المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المقال الحادى عشر - رياض النعيم - (11) الآثار والفوائد الإيمانية



ابوالمنذر
11-23-2007, 08:16 PM
(11) الآثار والفوائد الإيمانية



و في هذا الفصل نتناول التطبيق العملي للمعنى العقدي في مدلولات الاسمين الكريمين وذلك في السلوك العلمي في حياة المسلم من خلال المنهج الرباني من خلال التالي:-

( أ ) خُلق الرحمة في حياة رسول الله r .

(ب)خُلق الرحمة في حياة السلف رحمهم الله U .

(جـ)خُلق الرحمة في حياة المسلم:-

1) مع نفسه وأهله . 2) مع إخوانه وفى مجتمعه.

(د)القسوة وآثارها السيئة على الفرد والمجتمع .

(هـ)أثر الرحمة في حياة المسلم :-

1) الفوائد والآثار العقدية . 2) الرحمة و الصحة .

(و) كيف أكون عبدًا رحيمًا؟

(ز ) الدعاء بالاسمين الكريمين في الكتاب والسنة.







( أ ) خُلق الرحمة في حياة الرحمة المهداة رسول الله r .



هيا بنا نعيش الرحمة خُلقاً وسجيةً مع الرحمة المُهداة r ، كيف لا وهو من هو في رحمته وشفقته بالخلق أجمعين ؟!

ونتناول في هذا الجزء من الكتاب التعبد العمليّ لهذه الأسماء الحسنى الذي هو غاية التوحيد([1]) :-

· في تفسير قوله تعالى { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ( الأنبياء :107).

· في معنى اسمه r (نبي الرحمة ) ، وقوله r ( إنما أنا رحمة مُهداة ) .

· في تنوع صنوف رحمته r:

فى هذا الباب لن يستطيع أحد الاستقصاء فضلًا عن الإحاطة لأنه r كما قال U فيه {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين}(الأنبياء:107)، لذا سأكتفى بالإشارة إلى ذكر طرف من رحماته r فعلى سبيل المثال لا الحصر:

1) ذكر طرف من رحمته r بالملائكة u .

2) ذكر طرف من رحمته r بالأنبياء والرسل u.

3) ذكر طرف من رحمته r بأصحابه t .

4) ذكر طرف من رحمته r بالنساء.

5) ذكر طرف من رحمته r بالأطفال.

6) ذكر طرف من رحمته r بخدمه ومواليه.

7) ذكر طرف من رحمته r بالأعراب .

8) ذكر طرف من رحمته r بالجن

9) ذكر طرف من رحمته r بالأمة في الدنيا والآخرة.

10) ذكر طرف من رحمته r بالعصاة .

11) ذكر طرف من رحمته r بالحيوان

12) ذكر طرف من رحمته r بالنبات.

13) ذكر طرف من رحمته r بالجماد.

14) ذكر طرف من رحمته r بالكفار .

15) ذكر طرف من رحمته r بالمنافقين.



قال حسان بن ثابت t([2]) :





آليْتُ ما في جميعِ النّاسِ مجْتهِداً، ‍
تاللهِ ما حملتْ أنثى ، ولا وضعتْ ‍
ولا برا اللهُ خلقاً منْ بريتهِ ‍
منَ الذي كان نوراً يستضاءُ بهِ، ‍
مُصَدِّقاً للنَّبيّينَ الأُلى سَلَفُوا، ‍
يا أفضَلَ الناس، إني كنتُ في نَهَرٍ ‍




مني ألية َ برٍّ، غيرِ إفناد([3])
مِثْلَ النّبيّ، رسولِ الرّحمة ِ الهادي
أوْفَى بِذِمّة ِ جَارٍ، أو بمِيعَادِ
مُبَارَكَ الأمْرِ ذا عَدْلٍ وإرشادِ
وأبذلَ الناسِ للمعروفِ للجادي([4])
أصبحتُ منهُ كمثلِ المفردِ الصادي([5])




ويرحم الله القائل:([6])



هو النعـمة العظمى هو الرحمـة التي ‍
أيروم مخلــوق ثنـاءك بعـدمـا ‍


تجلى بها الرحمن في السر والجــهر
أثنى على أخلاقــك الخــلّاق؟








{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين}(الأنبياء:107)





قول ابن جرير ’: ([7])

وقوله: {وَما أرْسَلْناكَ إلاّ رَحْمَةً للْعَالَـمِينَ} يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد ‘: وما أرسلناك يا مـحمد إلـى خـلقنا إلا رحمة لـمن أرسلناك إلـيه من خـلقـي.

ثم اختلف أهل التأويـل فـي معنى هذه الاَية, أجميع العالـم الذي أرسل إلـيهم مـحمد أُريد بها مؤمنهم وكافرهم؟ أم أريد بها أهل الإيـمان خاصة دون أهل الكفر؟ فقال بعضهم: عُنـي بها جميع العالـم الـمؤمن والكافر. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي إسحاق بن شاهين, قال: حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق, عن الـمسعوديّ, عن رجل يقال له سعيد عن سعيد بن جُبـير عن ابن عبـاس فـي قول الله فـي كتابه:{ وَما أرْسَلْناكَ إلاّ رَحْمَةً للْعَالَـمِينَ} قال: من آمن بـالله والـيوم الاَخر كُتب له الرحمة فـي الدنـيا والاَخرة, ومن لـم يؤمن بـالله ورسوله عُوفِـيَ مـما أصاب الأمـم من الـخَسْف والقذف.

