المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : البيان المختصر لحكم التشاؤم بصفر



فريد المرادي
02-09-2008, 07:51 PM
بسم الله الرحمن الرحيم


’’ البيان المختصر لحكم التشاؤم بصفر ‘‘



الحمد لله وحده ، و الصلاة و السلام على من لا نبي بعده ، و على آله و صحبه ، و بعد :


فهذا مقال مختصر، و بحث معتصر في بيان معنى صفر الوارد في الأثر ، و اعتقاد أهل الجاهلية فيه ؛ للعلم و الحذر ، و الله أسأل توفيقه و سداده، وأن ينفع به من شاء من عباده ، إن ربي لسميع الدعاء .


توطئة :


اعلم أيها الأخ الصفي ـ رحمني الله و إياك ـ أن ( الطيرة هي التشاؤم بالطيور أو الأسماء أو الألفاظ أو البقاع أو غيرها فجاء الشارع بالتحذير منها و ذمها و ذم المتطيرين ، و كان ـ صلى الله عليه و سلم ـ يحب الفأل و يكره الطيرة ، لأن الفأل لا يخل بعقيدة الإنسان و لا بعقله ، و ليس فيه تعليق للقلب بغير الله ، بل فيه من المصلحة إدخال النشاط و السرور على القلب ، و تقوية العزائم و الهمم ، و شحذ النفوس للسعي في تحقيق المقاصد النافعة و الغايات الحميدة ، بخلاف النظرة المتشائمة فإنها نظرة متعثرة تخلخل التفكير و تعوق القلب و تقطع النفس و تثبط الهمم و تجلب لصاحبها التواني و الكسل ، فلا غرو أن يأتي الدين الحنيف بذم هذه النظرة القاتمة و محاربة هذا التفكير المظلم ) [1] .


نص الحديث :


عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( لا عدوى ، و لا طيرة ، ولا هامة ، و لا صفر )) .


رواه البخاري (5707) و مسلم (2220) .


قال العلامة محمد العثيمين ـ رحمه الله ـ في ( القول المفيد على كتاب التوحيد ص 361 ) : (( النفي في هذه الأمور الأربعة ليس نفيا للوجود ؛ لأنها موجودة و لكنه نفي للتأثير ، فالمؤثر هو الله ، فما كان منها سببا معلوما ؛ فهو سبب صحيح ، و ما كان منها سببا موهوما ؛ فهو سبب باطل ، و يكون نفيا لتأثيره بنفسه إن كان صحيحا ، و لكونها سببا إن كان باطلا )) اهـ.


و قال معالي الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ ـ حفظه الله ـ في ( التمهيد لشرح كتاب التوحيد ص 339 ) :


(( من المعلوم أن المنفي هنا ليس هو وجود الطيرة ؛ لأن الطيرة موجودة من جهة اعتقاد الناس ، و من جهة استعمالها ، و كذلك العدوى موجودة من جهة الوقوع ، و لهذا قال العلماء : النفي هنا راجع إلى ما تعتقده العرب و يعتقده أهل الجاهلية ؛ لأن ( لا ) هنا نافية للجنس و اسمها مذكور ، و خبرها محذوف لأجل العلم به ، فإن الجاهليين يؤمنون بوجود هذه الأشياء ، و يؤمنون أيضا بتأثيرها ، فالمنفي ليس هو وجودها و إنما هو تأثيرها ، فيكون التقدير هنا : لا عدوى مؤثرة بطبعها و نفسها و إنما تنتقل العدوى بإذن الله ـ جل و علا ـ ، و كان أهل الجاهلية يعتقدون أن العدوى تنتقل بنفسها ، فأبطل الله ذلك الاعتقاد ، فقال ـ عليه الصلاة و السلام ـ : " لا عدوى " ، يعني : مؤثرة بنفسها ، " و لا طيرة " أي : مؤثرة أيضا ، فإن الطيرة شيء وهمي يكون في القلب ، لا أثر له في قضاء الله و قدره ، فحركة السانح ، أو البارح ، أو النطيح ، أو القعيد [2] ، لا أثر لها في حكم الله و في ملكوته ، و في قضائه و قدره ، فخبر ( لا ) النافية للجنس تقديره ( مؤثرة ) أي : لا طيرة مؤثرة ، بل الطيرة شيء وهمي، و كذلك قوله : " و لا هامة و لا صفر .. " إلخ الحديث ، و قد سبق بيان أن خبر ( لا ) النافية للجنس يحذف كثيرا في لغة العرب إذا كان معلوما، كما قال ابن مالك في آخر باب ( لا ) النافية للجنس في الألفية :

و شاع في ذا الباب إسقاط الخبر ** إذا المراد مع سقوطه ظهر )) اهـ.


