاهرهم على المسلمين بالرأي والنفس والمال وغير ذلك .. وإن كان لا يحب دينهم أو يرضى به فهذا كفر مخرج من الملة ...
2- صور محتملة الدلالة على الموالاة فهي تدخل في عمومها وهي من جنس الصور السابقة كما أن الحلف والريا من جنس الشرك ولكنها تكون تارة على وجه الكفر وتارة تكون كبيرة من الكبائر والفرق بينها وبين التي تليها أن ذات العمل محتمل بحسب القرائن وما يحيطه فتارة يكون موالاة ومظاهرة وتارة لا يكون كذلك كفعل حاطب رضي الله عنه
3- صور محرمة تدخل في عموم الموالاة كبعض أنواع التشبه والمصادقة والركون والبشاشة والمحبة وغير ذلك ..

فإذا رجعنا إلى فعل حاطب رضي الله عنه فنجده فعلا يدخل في عموم الموالاة وهو من جنس المعاونة والمظاهرة إلا انه فعلا محتملا في ذاته على هذا المعنى الأخير والشيخ يقر بذلك ..
والدليل على أن فعل حاطب من هذا النوع ( الثاني ) من صور الموالاة :
أذكر دلالتين على ذلك الأولى من كلام الشافعي رحمه الله :
والثانية هي اختلاف العلماء في حكم فعل حاطب
وكلا الدلالتين تقضيان أن صورة فعل حاطب رضي الله عنه من الصور المحتملة ... وهذا لا يعني أن لا يوجد صور صريحة ... هذا بالضرورة
قال الشافعي رحمه الله : " في هذا الحديث - مع ما وصفنا لك طرح الحكم باستعمال الظنون ؛ لأنه لما كان" الكتاب يحتمل" أن يكون ما قال حاطب كما قال من أنه لم يفعله شاكاً في الإسلام , وأنه فعله ليمنع أهله , ويحتمل أن يكون زلة لا رغبة عن الإسلام , " واحتمل المعنى الأقبح ," " كان القول قوله فيما احتمل فعله" , وحكم رسول الله فيه بأن لم يقتله ولم يستعمل عليه الأغلب "
وفي سؤال الربيع وجواب الشافعي رحمه الله درر كثيرة ازعم أنها تحل الإشكال في هذه المسالة لمن يتأملها حق التأمل منها :

1- قول الربيع رحمه الله في بداية النقل : " قيل للشافعي رحمة الله عليه: أرأيت المسلم يكتب إلى المشركين من أهل الحرب بأن المسلمين يريدون غزوهم، أو بالعورة من عوراتهم، هل يحل ذلك دمه، ويكون ذلك دلالة على ممالأة المشركين على المسلمين؟.
" فقوله " ويكون ذلك دلالة على ممالأة المشركين على المسلمين " تدل أن ممالأة المشركين بمعنى مظاهرتهم ونصرتهم على المسلمين كفر وأن هذا مقرر عند الشافعي والربيع والإشكال في دلالة هذه الأعمال على هذا المعنى المكفر ....
ولو قيل فقط ممالة المشركين لكان يمكن تفسيرها على المحبة أو الموافقة ولكن العبارة " ممالأة المشركين على المسلمين " فهل هناك أوضح من ذلك ؟

2- أن الشافعي بنى حكمه وكلامه على كتاب حاطب الذي يضعف الشيخ وفقه الله سند ثبوته وشنع على من ذكره من أهلا لعلم حيث قال :
" وأما ما استند إليه في تبرير إخراج فعل حاطب عن كونه موالاة للكفار من أن حاطبًا قد كتب إلى المشركين يتوعدهم، ويدعوهم إلى الإسلام، فلم يذكر لقوله إسنادًا يحكم عليه، وقد ذكر الإمام القرطبي نحو ما ذكره، وقال بعده: (ذكره بعض المفسرين). وذكره الحافظ ابن حجر ونسبه إلى بعض أهل المغازي، ولم يحكم عليه، وحكاه الشوكاني عن السهيلي، ولم يحكم عليه أيضًا(فأي حجة في مثل هذا. "
فالشيخ هنا لا يقر بما ورد عن كتاب حاطب للمشركين ومع هذا فإنه نقل كلام الإمام الشافعي الذي يدورجل كلامه على كتاب حاطب وما يحتويه !!!
هل يترك كلام الشافعي رحمه الله كله لأنه بناه على ما لا يحتج به عنده ؟!
هذا أمر هام غفل عنه الشيخ ونحن نتظر تعليق الشيخ على هذا ..
