المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : خرق العادة : فعل الرب تعالى ، لا تصل إليه قدرة العبد .



حسام الدين حامد
02-03-2005, 01:17 AM
قال تعالي " فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ "

قال شيخ الإسلام رحمه الله في التفسير " فى قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ‏}‏ الآية ‏[‏الأنفال‏:‏ 17‏]‏ ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه مبنى على أن الفعل المتولد ليس من فعل الآدمى، بل من فعل الله، والقتل هو الإزهاق، وذاك متولد، وهذا قد يقوله من ينفى التولد وهو ضعيف؛ لأنه نفى الرمى أيضًا، وهو فعل مباشر؛ ولأنه قال‏:‏ ‏{‏فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 93‏]‏، فأثبت القتل؛ ولأن القتل هو الفعل الصالح للإزهاق، ليس هو الزهوق، بخلاف الإماتة‏.‏

الثانى‏:‏ أنه مبنى على خلق الأفعال، وهذا قد يقوله كثير من الصوفية، وأظنه مأثورًا عن الجنيد سلب العبد الفعل، نظرًا إلى الحقيقة؛ لأن الله هو خالق كل صانع وصنعته ، وهذا ضعيف لوجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ إنا وإن قلنا بخلق الفعل فالعبد لا يسلبه، بل يضاف / الفعل إليه ـ أيضًا ـ فلا يقال‏:‏ ما آمنت ولا صليت، ولا صمت، ولا صدقت، ولا علمت، فإن هذا مكابرة؛ إذ أقل أحواله الاتصاف وهو ثابت‏.‏

وأيضًا، فإن هذا لم يأت فى شىء من الأفعال المأمور بها إلا فى القتل والرمى ببدر، ولو كان هذا لعموم خلق الله أفعال العباد لم يختص ببدر‏.‏

الثالث‏:‏ أن الله ـ سبحانه ـ خرق العادة فى ذلك، فصارت رؤوس المشركين تطير قبل وصول السلاح إليها بالإشارة، وصارت الجريدة تصير سيفًا يُقْتَل به‏.‏

وكذلك رمية رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابت من لم يكن فى قدرته أن يصيبه، فكان ما وجد من القتل وإصابة الرمية خارجًا عن قدرتهم المعهودة، فسلبوه لانتفاء قدرتهم عليه، وهذا أصح، وبه يصح الجمع بين النفى والإثبات ‏{‏وَمَا رَمَيْتَ‏}‏ أى ما أصبت ‏{‏إِذْ رَمَيْتَ‏}‏ إذ طرحت ‏{‏وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 17‏]‏، أصاب‏.‏

وهكذا، كل ما فعله الله من الأفعال الخارجة عن القدرة المعتادة، بسبب ضعيف، كإنباع الماء وغيره من خوارق العادات، أو الأمور الخارجة عن قدرة الفاعل، وهذا ظاهر، فلا حجة فيه لا على الجبر ولا على نفى التولد‏.‏ )

قال ابن القيم رحمه الله في الزاد " فالمراد به القبضة من الحصباء التي رمي بها وجوه المشركين فوصلت إلي جميعهم ، فأثبت الله سبحانه له الرمي باعتبار النبذ و الإلقاء فإنه فعله ، و نفاه عنه باعتبار الإيصال إلي جميع المشركين ، و هذا فعل الرب تعالي ، لا تصل إليه قدرة العبد "

قلتُ : فلو كانت قوة أحد من العبيد تصل إلي خرق العادة لكان النبي صلي الله عليه و سلم أولي الناس بذلك .

نقل الشيخ عبد الرحمن حسن آل الشيخ رحمه الله في كتابه " فتح المجيد شرح كتاب التوحيد " كلام الشيخ صنع الله الحنفي رحمه الله و هو :

{ فَأَما قَولُهُم : إِن للأَولِيَاءِ تَصَرفَاتٍ فِي حَيَاتِهِم وَ بَعدَ المَمَاتِ .

فَيَرُدهُ قوله تعالي ( أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ ) ( أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ) ( وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) و نحوها من الآيات الدالة علي أنه المتفرد بالخلق و التدبير ، و التصرف و التقدير ، و لا شيء لغيره في شيءٍ ما بوجه من الوجوه ، فالكل تحت ملكه و قهره تصرفًا و ملكًا ، و إحياء و إماتة و خلقًا ، و تمدح الرب تبارك و تعالي بانفراده بملكه في آيات من كتابه كقوله ( هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ) ( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ) و ذكر آياتٍ في هذا المعني .

ثم قال : فقوله في الآيات كلها ( مِن دُونِهِ ) أي من غيره ، فإنه عام يدخل فيه من اعتقدته من ولي أو شيطان تستمده ، فإن من لم يقدر علي نصر نفسه كيف يمد غيره ؟

إلي أن قال : إن هَذَا لقَولٌ وَخِيمٌ وَ شِركٌ عَظِيمٌ .

إلي أن قال : وَ أَما القَولُ بِالتصَرفِ بَعدَ المَمَاتِ .

فهو أشنع و أبدع من القول بالتصرف في الحياة ..

قال جل ذكره ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ) ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ) ( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) .

و في الحديث ( إِذَا مَاتَ ابنُ آدَمَ انقَطَعَ عَمَلُهَ إِلا مِن ثَلَاثٍ - الحديث ) .