و نقتصر في هذا المقال على إيضاح معنى قوله ـ عليه الصلاة و السلام ـ : " لا صفر " ، و أقوال أهل العلم في شرحه ، مع بيان الراجح منها ، و من أراد الإطلاع على معاني الألفاظ الأخرى فما عليه إلا الرجوع إلى مضان هذا الموضوع مثل شروح ( كتاب التوحيد ) و غيرها.



أقوال العلماء في معنى " لا صفر " :



اعلم أيها المحب ـ علمني الله و إياك ما لا نعلم ـ أن للعلماء ثلاثة أقوال في معنى قوله ـ صلى الله عليه و سلم ـ : " و لا صفر " ، أقربها إلى الصواب من قال أن المراد به إبطال التشاؤم بشهر صفر [3] نبذا لاعتقاد أهل الجاهلية فيه ، و هذا حماية لجناب التوحيد من دنس الشرك ، فالتشاؤم هو من جنس الطيرة المنهي عنها في هذا الحديث و في غيره من الأحاديث الثابتة .


1- قال الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي ( ت 795 هـ ) ـ رحمه الله ـ في كتابه ( لطائف المعارف ص 74 ط دار ابن حزم ) :


(( و أما قوله ـ صلى الله عليه و سلم ـ : " و لا صفر " ، فاختلف في تفسيره ، فقال كثير من المتقدمين : الصفر داء في البطن يقال إنه دود فيه كبار كالحيات ، وكانوا يعتقدون أنه يعدي فنفى ذلك النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ ، و ممن قال هذا من العلماء : ابن عيينة و الإمام أحمد و غيرهما . و لكن لو كان كذلك لكان داخلا في قوله : " لا عدوى " ، و قد يقال : هو من باب عطف الخاص على العام ، و خصه بالذكر لاشتهاره عندهم بالعدوى .


و قالت طائفة : بل المارد بصفر شهر صفر ، ثم اختلفوا في تفسيره على قولين :


أحدهما : أن المراد نفي ما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النسيء ، فكانوا يحلون المحرم و يحرمون صفر مكانه ، و هذا قول مالك [4] .


و الثاني : أن المراد أن أهل الجاهلية كانوا يستشئمون بصفر و يقولون : إنه شهر مشؤوم، فأبطل النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ ذلك ، و هذا حكاه أبو داود عن محمد بن راشد المكحولي عمن سمعه يقول ذلك [5] .


و لعل هذا القول أشبه الأقوال ، و كثير من الجهال يتشاءم بصفر ، و ربما ينهى عن السفر فيه ، و التشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهي عنها .

و كذلك التشاؤم بالأيام كيوم الأربعاء ، و قد روي أنه : "يوم نحس مستمر " في حديث لا يصح ، بل في المسند عن جابر ـ رضي الله عنه ـ : " أن النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ دعا على الأحزاب يوم الاثنين و الثلاثاء و الأربعاء ، فاستجيب له يوم الأربعاء بين الظهر و العصر " ، قال جابر : فما نزل بي أمر مهم غائظ إلا توخيت ذلك الوقت فدعوت الله فيه فرأيت الإجابة [6] ، أو كما قال. و كذلك تشاؤم أهل الجاهلية بشوال في النكاح فيه خاصة ... )) .


ثم قال ـ رحمه الله ـ ( ص 75- 76 ) :


(( و أما تخصيص الشؤم بزمان دون زمان كشهر صفر أو غيره فغير صحيح ، و إنما الزمان كله خلق الله ـ تعالى ـ ، و فيه تقع أفعال بني آدم ، فكل زمان شغله المؤمن بطاعة الله فهو زمان مبارك عليه ، و كل زمان شغله العبد بمعصية الله فهو مشؤوم عليه ، فالشؤم في الحقيقة هو معصية الله ـ تعالى ـ كما قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : " إذا كان الشؤم في شيء ففيما بين اللحيين " ؛ يعني اللسان ...)) ، ثم أطال ـ رحمه الله ـ في هذا المعنى و الاستدلال له بما ورد عن السلف الصالح ، فانظره فإنه نفيس .