3- الشافعي رحمه الله صرح بان الكتاب الذي أرسله للكفار وما يحتويه يتضمن احتمال ثلاثة أوجه وهي :
- يحتمل أن يكون ما قال حاطب كما قال من أنه لم يفعله شاكاً في الإسلام , وأنه فعله ليمنع أهله
- ويحتمل أن يكون زلة لا رغبة عن الإسلام
- ويحتمل أن يكون على المعنى القبيح
فالشافعي رحمه الله يتكلم هنا عن كتاب وما يحتويه من كلمات ... يعني ركن مادي وعمل ظاهر، وذكر أن هذا الكتاب يحتمل أن يكون على الثلاثة أوجه السابقة فالمرجع في احتمالية العمل هو الكتاب وما تحيطه من قرائن ظاهرة مقالية وحالية تدل على صدق حاطب فيما اخبر عند الاستفصال ولذا قال رحمه الله : في هذا الحديث مع ما وصفنا لك طرح الحكم باستعمال الظنون ، فالحكم كان على الظاهر وبني على عمل ظاهر ..فأين محل الغرض الدنيوي في كلام الشافعي رحمه الله ؟
4- الإمام الشافعي رحمه الله يؤصل القاعدة التي سبق ذكرها وهي أن العمل يكون فيه الاستفصال عند ورود الاحتمال على دلالته وذلك بقوله " كان القول قال: (( قدقوله فيما احتمل فعله" وقوله " : أفرأيت إن قال قائل: إن رسول الله صدق )) إنما تركه لمعرفته بصدقه، لا بأن فعله كان يحتمل الصدق وغيره، فيقال له: قد في أن المنافقين كاذبون، وحقن دماءهم بالظاهر، فلو كان حكم النبي علم رسول الله حاطب بالعلم بصدقه كان حكمه على المنافقين بالعلم بكذبهم، ولكنه إنما حكم في كل منهم السرائر"بالظاهر، وتولى الله
5- الاحتمال هنا في العمل ودلالته كما ذكر الشافعي رحمه الله وهو مضمون كتاب حاطب الذي بنى الشافعي حكمه عليه وذكر ما يتضمنه من احتمالات " كعمل ظاهر" وذكر أن هذا الحديث فيه طرح الحكم باستعمال الظنون ، والقرائن تدل على صدقه من أنه كان لصيقا في قريش ولم يكن منها وان له أموالا وأولادا يريد أن يحفظها بهذا الكتاب وانه يوقن بأن الله ناصر دينه ومعلي كلمته فالقرائن الحالية والمقالية تدل على صدقه مع احتمال الوجه القبيح ... كل هذا في " عمل ظاهر " رسالة مكتوبة "
ولكن الشيخ وفقه الله غض الطرف عن كل هذا وجعل الاحتمال ليس في عمل حاطب الظاهر" الكتاب وما يحتويه " ولكن في " قصد حاطب " الباطن فجعل مدار الأمر على قصد الكفر أو مودة الكافرين لدينهم دون اعتبار للعمل الظاهر ! ... وهذا خطأ ظاهر لمن يتأمله !
وليته وفقه الله قصر هذا الأمر على فعل حاطب بل سحب حكمه على كل صور المولاة هكذا بضربة لازب
لا فرق بين محتمل الدلالة ولا قطعيها ولا ادري ما فائدة أن يقرر الشيخ وفقه الله احتمالية فعل حاطب بقوله :
" وما ذكره الإمام الشافعي في دلالة قصة حاطب  على الاحتمال في فعله، وأن النبي  لم يكفر حاطبًا؛ لأن فعله يحتمل الكفر وما دونه فقه متين، والدلالة فيه واضحة، لا ينكرها إلا جاهل بما بينه الإمام الشافعي أو جاحد معاند.
."
فأي فقه استفيد من كلام الشافعي وكلامه رحمه الله عن الحكم الظاهر وكلام الشيخ كله الحكم بالظنون والبواطن والأغراض ؟!
6- مما يؤكد أن فعل حاطب رضي الله عنه كان فعلا محتملا قول الشافعي رحمه الله :
" وليس الدلالة على عورة مسلم، ولا تأييد كافر بأن يحذر أن المسلمين يريدون منه غرة ليحذرها، أو يتقدم في نكاية المسلمين بكفر بيّـن.
"
فقوله ليس بكفر بين يعني أمورا منها :
- أن من صور الموالاة ما يكون كفرا بينا في الظاهر وهي مظاهرة المشركين وممالأتهم على المسلمين كما سبق من التعليق على السؤال الذي أجاب عنه الإمام..
- ويعني أيضا أن فعل حاطب ليس بكفر بين ومثل هذا لا يقال في الذنوب والمعاصي فمثلا الزنا وغيره من الكبائر لا يقال فيه ليس بكفر بين بل يقطع أنه ليس بكفر فقوله ليس بكفر بين يدل على انه يحتمل الكفر بذاته ويحتمل أن يكون غير ذلك بحسب القرائن على ما سبق عنه رحمه الله ورضي الله عنه ..
7- قول الشيخ وفقه الله "وكان جواب الإمام الشافعي بأن ما ذكر مما هو من مظاهرة المشركين، وما هو أبلغ منه في المظاهرة، وهو التقدم في نكاية المسلمين، بأن يقاتل المسلمين مع المشركين ليس من الكفر البين. وإنما قال الإمام الشافعي إن التقدم في نكاية المسلمين ليس بكفر بين " مغالطة واضحة أسأل الله أن يغفر له
فقول الشافعي رحمه الله "" وليس الدلالة على عورة مسلم، ولا تأييد كافر بأن يحذر أن المسلمين يريدون منه غرة ليحذرها، أو يتقدم في نكاية المسلمين بكفر بيّـن. " فقوله أو يتقدم عائد على الكافر الذي يحذر الغرة لا على المسلم الذي يدل على العورة والدليل على ذلك استدلاله بحديث حاطب رضي الله وليس فيه سوى الدلالة ..
