المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سلسلة: كيف تَكَوَّن الفكر الغربي؟ .....مقدمة



محمود إبراهيم
12-15-2007, 01:50 AM
السلام عليكم و رحمة الله وبركاته
هذه سلسلة مقالات وجدتها على موقع مفكرة الإسلام رأيت من المفيد نقلها الى المنتدى و لكن للأسف لم يكون اسم الكاتب مكتوب على المقالات


مفكرة الإسلام:
مقدمة
في عالم تتزايد فيه حده الصراع الإسلامي الغربي، وتتنوع صور التصادم والصراع؛ ما بين صراع ثقافي إلى صراع فكري إلى صراع اقتصادي, ومرورًا بالصراع العسكري.



في عالم يسعى فيه القوي اقتصاديًا وعسكريًا - ممثلاً في أمريكا ومن ورائها أوروبا - إلى فرض هيمنته وتوجهاته الفكرية ورؤيته الحضارية على الضعيف، والذي يمثل في الغالب العالم الإسلامي.



في ذلك العالم الذي أخذ الصراع فيه منحنىً فكريًا؛ كان علينا أن نقف لنتأمل في فكر الآخر والمرتكزات العقلية والنفسية التي تكونت في الآخر والمتمثل في الغرب.



فكما يقال: 'الفكر مرآة السلوك', فإن الممارسات العملية والتركيز الغربي على بعض القضايا المحورية - في نظره - وسعيه إلى فرض أجندته على الدول العربية؛ إنما هي بسبب ما يتركز في العقل الغربي من توجهات ونظريات تكونت عبر السنين حتى أبرزت لنا ذلك الفكر - بما فيه من حسن وقبح-.



لذا فإن هذا مما يحدو بنا إلى الاطلاع على مراحل النمو التي مر بها الفكر الغربي، والوقوف على أهم المحطات والإرهاصات التي أخرجته.


أسئلة تنتظر إجابة:


وأيضًا فإن هناك الكثير من المتناقضات والأسئلة الحائرة، التي نكتشفها عندما نتعمق في مرتكزات الفكر الغربي ونرى المرتكز وكيف تكون.



فمن تلك الأسئلة التي تنتظر إجابة شافية:



1- لماذا التركيز الغربي على قضية العلمانية؟! وما سبب ذلك؟!



2- هناك بعض الأمور التي يجعلها الغرب مقياسًا للحكم على أية دولة كائنًا ما كانت مثل: الحرية، حقوق الإنسان، فلماذا تلك المعايير بذات؟!



3- وإذا كانت تلك المعايير هي ميزان الحكم على الدول بالصلاح أو بالفساد؛ فإن الواقع العملي الغربي في التعامل مع المسلمين خاصة بعيد كل بعد عن تلك المرتكزات، فلماذا سياسة الكيل بمكيالين مع المسلمين؟!



4- إن المسيحية - الدين النصراني - الذي أرسل به عيسى عليه السلام؛ إنما هو دين سلام ورحمة وبُعد عن الترف والمتاع، ولننظر إلى عبارات الأناجيل - دون القطع بصحتها-.



[من لطمك على خدك الأيمن فأدر له الآخر أيضًا، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضًا، ومن سخرك ميلاً واحدًا فاذهب معه اثنين][[1]], [إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله][[2]].


وواقعيًا فالغرب مغرق في المادية إغراقاً شديداً، فإلى ماذا يرجع ذلك؟



5- كذا فإن المسيحية هي دين توحيد؛ مصداقًا لقول الباري: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} فكيف حدث التحريف حتى أصبح المسيح عليه السلام ابن الله - تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا - أو حتى أصبح دين التوحيد عقيدة تثليثية، أضف إلى ذلك الطابع الوثني الذي غلب عليها؛ مثل تقديس الصور والتماثيل، ومنصب 'البابا' الذي له الحق في غفران الذنوب... إلى غير ذلك.



لا شك أن وراء كل تلك الأسئلة إجابات غائبة في أعماق التاريخ تنتظر من يغوص لينقب عنها فيكتشفها.




قراءة الفكر الغربي.. ضرورة حيوية:


وإذا أردنا أن نضع منافع قراءة الآخر والتعمق في فهمه عبر مطالعة تاريخه؛ فإننا يمكننا أن نوجز ذلك في نقاط أساسية:



1- فهم طبيعة الصراع مع الغرب ومرتكزاته؛ ما يساعد على تبني حلول واستراتيجيات صحيحة تجاهه مبنية على رؤية واضحة للآخر.

2- ازدياد القدرة على كيفية إدارة حوار ناجح مع الغرب الذي ربما يقيد في التعريف بالإسلام.



من أين نبدأ؟!


وقبل الشروع في هذه الرحلة إلى أعماق التاريخ يجب علينا أن نعلم أن الفكر الغربي إنما هو نتاج تراكمات مئات السنين، ولكن توجد مراحل أساسية وحقب زمنيه رئيسة كانت هي كالحلقات التي تجمعت واحدة تلو الأخرى؛ لتكون طوقاً كاملاً والتي يمكن أن نوجزها فيما يلي:



1- اعتناق أوروبا رسميًا للمسيحية عام 325م.

2- تحريف المسيحية عقيدةً وشريعةً.

3- التسلط والظلم الكنسي وأثره في العقلية والنفسية الغربية.

4- الثورة الفرنسية عام 1798م.

5- النظريات العلمية التي أعقبت الثورات العلمانية بأوروبا.




وسنحاول بإذن الله أن نتكلم على كل عنصر بشرح أسبابه وتداعياته، وكيف أثر على العقلية الغربية, حتى نخرج بعد ذلك بمجموعة من الثوابت الفكرية والنفسية عن العقلية الغربية

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــ
[[1]] متى [5/40-42].

[[2]] متى: [19/25].

محمود إبراهيم
12-15-2007, 01:56 AM
اعتناق أوروبا للمسيحية [2]

مفكرة الإسلام: تكلمنا في المقال السابق عن كيفية تكون الفكر الغربي، وكيف هو قد مر بمراحل أساسية كان لها الأثر الأكبر في تكونه، كذا في تكون النفسية الغربية.

واليوم نبدأ بعرض أول تلك المراحل وهي اعتناق أوروبا للمسيحية, وكيف تم ذلك؟ وما هي أساببه؟ وهل كانت المسيحية مساوية تلك التي اعتنقتها أوروبا أم أن التحريف كان له دور بارز في طمس الربانية في الديانة الأوروبية الجديدة؟


الوثنية في أوروبا:
عرفت أوروبا الوثنية الدين النصراني منذ القرن الأول للميلاد بوصفه عقيدة شرقية سامية، كتلك العقائد التي ينظر إليها العالم الروماني الأبيقوري[1] على أنها تعاليم مثالية صارمة، ولم يألُ أباطرة الرومان جهداً في القضاء على هذه النحلة التي تفشت في مستعمراتهم، واستخدموا لتحقيق ذلك صنوف الاضطهاد والتنكيل طيلة القرون الثلاثة الأولى.


مثال ذلك:


1- فقد قُتل 'مرقص' في الإسكندرية عام 62م, وهو الذي أدخل الديانة الجديدة إلى مصر، وكلما زاد عدد المؤمنين زاد الاضطهاد, إضافة إلى المغالاة في الضرائب التي كانت تفرض على كل شيء حتى على دفن الموتى؛ حيث كانت روما تريد فرض عبادة الإمبراطور, كذلك العبادات الوثنية على المصريين.


2- عصر الشهداء: وفي العصر الذي تولى فيه الإمبراطور دقلديانوس الحكم عام 248م بلغ الاضطهاد في عصره ذروته, وأطلقت الكنيسة القبطية على ذلك العصر 'عصر الشهداء'، وقال بعض المؤرخين: إن عدد الشهداء وصل إلى 144.000 شهيد خلال تسعة أعوام،


وفي عهد الإمبراطور قسطنطين، وتحديدًا في العام 325م تم إعلان المسيحية عقيدة رسمية للإمبراطورية الرومانية.


أسباب اعتناق أوروبا للمسيحية:


إن إقبال الرعايا الرومان على اعتناق الدين النصراني كان له العديد من الأسباب التي ساعدت على انتشارها، منها:



1- ما في المسيحية من وعود بالخلاص من الفقر والظلم في العالم الآخر, ما حدا بالكثير من الضعفاء والبسطاء والمظلومين في الإمبراطورية الرومانية باعتناق النصرانية, في محاولة للهروب من الواقع.


2- اجتذبت المسيحية الكثير من أصحاب الميول الفلسفية بما كان فيها من التعقيد، كما سنبين بعد ذلك بإذن الله.


