رحيم
02-11-2005, 04:35 PM
بسم الله – والحمد لله – والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الأطهار .. وبعد:
عندما تناقش أحداً من غير المسلمين في أن قريشاً قد كُبتوا وبكتوا فلم يستطيعوا نقد القرآن الكريم .. تجده يسارع بالقول.. ( بل إنهم وصفوا القرآن بأنه كذب وأساطير الأولين .. الخ )
وهذا جزء من الحقيقة،، وليس الحقيقة كلها.
وإليكم بيان ذلك بشيء من التفصيل..
1- لما جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة، لم يطالبه قومه بآية تدل على صدقه.
بل كانوا يستهزئون به ويسخرون منه... تصغيراً لشأن ما كان يدعوهم إليه .. واستهانة بدعوته.. فكانوا يعدونها سحابة صيف لا تستحق الاهتمام ( هذا غلام عبد المطلب يكلم من السماء !! ).
2- عندما بدأ صلى الله عليه وسلم يذكر عيوب آلهتهم وينتقد الشرك والمشركين ثارت حمية الجاهلية والغيرة على الآلهة.
فبدؤوا يطالبونه بالكف عن التعريض بآلهتهم.
ولما لم يجدوا منه مهادنة في هذه القضية العقدية الحساسة التي ألفوها عن أجدادهم، وعليها غالب أهل جزيرة العرب.
أخذوا يشكونه لعمه أبي طالب.. الذي حاول رد ابن أخيه فلم يستطع.. فتركه وشأنه.
3- حاول المشركون مراراًو تكراراً، ضاغطين عليه بواسطة عمه الذي كفله ( أبو طالب) فعرضوا عليه في بيت أبي طالب .. مساومة يسيل لها لعاب صاحب أي دعوة دنيوية..
عرضوا على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن يزوجوه ما شاء من جميلات العرب.. وأن يجمعوا له ما يرضيه من الأموال ... وأن يسوِّدوه عليهم ... كل ذلك مقابل أن يترك الدعوة إلى التوحيد، فلم يرض.
كن ملك العرب بلا منازع .. واترك الدعوة إلى التوحيد... يا له من إغراء.
4- تكرر نزول آيات القرآن الكريم المنددة بالشرك ، الداعية إلى التوحيد .. وازداد عدد المؤمنين بدعوة الإسلام.. فما كان من قريش إلا أن توجهوا إلى أبي طالب مرة أخرى يطالبونه بتسليم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لهم ، أو يكف عن دعوته .. فرفض ..
فقرروا زيادة الضغط النفسي عليه .. بأن يكون ثباته على الدعوة سبباً في شقاء عشيرته وأهله المقربين..فكان حصار المسلمين وبني هاشم في الشعب لمدة ثلاث سنوات.. مقاطعة اقتصادية واجتماعية قاسية لا سابقة لها في تاريخ العرب.. توفي على إثرها أبو طالب وخديجة .
5- ظنوا أن أمر محمد صلى الله عليه وسلم قد سهُل بعد وفاة زوجه وعمه.. فعادوا إلى أساليب الترغيب والترهيب وكرروها مراراً.
6- ومن ذلك : أنهم بعثوا أحد كبار السادة: عتبة بن ربيعة، إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عارضا عليه ثروة ضخمة ، وجاهاً لا يساويه فيه أحد من العرب ( مستغلاً وضع سيدنا محمد النفسي بعد وفاة أبي طالب وخديجة ) ، مقابل أن يترك الدعوة إلى الإسلام. فعندما قرأ عليه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم آيات من القرآن الكريم، أمسك عتبة بفم رسول الله مناشداً إياه أن يكف.
7- ظهرت صنوف العذاب ( الجسدي والنفسي ) لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، تحمل ألواناً مختلفة من التفنن في الأذى والتعذيب نوعاً وكماً.
فكان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مثال الصبر الجميل، والقدوة في التحمل والثبات على المبدأ.
8- عندها ... بدأ المشركون بتعذيب المسلمين أتباع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم واستشهد عدد منهم بهدف الضغط النفسي على سيدنا محمد ليقبل عروضهم المغرية..
والتأثير على المسلمين للقيام بالثأر، مما يجعل لقريش مبرراً أن يسفكوا دماء أبناء عشيرتهم في البلد الحرام.
ولكن حكمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وصبر المسلمين وانضباطهم، حرمهم من ذلك.
9- بدأت المساومات تأخذ منحىً جديداً...