وأيضا السؤال الذي ذكره الربيع رحمه الله كان حكم المكاتبة إلى الكفار ومدى دلالتها على ممالأة المشركين على المسلمين وذلك بقوله : " قيل للشافعي رحمة الله عليه: أرأيت المسلم يكتب إلى المشركين من أهل الحرب بأن المسلمين يريدون غزوهم، أو بالعورة من عوراتهم " فكيف يقال أن الشافعي أجاب عن حكم ممالأة المشركين على المسلمين رأسا واستدل بفعل حاطب ففهم الشيخ وفقه الله أن النكاية بالمسلمين حصلت من المسلم خطا والله أعلم ..
وما بناه على ذلك أيضا خطا وتكرار الشيخ أن الشافعي أجاب عن حكم " مظاهرة المشركين" مرارا لا إيهام لا ينفعه ، وليس بصحيح، فالشافعي أجاب عن سؤال واضح بإجابة سبق التعليق عليها والدليل مطابق لما سئل عنه ...
ولذلك فإن قول الشيخ :

- ))) وكان جواب الإمام الشافعي بأن ما ذكر مما هو من مظاهرة المشركين، وما هو أبلغ منه في المظاهرة، وهو التقدم في نكاية المسلمين، بأن يقاتل المسلمين مع المشركين ليس من الكفر البين...
- ومقتضى قول الإمام الشافعي هذا أنه يجزم بالإحكام في دلالة حديث حاطب على عدم التكفير بمظاهرة المشركين لغرض دنيوي
- على أن مظاهرة المشركين ليست من الكفر البينومستند الإمام الشافعي في قصة حاطب لم يحكم بكفر حاطب بمجرد ما حصل منه من مظاهرة المشركين، مع أنه لا أحدأن النبي يمكن أن يأتي في مظاهرة المشركين...
- ومع تشديد الإمام الشافعي في شأن ما حصل من حاطب من مظاهرة المشركين إلا أن ذلك عنده ليس من الكفر البيّـن؛ لأن فعل....
- ثم نبه الإمام الشافعي بعد ذلك على أمر مهم، وهو أنه قد يقع في النفس ترجيح الاحتمال بالكفر بمجرد الموالاة الظاهرة للمشركين،...
ويحذر الإمام الشافعي من الاستناد إلى مجرد دلالة الفعل في ذلك، وإن غلب على النفوس من ذلك ما يغلب، والاكتفاء بدلالة القول، لكونه وحده المنبئ عن الاعتقاد الباطن في حال مظاهرة المشركين لأجل دينهم....))) ا.هـ
* كل ما سبق وغيره إيهام أو إيحاء للقارئ بإغراقه بالتكرار أن الشافعي أجاب عن حكم " مظاهرة المشركين" خطا يؤخذ على الشيخ غفر الله له ونجل الشيخ أن يفعل مثل هذا ...
ومن يتأمل السؤال والجواب ودليله ينبغي أن يجل الإمام الشافعي رحمه الله ويحفظ له قدره ...
ولكن الإشكال في نظري هو في تركيب المعاني ! فلما جزم الشيخ وفقه الله أن المكاتبة والدلالة هي من جنس المظاهرة ( وهذا صحيح ) بل جعلها اشد أنواع المظاهرة ضررا بالمسلمين فتصور - مع ما سبق التنبيه عليه - أن الشافعي أجاب عن حكم المظاهرة واخذ يكرر هذا ويستعمله في أكثر من عشر مواضع في صفحة أو صفحتين وهذا خطأ قصده الشيخ أم لم يقصده ...
فليس من شك أن تأمل السؤال والجواب واجب وانعام النظر فيهما يقتضي أنه إذا كان السؤال عن مدى دلالة هذه الأعمال على المظاهرة أو الممالأة وكان الجواب هو أن هذه الأعمال محتملة الدلالة على ذلك المعنى والدليل هو حديث حاطب فكيف جاء هذا الفهم الغريب ؟!
فالدلالة وما فعل حاطب عمل ظاهر وهو من جنس المظاهرة والموالاة والممالأة لا شك ولكن الشافعي جعله محتملا بذاته على هذه المعاني فكيف نسحب حكم هذه الصورة على الأصل الذي لم تتحقق دلالة هذه الصورة عليه ؟!
ولا شك أن ثمة أعمال هي اقطع في الدلالة منه فمن يقود جيوش الكفار رافعا رايتهم لقتال المسلمين أو يمدهم بالسلاح والرأي والمشورة تبرعا منه أظهر في الدلالة على الممالأة والموالاة من من يكاتبهم من بعيد وفي خفيه ومقابل مال مثلا على إرادة ظهور الكفار ورفع راية الكفر وإن كانوا في الكفر سواء ... إلا أن يدل دليل ظاهر أو قرائن حالية أو مقالية على أن الأخير كان كفعل حاطب وأنى له . .