3- رد الفعل الذي نشأ عن الاضطهاد المستمر في عصور المسيحية الأولى, ما جعل المضطهدين أكثر تماسكاً من ذي قبل.


4- حاجة الدولة الرومانية إلى عقيدة موحدة تخلصها من الصراعات العقائدية المزمنة.


هل اعتنقت أوروبا النصرانية الحقة؟!


وهاهنا يأتي سؤال مهم: هل الديانة المسيحية التي أصبحت الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية عام 325م هي النصرانية التي نزلت على عيسى عليه السلام؟



وقبل الإجابة على ذلك السؤال علينا أن نستعرض بعض الديانات والعقائد التي كانت في حوض البحر المتوسط والتي كان من أهمها:



1- الديانة اليهودية: وهي ديانة مغلقة خاصة بأسباط بني إسرائيل، لكنها تتميز بأنها ديانة سماوية لها كتاب مقدس، وموطنها فلسطين، حيث ولد المسيح عليه السلام وأرسل.



2- العقيدة المترائية: وهي عقيدة وثنية قديمة، قوامها الكاهن والمذبح، ترى أنه لا خلاص للإنسان إلا بافتداء نفسه عن طريق تقديم القرابين للآلهة بواسطة الكهان.



3- الأفلاطونية الحديثة: وهي عقيدة فلسفية تتلخص في أن العالم في تكوينه وتدبيره صدر عن ثلاثة عناصر:



- المنشئ الأزلي الأول.



- العقل الذي تولد منه كما يتولد الابن من أبيه.



- الروح الذي يتكون منه جميع الأرواح، والذي يتصل بالمنشئ الأول عن طريق العقل، وكان موطنها الإسكندرية.







4- الوثنية المصرية: ومن معتقداتها أن الآلهة ثلاثة:



- حورس، الذي كان ابناً لسيراييس.



- سيراييس، الذي هو في الوقت نفسه حورس.



- إيزيس، والدة حورس.







5- الوثنية الرومانية: ديانة الامبراطورية الرسمية، ومن مبادئها:



- التثليث: [جوبيتر، مارس، كورنيوس].



- عبادة الإمبراطور، إذ كان الأباطرة يدّعون الربوبية.



- تقديس الصور والتماثيل وعبادتها.







6- أفكار فلسفية: من أهمها: الفلسفة الرواقية، التي تعني من الوجهة العملية: الانقطاع عن الدنيا، واعتبار إنكار الذات أسمى الغايات النبيلة، مناقضة بذلك الفلسفة الإباحية الأبيقورية التي كانت فاشية في المجتمع الروماني.



ولو أننا حاولنا أن نستنبط من مجموع هذه العقائد عقيدة واحدة مشتركة لخرجنا بعقيدة تقوم على ست دعائم:



1- الإيمان بالتوراة اليهودية.



2- اعتقاد الفداء والخلاص والوساطة بين الله والناس.



3- التثليث.



4- الحلول [تجسد الإله في شكل بشري].



5- تقديس الصور والتماثيل.



6- الهروب من الحياة [الرهبانية].







وبالنظر إلى تلك الدعائم الست نستطيع أن نستنتج أن:



1- تلك العقيدة المشتركة إذا قارنَّها بالعقيدة النصرانية التي اعتنقتها أوروبا سنجد أن تلك العقيدة النهائية هي بعينها دعائم الدين النصراني الذي دخلت فيه أوروبا على أنها رسالة سماوية.



2- أن أوروبا لم تدخل في النصرانية الحقة، وإنما ألبست وثنيتها ثوبًا نصرانيًا وجعلت من آمن بتلك عقيدة هو مؤمن بالنصرانية.



وليس هذا هو موضع التفصيل لبيان التشابه بين الوثنية الرومانية والنصرانية التي اعتنقتها أوروبا, ولكن بعد هذا الاستنتاج يبرز لنا سؤال آخر مبني على السؤال الأول.



هذا السؤال هو: كيف؟!



كيف تحولت النصرانية – تلك الرسالة السماوية التي أتى بها عيسى عليه السلام - إلى عقيدة ظاهرها النصرانية وباطنها الوثنية؟!







إنه التحريف:


قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77].



إن المسيحية – ومنذ القرون الأولى - قد تعرضت لكثير من التحريف والتبديل سواء بفعل القديسين أو بفعل الأباطرة الرومان.



ولمزيد من إلقاء الضوء على هذه القضية سوف نبدأ بإذن الله بعرض خطين رئيسين في تحريف النصرانية



• الأول: تحريف العقيدة.



• الثاني: تحريف الشريعة



وهذا ما سوف نبدأ في عرضه من المقال القادم إن شاء الله



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



[1] وهو مذهب أسسه أبيقور [341 ق. م ـ 270 ق. م]، والأبيقورية من أمّهات المدارس التي رفضت الدين، وما يتعلق به من معتقدات جملة وتفصيلاً, بل رأوا أن السعادة الحقيقية لبني البشر لا تتحقق إلا في حالة الانسلاخ عن الإيمان بالله، ومحاربة جميع ألوان التدين مطلقاً، فإن الغاية التي يرمي إليها الأبيقوريون من وراء مذهبهم هي أن يزيلوا عن الإنسان كل الأوهام والآراء السابقة التي من شأنها أن تعكر صفو الحياة السعيدة, ومن أقواله التي تعتبر من الأقوال العلمانية: 'إن الآلهة لا يشغلون أنفسهم بأمور بني البشر، إنهم موجودون لأنهم يظهرون من آن لآخر للأشخاص، بيد أن مسائل العالم الأرضي لا تعنيهم، وما من علامة تدل على أنهم يعنون بعقاب الآثم وإثابة الصالح؟ أيمكن اعتقاد تدخلهم هذا مع ما نراه في هذا العالم؟'.







أهم المراجع:



1- العلمانية نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة د/ سفر بن عبد الرحمن الحوالي.



2- مذاهب فكرية معاصرة أ/ محمد قطب.

محمود إبراهيم
12-15-2007, 02:03 AM
تحريف العقيدة النصرانية [3]

مفكرة الإسلام : أشرنا في المقال السابق أن الدين الذي اعتنقه الغرب على أنه عقيدة نصرانية سماوية، قد تعرض للتحريف والتبديل؛ حتى طمست الوحدانية في أصله عقيدة وشريعة.



وإذا أردنا أن نلقي الضوء على كيفية تحريف العقيدة النصرانية مع بيان أسبابها؛ سنجد أن التحريف قد سار في خطين أساسيين:



1- قضية الألوهية 2 - تحريف الأناجيل.



1- قضية الألوهية
وعملية التحريف التي استغرقت زهاء عشرة قرون - بل نستطيع أن نقول إنها لم تتوقف حتى الآن- بدأت مبكرة حين كان الحواريون لا يزالون على قيد الحياة، كما أنها ابتدأت بموضوع ليس بالهين، وهو القول بأن للمسيح طبيعة إلهية، مع أن سيدنا عيسى عليه السلام- كما تعترف دائرة المعارف البريطانية- [ لم تصدر عنه أي دعوى تفيد أنه من عنصر إلهي، أو من عنصر أعلى من العنصر الإنساني المشترك ].

وتتفق المصادر التاريخية على أن اليد الطولى في التحريف كانت لمبشر من أتباع الحواريين، تسميه المسيحية المحرفة 'بولس الرسول'، وهو الذي أثار موضوع ألوهية المسيح لأول مرة، مدعيًا أنه 'ابن الله' تعالى الله عن ذلك، وكانت هذه الدعوى البذرة الأولى للتثليث.


من هو بولس؟:



الاسم الأصلي لبولس هو ' شاؤل'، وهو كما يبدو من سيرته شخصية تآمرية ذات عبقرية عقائدية، وقد اشتهر أول حياته باضطهاد المسيحيين [1]، ثم تحول فجأة ليصبح الشخصية المسيحية الأولى، والقطب الكنسي الأعظم، ومنذ ظهوره إلى الآن لم يحظ أحد في تاريخ الكنيسة بمثل ما حظي به بولس من التقديس والإجلال.


دور بولس في تحريف النصرانية:



يقول المؤرخ ويلز-وهو من المعتدلين- في كتابه معالم تاريخ الإنسانية في فصل بعنوان 'مبادئ أضيفت إلى تعاليم يسوع ': [وظهر للوقت معلم آخر عظيم يعده كثير من النقاد العصريين المؤسس الحقيقي للمسيحية، وهو شاؤل الطرسوسي، أو بولس، والراجح أنه كان يهودي المولد، وإن كان بعض الكتاب اليهود ينكرون ذلك! ولا مراء في أنه تعلم على أساتذة من اليهود، بيد أنه كان متبحرًا في لاهوتيات الإسكندرية الهلينية[2]، ومن الراجح جدًا أنه تأثر بالمثرائي[3] ، إذ هو يستعمل عبارات عجيبة الشبه بالعبارات المثرائية.


