المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الخلاف بين المفسرين- مظاهره وأسبابه



حازم
02-18-2005, 02:14 PM
الخلاف بين المفسرين- مظاهره وأسبابه

بقلم : أ.د/ أحمد سعد الخطيب.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فإن الذى يقرأ كتب التفسير، خاصة الكتب التى عنيت بنقل أقوال الصحابة والتابعين، وهى التى نسميها كتب التفسير بالمأثور كجامع البيان للطبرى وغيره، الذى يقرأ فى هذه الكتب يأخذه العجب حين يقف على هذا الكم الهائل من الأقوال حول تفسير الآيات القرآنية، ولابد من أن تحيك بصدره هذه الأسئلة:
- لماذا كل هذه الآراء المتعددة ؟
- لماذا لم يجمعوا على رأى واحد فى التفسير ؟
- وهل هذه الأقوال متعارضة أم يمكن الجمع بينها ؟
- وأهم سؤال فى ذلك هو : ما السبب فى هذا الاختلاف ؟
ولكن قبل الإجابة عن هذه الأسئلة يطيب لى أن أذكر أنواع الخلاف لنقف على ماهية ما يقع من خلاف بين المفسرين على اختلاف أسبابه ، فأقول:
الاختلاف ينقسم إلى قسمين :-

أحدهما : اختلاف تضاد وتناقض. وهو المعارضة من كل وجه بحيث لا يمكن الالتقاء مطلقاً .
وقد جاء تعريفه فى الإتقان بأنه ما يدعو فيه أحد الشيئين إلى خلاف الآخر[1].
ومثل هذا النوع لا وجود له فى القرآن الكريم مطلقاً ، لا فى القراءات و لا فى غيرها ، إلا ما كان من الناسخ والمنسوخ والقارئ بصير بأن مثل هذا لا يسمى اختلافا أصلا بعد رفع السابق من الحكمين و إحلال اللاحق محله.

ثانيهما - اختلاف تلازم. ومن أمثلته فيما يتعلق بالقرآن الكريم الاختلاف فى وجوه القراءات.
قال السيوطى فى الإتقان : اختلاف التلازم هو ما يوافق الجانبين كاختلاف وجوه القراءة ….[2].
إذن فالاختلاف فى القراءات ليس من قبيل الاختلاف على جهة التعارض و التضاد و إنما هو اختلاف تنوع له العديد من الفوائد سنذكرها فى محلها . أو أنه اختلاف فيما يبدو للناظر بعين غير مبصرة. وهو سريعاً ما يزول عند أدنى تدبر وهو ما يسمى بموهم الاختلاف.
ومثل ذلك لا يعد فى الحقيقة خلافاً يعتد به ، بدليل أن القراء حين اختار كل منهم ما يقرأ به " لم يقرأوا بما قرأوا به على إنكار غيره ، بل على إجازته ، والإقرار بصحته ، وإنما وقع الخلاف بينهم فى الاختيارات وليس ذلك فى الحقيقة باختلاف".[3]
ولا يرد على ذلك إنكار بعض النحويين ومن تبعهم من المفسرين لبعض القراءات الثابتة ، أو ترجيح بعضها على البعض ،فإن منشأ ذلك هو عدم يقينهم بأن هذه القراءات توقيفية ، وليست اجتهادية إضافة إلى عدم الإلمام الكامل بكل وجوه العربية.
وكل ما أثاروه فى هذا المقام مردود عليه بما يفحم ، لكن ما يثير العجب أن يأتى فى زماننا هذا من لايعرف من النحو إلا قشوراً فيدعى وجود اللحن فى القرآن فى قراءاته المختلفة ، فاتحاً بذلك صفحة طويت من قديم حين أجاب العلماء المخلصون. عما أثير فى هذا المقام.
ولله در الإمام الغزالى حين قال: لو سكت من لا يعرف لقل الاختلاف.
ثم أعود إلى الإجابة عن الأسئلة المطروحة سلفا فأقول : لعل هذا العجب الحاصل بسبب الاختلاف الهائل بين المفسرين فى تفسير بعض الآيات القرآنية أن يزول حين نطلع على أسباب الخلاف بين المفسرين .
ولقد ناقش ابن تيمية - رحمه الله - فى مقدمته فى أصول التفسير ، مسألة الخلاف بين المفسرين ، مفرقاً فى ذلك بين تفسير السلف " المأثور " وبين تفسير غيرهم .
فأما بالنسبة لتفسير السلف ، فقد بين ابن تيمية أن غالب ما ينقل عنهم فيه راجع إلى اختلاف التنوع ، وليس اختلاف التضاد ، وذلك كأن يعبر كل واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه ، تدل على معنى فى المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد فى المسمى .
وذلك مثل اختلافهم حول تفسير ( الصراط المستقيم )[4] ، فبعضهم قال : هو اتباع القرآن ، وبعضهم قال : هو الإسلام ، فهذان القولان الاختلاف فيهما اختلاف تنوع ؛ لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن .
ويندرج تحت خلاف التنوع أيضاً ذكر العام ببعض أفراده ، أو أنواعه على سبيل التمثيل ، ومثال ذلك خلافهم حول المراد بقوله تعالى :( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله)[5].
هذه الآية اختلف فى تفسيرها على أقوال كثيرة ، فقد ذكر ابن تيمية رحمه الله بعضاً منها على سبيل التمثيل فقال : معلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات ، والمنتهك للحرمات . والمقتصد يتناول فاعل الواجبات و تارك المحرمات. والسابق يدخل فيه من سبق ، فتقرب بالحسنات مع الواجبات ، فالمقتصدون هم أصحاب اليمين ، والسابقون أولئك المقربون.
ثم إن كلاً منهم - أى المفسرين - يذكر هذا فى نوع من أنواع الطاعات ، كقول القائل:
السابق الذى يصلى فى أول الوقت ، والمقتصد الذى يصلى فى أثنائه ، والظالم لنفسه الذى يؤخر العصر إلى الاصفرار.
أو يقول: السابق والمقتصد والظالم قد ذكروا فى أخر سورة البقرة ، فقد ذُكر المحسن بالصدقة ، والظالم بأكل الربا ، والعادل بالبيع….. وأمثال هذه الأقاويل.
ثم قال: فكل قول فيه ذكر نوع داخل فى الآية ، وإنما ذكر لتعريف المستمع بتناول الآية له وتنبهه به على نظيره ، فإن التعريف بالمثال ، قد يسهل أكثر من التعريف بالحد المطابق ، وذلك مثل سائل أعجمى سأل عن مسمى لفظ " الخبز " فأرى رغيفاً وقيل له: هذا. فالإشارة إلى نوع هذا ، لا إلى هذا الرغيف وحده ا.هـ[6].
ثم تناول ابن تيمية وجوهاً أخرى للخلاف[7] ، داخلة فى اطار خلاف التنوع أحجمت عنها لعدم الإطناب ، منعاً للسآمة والملل .

وأما التفسير بالرأى ،فقد أرجع ابن تيمية الخلاف فيه لسببين:
أحدهما - قوم اعتقدوا معانى ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها[8].
والثانى - قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه من كان من الناطقين بلغة العرب من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن والمنزل عليه ، والمخاطب به.
فالأولون: راعوا المعنى الذى رأوه من نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان .
والآخرون: راعوا مجرد اللفظ ، وما يجوز عندهم أن يريد به العربى من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم به ، وسياق الكلام. ثم هؤلاء كثيراً ما يغلطون فى احتمال اللفظ لذلك المعنى فى اللغة كما يغلط فى ذلك الذين من قبلهم.
كما أن الأولين كثيراً ما يغلطون فى صحة المعنى الذى فسروا القرآن ، كما يغلط فى ذلك الآخرون. وإن كان نظر الأولين إلى المعنى أسبق ا.هـ[9] هذه بعض أسباب الخلاف بين المفسرين فى نظر ابن تيمية.
أما العلامة ابن جزى فقد ذكر أسباب الخلاف بين المفسرين حاصراً إياها فى اثنى عشر سبباً هى:
1- اختلاف القراءات.
2- اختلاف وجوه الإعراب وإن اتفقت القراءات.
3- اختلاف اللغويين فى معنى الكلمة.
4- إشتراك اللفظ بين معنيين فأكثر.
5- احتمال العموم والخصوص.
6- احتمال الإطلاق والتقييد.
7- احتمال الحقيقة أو المجاز.
8- احتمال الإضمار أو الاستقلال.
9- احتمال أن تكون الكلمة زائدة.
10- احتمال حمل الكلام على الترتيب أو على التقديم والتأخير.
11- احتمال أن يكون الحكم منسوخاً أو محكماً.
12- اختلاف الرواية فى التفسير عن النبى - صلى الله عليه وسلم -وعن السلف-رضى الله عنهم.[10].