عرضوا على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عبادة آلهتهم عاماً وأن يعبد رسول الله صلى الله عليه وسلم آلهتهم عاماً .. فرفض.. ونزلت سورة الكافرون مؤيدة له.
" قُلْ يا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ، لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ، وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ، وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ، وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ".
10- طلبوا منه كشرط لإسلامهم أن يزيل ما في القرآن الكريم من ذم للأوثان.
قال تعالى في سورة يونس: " وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِيۤ أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِيۤ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىۤ إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ".
11- طلبوا كشرط لإسلامهم ألا يجلس معهم أي فقير من فقراء المسلمين.... إلخ
12- كثرت طلباتهم التي طلبوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليهادنهم ويقبل بما رأوه ( حلاً وسطاً )
كان هدف ما صدر عنهم من طلبات: عرقلة للدعوة عن سيرها الطبيعي ، وحرف لها عن الصراط ، كمحاولة لتضييع الوقت وإشغال الرسول والمسلمين في معارك جانبية ، دون مناقشة جوهر الدعوة ( التوحيد ).
فلو وافقهم لأي تنازل ( مهما كان عادياً لا يؤثر تأثيراً ظاهرياً في جوهر الدين ) لكان دليلاً على كونه طالب دنيا.. وسيسقط عندها في نظرهم.
ولكان دافعاً لهم أن يطلبوا المزيد.
13- طلبوا معجزات مفصلة على هواهم ، معجزات تحقق لهم أهدافاً دنيوية، تحقق لهم المزيد من الغنى والإخلاد إلى الأرض..
ولما كان كل ما سيصدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من معجزات مادية مؤقتة ( كما كان حال معجزات الأنبياء السابقين ) سيكون الرد الطبيعي عليها أن ذلك سحر مستمر..
خاصة وأن تهمة السحر إحدى التهم الموجهة إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أصلاً.. فعندها ستكون تلك المعجزات بمثابة إنقاذ لهم وطوق نجاة يتشبثون به للطعن فيه عليه الصلاة والسلام.
هنا تمثلت حكمة الله تعالى البالغة .. فقد جاءهم التحدي والإعجاز بما برعوا به وتفوقوا به على جميع الأمم.
من هنا بدأ التحدي بالقرآن المعجز... المعجزة الدائمة .. غير المادية .. التي لن تزول إلى قيام الساعة ..
وهنا كان بداية الإشارة إلى حمل القرآن بين دفتيه دليل صدقه ...
قال تعالى في سورة الإسراء: " قُل لئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ".
طلبتم معجزة ... تفضلوا ها هي المعجزة...
وبدأت نظرة المشركين إلى القرآن الكريم تأخذ بعداً جديداً...
14- وقفت قريش حائرة من هذا التحدي الذي صعقهم.. ماذا سيقولون .. كيف سيعارضون ..
هم أعلم العرب ـ بل أهل الأرض قاطبة ـ بما في القرآن الكريم من إعجاز بياني ..
هل سيغامرون بتأليف آيات تعارض آيات القرآن الكريم ؟؟
إنهم بذلك سيُسقطون كل هيبة بقيت لهم عند العرب.
وسيكونون أضحوكة تلوكها ألسن العرب وأشعارهم، ومسرحاً للهجاء العربي اللاذع.
وعندها لن يبق لهم أي احترام وتقدير لمكانتهم الدينية والاجتماعية التي تفاخروا بها وسادوا من أجلها كل العرب.
ولفاتهم فخرهم الذي عبّر عنه النهشلي بقوله:
إن الأكارم من قريش كلها ### قاموا فراموا الأمر كلَّ مرامِ
15- تعجَّبَ المشركون من فصاحة القرآن الكريم .. فصاحة ما عهدوها.. ولا يمكن أبداً معارضتها.. وكان عدد كبير من الناس يسلم بمجرد سماع آيات القرآن الكريم المعجز ..
فما كان منهم إلا أن تعاهدوا فيما بينهم ألا يسمعوا القرآن الكريم.
ولكن..........
القرآن الكريم أثار انتباههم ... وحرك مشاعرهم ... وبدأ يزيل الحواجز عن فطرتهم المغلفة بطبقة سميكة من الران ...
جاء في سيرة ابن هشام 2 / 156 :
" أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي من الليل في بيته. فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه. فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا . فجمعهم الطريق، فتلاوموا وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا. ثم انصرفوا .
حتى إذا كانت الليلة الثانية، عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة، ثم انصرفوا .
حتى إذا كانت الليلة الثالثة، أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود على ذلك ثم تفرقوا ".