ويتضح لكل من يقرأ رسائله المتنوعة جنبًا إلى جنب مع الأناجيل أن ذهنه كان مشبعًا بفكرة لا تبدو قط بارزة قوية فيما نقل عن يسوع من أقوال وتعليم، ألا وهي فكرة الشخص الضحية الذي يقدم قربانًا لله كفاره عن الخطيئة، فما بشر به يسوع كان ميلادًا جديدًا للروح الإنسانية، أما ما علمه بولس فهو الديانة القديمة، ديانة الكاهن والمذبح، وسفك الدماء طلبًا لاسترضاء الإله].







ولندع الآن كل التأثيرات والثقافات التي عرفها بولس، باستثناء واحدة منها هي 'لاهوتيات الإسكندرية' التي كان متبحرًا فيها، ومعلوم أن هذه اللاهوتيات هي المدرسة الفلسفية المسماة ' الأفلاطونية الحديثة ' التي أشرنا إليها سابقًا إلى عقيدتها الثالوثية، وعنها نقل بولس فكرة التثليث، والتعديل الذي أدخله على الأفلاطونية شكلي فقط، فالمنشئ الأزلي الأول فيها يقابله عنده الله 'الأب' والعقل المتولد عن المنشئ الأول يقابله عنده يسوع 'الابن'، والروح الكلي يقابله 'روح القدس'، ثم إنه سار شوطًا أبعد من ذلك، فاستعار من المثرائية فكرة الخلاص، وجعل القربان الضحية هو الأقنوم الثاني 'الابن'.







ثم إن الكنيسة أكملت المسيرة، فأضافت إلى فكرة الخلاص فكرة تقديس الخشبة التي صلب عليه المسيح كما يزعمون، وهكذا تتابعت البدع واحدة في إثر الأخرى، وكان نتيجة ذلك أن دفنت التعاليم الأصلية بطريقة تكاد تكون غير محسوسة تحت تلك الإضافات المألوفة.







بهذه الطريقة، وبغض النظر عن الأهداف والدوافع الخفية، هدم بولس عقيدة التوحيد، وأوقع أتباع المسيح فيما كان قد حذرهم منه أبلغ تحذير، واكتسبت تعاليم بولس الصفة الشرعية المطلقة بقيام أحد أتباعه بكتابة الإنجيل الرابع المنسوب إلى يوحنا الحواري.


على أنه من الإنصاف أن نذكر أن الثلاثة القرون الأولى التي تسميها الكنيسة عصر الهرطقة شهدت صراعًا محتدمًا بين أتباع بولس وأثانسيوس[4] القائلين بالتثليث، وبين منكرة التثليث وعلى رأسهم آريوس [5]، ولم يكتب النصر النهائي للثالوثيين إلا في مجمع نيقية، مع أنهم كانوا أقلية فيه.


هكذا كان رأى القديس أوغسطين [430م] وهو يواجه حملة آريوس على التثليث الكاثوليكي، وقال: [إن كل ما جاء في الأناجيل لا ينبغي للعقل أن يجادل فيه؛ لأن سلطانها أقوى من كل سلطان أمر به العقل البشري].


ولقائل أن يقول: إن الأديان بما فيها الإسلام لا تخلو من مغيبات أو حقائق لا يستطيع العقل إدراكها، ولكن يدفع هذا القول أن هناك فرقًا بين ما يحكُم العقل باستحالته كالتثليث، وبين ما لا يستطيع العقل إدراكه، والإسلام وإن كان فيه الأخير؛ فإنه يخلو تمامًا من الأول، فليس فيه ما يحكم العقل باستحالته أبدًا.


2- تحريف الأناجيل.


إن محرري دائرة المعارف البريطانية، وهم من ذوي الكفاءات العالية في معظم التخصصات -ومنها اللاهوت- لم يتطرفوا أو يبالغوا في القول بأنه [لم يبق من أعمال السيد المسيح شيء ولا كلمة واحدة مكتوبة] بل إنما عبروا بذلك عما ينبغي أن يقرره الباحث العلمي المدقق.



ونحن المسلمين نؤمن بأن في خبايا الأناجيل شيئًا من أقوال المسيح وتعاليمه، التي يحتمل أنها وحي من الله، لكن ذلك لم يثبت لدينا بسند تاريخي موثوق إلى المسيح.

يقول آدم كلارك أحد شارحي الأناجيل: [محقق أن الأناجيل الكثيرة الكاذبة كانت رائجة في أول القرون المسيحية، وكثرة هذه الأحوال الغير صحيحة هَـيَّجت لوقا[6] على تحرير الإنجيل، ويوجد ذكر أكثر من سبعين من هذه الأناجيل الكاذبة والأجزاء الكثيرة من هذه الأناجيل باقية، وكان فابري سيوس جمع الأناجيل الكاذبة وطبعها في ثلاث مجلدات].


ويقول لوقا في المقدمة: [إذا كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا، كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخُدَّامًا للكلمة؛ رأيت أنا أيضًا، إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق، أن أكتب إليك على التوالي أيها العزيز تاوفيلس لتعرف صحة الكلام الذي علمت به] [7].


وعلى هذا فلا السبعون الكاذبة ولا إنجيله الصادق وحي من الله، ولا أحدها هو منسوب إلى المسيح، بل الكل سير وقصص يكتبها أتباع المسيح عن حياته ودعوته، كما سمعوها من أسلافهم الذين رأوا المسيح وخدموه، ولو استعرنا عبارة الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون؛ لقلنا عن الأناجيل: [هي مجموعة من الأوهام والذكريات غير المحققة التي بسطها خيال مؤلفيها].


يقول لاندر أحد مفسري الأناجيل: [حُكِمَ على الأناجيل المقدسة لأجل جهالة مصنفها بأنها ليست حسنة بأمر السلطان أناسطيوس[8] في الأيام التي كان فيها 'مسالة' [9] حاكمًا في القسطنطينية، فصححت مرة أخرى]، وهذا القول اعتراف بالغ الخطورة، فهو يقرر ثلاث حقائق تاريخية:



1- أن مؤلفي الأناجيل مجهولون، وظلوا كذلك حتى القرن الرابع الميلادي.



2- أن لأهواء الحكام وميولهم يدًا فيما تعرضت له الأناجيل من تحريف باسم التصحيح.



3- أن التحوير والتعديل ظل يمارس في الأناجيل دون شعور بالحرج، مما يدل على أنه عادي مألوف.

مجمع نيقية.... إقرار الانحراف:


وكان عام [325م] يمثل معلمًا من معالم التاريخ البارزة، ففيه عقد مجمع نيقية الذي ابتدئت به صفحة جديدة في تاريخ الديانات العالمية، وأن هذا المجمع ليستحق أن يقف عنده المرء طويلًا.



إن أي مجمع أو مؤتمر يجب أن تتوفر فيه شروط خاصة –لا سيما إذا كان دينيًا- ومن أوجب هذه الشروط:



1- حرية البحث والمناظرة، سواء في جدول أعماله أو صيغة قراراته، فلا تكون هنالك سلطة قاهرة تفرض على المجتمعين موضوعًا أو قرارًا بعينه مهما كانت.



2- نزاهة القصد وروح التفاهم، بأن يكون الوصول للحق هدفًا مشتركًا بين المجتمعين بدون تعصب أو إصرار.



3- اتخاذ قرارات سائغة ومنطقية مع اعتراف مقرريها بأنها عرضة للخطأ والصواب وقابلة للنقاش، وإلا جاز اتهامهم بالاستبداد الفكري.

وهذه الشروط -مع الأسف- مفقودة كليًا في هذا المجمع ' المقدس':



فأولًا: لم يكن سبب انعقاده ذاتيًا نابعًا من الأساقفة أنفسهم، بل إن الإمبراطور الروماني قسطنطين هو الذي دعا إلى انعقاده، وهو رجل وثني ظل وثنيًا إلى أن عُمِّد وهو على فراش الموت.


ثانيًا: حضر المجمع ألفان وثمانية وأربعون من البطاركة والأساقفة، يمثلون مذاهب وشيعًا متناحرة، أبرزها فرقتان:

1-الموحدون، كما يدعون، أتباع آريوس، وكان عددهم يقارب سبعمائة عضو.

2- الثالوثيون، أتباع بولس، وكان عددهم حوالي ثلاثمائة وثمانية عشر عضوًا.

