فخر الدين المناظر
12-04-2007, 02:58 PM
1_ ما الشك المنهجي؟
يشتبه هذا النوع من الشك مع الشك المطلق لأنه يبدأ من نفس البداية ويستند إلى نفس الحجج في نقده للمعرفة الحسية والعقلية.
إن الشاك شكا منهجيا، مؤمن بوجود الحقيقة ولكنه لا يسلم بها تسليم الاعتقاديين، من عقليين وتجريبيين، وإنما يتوجه شكه على أصول ومصادر المعرفة عند كل منهما. إذ يرى أنه لابد من تحليل المبادىء الأولى وأن نقطة الانطلاق في البحث عن الحقيقة والوصول اليها بحاجة إلى حذر واحتياط كما أنه لابد من مناقشة المبدأ للمعرفة، سواء كان العقل أم الحس. أي لابد من مناقشة فكرة العقل عند العقليين ومدى قدرته على تحصيل المعرفة، ومناقشة فرض التجريبيين القائل بأن المعرفة مستحيلة خارج حدود التجربة. فالشك هنا إذن منهج وطريقة، إنه حركة تنظيم يخلص النفس من أعباء أفكاره لا تأنس إليها ولا ترتاح لها ليقيم على أنقاضها أفكار ترتاح لها وتأنس إليها وهو أحيانا حركة فحص وعلاج يتبين ما في الرأي من ضعف ليصلحه وما في الفكرة من نقص ليكملها. فالشك هنا وسيلة لا غاية وطريق يوصل إلى اليقين.
2_ الغزالي والشك المنهجي:
عاش الإمام الغزالي في جو من التوتر العلمي والاختلافات المنهجية، فكان في عصر، للفلسفة فيه شأن كبير ولها منهج في البحث عن الحقيقة وقد افتتن بها فلاسفة المسلمين، والقوا في ساحة الفكر الإسلامي تجربتهم في التوفيق بين الدين والفلسفة حتى بهرت الناس. وكان يقابلهم مدافعا عن أصالة الفكر الإسلامي ومفاهيمه علم الكلام كحركة دفاعية غرضها الدفاع عن العقائد الإسلامية، إقامة الحجج العقلية المستلهمة عن النص والتي لا تخرج من قوانين العقل لإثبات عقائد الإسلام وإفحام الخصم المجادل. وكان هناك من يشك في قيمة العقل والحس أصلا طريقين للمعرفة ويرى أنه لابد من التعويل على الإمام المعصوم في الدين فقط كما تدعي الباطنية أو التعليمية. وكان هناك فريق آخر، يبحث عن نوع معين من المعرفة بعيداً عن ضجة الفكر والعقل والفلسفة وهم الصوفية. وللحقيقة في نظرهم طريق مختلف عن طرق غيرهم هي طريق الذوق والكشف والإلهام العلمي _ وليس الفكري _ القائم على تصفية القلب وإعداد النفس ورياضتها ومجاهدتها حتى تصل إلى درجة الفناء في الحقيقة الأزلية، وقد تتحد معها وينكشف السر وتتجلى الحقيقة، مما لا يمكن أن يعبر عنها منطق العقل، ولا أداء اللغة.
ومع هذا الاضطراب المنهجي والترف الفكري بألوانه عادت الحقيقة ببساطتها صعبة المنال. ولم يكن الإمام الغزالي كشخصية علمية باحثة يرضيه أن ينغمس في إحدى هذه الطوائف انغماسا نهائيا لأن روح الشك والبحث عن الحقيقة، هي الأهم من كل شيء في نظره. فدرس الفلسفة ودرسها وألف فيها كتابه المشهور "مقاصد الفلاسفة". ولكنه ثار على اتجاهها الوثني وألف كتابا ضدها سماه "تهافت الفلاسفة".*
ثم جاس الغزالي خلال ديار كل من المتكلمين والباطنية والتصوفة ولم يبق من أهل التقليد وانتهى الأمر به إلى أن أصبح متصوفا ومؤسسا للمعرفة على أساس عقلي ويقيني. وهذا النمط من التصوف خفف غلو الاتحاديين والحلوليين وحاول إرجاع التصوف إلى دائرة الشرع كما يظهر ذلك في موسوعته الكبيرة "إحياء علوم الدين".
