المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : " أَلْـبِـشْـبِـيشِـي ".. أزمة حوار .. بين التخصص والجهل المركب .. !!



حازم
02-23-2008, 09:48 AM
بقلم : الازهرى

" أَلْـبِـشْـبِـيشِـي ".. أزمة حوار .. بين التخصص والجهل المركب .. !!


أعرف أنه أغرب عنوان كتبته في حياتي لموضوع أطرحه .. لكن ما حيلتي والموضوع بالفعل غريب جدا , وغرابته تكمن في أنه لا بد من وقوعه , مهما حاولنا علاج أعراض المرض المتغلغل فيه .. !!
ودعوني أدخل إلى الموضوع مباشرة بدون ثرثرة زائدة , وعلى طريقة محمد صبحي في شخصية عم أيوب ( إوحُوا بقَى يا كَمَاحَة ) ..
كان الطالب ( أَلْبِشْبِيشِي ) يقاسي الأَمَرّين عندما يشرح لأساتذته سبب كتابة همزة القطع في اسمه , الذي كان ينبغي أن يكون (البشبيشي) بدون تلك الهمزة. (أتمنى أن يعرّفني أحد الأفاضل ما هما هذان الأمرّان اللذان ينغصان على كل الناس , فانا إلى الآن لم أتشرف بمعرفة شخصيهما الكريمين , وإن كنت قاسيتهما كثرا كبقية الناس) ..
كان سبب مأساة ( ألبشبيشي ) هو ما وقع عند ولادته من الأحداث , تعالوا نعرف ماذا حدث ..
توجه الأستاذ محمد الأَصْمَعِيّ - مدرس اللغة العربية - إلى مكتب السِّجِلِّ المَدَنِيِّ , ليسجل طفله الجديد في سجلات مواليد مصر المحروسة ..
وإذا به يجد السيد الموظف المحترم كاتب شهادات الميلاد يستقبله بوجه يشكو منه العُبوس , ويسأله سؤال البخيل العنيد لمسكينٍ جاء يطلب منه صدقة , قائلا:
- نعم ؟
- نظر إليه الأستاذ الأصمعي متعجبا من نظرته المستفزة , ومحاولا أن يجبر قسمات وجهه على الابتسام , قائلا: أريد تقييد ابني في سجلات المواليد ..
- لم يفارق الإحساسُ بالقرف نظرةَ الموظف , الذي أجاب على الفور: أدري أنك تريد تسجيل مولودك , لم تأت بجديد , هذا فقط ما تريد؟ !!!!!
- مما زاد تعجب الأستاذ محمد الأصمعي وجعل مُقْلَتَيْه تشتبكان - احْوِلاَلاً (والأصح حَوَلاً وحَوَلاناً , لكن المقام يقتضي ذلك على ما سترون ) - من عدم فهمه لمدلول عبارات الموظف .. فقال له: ألم تسألني يا سيدي أول دخولي عليك وقد قلت لي مُسْتَفْهِماً (نعم؟) ؟ , فها أنا قد رددتُ على سؤالك أني أريد تقييد ابني في سجل المواليد .. وأظن هذا مكانَ تسجيل المواليد , فسؤالك هو الغريب وليست إجابتي .. إذْ كيف تستفهِم عن الشيء المتوقّع المعهود المعروف المتبادر إلى الذهن , وكيف تتوقع مني أن أريد غير هذا الأمر؟
- فتح الموظف فاه كالمعتوه , وانفجر بركان من الغباء عَبْرَ نظرته إلى الأستاذ الأصمعي قائلا: هاه؟ , ماذا قلت؟ , ما معنى كل ما تقوله هذا؟
- مما جعل الأستاذ الأصمعي يردد في نفسه (يبدو أني قد أوقعت نفسي في ورطة محاورة رجل لا يفهم شيئا ولم يدرس اللغة العربية في حياته) , فأراد أن يتدارك الموقف وقال سريعا: أرجوك يا سيدي , أنا لا وقت لدي , فقط قم بتقييد ابني في السجلات حتى أنصرف لشؤوني , واعتبرني لم أقل شيئا , فهذه بعض المباحث الدقيقة في اللغة العربية ولا تشغل بالك بها , فليس فيها كبير فائدة !!
- انتفض الموظف واستشاط غضبا , وأخذ يَتَقَصَّعُ وصوته يعصف كالرعد (لا أدري كيف يجتمع التقصع مع الصوت العاصف , لكن مع مثل هذا الموظف كل شيء ممكن , ولا عزاء للقواعد ولا الثوابت ولا القَطْعِيَّات ) : هكذا؟ !! .. تتكلم معي وتريدني أن أتجاهل ردك عليّ , وتظن نفسك عالما باللغة العربية .. لعلمك , لقد كنتُ أول زملائي في الإعدادية , ولولا أن أبي أخرجني من المدرسة لتسلُّمِ الوظيفة لكنتُ الآن أكثر ((( عروبةً !!))) من أبي الأسود الدُّقَلِيّ الذي وضع علم النحو .. وقد اجتهدتُ وعلمت نفسي أفضل مما يتعلم أبناء المدارس المتحذلقون , حتى لا يدخل عليَّ أحدهم ليستعرض أمامي قدراته العلمية !!
( طبعا لا علاقة للعروبة ولا العُجْمة بما يتحدثان فيه , لكن الجهل يفعل أكثر من ذلك عندما يفتقد الإنسان التخصص وتحتوي ضلوعه على المكابرة والتعالُم والتفلسف )
- ارتعدت مفاصل الأستاذ الأصمعي وهو يسمع كلامه , فقال له: تقول لكنتَ أكثر عروبة مِمّن؟.
- فرد عليه الموظف وهو يتخيل أن قرعات طبول قلبه يسمعها الثقلان , خوفا من أن يكون قد أخطأ في جملة أو لفظ وانكشف جهله , فيظهر أمام الرجل بحجمه الحقيقي .. قال: أبو الأسود الدُّقَلِيّ.
- التقى حاجبا الأستاذ الأصمعي وكاد الدخان يخرج من أذنيه غيظا وكمدا من هذا الجاهل , فقال له: اسمه أبو الأسود الدُّؤَلِيّ بالهمزة على الواو , وليس الدقلي بالقاف.
- ضحك الموظف من فرط جهل الأستاذ الأصمعي (في ظنه طبعا) واطمأن إلى أنه لم يخطئ , فقال ونبرة السخرية بادية في كلامه: هذا على مذهبكم يا أهل القاهرة؟ حيث تنطقون القاف الفصيحة همزة بلهجتكم العامية !!
- أوشك الأستاذ الأصمعي في هذه اللحظة على البكاء وهو يقول مستنكِرا: ما شاء الله , واكتشفت هذا بذكائك الحاد وحمَلْتَه على نطق أهل القاهرة لحرف القاف الفصيحة همزة ؟ , أنا أعتذر عن كل كلمة أغضبتُك فيها , فيبدو أنك أكثر عروبة من سيبويه نفسه وليس الدقلي فقط يا سيدي .
وساعتها كان الأستاذ الأصمعي يردد في نفسه قائلا: الحمد لله أني لم أستعذ أمامه من السوء , وإلا لخفت أن يظن أني أستعيذ من السوق !!, حسبي الله ونعم الوكيل..
ثم عاد يكلمه مرة أخرى قائلا: ولقد تذكرت اعتذار شاعر جاهل حاور أحد الفحول في علم من العلوم ثم اعتذر له بأبيات قال فيها:

