فريد المرادي
02-06-2008, 09:46 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
’’ رحم الله البحر الذي غاض بعد أن فاض ‘‘
فجعت أمة الإسلام بوفاة معالي الشيخ العلامة المتفنن بكر بن عبد الله أبو زيد ، حيث استوفى أجله عصر يوم الثلاثاء 28 محرم 1429هـ ، و قد بلغ من العمر 64 عاماً ، رحمه الله رحمة واسعة ، و أسكنه فسيح جناته .
قال رسولنا الكريم ـ عليه الصلاة و التسليم ـ : ( أعمار أمتي بين الستين و السبعين ، و أقلهم من يجوز ذلك ) .
و شاء الله ـ جل و علا ـ أن أكون ليلة الثلاثاء ـ و قبل أن أخلد إلى النوم بقليل ـ أراجع أمرا في إحدى رسائل الشيخ القيمة ، فلما قرأت من الغد خبر وفاته ـ رحمه الله ـ على شبكة الإنترنت ، وجدت لفقده من الحزن و الأسف ما لا أجده لفقد قريب ، و تذكرت قول أيوب السختياني ـ رحمه الله ـ : ( إني أخبر بموت الرجل من أهل السنة ؛ فكأني أفقد بعض أعضائي ) ، كيف و الرجل الذي فقدناه جبل في السنة ؟!
قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ : ( إنما الناس بشيوخهم ، فإذا ذهب شيوخهم تودع من العيش ) .
و ليس مثلي من يتحدث عن الشيخ ـ رحمه الله ـ ؛ و عن علمه و فضله و خلقه ، و لكنها نفثات مصدور ، و أحزان قلب مفطور ، و من يكتم داءه يقتله .
و صاحبكم لم يعرف الشيخ إلا من خلال كتبه التي انتشرت في الآفاق انتشار الشمس ، و كفى بها دليلا لمعرفة الرجل ، و أنعم بها ميزانا للعلم و العمل ، و صدق من قال : أبو الإفادة أقوى من أبي الولادة ، ( النظائر ص 283 ) .
و الناظر في كتب الشيخ بكر ـ رحمه الله ـ يجدها قد جمعت إلى القوة العلمية ، و الحجة الشرعية ؛ بلاغة القلم ، و فصاحة الأسلوب ، مع تنوع في الفنون ، و تبحر في العلوم ، قل أن تجد مثله بين علماء عصره أو من يدانيه .
و كتبه ـ رحمه الله ـ قد حوت بديع الفوائد ، و عزيز الشوارد ، مع جمع للأشباه و النظائر ، و ضم لعجيب الطرائف، و غريب اللطائف، و ليس الخبر كالمعاينة .
و أبرز ما تميز به الشيخ ـ رحمه الله ـ في مجال التأليف و التصنيف ؛ تأنيه في طبع كتبه مهما بلغت في الإتقان غايته ، و في الكمال منتهاه ، فتجده يكتب الكتاب و يجعله حبيس أدراجه ، و لا يسارع إلى طبعه و إخراجه ، فلا يزال يمعن فيه النظر ـ مراجعة و تصحيحا ـ ، و يعمل فيه القلم ـ تهذيبا و تنقيحا ـ ، فلا يخرج إلى الوجود إلا و قد صار قرة عين الناظر ، و مرجع الباحث و المحاضر .
قال ـ رحمه الله ـ في مقدمة ( جزئه في زيارة النساء للقبور ) ما نصه : (( هذا الجزء الحديثي الفقهي من أوائل ما كتبت عام 1385هـ ، و قد أنست بإعداده و صياغته ، ثم إنه من فضل الله ـ سبحانه ـ علي ، أن الأنس به لم يدفعني إلى تقديمه للطبع ، و لا تقديم غيره مما جرى إتمامه إلا بعد أن أنهيت جميع مراحل الدراسة النظامية حتى " العالمية العالية " .
و قد كان من خبر هذا الجزء أني لم أطبعه إلا بعد عشرين عاما ـ تقريبا ـ من تأليفه ، و بعد المذاكرة به مع بعض أهل العلم قبل طباعته و في دور كتابته .
و هذه لفتة أدعو إليها كل طالب علم ؛ أن لا يسارع إلى التأليف و النشر و هو في مراحل الطلب ، و إن كتب فلا يدفعه إلى الطبع و النشر إلا بعد إتمام المراحل النظامية ، و يأنس من نفسه التأهل و الرشد لنشر ما كتب ، مع إعادة النظر ، و تركه غُفلا ، و إلحاح في سؤال الله تعالى الخيرة فيما يأتي و يذر ، و إعمال المشورة و عرض ما كتبه على من يثق بدينه و علمه ، و يأنس برأيه ، فإنه لن يعدم خيرا . و الله ـ سبحانه ـ من وراء كل عبد و مقصوده و قصده )) ، ( الأجزاء الحديثية ص 107- 108 ) .