وهذا الشك الذي اعتنقه الغزالي منهجا للبحث عن الحقيقة لم يثنه عن الاقتناع التام بالحقيقة وعن الاعتراف بإمكان معرفتها. ولكن الذي كان يشغله هو تمحيص هذه الأداة العارفة للحقيقة واليقين في هذه الأداة، ومن ثم تجاوز قنطرة الإيمان بالحق إلى الإيقان به يقينا لا يقارنه إمكان الغلط والوهم فيه.
الغزالي والحس:
فالحس لم ينج من أن تصوب إليه سهام النقد حتى قبل أن يشك الغزالي. ذلك أن مسألة خداع الحواس اثارها كثيرون قبله وبعده. وهو يقول بهذا الصدد "والنفس في أول الفطرة أشد إذعانا وانقيادا للقبول من الحاكم الحسي والوهمي لأنهما سبقا في أول الفطرة إلى النفس وفاتحاها بالاحتكام إليها. فألفت احتكامهما وأيقنت بهما، قبل أن أدركها الحاكم العقلي، فاشتد عليها الفطام من مألوفها والانقياد لما هو كالغريب من مناسبة جبلتهما فلا تزال تخالف حاكم العقل وتكذبه وتوافق حاكم الحس والوهم وتصدقهما.. وإن أردت أن تعرف مصداق ما نقوله في تخرص هذين الحاكمين واختلالهما فانظر إلى حاكم الحس كيف يحكم" ثم ساق أمثلة على اختلال الحاكم الحسي منها قوله: "من أين الثقة بالمحسوسات وأقواها حاسة البصر؟ وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفا غير متحرك وتحكم بنفي الحركة ثم بالتجربة والمشاهدة بعد ساعة تعرف أنه تحرك وأنه لم يتحرك دفعة بغتة بل على التدريج ذرة ذرة حتى لم تكن له حالة وقوف".
الغزالي والعقل:
أما الحاكم العقلي فهل هو بمنجاة من الشك عند الغزالي في منهجه الشكي؟ وهل يمكن أن تسلم نفسه بالأمان فيه؟
هنا تكمن عقيدة الشك المنهجي عند الغزالي فهل يشك الغزالي في قدرة العقل على الوصول إلى معرفة؟ وهل الحل الذي يحل به عقدة الشك هذه حل عقلي، حتى مع شكه في العقل شكا منهجيا غير مطلق، أم أن العقل يلحق بالحس كأداتين لا قيمة لهما في المعرفة _أقصد في تأسيس المعرفة _ ؟ وهل هنالك من طريق آخر تؤسس عليه المعرفة؟ وما طبيعته؟
وقف الغزالي عند هذه المسألة وقفة أكدت عزمه في البحث عن الحل، وشكه في العقل لاحتمال أن يكون ثمة طور يكذبه إذ قال: "فقالت المحسوسات بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات وقد كنت واثقا بي، فجاء حاكم العقل فكذبني ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي؟ فلعل وراء إدراك العقل حاكما آخر، إذا تجلى كذب العقل في حكمه كما تجلى حاكم العقل فكذب حاكم الحس في حكمه. وعدم تجلي ذلك الإدراك لا يدل على استحالته فتوقفت النفس في جواب ذلك قليلا وأيدت إشكالها بالمنام. وقالت: أما تراك تعتقد في النوم أمورا وتتخيل أحوالا وتعتقد لها ثباتا واستقرارا ولا شك في تلك الحالة فيها. ثم تستيقظ فتعلم أنه لم يكن لجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصل وطائل"..
وأخذ الغزالي يبحث عن الحل بعد هذه الحيرة التي تملكته، وكيف ومن أين تأتي الثقة بهذه البديهيات أو الضروريات العقلية؟ أبالحس وهو لا ثقة فيه؟ أم بالعقل المستدل؟ أبالمنطق أم بطريق خارجي؟ وما عساه أن يكون؟.
حل الغزالي وتأسيس المعرفة:
يقول الغزالي في كتابه (المنقذ من الضلال): "فلما خطرت لي هذه الخواطر وانقدحت في النفس حاولت لذلك علاجا فلم يتيسر، إذ لم يكن دفعه إلا بدليل، ولم يمكن نصب الدليل فأعضل هذا الداء ودام قريبا من شهرين، أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال لا بحكم المنطق والمقال. حتى شفى الله تعالى وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقا بها على أمن ويقين. ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر. وذلك النور هو أكثر المعارف فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيق رحمة الله تعالى الواسعة".