تفصيل الكلام عن هذه الأسباب
أما بالنسبة للسبب الأول: وهو اختلاف القراءات
فكما تناوله ابن جزى- كما علمت - فى مقدمة تفسيره التسهيل لعلوم التنزيل[11] جاعلا إياه أحد أسباب الخلف بين المفسرين تناوله أيضا الشاطبى فى الموافقات.[12]
ويتصور ذلك فى الآية التى ترد بقراءتين أو أكثر فإن ذلك يترتب عليه أن تتعدد الآراء فى تفسيرها تبعاً لتعدد هذه القراءات ؛ لأن هذه القراءات كثيراً ما تضيف معانى جديدة مما ليس موجوداً فى غيرها من القراءات الواردة فى نفس الآية ، فيترتب على ذلك أن يتناول بعض المفسرين الآية من خلال قراءة معينة ، بينما يتناولها غيرهم من خلال قراءة أخرى فيحدث الخلاف.
وننبه هنا إلى أن هذه القراءات التى تحدث تعدداً واختلافاً فى الأوجه التفسيرية ، قد لا تكون فى درجة واحدة فى بعض الأحيان ، كأن يكون بعضها متواتراً وبعضها شاذاً ، كما أنها تكون فى كثير من الأحيان فى درجة واحدة من التواتر ، ولكل حالة من هاتين الحالتين حكمها الخاص وقواعدها التى تضبط تعامل المفسرين معها.

وبناءً عليه فإن صور الخلاف بين القراءات هى كالآتى:
1- الخلاف بين قراءة متواترة وأخرى شاذة.
2- الخلاف بين قراءتين متواترتين.
هاتان صورتان تتجهان إلى القراءة ذاتها ، وأحياناً تكون صورة الخلاف بين المفسرين بسبب القراءات السبب فيها ليس راجعاً إلى القراءات ذاتها ، وإنما إلى اعتبارات العلماء ، وذلك مثل اختلافهم حول حكم الاحتجاج بالقراءة الشاذة.
ومثل اختلافهم حول اشتراط التواتر فى إثبات القرانية فى الترتيب والوضع أو المحل ، أو عدم اشتراطه. فهاتان صورتان أخريان ، يقع فيهما الخلاف بين المفسرين.

ما الذى يؤثر على التفسير من القراءات ؟
ينبغى أن يعلم أنه ليس كل اختلاف بين هذه القراءات يسبب الاختلاف فى أوجه التفسير ، بل إن القراءات من هذه الناحية تنقسم إلى قسمين:
أحدهما: قراءات لا يؤثر اختلافها فى التفسير بحال.
وذلك كاختلاف القراء فى وجوه النطق بالحروف والحركات ، كمقادير المد والإمالات ، والتخفيف والتسهيل والتحقيق والجهر والهمس ، والغنة والإخفاء.
ومزية القراءات من هذه الجهة راجعة إلى أنها حفظت على أبناء اللغة العربية ما لم يحفظه غيرها ، وهو تحديد كيفيات نطق العرب بالحروف فى مخرجها وصفاتها ، وبيان اختلاف العرب فى لهجات النطق ، وهذا غرض مهم جداً لكنه لا علاقة له بالتفسير لعدم تأثيره فى اختلاف معانى الآى.

ثانيهما: قراءات يؤثر اختلافها فى التفسير:
وذلك مثل اختلاف القراء فى حروف الكلمات مثل " مالك يوم الدين " و " ملك يوم الدين" وكذلك اختلاف الحركات ، الذى يختلف معه معنى الفعل كقوله سبحانه: " ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون " حيث قرأ نافع "يصُدون" بضم الصاد ، وقرأ حمزة "يصـِـدون" بكسر الصاد.
والأولى بمعنى يصدون غيرهم عن الإيمان ، والثانية بمعنى صدودهم فى أنفسهم ، وكلا المعنيين حاصل منهم.[13] مثل ذلك مؤثر فى التفسير ، لأن ثبوت أحد اللفظين فى قراءة قد يبين المراد عن نظيره فى القراءة الأخرى أو يثير معنى غيره ، ولأن اختلاف القراءات فى ألفاظ القرآن يكثر المعانى في الآية الواحدة.
وقال المحقق ابن الجزرى في ذلك : قد تدبرنا اختلاف القراءات فوجدناه لا يخلو من ثلاثة أحوال :
أحدهما: اختلاف اللفظ لا المعنى كالاختلاف فى ألفاظ (الصراط [14] , يؤوده [15] , القدس[16]) ونحو ذلك مما يطلق عليه أنه لغات فقط .
الثانى :اختلافهما جميعاً مع جواز اجتماعهما فى شئ واحد مثل (مالك , ملك)[17] قراءتان المراد بهما الله تعالى فهو مالك يوم الدين وملكه , ومنه قراءة (ننشزها , وننشرها )[18] لأن المراد فى القراءتين العظام فالله أنشرها بمعنى أحياها , وأنشزها أى رفع بعضها إلى بعض حتى التأمت , فضمن الله المعنيين فى القراءتين .
الثالث : اختلافهما جميعاً مع امتناع جواز اجتماعهما فى شئ واحد , لكن يتفقان من وجه آخر لا يقتضى التضاد.
ومثاله قوله تعالى: (وظنوا أنهم قد كذبوا)[19] حيث قرئ بالتشديد والتخفيف فى لفظ (كذبوا ) هكذا " كُذِّبوا ", و" كذِبوا" فاما وجه التشديد فالمعنى: وتيقن الرسل أن قومهم قد كذّبوهم , وأما وجه التخفيف فالمعنى : وتوهم المرسل إليهم أن الرسل قد كذَبوهم - أى كذبوا عليهم - فيما أخبروهم به , فالظن في الاولى يقين والضمائر الثلاثة للرسل , والظن فى القراءة الثانية شك , والضمائر الثلاثة للمرسل إليهم . ومنه أيضاً قوله تعالى:( وإن كان مكرهم لَتَزول منه الجبال)[20] بفتح اللام الأولى ورفع الأخرى فى كلمة "لتزول" وبكسر الأولى وفتح الثانية فيها أيضاً , فأما وجه القراءة الأولى فعلى كون " إنْ" مخففة من الثقيلة أى وإن مكرهم كامل الشدة تقتلع بسببه الجبال الراسيات من مواضعها , وفى القراءة الثانية " إن " نافية أى: ما كان مكرهم وإن تعاظم وتفاقم ليزول منه أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - ودين الإسلام .
ففى الأولى تكون الجبال حقيقة , وفى الثانية تكون مجازاً.[21].
وبعد ففى هذين النقلين عن صاحب تفسير التحرير والتنوير عن الشيخ المحقق ابن الجزرى ما يوضح بجلاء أن القراءات منها ما يكون له تأثير على التفسير , ومنها ما يتعلق باللفظ فقط وهيئة أدائه وهو لا يؤثر على التفسير , وبحثنا الذى نحن بصدده يتعلق بالقسم الأول .
وأما السبب الثانى: وهو اختلاف أوجه الإعراب وإن اتفقت القراءات، فمثاله اختلافهم حول الضمير "هم" فى قوله سبحانه:(وإذا كالوهم أو وزنوهم)[22]
حيث اختلفوا فى الضمير "هم" فى الموضعين على وجهين:
أ- قيل: هو ضمير نصب فيكون مفعولاً به ويعود على الناس أى: وإذا كالوا الناس أو وزنوا الناس ….
ب- وقيل: هو ضمير رفع مؤكد للواو والضمير عائد على المطففين[23].
هذا خلاف حول الإعراب مع اتحاد القراءة.
ومنه أيضاً اختلافهم حول "لا" من قوله تعالى:(سنقرئك فلا تنسى)[24]
فقيل: "لا " نافية ، والآية إخبار من الله تعالى بأن نبيه - صلى الله عليه وسلم - لا ينسى.
وقيل:هى ناهية ، أى: لا تنس يا رسول الله ما نقرئك إياه من القرآن ، يعنى لا تتعاط أسباب النسيان.
وقد أجاب هؤلاء عن الألف اللازمة فى قوله "تنسى" مع تقدم "لا" الناهية عليها - أى الكلمة - ومن شأنها جزم المضارع بعدها ، أجابوا عن ذلك بأن الألف هنا للإشباع[25] ، كما فى قوله تعالى:(لا تخاف دركاً ولا تخشى)[26] ، وقد لحظنا أن هذا الخلاف كائن مع كون القراءة واحدة.