16- استمر اضطرابهم في الحكم عليه (( حالهم كحال كل من يعارض القرآن الكريم كما سأبين لاحقاً بإذن الله تعالى )) .
- ساحر.
- كلا كلا : مجنون .
- لا بل : شاعر.
- أو من الأفضل أن نقول : كاهن.
- ما رأيكم بـ : قصص مسطورة ( مكتوبة ).... الخ.
17- صار القرآن الكريم حديث الناس في مكة .. ولا بد لهم من كلمة فصل قاطعة واحدة حول القرآن الكريم، يخاطبون بها أهل مكة والقادمين إليها من القبائل العربية للحج والتجارة.
جاء في تفسير ابن كثير 4 / 444 : " تداعوا فيما بينهم واجتمعوا في دار الندوة ليجمعوا رأيهم على قول يقولونه فيه قبل أن يقدم عليهم وفود العرب للحج ليصدوهم عنه فقال قائلون شاعر وقال آخرون ساحر وقال آخرون كاهن وقال آخرون مجنون.
كما قال تعالى: " انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ".
كل هذا والوليد يفكر فيما يقوله فيه ففكر وقدر ونظر وعبس وبسر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر ".
18- وبعد فشلهم في الحكم عليه حكماً قاطعاً يخاطبون به العرب دفاعاً عن دينهم وآلهتهم التي يتعصبون لها .. هربوا من التحدي لاجئين إلى أسخف حججهم.
محمد يأخذ هذا القرآن المعجز في بلاغته العربية من حداد رومي أعجمي !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
قال تعالى في سورة النمل: " وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ".
ولكم أن تشفقوا في حال قريش .. تلك كانت حجتهم ؟؟!!!
أ. هل من عيب أن يجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند حداد يعالج شيئاً من أمور الحياة الدنيا.
ب. هل تلك الفترة القصيرة جداً.. وفي السوق وبين الناس.. كافية لتعليمه هذا القرآن الكريم ؟
ج. هل عهد عن هذا الحداد أنه علم أحداً قبل النبي أو بعده ؟
د. هل رافق هذا الحداد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في كل أحواله ؟
هـ. متى كان ذلك الحداد يدرس الكتب ؟ ولو كان عالماً ذلك العلم الذي يدعونه ، لماذا اشتغل بالحدادة ؟ مع أن مهنة الكهانة تدر مبالغ طائلة أكثر ؟ متى سيكون للحداد وقت فراغ يعلم الناس فيه ويبث علمه الغزير ؟
و. ألم يكن الحداد أولى بثمار علمه من محمد ؟
ز. هل القرآن الذي أعجز قريش بفصاحته .. صدر عن هذا الحداد ذي اللكنة الأجنبية ( الأعجمية ) المعروفة ؟
ح. لماذا لم يكن ذلك الحداد من أتباع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ؟
ط. لم يُثبت التاريخ أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تلقى تعليماً ( أي تعليم ) على يد أي معلم ( عدا مَلَك الوحي ) قط .
ولم يرد في كتب التاريخ أنه صلى الله عليه وسلم لقي أحد علماء أي دين ، وحدثه عن دينه ، قبل إعلان النبوة.
19- ولما لم تجد تلك المزاعم صدى في أسماع العرب ( من مسلمين جدد، وباحثين عن الحقيقة ) لسخافتها كان الهروب الجديد من التحدي.
النبي الموحى إليه بشر مثلهم... " أبعث الله بشراً رسولاً " لماذا .. لماذا لم يكن من الملائكة ؟ أو على الأقل... كان حارسه الشخصي ملك.
قال تعالى في سورة الأنعام: " وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ ".
فرحمة بهم لم يكن النبي من الملائكة.. ولم يكن معه حارس منهم.
20- عندها اقتنعوا .. ثم عادوا وفكروا.. كيف ينتقدون شخص هذا النبي الذي كانوا يصفونه بالصادق الأمين.. وليس في سيرته أي عيب أخلاقي أو سلوك مشين.. بل نسبه أكرم أنساب العرب .. وهو لم ولا يشرب قطرة خمر .. لم ولا يرابي أبداً ... لم ولا يكذب كذبة واحدة ... لم ولا يسجد لصنم ....... أبداً لا قبل ذلك ولا بعده.
بل كانوا يستأمنونه على حوائجهم وهو النبي وهم الكفار... حتى قبيل الهجرة كما هو معلوم.
فكانت حجتهم...
ما قال تعالى في سورة الزخرف: " وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ".