وسنعرض للحلول من خلال نص الغزالي مرجحين أقواها:
(أ) الحل الصوفي:
يفسر الصوفية النور الذي قذفه الله في الصدور بأنه بالكشف أو الإلهام أو بالذوق. معتمدين في ذلك على أن الغزالي ارتضى في آخر حياته أن يكون صوفيا. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى على الترتيب الزمني الخاطىء في ترتيب كتب الغزالي إذ يدعون أن كتاب المنقذ يعد من كتبه المتقدمة ودليلهم على ذلك أن صياغته منطقية وليست معلوماته مرتبة ترتيبا زمنيا وإنما ترتيبها منطقي، ومن ثم فلا يمثل صورة أمينة لحياة الغزالي وتصوره. ولعل الدكتور عثمان أمين قد شايع هذا الاتجاه فادعى أن "الشك المطلق عند الغزالي قد أفضى إلى حال من الاشراق الصوفي".
(ب) الحل اللاعقلي:
وهذا الحل أو التفسير للحل عند الغزالي، وإن كان يشترك مع الحل الصوفي بالقول بخارجية الحل، إلا أنه يعود إلى تفسير إشراقي للمعرفة أو إلى نظرية الاتصال لدى ابن رشد، إذ يرى هذا الاتجاه أن هناك قوة فوق العقل أعطت النور للغزالي، باعتبار الله سببا أصليا أو غير مباشر والحل هنا هو الإيمان. وكأن هذا التفسير يتهم الغزالي بأنه كان منكرا أو ملحدا.
وهذا التفسير خاطىء، لأن الغزالي كان مؤمنا قبل شكه وحين شكه وبعد شكه. وكل ما هنالك أنه طلب اليقين بمنهج الشك ليدخل إلى درجة اليقين بعد الإيمان وليعطي تأسيسا فطريا من الله سبحانه قائما في الإنسان يجعله موقنا بوجود ذاته ومعرفتها وموقنا فطرة بوجود الله ومعرفته. ولو كان الحل لا عقليا لكان وجب على الغزالي حتى يستعيد الإيمان أن يبرهن على معرفة الله هنا بنوع من الأدلة المنطقية ولكنه يصرح بقوله بأن الحل "لم يكن بنظم دليل ولا ترتيب كلام بل بنور قذفه الله في الصدر" فهو إذن يعرف الله ويؤمن به قبل الحل ومعه وبعده.
(ج) الحل الفطري:
ويرد الدكتور زقزوق بأنه التفسير الفلسفي الحدسي ويتمثل هذا التفسير في القول بأن الغزالي طلب في منهجه "تأسيس العلم تأسيسا أوليا غير قابل للنقض ورفض من أجل ذلك _في أثناء بحثه عن الحقيقة كل علم غير يقيني يقينا مطلقا" وعبارات الغزالي السابقة في المنقذ تدل على أن هذا الحل لم يكن منطقيا ولا صوفيا ولا عقليا. وإنما كان بنور قذفه الله في صدره وتفسير الغزالي لهذا النور بالحدس الذي هو رؤية عقلية مباشرة في موضوع آخر من كتبه المعتمدة التي يقول فيها: ومن مارس العلوم يحصل له... على طريق الحدس والاعتبار قضايا كثيرة لا يمكنه إقامة البرهان عليها ولا يمكنه أن يشك فيها ولا يمكنه أن يشرك فيها غيره بالتعليم إلا أن يدل الطالب على الطريق الذي سلكه واستنهجه، هو الذي أوحى بهذا التفسير.
وحقيقة الأمر أن الذي وجده الغزالي لم يكن غائبا عنه ولكنه بمنهجه الشكي أيقن به. ذلك العلم اليقيني أو المعرفة اليقينية البديهية المتمثلة في معرفة الله بالفطرة والتي تلازم معرفة الإنسان لذاته ولوجوده. إنها الفطرة الإنسانية المخلوقة لله والمودع فيها الإيمان بوجودها مع الإيمان بوجود الله سبحانه والتي يدل عليها أول ما أنزل من القرآن في قوله تعالى: "اقرأ بسم ربك الذي خلق* خلق الإنسان من علق* اقرأ وربك الأكرم* الذي علم بالقلم* علم الإنسان ما لم يعلم"، فالله عز وجل يطلب من الإنسان أن يقرأ، والقراءة علم ومعرفة تطلب من موجود أو مخلوق لابد أن يكون واعيا بذاته عالما بوجوده وهذا العلم بوجوده ليس إلا أثرا من آثار خالقه سبحانه الذي خلقه وأودع فيه القدرة على العلم والمعرفة. وأعلى أصناف هذه المعرفة معرفته بربه الذي خلق وعلم وبوحدانيته كما قال تعالى: "فاعلم أنه لا إله إلا الله".