8- قول الشيخ بناءا على ما سبق :
" وما ذكره الإمام الشافعي هنا عام في التفريق بين ما هو كفر لذاته وبين ما يكون الكفر به متعلقًا بالباطن، بحيث لا يحكم على فاعله بالكفر إلا من جهة دلالة القول على الكفر الباطن. فما كان كفرًا لذاته لم يشترط في تكفير المعين به التثبت من اعتقاده الباطن بدلالة القول عليه، وإنما يكتفى بالتثبت من تحقق شروط التكفير وانتفاء موانعه في حقه، بخلاف الذنوب التي دون الكفر، فإنها لا تكون كفرًا لذاتها، وإنما يكون الكفر بما يكون في الباطن من الاعتقاد الذي هو كفر، كاستحلال المعصية"
* أقول تقسيم الكفر إلى ما هو كفر لذاته وبين ما يكون الكفر به متعلقًا بالباطن ... يفهم منه أن جميع المعاصي والذنوب يمكن أن يطلق عليها أنها كفر مخرج من الملة ولكن على قسمين قسم هو كفر لذاته وقسم يكون الكفر فيه متعلقا بالباطن .. وهذا تقسيم محدث لم يسبق إليه !!!
فالذنوب تنقسم إلى كفر وما دون الكفر أي معاصي وذنوب وليس هناك نوع كفر يسمى كفر متعلق بالباطن بل الأعمال على قسمين كفر أكبر مخرج من الملة ، وذنوب دون ذلك ..
كبائر وصغائر لا تكون كفر إلا بالاستحلال أو الجحود ...
ولا تسمى كفرا متعلقا بالباطن يعني لا تعد نوعا من الكفر وإلا فجميع الذنوب قد نعدها من هذا النوع من الكفر ... ولم يقل بذلك احد!
والشيخ وفقه الله في غالب مباحثه وكتبه يميل إلى تأصيل نظرياته بوضعها أصولا وقواعد كما في كتابا لضوابط وهذا مكمن خطورته وهو أيضا ما يستدعي التدقيق في كلامه وفقه الله ..
فأراد الشيخ هنا وفقه الله أن يحدث نوعا من الكفر متعلقا بالباطن ليقول بعد ذلك أن الكفر في الموالاة كفر نفاق باطن وان هذه الأعمال تدخل في هذا النوع وان كلها ليست دليلا عليه بذاتها بل تفتقر إلى الإستفصال كما حدث مع حاطب ، بحيث لا يحكم على فاعله بالكفر إلا من جهة دلالة القول على الكفر الباطن للتحقق من كفر الباطن الذي ذكره وهذا كلام غير مسئول وبعيد عن التحقيق العلمي تماما ....
وقول الشيخ :" فما كان كفرًا لذاته لم يشترط في تكفير المعين به التثبت من اعتقاده الباطن " خطا أيضا لانه لا دخل للباطن في كلا الحالتين سواء في الكفر بذاته أو ما كان الكفر فيه بالاستحلال وغيره فالحكم كله على الظاهر فمن استحل المحرمات كفر بالاستحلال وقوله أني استحل هذا في الباطن أو لا، لا اعتبار له في الأحكام الظاهرة ومسالة الإستفصل ليست للتحقق من الباطن كما يذهب الشيخ بل هي للتحقق من قصد المكلف للعمل المكفر أو المعنى المكفر لعدم قطعية دلالة العمل على هذا ...
فلو قال لفظا يحتمل التنقص للنبي صلى الله عليه وسلم أو قال كلاما يحتمل الإقرار بحاكمية غيرا لله سبحانه وتعالى كلفظ الديمقراطية مثلا فالإستفصل هو عن المعنى المقصود من اللفظ وهل هو يقصد المعنى المكفر من اللفظ أم المعنى الأخر فإن قال أقصد بالديمقراطية الحرية والتمدن والاستفادة مما فيها من تكنولوجيا تخدم الدعوة والإسلام مثلا فقد قصد معنى يحتمله اللفظ لا سيما وهو لفظ محدث ، كان القول قوله فيما احتمل ...
ولا نقول هنا كل الألفاظ ترجع إلى هذه القاعدة أو أن جميع الألفاظ مبنية على هذا اللفظ ... فهذا خطا لا شك في ذلك
والصحيح هو ما قرر بفضل الله من كلام الشافعي رحمه الله من أن نفس كتاب حاطب والذي هو "العمل الظاهر" يحتمل في نفسه ما ذكره فكان الإستفصال في مورد الاحتمال لا أن الحكم متعلق بالباطن وان الإشكال في القصد والغرض أو غير ذلك ...
وكانت صورة الدلالة أو المكاتبة تحتمل أن تكون كفرا وتلحق بالممالأة أو المظاهرة ويحتمل أن تكون غير ذلك بحسب القرائن الظاهرة ويكون حكم فعل حاطب أصلا في هذه الصورة فقط لا سيما وهي قضية عين ، وتبقى دلالة النصوص في صورة المظاهرة والنصرة على ما هي عليه بحسب ما سبق .. والله أعلم

فيما سبق سلطنا الضوء على كلام الإمام الشافعي رحمه الله وأظهرنا دلالته ..