إذن.. لم يطعنوا في أخلاق محمد .. ولا أهليته لحمل الرسالة من جنون وغيره... بل كان عيبه الوحيد .. أنه ليس أعظم شخصية ( بحسب مقاييسهم ) في مكة أو الطائف .
لله در البوصيري:
لا تَعْجَبَنْ لِحَسُودٍ راحَ يُنْكِرُها ### تَجاهُلاً وهْوَ عَيْنُ الحاذِقِ الفَهِمِ
قد تُنْكِرُ العيْنُ ضَوْءَ الشِّمْسِ من رَمَدٍ ### ويُنْكِرُ الفَمُّ طَعْمَ الماءِ من سَقَمٍ
21- لم تفد أي من تلك الوسائل في إثارة شك العرب والطعن في إعجاز القرآن الكريم، وصرف الناس عن التصديق بكونه وحي يوحى.
لقد كان للقرآن الكريم أشد التأثير في نفوس المدعوين.. فكان الحل الأخير .. أنهم تداعوا وتنادوا لعدم الاستماع إلى آيات القرآن الكريم.. ليمنعوا وصوله إلى آذان أكبر عدد ممكن من الناس.
قال تعالى في سورة فصلت : " وَقَالَ الذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ".
22- ثم بيّن الله عز وجل حال أولئك ( ومن سار على دربهم إلى يوم القيامة )..
قال تعالى في سورة الأنعام: " قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ".
صدق الله العظيم.
من هنا ... يظهر لنا..
- استحالة صدور هذا القرآن الكريم عن بشر.. وإلا لأمكن الإتيان بمثله.
- لم تطعن قريش بفصاحة القرآن الكريم .
- زيادة على ذلك.... اعترفوا بإعجازه ، وذلك عندما لم يعارضوه.
فنجد أن معارضة القرآن الكريم لم تظهر أبداً في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ...
لأن من تحداهم من قومه تهيبوا أن يعارضوه.
وخشوا أن يظهر عجزهم .. ويكونوا أضحوكة الجميع.
كانت قريش قبيل الإسلام.. أرقى العرب علماً وحضارة وفصاحة .. فكان شعراء العرب وبلغاؤهم يتحاكمون إليها ..
فانظروا إلى حال من دونهم وهم يتخبطون ذات اليمين وذات الشمال...
نزل القرآن الكريم ... فعرفت قريش حجمها... طلبت السلامة .. وعدم الفضيحة.
لم ينبس أهلها ببنت شفة .. وهم أشد الناس حمية إذا استُثيروا... فكيف إن كان النقد والتعريض يطال آلهتهم ( بالاسم ) .. وأقدس مقدساتهم .. ما توارثوه من عادات كانت ملح حياتهم اليومية: شرب الخمر ، الربا ، وأد البنات ... ؟؟!!
كل ذلك .. رضوا مهانة التبكيت .. خشية الفضيحة الأكبر ..
ولسان حالهم.. يتمثل قول امرئ القيس:
وَقَد طَوَّفتُ في الآفاقِ حَتّى ### رَضيتُ مِنَ الغَنيمَةِ بِالإِيابِ
أمر آخر..
لو كان محمد صلى الله عليه وسلم طالب دنيا.. لارتاح ووافق على رجائهم وكان أغنى العرب وأكثرهم جاها..
ثم استخدم ذلك كله لنشر الإسلام.
لو كان الإسلام على هوى محمد صلى الله عليه وسلم وطموحاته الدنيوية المزعومة،، لكان زعماء قريش وكبراؤهم هم الأحق بالعلو والكرامة والمنزلة من الأعمى ابن أم مكتوم رضي الله عنه.
ولو كانت قريش قد آمنت به من ساعتها .. لمات الإسلام بوفاة محمد صلى الله عليه وسلم ،،
ولما خرجت الدعوة خارج حدود مكة المكرمة .. بل ما تعدت حدود أحياء قبيلة قريش داخل مكة، وبيوت بني هاشم.. إلا قليلاً.
لأن الناس سيظنون أن تلك دعوة إصلاحية قبلية .. ذات أسباب دنيوية ،، أو ثورة اجتماعية خاصة بتلك العشيرة فقط.
ولقالوا: لولا عشيرته لما انتصر... ما الإسلام إلا دعوة عنصرية قبلية .. وما آمن معه الناس إلا بدافع العصبية العشائرية.
لقد كان موقف قريش من دعوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم آية من آيات الله..
وعلامة من أدل علامات النبوة..
لمن ألقى السمع وهو شهيد..