فجميع ذلك و ما هو نحوه دال علي انقطاع الحس و الحركة عن الميت ، و أن أرواحهم ممسكة و أن أعمالهم منقطعة عن زيادة و نقصان ، فدل ذلك علي أنه ليس للميت تصرفٌ في ذاته فضلًا عن غيره ، فإذا عجز عن حركة نفسه ، فكيف يتصرف في غيره ؟

فالله سبحانه يخبر أن الأرواح عنده ، و هؤلاء الملحدون يقولون : إن الأرواح مطلقة مصرفة ( قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ ) .

و قال : وَ أَما اعتِقَادُهُم أَن هَذِهِ التصَرفَاتِ لَهُم مِنَ الكَرَامَاتِ .

فهو من المغالطة ، لأن الكرامة شيءٌ من عند الله يكرم به أولياءه ، لا قصد لهم فيه ، و لا تحدي و لا قدرة و لا علم كما في قصة مريم بنت عمران و أسيد بن حضير و أبي مسلم الخولاني } ( فتح المجيد شرح كتاب التوحيد " راجع حواشيه و صححها و علق عليها : العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله ": 141 - 142 )

و قال الشيخ عبد الرحمن المعلمي رحمه الله في كلام له عن خرق العادة و المواطن التي يحتج بها :

( الثاني : حيث تكون من المأخذ السلفي الثاني ، كأن يتواتر عن النبي صلي الله عليه و سلم في الدين ، و وجه الاحتجاج هنا أن الخرق إنما يكون بفعل الله عز و جل ) { القائد إلي تصحيح العقائد بتحقيق الألباني رحمه الله : 51 } .

يقول الشيخ عبد الله القرني حفظه الله :

( خلق الله المخلوقات علي مقتضي أسباب و سنن جارية ، قدرها الله تعالي و هو في ذلك خالق نتائجها ، لا تستقل تلك الأسباب بإيجاد نتائجها ، و علي هذا فاعتبار استقلالية السنن بإيجاد الموجودات شرك في التوحيد ......................... و من ذلك - أي خرق العادة - الآيات التي يؤيد الله بها رسلها التي تكون مخالفة للسنن الجارية بحيث لا تكون مجرد استطاعتهم كافية في فعلها ، و علي هذا فإن تلك الآيات و المعجزات و الكرامات لا تنسب إلي من فعلها من الأنبياء و غيرهم إلا من جهة أنها معجزات أو كرامات لا علي أنها أفعالهم هم ) { ضوابط التكفير : 151 } .

تأثير العبد في الكرامة :

يقول أبو القاسم القشيري رحمه الله و هو ممن نظَّروا للتصوف و نظَموا قواعده :

( و اعلم أنه ليس للولي مساكنة إلي الكرامة التي تظهر عليه ، و لا له ملاحظة ، فربما يكون لهم ظهور جنسها قوة يقين و زيادة بصيرة لتحققهم أن ذلك فعل الله ) { الرسالة القشيرية : 529 } .

فهل العبد هو الفاعل الحقيقي فيما يحدث له بمقتضي الأسباب بعد أن ظهر أنه ليس كذلك في خرق العادة ؟

قال شيخ الإسلام " و العباد فاعلون حقيقة و الله خالق أفعالهم "

و قال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله في الشرح ( فقول الشيخ رحمه الله " و العباد فاعلون حقيقة " رد علي الطائفة الأولي و هم الجبرية ، لأنهم يقولون إن العباد ليسوا فاعلين حقيقة ، و إسناد الأفعال إليهم من باب المجاز ) { شرح الواسطية : 176 }

فلماذا لا يعد هذا من الشرك حيث نثبت فاعلًا مع الله ؟!!

قال صاحب النظامية رحمه الله :

( لما أضفنا فعل العبد إلي تقدير الإله سبحانه ، قلنا : أحدث الله القدرة في العبد علي أقدار أحاط بها علمه ، و هيأ أسباب الفعل ، و سلب العبد العلم بالتفاصيل ، و أراد من العبد أن يفعل فأحدث فيه دواعي مستحثة و خيرة و إرادة ، و علم أن الأفعال ستقع علي قدر معلوم فوقعت بالقدرة التي اخترعها العبد علي ما علم و أراد ، فاختيارهم و اتصافهم بالاقتدار و القدرة خلق الله ابتداءً ، و مقدورها مضاف إليه مشيئة و علمًا و قضاءً و خلقًا ، من حيث أنه نتيجة ما انفرد بخلقه و هو القدرة ، و لو لم يرد وقوع مقدورها لما أقدره عليه و لما هيأ أسباب وقوعه .

و نحن نضرب في ذلك مثلًا شرعيا يستروح إليه الناظر في ذلك فنقول : العبد لا يملك أن يتصرف في مال سيده ، و لو استبد بالتصرف فيه لم ينفذ تصرفه ، فإذا أذن له في بيع ماله فباعه نفذ ، و البيع في التحقيق معزو إلي السيد من حيث أن سببه إذنه ، و لولا إذنه لم ينفذ التصرف ، و لكن العبد يؤمر بالتصرف و ينهي و يوبخ علي المخالفة و يعاقب .

فهذا والله الحق الذي لا غطاء دونه و لا مراء فيه لمن وعاه حق وعيه . ) { شفاء العليل في مسائل القضاء و القدر : 254 ، 255 } .

قال ابن القيم رحمه الله بعد نقل هذا الكلام ( كانت قدرة العبد و اختياره مؤثرة في إيجاد الفعل عنده بإقدار الرب سبحانه ، و قد أصاب في هذا و أجاد ) { السابق : 258 } .

سبحانك اللهم و بحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك و أتوب إليك .