تقييم:
1_لم يكن الغزالي رافضا لتعاليم الإسلام ومنكرا للإيمان في شكه المنهجي. كل ما هنالك أن الجو الفكري كان مشبعا بالفرق من فلاسفة وباطنية ومتكلمين وصوفية. فأراد الرجل الباحث أن لا يكون إيمانه قائما على مجرد التلقين والتقليد، ولا يرضيه حتى أن يكون واصلا لليقين بطريق العقل الفلسفي الذي يدعى أن الطريق الوحيد هو البرهان المنطقي. بل إنه حتى تتم لهذا البرهان يقينيته لابد أن يستند إلى يقين سابق لا تثار حوله الأسئلة ولا يذهب إلى أبعد منه بحثا عن أصله. وهو بهذا كله يريد أن يتجاوز درجة الإيمان إلى اليقين فيسد الفجوة بينهما إذ كانت مشكلته هي هذه الفجوة: "بين الإنسان كعارف وبينه كمؤمن وهل يستطيع الوصول إلى درجة اليقين في موضوعات إيمانه؟ وإذا كان في استطاعته فأين تكون هذه القدرة؟ وكيف يمكن تعهدها بالعناية؟ فهدف الغزالي هو اليقين في الله عن طريق معرفته ولم يكن يشك أبدا في موضوع معرفته وهو الإيمان بالله".
وهو بهذا يريد أن يكون متميزا عن المقلدين والفلاسفة والمتكلمين في يقينه ويسلك طريق النظر لا نظر الفلاسفة الخالي من اليقين أصلا بالانحراف عن منهج الله والبعد عن النور الالهي، ولا نظر علماء الكلام الذي لا يعدو أن يكون طريقا للجدل وافيا بمقصودهم في الدفاع عن العقيدة، غير واف بمقصوده هو وهو دخول القنطرة ما بين الإيمان واليقين.. وإنما النظر الذي يرجع إلى اليقين فهو المستند إلى النور الرباني الذي يقذفه الله في قلب المخلصين المجاهدين من عباده. النظر الذي هو وليد الشك، والذي يولد المعرفة الحقة.
2_ ولكن ما حال الناس إزاء الحقيقة؟ وهل يستطيع كل أحد أن يمر بتجربة الغزالي الشكية حتى يصل إلى اليقين؟ وهل يحرم الناس من اليقين إذا لم يسيروا في الشك المنهجي؟ كل هذا إجهاد للبحث والإنسان وإجهاد للحقيقة ووضع للشوك في طريق الناس إليها. هل كان منهج رسول الله (ص) ومنهج صحابته كهذا المنهج؟ أم هل كانوا لا يتمتعون بيقين مثل يقين الإمام الغزالي؟! إنه مع احترامنا لهذا الإمام الجليل لا يعدو تقييمنا له في نطاق إمكان المعرفة إلا أن نقول: إنه أجهد نفسه كثيرا، وهو معذور نظرا لتقلبه بين طوائف الباحثين الذين تمثل كل طائفة منهم خروجا على بساطة العقيدة ومنهج القرآن وإلا فما الذي انتهى إليه الغزالي من وجهة نظر المتدين العادي غير المتفلسف؟ هل أعطى الحقيقة وجودا غير وجودها؟ أم أنه أعطى العقل ثقة غير ثقته؟ ما نوع الوثوق الذي أضاء عقل الغزالي بعد ظلمة وأمنه بعد يأس وطمأنه بعد اضطراب وهدأه بعد لوعة وفزع؟.
هل هو وثوق بأن العقل يدرك الواقع لا كما هو ولكن كما يبدو له؟ وعندما ينتقل البشر من طور إلى آخر من حياتهم طور المتصوفة أو طور ما بعد الموت ربما يدركون أن جميع ما كانوا تصوروه من قبل بعقولهم هو خيالات لا حاصل لها.
على كل حال فإن تجربة الغزالي تعد منهجا فلسفيا قويا رادا على الشك المطلق. إذ انه ضمن للأوليات العقلية والحسية ضمانا جعلها موثوقا بها كأوائل للبرهان. ومن ثم فإن الحقيقة موجودة والعلم بها ممكن، بل هو قائم على اليقين.
*نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة.
منقول
يشتبه هذا النوع من الشك مع الشك المطلق لأنه يبدأ من نفس البداية ويستند إلى نفس الحجج في نقده للمعرفة الحسية والعقلية.
إن الشاك شكا منهجيا، مؤمن بوجود الحقيقة ولكنه لا يسلم بها تسليم الاعتقاديين، من عقليين وتجريبيين، وإنما يتوجه شكه على أصول ومصادر المعرفة عند كل منهما. إذ يرى أنه لابد من تحليل المبادىء الأولى وأن نقطة الانطلاق في البحث عن الحقيقة والوصول اليها بحاجة إلى حذر واحتياط كما أنه لابد من مناقشة المبدأ للمعرفة، سواء كان العقل أم الحس. أي لابد من مناقشة فكرة العقل عند العقليين ومدى قدرته على تحصيل المعرفة، ومناقشة فرض التجريبيين القائل بأن المعرفة مستحيلة خارج حدود التجربة. فالشك هنا إذن منهج وطريقة، إنه حركة تنظيم يخلص النفس من أعباء أفكاره لا تأنس إليها ولا ترتاح لها ليقيم على أنقاضها أفكار ترتاح لها وتأنس إليها وهو أحيانا حركة فحص وعلاج يتبين ما في الرأي من ضعف ليصلحه وما في الفكرة من نقص ليكملها. فالشك هنا وسيلة لا غاية وطريق يوصل إلى اليقين.
2_ الغزالي والشك المنهجي:
عاش الإمام الغزالي في جو من التوتر العلمي والاختلافات المنهجية، فكان في عصر، للفلسفة فيه شأن كبير ولها منهج في البحث عن الحقيقة وقد افتتن بها فلاسفة المسلمين، والقوا في ساحة الفكر الإسلامي تجربتهم في التوفيق بين الدين والفلسفة حتى بهرت الناس. وكان يقابلهم مدافعا عن أصالة الفكر الإسلامي ومفاهيمه علم الكلام كحركة دفاعية غرضها الدفاع عن العقائد الإسلامية، إقامة الحجج العقلية المستلهمة عن النص والتي لا تخرج من قوانين العقل لإثبات عقائد الإسلام وإفحام الخصم المجادل. وكان هناك من يشك في قيمة العقل والحس أصلا طريقين للمعرفة ويرى أنه لابد من التعويل على الإمام المعصوم في الدين فقط كما تدعي الباطنية أو التعليمية. وكان هناك فريق آخر، يبحث عن نوع معين من المعرفة بعيداً عن ضجة الفكر والعقل والفلسفة وهم الصوفية. وللحقيقة في نظرهم طريق مختلف عن طرق غيرهم هي طريق الذوق والكشف والإلهام العلمي _ وليس الفكري _ القائم على تصفية القلب وإعداد النفس ورياضتها ومجاهدتها حتى تصل إلى درجة الفناء في الحقيقة الأزلية، وقد تتحد معها وينكشف السر وتتجلى الحقيقة، مما لا يمكن أن يعبر عنها منطق العقل، ولا أداء اللغة.
ومع هذا الاضطراب المنهجي والترف الفكري بألوانه عادت الحقيقة ببساطتها صعبة المنال. ولم يكن الإمام الغزالي كشخصية علمية باحثة يرضيه أن ينغمس في إحدى هذه الطوائف انغماسا نهائيا لأن روح الشك والبحث عن الحقيقة، هي الأهم من كل شيء في نظره. فدرس الفلسفة ودرسها وألف فيها كتابه المشهور "مقاصد الفلاسفة". ولكنه ثار على اتجاهها الوثني وألف كتابا ضدها سماه "تهافت الفلاسفة".*
ثم جاس الغزالي خلال ديار كل من المتكلمين والباطنية والتصوفة ولم يبق من أهل التقليد وانتهى الأمر به إلى أن أصبح متصوفا ومؤسسا للمعرفة على أساس عقلي ويقيني. وهذا النمط من التصوف خفف غلو الاتحاديين والحلوليين وحاول إرجاع التصوف إلى دائرة الشرع كما يظهر ذلك في موسوعته الكبيرة "إحياء علوم الدين".