قال الشيخ إبراهيم الحقيل ـ حفظه الله ـ : (( وما ذكره الحافظ ابن رجب ـ رحمه الله تعالى ـ يقع فيه بعض الناس ؛ فيمتنعون عن السفر في صفر ، أو الزواج فيه ، أو الخطبة ، أو إجراء العقد . وبعض التجار لا يمضي فيه صفقة ؛ تشاؤما به . وهذا كله من الطيرة المنهي عنها ، وهو قادح في التوحيد )) .



2- قال العلاّمة الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ( ت 1285هـ ) ـ رحمه الله ـ في كتابه ( فتح المجيد ص 324 ) :


(( قوله : "و لا صفر" بفتح الفاء ، روى أبو عبيدة في غريب الحديث عن رؤبة أنه قال : هي حية تكون في البطن تصيب الماشية و الناس ، و هي أعدى من الجرب عند العرب . و على هذا فالمراد بنفيه ما كانوا يعتقدونه من العدوى ، و ممن قال بهذا سفيان بن عيينة والإمام أحمد و البخاري و ابن جرير .


و قال آخرون : المراد به شهر صفر ، و النفي لما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النسيء و كانوا يحلون المحرم و يحرمون صفر مكانه ، و هو قول مالك .


و روى أبو داود عن محمد بن راشد عمن سمعه يقول : أن أهل الجاهلية يتشاءمون بصفر ، ويقولون إنه شهر مشؤوم ، فأبطل النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ ذلك .


قال ابن رجب : و لعل هذا القول أشبه الأقوال ، و التشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهي عنها ، و كذلك التشاؤم بيوم من الأيام كيوم الأربعاء و تشاؤم أهل الجاهلية بشوال في النكاح فيه خاصة )) اهـ .


3- قال العلاّمة صديق حسن خان القنوجي ( ت 1307هـ ) ـ رحمه الله ـ في كتابه ( الموعظة الحسنة ص 141 ط دار الكتب العلمية ) :


(( قد وقع نفي صفر ، و النهي عن التطير به في أحاديث كثيرة بطرق متعددة ثابتة ، و اختلف أهل العلم في المراد بصفر .


فقيل : هو حية في البطن تعض إذا جاع ، و قيل : دود فيه .


و قيل : هو الشهر المعروف ، زعموا أن فيه تكثر الدواهي و الفتن ، فنفاه الشارع ، و أبطله الإسلام .

و قيل المراد به : النسيء ، و هو تأخير المحرم إلى صفر ، و جعل صفر هو الشهر الحرام ، و بنحوه قال القاضي عياض ، و قيل غير ذلك .

و حاصل الأقوال يرجع إلى ثلاثة : الشهر المعروف ، أو الدود في البطن ، أو النسيء ، و لم أقف على حديث في فضل شهر صفر و لا ذمه )) اهـ .


4- قال العلاّمة المفسر مفتي الديار التونسية محمد الطاهر بن عاشور( ت 1393هـ ) ـ رحمه الله ـ في مقال له نشر في ( المجلة الزيتونية ) [7] بعد مقدمة عن اعتقادات أهل الجاهلية و إبطال الإسلام لها :


(( و من الضلالات التي اعتقدها العرب اعتقاد أن شهر صفر شهر مشؤوم ، وأصل هذا الاعتقاد نشأ من استخراج معنى مما يقارن هذا الشهر من الأحوال في الغالب عندهم و هو ما يكثر فيه من الرزايا بالقتال و القتل ، ذلك أن شهر صفر يقع بعد ثلاثة أشهر حرما نسقا و هي ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم ، و كان العرب يتجنبون القتال و القتل في الأشهر الحرم ؛ لأنها أشهر أمن ، قال الله ـ تعالى ـ : " جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس و الشهر الحرام " الآية . فكانوا يقضون الأشهر الحرم على إحن من تطلب الثارات و الغزوات ، و تشتت حاجتهم في تلك الأشهر ، فإذا جاء صفر بادر كل من في نفسه حنق على عدوه فثاوره ، فيكثر القتل و القتال ، و لذلك قيل : إنه سمي صفرا ؛ لأنهم كانوا يغزون فيه القبائل فيتركون من لقوه صفرا من المتاع و المال ، أي خلواً منهما [8] .