لمن نظر بعينين مفتحتين..
وفكر بما في رأسه..
عندما تناقش أحداً من غير المسلمين في أن قريشاً قد كُبتوا وبكتوا فلم يستطيعوا نقد القرآن الكريم .. تجده يسارع بالقول.. ( بل إنهم وصفوا القرآن بأنه كذب وأساطير الأولين .. الخ )
وهذا جزء من الحقيقة،، وليس الحقيقة كلها.
وإليكم بيان ذلك بشيء من التفصيل..
1- لما جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة، لم يطالبه قومه بآية تدل على صدقه.
بل كانوا يستهزئون به ويسخرون منه... تصغيراً لشأن ما كان يدعوهم إليه .. واستهانة بدعوته.. فكانوا يعدونها سحابة صيف لا تستحق الاهتمام ( هذا غلام عبد المطلب يكلم من السماء !! ).
2- عندما بدأ صلى الله عليه وسلم يذكر عيوب آلهتهم وينتقد الشرك والمشركين ثارت حمية الجاهلية والغيرة على الآلهة.
فبدؤوا يطالبونه بالكف عن التعريض بآلهتهم.
ولما لم يجدوا منه مهادنة في هذه القضية العقدية الحساسة التي ألفوها عن أجدادهم، وعليها غالب أهل جزيرة العرب.
أخذوا يشكونه لعمه أبي طالب.. الذي حاول رد ابن أخيه فلم يستطع.. فتركه وشأنه.
3- حاول المشركون مراراًو تكراراً، ضاغطين عليه بواسطة عمه الذي كفله ( أبو طالب) فعرضوا عليه في بيت أبي طالب .. مساومة يسيل لها لعاب صاحب أي دعوة دنيوية..
عرضوا على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن يزوجوه ما شاء من جميلات العرب.. وأن يجمعوا له ما يرضيه من الأموال ... وأن يسوِّدوه عليهم ... كل ذلك مقابل أن يترك الدعوة إلى التوحيد، فلم يرض.
كن ملك العرب بلا منازع .. واترك الدعوة إلى التوحيد... يا له من إغراء.
4- تكرر نزول آيات القرآن الكريم المنددة بالشرك ، الداعية إلى التوحيد .. وازداد عدد المؤمنين بدعوة الإسلام.. فما كان من قريش إلا أن توجهوا إلى أبي طالب مرة أخرى يطالبونه بتسليم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لهم ، أو يكف عن دعوته .. فرفض ..
فقرروا زيادة الضغط النفسي عليه .. بأن يكون ثباته على الدعوة سبباً في شقاء عشيرته وأهله المقربين..فكان حصار المسلمين وبني هاشم في الشعب لمدة ثلاث سنوات.. مقاطعة اقتصادية واجتماعية قاسية لا سابقة لها في تاريخ العرب.. توفي على إثرها أبو طالب وخديجة .
5- ظنوا أن أمر محمد صلى الله عليه وسلم قد سهُل بعد وفاة زوجه وعمه.. فعادوا إلى أساليب الترغيب والترهيب وكرروها مراراً.
6- ومن ذلك : أنهم بعثوا أحد كبار السادة: عتبة بن ربيعة، إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عارضا عليه ثروة ضخمة ، وجاهاً لا يساويه فيه أحد من العرب ( مستغلاً وضع سيدنا محمد النفسي بعد وفاة أبي طالب وخديجة ) ، مقابل أن يترك الدعوة إلى الإسلام. فعندما قرأ عليه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم آيات من القرآن الكريم، أمسك عتبة بفم رسول الله مناشداً إياه أن يكف.
7- ظهرت صنوف العذاب ( الجسدي والنفسي ) لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، تحمل ألواناً مختلفة من التفنن في الأذى والتعذيب نوعاً وكماً.
فكان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مثال الصبر الجميل، والقدوة في التحمل والثبات على المبدأ.
8- عندها ... بدأ المشركون بتعذيب المسلمين أتباع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم واستشهد عدد منهم بهدف الضغط النفسي على سيدنا محمد ليقبل عروضهم المغرية..
والتأثير على المسلمين للقيام بالثأر، مما يجعل لقريش مبرراً أن يسفكوا دماء أبناء عشيرتهم في البلد الحرام.
ولكن حكمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وصبر المسلمين وانضباطهم، حرمهم من ذلك.
9- بدأت المساومات تأخذ منحىً جديداً...
عرضوا على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عبادة آلهتهم عاماً وأن يعبد رسول الله صلى الله عليه وسلم آلهتهم عاماً .. فرفض.. ونزلت سورة الكافرون مؤيدة له.
