المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ادّعاء الاجتهاد مع الجهل ، بدعوى أنْ : «لا كهنوتيةّ في الإسلام»



د. هشام عزمي
11-21-2007, 09:32 PM
ادّعاء الاجتهاد مع الجهل ، بدعوى أنْ : «لا كهنوتيةّ في الإسلام»
أبو الأعلى المودودي
«نظريّة الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور» : ص205-207



نشأت في أيّامنا وجهة جديدة للتفكير ، تقول : أنْ لا كهنوتيّة في الإسلام ، فليس للعلماء من اختصاص بالقرآن والسنّة والشريعة حتى يكون لهم وحدهم الحق في التعبير عنها ، بل المسلمون جميعًا يتمتعون بهذا الحق معهم ، وما عند العلماء من حجّة تجعل آراءهم أرجح من آرائنا ، وأقوالهم أكثر وزنًا من أقوالنا في أمر الدِّين .

فمثل هذه الأقوال التي يتشدَّق بها الذين ما أوتوا أدنى حظ من معرفة القرآن والسنَّة ، ولم يطّلعوا على النصوص الدينيّة ، ولم يصرفوا يومًا من أيام حياتهم في الدراسة الوافية للدين وتعاليمه .

فبدلًا من أن يشعروا بقصورهم في معرفة تعاليم القرآن ، ويبذلوا جهدًا في تداركه ، أبوا إلا إنكار ضرورة هذه المعرفة ، وأصرّوا أن يُتركوا وشأنهم ليشوّهوا وجه الدِّين الحنيف ، ويموّهوا تعاليمه النزيهة بتأويلاتهم السخيفة من غير علم ولا معرفة .

ولعمر الحق ! أنه لو تركت سَورة الجهل على حالها تشتدّ وتثور ، لا بيعد غدًا أن يقوم غدًا رجل منّا ، فيقول : أنْ لا قضاء في الإسلام ، فيجوز لكل أحد من الناس أنْ يدلي برأيه في القانون ، ولو لم يكن يعرف منه الألف والباء .

ويقوم بعده رجل آخر ، ويعلن : أنْ لا هندسة في الإسلام ، فمن حق كل رجل أن يتكلّم في الهندسة ، ولو لم يكن على أدنى معرفة بمبادئها .

ثم يقوم بعده رجل ثالث ، ويعلن : أنْ ليس هناك حاجة إلى حذق في مهنة الطب ، فيشرع في معالجة المرضى ومداواتهم من غير أن يكون على صلة بالطب .

وليت شعري ! ما الذي جعل هؤلاء يُمعنون في السفاهة ، وتسوّل لهم نفوسهم أن يُخادعوا الأمة ، ويظنّونها مُصَدّقة لآرائهم الواهية ، وأقوالهم الباطلة ؟!

نعم لا جرم أنه لا كهنوتيّة في الإسلام ، ولكن هل يعلم هؤلاء اليوم ما معنى ذلك ؟!

إنما معناه : أن الإسلام ليس كاليهوديّة ، حتى ينحصر فيه علم الشريعة والقيام على الخدمات الدينية في سبط من الأسباط ، أو قبيلة من القبائل ، ولم يفرق فيه – كما في المسيحية – بين الدين والدنيا ، فتكون الدنيا للقياصرة ، ويكون الدين للرهبان والأحبار .

ولا ريب – كذلك – أنْ لا اختصاص لأحد بتفسير القرآن والسنّة والشريعة ، وأنه لا ينحصر العلماء في سلالة خاصة من السلالات ، أو أسرة معينة من الأسَر ، فلا يكون إلا لأفرادها يتوارثونه كابرًا عن كابر ، ولهم وحدهم أن يتحدثوا باسم الدين ، ويجتهدوا في تعاليمه دون سائر المسلمين .

فكما أنه من الممكن لكل أحد من الناس أن يكون محاميًا إذا درَس القانون أو مهندسًا إذا درس الهندسة أو طبيبًا إذا درس الطبّ ، فكذلك يجوز في الإسلام لكل فرد من أفراد المسلمين إذا درس القرآن والسنّة ، وصرف جانبًا من أوقاته وجهوده في تلقي علمهما أن يتكلم في مسائل الشريعة .

وهذا هو المعنى الصحيح المعقول إنْ كان هناك معنى لانعدام الكهنوتية في الإسلام .

ليس معناه أن الإسلام كالألعوبة في أيدي الأطفال ، يجوز لكل من شاء من الناس أن يعبث بأحكامه وتعاليمه ويصدر فيها آراءه ، كما هو الشأن في أقضية أعلام المجتهدين وفتاواهم ، ولو لم يكن قد بذل أدنى سعي في فهم القرآن والسنّة والتبصّر فيهما .

وإذا لم يكن مقبولًا ولا معقولًا أن يدّعي المرء أنه مرجع في أمر من أمور الدنيا من غير علم به ، فما بالنا إذن نقبل في أمر الدين ادّعاء هؤلاء القوم الذين يتكلّمون فيه من غير معرفة بأصوله ومبادئه ؟