وبينا أن الشافعي رحمه الله بنى كلامه وحكمه مبني على ما احتواه كتاب حاطب رضي الله عنه وأن هذا هو الظاهر الذي بنى عليه الرسول عليه الصلاة والسلام حكمه مع قول حاطب لما استفصل منه
وذكرنا أن الشافعي رحمه الله قرر أن فعل حاطب من الأفعال المحتمة للكفر وغيره وان هذا أصل في هذه القاعدة
وهذا دليل في حد ذاته على أن من الأعمال ما هو قطعي في الدلالة لمن يتأمل ..
وبينا خطا الشيخ وفقه الله في سحب هذه القاعدة على الأعمال الصريحة الدلالة ...
وبينا أن الدلالة والمكاتبة للكفار بعورات المسلمين هي وإن كانت من جنس المعاونة والموالاة إلا أنها قد تحتمل معنى آخر إذا كانت على مثل فعل حاطب، وذكرنا أمثلة على ذلك

وذكرت أن الشيخ وفقه الله ( فيما أرى ) قد اختلط عليه كلام الشافعي رحمه الله مما ذهب به إلى ان الشافعي يقرر حكم مظاهرة المشركين على المسلمين وليس كذلك كا سبق... وهذا من خلال أمرين :
الأول: قول الشافعي رحمه الله " وليس الدلالة على عورة مسلم، ولا تأييد كافر بأن يحذر أن المسلمين يريدون منه غرة ليحذرها، أو يتقدم في نكاية المسلمين بكفر بيّـن.
" فظن وفقه الله أن قول الشافعي رحمه الله " أو يتقدم في نكاية المسلمين " عائد على المسلم الذي دل وخابر والصحيح انه يعود على الكافر وقد سبق بيان الدليل
والثاني : أنه ظن أنه طالما ان الدلالة والمكاتبة قد تكون اخطر على المسلمين من غيرها من الصور وأنها من جنس المناصرة والمظاهرة فإن كلام الشافعي يشملها تضمينا أو لزوما وهذا خطا وقد بينا انه لا يلزم أن يكون الشيء من جنس معين أن يكون له حكمه وكلام شيخ الاسلام السابق يوضح ذلك ...
والمسالة لا تقاس بالخطورة إطلاقا !!!
وهذا خطا يقع فيه الكثير من الفضلاء فإن المرء يكفر بمجرد محبة دين الكافرين أو إرادة ظهور الكفار وهو عمل قلبي لا يمثل أيه خطورة وينتقض معه ولاء المسلم ويكفر ويخرج من الملة ويكون بذلك عدوا لله ولرسوله وللمسلمين ...
وفي الجهة المقابلة قد يقتل المسلم النفر الكثير من المسلمين ويهدم منازلهم ويستولي على أموالهم ويظلمهم ويرتكب العظائم كما فعل الحجاج بن يوسف أكثر من ذلك ومع كل هذا لم يكفره احد من أهل العلم رغم كل ما فعله ومن كفره كفره لغير هذا المعنى ... بل عد هذا من فسوقه وضرب به المثل في الظلم …
فالقضية ليست خطورة العمل -وإن كان لها وزنها من جهة تغليظ العقوبة - وهي شبهة استحكمت على الكثير ...
القضية أن إرادة ظهور الكفار على المسلمين كفر مخرج من الملة وهو عمل قلبي مكفر ...
وهذا العمل القلبي له لوازم في الظاهر تحققه شأنه شان جميع أعمال القلوب ....
هذه اللوازم بالضرورة هي أعمال ظاهرة ، قد تكون قطعية الدلالة على تحقيق هذا العمل القلبي وقد تكون محتملة ومنها أعمال محرمة ليست ملزومة له
الشيخ وفقه الله يجعل هذا العمل لقلبي دفين القلب ليس له لازم يحققه قياسا على النفاق.... وهذا خطا سبق بيانه ...
والإشكال ليس في هذا المبحث بل الإشكال راجع لكتاب الضوابط حيث خرق قاعدة التلازم بين الظاهر والباطن وفتتها وأبطلها وكسر الحاجز المميز بين أهل السنة والمرجئة فلم يبقي لنا من قاعدة التلازم أي تلازم !... واحتاجت الضوابط إلى ضوابط وروابط ! وليس هذا حديثنا ولكن الشيخ وفقه الله هذا منطلقه والله يوفقنا واياه إلى سواء السبيل ..
هذا العمل القلبي وهو إرادة ظهور الكفار وانتصارهم على المسلمين يحققه قطعا مظاهرتهم ومناصرتهم ومعونتهم بالنفس والمال والرأي والمشورة ولذا كان الإجماع على كفر من يظاهر المشركين على المسلمين ظاهرا وأدلته واضحة والفتوى على ذلك على مر العصور ، وكان من المقررات في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن من نواقض الإسلام العشرة : الناقض الثامن :ـ هو مظاهرة المشركين على المسلمين والدليل هو قوله تعالى " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " ولما سأله الشرفاء على ماذا يقاتل ومن يقاتل لخص دعوته وأجمل كلامه وقال بوضوح : النوع الرابع: من سلم من هذا كله ولكن أهل بلده مصرحون بعداوة التوحيد وإتباع أهل الشرك وساعون في قتالهم ويتعذر أن تركه وطنه يشق عليه, فيقاتل أهل التوحيد مع أهل بلده ويجاهد بماله ونفسه. فهذا أيضاً كافر .." وتوارث هذا الفقه أجيال من بعده ، حتى جاء الشيخ وفقه الله مع بعض " الشرفاء " الذين لم يتأملوا رسالة جدهم وقالوا هذا كله غلو في التكفير !!! فإنا لله وإنا إليه راجعون ..