قال الذبياني يحذر قومه من التعرض لبلاد النعمان بن الحارث ملك الشام في شهر صفر:


لقد نهيت بني ذبيان عن أُقر ** و عن تربعهم في كل أصفار


و لذلك كان من يريد العمرة منهم لا يعتمر في صفر إذ لا يأمن على نفسه ، فكان من قواعدهم في العمرة أن يقولوا : " إذا برأ الدبر و عفا الأثر و انسلخ صفر ؛ حلت العمرة لمن اعتمر " على أحد تفسيرين في المراد من صفر و هو التأويل الظاهر . و قيل : أرادوا به شهر المحرم ، و أنه كان في الجاهلية يسمى صفر الأول ، و أن تسميته محرما من اصطلاح الإسلام ، و قد ذهب إلى هذا بعض أئمة اللغة [9] ، و أحسب أنه اشتباه ، لأن تغيير الأسماء في الأمور العامة يدخل على الناس تلبيسا لا يقصده الشارع ، ألا ترى أن رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ لما خطب حجة الوداع فقال : " أي شهر هذا ؟ "، قال الراوي : فسكتنا حتى طننا أنه سيسميه بغير اسمه ، فقال : " أليس ذا الحجة ؟ " ، ثم ذكر في أثناء الخطبة الأشهر الحرم ، فقال : ذو القعدة ، و ذو الحجة ، و المحرم ، و رجب مضر الذي بين جمادى و شعبان . فلو كان اسم المحرم اسما جديدا ؛ لوضحه للحاضرين الواردين من الآفاق القاصية . على أن حادثا مثل هذا لو حدث ؛ لتناقله الناس ، و إنما كانوا يطلقون عليه و صفر لفظ " الصفرين" تغليبا .


فنهى النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ عن التشاؤم بصفر .. )) .


ـ ثم ذكر حديث الباب ، و قال بعد ذلك ـ :


(( و قد اختلف العلماء في المراد من صفر في هذا الحديث ، فقيل : أراد الشهر ، و هو الصحيح وبه قال مالك و أبو عبيدة معمر بن المثنى ، و قيل : أراد مرضا في البطن سمي الصفر ؛ كانت العرب يعتقدونه معديا ، و به قال ابن وهب و مطرف و أبو عبيد القاسم بن سلام ، و فيه بعد ؛ لأن قوله : " لا عدوى " يغني عن قوله : " و لا صفر " .


و على أنه أراد الشهر فقيل : أراد إبطال النسيء ، و قيل : أراد إبطال التشاؤم بشهر صفر ، و هذا الأخير هو الظاهر عندي.


و وجه الدلالة فيه أنه قد علم من استعمال العرب أنه إذا نفي اسم الجنس و لم يذكر الخبر أن يقدر الخبر بما يدل عليه المقام ، فالمعنى هنا : لا صفر مشؤوم ، إذ هذا الوصف هو الوصف الذي يختص به صفر من بين الأشهر ، و هكذا يقدر لكل منفي في هذا الحديث على اختلاف رواياته بما يناسب معتقد أهل الجاهلية فيه .


و سواء كان هذا هو المراد من هذا الحديث أم غيره ؛ فقد اتفق علماء الإسلام على أن اعتقاد نحس هذا الشهر : اعتقاد باطل في نظر الإسلام ، و أنه من بقايا الجاهلية التي أنقذ[نا] الله منها بنعمة الإسلام .


قد أبطل الإسلام عوائد الجاهلية فزالت من عقول جمهور المؤمنين ، و بقيت بقاياها في عقول الجهلة من الأعراب البعداء عن التوغل في تعاليم الإسلام ، فلصقت تلك العقائد بالمسلمين شيئا فشيئاً مع تخييم الجهل بالدين بينهم ، ومنها التشاؤم بشهر صفر ، حتى صار كثير من الناس يتجنب السفر في شهر صفر اقتباسا من حذر الجاهلية السفر فيه خوفا من تعرض الأعداء ، و يتجنبون فيه ابتداء الأعمال خشية أن لا تكون مباركة ، و قد شاع بين المسلمين أن يصفوا شهر صفر بقولهم : صفر الخير ، فلا أدري : هل أرادوا به الرد على من يتشاءم به ، أو أرادوا التفاؤل لتلطيف شره كما يقال للملدوغ : سليم ؟ و أيًّا ما كان فذلك الوصف مؤذن بتأصل عقيدة التشاؤم بهذا الشهر عندهم .


و لأهل تونس حظ عظيم من اعتقاد التشاؤم بصفر ، لاسيما النساء و ضعاف النفوس ، فالنساء يسمينه " ربيب العاشوراء " ليجعلوا له حظا من الحزن فيه و تجنب الأعراس و التنقلات .