بِفطنتك الأَمثال في مصر تُضرَبُ ..... وَرَأيك أََرْقَى في الأُمور وَأَصوَبُ


وَأَنتَ رِياضٌ واحدُ العَصر في الذَكا ..... وَنجمُك في أُفق الفَراسة كَوكَب


وَعَنك عَليّ قَد رَوى وَهُوَ صادقٌ ..... حَديثاً بِهِ شَمس المَعارف تُحجَب


حَديثاً رَواهُ اللَيث عَنكَ كَما جَرى ..... وَوافقه الراوي وَذَلِكَ أَعجَب (يقصد نفسه بالراوي)


وَما كانَ ظَني إذْ أحاورك أَنَّني ..... أُقاسُ بِمَن في جَهلِهِ يَتَقَلَّب


وَيا لَيتَهُ جَهلٌ بَسيط بِهِ نَشا ..... وَلَكنهُ جَهلٌ جَسيمٌ مركَّب

( طبعا هذه الأبيات تصف الموظف بكل صراحة أنه مصاب بالجهل المركب .. وصاحبنا لا يدري , بل ويحسبه مدحا بالفعل ) !!
- مما جعل الموظف يبتسم لأول مرة في حياته على ما يبدو , ( فالابتسامة غير متماشية مع تلك الملامح أبدا ) , قال: أخجلتم تواضعنا يا سيدي , والله ما كنت أريد أن يتطور الحوار إلى هذا الحد , لكنك كنت شجاعا في اعترافك بالحق.!!!!
- ابتلع الأستاذ الأصمعي الإهانة وكتم غيظه بصعوبة وهو يقول: لا عليك , هل أستطيع الآن أن أقيد اسم ابني؟ أرجوك لقد تأخرت كثيرا ..
- رد عليه الموظف وهو يضغط على نفس الوتر : كما تشاء يا سيدي وبأقصى سرعة , فأنت أول إنسان رأيته يعترف بالحق .
- مما جعل الأستاذ الأصمعي يبتسم ابتسامة صفراء على غير عادته ويقنع نفسه بمبدأ ( إن كان لك حاجة عند الكلب ) .. فقال: جزاك الله ما أنت أهله على سعة صدرك معي وعفوك عن جهلي يا سيدي , هل لك أن تبدأ الآن؟ , فوالله قد تأخرت كثيرا عن بعض المشاغل .
- رد الموظف: طبعا طبعا , ماذا تريد أن تسميه؟
- قال الأستاذ الأصمعي وشريط ذكريات المجد يمر أمام عينيه , ويملأ هواء الفخر صدره: على اسم جدي الأكبر , العالم الأزهري الشيخ البشبيشي.
- رد عليه قائلا : ألبشبيشي؟
- فقال الأصمعي : نعم البشبيشي.
( طبعا لم ينتبه الأستاذ الأصمعي هو يخاطب ذلك العبقري أن هذا الاسم ينطق بهمزة قطع في أوله عندما يبدأ الكلام به ).
- كرر الموظف سؤاله: ألبشبيشي؟
- وكرر الأستاذ الأصمعي الإجابة وهو يتعجب , ولا يعرف ما الداعي لتكرار السؤال , فقال: البشبيشي.
وطبعا وقع الحدث كالصاعقة على الأستاذ الأصمعي - رحمه الله - ولم يتحمل خطأ الموظف ومات بسكتة قلبية من فرط جهله , بعد علمه أن شهادة الميلاد لا يجوز فيها تغيير الأخطاء الإملائية !!
مما يعني أن ابنه سيعيش طيلة عمره بهمزة القطع هذه بسبب أن موظفا جاهلا أخطأ في الكتابة , وأنه لم ينتبه إلى فهمه الخاطئ بسبب كونه أراد إنهاء هذا الأمر سريعا قبل ارتفاع ضغطه .. رحمه الله ..
هذه مأساة البشبيشي , أوقعه فيها موظف جاهل , وأب متخصص .. !!
وهو لا يدري .. أيدعو على الموظف الجاهل الذي جعله يعيش عمره باسم غريب معقد؟ ام على أبيه الذي لم ينتبه أنه يحاور مريضا بالجهل المركب فلم ينتبه بالتالي لما قد ينتج عنه حواره وكلامه؟!!