وهذا الشك الذي اعتنقه الغزالي منهجا للبحث عن الحقيقة لم يثنه عن الاقتناع التام بالحقيقة وعن الاعتراف بإمكان معرفتها. ولكن الذي كان يشغله هو تمحيص هذه الأداة العارفة للحقيقة واليقين في هذه الأداة، ومن ثم تجاوز قنطرة الإيمان بالحق إلى الإيقان به يقينا لا يقارنه إمكان الغلط والوهم فيه.
الغزالي والحس:
فالحس لم ينج من أن تصوب إليه سهام النقد حتى قبل أن يشك الغزالي. ذلك أن مسألة خداع الحواس اثارها كثيرون قبله وبعده. وهو يقول بهذا الصدد "والنفس في أول الفطرة أشد إذعانا وانقيادا للقبول من الحاكم الحسي والوهمي لأنهما سبقا في أول الفطرة إلى النفس وفاتحاها بالاحتكام إليها. فألفت احتكامهما وأيقنت بهما، قبل أن أدركها الحاكم العقلي، فاشتد عليها الفطام من مألوفها والانقياد لما هو كالغريب من مناسبة جبلتهما فلا تزال تخالف حاكم العقل وتكذبه وتوافق حاكم الحس والوهم وتصدقهما.. وإن أردت أن تعرف مصداق ما نقوله في تخرص هذين الحاكمين واختلالهما فانظر إلى حاكم الحس كيف يحكم" ثم ساق أمثلة على اختلال الحاكم الحسي منها قوله: "من أين الثقة بالمحسوسات وأقواها حاسة البصر؟ وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفا غير متحرك وتحكم بنفي الحركة ثم بالتجربة والمشاهدة بعد ساعة تعرف أنه تحرك وأنه لم يتحرك دفعة بغتة بل على التدريج ذرة ذرة حتى لم تكن له حالة وقوف".
الغزالي والعقل:
أما الحاكم العقلي فهل هو بمنجاة من الشك عند الغزالي في منهجه الشكي؟ وهل يمكن أن تسلم نفسه بالأمان فيه؟
هنا تكمن عقيدة الشك المنهجي عند الغزالي فهل يشك الغزالي في قدرة العقل على الوصول إلى معرفة؟ وهل الحل الذي يحل به عقدة الشك هذه حل عقلي، حتى مع شكه في العقل شكا منهجيا غير مطلق، أم أن العقل يلحق بالحس كأداتين لا قيمة لهما في المعرفة _أقصد في تأسيس المعرفة _ ؟ وهل هنالك من طريق آخر تؤسس عليه المعرفة؟ وما طبيعته؟
وقف الغزالي عند هذه المسألة وقفة أكدت عزمه في البحث عن الحل، وشكه في العقل لاحتمال أن يكون ثمة طور يكذبه إذ قال: "فقالت المحسوسات بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات وقد كنت واثقا بي، فجاء حاكم العقل فكذبني ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي؟ فلعل وراء إدراك العقل حاكما آخر، إذا تجلى كذب العقل في حكمه كما تجلى حاكم العقل فكذب حاكم الحس في حكمه. وعدم تجلي ذلك الإدراك لا يدل على استحالته فتوقفت النفس في جواب ذلك قليلا وأيدت إشكالها بالمنام. وقالت: أما تراك تعتقد في النوم أمورا وتتخيل أحوالا وتعتقد لها ثباتا واستقرارا ولا شك في تلك الحالة فيها. ثم تستيقظ فتعلم أنه لم يكن لجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصل وطائل"..
وأخذ الغزالي يبحث عن الحل بعد هذه الحيرة التي تملكته، وكيف ومن أين تأتي الثقة بهذه البديهيات أو الضروريات العقلية؟ أبالحس وهو لا ثقة فيه؟ أم بالعقل المستدل؟ أبالمنطق أم بطريق خارجي؟ وما عساه أن يكون؟.
حل الغزالي وتأسيس المعرفة:
يقول الغزالي في كتابه (المنقذ من الضلال): "فلما خطرت لي هذه الخواطر وانقدحت في النفس حاولت لذلك علاجا فلم يتيسر، إذ لم يكن دفعه إلا بدليل، ولم يمكن نصب الدليل فأعضل هذا الداء ودام قريبا من شهرين، أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال لا بحكم المنطق والمقال. حتى شفى الله تعالى وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقا بها على أمن ويقين. ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر. وذلك النور هو أكثر المعارف فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيق رحمة الله تعالى الواسعة".