ومعلوم أن وثنية قسطنطين ثالوثية، وهذه في حد ذاتها تمثل قوة معنوية للثالثوثيين، فكيف إذا أضيف إلى ذلك أنه جمع الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفًا في مجلس خاص، وجلس في وسطهم، وأخذ خاتمه وسيفه وسلمه إليهم، وقال: [قد سلطتكم اليوم على مملكتي].

ثالثًا: لم تكتف قرارات الجمع بالتحيز لقسطنطين ودعاة التثليث، بل لعنت وحرمت من يخالف هذه القرارات، والحرمان عقوبة لها حجمها الكبير في المسيحية


وأبرز قرارات المجمع القرار الذي اتخذه بشأن الأناجيل، وهو أن الأناجيل المعتمدة الصحيحة هي الأناجيل الأربعة المنسوبة لـ[متى، لوقا، مرقص، يوحنا]، وأما ما عداها؛ فمزيف مكذوب تحرم قراءته، ويجب حرقه وإبادته.


وأن كنا لسنا هنا بمعرض توضيح التحريفات التي في الأناجيل الأربعة المختارة إلا أن هذا القرار بلا شك قرار جائر بحق الدين والتاريخ، لاسيما وأن الناظر إلى هذه الأناجيل يجد بينها من التضاد الشكلي والموضوعي ما يؤكد أنها ليست وحيًا، بل ليست سيرة صادقة للمسيح عليه السلام.


وإن كان تحريف العقيدة أمرًا له أثر في الفكر الغربي؛ إلا أن تحريف الشريعة، واستغلال الدين لإشباع الأطماع دنيوية؛ كان له الأثر الأكبر في التاريخ الغربي, وهذا ما سنشرع في بيانه في المقال القادم بإذن الله.


--------------------------------------------------------------------------------


[1] أطلق اسم [مسيحي] للدلالة على معتنقي عقيدة ألوهية المسيح التي أقرت في مجمع نيقية سنة [325م]، وظهر أول مرة في أنطاكية في القرن الثالث الميلادي، وهم ينسبون أنفسهم للمسيح عليه الصلاة والسلام، وهو بريء منهم؛ لأنهم لو كانوا مسيحيين حقاً لآمنوا به بشراً رسولاً، وآمنوا بمن بشر به من بعده، وهو محمد صلى الله عليه وسلم.

[2] وهي عقيدة فلسفية كان موطنها الإسكندرية, لمزيد من التوسع راجع المقال السابق.

[3] العقيدة المثرائية أو المترائية: وهي عقيدة وثنية قديمة، قوامها الكاهن والمذبح، ترى أنه لا خلاص للإنسان إلا بافتداء نفسه عن طريق تقديم القرابين للآلهة بواسطة الكهان.

[4]بطريريك الأسكندرية, كان رئيس أنصار التثليث في مجمع نيقية, حارب التوحيد الذي كان رئيس أنصاره آريوس.

[5] كاهن من الأسكندرية, كان ممن ينكرون التثليث.

[6] ولا تذكر المصادر النصرانية الكثير عن ترجمته، وإن كان البعض قال أنه كان طبيب بولس، واختلفوا في كونه تلميذ بولس, وقد ساهم في نشر ضلالات بولس في أوساط النصارى.

[7] لوقا: [1/1-4].

[8] سلطان نصراني أصدر أمراً بالحكم على الأناجيل بأنها ليست حسنة؛ لأجل جهالة مصنفها.

[9] أحد حكام القسطنطينية، له أثر فيما تعرضت له الأناجيل.

محمود إبراهيم
12-16-2007, 02:33 AM
تحريف الشريعة [4]

مفكرة الإسلام: تحدثنا في المقال السابق عن التحريف العقيدة النصرانية [من الوحدانية إلى التثليث], وما كان في مجمع نيقية من إقرار لتلك العقيدة بالقوة بسبب مشابهتها للعقيدة الرومانية الوثنية.

أما في جانب الشريعة، فإن الأمر لم يكن مختلفًا، إلا أن تحريف الشريعة كان له الأثر الأكبر في تكون النفسية الغربية ومفهومها للدين، وكان العامل الأهم في قيام الثورة ضد الكنيسة، والمناداة بفصل الدين عن الحكم؛ لذالم يكن تحريف الشريعة النصرانية بالأمر الهين الذي يمر مرور الكرام عبر ذاكرة التاريخ، وإنما كان تحريف الشريعة هو الشرارة الأولى لبدئ السير نحو فصل الدين عن الدولة.

التصورات الرومانية القديمة عن مهمة الدين في الحياة.
يقول أبيقور[1]: [إن الآلهة يعيشون بعيدًا عن العوالم، ولا يهتمون إلا بشؤونهم؛ فلا تعنيهم أمورنا، إنهم يعيشون حكماء سعداء، ويعظوننا بهذا المثال الذي يجب أن نسير على منواله، فلنعتبرهم كمثل عليا يُقتدى بها، غير أنه يجب علينا ألا نشغل أنفسنا بما يريدونه منا، فإنهم لا يريدون منا شيئًا، فهم لا يعيروننا بالًا؛ فلنفعل نحوهم كما يفعلون نحونا].

هذا التصور للآلهة تشترك مع أبيقور فيه الغالبية العظمى من الرومان، ومن الطبيعي جدًا أن ينشأ عن هذا التصور الخاطئ للإله تصور خاطئ لمهمة الدين في الحياة، وواجب المخلوق تجاه خالقه.

وبما أن آلهة الرومان بطبعها لم تكن لتشرع لهم شيئًا، فقد كان من الضروري أن يقوم بشر متألهون بمهمة وضع نظم الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة، ونتيجة لجهود هؤلاء برز إلى الوجود [القانون الروماني]، الذي لا تزال أوروبا تعيش عليه أو على امتداده إلى اليوم، أما النظم الأخلاقية وقوانين الآداب العامة -إن وجدت- فقد كانت أبيقورية محضة.

هل تغير الأمر عند المسيحية الأوروبة؟
وبالنسبة للذين اعتنقوا المسيحية من المواطنين الرومان؛ فإن التصور السابق عن الدين ومهمته في الحياة لم يتغير، وكان التغيير الذي طرأ عليهم هو إحلال مسمى [الأب، والابن، وروح القدس] محل [جوبيتير، ومارس، وكورنيوس]، فما كانوا ينتظرون من آلهة بولس وكنيسته من تشريع وتوجيه، ولم يكن مقام الأب الذي نادت به الكنيسة ليزيد عن مقام جوبيتير الذي صوره أبيقور.

ولقد عبر أحد المؤرخين الغربيين عن ذلك بقوله: [إن المسيحية لم تكن عند أكثر الناس غير ستار رقيق، يخفي تحته نظرة وثنية خالصة إلى الحياة][2].

مساهمة الكنيسة في تحريف الشريعة
وبمرور الزمن أصبح هذا الانحراف منهجًا مقررًا اعتمدته الكنيسة بعد مجمع نيقية، ففصلت بين العقيدة وبين الشريعة، بين الدين والدولة، وقسمت الحياة البشرية دائرتين مغلقتين:

الأولى: [دينية] من اختصاص الله، ويقتصر محتواها على نظام الإكليروس[3] والرهبنة والمواعظ، وتشريعات طفيفة لا تتعدى الأحوال الشخصية.

والأخرى: [دنيوية] من اختصاص قيصر وقانونه، ويحوي محيطها التنظيمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلاقات الدولية، ونظم الحياة العامة.

وكانت الكنيسة تعمد إلى عبارات تنسبها الأناجيل إلى المسيح، قيلت مجازًا، أو وردت في ظروف مؤقتة وملابسات خاصة؛ لتقرر منها قواعد أصولية تؤسس عليها دينها المحرف، دون مراعاة لمنطق الاستدلال ومقتضى التحقيق العلمي، مثل 'أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله'[4], و'إن مملكة المسيح ليست في هذا العالم'[5].

ولا يعني هذا أن الكنيسة لم تمارس سلطات سياسية أو نفوذًا اجتماعيًا، فقد كان منها ما لم يكن من أعتى القياصرة [6] لكن هذه الممارسة تظل محدودة بنطاق المطامع الشخصية لرجال الدين[7].

من البدع المستحدثة في الدين النصراني:
ولما كانت تحريفات الكنيسة تخبطات عشوائية لا ترتكز على قواعد محددة، وليس لها ضوابط رادعة؛ فقد ظل المجال فسيحًا لإضافات أكثر وثغرات أعمق، وكان للمطامع الدنيوية والرغبات الشخصية الفضل الأكبر في دفع الموجة قدمًا وتوجيهها كما يراد، فكان من أهم البدع المستحدثة:

1- رجال الدين. 2- الرهبانية. 2- عبادة الصور والتماثيل. 4- صكوك العفران.

5- الأسرار المقدسة.
أولاً: رجال الدين الإكليروس:إن طبقة رجال الدين التي ظهرت في الديانة الجديدة لأوروبا ليست سوى امتداد للسحرة والكهان في المرحلة التاريخية التي كان لهؤلاء سلطان وقوة على الأفراد، ولقد ظل رجال الدين يقومون بالمهمة نفسها التي كان يتولاها أولئك من قبل، والفارق الوحيد هو أن رجال الدين يستمدون سلطتهم من الدين، بينما يستمدها السحرة والكهان من السحر.

يقول المؤرخ الإنجليزي ويلز، في معرض الفرق بين مسيحية المسيح ومسيحية الكنيسة: [إن تعاليم يسوع الناصري تعاليم نبوية من الطراز الجديد الذي ابتدأ بظهور الأنبياء العبرانيين، وهي لم تكن كهنوتية، ولم يكن لها معبد مقدس حبسًا عليها ولا هيكل، ولم يكن لديها شعائر ولا طقوس، وكان قربانها 'قلبًا كسيرًا خاشعًا'، وكانت الهيئة الوحيدة فيها هيئة من الوعاظ، وكان رأس ما لديها من عمل هو الموعظة.

بيد أن مسيحية القرن الرابع الكاملة التكوين، وإن احتفظت بتعاليم يسوع في الأناجيل 'كنواة لها'، كانت في صلبها ديانة كهنوتية من طراز مألوف للناس من قبل منذ آلاف السنين، وكان المذبح مركز طقوسها المنمقة،

والعمل الجوهري في العبادة فيها، هو القربان الذي يقربه قسيس متكرس للقداس، ولها هيئة تتطور بسرعة مكونة من الشمامسة والقساوسة والأساقفة][8].

وكان من الأسس الباطلة التي بنى عليها رجال الدين مبررات وجودهم مبدأ 'التوسط بين الله والخلق'، الذي يقتضي ألَّا يذهب الإنسان إلى رجل الدين ليعلمه كيف يعبد الله، بل ليعبد الله بواسطته، وليس للمذنب أن يتجه بتوبته إلى الله طالبًا الصفح والمغفرة، بل عليه أن يتجه إلى رجل الدين معترفًا أمامه بذنبه، ليقوم بالتوسط لدى الله فيغفر له، وحسب هذا المبدأ نصب رجال الدين أنفسهم أندادًا لله تعالى، كما قال تعالى: [[اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ]] [التوبة:31] وفوق كونه مبدًا باطلًا شرعًا، ساقطًا عقلًا، فإنه ليس في الأناجيل -رغم تحريفها- ما يدل على أن المسيح أقره أو دعا إليه.

وبررت الكنيسة هذه الوساطة بما جاء في إنجيل متى أن المسيح قال لبطرس كبير الحواريين: [أنت بطرس، وعلى هذه الصخرة ابن كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السموات، وكل ما تحله على الأرض يكون محلولاً في السموات][9]، ففهمت الكنيسة من هذا القول: أن المسيح يعني أن السلطة الدينية المهيمنة باسمه سترتكز في الموضع الذي يموت فيه كبير الحواريين بطرس، ومن هذا المركز تمد أجنحة نفوذها على العالم أجمع وتحكمه باسم المسيح، وبما أن المسيح بطرس -كما تقول الكنيسة- مات في روما؛ فإن روما هي قاعدة المسيح لحكم العالم، وفيها مقر الكنيسة التي يرأسها ممثل المسيح ورسوله 'البابا' المعصوم عن الخطأ، وكل ما تقرره هذه الكنيسة هو عين الصواب.

وبعيدًا عن أن هذا القول يصادم التوحيد الذي أتت به الرسل، فلا يمكن أن ينسب إلى الديانية الربانية السماوية، خاصة بعد قراءة ما بعد هذا القول المنسوب إلى المسيح بثلاث فقرات فقط، وهو يخاطب بطرس قائلاً: [اذهب عني يا شيطان، لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس...]، فكيف يتسق هذا الوصف وتلك التهمة مع الهبة السابقة، والتكريم الذي لا حد له؟

ثم لماذا تنظر الكنيسة إلى هذا القول وأضرابه، وتغض الطرف عن مثل قول المسيح الصريح: [رؤوساء الأمم يسودونهم والعظماء يتسلطون عليهم، فلا يكون هكذا فيكم] وقوله: [أحبوا أعداءكم أحسنوا إلى مبغضيكم، باركوا لاعنيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم] [10].

وقد ترتب على هذا المبدأ آثارًا خطيرة للغاية، منها: احتكار رجال الدين لحق قراءة وتفسير الإنجيل، ثم استحداث صكوك الغفران، وكذلك الانشقاقات الدينية المتوالية التي دمرت الحياة بصفة عامة، وأخيرًا كان هذا المبدأ إحدى الحجج التي سلها ملاحدة القرن السابع عشر فما بعد، في وجه الأديان عامة والمسيحية خاصة.

ونتابع بإذن الله في المقال القادم باقي البدع المستحدثة في الشريعة النصرانية.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] أبيقور [341 ق. م ـ 270 ق. م] هو مؤسس الأبيقورية وهي من أمهات المدارس التي رفضت الدين وما يتعلق به من معتقدات جملة وتفصيلاً, بل رأوا أن السعادة الحقيقية لبني البشر لا تتحقق إلا في حالة الانسلاخ عن الإيمان بالله، ومحاربة جميع ألوان التدين مطلقًا.

[2] تاريخ العالم، [4/330].

[3] نظام الإكليروس [Clergy]، وهو ما أطلق على 'خَدَمِة الدين المسيحي' ويبدأ من البطريرك ثم المطران ثم الأسقف ثم القسيس..... وهكذا.

[4] وهذا القول –مع عدم القطع بنسبته إلى المسيح عليه السلام- لا يمكن أن نفسره بأن المسيح يدعو إلى الإشراك بين الله وقيصر، خاصة وإذا تم وضعه في إطار طبيعة الظروف التي نشأت فيها دعوة المسيح عليه السلام.

[5] وهذا القول –مع عدم القطع بنسبته إلى المسيح عليه السلام أيضًا- فسرته الكنيسة أن الدنيا والآخرة ضرتان متناحرتان وضدان لا يجتمعان، وأنه إذا كان الأمر كذلك ففيم العناء لإصلاح الدنيا؟ فتركت الحكام والجبابرة يتحكمون في الأرض كما شاءوا، ولا يمكن أن يفهم الأمر كما فهمته الكنيسة، وخصوصًا –إذا فرضنا جدلًا أن تلك العبارة صحت نسبتها إلى المسيح- إذا تم قراءة ما بعدها بقليل، مما يفيد أن هذا الكلام قاله المسيح خلاصًا من المكيدة التي دبرها له اليهود.

[6] سيأتي الحديث عن ذلك بالتفصيل في مقالات قادمة.

[7] وهذا المصطلح [رجال الدين] من المصطلحات المستحدثة في النصرانية، والصحيح أن يقال علماء الدين، لأنه ليس هناك رجال للدين ورجال للدنيا.

[8] معالم تاريخ الإنسانية [3/720].

[9] متى [16/ 19،20].

[10] لوقا: [6/28].

محمود إبراهيم
12-16-2007, 02:43 AM
تابع تحريف الشريعة [5]

مفكرة الإسلام : بدأنا في المقال السابق في الكلام عن التحريف الذي قام به رجال الدين في الشريعة النصرانية السماوية فأصبحت ديانة وثنية، واستعرضنا البدع المستحدثة في الدين النصراني، واستفضنا في العنصر الأول ألا وهو رجال الدين.



واليوم نتعرض لأحد أهم تلك البدع التي كان لها أثر كبير في الثورة على الكنيسة.

ثانيًا: الرهبانية:

ما الرهبانية التي عرفها الناس منذ القدم إلا نتاج للتصور السلبي الخاطئ الذي نشأ عن الجهل بطبيعة الإنسان ومهمته في الوجود، وهي أن الله قد اختاره للقيام بالمهمة العظمى 'الخلافة في الأرض'، وأناط به مسؤولية عمرانها بالصلاح والخير.

ومع أن الرهبانية بدعة بشرية مشتركة بين أديان عديدة، إلا أننا نلاحظ أن للرهبانية النصرانية ظروفًا وأسبابًا بارزة تضافرت على إيجادها وتنميتها، حتى أصبحت أبرز مظاهر الدين الكنسي على مر العصور.