هذا الحدث يتكرر كل يوم , بل كل ساعة , بل كل لحظة ..
يتكرر بتكرار الحوار بين متخصص في علم من العلوم وبين جاهل متفلسف لا يعترف بجهله..
والمأساة الكبرى عندما يكون الحوار في مسألة دقيقة , وأمام الناس , وهناك من يسمع أو يقرأ هذا الحوار ..
فينتهي الأمر بارتفاع ضغط المتخصص , ثم باعتزاله الحوارات أصلا .. وبتزايد جهل الجاهل ونمّو خاصية التراكب فيه فيكون وضعه أشد تعقيدا , إذ أنه يعتبر نفسه على حق وقد قهر المحاورين !!
كما أن قطاعا كبير جدا ممن شهدوا الحوار بينهما – سواء في مناظرة مرئية أو مسموعة أو على صفحات جريدة أو منتدى أو غير ذلك من ميادين الحوار – تحولوا إلى (( ألبشبيشي )) , فعاشوا مأساة الحيرة بين تصديق هذا أو ذاك.
وهي مأساة لن تنتهي أبدا طالما وجد الإنسان على سطح الأرض ..
ولا أدري لماذا كتبتُ هذا الموضوع , أظن أن جهلي كان مركبا عندما كتبت عن هذا الأمر وأنا أعرف أنه لن ينتهي .. لكن ربما استطعت بما فات من الكلمات أن أسلط الضوء على المشكلة , وأن أشرح للقراء الأفاضل وأوضح لهم سبب إحجام الكثيرين من المتخصصين عن الرد أو المناقشة مع من لا يملكون من العلم شيئا !!

=============
1- الجهل البسيط , أو الجهل العادي: هو أن يكون الإنسان لا يعرف ويدرك أنه لا يعرف ويتعامل على هذا الأساس فلا يدعي لنفسه العلم فيه أو يدخل مع غيره في مناقشات ومجادلات.
الجهل المُرَكَّب: هو أن يكون الإنسان لا يعرف , ويظن أنه يعرف. فأصبحت حالته مركبة من عدم المعرفة , وعدم إحساسه بعدم المعرفة.
ولا شك أنه مرض نسأل الله أن يعافينا منه
2- الأبيات الشعرية السابقة للشاعر صالح مجدي .. توفي سنة ( 1298هـ - 1881م ) ..
كتبها وهو يحاور أحد المصابين بالجهل المركب ويعترف بعجزه عن الإكمال معه , ويسخر منه بإيهامه أنه عالم وأن عَلِيّاً بن أبي طالب رضي الله عنه كان يروي العلم عنه وكذلك الإمام الليث بن سعد وأن الشاعر يشهد على ذلك !! .. وطبعا لا يخفى أن هذا مستحيل , لكن ما باليد حيلة عند محاورة هؤلاء الناس ..

حسام الدين حامد
03-07-2008, 08:33 PM
نقل موفق أخي الحبيب حازم ، جزى الله الكاتب و الناقل خيرًا .

و قد هدد أحد الحماسيين العقاد رحمه الله بالقتل ، فأورد في تهديده قول الله تعالى ( أَزِفَتِ الآزِفَةُ )

و كان ظنه في القرآن كظن ذاك الذي قال ( هذا على مذهبكم يا أهل القاهرة؟ حيث تنطقون القاف الفصيحة همزة بلهجتكم العامية !!) فحرف في كتاب الله عز و جل بجهله ، و كان تحريفه علامة على جهله !!

وقانا الله و إياكم الكلام بغير علم و الخوض فيما يُعتذر منه .