و مما يُذكر هنا ؛ أن هذا الجزء قد نشر منسوبا إلى الشيخ حماد الأنصاري ـ رحمه الله ـ ، مما جعل بعض من ترجم للشيخ يعده ضمن مؤلفاته ، انظر ( المجموع في ترجمة المحدث حماد الأنصاري 1/ 36 ، 98 ، 183 ) ، و ليس الأمر ـ على التحقيق ـ كذلك ، فليصحح .
قال الشيخ بكر حين ذكر مذاكرته أهل العلم بالجزء المذكور : (( و قد كان لفضيلة الشيخ حماد بن محمد الأنصاري ـ أثابه الله ـ فضل على نحو ما ذكرت في مقدمة الطبعة الأولى 1403هـ ، و قد نسخ صورة منه بقلمه في ( مجاميعه ) و مع طول المدة قدمه للنشر في بعض الدوريات بعنوان ( كشف الستور عن حكم زيارة النساء للقبور ) ـ الاسم الذي كنت سميته به أولا ـ ، فلما هاتفته في ذلك أبدى ـ أحسن الله إليه ـ أن ذلك وقع خطأً لعامل السنيان مع طول المدة ، ثم بعث إلي بخطاب ـ لدي ـ يعتذر فيه عن ذلك . و هذا يدل على نبله و فضله ، و وفور علمه و ورعه ، و الأمر عندي سهل ، و الحمد لله رب العالمين )) ، ( المصدر السابق ، حاشية ) .
و كأني بالشيخ بكر يتمثل قول الإمام الشافعي : ( وددت أن الخلق تعلموا هذا العلم على أن لا ينسب إلي حرف منه ) ، رحم الله الجميع .
و لما جرنا القلم إلى ذكر الشيخ المحدث العلامة حماد الأنصاري ، يحسن أن نذكر شيئا من ثنائه على تلميذه الشيخ بكر أبو زيد ـ رحمهما الله تعالى ـ .
قال الشيخ حماد ـ رحمه الله ـ : (( إن الشيخ بكر أبو زيد حريص و مجتهد ، رأيت منه حرصا ما رأيته في أحد ، و كان تلميذي الخاص ، لا يغادر مكتبتي ، و كنت أعرِّفه بالمراجع )) ، ( المجموع في ترجمة المحدث حماد الأنصاري 2 / 676 ) .
و قال أيضا : (( إن الشيخ بكر أبو زيد تعلم على يدي و قد تولى القضاء في المدينة النبوية ، و كان إماما للحرم النبوي ، و كان يكثر الإطلاع في مكتبتي ، و قلمه سيال )) ، ( السابق 2 / 631 ) .
بل كان يخاطبه بـ ( الأستاذ الكبير ) ، و يقول له : لقد أفدتنا كثيرا ، ( السابق 2 / 624 ) .
رحم الله الأستاذ و التلميذ ، و نفع بعلمهم و كتبهم .
و بعد ، فالشيخ الراحل لم يكن لأحد دون أحد ، بل كان كالشمس لجميع الناس ، و فقده لا يحزن قريبا دون بعيد ، و أوفر الناس حظا من الأسى لهذا الخطب هم أعرف الناس بقيمة الفقيد ، و بقيمة الخسارة بفقده للعلم و الإسلام .
فأحسن الله عزاءنا في فقد ذلك البحر الذي غاض ، بعد أن فاض ، ببقاء آثاره في الحياض ، و أنهاره في الرياض ، و إن كانت التعازي تعاليل ، لا تطفىء الغليل ، و لكنها على كل حال تحمل بعض الروح من كبد تتلظى شجنا ، إلى كبد تتفطر حزنا.
واحسرتاه ! رحم الله الفقيد الجليل ، و جزاه عن الإسلام و المسلمين خير الجزاء و أوفاه ، و جعل الجنة مثوانا و مثواه ؛ جزاء ما بث من علم ، و زرع من خير ، و لله ذلك اللسان الجريء ، و ذلك الجنان المشع ، و ذلك الرأي الملهم ، و إنا ـ و الله ـ لفقدك يا شيخنا لمحزونون ، و لا نقول إلا ما يرضي ربنا ، ( آثار الإبراهيمي 2 / 37 بتصرف ) .
و الحمد لله رب العالمين .
فريد المرادي .