وأما السبب الثالث: وهو اختلاف اللغويين فى معنى الكلمة ، فمثاله ، اختلافهم حول معنى لفظ "مخلدون" من قوله تعالى:(يطوف عليهم ولدان مخلدون)[27]
فقيل: معناه لا يهرمون أبداً ، ولا يتغيرون فهم فى سن واحد ، وشكلهم شكل الولدان دائماً ، والعرب تقول لمن كبر ولم يشب: إنه لمخلد. وقيل معناه مقرطون من قولهم: خلد جاريته إذا حلاها بالخلدة وهى القرطة.
وقيل: مخلدون منعمون ومنه قول امرئ القيس:
قليل الهموم ما يبيت بأوجال وهل ينعمن إلا سعيد مخلد
وقيل : مخلدون أى مستورون بالحلية. ومنه قول الشاعر:
أعجازهن أقاوز الكثبان[28] ومخلدات باللجين كأنما
وقيل غير ذلك. وهذه الأقوال كلها تدور على معانى لفظ " مخلدون " فى اللغة ، وهى كما نعلم ثرية جداً بألفاظها ، غنية بمعانيها وأسرارها ، ومن ثم كان شرطاً رئيساً فيمن يتصدى لتفسير كتاب الله أن يكون على معرفة واسعة بلغة العرب شعراً ونثراً ، ولذلك قال مالك - رحمه الله - لا أوتى برجل غير عالم بلغة العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالاً.

وأما السبب الرابع:
وهو اشتراك اللفظ بين معنيين فأكثر ؛ فمثاله: اختلافهم حول لفظ الصريم فى قوله تعالى:(فأصبحت كالصريم)[29] ، فهو مشترك لفظى بين سواد الليل وبياض النهار .
ومنه أيضاً اختلافهم حول معنى " القرء " فى قوله تعالى:(والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)[30] هل المراد به الحيض أو الطهر ، إذ هو مشترك لفظى بينهما.
وهذان المثالان سوف يأتيان معنا فيما هو آت فى هذا البحث إن شاء الله.

وأما السبب الخامس:
وهو احتمال العموم الخصوص ، فمثاله: اختلافهم حول المراد بالناس فى قوله تعالى:(أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله)[31] فقيل المراد بالناس هنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد حسدوه - أى اليهود - لأن الله تعالى أعطاه النبوة. وعليه فاللفظ هنا خاص.
وقيل المراد بالناس هنا العرب وقد حسدهم اليهود لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو النبى الخاتم كان منهم ، وعلى ذلك فاللفظ عام.

وأما السبب السادس:
وهو احتمال الإطلاق والتقييد فمثاله: قوله تعالى فى كفارة الظهار:(فتحرير رقبة)[32] ، وفى كفارة اليمين:(أو تحرير رقبة)[33] حيث أطلق الرقبة فى الموضعين ولم يقيدهما بوصف.
وفى كفارة القتل الخطأ قيدت الرقبة بوصف الإيمان هكذا:(فتحرير رقبة مؤمنة)[34]
فقيل: يحمل المطلق على المقيد فيتحصل لزوم أن تكون الرقبة مؤمنة فى الجميع وهو رأى الجمهور.
وقيل: لا يلزم ذلك فيما أطلق.
ومنه أيضاً قوله تعالى:(فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام)[35] ، فهذه الآية أطلقت صيام الأيام الثلاثة ولم تقيدهن بتتابع ولا تفريق.
وجاءت قراءة شاذة لابن مسعود مقيدة بالتتابع هكذا:(فصيام ثلاثة أيام متتابعات)
فاختلفوا: هل تصلح هذه القراءة للتقييد أم لا؟ فذهب أبو حنيفة والثورى إلى الأول ، وذهب الشافعى إلى الثانى ، وسيأتى الكلام عن ذلك فى محله إن شاء الله تعالى.

وأما السبب السابع:
وهو احتمال الحقيقة أو المجاز ، فمثاله: اختلافهم حول المراد بالتنور فى قوله تعالى:(حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور)[36]
فقيل : المارد به التنور الحقيقى الذى يختبز فيه ، وقد كان بدار نوح عليه السلام ، وقد جعل الله تعالى فوران الماء منه علامة على الطوفان الذى أغرق قومه.
وقيل: بل معنى قوله:(وفار التنور) أى برز نور الصبح.
وقيل : بل معناه اشتد غضب الله.[37]
فعلى الأول فالتعبير حقيقى وهو الراجح[38] وعلى الثانى والثالث فالتعبير مجازى.
ومنه كذلك اختلافهم حول المراد بالضحك والبكاء فى قوله تعالى:(وأنه هو أضحك وأبكى)[39].
فقيل: معناه أنه خلق الضحك المعروف والبكاء المعروف فى ابن آدم. فالتعبير على ذلك حقيقى وهو الراجح.
وقيل: بل المعنى: أضحك الأرض بالنبات ، وابكى السماء بالمطر وعليه فالتعبير مجازى.

وأما السبب الثامن:
وهو احتمال الإضمار أو الاستقلال ، فمثاله: قوله تعالى:(يخادعون الله والذين آمنوا)[40] فقوله "يخادعون" من الخدع وهو الإخفاء والإبهام ، وهو أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه ، والمخادعة تقتضى المشاركة من الجانبين ، والله سبحانه منزه عن ذلك ؛ لأنه لا يخدع. وأجيب عن ذلك بأنه من باب الإضمار أى: يخادعون رسول الله.
وقيل: هو من الاستقلال وليس الإضمار ، والمعنى: إن صورة صنيعهم - يعنى المنافقين - مع الله تعالى حيث يتظاهرون بالإيمان وهم كافرون ، وصورة صنيع الله معهم ، حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم فى الدرك الأسفل من النار ، وصورة صنيع المؤمنين معهم حيث امتثلوا أمر الله تعالى فيهم ، فأجروا ذلك عليهم ، تشبه صورة المخادعة.
ففى الكلام إما استعارة تبعية أو تمثيلية فى الجملة ، أو بأن المفاعلة ليست على بابها ، فإن فاعل قد يأتى بمعنى فعل مثل: عافانى الله ، وقتلهم الله.[41].

وأما السبب التاسع:
وهو احتمال الكلمة زائدة ، فمثاله: اختلافهم حول كلمة "من" فى قوله تعالى:(إن الذين ينادونك من وراء الحجرات....)[42].
فقيل : هى زائدة فكان يكفى فى التعبير أن يذكر (وراء الحجرات) فقط ليؤدى لنفس المعنى الذى أداه بدخول "من" على "وراء"
وقيل: بل إن الحرف " من " هنا قد أدى فائدة جليلة ما كانت توجد لولاها . وذلك أن لفظ "وراء" مشترك لفظى بين الأمام والخلف ، فلما دخلت "من" على "وراء" جعلته أكثر شمولاً واتساعاً فغطى الجهات الأربع الأمام والخلف واليمين والشمال. إذ ليس الحكم الوارد فى الآية المذكورة مفيداً بالنداء خلف الحجرات أو أمامها ، بل من أى جهة من الجهات المحيطة بالحجرات.
ونظير هذه الآية كذلك قوله تعالى:(لا يقاتلونكم جميعاً إلا فى قرى محصنة أو من وراء جدر)[43] ، ففائدة "من" هنا كفائدتها فى آية الحجرات ، ويندرج تحت ذلك أيضاً اختلافهم حول "لا" قبل الفعل "أقسم" هل هى زائدة أم أصيلة. أو "الباء" فى خبر "ما" وفى خبر "ليس". وقد تناولت ذلك كله فى كتابى "إزالة الإلباس عن كلام رب الناس"[44].