- هذا العمل القلبي ( إرادة ظهور الكفار) هو كالتعظيم وما ينافيه من أعمال في الظاهر كالسب وغيره هو من لوازمه وهكذا في كل أعمال القلوب كما هي قاعدة أهل السنة والجماعة في تلازم الظاهر بالباطن...
ومع ذلك كله قد تأتي أعمال محتمله في السب والشرك والحكم والموالاة وسائر أعمال الكفر يستفصل فيها عن قصد قائلها أو فاعلها لاحتمالها وعدم قطعية دلالتها على هذا العمل القلبي المكفر ..
وهذا الإستفصال عن القصد ليس هو " قصد الكفر " كما يقول البعض و ليس للتعرف على الباطن كما يقول الشيخ !
بل للتحقق من أنه قصد المعنى المكفر الذي يحتمله القول أو الفعل أو قصد المعنى الآخر الذي يحتمله أيضا القول أو الفعل ...
فاحتمالية العمل تسبق احتمالية القصد .. لا أن العمل قد يكون قطعيا والقصد يحتمل كما يقرر الشيخ في الضوابط !
والحكم بالظاهر على طول الخط وليس للباطن أي اتصال بالحكم الظاهر إلا قصد العمل وإرادة المعنى والذي قد يكون العمل قطعي الدلالة عليه وقد يحتمل فيستفصل ...
هذا ما اردت تثبيته لتصور فعل حاطب رضي الله عنه ووضعه في موضعه الصحيح مع ما سبق من تعليق على كلام الشافعي رحمه الله ...
- يقول الشيخ وفقه الله : "والذي يستنتج من كلام الإمام الشافعي أن الكفر بموالاة الكفار عنده هو من الكفر الباطن، الذي يكون به النفاق وإن لم يدل عليه دليل في الظاهر، وأن ما يكون في الظاهر من موالاة الكفار لا يكفي لذاته عند الإمام الشافعي دليلًا على الكفر الباطن، وأنه لا سبيل إلى ذلك إلا بدلالة القول"

والتعليق على هذا
أنه قد سبق بيان بطلان ذلك وان ليس في كلام الشافعي أن ثمة نوع من أنواع الكفر يسمى كفر الباطن يبقى دفين القلب لا لوازم له تنقضه في الظاهر ،
وإذا تجاوزنا هذا اللفظ فنقول إن هذا يكون كما قرر الشافعي بلفظه في صور محتملة يكون فيها الاستفصال عن( الكفر الباطن ) لا يجري حكمها بالضرورة على الصور الواضحة والصريحة والتي من أبرز صورها مظاهرة المشركين على المسلمين بالنفس والمال والسلاح والرأي والمشورة ...
وذكرت فيما سبق أن ليس هناك شيء اسمه كفر باطن لا دليل عليه في الظاهر ،.. فلا تعلق لأي من أنواع الكفر بالباطن حتى النفاق وهو كفر باطن له في الظاهر ما يلزمه من أعمال وإن أخفاها المنافق تحت عارض السيف ولكن كما قال سبحانه " وإذا لقوا الذين أمنوا قالوا أمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن " فالمنافق يظهر ما في باطنه من كفر ونفاق فما أسر من سريرة إلا ظهرت على صفحات وجهه وفلتات لسانه ... وقال سبحانه " ولتعرفنهم في لحن القول "
فلا يقول بمسألة الكفر الباطن إلا من خرق قاعدة التلازم بين الظاهر والباطن وقد سبق الإشارة إلى موقف الشيخ وفقه الله وأنه وفقه الله جعلها مرقا بيننا وبين أهل الإرجاء فأعطانا جزءا وجعل لأهل الإرجاء منها ثلاثة أجزاء - هدية للمرجئة من عالم سلفي - بعد أن كانت قاعدة مصمتة لا ترى فيها عوجا ولا أمتا نضرب بها في وجوه المرجئة أو من تأثر بهم فالله المستعان
وقول الشيخ واستنباطه :
" ..فإنه إذا كان ما فعله حاطب من مظاهرة المشركين هو أظهر ما يكون من موالاة الكفار في الظاهر، ولم يمكن الحكم على حاطب بالكفر لعدم إمكان دلالة الفعل لذاته على ذلك لم يمكن الحكم على شيء من الموالاة الظاهرة للكفار أنها كفر لذاتها، لأنها دون ما حصل من حاطب من . وهذه النتيجة المستنبطة من قصة حاطب عند الإماممظاهرة المشركين على رسول الله الشافعي تتفق مع ما سبق تقريره في بيان دلالة الآيات الواردة في الحكم بالكفر بموالاة الكفار، وأنها مقيدة بموالاة الكفار على دينهم، على ما سبق تفصيله."
هذا كلام غير صحيح والشافعي رحمه الله لم يتعرض إطلاقا لحكم مظاهرة المشركين والذي يتأمل السؤال والجواب والدليل الذي هو قصة حاطب يعرف ذلك جيدا .