وسنعرض للحلول من خلال نص الغزالي مرجحين أقواها:
(أ) الحل الصوفي:
يفسر الصوفية النور الذي قذفه الله في الصدور بأنه بالكشف أو الإلهام أو بالذوق. معتمدين في ذلك على أن الغزالي ارتضى في آخر حياته أن يكون صوفيا. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى على الترتيب الزمني الخاطىء في ترتيب كتب الغزالي إذ يدعون أن كتاب المنقذ يعد من كتبه المتقدمة ودليلهم على ذلك أن صياغته منطقية وليست معلوماته مرتبة ترتيبا زمنيا وإنما ترتيبها منطقي، ومن ثم فلا يمثل صورة أمينة لحياة الغزالي وتصوره. ولعل الدكتور عثمان أمين قد شايع هذا الاتجاه فادعى أن "الشك المطلق عند الغزالي قد أفضى إلى حال من الاشراق الصوفي".
(ب) الحل اللاعقلي:
وهذا الحل أو التفسير للحل عند الغزالي، وإن كان يشترك مع الحل الصوفي بالقول بخارجية الحل، إلا أنه يعود إلى تفسير إشراقي للمعرفة أو إلى نظرية الاتصال لدى ابن رشد، إذ يرى هذا الاتجاه أن هناك قوة فوق العقل أعطت النور للغزالي، باعتبار الله سببا أصليا أو غير مباشر والحل هنا هو الإيمان. وكأن هذا التفسير يتهم الغزالي بأنه كان منكرا أو ملحدا.
وهذا التفسير خاطىء، لأن الغزالي كان مؤمنا قبل شكه وحين شكه وبعد شكه. وكل ما هنالك أنه طلب اليقين بمنهج الشك ليدخل إلى درجة اليقين بعد الإيمان وليعطي تأسيسا فطريا من الله سبحانه قائما في الإنسان يجعله موقنا بوجود ذاته ومعرفتها وموقنا فطرة بوجود الله ومعرفته. ولو كان الحل لا عقليا لكان وجب على الغزالي حتى يستعيد الإيمان أن يبرهن على معرفة الله هنا بنوع من الأدلة المنطقية ولكنه يصرح بقوله بأن الحل "لم يكن بنظم دليل ولا ترتيب كلام بل بنور قذفه الله في الصدر" فهو إذن يعرف الله ويؤمن به قبل الحل ومعه وبعده.
(ج) الحل الفطري:
ويرد الدكتور زقزوق بأنه التفسير الفلسفي الحدسي ويتمثل هذا التفسير في القول بأن الغزالي طلب في منهجه "تأسيس العلم تأسيسا أوليا غير قابل للنقض ورفض من أجل ذلك _في أثناء بحثه عن الحقيقة كل علم غير يقيني يقينا مطلقا" وعبارات الغزالي السابقة في المنقذ تدل على أن هذا الحل لم يكن منطقيا ولا صوفيا ولا عقليا. وإنما كان بنور قذفه الله في صدره وتفسير الغزالي لهذا النور بالحدس الذي هو رؤية عقلية مباشرة في موضوع آخر من كتبه المعتمدة التي يقول فيها: ومن مارس العلوم يحصل له... على طريق الحدس والاعتبار قضايا كثيرة لا يمكنه إقامة البرهان عليها ولا يمكنه أن يشك فيها ولا يمكنه أن يشرك فيها غيره بالتعليم إلا أن يدل الطالب على الطريق الذي سلكه واستنهجه، هو الذي أوحى بهذا التفسير.
وحقيقة الأمر أن الذي وجده الغزالي لم يكن غائبا عنه ولكنه بمنهجه الشكي أيقن به. ذلك العلم اليقيني أو المعرفة اليقينية البديهية المتمثلة في معرفة الله بالفطرة والتي تلازم معرفة الإنسان لذاته ولوجوده. إنها الفطرة الإنسانية المخلوقة لله والمودع فيها الإيمان بوجودها مع الإيمان بوجود الله سبحانه والتي يدل عليها أول ما أنزل من القرآن في قوله تعالى: "اقرأ بسم ربك الذي خلق* خلق الإنسان من علق* اقرأ وربك الأكرم* الذي علم بالقلم* علم الإنسان ما لم يعلم"، فالله عز وجل يطلب من الإنسان أن يقرأ، والقراءة علم ومعرفة تطلب من موجود أو مخلوق لابد أن يكون واعيا بذاته عالما بوجوده وهذا العلم بوجوده ليس إلا أثرا من آثار خالقه سبحانه الذي خلقه وأودع فيه القدرة على العلم والمعرفة. وأعلى أصناف هذه المعرفة معرفته بربه الذي خلق وعلم وبوحدانيته كما قال تعالى: "فاعلم أنه لا إله إلا الله".