وأما السبب العاشر:
وهو احتمال حمل الكلام على الترتيب أو على التقديم والتأخير فمثاله: قوله تعالى : (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة....) [45].
قال بعض العلماء: هو مقدم فى التلاوة ، مؤخر فى المعنى على قوله تعالى:(وإذ قتلتم نفساً فادارءتم فيها)[46] لأن أمر موسى لقومه بأن يذبحوا بقرة كان فى الترتيب الزمنى بعد قصة القتل المذكورة فى الآية الثانية. ولذا جوز هؤلاء أن تكون قصة البقرة مؤخرة فى النزول عن قصة القتل.
قال الشوكانى: ويجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب تلاوتها ، فكأن الله أمرهم بذبح البقرة حتى ذبحوها ، ثم وقع ما وقع من أمر القتل فأمروه أن يضربوه ببعضها ، ثم علق بقوله: هذا على فرض أن الواو تقتضى الترتيب ، وقد تقرر فى علم العربية أنها لمجرد الجمع من دون ترتيب ولا معية.[47].
ومنه أيضاً قوله تعالى:(إنى متوفيك ورافعك إلى )[48] وهو قول الله تعالى لسيدنا عيسى عليه السلام ، اختلف فيه على أقوال:
فقيل: هو من المقدم والمؤخر ، أى رافعك إلى ومتوفيك وهذا على أساس أن المراد بالتوفى هنا الموت ، إذ قرر القرآن ذلك فى آية أخرى (وما قتلوه يقينا*بل رفعه الله إليه)[49].
فنفى القرآن عنه القتل ، وأثبت له الرفع ، فدل على أنه رفع حياً.
وقيل : ليس المراد بالتوفى هنا قبض الروح وانتهاء الأجل ، بل هو استيفاء الحق أى موفيك حقك ورافعك.
وقيل: إن التوفى هنا هو النوم ، وفى القرآن الكريم ما يؤيد هذه التسمية ، قال تعالى:(الله يتوفى الأنفس حين موتها والتى لم تمت فى منامها)[50].
فعلى الرأى الأول يكون فى الكلام تقديم وتأخير ، وعلى الرأيين الآخرين فالكلام على ترتبيه.

وأما السبب الحادى العشر:
وهو احتمال أن يكون الحكم منسوخاً أو محكماً ، فمثاله: اختلافهم حول قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) [51].
قال ابن الجوزى: اختلف المفسرون فى معنى الآية على قولين:
الأول: أنه يقتضى التخيير بين الصوم والإفطار مع الإطعام ؛ لأن معنى الكلام وعلى الذين يطيقونه ولا يصومونه فدية. فعلى هذا يكون الكلام منسوخاً بقوله تعالى:(فمن شهد منكم الشهر فليصمه)[52] وهو منقول عن كثير من السلف.
الثانى: أنه محكم وغير منسوخ وأن فيه إضماراً تقديره: وعلى الذين كانوا يطيقونه أو لايطيقونه - هذا تقدير آخر - فدية. واشير بذلك إلى الشيخ الفانى الذى يعجز عن الصوم والحامل التى تتأذى بالصوم والمرضع. وهو رأى منسوب إلى بعض السلف.[53].
وهذا المثال كما صلح لصورة السبب الذى معنا الآن فإنه يصلح كذلك لصورة السبب الثامن وهو احتمال الإضمار أو الاستقلال.
ومنه أيضاً خلافهم حول قوله تعالى:(وجاهدوا فى الله حق جهاده)[54] على قولين:
الأول: هى منسوخة لأن فعل ما فيه وفاء لحق الله لا يتصور من أحد إذ لا قدرة لأحد على أداء حق الله كما ينبغى ، والناسخ هو قوله تعالى:(لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)[55] أو قوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم)[56]
الثانى: هى محكمة لأن حق الجهاد يكون فى المجاهدة وبذل الإمكان مع صحة المقصد. [57] فعلى هذا تكون الآية محكمة وغير منسوخة.
ومثل ذلك أيضاً قوله تعالى: (اتقوا الله حق تقاته)[58] مع قوله تعالى:(فاتقوا الله ما استطعتم) [59]

وأما السبب الثانى عشر:
وهو اختلاف الرواية فى التفسير عن النبى - صلى الله عليه وسلم - وعن السلف - رضى الله عنهم - فمثاله: ما حكى من خلاف حول تفسير قوله تعالى:(إنما المشركون نجس)[60] ، فقد قيل "نجس" يعنى أنجاس الأبدان ، ولذلك قال الحسن: من صافحهم فليتوضأ.
قال السيوطى فى الدر المنثور: أخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم - "من صافح مشركاً فليتوضأ أو ليغسل كفيه" ، وأخرج ابن مردويه عن هشام بن عروة عن أبيه عن جده قال: "استقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل عليه السلام فناوله يده فأبى أن يتناولها ، فقال: يا جبريل ما منعك أن تأخذ بيدى ؟ فقال: إنك أخذت بيد يهودى فكرهت أن تمس يدى يداً قد مستها يد كافر ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بماء فتوضأ فناوله يده فتناولها" [61]
وقيل: ليست النجاسة هنا نجاسة الأبدان بل هو خبث الطوية وسوء النية ، وليس أخبث ولا أسوء من الشرك الذى انطوت عليه صدورهم وظهر على أعمالهم شئ.
قال ابن الجوزى:
وقيل: إنهم كالأنجاس لتركهم ما يجب عليهم من غسل الجنابة ، وإن لم تكن أبدانهم أنجاساً ، قاله قتادة.
وقيل: إنه لما كان علينا اجتنابهم كما تجتنب الأنجاس ، صاروا بحكم الاجتناب كالأنجاس. وهذا قول الأكثرين ، وهو الصحيح هكذا قال ابن الجوزى.[62]
ويتأيد هذا الرأى بما ورد من أن النبى - صلى الله عليه وسلم - توضأ من مزادة مشرك ولم يغسلها ، واستعار من صفوان دروعاً ولم يغسلها ، وكانت القصاع تختلف من بيوت أزواج النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى الأسارى ولا تغسل ، وكان أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - يطبخون فى أوانى المشركين ولا تغسل.[63].
هذا مثال واضح لاختلاف الروايات عن النبى - صلى الله عليه وسلم - وعن السلف الذى ينتج عنه اختلاف المفسرين .

صور من اختلاف المفسرين لا يعتد بها فى الخلاف
أقول بادىء ذى بدء: ليس كل ما صورته الخلاف مما نلاحظه على أقوال المفسرين يعد خلافاً معتبراً . بل إن كثيراً من هذه الأقوال فى أغلب الأحيان تلتقى فى إطار واحد وما يمكن التقاؤه لا نستطيع أن نعتبره خلافاً معتداً به ، ولذلك أسميناه سابقاً "خلاف التنوع"
يقول الشاطبى رحمه الله: الأقوال إذا أمكن اجتماعها والقول بجميعها من غير إخلال بمقصد القائل فلا يصح نقل الخلاف فيها عنه ……..
فإن نقل الخلاف فى مسألة لا خلاف فيها فى الحقيقة خطأ كما أن نقل الوفاق فى موضع الخلاف لا يصح [64]
هذا هو الأصل الأول لما لا يعتد به من صور الخلاف بين المفسرين وهو ما كان ظاهره الخلاف وليس فى الحقيقة كذلك.
الأصل الثانى - ما كان من الأقوال مخالفاً لمقطوع به فى الشريعة. فهذا لا نعتيره رأياً أصلاً فضلاً عن أن نعتد به فى الخلاف فلا نستطيع مثلاُ أن نعتبر رأى من ينكر البعث مخالفاً لرأى من يؤمن به ويعتقده ، ولا رأى من ينكر الصلاة أو الزكاة أو الصيام أو الحج مخالفاً لرأى من يعتقدها ويقوم بأدائها ويظهر هذا النوع فى تفسير أصحاب المذاهب المنحرفة الذين جرفهم التيار بعيداً عن شاطىء أهل الحق ، فهذا رجل يتلاعب بالحدود الشرعية ويفسر آياتها حسب هواه [65] ، وهذا أخر ينكر معجزات الأنبياء ويتأول الآيات الدالة عليها على غير تأويلها ، وينكر وجود الجن والملائكة وينكر الحدود الشرعية ويفسر الآيات الدالة عليه حسب هواه[66] فهل يكون هذان وأمثالهما كثير فى الماضى والحاضر ممن يعتبر رأيهم فى تفسير القرآن الكريم ؟ كلا وألف كلا
والعجيب أن هذا الأخير قد اختار لتفسيره عنوناً هو وكتابه أبعد ما يكونان منه فقد أسماه "الهداية والعرفان فى تفسير القرآن بالقرآن"
عرض هذا الكتاب على لجنة من علماء الأزهر ، فندت آراءه وجاء فى الحكم على مؤلفه أنه "أفاك خراص، اشتهى أن يعرف فلم ير وسيلة أهون عليه وأوفى بغرضه من الإلحاد فى الدين بتحريف كلام الله عن مواضعه ، ليستفز الكثير من الناس إلى الحديث فى شأنه وترديد سيرته"[67]
ولن نستطرد فى الحديث عن أصحاب هذه الاتجاهات المنحرفة فى تفسير القرآن الكريم أكثر من هذا ، فشأنهم أحقر من أن نعنى بكلامهم ،أو نهتم بأفكارهم ويكفى أن نعرف أنه لا اعتداد بخلافهم.
ونعود إلى الأصل الأول - وهو ما ظاهره الخلاف من أقوال المفسرين وهو فى الحقيقة ليس كذلك.