يقول الشيخ وفقه الله :
وتأمّل بإنصاف جواب حاطب  للنبي ، وأنه قد فرق بين موالاة الكفار لأجل دينهم وبين موالاتهم لمجرد غرض دنيوي، حيث نفى عن نفسه أن يكون قد ظاهر المشركين عن شكٍّ في الإسلام وردة عنه، لكنه أقرَّ بأنه قد فعل ما فعل لحماية أهله وماله بمكة، ومع علمه أن موالاة الكفار لغرض دنيوي معصية شنيعة إلا أنه يعلم أيضًا أنها ليست كفرًا، ولو كان حكمهما عنده واحدًا ما كان لاعتذاره وتفريقه بين الحالين معنى، وقد أقرّه النبي  على هذا التفريق، وأخبر بصدقه في نفي النفاق عن نفسه، وأخبر بأن ما حصل منه من المعصية التي دون الكفر قد غفرها الله له بشهوده بدرًا، فأي حجّة لمن يدّعي المساواة بين موالاة الكفار على دينهم وبين موالاتهم لمجرد غرض دنيوي بعد هذا ؟!
أقول الإنصاف عن هذا الاستنتاج بعيد !
فمن تأمل بإنصاف يجد أن رد حاطب يؤكد أن هذا العمل مستقر في نفسه أنه كفر مخرج عن الملة ولذا ذهب يصرفه عن نفسه ..
ولو كان على معصية الزنا مثلا وضبط متلبسا فلن يكون رده أني لم افعله ردة عن ديني ولا شكا في إسلامي سيكون الجواب غير ذلك بالضرورة ولكن لما كان متقررا في نفوس الصحابة أن هذا العمل جنسه كفر كان هذا الجواب من حاطب وكان هذا لموقف الصريح من عمر حيث قال : دعني أضرب عنق هذا المنافق ...
ولا يقال مثل هذا في المعاصي مهما كبرت ....
هذا مقتضى الإنصاف بل هو مقتضى اللغة وفقه المسألة والبحث العلمي الدقيق ... فما بالنا نترك هذا للإنصاف الذي هو أعز ما يكون في هذا الزمان ؟!
والشيخ وفقه الله لما بنى بحثه كله على أن فعل حاطب مظاهرة للمشركين وان حكمها متعلق بالغرض الدنيوي وجودا وعدما اخذ يحمل كل أقوال العلماء الواردة في قصة حاطب رضي الله عنه على أنها في مظاهرة المشركين وهذا إن كان الشيخ يعلم أن مخالفه لا يسلم له بذلك فهو منقصة للشيخ نربأ به أن يقع فيها ..
فالعلماء على ما سبق القول في مسالة الموالاة يجعلون منها الصور المكفرة ومنها دون ذلك كما سبق
وعليه فما قرره عن شيخ الإسلام وابن كثير والقرطبي والشيخ عبد اللطيف آل الشيخ رحمهم الله تعالى أن كلامهم في مظاهرة المشركين ليس صحيحا وهو قائم على طريقة انتقائية لأقوالهم وسنضرب لذلك أمثلة من أقوالهم توضح ذلك ولنبدا بالإمام القرطبي رحمه الله :
قال الشيخ وفقه الله : " وممن نص على أن مظاهرة المشركين لمجرد غرض دنيوي ليست كفرًا استنادًا إلى قصة حاطب الإمام القرطبي، حيث قال: ( من كثر تطلعه على عورات المسلمين، وينبه عليهم، ويعرف عدوهم بأخبارهم، لم يكن بذلك كافرًا، إذا كان فعله لغرض دنيوي، واعتقاده على ذلك سليم، كما فعل حاطب حين قصد بذلك اتخاذ اليد، ولم ينو الردة عن الدين )
وهذا خطأ لا شك فيه فليس كلام القرطبي رحمه الله عن مظاهرة المشركين على المسلمين ولكن سبق ذكر طريقة الشيخ في اعتماد هذا الأسلوب الغير لائق بمثله وإذا رجعنا لتفسر آيات التولي عند الإمام القرطبي رحمه الله نجده على أصول الشيخ غال في التكفير بل ومتناقض تناقضا شديدا حيث فسر التولي بالنصرة وجعله ردة عن الإسلام ...