تقييم:
1_لم يكن الغزالي رافضا لتعاليم الإسلام ومنكرا للإيمان في شكه المنهجي. كل ما هنالك أن الجو الفكري كان مشبعا بالفرق من فلاسفة وباطنية ومتكلمين وصوفية. فأراد الرجل الباحث أن لا يكون إيمانه قائما على مجرد التلقين والتقليد، ولا يرضيه حتى أن يكون واصلا لليقين بطريق العقل الفلسفي الذي يدعى أن الطريق الوحيد هو البرهان المنطقي. بل إنه حتى تتم لهذا البرهان يقينيته لابد أن يستند إلى يقين سابق لا تثار حوله الأسئلة ولا يذهب إلى أبعد منه بحثا عن أصله. وهو بهذا كله يريد أن يتجاوز درجة الإيمان إلى اليقين فيسد الفجوة بينهما إذ كانت مشكلته هي هذه الفجوة: "بين الإنسان كعارف وبينه كمؤمن وهل يستطيع الوصول إلى درجة اليقين في موضوعات إيمانه؟ وإذا كان في استطاعته فأين تكون هذه القدرة؟ وكيف يمكن تعهدها بالعناية؟ فهدف الغزالي هو اليقين في الله عن طريق معرفته ولم يكن يشك أبدا في موضوع معرفته وهو الإيمان بالله".
وهو بهذا يريد أن يكون متميزا عن المقلدين والفلاسفة والمتكلمين في يقينه ويسلك طريق النظر لا نظر الفلاسفة الخالي من اليقين أصلا بالانحراف عن منهج الله والبعد عن النور الالهي، ولا نظر علماء الكلام الذي لا يعدو أن يكون طريقا للجدل وافيا بمقصودهم في الدفاع عن العقيدة، غير واف بمقصوده هو وهو دخول القنطرة ما بين الإيمان واليقين.. وإنما النظر الذي يرجع إلى اليقين فهو المستند إلى النور الرباني الذي يقذفه الله في قلب المخلصين المجاهدين من عباده. النظر الذي هو وليد الشك، والذي يولد المعرفة الحقة.
2_ ولكن ما حال الناس إزاء الحقيقة؟ وهل يستطيع كل أحد أن يمر بتجربة الغزالي الشكية حتى يصل إلى اليقين؟ وهل يحرم الناس من اليقين إذا لم يسيروا في الشك المنهجي؟ كل هذا إجهاد للبحث والإنسان وإجهاد للحقيقة ووضع للشوك في طريق الناس إليها. هل كان منهج رسول الله (ص) ومنهج صحابته كهذا المنهج؟ أم هل كانوا لا يتمتعون بيقين مثل يقين الإمام الغزالي؟! إنه مع احترامنا لهذا الإمام الجليل لا يعدو تقييمنا له في نطاق إمكان المعرفة إلا أن نقول: إنه أجهد نفسه كثيرا، وهو معذور نظرا لتقلبه بين طوائف الباحثين الذين تمثل كل طائفة منهم خروجا على بساطة العقيدة ومنهج القرآن وإلا فما الذي انتهى إليه الغزالي من وجهة نظر المتدين العادي غير المتفلسف؟ هل أعطى الحقيقة وجودا غير وجودها؟ أم أنه أعطى العقل ثقة غير ثقته؟ ما نوع الوثوق الذي أضاء عقل الغزالي بعد ظلمة وأمنه بعد يأس وطمأنه بعد اضطراب وهدأه بعد لوعة وفزع؟.
هل هو وثوق بأن العقل يدرك الواقع لا كما هو ولكن كما يبدو له؟ وعندما ينتقل البشر من طور إلى آخر من حياتهم طور المتصوفة أو طور ما بعد الموت ربما يدركون أن جميع ما كانوا تصوروه من قبل بعقولهم هو خيالات لا حاصل لها.
على كل حال فإن تجربة الغزالي تعد منهجا فلسفيا قويا رادا على الشك المطلق. إذ انه ضمن للأوليات العقلية والحسية ضمانا جعلها موثوقا بها كأوائل للبرهان. ومن ثم فإن الحقيقة موجودة والعلم بها ممكن، بل هو قائم على اليقين.
*نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة.
منقول