ولهذه صور عديدة منها:
الصورة الأولى.
أن يذكر فى التفسير عن النبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك شىء أو عن أحد من أصحابه أو غيرهم ويكون ذلك المنقول بعض ما يشمله اللفظ ، ثم يذكر غير ذلك القائل أشياء أخرى مما هو داخل تحت اللفظ المفسر كذلك فينص المفسرون على القولين فيظن أنه خلاف بين المفسرين.
وهذه الصورة هى التى عبر عنها ابن تيمية بقوله:
الصنف الثانى- أى من خلاف التنوع- أن يذكر كل منهم- أى السلف-من الاسم العام بعض أفراده أو أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع على النوع لا على سبيل الحد المطابق للمحدود فى عمومه وخصوصه[68]
وقد مثل له ابن تيمية رحمه الله بخلاف السلف حول تفسير الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات فى قوله تعالى:( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات) (سورة فاطر آية :32)
وقد مضى تقرير هذا المثال فى بداية هذا المبحث .
ومثل له الشاطبى بخلاف المفسرين حول تفسير (المن) فى قوله تعالى (وأنزلنا عليكم المن والسلوى)[69] حيث قال بعضهم المن خبز رقاق ،وقيل : زنجبيل، وقيل: الترنجبين، وقيل: شراب مزجوه بالماء ، وأزيد من أقوال المفسرين عما اقتصر عليه الشاطبى أن بعضهم قال: هو صمغة حلوة وقيل: عسل.
يقول الشاطبى: هذا كله يشمله اللفظ ، لأن الله من به عليهم ولذلك جاء فى الحديث "الكمأة من المن الذى أنزل الله على بنى إسرائيل" [70] فيكون المن جملة نعم ثم ذكر الناس منها آحاداً[71].
ولذلك قال ابن عطية : وقيل "المن" مصدر يعنى به جميع ما منّ الله به مجملاً.[72]
فكل قول من هذه الأقوال هو عبارة عن نوع داخل تحت الإطار العام للفظ وقد ذكر لتعريف المستمع بتناول الآية له وتنبيهه به على نظيره ، حيث إن التعريف بالمثال يقد يسهل أكثر من التعريف بالحد المطابق، والعقل السليم يتفطن للنوع كما يتفطن إذا أشير له إلى رغيف فقيل له : هذا هو الخبز ، هكذا قال ابن تيمية ثم أدخل فى ذلك أيضاً قول المفسرين : هذه الآية نزلت فى كذا- كما يعبر أحياناً فى أسباب النزول وهى عبارة ليست نصاً فى السببية - أو سبب نزول هذه الآية كذا أو نزلت فى فلان يقول ابن تيمية الذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية مختص بأولئك الأعيان دون غيرهم ، فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق.[73].
وهذا الذى قاله ابن تيمية من كون سبب النزول لا يخصص حكم الآية بمن نزلت فيه هو الذى درج عليه جمهور العلماء حيث قرروا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

والحاصل أن قول المفسرين أو أصحاب كتب أسباب النزول:
هذه الآية نزلت فى فلان أو فى قصة كذا ، فهذا الذى نزلت فيه هذه الآية ما هو إلا فرد من عموم أفراد وقعت منهم نفس الواقعة التى نزلت بسببها الآية أو الآيات ، والحكم يعم الجميع ، ولا يعد من الخلاف كذلك تعدد أسباب النزول ما دام لفظ الآية يحتمل الجميع ، فإن كانت الآية أو الآيات قد نزلت عقب هذه الأسباب المتعددة ، حكم بأن ذلك من باب تعدد الأسباب والمنزل واحد ، بمعنى أن تكون الآية أو الآيات قد نزلت بسبب هذه الوقائع جميعها.
ومثال ذلك قوله تعالى:(والذين يرمون أزواجهم ولم يكن معهم شهداء إلا أنفسهم ...)[74] فقد ذكروا حول نزول هذه الآيات أسباباً عديدة[75] وقد نزلت الآيات عقبها جميعاً ، فحكم على هذه الصورة بالحكم المذكور. وإن لم يجز التاريخ الزمنى بين هذه الوقائع المتعددة أو الأسباب المختلفة أن تكون الآية أو الآيات قد نزلت عقبها جميعاً حكم على هذه الصورة بتكرار نزول الآيات ، ومثال ذلك نزول خواتيم سورة النحل (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ………….) فقد جاء فى بعض الأسباب أنها نزلت يوم أحد ، وفى بعضها الآخر أنها نزلت يوم الفتح ، والفارق الزمنى بين أحد والفتح لا يتيح الحكم بأن يكون ذلك من باب تعدد الأسباب والمنزل واحد ، ولذلك حكموا بأن الآيات قد تكرر نزولها مرة يوم أحد وأخرى يوم الفتح.[76].
وحكمة هذا التكرير تعظيم شأن هذه الآيات وتذكير المسلمين بها للعمل بما تأمر به أو تنهى عنه. ولا يغيبن عن البال أن الحكمين المذكورين حول تعدد أسباب النزول إنما هما خاصان بما إذا كانت هذه الأسباب فى درجة واحدة من الصحة ، ولم يمكن الترجيح بينها ، وإلا فإن الصحيح يقدم على الضعيف والراجح يقدم على المرجوح.
وقد كان من الممكن أن نجعل الحديث عن كون تعدد أسباب النزول مما لا يعتد به فى الخلاف بين المفسرين ، كان من الممكن أن نجعله صورة مستقلة لكننا أدرجناه هنا لمناسبته للصورة المذكورة فى الترجمة من جهة كون سبب النزول مثالاً من أمثلة ، وفرداً من أفراد تشملهم الآية أو الآيات ممن يتشابهون مع نفس الشخص الذى نزلت فيه الآيات من جهة كونهم قد وقع لهم ما وقع له.

الصورة الثانية
أن يذكر فى النقل أشياء تتفق فى المعنى مع اختلاف الألفاظ والتعبيرات بينما ترجع فى الواقع إلى معنى واحد ، فينقل ذلك كله على أنه خلاف وهو فى الحقيقة تفسير واحد ، وقد قال فى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية حكاية لهذه الصورة ، وإشارة إلى أنها من خلاف التنوع قال:
- ومما يرجع إلى اختلاف التنوع:- أن يعبر كل واحد - من المفسرين - عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه تدل على معنى فى المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى. وذلك كما قيل فى اسم السيف: الصارم والمهند.
ومثاله أسماء الله الحسنى وأسماء رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأسماء القرآن ، فأسماء الله الحسنى كلها على مسمى واحد ، فليس دعاؤه باسم من أسمائه الحسنى مضاداً لدعائه باسم آخر ، والحاصل: أن كل اسم من أسماء الله تعالى الحسنى يدل على ذاته وعلى ما فى الاسم من صفاته ، ويدل أيضاً على الصفة التى فى الاسم الآخر بطريق اللزوم ، وكذلك أسماء النبى - صلى الله عليه وسلم - مثل محمد وأحمد والماحى والعاقب والحاشر.
وكذلك أسماء القرآن كالفرقان والهدى والشفاء والكتاب[77].
ويمثل لذلك بالخلاف السالف الذكر حول تفسير "الصراط المستقيم" حين فسر مرة بأنه القرآن وأخرى بأنه الإسلام ، وعرفنا أن ذلك خلاف تنوع ؛ لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن ، وقد مثل له الشاطبى بخلاف المفسرين حول تفسير " السلوى" من آية (وأنزلنا عليكم المن والسلوى)[78] ، فقال: بعضهم عنه: هو طير يشبه السمانى ، وقيل: طير حمر صفته كذا ، وقيل: طير بالهند أكبر من العصفور ، فمثل هذا يصح حمله على الموافقة وهو الظاهر فيها.[79].
فهذه الأقوال كلها راجعة إلى مسمى واحد وهو الطير ، ولأجل ذلك فإنه لا يعتبر خلافاً ما دام مرجعه إلى مسمى واحد فإن أسميناه خلافاً فهى تسمية مجازية لأن صورته صورة الخلاف والحقيقة أنه لا خلاف.