و من الناس من يزيد ضغثا على إبالة فيضم إلى عقيدة الجاهلية عقيدة أجهل منها ، و هي اعتقاد أن يوم الأربعاء الأخير من صفر هو أنحس أيام العام ، ومن العجب أنهم ينسبون ذلك إلى الدين الذي أوصاهم بإبطال عقائد الجاهلية ، فتكون هذه النسبة ضلالة مضاعفة ، يستندون إلى حديث موضوع يروى عن ابن عباس أن رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ قال : " آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر " ، و قد نص الأئمة على أن هذا حديث موضوع ، فإذا ضم ذلك إلى التشاؤم بشهر صفر من بين الأشهر ؛ أنتجت هذه المقدمات الباطلة نتيجة مثلها ، و هي أن آخر أربعاء من شهر صفر أشأم أيام العام ، و أهل تونس يسمونها " الأربعاء الكحلاء " أي السوداء، كناية عن نحسها؛ لأن السواد شعار الحزن و المصائب ، عكس البياض [10] .


قال أبو الطيب في الشيب:


أبعِد بعُدت بياضاً لا بياض له ** لأنت أسود في عيني من الظُلَمِ


و هو اعتقاد باطل إذ ليس في الأيام نحس، قال مالك ـ رحمه الله ـ : " الأيام كلها أيام الله ، و إنما يفضل بعض الأيام بعضا بما جعل الله له من الفضل فيما أخبر بذلك رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ " .


و لأجل هذا الاعتقاد الباطل قد اخترع بعض الجهلة المركبين صلاة تصلى صباح يوم الأربعاء الأخير من صفر ، و هي صلاة ذات أربع ركعات متواليات تقرأ في كل ركعة سور من القرآن مكررة متعددة ، و تعاد في كل ركعة ، و يدعى عقب الصلاة بدعاء معين . و هي بدعة و ضلالة إذ لا تُتلقى الصلوات ذوات الهيئات الخاصة إلا من قبل الشرع ، و لم يرد في هذه الصلاة من جهة الشرع أثر قوي و لا ضعيف فهي موضوعة . و ليست من قبيل مطلق النوافل ؛ لأنها غير جارية على صفات الصلوات النوافل ، فليحذر المسلمون من فعلها ، و لاسيما من لهم حظ من العلم ، و نعوذ بالله من علم لا ينفع وهوى متبع )) اهـ.



5- قال الشيخ العلامة الفقيه محمد بن صالح العثيمين ( ت1421هـ ) ـ رحمه الله ـ في كتابه ( القول المفيد ص 361 ) :


(( قوله : " و لا صفر " ؛ قيل إنه شهر صفر ، كانت العرب يتشاءمون به ، و لاسيما في النكاح .


و قيل : إنه داء في البطن يصيب الإبل ، و ينتقل من بعير إلى آخر ؛ و على هذا فيكون عطفه على العدوى من باب عطف الخاص على العام .


وقيل : إنه نهي عن النسيئة ، و كانوا في الجاهلية يُنسئون ، فإذا أرادوا القتال في شهر المحرم استحلوه ، و أخروا الحرمة إلى شهر صفر ، و هذه النسيئة التي ذكرها الله بقوله ـ تعالى ـ : " فيحلوا ما حرم الله " [التوبة:37] ، و هذا القول ضعيف ، و يضعفه أن الحديث في سياق التطير ، و ليس في سياق التغيير .


و الأقرب أن صفر يعني الشهر ، و أن المراد كونه مشؤوما ؛ أي : لا شؤم فيه ، و هو كغيره من الأزمان يقدر فيه الخير ، و يقدر فيه الشر )) .


ثم قال ـ رحمه الله ـ ( ص 361- 362 ) :


(( و قوله : " و لا صفر " فيه ثلاثة أقوال سبقت ، و بيان الراجح منها.


و الأزمنة لا دخل لها في التأثير و في تقدير الله ـ عز وجل ـ ؛ فصفر كغيره من الأزمنة يقدَّر فيه الخير و الشر ، و بعض الناس إذا انتهى من شيء في صفر أرَّخ ذلك و قال : انتهى في صفر الخير ، و هذا من باب مداواة البدعة ببدعة ، و الجهل بالجهل ؛ فهو ليس شهر خير ، و لا شهر شر.


أما شهر رمضان ، و قولنا : إنه شهر خير ؛ فالمراد بالخير العبادة ، و لا شك أنه شهر خير ، و قولهم : رجب المعظم ؛ بناءً على أنه من الأشهر الحرم . و لهذا أنكر بعض السلف على من إذا سمع البومة تنعق قال : خيرا إن شاء الله ، فلا يقال : خير و لا شر ، بل هي تنعق كبقية الطيور )) اهـ.