أسباب الرهبانية:

1-عقيدة الخطيئة الأصلية الموروثة:

وهي إحدى التعاليم الكبرى في المسيحية المحرفة، وموجزها أن آدم عليه السلام أكل من الشجرة 'شجرة المعرفة!'؛ فعاقبه الله بالطرد من الجنة وأسكنه التراب، وظل الجنس البشري يرسف في أغلال تلك الخطيئة أحقابًا متطاولة؛ حتى أنزل الله ابنه -تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا- ليصلب فداءً للنوع الإنساني؛ وليبين للناس طريق الخلاص من هذه الخطيئة؛ فأصبح لزامًا على الإنسان أن يقتل نفسه لمنحها الخلاص، يقول إنجيل متى: [من أراد أن يخلص نفسه يهلكها][1].

ولما كانت المرآة -حسب رواية سفر التكوين- هي التي أغرت الرجل بالأكل من الشجرة؛ فإن النصرانية المحرفة ناصبت المرآة العداء، باعتبارها أصل الشر ومنبع الخطيئة في العالم، لذلك فإن عملية الخلاص من الخطيئة لا تتم إلا بإنكار الذات، وقتل كل الميول الفطرية والرغبات الطبيعية، والاحتقار البالغ للجسد وشهواته لا سيما الشهوة الجنسية.

ومن ناحية أخرى تولد عن الشعور المستمر بالخطيئة أن قنط كثيرون من رحمة الله، فلا يكاد أحدهم يقترف كبيرة؛ حتى تظلم الدنيا في عينيه، ويثأر من نفسه بإرغامها على الالتحاق بأحد الأديرة والمترهبين فيه.

2-رد الفعل المتطرف للمادية اليهودية الجشعة، والأبيقورية الرومانية الغارقة في الشهوات:

فكان من أتباع المسيح مع مرور الزمن، وكرد فعل منهم للضغط المادي عليهم، أن غلوا واشتطوا حتى خرجوا عن حدود ما يأمرهم به الوحي وتمليه الفطرة السوية، ونسبوا إلى المسيح أنه أمر الغني أن يتجرد من أمواله، ويحمل الصليب ويتبعه، وقال: [مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله ][2]، وأنه أوصى تلاميذه قائلًا:[لا تقتنوا ذهبًا ولا فضةً ولا نحاسًا في مناطقكم،ولا مزودًا للطريق، ولا ثوبين، ولا أحذية، ولا عصًا][3]

3- الأثر الذي خلفته الفلسفات ووثنيات التهربية القانطة:

الفلسفة الرواقية والتي تنم عن التذمر والتهرب من الحياة، وتقوم على التأمل والاستغراق في عالم ما وراء المادة، هذا إلى جانب الوثنيات القاتلة التي تقهر الجسد على حساب الروح، وتقدس اليأس والتقشف، كالبوذية والبرهمية.

ولما كان بولس مطلعًا على هذه الفلسفات والوثنيات متأثرًا بآرائها؛ فقد أدخلها في صلب مسيحيته، ثم توارثها الأتباع من بعده، ومن اقتباسات بولس النظرة المتشائمة إلى الحياة الدنيا ومتاعها.

وقد أثرت هذه الاعتقادات وما اقتبسته المسيحية المحرفة منها في رواج الرهبانية وشيوعها في القرون التي تلت المسيح.

يقول صاحب ' معالم تاريخ الإنسانية': [كانت الأديرة موجودة في العالم قبل ظهور المسيحية، وفي الفترة التي ألمَّ فيها الشقاء الاجتماعي باليهود، قبل زمان يسوع الناصري، كانت طائفة من النساك الأسينيين تعيش منعزلة في مجتمعات، قد وهبت نفسها لحياة تقشفية من الوحدة والطهر وإنكار الذات، كذلك أنشأت البوذية لنفسها مجتمعات من رجال اعتزلوا غمرة الجهود العامة والتجارة في العالم؛ ليعيشوا عيشة التقشف والتأمل]

[ونشأت في زمن مبكر جدًا من تاريخ المسيحية حركة مشابهة لهذه؛ تتنكب ما يغمر حياة الناس اليومية من منافسة وحمية وشدائد، وفي مصر على وجه الخصوص، خرجت حشود كبيرة من الرجال والنساء إلى الصحراء، وهناك عاشوا عيشة عزلة تامة، قوامها الصلوات والتأملات، وظلوا يعيشون في فقر مدقع في الكهوف أو تحت الصخور على الصدقات، التي تقذفها إليهم الصدفة من أولئك الرجال الذين يتأثرون بقداستهم][4].

4- الأوضاع الاجتماعية القاسية:

كان المجتمع الروماني مجتمعًا طبقيًا ظالمًا، تكدح فيه قطاعات ومجموعات كبيرة لصالح أفراد قلائل، وكان سكان المستعمرات خاصة يعانون البؤس وشظف العيش إلى جانب الظلم والطغيان، فقنط كثيرون من الحياة، ورأوا أن خير وسيلة للتخلص من خدمة الأسياد والحصول على العيش ولو كفافًا هو دخول الأديرة، حيث ينفق عليهم من تبرعات المحسنين وأوقاف الكنيسة، ويذكر صاحب كتاب ' قصة الحضارة' أن [الآلاف من الشباب كانوا يدخلون الأديرة فرارًا من الخدمة العسكرية التي فرضها الرومان][5]

نظام الرهبانية:

يتضمن نظام الرهبانية شروطًا لا بد من تحقيقها في الراهب منها:

1- العزوبة:

و هي أهم شروط الرهبانية، إذ لا معنى للرهبانية مع وجود زوجة، ومعلوم أن المسيح عليه السلام لم يتزوج، وينسب إنجيل متى إلى المسيح قوله: [يوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات، من استطاع أن يقبل فليقبل][6]

على أن التنفير من المرأة -وإن كانت زوجة- واحتقار وترذيل الصلة الجنسية -وإن كانت حلالًا- من أساسيات المسيحية المحرفة، حتى بالنسبة لغير الرهبان، يقول سان بونافنتور[7] أحد رجال الكنيسة: [إذا رأيتم امرأة؛ فلا تحسبوا أنكم ترون كائنا بشريًا، بل ولا كائنًا حيًا وحشيًا، وإنما الذي ترون هو الشيطان بذاته، والذي تسمعون هو صفير الثعبان][8].

وإذا كان هذا هو الحال مع غير الرهبان؛ فلنتصور كيف تكون الحال معهم!

2- التجرد الكامل عن الدنيا:

ويعنى ذلك: العزلة النهائية عن المجتمع، وقطع النظر عن كل أمل في الحياة، والرضا من الرزق بالكفاف، وعدم الاهتمام بالمطالب الجسدية حتى الضروري منها كالملابس والنظافة، وإذا كانت المسيحية المحرفة تأمر الأفراد العاديين باحتقار الحياة وتعده من أولى الواجبات؛ فبديهي أن تكون معاملة الراهب أقسى وأعتى.

3- العبادة المتواصلة:

يفرض نظام الحياة الرهبانية على الراهب أن يكون في حالة عبادة مستمرة يمليها عليه الأب، ولا يستطيع التردد في الطاعة، بل عليه أن يجهد نفسه ويرهفها ويكلفها ما لا تطيقه من الصلوات والصيام والتراتيل والترانيم وسائر الطقوس، وإذا سئم من ذلك أو قصر في شيء منه فإن للنظام عقوباته الرادعة... ولنأخذ نموذجًا لذلك تعاليم القديس 'كولمبان' الذي أسس الأديرة في جبال الفوج بفرنسا، ومن تعاليمه: [يجب أن تصوم كل يوم، وتصلي كل يوم، وتعمل كل يوم وتقرأ كل يوم، وعلى الراهب أن يعيش تحت حكم أب واحد].

[ويجب أن يأوي إلى الفراش وهو متعب يكاد يغلبه النوم وهو سائر في الطريق، وكانت العقوبات صارمة أكثر ما تكون بالجلد: ستة سياط إذا سعل وهو يبدأ ترنيمة، أو نسي أن يدرم أظافره قبل تلاوة القداس، أو تبسم أثناء الصلاة، أو قرع القدح بأسنانه أثناء العشاء الرباني]



[9].