الصورة الثالثة:
أن تذكر أقوال متعددة حول تفسير الآية ، بعض هذه الأقوال يتجه إلى تفسير اللغة بمعنى أن يذكر معانى الألفاظ حسب وضعها فى اللغة ، وهو ما يسمى بالمعنى الأصلى للفظ ، وبعضها يتجه إلى التفسير المعنوى يعنى المعنى المستعمل فيه هذا اللفظ.
ومثاله قوله تعالى:(نحن جعلناها تذكرة ومتاعاً للمقوين)[80] فإن القواء هى الأرض القفر ، ولذلك يفسر "المقوين" بالنازلين بالأرض القواء ، نزولاً على أصل معنى اللفظ فى اللغة وفسر كذلك بالمسافرين ؛ لأن هذا اللفظ صار يستعمل بهذا المعنى ، ومثل هذا لا يعد خلافاً فالذين ينزلون الأرض القواء هم المسافرون إليها حيث يقال: أقوى الرجل أى نزل بالأرض القواء ، وكيف ينزلها إلا إذا سافر إليها؟
ومنه أيضاً خلاف المفسرين حول المراد بلفظ "قارعة" فى قوله تعالى:(ولا يزال الذين كفروا تصيبهم قارعة)[81] حيث قال بعضهم: المراد بالقارعة هنا الداهية أو النكبة تفجؤهم ، يقال: قرعه الأمر يعنى أصابه ، وأصل القرع الضرب. وقال بعضهم: بل المراد بالقارعة السرايا والطلائع. والمعنى تصيبهم سرية من سرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم .
فالأولون فسروا اللفظ حسب أصل وضعه ، والآخرون فسروه بمعنى مستعمل فيه ، فالعرب استعملوا المقارعة بمعنى الضرب فى الحرب[82] ، ومثل هذا لا يعد خلافاً ، ولذلك قال الشوكانى بعد أن حكى القولين: ولا يخفى أن القارعة تطلق على ما هو أعم من ذلك.[83].
ويدخل فى ذلك لفظ " الغائط " إذ هو فى الأصل المكان المنخفض ، وقد كانت العرب تقصده لقضاء الحاجة تستراً عن أعين الناس ، ثم سمى الحدث نفسه بهذا الاسم.
فإن قيل: فهل يفهم من ذلك أن اللفظ الذى له حقيقة شرعية صار مستعملاً فيها يجوز أن يفسر فى القرآن بمعناه اللغوى الذى هو أصل وضعه ، كما يجوز أن يفسر بمعناه الشرعى ، ولا يعد ذلك خلافاً؟
والجواب بالنفى المؤكد ، فكلامنا فى الصورة المترجم بها هو عن اللفظ الذى له أصل فى اللغة وضع له – وكل ألفاظ اللغة كذلك – إلا أنه غلب بعد ذلك استعماله فى معنى آخر من جهة اللغة كذلك ، فتفسيره بالمعنى الأصلى لا يتعارض ولا يختلف مع تفسيره بالمعنى الذى استعمل فيه لغة كذلك ، لأنه لابد من علاقة بين المعنى الأصلى والمعنى المستعمل فيه كما هو الحال فى المجاز والاستعارة.
ولعل ما يقرب هذا المفهوم - فيما بدا لى - فكرة التضمين فى اللغة ، إذ إن الاسم أو الفعل الذى دخله التضمين لا يلغى التضمين معناه الأصلى ولكن يضيف إليه معنى جديداً ، فمثلاً قول الله تعالى:(حقيق على ألا أقول على الله إلا الحق)[84] ضمن فيه لفظ "حقيق" معنى حريص ، ولم يلغ مع ذلك المعنى الأصلى للكلمة فصار المعنى: جدير بألا أقول على الله إلا الحق وحريص على ذلك فلن أخل به.[85] وإذا كان هذا هو التضمين فى الاسم فهو فى الفعل كذلك ، اقرأ قول الله تعالى:(عيناً يشرب بها عباد الله)[86] حيث ضمن الفعل "يشرب" معنى "يروى" ولذا عدى بالباء ، ولم يُلغ مع ذلك المعنى الأصلى إذ الرى هو منتهى الشرب ، فجمع الفعل بهذا التضمين بين معنيين لم يلغ أحدهما الآخر ولم يعارضه.
نعود إلى السؤال المطروح والذى أجبت عنه بالنفى:
وتقرير هذا الجواب هو أن اللفظ إذا دار بين الحقيقة اللغوية والحقيقة الشرعية ، فإن التفسير الصحيح هو الذى يحمل اللفظ على حقيقته الشرعية ؛ لأن الشرع قد نقل هذا اللفظ من معناه اللغوى إلى معنى شرعى جديد فوجب التزامه ، وذلك كألفاظ الصلاة والزكاة والوضوء وغيرها ، فلهذه الألفاظ معان فى اللغة واصطلاحات أو حقائق فى الشرع ، وعلى المفسر حينئذٍ تقديم الحقيقة الشرعية لأن القرآن جاء مقرراً للشرع.
هذا ما قرره العلماء ، قال الماوردى: إذا كان أحد المعنيين مستعملاً فى اللغة والآخر مستعملاً فى الشرع ، فيكون حمله على المعنى الشرعى أولى من حمله على المعنى اللغوى لأن الشرع ناقل.[87] لكن إن دل دليل على إرادة الحقيقة اللغوية فالنزوع إليها لازم وذلك كلفظ الصلاة فى قوله سبحانه: ((وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم))[88].
فالمراد هنا أصل المعنى اللغوى للصلاة ، أى: ادع لهم ، والدليل هنا هو حديث عبدالله بن أبى أوفى - فى الصحيح - قال: "كان النبى - صلى الله عليه وسلم إذا أتى بصدقة قوم صلى عليهم فأتاه أبى بصدقته ، فقال: اللهم صل على آل أبى أوفى"[89].
والحاصل أن تقديم الحقيقة الشرعية على اللغوية أثناء تعاملنا مع القرآن الكريم ، وكذلك السنة النبوية لأن القرآن والسنة هما المعبران عن لسان الشرع والشرع هو الذى وضع هذه الاصطلاحات فوجب المضى مع ما اصطلح عليه ، وكما قالوا: لا مشاحة فى الاصطلاح. لكن إذا قام دليل خاص على تقديم اللغوية فى محل معين يلزم كذلك المصير إليه والقول به كما قدمنا.