حدثنا القاسم قال: حدثنا الـحسين قال: حدثنا عيسى بن يونس, عن الـمسعوديّ, عن أبـي سعيد عن سعيد جُبـيرعن ابن عبـاس فـي قوله:{ وَما أرْسَلْناكَ إلاّ رَحْمَةً للْعَالَـمِينَ}قال: تـمت الرحمة لـمن آمن به فـي الدنـيا والاَخرة, ومن لـم يؤمن به عُوفـيَ مـما أصاب الأمـم قبل.

وقال آخرون: بل أريد بها أهل الإيـمان دون أهل الكفر. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَما أرْسَلْناكَ إلاّ رَحْمَةً للْعَالَـمِينَ قال: العالـمون: من آمن به وصدّقه. قال: {وَإنْ أدْرِي لَعَلّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إلـى حِينِ} قال: فهو لهؤلاء فتنة ولهؤلاء رحمة وقد جاء الأمر مـجملاً رحمة للعالـمين. والعالَـمون ههنا: من آمن به وصدّقه وأطاعه.

وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب القول الذي رُوي عن ابن عبـاس, وهو أن الله أرسل نبـيه مـحمدا ‘ رحمة لـجميع العالـم, مؤمنهم وكافرهم. فأما مؤمنهم فإن الله هداه به, وأدخـله بـالإيـمان به وبـالعمل بـما جاء من عند الله الـجنة. وأما كافرهم فإنه دفع به عنه عاجل البلاء الذي كان ينزل بـالأمـم الـمكذّبة رسلها من قبله. ([8])

قول القاضي عياض ’:

و قال الله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107)

قال أبو بكر بن طاهر : زين الله تعالى محمدا r بزينة الرحمة فكان كونه رحمة و جميع شمائله و صفاته رحمة على الخلق فمن أصابه شيء من رحمته فهو الناجي في الدارين من كل مكروه و الواصل فيهما إلى كل محبوب ألا ترى أن الله يقول : { و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } فكانت حياته رحمة و مماته رحمة كما قال À: (( حياتي خير لكم و موتي خير لكم([9]))) وكما قالr (( إذا أراد الله رحمة بأمة قبض نبيها قبلها فجعله لها فرطا و سلفا ([10]))) و قال السمرقندي : رحمة للعالمين : يعني للجن و الإنس .

و قيل : لجميع الخلق للمؤمن رحمة بالهداية و رحمة للمنافق بالأمان من القتل و رحمة للكافر بتأخير العذاب

قال ابن عباس ù : هو رحمة للمؤمنين و للكافرين إذ عوفوا مما أصاب غيرهم من الأمم المكذبة))([11])







قول ابن القيم ’: ([12])

وأصح القولين في قوله تعالى{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين}(الأنبياء:107) أنه على عمومه وفيه على هذا التقدير وجهان :

أحدهما :أن عموم العالمين حصل لهم النفع برسالته أما أتباعه فنالوا به كرامة الدنيا والآخرة وأما أعداؤه فالمحاربون له عجل قتلهم وموتهم خير لهم من حياتهم لأن حياتهم زيادة لهم في تغليظ العذاب عليهم في الدار الآخرة وهم قد كتب عليهم الشقاء فتعجيل موتهم خير لهم من طول أعمارهم في الكفر وأما المعاهدون له فعاشوا في الدنيا تحت ظله وعهده وذمته وهم أقل شرا بذلك العهد من المحاربين له وأما المنافقون فحصل لهم بإظهار الإيمان به حقن دمائهم وأموالهم وأهلهم واحترامها وجريان أحكام المسلمين عليهم في التوارث وغيره وأما الأمم النائية عنه فإن الله I رفع برسالته العذاب العام عن أهل الأرض فأصاب كل العالمين النفع برسالته .

الوجه الثاني : أنه رحمة لكل أحد لكن المؤمنين قبلوا هذه الرحمة فانتفعوا بها دنيا وأخرى والكفار ردوها فلم يخرج بذلك عن أن يكون رحمة لهم لكن لم يقبلوها كما يقال هذا دواء لهذا المرض فإذا لم يستعمله المريض لم يخرج عن أن يكون دواء لذلك المرض ومما يحمد عليه ما جبله الله عليه من مكارم الأخلاق و كرائم الشيم فإن من نظر في أخلاقه وشيمه علم إنها خير أخلاق الخلق وأكرم شمائل الخلق فإنه كان أعلم الخلق وأعظمهم أمانة وأصدقهم حديثا وأحلمهم وأجودهم وأسخاهم وأشدهم احتمالا وأعظمهم عفوا ومغفرة وكان لا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما كما روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمرو ù أنه قال في صفة رسول الله r في التوراة محمد عبدي ورسولي سميته المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله وأفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا وأرحم الخلق وأرأفهم بهم وأعظم الخلق نفعا لهم في دينهم ودنياهم وأفصح خلق الله وأحسنهم تعبيرا عن المعاني الكثيرة بالألفاظ الوجيزة الدالة على المراد وأصبرهم في مواطن الصبر وأصدقهم في مواطن اللقاء وأوفاهم بالعهد والذمة وأعظمهم مكافأة على الجميل بأضعافه وأشدهم تواضعا وأعظمهم إيثارا على نفسه وأشد الخلق ذبا عن أصحابه وحماية لهم ودفاعا عنهم وأقوم الخلق بما يأمر به وأتركهم لما ينهى عنه وأوصل الخلق لرحمه فهو أحق بقول القائل :

برد على الأدنى ومرحمة وعلى الأعادي مارن جلد



ابن كثير’ :([13])