4- التعذيب الجنوني:

لم يقتصر الأمر على ما ذكره، بل كما هي طبيعة البدع فقد تجاوز ذلك إلى تصرفات جنونية تشمئز لها الفطر السليمة، ابتدعها بعض الرهبان ليعبروا عن قوة إيمانهم وعمق إخلاصهم لمبدئهم، [وروى المؤرخون من ذلك عجائب فحدثوا عن الراهب ماكاريوس أنه نام ستة أشهر في مستنقع ليقرض جسمه العاري ذباب سام، وكان يحمل دائمًا نحو قنطار من حديد، وكان صاحبه الراهب يوسيبيس يحمل نحو قنطارين من حديد...، وقد أقام ثلاثة أعوام في بئر نزح... وقد عبد الراهب يوحنا ثلاث سنين قائمًا على رجل واحدة، ولم ينم ولم يقعد طوال هذه المدة، فإذا تعب جدًا أسند ظهره إلى صخرة. وكان بعض الرهبان لا يكتسون دائمًا، وإنما يتسترون بشعرهم الطويل ويمشون على أيديهم وأرجلهم كالأنعام، وكان أكثرهم يسكنون في مغارات السباع والآبار النازحة والمقابر، ويأكل كثير منهم الكلأ والحشيش، وكانوا يعدون طهارة الجسم منافية لنقاء الروح، ويتأثمون عن غسل الأعضاء، وأزهد الناس عندهم وأنقاهم أبعدهم عن الطهارة، وأوغلهم في النجاسات والدنس، يقول الراهب اتهينس: إن الراهب أنتوني لم يقترف إثم غسل الرجلين طوال عمره، وكان الراهب أبراهام لم يمس وجهه ولا رجله الماء خمسين عامًا، وقد قال الراهب الإسكندري بعد زمان متلهفًا: وا أسفاه، لقد كنا في زمن نعد غسل الوجه حرامًا، فإذا بنا الآن ندخل الحمامات][10].

نتائج الرهبانية:

وما من شك في أن الرهبانية ليست من فطرة الإنسان ولا من غايات وجوده، ولقد أدى التزمت والغلو في الدين ومغالبة الطبع السوي والفطرة السليمة إلى نتيجة عكسية تمامًا، وأصبحت الأديرة مباءات للفجور والفسق تضرب بها الأمثلة في ذلك، وقد وصل الحال بنصارى الشرق -وربما كانوا أكثر حياء وأشد تمسكًا- إلى حد أن المستهترين من الخلفاء والشعراء المجان كانوا يرتادون الأديرة كما يرتاد رواد الدعارة اليوم بيوت العهر، وألفوا في ذلك كتبًا منها كتاب 'الديارات' المعروف لدى دارسي الأدب العربي[11].

هذا بالنسبة للمترهبنين، أما الفرد المسيحى فقد ضعفت ثقته بالدين، وتزعزعت في نفسه القيم والأخلاق الدينية، أما الغيورون منهم؛ فقد اتخذوا ذلك ذريعة للانشقاق عن الكنيسة، وتكوين فرق دينية جديدة لها أديرة خاصة تبدأ أول الأمر نظيفة، لكنها لا تلبث أن تعود فتسقط فيما سقط فيه أسلافها.

هذا وقد ظلت رواسب الرهبانية متغلغلة في أعماق النفسية الأوروبية؛ حتى بعد أن فقد الدين مكانته في النفوس -لاسيما ما يتعلق بالمرأة والجنس- وكان لذلك أثره في النظريات الهدامة التي أعقبت الثورة الصناعية خاصة 'الفرويدية'، كما سيأتي بإذن الله في المقالات القادمة.

--------------------------------------------------------------------------------
[[1]] متى، [16/26].

[[2]] مرقص [10/22] ، ومتى [19/25].

[[3]] متى [10/10-11] ، ومثله لوقا [9/4-10].

[[4]] معالم تاريخ الإنسانية، [3/730-732].

[[5]] قصة الحضارة، [14/15].

[[6]] متى، [13/19].

[[7]] فيلسوف وراهب نصراني من الطائفة الفرنسيساكتية.

[[8]] أشعة خاصة بنور الإسلام، [29].

[[9]] قصة الحضارة، [14/365].

[[10]] ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، [168].

[[11]] كتبه أبو الحسن السابشتي، وطبع مؤخرًا بتحقيق 'كوركيس عواد'.

محمود إبراهيم
12-16-2007, 02:51 AM
تابع تحريف الشريعة[6]

مفكرة الإسلام : تكلمنا في المقالين السابقين عن تحريف الشريعة النصرانية، وعرضنا أهم البدع التي استحدثت في الديانة الأوروبية المعتنَقة، وكان من أهمها: بدعة رجال الدين، وبدعة الرهبانية.


وفي هذا المقال نعرض صورة أخيرة لبعض البدع المستحدثة في الشريعة النصرانية، وإن كانت تلك الصور ليست كسابقيها من البدع المستحدثة من حيث تقوية خط الانحراف عن الطريق المستقيم، ولكن كان لها أكبر الأثر عن المستحدثات السابقة في اشتعال نار الثورة على الكنيسة.

ثالثًا: الأسرار المقدسة:

وللمسيحية أسرار كثيرة متعددة الأصول بعضها إغريقي، وبعضها بوذي، وبعضها منقول عن المثرائية -ديانة بولس الأولى- من هذه الأسرار ما يتعلق بأمور العقيدة كَسِر الثالوث، ومنها ما يتعلق بشؤون العبادة والطقوس: كَسِر التعميد، وسر العشاء الرباني، وسر الاعتراف، وسر الزيت المقدس، وسر الصلاة الأخيرة للمحتضر وأمثالها، ونستطيع أن نقول: إن الكنيسة تعمد إلى تبرير كل طقس من طقوسها يأباه العقل، وتنفر منه النفوس بأنه سر إلهي.

ولكن هذا الأمر لم يخف على الكثير من المؤرخين، فمن ذلك ما ذهب إليه غوستاف لوبون -كغيره من النقاد العقليين- أن شعائر النصرانية ومنها العشاء المقدس بدعة منقولة عن الوثنية الميثرائية[[1]].

و لنكتف هنا فقط بالإشارة إلى إحدى 'الأسرار المقدسة' وذلك بمناقشة سر واحد وهو: [سر العشاء الرباني] ليكون نموذجًا لبقية تلك الأسرار.

ما هو العشاء الرباني؟

العشاء الرباني هو أهم عمل في الطقوس المسيحية، ويسمى أيضًا [القربان المقدس]، وقد ورد أصل مشروعيته في إنجيل متى كما يلي: [ وفيما هم يأكلون، أخذ يسوع الخبز، وبارك وكسر وأعطى التلاميذ، وقال: خذوا، كلوا، هذا هو جسدي، وأخذ الكأس وشكر، وأعطاهم قائلًا: اشربوا منها كلكم، لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد، الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا ][[2]].

وبعد ذلك استحدثت الكنيسة أمرًا إضافيًا في هذه البدعة، وهي العقيدة المعروفة بعقيدة التحول أو الاستحالة، وهى وجوب الاعتقاد بأن متناولي العشاء يأكلون جسد المسيح بعينه على الحقيقة، ويشربون دمه نفسه على الحقيقة أيضًا، أما كيف يتحول الخبز والخمر إلى جسد ودم المسيح؛ فإن ذلك سر من الأسرار المقدسة لا يجوز لأحد أن يسأل أو يشكك فيه، وإلا عوقب بالحرمان والطرد من الملكوت.

إن الكنيسة استغلت بلاهة وسذاجة أتباعها، ففرضت عليهم مثل هذه العقائد الغريبة الممجوجة، لكن إسراف الكنيسة في ذلك أدى إلى قيام ثورة عارمة ضدها، لا سيما مع بدء الاتصال الغربي بالعالم الإسلامي أبان الحروب الصليبية، والحركة العلمية التي بدأت تتكون في أوروبا نتيجة لهذا الاتصال.

رابعًا: عبادة الصور والتماثيل:

يقول: [ول ديورانت]: [ كانت الكنيسة أول أمرها تكره الصور والتماثيل، وتعدها بقايا من الوثنية، وتنظر بعين المقت إلى فن النحت الوثني الذي يهدف إلى تمثيل الآلهة، ولكن انتصار المسيحية في عهد قسطنطين، وما كان للبيئة والتقاليد والتماثيل اليونانية من أثر، كل هذا قد خفف من حدة مقاومة هذه الأفكار الوثنية، ولما أن تضاعف عدد القديسين المعبودين نشأت الحاجة إلى معرفتهم وتذكرهم، فظهرت لهم ولمريم العذراء كثير من الصور، ولم يعظم الناس الصور التي يزعمون أنها تمثل المسيح فحسب، بل عظموا معها خشبة الصليب، حتى لقد أصبح الصليب في نظر ذوي العقول الساذجة طلسمًا ذا قوة سحرية عجيبة ].