الصورة الرابعة:
اختلاف المفسر مع نفسه ، بأن يكون قد ذكر رأياً ثم عدل عنه بعد البحث والنظر إلى رأى آخر ، فينقل على أنه خلاف وهو الحقيقة ليس كذلك ؛ لأن المستقر من رأييه هو الأخير فقط تماماً كالنسخ فى الأحكام -أى كصورته.
ومثل هذا يتحقق بكثرة فى أقوال الفقهاء ، فكثيراً ما تقرأ عبارة: هذا الرأى رواية عن أحمد ، أو هو قول الشافعى فى القديم ، أو الجديد . وقد يوجد منه فى التفسير شئ ، ويمثل له بالأقوال الكثيرة المنسوبة إلى ابن عباس - رضى الله عنهما - فإننا نقرأ كثيراً فى تفسير ابن جرير الطبرى فنراه يذكر التأويلين والثلاثة ويذكر تحت كل تأويل رأياً لابن عباس.
أقول: ما كان من هذه الآراء وتلك التأويلات من باب خلاف التنوع قبلناه أجمعه فى الموضع الواحد. وما كان منها من باب خلاف التضاد فلابد من أن يكون أحد الرأيين متأخراً فيحكم بأنه رفع به رأيه المتقدم ، وما يقال فى ابن عباس - رضى الله عنهما - يقال فى غيره ، لكن الذى دعانا إلى اختياره بالذات دون غيره سببان:
أحدهما : كثرة المرويات المروية عن ابن عباس والمختلفة فى مدلولاتها بغض النظر عن كونه خلاف تنوع أو تضاد.
وثانيهما: أن ابن عباس قد ثبت عنه شئ من هذا القبيل :
أ- فقد ورد عنه أنه كان يفسر الربا المحرم المنصوص عليه فى القرآنية والأحاديث النبوية بربا النسيئة ويقول: بجواز ربا الفضل. لكن ثبت أنه رجع عن ذلك[90] ومن ثم فلا يجوز أن ينقل ذلك على أنه خلاف ما دام أنه قد استقر على رأى حرمة ربا الفضل كذلك ، إذ رجوع المفسر أو الفقيه عن رايه السابق هو إلغاء له وإثبات لرأى آخر هو وحده الباقى والذى ينبغى أن ينسب إليه.
ب- ثبت عنه كذلك أنه كان يقول بحل نكاح المتعة ، ويفسر قوله تعالى فى سورة النساء: ((فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن))[91] يفسرها بأنها فى نكاح المتعة وأنه حلال معتمداً فى ذلك على قراءة للآية زائدة على تلك المذكورة حيث فيها : ((وما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى))[92].
ولست هنا فى مقام مناقشة مسألة المتعة ولا مناقشة القراءة المذكورة على أنها حجة من يبيحونها ، فقط يكفيك هنا أن تعلم أنها قراءة ليست موجودة فى القراءات العشر بل غير موجودة فى الأربع التى وراء العشر. لكن ما يعنينا هنا فى هذا المقام أن تعلم أن ابن عباس قد رجع عن ذلك.[93].
فقد روى عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس لقد كثر القول فى المتعة حتى قال فيها الشاعر:
أقول وقد طال الثواء بنا معاً ***يا صاح هل لك فى فتيا ابن عباس
هل لك فى رخصة الأطراف أنسة*** تكون مثواك حى مصدر الناس
فقام ابن عباس من مجلسه وجمع الناس وخطب فيهم: " إن المتعة كالميتة والدم ولحم الخنزير ، فإما إذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها فقد ثبت نسخه"[94]

الصورة الخامسة:
اختلاف القراء فيما ينقلون من روايات لا يعد اختلافاً لأنه لا عمل لهم ولا اجتهاد فى ذلك ، فهم مجرد حلقة فى سلسلة من مجموعة سلاسل عملت على نقل القراءات عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وإذا كان اختلاف القراءات غير معتبر لأن كل واحد من القراء لم يقرأ بما قرأ به وهو ينكر غير قراءته ، بل يقر بإجازته وصحته ، ولم يقع الخلاف بين القراء إلا فى الاختيار فقط مع اتفاقهم على مبدأ قبول الكل لكونه منقولاً ما دام مستوفياً شروط القبول.
أقول إذا كان هذا الاختلاف غير معتبر ، فإن الخلاف الناشئ عنها -أى عن الثابتة منها - غير معتبر كذلك ولسوف يبين لك فيما هو آت تعدد القراءات لم يخل فقط من التناقض والاختلاف بالمعنى المفهوم ، كما لم يكن أيضاً سبباً فى حدوث ذلك بين المفسرين بالمعنى المتبادر إلى الذهن كذلك ، بل كان سبباً فى إثراء التفسير من جهة كون تعدد القراءات يساعد على إيضاح المعنى حين تبين قراءة عن معنى قراءة أخرى ، وكذلك بما تضيفه هذه القراءات من معان جديدة وغير ذلك مما قد ذكر سلفاً من فوائد تعدد القراءات واختلافها ، ومما سوف يأتى إن شاء الله أثناء ذكر صور اختلاف القراءات وضوابط التعامل معها ومع الأقوال التفسيرية الناشئة عنها.
وحاصل هذه الصورة فيما يتعلق بما لا يعتد به من اختلاف المفسرين ، إن اختلاف المفسرين بسبب القراءات غير معتبر ، لكون الاختلاف بين القراءات نفسها غير معتبر ، بل أن لذلك فوائده المذكورة فى مواضعها من هذا البحث.

الصورة السادسة:
أن يذكر أحد المفسرين أقوالاً فى تفسير آية ، هذه الأقوال جميعها يحتملها نص الآية ، ولا دليل لقول واحد منها يبعث على ترجيحه على غيره.
فى هذه الحالة نحمّل الآية جميع هذه الوجوه كتفسير لها ، حيث لا مانع يمنع من ذلك ، ولا مرجح لرأى منها ، ولا نعد ذلك خلافاً ما دام النص القرآنى قد ضم هذه الأقوال المفسرة جميعها بين شاطئيه.
وهذه الصورة موجودة بوفرة فى كتب التفسير ، ونستطيع أن نصور لها هنا مثالاً هو تفسير العلماء لقوله تعالى: ((وللرجال عليهن درجة))[95]. ، نقل ابن عطية فى المحرر الوجيز أقوالاً متعددة فى تفسير الدرجة التى جعلها الله للرجال على النساء.
فنقل عن مجاهد وقتادة ، قالا: ذلك تنبيه على فضل حظه على حظها فى الجهاد والميراث وما أشبهه.
وقال زيد بن أسلم وابنه: ذلك فى الطاعة عليها أن تطيعه وليس عليه أن يطيعها.
وقال عامر الشعبى: ذلك الصداق الذى يعطى الرجل وأنه يلاعن إن قذف وتحد إن قذفت.
وقال ابن عباس: تلك الدرجة إشارة إلى حض الرجال على حسن العشرة والتوسع للنساء فى المال والخلق ، أى أن الأفضل ينبغى أن يتحامل على نفسه ، وهذا قول حسن بارع.
وقال ابن إسحاق: الدرجة الإنفاق وأنه قوام عليها.
وقال ابن زيد: الدرجة ملك العصمة وأن الطلاق بيده ……….
ذكر ابن عطية هذه الأقوال جميعها وكلها صحيحة ولا مانع يمنع من إرادتها كلها ، ولذلك قال ابن عطية بعد ذلك تعليقاً عليها: وإذا تأملت هذه الوجوه التى ذكر المفسرون فإنه يجئ من مجموعها درجة تقتضى التفضيل.[96].
الصورة السابعة:
أن يتفق المفسرون على أصل معنى واحد تدور أقوالهم حوله ، ثم يختلفون فى كيفية دلالة الآية على هذا المعنى كأن يحمل بعضهم دلالة الآية على هذا المعنى بطريق المجاز ، بينما يحمل غيرهم ذلك على الحقيقة.
ومن أمثلة ذلك خلافهم فى تفسير قوله تعالى: ((تخرج الحى من الميت وتخرج الميت من الحى))[97] فقد ذكر المفسرون هنا أقوالاً فى تفسيرها منها ما يلى:
1- قال بعضهم: المعنى تخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ، ودلالة الحى على المؤمن ، والميت على الكافر دلالة مجازية.
2- وقيل: المراد الحياة والموت الحقيقيان ، والمعنى أنه يخرج النطفة من الرجل وهى ميته وهو حى ، ويخرج الرجل منها وهى ميتة ، وينسب هذا الرأى إلى ابن مسعود.
وقيل:بل المراد أنه يخرج الدجاجة وهى حية من البيضة وهى ميتة ، ويخرج البيضة وهى ميتة من الدجاجة وهى حية وينسب هذا الرأى إلى عكرمة.[98].
وعلى كل فالدلالة هنا حقيقية وليست مجازية ، مع اتفاق الرأيين على أصل المعنى وهو قدرة الله عز وجل على إخراج الحى من الميت والميت من الحى.أو أن يكون اللفظ مشتركاً لفظياً فيحمله كل منهم على أحد معنييه ، مع اتفاقهم على ما يدل عليه ويهدف إليه كاختلافهم حول تفسير قوله سبحانه: ((فأصبحت كالصريم))[99].
إذ إن لفظ "الصريم" مشترك بين سواد الليل وبياض النهار ، ولذلك قيل: المعنى أنها - أى الجنة الواردة فى السورة - أصبحت سوداء كالليل لا شئ فيها ، وقيل: بل أصبحت كالنهار بيضاء ولا شئ فيها. فالمقصود هنا شئ واحد وإن شبه بالمتضادين اللذين لا يلتقيان.[100] وذلك لا يعد خلافاً يعتد به لاتفاقهم على المقصود .
الصورة الثامنة:
أن يقع الخلاف فى التأويل وصرف الظاهر عن مقتضاه إلى ما دل عليه الدليل الخارجى ، فإن مقصود كل متأول الصرف عن ظاهر اللفظ إلى وجه يتلاقى مع الدليل الموجب للتأويل وجميع التأويلات فى ذلك سواء فلا خلاف فى المعنى المراد.[101]
ومثال ذلك آيات الصفات ، فإن للعلماء حولها اتجاهين:
أولهما: اتجاه السلف وهو الإيمان بها وتفويض علم حقيقتها إلى الله مع التنزيه المطلق لله عن مشابهة الحوادث. وقد عبر عن هذا الاتجاه أيما تعبير الإمام مالك –رحمه الله- إذ سئل عن معنى قوله سبحانه: ((الرحمن على العرش استوى))[102] فقال: الكيف غير معقول ، والاستواء غير مجهول ، والإقرار به من الإيمان ، والجحود به كفر.
وثانيهما: وهو اتجاه الخلف وهو مذهب أهل التأويل.
وحاصله اللجوء إلى تأويل هذه الصفات بما يليق وجلال الله تعالى ، وقد وازنوا بينها فقيل: مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أحكم. وعلى كل فليس مجالنا هنا مناقشة ذلك ، ولكن فى مجال التمثيل للصورة المذكورة ، ومثالها متوفر فى اتجاه الخلف حول آيات الصفات وذلك أنهم يؤولونها.
ومن ذلك ما ذكروه من تأويلات لقوله تعالى: ((الرحمن على العرش استوى))
فقيل: معناه استولى ، وقيل: بل هو إشارة إلى العلو والرفعة ، وقيل: بل معناه أقبل على خلق العرش…..الخ
فهذا خلاف فى تأويل النص وفى كيفية صرف ظاهره عن أن يكون مراداً ، ومثل ذلك مما لا يعتد به فى الخلاف لكونهم متفقين حول الوجه الذى أوجب التأويل وهو فى هذا المثال امتناع أن يكون سبحانه مشابهاً للحوادث. فقد مضوا جميعاً فى هذا الإطار وإن اختلفت تأويلاتهم .
وبعد ، فهذه صور مما لا يعتد به فى الخلاف وهى موجودة فى كتب التفسير ، وقد يقاس عليها غيرها مما هو فى معناها ، وقد ذكرناها كى يتبين لنا أن كثيراً مما نقرأه فى كتب التفسير على أنه خلاف لا يعتبر كذلك فى الحقيقة.