6- قال الشيخ العلامة المتفنن بكر بن عبد الله أبو زيد ( ت 1429هـ ) ـ رحمه الله ـ في كتابه ( معجم المناهي اللفظية ص339- 340 ) :

(( و في معنى " لا صفر " أقوال ثلاثة :


أنه داء في البطن يعدي ؛ و لهذا فهو من باب عطف الخاص " و لا صفر " على العام " لا عدوى " .


أو أنه نهي عن النَّسَأ ، الذي كانت تعمله العرب في جاهليتها و ذلك حينما يريدون استباحة الأشهر الحرم فإنهم يؤخرونه إلى شهر صفر .


و الثالث : أنه شهر صفر ؛ إذ كانت العرب تتشاءم به . و لهذا نعته بعض بقوله : " صفر الخير " منابذةً لما كانت تعتقده العرب في جاهليتها ...


و بعض يقول : " صفر الخير " تفاؤلاً يرد ما يقع في نفسه من اعتقاد التشاؤم فيه ، و هذه لوثة جاهليةٌ من نفس لم يصقلها التوحيد بنوره )).


ثمَّ قال ـ رحمه الله ـ ( ص658 / فوائد في الألفاظ ) :


(( للعرب مواسم في الشهور و الأيام في بعضها التشاؤم ، وفي بعضها التيامن و التفاؤل بها منها :


شهر صفر وكان لهم فيه نوع تشاؤم ، فكان يلقَّب بشهر صفر الخير ؛ منابذةً للجاهلية في اعتقادها . فكان يتسمَّح في هذا الفظ لمنابذة الاعتقاد و التشاؤم .


و الإسلام محى هذه ، و ثبَّت الاعتقاد و الإيمان ، و محى معالم التعلُّق بغيره )) اهـ.



7- قال معالي الشيخ العلامة صالح آل الشيخ ـ وفقه المولى ـ في إحدى خطبه : (( ذهب أكثر أهل العلم إلى أن معنى قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : " ولا صفر " يعني لا تشاؤم بصفر و هو الشهر المعروف الذي نستقبل أيامه .


ثم لما قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : " لا صفر " ؛ دلنا على إبطال كل ما كانت تعتقده الجاهلية في شهر صفر ، فإنهم كانوا يتشاءمون بصفر و يعتقدون أنه شهر فيه حلول المكاره و حلول المصائب ، فلا يتزوج من أراد الزواج في شهر صفر لاعتقاده أنه لا يوفق ، و من أراد تجارة فإنه لا يمضي صفقته في شهر صفر لاعتقاده أنه لا يربح ، و من أراد التحرك والمضي في شئونه البعيدة عن بلده فإنه لا يذهب في ذلك الشهر لاعتقاده أنه شهر تحصل فيه المكاره و الموبقات ، و لهذا أبطل ـ عليه الصلاة و السلام ـ هذا الاعتقاد الزائف فشهر صفر شهر من أشهر الله ، و زمان من أزمنة الله ؛ لا يحصل الأمر فيه إلا بقضاء الله و قدره ، ولم يختص الله ـ جل و علا ـ هذا الشهر بوقوع مكاره و لا بوقوع مصائب ، بل حصلت في هذا الشهر في تاريخ المسلمين فتوحات كبرى و حصل للمؤمنين فيه مكاسب كبيرة يعلمها من يعلمها ، و لهذا يجب علينا أن ننتبه لهذه الأصول التي مردها إلى الاعتقاد ، فإن التشاؤم بالأزمنة و التشاؤم بالأشهر و ببعض الأيام أمر يبطله الإسلام ، لأننا يجب علينا أن نعتقد الاعتقاد الصحيح المبَّرأ من كل ما كان عليه أهل الجاهلية ، و قد بين ذلك ـ عليه الصلاة و السلام ـ في أحاديث كثيرة ضرورة تخلص القلب من ظن السوء بربه و من الاعتقاد السيئ في الأمكنة أو في الأشهر و الأزمنة ، كما أن بعض الناس يعتقد أن يوم الأربعاء يوم يحصل فيه ما يحصل من السوء ، و ربما صرفهم ذلك عن أن يمضوا في شئونهم .


و لهذا ينبغي علينا أيها المؤمنون أن ننبه إلى هذه الأصول و إلى الاعتقاد الصحيح و أن لا يدخل علينا اعتقادات باطلة و لا تشاؤم بأزمنة و لا بأمكنة ، لأن هذا مخالف لما أمر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ و للاعتقاد الناصع السليم الذي جاء به دين الإسلام )) اهـ عن ( موقع المنبر ) .



8- قال الشيخ الأمين الحاج محمد ـ حفظه الله ـ في مقال له بعنوان ( مرحبا بصفر الخير !! ) : (( بمناسبة حلول صفر الخير [11] ، أحببت أن أحذر إخواني المسلمين من صنيع الجاهليين ، و اعتقاد المشعوذين ، و أوهام المنجمين و الدجالين ، و ادعاءات الكذابين ، و أذكرهم بسلوك المؤمنين الموحدين الموقنين ؛ بأن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم ، و ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم ، عملا بقول الناصح الأمين و الرسول الكريم ، و من قبل قال ربنا ـ سبحانه وتعالى ـ : " قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا " ، و قال في الحديث القدسي : " و اعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، و لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك " ، أو كما قال )) .


ثم ذكر حديث الباب ، و قال : (( ذهب أهل العلم في تفسير ذلك مذاهب ، هي :


‌أ- ذهب كثير منهم إلى أن المراد بصفر هو داء في البطن بسبب دود كبار كالحيات ، و كانوا يعتقدون أنه معدٍ ، و ممن ذهب إلى ذلك سفيان بن عيينة و الإمام أحمد ـ رحمهما الله ـ .


و يرد على ذلك أنه لو كان كذلك لكان داخلا في قوله : " لا عدوى " ، و قد يقال : إنه من باب عطف الخاص على العام .


‌ب- أن المراد بصفر شهر صفر ، الذي يسميه العوام في السودان " الويحيد " ، ثم اختلفوا في تفسيره على قولين :


أحدهما : أن المراد نفي ما كان الجاهليون يفعلونه في النسيء ، فكانوا يحلون المحرم ، و يحرمون صفر مكانه ، و هذا قول مالك ـ رحمه الله ـ .


و الثاني : أن المراد أن الجاهليين كانوا يتشاءمون بصفر ، و يقولون : إنه شهر مشؤوم .


و الذي يترجح لدي أن هذا التفسير هو المراد ؛ لأن الجاهليين كانوا يتشاءمون به ، و لا يزال البعض يتشاءم به إلى يومنا هذا ، بحيث : لا يتزوجون فيه ، و لا يسافرون فيه ، و لا يحاربون فيه .

و قد أبطل الله كل ذلك على لسان رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .


‌ج- الصفر وجع في البطن بسبب الجوع ، و من اجتماع الماء الذي يكون من الاستسقاء )) اهـ عن ( موقع الدين النصيحة ) .



لا تقل : ( صفر الخير )


بعد هذه الجولة العلمية في رحاب أقوال أهل العلم ، والتي ازددنا منها علما و فهما و بصيرة في مسألة مهمة من مسائل التوحيد ، لا يخفى عليك أن مسألة الطيرة و التشاؤم مسألة طويلة الذيل عظيمة النيل ليس هذا موضع بسطها ، فانظرها في شروح ( كتاب التوحيد ) حرصا على تحقيق التوحيد ، و تخليصه من أن تشوبه شائبة من شوائب الشرك ـ عياذا بالله ـ .


و تنبَّه ـ أخي الصفي ـ أنه يتعين علينا اجتناب التعبير بـ: " صفر الخير " ؛ لأن الباطل لا يرد بباطل آخر ، فصفر ـ كما مرَّ معنا ـ كغيره من الشهور لا يقال فيه : صفر الشر و لا صفر الخير ، و من جهة أخرى هو من الفضول في الكلام ، و من التطويل الذي لا طائل تحته ، و لا هو مأثور عن السلف الصالح . و مثله أو قريب منه قولهم : " رجب الأصم " ؛ لأنه لا تُسمع فيه قعقعة السلاح للقتال ، أو " رجب الفرد " ؛ لأنه شهر حرام فرد بين أشهر حلال [12] .


قال الشيخ إبراهيم الحقيل في خطبة له عن ( التشاؤم بصفر ) : (( و ليس من العلاج الصحيح مداواة البدعة ببدعة أخرى ، كما يفعله بعض الناس ردا على التشاؤم بشهر صفر ؛ فإذا أخبر عن شيء حصل في شهر صفر ، قال : حدث في صفر الخير ، أو أرَّخ تاريخا قال : انتهى في صفر الخير ، و نحو ذلك ؛ فإن شهر صفر لا يوصف لا بالخير و لا بالشر فهو ظرف لما يقع فيه ، و ليس له تأثير فيما يقع فيه سواء كان خيرا أم شرا ؛ و لهذا أنكر بعض السلف على من إذا سمع البومة تنعق قال : خيرا إن شاء الله ، فلا يقال : خير و لا شر، بل هي تنعق كبقية الطيور )) اهـ عن ( موقع الألوكة ) .