ومع الاتصال الغربي بالعالم الإسلامي، واطلاع الغرب على طبيعة الدين الإسلامي والوحدانية التي ينادي بها؛ بدأ الغرب يحس بالسخف والحماقة من تقديس تلك الصور والتماثيل، فقامت في الغرب على فترات متقطعة من تاريخه حركات معادية لهذه البدعة، حتى دعت الإمبراطورة [إيريني] -التي كانت معاصرة لهارون الرشيد- رجال الدين في العالم المسيحي إلى عقد مجمع عام لبحث الـمسألة، واتخاذ قرار حاسم حيالها، فاجتمع مجمع نيقية الثاني سنة [787م]، وحضر [350] أسقفًا واتخذ القرار الآتي: [ إنا نحكم بأن توضع الصور ليس في الكنائس والأبنية المقدسة والملابس الكهنوتية فقط، بل في البيوت وعلى الجدران في الطرقات؛ لأننا إن أطلنا مشاهدة ربنا يسوع المسيح ووالدته القديسة والرسل وسائر القديسين في صورهم؛ شعرنا بالميل الشديد إلى التفكير فيهم والتكريم لهم، فيجب أن تؤدى التحية والإكرام لهذه الصور، لا العبادة التي لا تليق إلا بالطبيعة الإلهية][[3]].

خامسًا: صكوك الغفران:

كان الفرد المسيحي يستطيع ضمان الملكوت مع المسيح باعتراف واحد في العمر هو اعترافه ساعة احتضاره، إذ يتم دهن جسده بالزيت المقدس، فيتطهر من كل الأرجاس والذنوب، وكان من العقوبات الصارمة التي تتخذها الكنيسة ضد مخالفيها من الشعوب أو الأفراد حرمانهم من الاعتراف الأخير والصلاة عليهم؛ فلا يشك مسيحي أنهم ذهبوا إلى الجحيم بسبب ذلك.

واستمر الحال على ذلك فترات طويلة حتى كان مطلع القرن الثالث عشر الميلادي حيث كانت الكنيسة تجتاز مرحلة حاسمة في تاريخها، وكانت بحاجة إلى مزيد من السلطة الدينية والنفوذ المالي لمواجهة أعدائها، هذا إلى جانب الحروب الصليبية، والتي بدأ إقبال المواطنين في الخروج إليها يضعف شيئا فشيئًا، فقررت عقد مجمع عام لبحث الوسائل الكفيلة بتحقيق ذلك، فعقد المجمع الثاني عشر المعروف باسم مجمع لاتيران سنة [1215م] ونجح هذا المجمع في إقرار مسألتين كان لهما أثر بالغ على المسيحية في القرون التالية هما:

مسألة الاستحالة، وقد مرت قريبًا [العشاء الرباني].

مسألة امتلاك الكنيسة حق الغفران للمذنبين، وذلك بإصدار القرار التالي: [ إن يسوع المسيح لما كان قد قلد الكنيسة سلطان منح الغفرانات، وقد استعملت الكنيسة هذا السلطان الذي نالته من العلا منذ الأيام الأولى، قد أعلم المجمع المقدس، وأمر بأن تحفظ للكنيسة في الكنيسة هذه العملية الخلاصية للشعب المسيحي، والمثبتة بسلطان المجامع، ثم ضرب بسيف الحرمان من يزعمون أن الغفرانات غير مفيدة، أو ينكرون على الكنيسة سلطان منحها غير أنه قد رغب في أن يستعمل هذا السلطان باعتدال واحتراز، حسب العادة المحفوظة قديمًا والمثبتة في الكنيسة لئلا يمس التهذيب الكنسي تراخ بفرط التساهل ][[4]].

وبعد فترة من الزمن أخذ هذا التوافد في الفتور وتقاعس كثيرون عن الاعتراف، وفي الوقت نفسه ازداد إلحاح الكنيسة على تثبيت مركزها وتعبئة خزائنها؛ فقررت اتخاذ وسيلة ناجحة لضمان استمرار ذلك؛ فهداها تفكيرها إلى كتابة الغفرانات في صكوك تباع على الملأ، وتنص على غفران أبدي بحيث تكون حافزًا قويًا على دفع المبلغ المالي الذي تقرره الكنيسة، أو القيام بالخدمات التي ترغب تنفيذها، وهذا نص الصك:

[ربنا يسوع يرحمك يا... 'يكتب اسم الذي سيغفر له'، ويشملك باستحقاقات آلامه الكلية القدسية، وأنا بالسلطان الرسولي المعطى لي أحلك من جميع القصاصات والأحكام والطائلات الكنسية التي استوجبتها، وأيضًا من جميع الإفراط والخطايا والذنوب التي ارتكبتها مهما كانت عظيمة وفظيعة، ومن كل علة وإن كانت محفوظة لأبينا الأقدس البابا والكرسي الرسولي، وأمحو جميع أقذار الذنب، وكل علامات الملامة التي ربما جلبتها على نفسك في هذه الفرصة، وأرفع القصاصات التي كنت تلتزم بمكابدتها في المطهر، وأردك حديثًا إلى الشركة في أسرار الكنيسة، وأقرنك في شركة القديسين، أردك ثانية إلى الطهارة والبر اللذين كانا لك عند معموديتك، حتى أنه في ساعة الموت يغلق أمامك الباب الذي يدخل منه الخطاة إلى محل العذاب والعقاب، ويفتح الباب الذي يؤدي إلى فردوس الفرح، وإن لم تمت سنين مستطيلة، فهذه النعمة تبقى غير متغيرة حتى تأتي ساعتك الأخيرة، باسم الأب والابن والروح القدس][[5]].

نتائج هذه البدعة:

كانت هذه البدعة أول أمرها من أسباب قوة الكنيسة ودعائم شموخها، لكنها ارتدت عليها بعد ذلك شرًا مستطيرًا ووباءً قاتلًا.

فمن الوجهة الاقتصادية أعقب الإقبال الهائل على شراء الصكوك انكماشًا وفتورًا، فنضبت الكثير من موارد الكنيسة في حين ازدادت طمعًا وشراهة، واضطرت إلى عرض الصكوك بطريقة مبتذلة، فكان الآباء والقساوسة يتجولون في الإقطاعيات، ويبيعونها بأسعار مخفضة ثم زهيدة، وكلما ازداد العرض قل الطلب، وتولد لدى الناس شعور داخلي بأن شراءها إضاعة للمال فيما لا فائدة فيه، أو على الأقل فيما ليس مضمون العاقبة.

ومن ناحية المكانة الدينية لرجال الدين فقد بدأت تلك الهالة القدسية المحيطة بهم تتبخر شيئًا فشيئًا، وعجب الناس إذ رأوا كثيرًا من الأشرار والطغاة والمجرمين يتبؤون مقاعدهم في الملكوت ببركة الصكوك التي منحها لهم رجال الدين، فكان ذلك إيذانًا بالشك في قداسة رجال الدين أنفسهم، ومدى صلاحهم واستحقاقهم للملكوت في ذواتهم.

ومن ناحية المركز السياسي والنفوذ الدنيوي: كان لصكوك الغفران وما أحاط بها من ظروف وملابسات أثره البالغ في العلاقة بين الكنيسة من جهة والملوك والأمراء والنبلاء من جهة أخرى، فقد رأوا أن قبضة الكنيسة تزداد استحكامًا مع الأيام، وأنهم وشعوبهم ليسوا إلا أدوات أو صنائع لرجال الدين، يمنون عليهم بالعفو إن رضوا، ويعاقبونهم بالحرمان إن سخطوا، كما أن الثراء الذي حصلت عليه الكنيسة جعلها تبدو منافسًا قويًا لأصحاب الإقطاعيات، لذلك لم تكد بوادر الاستنكار ضد تصرفاتها -لا سيما صكوك الغفران- تبرز للعيان حتى انتهزها الملوك والأمراء فرصة سانحة لحماية الحركات المعارضة، وتأجيج سعيرها.

تلك هي صور التحريف التي حدثت في الشريعة التي من المفترض أنها شريعة سماوية ربانية.

وبذلك نكون قد أنهينا المرحلة الثانية في تلك السلسلة، وفي المقال القادم نبدأ بعرض المرحلة الثالثة من تلك السلسلة المهمة وهي: صور التسلط والظلم الكنسي، وأثره في العقلية والنفسية الغربية.

--------------------------------------------------------------------------------
[[1]] حياة الحقائق، ص[65].

[[2]] متى، [26/27-29].

[[3]] محاضرات في النصرانية: [164] مع العلم بان عدد الأساقفة فيه [377] لا كما ذكر ديورانت [350].

[[4]] محاضرات في النصرانية, [194].

[[5]] محاضرات في النصرانية, [214].