ــــــــــــــ
** الحواشي السفلية :
(1) الاتقان2/38
(2) الإتقان 2/31
(3) الموافقات للشاطبى -4/122.
(4) سورة الفاتحة : 5.
(5) سورة فاطر : 32
(6) مقدمة فى أصول التفسير - ص 51: 54
(7) المرجع السابق - ص 48: 67
(8) يقصد ابن تيمية بذلك أصحاب المذاهب المنحرفة عن طريق أهل السنة ممن أخضعوا آيات القرآن لمعتقداتهم ومذاهبهم كالمعتزلة والروافض وغيرهم.
(9) مقدمة فى أصول التفسير - ص 84
(10) مقدمة التسهيل -1/12.
(11) التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزى - 1/12.
(12) الموافقات للشاطبى - 4/120.
(13) راجع فى ذلك تفسير التحرير والتنوير - 1/46 وما بعدها بتصرف.
(14) سورة الفاتحة:5
(15) سورة البقرة:255
(16) سورة النحل:102
(17) سورة الفاتحة :4
(18) سورة البقرة : 259
(19) سورة يوسف : 110
(20) سورة إبراهيم : 46
(21) نقلاً عن مناهل العرفان - 1/85, 86 باختصار وتصرف
(22) سورة المطففين:3
(23) أنظر: الدر المصون- 6/490 ، فتح القدير - 5/500.
(24) سورة الأعلى : 6.
(25) أنظر: الدر المصون - 6/510.
(26) سورة طه : 77.
(27) سورة الواقعة : 17.
(28) أنظر: فتح القدير - 5/186 ، والكثبان جمع كثبة وهى: كل مجتمع من طعام أو غيره بعد أن يكون قليلاً.
(29) سورة القلم: 20.
(30) سورة البقرة: 228.
(31) سورة النساء: 54.
(32) سورة المجادلة : 31
(33) سورة المائدة : 89.
(34) سورة النساء:92.
(35) سورة المائدة: 89.
(36) سورة هود: 40.
(37) أنظر: تفسير الطبرى - 12/25.
(38) أنظر: إزالة الإلباس -ص 100 ، فقد ذكرت هناك وجوهاً أربعة لترجيحه.
(39) سورة النجم: 43.
(40) سورة البقرة : 9.
(41) أنظر: أصول التفسير لخالد العك - ص64.
(42) سورة الحجرات: 4.
(43) سورة الحشر: 14.
(44) أنظر: مبحث هل فى القرآن زائد ؟ - ص150 ، 159.
(45) سورة البقرة: 67.
(46) سورة البقرة: 72.
(47) فتح القدير - 1/126.
(48) سورة آل عمران: 85.
(49) سورة النساء: 157 ، 158.
(50) سورة الزمر: 42.
(51) سورة البقرة: 184.
(52) سورة البقرة: 185.
(53) نواسخ القرآن لابن الجوزى - ص65: 69 بتصرف.
(54)سورة الحج: 78.
(55) سورة البقرة: 286.
(56) سورة التغابن: 16
(57) نواسخ القرآن لابن الجوزى - ص196.
(58) سورة آل عمران: 102.
(59) سورة التغابن: 16.
(60) سورة التوبة:28.
(61) الدر المنثور - 3/409.
(62) زاد المسير - 3/316.
(63) محاسن التأويل للقاسمى - 8/163 ، و أنظر: فتح القدير - 2/434.
(64) الموافقات 4/121
(65) نفس المرجع 2/509 وما يعادلها
(66) نفس المرجع 2/509 وما بعدها
(67) التفسير والمفسرون 2/509
(68) مقدمة فى أصول التفسير صـ53
(69) سورة البقرة: 57.
(70) نص الحديث عند البخارى فى كتاب التفسير((الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين)) والرواية التى ذكرها الشاطبى أشار إليها ابن حجر فى الفتح 4/14 مبيناً أنها هى التى أظهرت دخول الحديث فى تفسير آية المن والسلوى وقد قيل فى وجه كون الكمأة مناً: إنها شجرة تنبت من نفسها من استنبات ولا مؤنة.
(71) الموافقات 4/121
(72) المحرر الوجيز 1/148
(73) مقدمة فى أصول التفسيرصـ59
(74) سورة النور : آيات اللعان 6 إلى 9.
(75) أنظر: الدر المنثور - 5/43 وما بعدها ، أسباب النزول للواحدى - ص 326.
(76) أنظر: الدر المنثور - 4/255 ، و أنظر: مناهل العرفان - 1/116 وما بعدها.
(77) مقدمة فى أصول التفسير - ص 48 وما بعدها.
(78) سورة البقرة : 57.
(79) الموافقات - 4/121.
(80) سورة الواقعة : 73.
(81) سورة الرعد: 31.
(82) أنظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووى - 3/88 - القسم الثانى.
(83) أنظر: فتح القدير - 3/104.
(84) سورة الأعراف: 105.
(85) أنظر: تفسير الكشاف - 2/101 ، المنار - 9/38.
(86) سورة الإنسان : 6.
(87) أنظر: تفسير النكت والعيون - 1/38 ، و أنظر فى تقرير هذه القاعدة : البرهان - 2/207 وما بعدها ، والإتقان 2/182 ، والمعتمد فى أصول الفقه -1/17 ، والمستصفى - ص189 ، وإرشاد الفحول - ص411.
(88) سورة التوبة : 103.
(89) البخارى - كتاب الزكاة - باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة.
(90) أنظر: الموافقات - 4/122 ، أضواء البيان - 1/191 وما بعدها.
(91) سورة النساء : 24.
(92) أنظر: الدر المنثور -2/250: 253.
(93) أنظر: الموافقات - 4/122 ، أضواء البيان - 1/253.
(94) أنظر: المغنى - 6/644.
(95) سورة البقرة: 228.
(96) المحرر الوجيز - 1/306.
(97) سورة آل عمران: 27.
(98) أنظر: المحرر الوجيز - 1/918.
(99) سورة القلم : 20.
(100) أنظر: الموافقات - 4/123 ، والمحرر الوجيز - 5/349.
(101) الموافقات للشاطبى - 4/123.
(102) سورة طه: 5