قال القرطبي رحمه الله :
الثانية قوله تعالى ( ومن يتولهم منكم ) أي " يعضدهم" على المسلمين ( فإنه منهم ) بين تعالى أن حكمه كحكمهم وهو يمنع إثبات الميراث للمسلم من المرتد وكان الذي تولاهم بن أبي ثم هذا الحكم باق إلى يوم القيامة في قطع المولاة وقد قال تعالى ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار هود وقال تعالى في آل عمران لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين آل عمران وقال تعالى لا تتخذوا بطانة من دونكم وقد مضى القول فيه وقيل إن معنى ( بعضهم أولياء بعض ) أي في" النصر" ( ومن يتولهم منكم فإنه منهم ) شرط وجوابه أي لأنه قد خالف الله تعالى ورسوله كما خالفوا ووجبت معاداته كما وجبت معاداتهم ووجبت له النار كما وجبت لهم فصار منهم أي من أصحابهم

قوله تعالى ( فترى الذين في قلوبهم مرض ) شك ونفاق وقد تقدم في البقرة والمراد بن أبي وأصحابه ( يسارعون فيهم ) أي في موالاتهم ومعاونتهم ( يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة ) أي يدور الدهر علينا إما بقحط فلا يميروننا ولا يفضلوا علينا وإما أن يظفر اليهود بالمسلمين فلا يدوم الأمر لمحمد e وهذا القول أشبه بالمعنى كأنه من دارت تدور أي نخشى أن يدور الأمر "
ومثل هذا عند شيخ اسلام رحمه الله وغيره ممن تكلم في حكم فعل حاطب رضي الله عنه
ومثالا آخر وهو الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ حيث نقل الشيخ وفقه الله عنه قوله :
" وللشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ رسالة مفردة في حكم موالاة الكفار وبعض مسائل التكفير، ذكر في أولها أن الباعث له على كتابتها أن بعض أهل زمانه ممّن يدعي العلم غلوا في التكفير، حيث كفروا حكام زمانهم، بحجة أنهم يكاتبون من يعتقد أولئك الغلاة كفرهم، بل إنهم كفروا من خالط من كاتبهم من مشايخ المسلمين، وذكر عنهم أنهم خاضوا في مسائل من هذا الباب، كالكلام في الموالاة والمعاداة، والمصالحة، والمكاتبات، وبذل الأموال والهدايا( ).
وقد ذكر في الرد عليهم دلالة قصة حاطب  على عدم التكفير بمطلق الموالاة، وأن ما فعله حاطب  لم يكن من الكفر؛ لأنه « إنما فعل ذلك لغرض دنيوي »، ثم بين أن الآيات الواردة في التكفير بموالاة الكفار لا تعارض ذلك، لأنها مقيدة بالموالاة المطلقة العامة.

"وهذا الذي ذكره الشيخ حق لا شك فيه ولكنه غفل وفقه الله أن الشيخ العلامة عبد اللطيف يقسم أعمال الموالاة إلى قسمين كفر وما دون الكفر ... وهذا التقسيم بحد ذاته حجة عليه لمن يتأمل !

فجعل بعض الأعمال كفرا مخرجا من الملة دون قيود وجعل غيرها معاصي وكبائر
وأدرج فعل حاطب في الموالاة الغير مكفرة وقيدها بما تكون المعاصي كفرا فما حجة الشيخ في ذلك ؟!
وهذا نتف من كلام الإمام حيث قال رحمه الله : "
(...وعرفتم أن مسمى الموالاة يقع على شعب متفاوتة ، منها ما يوجب الردة وذهاب الإسلام بالكلية ، ومنها ما هو دون ذلك من الكبائر والمحرمات ، وعرفتم قوله تعالي { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ) الممتحنة 1 وأنها نزلت فيمن كاتب المشركين بسر الرسول صلى الله عليه وسلم وقد جعل ذلك من "الموالاة المحرمة " وإن اطمئن قلبه بالإيمان....) الدرر صـ 8/342
"
فليس أوضح من قوله رحمه الله منها ما يوجب الردة وذهاب الإسلام بالكلية ومنها ما دون ذلك وقد عد الشيخ رحمه الله فعل حاطب من الموالاة المحرمة ولذا قيدها بما تكون كفرا ولم يقل أنها مظاهرة للمشركين ولا أن جميع صور الموالاة مقيدة بمحبة دين الكافرين كما يذهب الشيخ فالحقيقة أن كلام الشيخ عبد اللطيف يتفق ما ما قررته لا مع ما قرره الشيخ وفقه الله ...

قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله:
"وتعزيرهم وتوقيرهم – يعني الكفار – تحته أنواع أيضاً :
أعظمها رفع شأنهم ، ونصرتهم على أهل الإسلام ومبانيه ، وتصويب ما هم عليه ، فهذا وجنسه من المكفرات . ودونه مراتب من التوقير بالأمور الجزئية ، كلياقة الدواة ونحوه "
( الدرر 8 / 360)
وما يهمني في النقل ليس فقط أن مذهب الإمام عبد اللطيف يختلف ويتناقض مع ما ذهب إليه الشيخ وفقه الله في مبحثه بل أيضا إبطال نظرية الشيخ أن الموالاة من الكفر الباطن الذي لا يدل عليه عمل ظاهر ويرجع فيه عند الإستفصال لمعرفة الباطن إلى القول فقط .... ولعل هذا واضح في كلام الشيخ السابق بلا إشكال
وقال الإمام عبد اللطيف رحمه الله :
( قال شيخ الإسلام في اختياراته : من جمز إلى معسكر التتار ولحق بهم ، أرتد وحل دماه ودمه) (الدرر السنية 8/338)
ولهذا لم أنقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية ما ينقض ما فهمه الشيخ وفقه الله عنه في كلامه عن حاطب وتركت النقل لهذا الإمام عنه فلعله قد وضح ألان أن كلام أهل العلم عن حكم فعل حاطب رضي الله عنه ليس هو عن مظاهرة المشركين وإن كانت من جنسها .
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم