حسام الدين حامد
02-05-2008, 07:29 PM
قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم ( 200 / 2 / د10 ) بشـأن " الاستنساخ البشري "
بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيدنا محمد خاتم النبيين و على آله و صحبه :
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره العاشر بجدة بالمملكة العربية السعودية خلال الفترة من 23 إلى 28 صفر 1418 الموافق 28 يونيو – 3 يوليو 1997 :
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة في موضوع الاستنساخ البشري و الدراسات و البحوث و التوصيات الصادرة عن الندوة الفقهية الطبية التاسعة التي عقدتها المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالتعاون مع المجمع و جهات أخرى ، في الدار البيضاء بالمملكة المغربية في الفترة من 9 – 12 صفر 1418 الموافق 14-17 يونيو 1997 م و استماعه للمناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة الفقهاء و الأطباء انتهى إلى ما يلي :
مقدمة :
لقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم ، و كرمه غاية التكريم فقال عز من قائل (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) [الإسراء : 70] ، زينه بالعقل ، و شرفه بالتكليف و جعله خليفة في الأرض و استعمره فيها ، و أكرمه بحمل رسالته التي تنسجم مع فطرته بل هي الفطرة بعينها لقوله سبحانه (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) [الروم : 30]
و قد حرص الإسلام على الحفاظ على فطرة الإنسان سوية من خلال المحافظة على المقاصد الكلية الخمسة " الدين و النفس و العقل و النسل و المال " و صونها من كل تغيير يفسدها سواء من حيث السبب أو النتيجة ، يدل على ذلك الحديث القدسي الذي رواه مسلم " إني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، و إن الشياطين أتتهم فاجتالتهم عن دينهم " إلى قوله " و أمرَتهم أن يغيروا خلقي " .
و قد علم الله الإنسان ما لم يكن يعلم و أمره بالبحث و النظر و التفكر و التدبر مخاطبًا إياه في آيات عديدة (أَفَلَا يَرَوْنَ ) [الأنبياء : 44] (أَفَلَا يَنظُرُونَ ) [الغاشية : 17] (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ ) [يس : 77] (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) [الرعد : 3] (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) [الرعد : 4] (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ)[الزمر : 21] (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) [العلق : 1].
و الإسلام لا يضع حِجرًا و لا قيدًا على حرية البحث العلمي ، إذ هو من باب استكناه سنة الله في خلقه ، و لكن الإسلام يقضي كذلك بأن لا يترك الباب مفتوحًا بدون ضوابط أمام دخول تطبيقات البحث العلمي إلى الساحة العامة بغير أن تمر على مصفاة الشريعة ، لتمرر المباح و تحجز الحرام ، فلا يسمح بتنفيذ شيء لمجرد أنه قابل للتنفيذ بل لابد أن يكون علمًا نافعًا جالبًا لمصالح العباد و دارئًا لمفاسدهم ، و لابد أن يحافظ هذا العلم على كرامة الإنسان و مكانته و الغاية التي خلقه الله من أجلها ، فلا يتخذ حقلًا للتجريب ، و لا يعتدي على ذاتية الفرد و خصوصيته و تميزه ، و لا يؤدي إلى خلخلة الهيكل الاجتماعي المستقر أو يعصف بأسس القرابات و الأنساب و صلات الأرحام و الهياكل الأسرية المتعارف عليها على مدى التاريخ الإنساني في ظلال شرع الله و على أساس وطيد من أحكامه .
و قد كان مما استجد للناس من علم في هذا العصر ما ضجت به وسائل الإعلام في العالم كله باسم الاستنساخ و كان لابد من بيان حكم الشرع فيه بعد عرض تفاصيله من قبل نخبة من خبراء المسلمين و علمائهم في هذا المجال .
تعريف الاستنساخ :
من المعلوم أن سنة الله في الخلق أن ينشأ المخلوق البشري من اجتماع نطفتين اثنتين تشتمل نواة كل منهما على عدد من الصبغيات " الكروموسومات " يبلغ نصف عدد الصبغيات التي في الخلايا الجسدية للإنسان ، فإذا اتحدت نطفة الأب " الزوج " التي تسمى الحيوان المنوي بنطفة الأم " الزوجة " التي تسمى البويضة تحولتا معًا إلى نطفة أمشاج أو لقيحة تشتمل على حقيبة وراثية كاملة و تمتلك طاقة التكاثر ، فإذا انغرست في رحم الأم تنامت و تكاملت و ولدت مخلوقًا مكتملًا بإذن الله ، و هي في مسيرتها تلك تتضاعف فتصير خليتين متماثلتين فأربعًا فثمانيًا ، ثم تواصل تضاعفها حتى تبلغ مرحلة تبدأ عندها بالتمايز و التخصص .
فإذا انشطرت إحدى خلايا اللقيحة في مرحلة ما قبل التمايز إلى شطرين متماثلين تولد منهما توأمان متماثلان .
و قد أمكن في الحيوان إجراء فصل اصطناعي لأمثال هذه اللقائح فتولدت منها توائم متماثلة ، و لم يبلغ بعد عن حدوث مثل ذلك في الإنسان ، و قد عد ذلك نوعًا من الاستنساخ أو التنسيل لأنه يولد نسخًا أو نسائل متماثلة ، و أطلق عليه اسم الاستنساخ بالتشطير .
و ثمة طريقة أخرى لاستنساخ مخلوق كامل تقوم على أخذ الحقيبة الوراثية الكاملة على شكل نواة من خلية من الخلايا الجسدية و إيداعها في خلية بويضة منزوعة النواة فتتألف بذلك لقيحة تشتمل على حقيبة وراثية كاملة و هي في الوقت نفسه تمتلك طالقة التكاثر ، فإذا غرست في الرحم تنامت و تكاملت و ولدت مخلوقًا مكتملًا بإذن الله ، و هذا النمط من الاستنساخ الذي يعرف باسم " النقل النووي " أو " الإحلال النووي للخلية البويضية " ، و هو الذي يفهم من كلمة الاستنساخ إذا أطلقت و هو الذي حدث في النعجة دوللي ، على أن هذا المخلوق الجديد ليس نسخة طبق الأصل لأن بويضة الأم المنزوعة النواة تظل مشتملة على بقايا نووية في الجزء الذي يحيط بالنواة المنزوعة و لهذه البقايا أثر ملحوظ في تحوير الصفات التي ورثت من الخلية الجسدية ، و لم يبلغ أيضًا عن حدوث ذلك في الإنسان .
فالاستنساخ إذن هو :
توليد كائن حي أو أكثر إما بنقل النواة من خلية جسدية إلى بويضة منزوعة النواة ، و إما بتشطير بويضة مخصبة في مرحلة تسبق تمايز الأنسجة و الأعضاء ، و لا يخفى أن هذه العمليات و أمثالها لا تمثِّل خلقًا أو بعض خلق .
قال الله عز و جل (أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) [الرعد : 16]
و قوله تعالى (أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ ، أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ ، نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ، عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ ) [الواقعة : 58 - 62 ]
و قوله تعالى (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ، الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ ، أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) [يس : 77 - 82]
و قوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) [المؤمنون : 12 – 14 ]
و بناء على ما سبق من البحوث و المناقشات و المبادئ الشرعية التي طرحت على مجلس المجمع ، قرر ما يلي :
أولًا : تحريم الاستنساخ البشري بطريقتيه المذكورتين أو بأي طريقة أخرى تؤدي إلى التكاثر البشري .
ثانيا : إذا حصل تجاوز للحكم الشرعي المبين في الفقرة " أولًا " فإن آثار تلك الحالات تعرض لبيان أحكامها الشرعية .
ثالثًا : تحريم كل الحالات التي يقحم فيها طرف ثالث على العلاقة الزوجية سواء أكان رحمًا أم بويضة أم حيوانًا منويا أم خلية جسدية للاستنساخ .
رابعًا : يجوز شرعًا الأخذ بتقنيات الاستنساخ و الهندسة الوراثية في مجالات الجراثيم و سائر الأحياء الدقيقة و النبات و الحيوان في حدود الضوابط الشرعية بما يحقق المصالح و يدرأ المفاسد .
خامسًا : مناشدة الدول الإسلامية إصدار القوانين و الأنظمة اللازمة لغلق الأبواب المباشرة و غير المباشرة أمام الجهات المحلية أو الأجنبية و المؤسسات البحثية و الخبراء الأجانب للحيلولة دون اتخاذ البلاء الإسلامية ميدانًا لتجارب الاستنساخ البشري و الترويج لها .
سادسًا : المتابعة المشتركة من قِبل كل من مجمع الفقه الإسلامي و المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية لموضوع الاستنساخ و مستجداته العلمية و ضبط مصطلحاته و عقد الندوات و اللقاءات اللازمة لبيان الأحكام الشرعية المتعلقة به .
سابعًا : الدعوة إلى تشكيل لجان متخصصة تضم الخبراء و علماء الشريعة لوضع الضوابط الخلقية في مجال بحوث علم الأحياء " البيولوجيا " لاعتمادهم في الدول الإسلامية .
ثامنُا : الدعوة إلى إنشاء و دعم المعاهد و المؤسسات العلمية التي تقوم بإجراء البحوث في مجال علوم الأحياء " البيولوجيا " و الهندسة الوراثية في غير مجال الاستنساخ البشري ، وفق الضوابط الشرعية ، حتى لا يظل العالم الإسلامي عالة على غيره و تبعًا في هذا المجال .
تاسعًا : تأصيل التعامل مع المستجدات العلمية بنظرة إسلامية ، و دعوة أجهزة الإعلام لاعتماد النظرة الإيمانية في التعامل في هذه القضايا ، و تجنب توظيفها بما يناقض الإسلام ، وتوعية الرأي العام للتثبت قبل اتخاذ أي موقف ، استجابة لقول الله تعالى (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) [النساء : 83] و الله أعلم .
( فتاوى الطب و التداوي ، جمعه : أبو أنس صلاح الدين محمود السعيد ، صفحة 151 فما بعدها )
بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيدنا محمد خاتم النبيين و على آله و صحبه :
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره العاشر بجدة بالمملكة العربية السعودية خلال الفترة من 23 إلى 28 صفر 1418 الموافق 28 يونيو – 3 يوليو 1997 :
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة في موضوع الاستنساخ البشري و الدراسات و البحوث و التوصيات الصادرة عن الندوة الفقهية الطبية التاسعة التي عقدتها المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالتعاون مع المجمع و جهات أخرى ، في الدار البيضاء بالمملكة المغربية في الفترة من 9 – 12 صفر 1418 الموافق 14-17 يونيو 1997 م و استماعه للمناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة الفقهاء و الأطباء انتهى إلى ما يلي :
مقدمة :
لقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم ، و كرمه غاية التكريم فقال عز من قائل (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) [الإسراء : 70] ، زينه بالعقل ، و شرفه بالتكليف و جعله خليفة في الأرض و استعمره فيها ، و أكرمه بحمل رسالته التي تنسجم مع فطرته بل هي الفطرة بعينها لقوله سبحانه (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) [الروم : 30]
و قد حرص الإسلام على الحفاظ على فطرة الإنسان سوية من خلال المحافظة على المقاصد الكلية الخمسة " الدين و النفس و العقل و النسل و المال " و صونها من كل تغيير يفسدها سواء من حيث السبب أو النتيجة ، يدل على ذلك الحديث القدسي الذي رواه مسلم " إني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، و إن الشياطين أتتهم فاجتالتهم عن دينهم " إلى قوله " و أمرَتهم أن يغيروا خلقي " .
و قد علم الله الإنسان ما لم يكن يعلم و أمره بالبحث و النظر و التفكر و التدبر مخاطبًا إياه في آيات عديدة (أَفَلَا يَرَوْنَ ) [الأنبياء : 44] (أَفَلَا يَنظُرُونَ ) [الغاشية : 17] (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ ) [يس : 77] (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) [الرعد : 3] (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) [الرعد : 4] (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ)[الزمر : 21] (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) [العلق : 1].
و الإسلام لا يضع حِجرًا و لا قيدًا على حرية البحث العلمي ، إذ هو من باب استكناه سنة الله في خلقه ، و لكن الإسلام يقضي كذلك بأن لا يترك الباب مفتوحًا بدون ضوابط أمام دخول تطبيقات البحث العلمي إلى الساحة العامة بغير أن تمر على مصفاة الشريعة ، لتمرر المباح و تحجز الحرام ، فلا يسمح بتنفيذ شيء لمجرد أنه قابل للتنفيذ بل لابد أن يكون علمًا نافعًا جالبًا لمصالح العباد و دارئًا لمفاسدهم ، و لابد أن يحافظ هذا العلم على كرامة الإنسان و مكانته و الغاية التي خلقه الله من أجلها ، فلا يتخذ حقلًا للتجريب ، و لا يعتدي على ذاتية الفرد و خصوصيته و تميزه ، و لا يؤدي إلى خلخلة الهيكل الاجتماعي المستقر أو يعصف بأسس القرابات و الأنساب و صلات الأرحام و الهياكل الأسرية المتعارف عليها على مدى التاريخ الإنساني في ظلال شرع الله و على أساس وطيد من أحكامه .
و قد كان مما استجد للناس من علم في هذا العصر ما ضجت به وسائل الإعلام في العالم كله باسم الاستنساخ و كان لابد من بيان حكم الشرع فيه بعد عرض تفاصيله من قبل نخبة من خبراء المسلمين و علمائهم في هذا المجال .
تعريف الاستنساخ :
من المعلوم أن سنة الله في الخلق أن ينشأ المخلوق البشري من اجتماع نطفتين اثنتين تشتمل نواة كل منهما على عدد من الصبغيات " الكروموسومات " يبلغ نصف عدد الصبغيات التي في الخلايا الجسدية للإنسان ، فإذا اتحدت نطفة الأب " الزوج " التي تسمى الحيوان المنوي بنطفة الأم " الزوجة " التي تسمى البويضة تحولتا معًا إلى نطفة أمشاج أو لقيحة تشتمل على حقيبة وراثية كاملة و تمتلك طاقة التكاثر ، فإذا انغرست في رحم الأم تنامت و تكاملت و ولدت مخلوقًا مكتملًا بإذن الله ، و هي في مسيرتها تلك تتضاعف فتصير خليتين متماثلتين فأربعًا فثمانيًا ، ثم تواصل تضاعفها حتى تبلغ مرحلة تبدأ عندها بالتمايز و التخصص .
فإذا انشطرت إحدى خلايا اللقيحة في مرحلة ما قبل التمايز إلى شطرين متماثلين تولد منهما توأمان متماثلان .
و قد أمكن في الحيوان إجراء فصل اصطناعي لأمثال هذه اللقائح فتولدت منها توائم متماثلة ، و لم يبلغ بعد عن حدوث مثل ذلك في الإنسان ، و قد عد ذلك نوعًا من الاستنساخ أو التنسيل لأنه يولد نسخًا أو نسائل متماثلة ، و أطلق عليه اسم الاستنساخ بالتشطير .
و ثمة طريقة أخرى لاستنساخ مخلوق كامل تقوم على أخذ الحقيبة الوراثية الكاملة على شكل نواة من خلية من الخلايا الجسدية و إيداعها في خلية بويضة منزوعة النواة فتتألف بذلك لقيحة تشتمل على حقيبة وراثية كاملة و هي في الوقت نفسه تمتلك طالقة التكاثر ، فإذا غرست في الرحم تنامت و تكاملت و ولدت مخلوقًا مكتملًا بإذن الله ، و هذا النمط من الاستنساخ الذي يعرف باسم " النقل النووي " أو " الإحلال النووي للخلية البويضية " ، و هو الذي يفهم من كلمة الاستنساخ إذا أطلقت و هو الذي حدث في النعجة دوللي ، على أن هذا المخلوق الجديد ليس نسخة طبق الأصل لأن بويضة الأم المنزوعة النواة تظل مشتملة على بقايا نووية في الجزء الذي يحيط بالنواة المنزوعة و لهذه البقايا أثر ملحوظ في تحوير الصفات التي ورثت من الخلية الجسدية ، و لم يبلغ أيضًا عن حدوث ذلك في الإنسان .
فالاستنساخ إذن هو :
توليد كائن حي أو أكثر إما بنقل النواة من خلية جسدية إلى بويضة منزوعة النواة ، و إما بتشطير بويضة مخصبة في مرحلة تسبق تمايز الأنسجة و الأعضاء ، و لا يخفى أن هذه العمليات و أمثالها لا تمثِّل خلقًا أو بعض خلق .
قال الله عز و جل (أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) [الرعد : 16]
و قوله تعالى (أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ ، أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ ، نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ، عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ ) [الواقعة : 58 - 62 ]
و قوله تعالى (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ، الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ ، أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) [يس : 77 - 82]
و قوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) [المؤمنون : 12 – 14 ]
و بناء على ما سبق من البحوث و المناقشات و المبادئ الشرعية التي طرحت على مجلس المجمع ، قرر ما يلي :
أولًا : تحريم الاستنساخ البشري بطريقتيه المذكورتين أو بأي طريقة أخرى تؤدي إلى التكاثر البشري .
ثانيا : إذا حصل تجاوز للحكم الشرعي المبين في الفقرة " أولًا " فإن آثار تلك الحالات تعرض لبيان أحكامها الشرعية .
ثالثًا : تحريم كل الحالات التي يقحم فيها طرف ثالث على العلاقة الزوجية سواء أكان رحمًا أم بويضة أم حيوانًا منويا أم خلية جسدية للاستنساخ .
رابعًا : يجوز شرعًا الأخذ بتقنيات الاستنساخ و الهندسة الوراثية في مجالات الجراثيم و سائر الأحياء الدقيقة و النبات و الحيوان في حدود الضوابط الشرعية بما يحقق المصالح و يدرأ المفاسد .
خامسًا : مناشدة الدول الإسلامية إصدار القوانين و الأنظمة اللازمة لغلق الأبواب المباشرة و غير المباشرة أمام الجهات المحلية أو الأجنبية و المؤسسات البحثية و الخبراء الأجانب للحيلولة دون اتخاذ البلاء الإسلامية ميدانًا لتجارب الاستنساخ البشري و الترويج لها .
سادسًا : المتابعة المشتركة من قِبل كل من مجمع الفقه الإسلامي و المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية لموضوع الاستنساخ و مستجداته العلمية و ضبط مصطلحاته و عقد الندوات و اللقاءات اللازمة لبيان الأحكام الشرعية المتعلقة به .
سابعًا : الدعوة إلى تشكيل لجان متخصصة تضم الخبراء و علماء الشريعة لوضع الضوابط الخلقية في مجال بحوث علم الأحياء " البيولوجيا " لاعتمادهم في الدول الإسلامية .
ثامنُا : الدعوة إلى إنشاء و دعم المعاهد و المؤسسات العلمية التي تقوم بإجراء البحوث في مجال علوم الأحياء " البيولوجيا " و الهندسة الوراثية في غير مجال الاستنساخ البشري ، وفق الضوابط الشرعية ، حتى لا يظل العالم الإسلامي عالة على غيره و تبعًا في هذا المجال .
تاسعًا : تأصيل التعامل مع المستجدات العلمية بنظرة إسلامية ، و دعوة أجهزة الإعلام لاعتماد النظرة الإيمانية في التعامل في هذه القضايا ، و تجنب توظيفها بما يناقض الإسلام ، وتوعية الرأي العام للتثبت قبل اتخاذ أي موقف ، استجابة لقول الله تعالى (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) [النساء : 83] و الله أعلم .
( فتاوى الطب و التداوي ، جمعه : أبو أنس صلاح الدين محمود السعيد ، صفحة 151 فما بعدها )