" قُلْ يا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ، لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ، وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ، وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ، وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ".
10- طلبوا منه كشرط لإسلامهم أن يزيل ما في القرآن الكريم من ذم للأوثان.
قال تعالى في سورة يونس: " وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِيۤ أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِيۤ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىۤ إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ".
11- طلبوا كشرط لإسلامهم ألا يجلس معهم أي فقير من فقراء المسلمين.... إلخ
12- كثرت طلباتهم التي طلبوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليهادنهم ويقبل بما رأوه ( حلاً وسطاً )
كان هدف ما صدر عنهم من طلبات: عرقلة للدعوة عن سيرها الطبيعي ، وحرف لها عن الصراط ، كمحاولة لتضييع الوقت وإشغال الرسول والمسلمين في معارك جانبية ، دون مناقشة جوهر الدعوة ( التوحيد ).
فلو وافقهم لأي تنازل ( مهما كان عادياً لا يؤثر تأثيراً ظاهرياً في جوهر الدين ) لكان دليلاً على كونه طالب دنيا.. وسيسقط عندها في نظرهم.
ولكان دافعاً لهم أن يطلبوا المزيد.
13- طلبوا معجزات مفصلة على هواهم ، معجزات تحقق لهم أهدافاً دنيوية، تحقق لهم المزيد من الغنى والإخلاد إلى الأرض..
ولما كان كل ما سيصدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من معجزات مادية مؤقتة ( كما كان حال معجزات الأنبياء السابقين ) سيكون الرد الطبيعي عليها أن ذلك سحر مستمر..
خاصة وأن تهمة السحر إحدى التهم الموجهة إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أصلاً.. فعندها ستكون تلك المعجزات بمثابة إنقاذ لهم وطوق نجاة يتشبثون به للطعن فيه عليه الصلاة والسلام.
هنا تمثلت حكمة الله تعالى البالغة .. فقد جاءهم التحدي والإعجاز بما برعوا به وتفوقوا به على جميع الأمم.
من هنا بدأ التحدي بالقرآن المعجز... المعجزة الدائمة .. غير المادية .. التي لن تزول إلى قيام الساعة ..
وهنا كان بداية الإشارة إلى حمل القرآن بين دفتيه دليل صدقه ...
قال تعالى في سورة الإسراء: " قُل لئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ".
طلبتم معجزة ... تفضلوا ها هي المعجزة...
وبدأت نظرة المشركين إلى القرآن الكريم تأخذ بعداً جديداً...
14- وقفت قريش حائرة من هذا التحدي الذي صعقهم.. ماذا سيقولون .. كيف سيعارضون ..
هم أعلم العرب ـ بل أهل الأرض قاطبة ـ بما في القرآن الكريم من إعجاز بياني ..
هل سيغامرون بتأليف آيات تعارض آيات القرآن الكريم ؟؟
إنهم بذلك سيُسقطون كل هيبة بقيت لهم عند العرب.
وسيكونون أضحوكة تلوكها ألسن العرب وأشعارهم، ومسرحاً للهجاء العربي اللاذع.
وعندها لن يبق لهم أي احترام وتقدير لمكانتهم الدينية والاجتماعية التي تفاخروا بها وسادوا من أجلها كل العرب.
ولفاتهم فخرهم الذي عبّر عنه النهشلي بقوله:
إن الأكارم من قريش كلها ### قاموا فراموا الأمر كلَّ مرامِ
15- تعجَّبَ المشركون من فصاحة القرآن الكريم .. فصاحة ما عهدوها.. ولا يمكن أبداً معارضتها.. وكان عدد كبير من الناس يسلم بمجرد سماع آيات القرآن الكريم المعجز ..
فما كان منهم إلا أن تعاهدوا فيما بينهم ألا يسمعوا القرآن الكريم.
ولكن..........
القرآن الكريم أثار انتباههم ... وحرك مشاعرهم ... وبدأ يزيل الحواجز عن فطرتهم المغلفة بطبقة سميكة من الران ...
جاء في سيرة ابن هشام 2 / 156 :
" أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي من الليل في بيته. فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه. فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا . فجمعهم الطريق، فتلاوموا وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا. ثم انصرفوا .
حتى إذا كانت الليلة الثانية، عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة، ثم انصرفوا .
حتى إذا كانت الليلة الثالثة، أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود على ذلك ثم تفرقوا ".
16- استمر اضطرابهم في الحكم عليه (( حالهم كحال كل من يعارض القرآن الكريم كما سأبين لاحقاً بإذن الله تعالى )) .
- ساحر.
- كلا كلا : مجنون .
- لا بل : شاعر.
- أو من الأفضل أن نقول : كاهن.
- ما رأيكم بـ : قصص مسطورة ( مكتوبة ).... الخ.
17- صار القرآن الكريم حديث الناس في مكة .. ولا بد لهم من كلمة فصل قاطعة واحدة حول القرآن الكريم، يخاطبون بها أهل مكة والقادمين إليها من القبائل العربية للحج والتجارة.
جاء في تفسير ابن كثير 4 / 444 : " تداعوا فيما بينهم واجتمعوا في دار الندوة ليجمعوا رأيهم على قول يقولونه فيه قبل أن يقدم عليهم وفود العرب للحج ليصدوهم عنه فقال قائلون شاعر وقال آخرون ساحر وقال آخرون كاهن وقال آخرون مجنون.
كما قال تعالى: " انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ".
كل هذا والوليد يفكر فيما يقوله فيه ففكر وقدر ونظر وعبس وبسر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر ".
18- وبعد فشلهم في الحكم عليه حكماً قاطعاً يخاطبون به العرب دفاعاً عن دينهم وآلهتهم التي يتعصبون لها .. هربوا من التحدي لاجئين إلى أسخف حججهم.
محمد يأخذ هذا القرآن المعجز في بلاغته العربية من حداد رومي أعجمي !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
قال تعالى في سورة النمل: " وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ".
ولكم أن تشفقوا في حال قريش .. تلك كانت حجتهم ؟؟!!!
أ. هل من عيب أن يجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند حداد يعالج شيئاً من أمور الحياة الدنيا.
ب. هل تلك الفترة القصيرة جداً.. وفي السوق وبين الناس.. كافية لتعليمه هذا القرآن الكريم ؟
ج. هل عهد عن هذا الحداد أنه علم أحداً قبل النبي أو بعده ؟
د. هل رافق هذا الحداد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في كل أحواله ؟
هـ. متى كان ذلك الحداد يدرس الكتب ؟ ولو كان عالماً ذلك العلم الذي يدعونه ، لماذا اشتغل بالحدادة ؟ مع أن مهنة الكهانة تدر مبالغ طائلة أكثر ؟ متى سيكون للحداد وقت فراغ يعلم الناس فيه ويبث علمه الغزير ؟
و. ألم يكن الحداد أولى بثمار علمه من محمد ؟
ز. هل القرآن الذي أعجز قريش بفصاحته .. صدر عن هذا الحداد ذي اللكنة الأجنبية ( الأعجمية ) المعروفة ؟
ح. لماذا لم يكن ذلك الحداد من أتباع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ؟
ط. لم يُثبت التاريخ أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تلقى تعليماً ( أي تعليم ) على يد أي معلم ( عدا مَلَك الوحي ) قط .
ولم يرد في كتب التاريخ أنه صلى الله عليه وسلم لقي أحد علماء أي دين ، وحدثه عن دينه ، قبل إعلان النبوة.
19- ولما لم تجد تلك المزاعم صدى في أسماع العرب ( من مسلمين جدد، وباحثين عن الحقيقة ) لسخافتها كان الهروب الجديد من التحدي.
النبي الموحى إليه بشر مثلهم... " أبعث الله بشراً رسولاً " لماذا .. لماذا لم يكن من الملائكة ؟ أو على الأقل... كان حارسه الشخصي ملك.
قال تعالى في سورة الأنعام: " وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ ".
فرحمة بهم لم يكن النبي من الملائكة.. ولم يكن معه حارس منهم.
20- عندها اقتنعوا .. ثم عادوا وفكروا.. كيف ينتقدون شخص هذا النبي الذي كانوا يصفونه بالصادق الأمين.. وليس في سيرته أي عيب أخلاقي أو سلوك مشين.. بل نسبه أكرم أنساب العرب .. وهو لم ولا يشرب قطرة خمر .. لم ولا يرابي أبداً ... لم ولا يكذب كذبة واحدة ... لم ولا يسجد لصنم ....... أبداً لا قبل ذلك ولا بعده.
بل كانوا يستأمنونه على حوائجهم وهو النبي وهم الكفار... حتى قبيل الهجرة كما هو معلوم.
فكانت حجتهم...
ما قال تعالى في سورة الزخرف: " وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ".
إذن.. لم يطعنوا في أخلاق محمد .. ولا أهليته لحمل الرسالة من جنون وغيره... بل كان عيبه الوحيد .. أنه ليس أعظم شخصية ( بحسب مقاييسهم ) في مكة أو الطائف .
لله در البوصيري:
لا تَعْجَبَنْ لِحَسُودٍ راحَ يُنْكِرُها ### تَجاهُلاً وهْوَ عَيْنُ الحاذِقِ الفَهِمِ
قد تُنْكِرُ العيْنُ ضَوْءَ الشِّمْسِ من رَمَدٍ ### ويُنْكِرُ الفَمُّ طَعْمَ الماءِ من سَقَمٍ
21- لم تفد أي من تلك الوسائل في إثارة شك العرب والطعن في إعجاز القرآن الكريم، وصرف الناس عن التصديق بكونه وحي يوحى.
لقد كان للقرآن الكريم أشد التأثير في نفوس المدعوين.. فكان الحل الأخير .. أنهم تداعوا وتنادوا لعدم الاستماع إلى آيات القرآن الكريم.. ليمنعوا وصوله إلى آذان أكبر عدد ممكن من الناس.
قال تعالى في سورة فصلت : " وَقَالَ الذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ".
22- ثم بيّن الله عز وجل حال أولئك ( ومن سار على دربهم إلى يوم القيامة )..
قال تعالى في سورة الأنعام: " قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ".
صدق الله العظيم.
من هنا ... يظهر لنا..
- استحالة صدور هذا القرآن الكريم عن بشر.. وإلا لأمكن الإتيان بمثله.
- لم تطعن قريش بفصاحة القرآن الكريم .
- زيادة على ذلك.... اعترفوا بإعجازه ، وذلك عندما لم يعارضوه.
فنجد أن معارضة القرآن الكريم لم تظهر أبداً في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ...
لأن من تحداهم من قومه تهيبوا أن يعارضوه.
وخشوا أن يظهر عجزهم .. ويكونوا أضحوكة الجميع.
كانت قريش قبيل الإسلام.. أرقى العرب علماً وحضارة وفصاحة .. فكان شعراء العرب وبلغاؤهم يتحاكمون إليها ..
فانظروا إلى حال من دونهم وهم يتخبطون ذات اليمين وذات الشمال...
نزل القرآن الكريم ... فعرفت قريش حجمها... طلبت السلامة .. وعدم الفضيحة.
لم ينبس أهلها ببنت شفة .. وهم أشد الناس حمية إذا استُثيروا... فكيف إن كان النقد والتعريض يطال آلهتهم ( بالاسم ) .. وأقدس مقدساتهم .. ما توارثوه من عادات كانت ملح حياتهم اليومية: شرب الخمر ، الربا ، وأد البنات ... ؟؟!!
كل ذلك .. رضوا مهانة التبكيت .. خشية الفضيحة الأكبر ..
ولسان حالهم.. يتمثل قول امرئ القيس:
وَقَد طَوَّفتُ في الآفاقِ حَتّى ### رَضيتُ مِنَ الغَنيمَةِ بِالإِيابِ
أمر آخر..
لو كان محمد صلى الله عليه وسلم طالب دنيا.. لارتاح ووافق على رجائهم وكان أغنى العرب وأكثرهم جاها..
ثم استخدم ذلك كله لنشر الإسلام.
لو كان الإسلام على هوى محمد صلى الله عليه وسلم وطموحاته الدنيوية المزعومة،، لكان زعماء قريش وكبراؤهم هم الأحق بالعلو والكرامة والمنزلة من الأعمى ابن أم مكتوم رضي الله عنه.
ولو كانت قريش قد آمنت به من ساعتها .. لمات الإسلام بوفاة محمد صلى الله عليه وسلم ،،
ولما خرجت الدعوة خارج حدود مكة المكرمة .. بل ما تعدت حدود أحياء قبيلة قريش داخل مكة، وبيوت بني هاشم.. إلا قليلاً.
لأن الناس سيظنون أن تلك دعوة إصلاحية قبلية .. ذات أسباب دنيوية ،، أو ثورة اجتماعية خاصة بتلك العشيرة فقط.
ولقالوا: لولا عشيرته لما انتصر... ما الإسلام إلا دعوة عنصرية قبلية .. وما آمن معه الناس إلا بدافع العصبية العشائرية.
لقد كان موقف قريش من دعوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم آية من آيات الله..
وعلامة من أدل علامات النبوة..
لمن ألقى السمع وهو شهيد..
لمن نظر بعينين مفتحتين..
وفكر بما في رأسه..