و في الأخير تذكر ـ أخي المحب ـ أن ( التشاؤم و التطير من الصفات الذميمة ، و الأخلاق اللئيمة ، و لا يصدر إلا من النفوس المستكينة ، لمنافاة ذلك للتوكل و اليقين ، فهو من سمات الكسالى و البطالين ، و لهذا نهى الإسلام أتباعه عن التشاؤم و التطير ، و كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحب التفاؤل لما يبعثه في النفس من الأمل و الاطمئنان ، و يكره التشاؤم لما يحدثه في النفس من الاستكانة ، و الضعف و العجز و الهوان ) [13] .


هذا و الله أعلى و أعلم، و صلى الله على نبينا محمد و على آله و صحبه و سلم، و الحمد لله رب العالمين .


فريد المرادي .


الجزائر ـ حرسها الله ـ : ضحى السبت 30 من شهر صفر 1426هـ.


تمت مراجعة هذه المقالة ، و إضافة بعض الزيادات على عجالة : عصر يوم السبت 2 صفر 1429هـ .


الهوامش :


[1] ( الفوائد المنثورة ص28-29 ) للشيخ الدكتور عبد الرزاق العباد ـ حفظه الله ـ .


[2] السانح : هو ما تيامن من الطير عند الزجر ، و البارح : هو ما تياسر ، و الناطح ( أو النطيح ) : هو ما استقبل المرء و جاء من قدَّامه ، و القعيد : هو ما جاء من خلفه .


[3] قال العلامة اللغوي الفيروز آبادي في ( القاموس المحيط ص 450 ط دار الكتب العليمة ) : (( و الصفر ، بالتحريك : داء في البطن يصفر الوجه ، و تأخير المحرم إلى صفر ، و منه : " لا صفر " ، أو من الأول لزعمهم أنه يعدي )) ، و لم يذكر ـ رحمه الله ـ القول الثالث .


[4] راجع ـ زيادة في العلم ـ كتب التفسير عند قول الله ـ تعالى ـ : " إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا " الآية [التوبة :37] .


[5] ( سنن أبي داود 3915 ) .


[6] ( صحيح الأدب المفرد 542 ) .


[7] ( الجزء 5 ، المجلد 1 ، شهر صفر عام 1356هـ ، ص381-385 ) ، بواسطة ( معجم المناهي اللفظية ص 342-346 ) .


[8] و قيل: سمي بذلك لإصفار مكة من أهلها ؛ أي خلوها من أهلها إذا سافروا فيه .


[9] منهم الفيروز آبادي ؛ حيث قال في ( القاموس المحيط ص 450 ) : (( الصفران : شهران من السنة ، سمي أحدهما في الإسلام المحرم )) .


[10] انظر للفائدة ( السنن و المبتدعات ص 159 ط دار الآثار ) للشيخ محمد الشقيري ـ رحمه الله ـ .


[11] مر في كلام الشيخ ابن عاشور و الشيخ العثيمين و الشيخ بكر أبو زيد ـ رحمهم الله ـ أن الواجب اجتناب مثل هذا التعبير لما فيه من المحاذير ، فتنبه ! .


[12] انظر ( معجم المناهي اللفظية ص 281 ) .


[13] من كلام الأستاذ الأمين الحاج محمد في مقاله المذكور .

فريد المرادي
01-22-2009, 04:38 PM
يرفع للفائدة ...

ملف مفيد عن شهر صفر :

http://saaid.net/mktarat/12/2.htm

فريد المرادي
02-04-2009, 01:30 PM
ملخص المقال هنا :

http://merathdz.com/play.php?catsmktba=2036

فريد المرادي
02-12-2009, 02:43 PM
تحريم التشاؤم بشهر صفر وغيره


خطبة لمعالي الشيخ/ د. صالح بن فوزان الفوزان


http://www.alfawzan.ws/AlFawzan/MyNe...454&new_id=145

ناصر الشريعة
02-12-2009, 04:25 PM
جزاك الله خيرا وبارك فيك.

ما أكثرَ فوائدك! وما أجملَ عوائدك!

زادك الله من فضله وإحسانه في الدنيا والآخرة.

فريد المرادي
02-17-2009, 12:24 PM
الشيخ الكريم ناصر الشريعة : بارك الله فيكم على حسن ظنكم وجميل دعائكم ، ولكم بمثله وأكثر ...

فريد المرادي
01-22-2010, 08:21 PM
للفائدة ،،،