الجزائر : 29 محرم 1429هـ .
’’ رحم الله البحر الذي غاض بعد أن فاض ‘‘
فجعت أمة الإسلام بوفاة معالي الشيخ العلامة المتفنن بكر بن عبد الله أبو زيد ، حيث استوفى أجله عصر يوم الثلاثاء 28 محرم 1429هـ ، و قد بلغ من العمر 64 عاماً ، رحمه الله رحمة واسعة ، و أسكنه فسيح جناته .
قال رسولنا الكريم ـ عليه الصلاة و التسليم ـ : ( أعمار أمتي بين الستين و السبعين ، و أقلهم من يجوز ذلك ) .
و شاء الله ـ جل و علا ـ أن أكون ليلة الثلاثاء ـ و قبل أن أخلد إلى النوم بقليل ـ أراجع أمرا في إحدى رسائل الشيخ القيمة ، فلما قرأت من الغد خبر وفاته ـ رحمه الله ـ على شبكة الإنترنت ، وجدت لفقده من الحزن و الأسف ما لا أجده لفقد قريب ، و تذكرت قول أيوب السختياني ـ رحمه الله ـ : ( إني أخبر بموت الرجل من أهل السنة ؛ فكأني أفقد بعض أعضائي ) ، كيف و الرجل الذي فقدناه جبل في السنة ؟!
قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ : ( إنما الناس بشيوخهم ، فإذا ذهب شيوخهم تودع من العيش ) .
و ليس مثلي من يتحدث عن الشيخ ـ رحمه الله ـ ؛ و عن علمه و فضله و خلقه ، و لكنها نفثات مصدور ، و أحزان قلب مفطور ، و من يكتم داءه يقتله .
و صاحبكم لم يعرف الشيخ إلا من خلال كتبه التي انتشرت في الآفاق انتشار الشمس ، و كفى بها دليلا لمعرفة الرجل ، و أنعم بها ميزانا للعلم و العمل ، و صدق من قال : أبو الإفادة أقوى من أبي الولادة ، ( النظائر ص 283 ) .
و الناظر في كتب الشيخ بكر ـ رحمه الله ـ يجدها قد جمعت إلى القوة العلمية ، و الحجة الشرعية ؛ بلاغة القلم ، و فصاحة الأسلوب ، مع تنوع في الفنون ، و تبحر في العلوم ، قل أن تجد مثله بين علماء عصره أو من يدانيه .
و كتبه ـ رحمه الله ـ قد حوت بديع الفوائد ، و عزيز الشوارد ، مع جمع للأشباه و النظائر ، و ضم لعجيب الطرائف، و غريب اللطائف، و ليس الخبر كالمعاينة .
و أبرز ما تميز به الشيخ ـ رحمه الله ـ في مجال التأليف و التصنيف ؛ تأنيه في طبع كتبه مهما بلغت في الإتقان غايته ، و في الكمال منتهاه ، فتجده يكتب الكتاب و يجعله حبيس أدراجه ، و لا يسارع إلى طبعه و إخراجه ، فلا يزال يمعن فيه النظر ـ مراجعة و تصحيحا ـ ، و يعمل فيه القلم ـ تهذيبا و تنقيحا ـ ، فلا يخرج إلى الوجود إلا و قد صار قرة عين الناظر ، و مرجع الباحث و المحاضر .
قال ـ رحمه الله ـ في مقدمة ( جزئه في زيارة النساء للقبور ) ما نصه : (( هذا الجزء الحديثي الفقهي من أوائل ما كتبت عام 1385هـ ، و قد أنست بإعداده و صياغته ، ثم إنه من فضل الله ـ سبحانه ـ علي ، أن الأنس به لم يدفعني إلى تقديمه للطبع ، و لا تقديم غيره مما جرى إتمامه إلا بعد أن أنهيت جميع مراحل الدراسة النظامية حتى " العالمية العالية " .
و قد كان من خبر هذا الجزء أني لم أطبعه إلا بعد عشرين عاما ـ تقريبا ـ من تأليفه ، و بعد المذاكرة به مع بعض أهل العلم قبل طباعته و في دور كتابته .
و هذه لفتة أدعو إليها كل طالب علم ؛ أن لا يسارع إلى التأليف و النشر و هو في مراحل الطلب ، و إن كتب فلا يدفعه إلى الطبع و النشر إلا بعد إتمام المراحل النظامية ، و يأنس من نفسه التأهل و الرشد لنشر ما كتب ، مع إعادة النظر ، و تركه غُفلا ، و إلحاح في سؤال الله تعالى الخيرة فيما يأتي و يذر ، و إعمال المشورة و عرض ما كتبه على من يثق بدينه و علمه ، و يأنس برأيه ، فإنه لن يعدم خيرا . و الله ـ سبحانه ـ من وراء كل عبد و مقصوده و قصده )) ، ( الأجزاء الحديثية ص 107- 108 ) .