قوله تعالى: {و َمَآ أَرْسَلْناَكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَـالَمِينَ} (الأنبياء:107)

يخبر تعالى أن الله جعل محمداً ‘ رحمة للعالمين أي أرسله رحمة لهم كلهم فمن قبل هذه الرحمة وشكر هذه النعمة سعد في الدنيا والآخرة ومن ردها وجحدها خسر في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ(28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ( 29)} (إبراهيم) وقال تعالى في صفة القرآن: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}(فصلت: من الآية44) وقال مسلم في صحيحه حدثنا ابن أبي عمر, حدثنا مروان الفزاري عن يزيد بن كيسان عن ابن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قيل يارسول الله ادع على المشركين. قال «إني لم أبعث لعاناً, وإنما بعثت رحمة» انفرد بإخراجه مسلم. وفي الحديث الاَخر «إنما أنا رحمة مهداة» رواه عبد الله بن أبي عوانة وغيره روي الحاكم بسنده الي أبي هريرة قال: قال رسول الله ‘: «إنما أنا رحمة مهداة» ثم أورده من طريق الصلت بن مسعود عن سفيان بن عيينة عن مسعر عن سعيد بن خالد, عن رجل عن ابن عمر قال: قال رسول الله ‘: ((إن الله بعثني رحمة مهداة بعثت برفع قوم وخفض آخرين))

وقال الإمام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو, حدثنا زائدة, حدثني عمرو بن قيس عن عمرو بن أبي قرة الكندي قال: كان حذيفة بالمدائن فكان يذكر أشياء قالها رسول الله ‘, فجاء حذيفة إلى سلمان, فقال سلمان: يا حذيفة إن رسول الله ‘ خطب فقال: «أيما رجل من أمتي سببته في غضبي أو لعنته لعنة, فإنما أنا رجل من ولد آدم أغضب كما تغضبون, إنما بعثني الله رحمة للعالمين فأجعلها صلاة عليه يوم القيامة»



قول الشوكاني ’:([14])

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين} (الأنبياء:107)أي وما أرسلناك يا محمد بالشرائع والأحكام إلا رحمة لجميع الناس، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال والعلل: أي ما أرسلناك لعلة من العلل إلا لرحمتنا الواسعة، فإن ما بعثت به سبب لسعادة الدارين. قيل ومعنى كونه رحمة للكفار: أنهم أمنوا به من الخسف والمسخ والاستئصال: وقيل المراد بالعالمين المؤمنون خاصة، والأول أولى بدليل قوله سبحانه:{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ }(لأنفال: من الآية33).

قول الألوسي ’ :

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين} (الأنبياء:107)

{وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ } بما ذكر وبأمثاله من الشرائع والأحكام وغير ذلك مما هو مناط لسعادة الدارين { إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ } استثناء من أعم العلل أي وما أرسلناك بما ذكر لعلة من العلل إلا لتراحم العالمين بإرسالك أو من أعم الأحوال أي وما أرسلناك في حال من الأحوال إلا حال كونك رحمة أو ذا رحمة أو راحماً لهم ببيان ما أرسلت به، والظاهر أن المراد بالعالمين ما يشمل الكفار، ووجهه ذلك عليه أنه عليه الصلاة والسلام أرسل بما هو سبب لسعادة الدارين ومصلحة النشأتين إلا أن الكافر فوت على نفسه الانتفاع بذلك وأعرض لفساد استعداده عما هنالك، فلا يضر ذلك في كونه ‘ أرسل رحمة بالنسبة إليه أيضاً كما لا يضر في كون العين العذبة مثلاً نافعة عدم انتفاع الكسلان بها لكسله وهذا ظاهر خلافاً لمن ناقش فيه، .....................ثم قال ’، وقيل المراد بالعالمين جميع الخلق فإن العالم ما سوى الله تعالى وصفاته جل شأنه، وجمع جمع العقلاء تغليباً للأشرف على غيره؛ وفي مفتاح السعادة لابن القيم أنه لولا النبوات لم يكن في العالم علم نافع البتة ولا عمل صالح ولا صلاح في معيشة ولا قوام لمملكة ولكان الناس بمنزلة البهائم والسباع العادية والكلاب الضارية التي يعدو بعضها على بعض، وكل خير في العالم فمن آثار النبوة وكل شر وقع في العالم أو سيقع فبسبب خفاء آثار النبوة ودروسها فالعالم جسد روحه النبوة ولا قيام للجسد بدون روحه، ولهذا إذا انكسفت شمس النبوة من العالم ولم يبق في الأرض شيء من آثارها البتة انشقت سماؤه وانتشرت كواكبه وكورت شمسه وخسف قمره ونسفت جباله وزلزلت أرضه وأهلك من عليها فلا قيام للعالم إلا بآثار النبوة ؛ وإذا سلم هذا علم منه بواسطة كونه ‘ أكمل النبيين وما جاء به أجل مما جاؤوا به عليهم السلام وإن لم يكن في الأصول اختلاف وجه كونه عليه الصلاة والسلام أرسل رحمة للعالمين أيضاً لكن لا يخلو ذلك عن بعث.



قول علامة الشام القاسمي ’ :([15])

قوله تعالى: {و َمَآ أَرْسَلْناَكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَـالَمِينَ}

أي وما أرسلناك إلا بهذه الحنيفية والدين الفطري إلا حال كونك رحمة للخلق فإن ما بعثت به سبب سعادة الدارين، وجعله نفسه الرحمة r مبالغة جلية، وجوز كون الرحمة مفعولاً له أي للرحمة ، فهو نبي الرحمة .

تنبيه:

قال الرازي : إنه r كان رحمة في الدين والدنيا ، أما في الدين فلأنه بُعث والناس في جاهلية وضلالة وأهل الكتابين كانوا في حيرة من أمر دينهم ([16]) لطول مكثهم وانقطاع تواترهم ووقوع الاختلاف في كتبهم ،فبعث الله تعالي محمداً r حين لم يكن لطالب الحق سبيل إلى الفوز والثواب ، فدعاهم إلى الحق وبين لهم سبيل الثواب وشرع لهم الأحكام، وميز الحلال من الحرام ، ثم انما ينتفع بهذه الرحمة من كانت همته طلب الحق ، فلا يركن إلى التقليد و لا إلى العناد و الاستكبار ، وكان التوفيق قريناً له ، قال تعالي{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ }(فصلت: من الآية44) و أما في الدنيا فلأنهم تخلصوا بسببه من كثير من الذل والقتال والحروب ونصروا ببركة دينه ).



العلامة محمد الطاهر بن عاشور ’: ([17])

{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107)

" إنما أنا رحمة مهداة " وتفصيل ذلك يظهر في مظهرين:

الأول: تخلق نفسه الزكية بخلق الرحمة .

والثاني: إحاطة الرحمة بتصاريف شريعته .

فأما المظهر الأول: فقد قال فيه أبو بكر محمد بن طاهر القيسي الإشبيلي أحد تلاميذ أبي علي الغساني وممن أجاز لهم أبو الوليد الباجي من رجال القرن الخامس:«زين الله محمداً ‘ بزينة الرحمة فكان كونه رحمة وجميع شمائله رحمة وصفاته رحمة على الخلق» اهـ . وذكره عنه عياض في «الشفاء» .

قلت : يعني أن محمداً r فُطر على خُلق الرحمة في جميع أحوال معاملته الأمة لتتكون مناسبة بين روحه الزكية وبين ما يلقى إليه من الوحي بشريعته التي هي رحمة حتى يكون تلقيه الشريعة عن انشراح نفس أن يجد ما يوحَى به إليه ملائماً رغبتَه وخلقه . قالت عائشة : «كان خلقُه القرآن» . ولهذا خصّ الله محمداً r في هذه السورة بوصف الرحمة ولم يصف به غيره من الأنبياء ، وكذلك في القرآن كله ، قال تعالى : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم } [ التوبة : 128 ] وقال تعالى : { فبما رحمة من الله لنت لهم } [ آل عمران : 159 ] أي برحمة جبلَك عليها وفَطرك بها فكنت لهم لَيِّناً . وفي حديث مسلم : أن رسول الله لما شُجّ وجههُ يوم أُحد شقّ ذلك على أصحابه فقالوا : لو دعوت عليهم فقال : " إني لم أُبعث لعاناً وإنما بُعثتُ رحمة " .

وأما المظهر الثاني: من مظاهر كونه رحمة للعالمين فهو مظهر تصاريف شريعته ، أي ما فيها من مقومات الرحمة العامة للخلق كلهم لأن قوله تعالى { للعالمين } متعلق بقوله { رحمة } .

والتعريف في { العالمين } لاستغراق كل ما يصدق عليه اسم العالم . والعالَم : الصنف من أصناف ذوي العلم ، أي الإنسان ، أو النوع من أنواع المخلوقات ذات الحياة كما تقدم من احتمال المعنيين في قوله تعالى : { الحمد لله رب العالمين } [ الفاتحة : 2 ] . فإن أريد أصناف ذوي العلم فمعنى كون الشريعة المحمدية منحصرة في الرحمة أنها أوسع الشرائع رحمة بالناس فإن الشرائع السالفة وإن كانت مملوءة برحمة إلا أن الرحمة فيها غير عامة إمّا لأنها لا تتعلق بجميع أحوال المكلفين ، فالحنيفية شريعة إبراهيم u كانت رحمة خاصة بحالة الشخص في نفسه وليس فيها تشريع عام ، وشريعة عيسى u قريبة منها في ذلك؛ وإما لأنها قد تشتمل في غير القليل من أحكامها على شدّة اقتضتها حكمة الله في سياسة الأمم المشروعة هي لها مثل شريعة التوراة فإنها أوسع الشرائع السالفة لتعلقها بأكثر أحوال الأفراد والجماعات ، وهي رحمة كما وصفها الله بذلك في قوله تعالى { ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن وتفصيلاً لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون } [ الأنعام : 154 ] ، فإن كثيراً من عقوبات أمتها جعلت في فرض أعمال شاقة على الأمة بفروض شاقة مستمرة قال تعالى : { فبظلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيبات أحلّت لهم } وقال : {فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم} إلى آيات كثيرة .

لا جرم أن الله تعالى خصّ الشريعة الإسلامية بوصف الرحمة الكاملة . وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى فيما حكاه خطاباً منه لموسى u: { ورَحمتي وسِعت كل شيء فسأكتبها للذين يتّقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي } [ الأعراف : 156/157 ] الآية . ففي قوله تعالى : { وسعت كل شيء }إشارة إلى أن المراد رحمة هي عامة فامتازت شريعة الإسلام بأن الرحمة ملازمة للناس بها في سائر أحوالهم وأنها حاصلة بها لجميع الناس لا لأمة خاصة .

وحكمة تمييز شريعة الإسلام بهذه المزية أن أحوال النفوس البشرية مضت عليها عصور وأطوار تهيأت بتطوراتها لأن تُساس بالرحمة وأن تدفع عنها المشقة إلا بمقادير ضرورية لا تُقام المصالح بدونها ، فما في الشرائع السالفة من اختلاط الرحمة بالشدة وما في شريعة الإسلام من تمحّض الرحمة لم يجر في زمن من الأزمان إلا على مقتضى الحكمة ، ولكن الله أسعد هذه الشريعة والذي جاء بها والأمة المتبعة لها بمصادفتها للزمن والطور الذي اقتضت حكمة الله في سياسة البشر أن يكون التشريع لهم تشريع رحمة إلى انقضاء العالم .

فأقيمت شريعة الإسلام على دعائم الرحمة والرفق واليسر . قال تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } [ الحجّ : 78 ] وقال تعالى : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [ البقرة : 185 ] ، وقال النبي r" بُعثت بالحنيفية السمحة " . وما يتخيل من شدة في نحو القِصاص والحدود فإنما هو لمراعاة تعارض الرحمة والمشقة كما أشار إليه قوله تعالى : { ولكم في القصاص حياة } [ البقرة : 179 ] فالقصاص والحدود شدة على الجناة ورحمة ببقية الناس .

وأما رحمة الإسلام بالأمم غير المسلمين فإنما نعني به رحمته بالأمم الداخلة تحت سلطانه وهم أهل الذمة . ورحمته بهم عدمُ إكراههم على مفارقة أديانهم ، وإجراءُ العدل بينهم في الأحكام بحيث لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم في الحقوق العامة .

هذا وإن أريد ب { العالمين } في قوله تعالى: { إلا رحمة للعالمين } النوع من أنواع المخلوقات ذات الحياة فإن الشريعة تتعلق بأحوال الحيوان في معاملة الإنسان إياه وانتفاعه به. إذ هو مخلوق لأجل الإنسان، قال تعالى: { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } [ البقرة : 29 ] وقال تعالى : { والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤف رحيم } [ النحل : 57 ] .

وقد أذنت الشريعة الإسلامية للناس في الانتفاع بما يُنتفع به من الحيوان ولم تأذن في غير ذلك . ولذلك كُره صيد اللهو وحرم تعذيب الحيوان لغير أكله ، وعدّ فقهاؤنا سباقَ الخيل رخصة للحاجة في الغزو ونحوه .

ورغبت الشريعة في رحمة الحيوان ففي حديث «الموطأ» عن أبي هريرة مرفوعاً : " أن الله غفر لرجل وجد كلباً يلهثُ من العطش فنزل في بئر فملأ خفّه ماء وأمسكه بفمه حتى رقِي فسقَى الكلب فغفر الله له " . أما المؤذي والمضرّ من الحيوان فقد أُذن في قتله وطرده لترجيح رحمة الناس على رحمة البهائم. وهي تفاصيل الأحكام من هذا القبيل كثرة لا يعوز الفقيه تتبعها.



قول العلامة القرآني محمد الآمين الشنقيطي ’:

قوله تعالى: {و َمَآ أَرْسَلْناَكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَـالَمِينَ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه ما أرسل هذا النَّبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه إلى الخلائق إلا رحمة لهم. لأنه جاءهم بما يسعدهم وينالون به كل خير من خير الدنيا والآخرة إن اتبعوه. ومن خالف ولم يتبع فهو الذي ضيع على نفسه نصيبه من تلك الرحمة العظمى.وضرب بعض أهل العلم لهذا مثلاً قال: لو فجر الله عيناً للخلق غزيرة الماء، سهلة التنازل. فسقى الناس زروعهم ومواشيهم بمائها. فتتابعت عليهم النعم بذلك، وبقي أناس مفرطون كسالى عن العمل. فضيعوا نصيبهم من تلك العين، فالعين المفجرة في نفسها رحمة من الله، ونعمة للفريقين. ولكن الكسلان محنة على نفسه حيث حرمها ما ينفعها. ويوضح ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} . وقيل: كونه رحمة للكفار من حيث إن عقوبتهم أخرت بسببه، وأمنوا به عذاب الاستئصال([18]). والأول أظهر([19]).

وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من أنه ما أرسله إلا رحمة للعالمين ـ يدل على أنه جاء بالرحمة للخلق فيما تضمنه هذا القرآن العظيم. وهذا المعنى جاء موضحاً في مواضع من كتاب الله، كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِى ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، وقوله: {وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَـابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ}.

وقد قدمنا الآيات الدالة على ذلك في سورة «الكهف» في موضعين منها. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله قال: قيل: يا رسول الله، ادع على المشركين. قال: «إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة».

قول العلامة السعديّ ’:

ثم أثنى على رسوله، الذي جاء بالقرآن فقال: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } فهو رحمته المهداة لعباده، فالمؤمنون به، قبلوا هذه الرحمة، وشكروها، وقاموا بها، وغيرهم كفرها، وبدلوا نعمة الله كفرا، وأبوا رحمة الله ونعمته.



صاحب الظلال الأستاذ /سيد قطب ’:

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ }

ولقد أرسل الله رسوله رحمة للناس كافة ليأخذ بأيديهم إلى الهدى ، وما يهتدي إلا أولئك المتهيئون المستعدون . وإن كانت الرحمة تتحقق للمؤمنين ولغير المؤمنين . .

إن المنهج الذي جاء مع محمد r منهج يسعد البشرية كلها ويقودها إلى الكمال المقدر لها في هذه الحياة .

ولقد جاءت هذه الرسالة للبشرية حينما بلغت سن الرشد العقلي : جاءت كتاباً مفتوحاً للعقول في مقبل الأجيال ، شاملاً لأصول الحياة البشرية التي لا تتبدل ، مستعداً لتلبية الحاجات المتجددة التي يعلمها خالق البشر ، وهو أعلم بمن خلق ، وهو اللطيف الخبير .

ولقد وضع هذا الكتاب أصول المنهج الدائم لحياة إنسانية متجددة . وترك للبشرية أن تستنبط الأحكام الجزئية التي تحتاج إليها ارتباطات حياتها النامية المتجددة ، واستنباط وسائل تنفيذها كذلك بحسب ظروف الحياة وملابساتها ، دون اصطدام بأصول المنهج الدائم .وكفل للعقل البشري حرية العمل ، بكفالة حقه في التفكير ، وبكفالة مجتمع يسمح لهذا العقل بالتفكير . ثم ترك له الحرية في دائرة الأصول المنهجية التي وضعها لحياة البشر ، كيما تنمو وترقى وتصل إلى الكمال المقدر لحياة الناس في هذه الأرض .

ولقد دلت تجارب البشرية حتى اللحظة على أن ذلك المنهج كان وما يزال سابقاً لخطوات البشرية في عمومه . قابلاً لأن تنمو الحياة في ظلاله بكل ارتباطاتها نمواً مطرداً . وهو يقودها دائماً ، ولا يتخلف عنها ، ولا يقعد بها ، ولا يشدها إلى الخلف ، لأنه سابق دائماً على خطواتها متسع دائماً لكامل خطواتها .

وهو في تلبيته لرغبة البشرية في النمو والتقدم لا يكبت طاقاتها في صورة من صور الكبت الفردي أو الجماعي، ولا يحرمها الاستمتاع بثمرات جهدها وطيبات الحياة التي تحققها .

وقيمة هذا المنهج أنه متوازن متناسق . لا يعذب الجسد ليسمو بالروح ، ولا يهمل الروح ليستمتع الجسد . ولا يقيد طاقات الفرد ورغائبه الفطرية السليمة ليحقق مصلحة الجماعة أو الدولة . ولا يطلق للفرد نزواته وشهواته الطاغية المنحرفة لتؤذي حياة الجماعة ، أو تسخرها لإمتاع فرد أو أفراد .

وكافة التكاليف التي يضعها ذلك المنهج على كاهل الإنسان ملحوظ فيها أنها في حدود طاقته ، ولمصلحته؛ وقد زود بالاستعدادات والمقدرات التي تعينه على أداء تلك التكاليف ، وتجعلها محببة لديه مهما لقي من أجلها الآلام أحياناً لأنها تلبي رغيبة من رغائبه ، أو تصرف طاقة من طاقاته .

ولقد كانت رسالة محمد r رحمة لقومه ورحمة للبشرية كلها من بعده والمبادئ التي جاء بها كانت غريبة في أول الأمر على ضمير البشرية ، لبعد ما كان بينها وبين واقع الحياة الواقعية والروحية من مسافة . ولكن البشرية أخذت من يومها تقرب شيئاً فشيئاً من آفاق هذه المبادئ . فتزول غرابتها في حسها ، وتتبناها وتنفذها ولو تحت عنوانات أخرى .

لقد جاء الإسلام لينادي بإنسانية واحدة تذوب فيها الفوارق الجنسية الجغرافية . لتلتقي في عقيدة واحدة ونظام اجتماعي واحد . . وكان هذا غريباً على ضمير البشرية وتفكيرها وواقعها يومذاك . والأشراف يعدون أنفسهم من طينة غير طينة العبيد . . ولكن ها هي ذي البشرية في خلال نيف وثلاثة عشر قرناً تحاول أن تقفو خطى الإسلام ، فتتعثر في الطريق ، لأنها لا تهتدي بنور الإسلام الكامل . ولكنها تصل إلى شيء من ذلك المنهج ولو في الدعاوى والأقوال وإن كانت ما تزال أمم في أوربا وأمريكا تتمسك بالعنصرية البغيضة التي حاربها الإسلام منذ نيف وثلاث مائة وألف عام .

ولقد جاء الإسلام ليسوي بين جميع الناس أمام القضاء والقانون . في الوقت الذي كانت البشرية تفرق الناس طبقات ، وتجعل لكل طبقة قانوناً . بل تجعل إرادة السيد هي القانون في عهدي الرق والإقطاع . . فكان غريباً على ضمير البشرية يومذاك أن ينادي ذلك المنهج السابق المتقدم بمبدأ المساواة المطلقة أمام القضاء .

ولكن ها هي ذي شيئاً فشيئاً تحاول أن تصل ولو نظرياً إلى شيء مما طبقة الإسلام عملياً منذ نيف وثلاث مائة وألف عام .

وغير هذا وذلك كثير يشهد بأن الرسالة المحمدية كانت رحمة للبشرية وأن محمداً ‘ إنما أرسل رحمة للعالمين . من آمن به ومن لم يؤمن به على السواء . فالبشرية كلها قد تأثرت بالمنهج الذي جاء به طائعة أو كارهة ، شاعرة أو غير شاعرة؛ وما تزال ظلال هذه الرحمة وارفة ، لمن يريد أن يستظل بها ، ويستروح فيها نسائم السماء الرخية ، في هجير الأرض المحرق وبخاصة في هذه الأيام .

وإن البشرية اليوم لفي أشد الحاجة إلى حس هذه الرحمة ونداها . وهي قلقة حائرة ، شاردة في متاهات المادية ، وجحيم الحروب ، وجفاف الأرواح والقلوب . .

وبعد إبراز معنى الرحمة وتقريره يؤمر الرسول ‘ بأن يواجه المكذبين المستهزئين ، بخلاصة رسالته التي تنبع منها الرحمة للعالمين :

{ قل إنما يوحى إليَّ أنَّما إلهكم إله واحد . فهل أنتم مسلمون؟ } .

فهذا هو عنصر الرحمة الأصيل في تلك الرسالة . عنصر التوحيد المطلق الذي ينقذ البشرية من أوهام الجاهلية ، ومن أثقال الوثنية ، ومن ضغط الوهم والخرافة . والذي يقيم الحياة على قاعدتها الركينة ، فيربطها بالوجود كله ، وفق نواميس واضحة وسنن ثابتة ، لا وفق أهواء ونزوات وشهوات . والذي يكفل لكل إنسان أن يقف مرفوع الرأس فلا تنحني الرؤوس إلا لله الواحد القهار .

هذا هو طريق الرحمة . . { فهل أنتم مسلمون؟ } .

وهذا هو السؤال الواحد الذي يكلف رسول الله ‘ أن يلقيه على المكذبين المستهزئين .































· في معنى اسمه r (نبي الرحمة )





وروى مسلم عن أبي موسى الأشعري t : أن رسول r :

« أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَالْمُقَفِّى وَالْحَاشِرُ وَنَبِىُّ التَّوْبَةِ وَنَبِىُّ الرَّحْمَةِ »([20]) .



قال ابن القيم ’ ([21]):

وأما نبي الرحمة فهو الذي أرسله الله رحمة للعالمين فرحم به أهل الأرض كلهم مؤمنهم و كافرهم أما المؤمنون فنالوا النصيب الأوفر من الرحمة وأما الكفار فأهل الكتاب منهم عاشوا في ظله وتحت حبله وعهده وأما من قتله منهم هو وأمته فإنهم عجلوا به إلى النار و أراحوه من الحياة الطويلة التي لا يزداد بها إلا شدة العذاب في الآخرة .

وقال النووي ’:([22])

و أما نبي التوبة ونبي الرحمة ونبي المرحمة فمعناها متقارب و مقصودها انه r جاء بالتوبة وبالتراحم قال الله تعالى {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ }(الفتح: من الآية29){وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}(البلد: من الآية17) والله أعلم.

وقال المناوي ’ ([23]):

(ونبي الرحمة) بميم أوله بخط المصنف أي الترفق والتحنن على المؤمنين والشفقة على عباد اللّه المسلمين فقد مرّ أن الرحمة ومثلها المرحمة إذ هما بمعنى واحد كما قاله القرطبي إفاضة النعم على المحتاجين والشفقة عليهم واللطف بهم وقد أعطي هو وأمته منها ما لم يعطه أحد من العالمين ويكفي {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.



























· في معنى قوله r (إنما أنا رحمة مُهداة )([24])







عن أبي هريرة قال : قال رسول الله r : ( يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة )([25]).

قال المناوي ’ ([26]):

( إنما أنا رحمة ) أي ذو رحمة أو مبالغ في الرحمة حتى كأني عينها لأن الرحمة ما يترتب عليه النفع ونحوه وذاته كذلك وإذا كانت ذاته رحمة فصفاته التابعة لذاته كذلك مهداة بضم الميم أي ما أنا إلا ذو رحمة للعالمين أهداها الله إليهم فمن قبل هديته أفلح ونجا ومن أبى خاب وخسر وذلك لأنه الواسطة لكل فيض فمن خالف فعذابه من نفسه كعين انفجرت فانتفع قوم وأهمل قوم فهي رحمة لها ولا يشكل على الحصر وقوع الغضب منه كثيرا لأن الغضب لم يقصد من بعثه بل القصد بالذات الرحمة والغضب بالتبعية بل في حكم العدم فانحصر فيها مبالغة أو المعنى أنه رحمة على الكل لا غضب على الكل أو أنه رحمة في الجملة فلا ينافي الغضب في الجملة أنه رحمة في الجملة ويكفي في المطلب إثبات الرحمة.





--------------------------------------------------------------------------------

([1]) يقول شيخنا الفاضل حفظه الله وأجزل مثوبته الشيخ /ياسر برهامي :(ومعرفة الله بأسمائه وصفاته ومحبته ودعائه بها ، والتعبد له بمقتضاها هي جنة الدنيا التي من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة ،ثم قال:التعبد بالأسماء والصفات حقيقة التوحيد : وذلك بأن يمتلئ القلب بأجل المعارف باستحضار معاني الأسماء الحسنى والصفات العُلى ، وبتأثر القلب بآثارها ومقتضياتها ويدعو الله بها .) ا.هـ منة الرحمن ص16،21.

([2]) ديوان حسان بن ثابت صـ51

([3]) الكذب.

([4]) طالب المعروف.

([5]) العطشان.

([6]) ينظر : شرح الزرقانى على المواهب اللدنية 8/384، 390 0

([7]) جامع البيان ج17 ص115،116

([8]) قد تابع ابن جرير ’ جمع من المفسرين كالبغوي والقرطبي وابن الجوزي وابن كثير رحمهم الله ولكن صحة الأثر إلى ابن عباس t فيه نظر - و إن كان معناه صحيح وتؤديه النصوص والأدلة العامة - كما حققه الأخ الفاضل عبد الله زقيل أكرمه الله -والخلاصة :-

أولاً : أن الأثر لا يثبت عن ابن عباس t.
ثانيا : وأما ما قاله أهل العلم في تفسير هذه الآية : { وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] ، فقد بينوا أن الآيات الأخرى بينت المقصود من الرحمة بالنسبة للكافر ، وكذلك سنة المصطفى r فالأمم السابقة كان يحل بها العذاب بمجرد التكذيب والآيات في ذلك كثيرة منها :

قال تعالى في شأن نوح : { فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ } [ الأعراف : 64 ] . وقال تعالى في شأن هو :{ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [ الأعراف : 72 ] . والآيات كثيرة .

وأما من السنة : ‏عَنْ ‏‏أَبِي هُرَيْرَةَ ‏‏قَالَ ‏: ‏قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ، قَالَ ‏: ‏إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً . رواه مسلم . وهذه الرحمة هي للمؤمن ، والمنافق ، والكافر .

قال القاضي عياض في " الشفا " (1/91) : " للمؤمن رحمة بالهداية ، وللمنافق رحمة بالأمان من القتل ، ورحمة للكافرين بتأخير العذاب " .ا.هـ. وقال أبو نعيم في " دلائل النبوة " : فأمن أعداؤه من العذاب مدة حياته عليه السلام فيهم ، وذلك قوله تعالى : " وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ " [ الأنفال : 33 ] ، فلم يعذبهم مع استعجالهم إياه تحقيقا لما نعته به .ا.هـ.

([9]) حديث ضعيف السلسلة الضعيفة برقم 975.

([10]) رواه مسلم .

([11]) الشفا جـ1 صـ20.

([12]) جلاء الأفهام ص 113:112

([13]) التفسيرج5ص397:394 وعمدة التفسير ج2 ص 507 بتصريف

([14]) فتح القدير ج3 ص430

([15]) محاسن التاؤيل (ج11 ص180).

([16]) قال مقيده عفا الله عنه وعن والديه :هذا مصدقاً للحديث في صحيح الامام مسلم ’ ( إن الله نظر إلي أهل الأرض عربهم و عجمهم فمقتهم إلا بقايا من أهل الكتاب ).

([17]) التحرير والتنوير - (ج 9 / ص 220).



([18]) وهذا ما ذكره الزمخشري في الكشاف.

([19])قال مقيده عفا الله عنه وعن والديه:( ويصدق كلام الشيخ رحمه الله الحديث المتفق عليه عن أبي موسى t عن رسول الله r : (مثل ما ابتعثني الله به من الهدي والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت من أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ،وأصاب منها طائفة أخري إنما هي قيعان لاتمسك ماء ولاتنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدي الله الذي أرسلت به) - وانظر رحمنا الله وإياك في قوله r (كمثل غيث) والغيث بنص القرآن والسنة أثر من آثار رحمة الله U -كما مر بنا في من معاني الرحمة في القرآن الكريم والسنة- فحتي المثل المضروب يفيض بالرحمة وفيه تشبيه( القلوب بالأرض )و( العلم والهدي بالماء ) فكما أن حياة الأرض بغيث الماء الذي هو حياة الحيوان والأشباح كذلك حياة القلوب بغيث الرحمة من الهدي.





([20]) صحيح الجامع 1473 رواه أحمد ومسلم عن أبي موسى زاد (الطبراني ) : (ونبي الملحمة ) أي نبي الحرب وسمي به لحرصه على الجهاد ووجه كونه نبي الرحمة ونبي الحرب أن الله بعثه لهداية الخلق إلى الحق وأيده بمعجزات فمن أبى عذب بالقتال والاستئصال فهو نبي الملحمة التي بسببها عمت الرحمة وثبتت المرحمة وظاهر تخصيص المصنف الطبراني بهذه الزيادة أنها لا تعرف لأعلى منه والأمر بخلافه فقد خرجه أحمد عن حذيفة بلفظ ونبي الملاحم قال الزين العراقي وإسناده صحيح( أفاده المناوي).

([21]) زاد المعاد ج: 1 ص: 95

([22]) شرح مسلم

([23]) فيض القدير جـ3 ص 55.

([24]) (فائدة): قال الرامهرمزي عقب الحديث :[و اتفقت ألفاظهم ( يعني : الرواة عن أبى الخطاب ) في ضم الميم من قوله :( مُهداة ) إلا أن البرتي قال :( مِهداة ) بكسر الميم ، من الهداية ، وكان ضابطاً فهماً متفوقاً في الفقه واللغة، والذي قاله أجود في الاعتبار ، لأنه بُعث هادياً كما قال U ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (الشورى: من الآية52) وكما قال U ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ)(النحل: من الآية44) و ( لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)(إبراهيم: من الآية1)وأشباه ذلك ، ومن رواه بضم الميم ، إنما أراد أن الله أهداه إلى الناس ،وهو قريب ]( أفاده الشيخ الألباني م1 جـ2 ص885 )

([25]) المستدرك حـ100 جـ1وقال الحاكم هذا حديث صحيح على شرطهما فقد احتجا جميعا بمالك بن سعير والتفرد من الثقات مقبول ، وهو فىالمصنف مرسلاً، مسند الشهاب، البيهقي فى شعب الإيمان ، الدارمي فى سننه ، وصححه الالباني في صحيحته برقم 490 ، و صحيح الجامع برقم 2345 (ابن سعد والحكيم ) وقال المناوي: ابن سعد في الطبقات والحكيم في النوادر عن أبي صالح مرسلا أبو صالح في التابعين كثير فكان ينبغي تمييزه ك في الإيمان عنه أي عن أبي صالح عن أبي هريرة يرفعه قال الحاكم على شرطهما وتفرد الثقة مقبول انتهى تركها عليه الذهبي.

([26]) فيض القدير جـ2 ص 710:709 .