و مما يُذكر هنا ؛ أن هذا الجزء قد نشر منسوبا إلى الشيخ حماد الأنصاري ـ رحمه الله ـ ، مما جعل بعض من ترجم للشيخ يعده ضمن مؤلفاته ، انظر ( المجموع في ترجمة المحدث حماد الأنصاري 1/ 36 ، 98 ، 183 ) ، و ليس الأمر ـ على التحقيق ـ كذلك ، فليصحح .
قال الشيخ بكر حين ذكر مذاكرته أهل العلم بالجزء المذكور : (( و قد كان لفضيلة الشيخ حماد بن محمد الأنصاري ـ أثابه الله ـ فضل على نحو ما ذكرت في مقدمة الطبعة الأولى 1403هـ ، و قد نسخ صورة منه بقلمه في ( مجاميعه ) و مع طول المدة قدمه للنشر في بعض الدوريات بعنوان ( كشف الستور عن حكم زيارة النساء للقبور ) ـ الاسم الذي كنت سميته به أولا ـ ، فلما هاتفته في ذلك أبدى ـ أحسن الله إليه ـ أن ذلك وقع خطأً لعامل السنيان مع طول المدة ، ثم بعث إلي بخطاب ـ لدي ـ يعتذر فيه عن ذلك . و هذا يدل على نبله و فضله ، و وفور علمه و ورعه ، و الأمر عندي سهل ، و الحمد لله رب العالمين )) ، ( المصدر السابق ، حاشية ) .
و كأني بالشيخ بكر يتمثل قول الإمام الشافعي : ( وددت أن الخلق تعلموا هذا العلم على أن لا ينسب إلي حرف منه ) ، رحم الله الجميع .
و لما جرنا القلم إلى ذكر الشيخ المحدث العلامة حماد الأنصاري ، يحسن أن نذكر شيئا من ثنائه على تلميذه الشيخ بكر أبو زيد ـ رحمهما الله تعالى ـ .
قال الشيخ حماد ـ رحمه الله ـ : (( إن الشيخ بكر أبو زيد حريص و مجتهد ، رأيت منه حرصا ما رأيته في أحد ، و كان تلميذي الخاص ، لا يغادر مكتبتي ، و كنت أعرِّفه بالمراجع )) ، ( المجموع في ترجمة المحدث حماد الأنصاري 2 / 676 ) .
و قال أيضا : (( إن الشيخ بكر أبو زيد تعلم على يدي و قد تولى القضاء في المدينة النبوية ، و كان إماما للحرم النبوي ، و كان يكثر الإطلاع في مكتبتي ، و قلمه سيال )) ، ( السابق 2 / 631 ) .
بل كان يخاطبه بـ ( الأستاذ الكبير ) ، و يقول له : لقد أفدتنا كثيرا ، ( السابق 2 / 624 ) .
رحم الله الأستاذ و التلميذ ، و نفع بعلمهم و كتبهم .
و بعد ، فالشيخ الراحل لم يكن لأحد دون أحد ، بل كان كالشمس لجميع الناس ، و فقده لا يحزن قريبا دون بعيد ، و أوفر الناس حظا من الأسى لهذا الخطب هم أعرف الناس بقيمة الفقيد ، و بقيمة الخسارة بفقده للعلم و الإسلام .
فأحسن الله عزاءنا في فقد ذلك البحر الذي غاض ، بعد أن فاض ، ببقاء آثاره في الحياض ، و أنهاره في الرياض ، و إن كانت التعازي تعاليل ، لا تطفىء الغليل ، و لكنها على كل حال تحمل بعض الروح من كبد تتلظى شجنا ، إلى كبد تتفطر حزنا.
واحسرتاه ! رحم الله الفقيد الجليل ، و جزاه عن الإسلام و المسلمين خير الجزاء و أوفاه ، و جعل الجنة مثوانا و مثواه ؛ جزاء ما بث من علم ، و زرع من خير ، و لله ذلك اللسان الجريء ، و ذلك الجنان المشع ، و ذلك الرأي الملهم ، و إنا ـ و الله ـ لفقدك يا شيخنا لمحزونون ، و لا نقول إلا ما يرضي ربنا ، ( آثار الإبراهيمي 2 / 37 بتصرف ) .
و الحمد لله رب العالمين .
فريد المرادي .
الجزائر : 29 محرم 1429هـ .