المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : غير المسلمين فى المجتمع المسلم



عبد الحميد فياض
02-27-2008, 11:36 AM
غير المسلمين
في المجتمع المسلم




د. منقذ بن محمود السقار




مقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن مما يشهد بالقيمة الحضارية والثقافية لأمة ما ، ما تحققه من مبادئ إنسانية زاهية، تتجاوز حدودها لتعم بإنسانيتها الآخرين ، ولو خالفوا في الدين والجنس واللغة.
وقد اصطفى الله نبينا  للرسالة، وجعله رحمة إلى الناس أجمعين  وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين  (الأنبياء: 107)، فكانت رسالة الإسلام أول رسالة عالمية، تجاوزت حدود الزمان والمكان واللغة والجنس ((وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثتُ إلى الناس عامة )).
فرسالته  هي الرسالة التي جعلها الله خاتمة الرسالات المهيمنة عليها، ودعا الناس إلى الإيمان بها، لأنها الحق الذي ارتضاه الله للبشرية ديناً  إن الدين عند الله الإسلام (آل عمران: 19) ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين (آل عمران: 85).
لكن الله تبارك وتعالى شاء بمشيئته وحكمته أن يخلق الإنسان كائنا فريداً متميزاً بالاختيار، فقدر سبحانه أن ينقسم الناس إلى مؤمن مصدق ، وكافر جاحد  هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير  (التغابن: 2)، ولو شاء الله لألزم الإنسانية دينه فطرة وقهراً، فلا تملك في قبوله حولاً ولا طولاً، لكنه سبحانه وتعالى لم يشأ ذلك ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدةً ولا يزالون مختلفين  إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم  ( هود : 118– 119).
قال ابن كثير عن قول الله تبارك وتعالى ولا يزالون مختلفين  إلا من رحم ربك: "أي: ولا يزال الخلف بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم ..".

إذاً فاختلاف الناس في أديانهم قدر الله وسنته الماضية في خلقه وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين (يوسف: 103).
ولنا أن نتساءل عن مصير أولئك الذين آثروا إرث الأجداد على الهدي المستبان، وقالوا:  إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ، كيف يتعامل الإسلام مع هؤلاء؟ وكيف يحكم فيهم إذا سكنوا ربوعه وتفيؤوا ظلاله؟
وسنهدف للإجابة عن هذه الأسئلة في هذا البحث من خلال دراسة نصوص الكتاب والسنة، وتبصر معانيها بهدي العلماء، فقهاء الأمة، وتطبيقات سلفنا الكرام خلال قرون الإسلام الظافرة، والتي كانت في مجملها جواباً عملياً عن هذه الأسئلة، فكانت اجتهاداتهم المشكورة تجسيداً لنظام الإسلام العادل في التعامل مع غير المسلمين.
وما أحرانا اليوم ونحن ندعو الأمة المسلمة إلى الوحدة من جديد أن نبدد مخاوف الآخرين الذين يعيشون داخل العالم الإسلامي، فوحدتنا لن تؤدي إلى شيء مما يفرقونه ويحذرونه.
وهذه المخاوف نبددها باستدعاء التجربة التاريخية الفريدة التي عاشها أجدادهم ضمن المجتمع المسلم طوال قرون رغيدة، حفظت للأحفاد حتى اليوم وجودهم وكينونتهم داخل مجتمعنا وحضارتنا.
والموضوع الذي نحن بصدده رسالة نتقدم بها إلى أولئك الذين دأبوا على اتهام الإسلام بالانغلاق، ووصموه بما يكذبه التاريخ ولا تعشى عنه الأبصار.
إنه لمن العجب أن يوسم الإسلام بالصفة ونقيضها، فلئن اتهمه بعضهم بالعنف فإن آخرين عابوا عليه نزعته التسامحية ورأوها سبب أفول الدولة الإسلامية، يقول الكونت هنري دي كاستري في كتابه "الإسلام": "تطرف المسلمون في المحاسنة؛ لأنها سهلت العصيان للعصاة، ومهدت لبعض الأسر المستقلة في المغرب الخروج على الجماعة في بلاد الأندلس وبلاد المغرب، وانتهى الأمر – مع المحاسنة – إلى انحلال عناصر المملكة العربية، ومن المرجح أن المسلمين لو عاملوا الأندلسيين كما عامل المسيحيون الأمم السكسونية والواندية؛ لأخلدت إلى الإسلام واستقرت عليه".
ولِم نستبق سطور البحث لنصل إلى نتيجته، لِم لا ندع التاريخ يقول كلمته المنصفة في دورتنا الحضارية الفذة التي قدمها المسلمون في تعاملهم مع الآخرين، مستلهمين أسسها وعظمتها من كتاب ربهم وسنة نبيهم .
وتنتظم هذه الدراسة في تمهيد ومبحثين وخاتمة:
التمهيد: وفيه أعرّف بأنواع الكافرين في بلاد المسلمين والأحكام العامة لكل منهم.
المبحث الأول : وأذكر فيه حقوق غير المسلمين وضماناتهم في المجتمع المسلم، وأعرض لتطبيقات ذلك في التاريخ الإسلامي.
المبحث الثاني: وأتناول فيه مسألة الجزية في الإسلام، وأبين الحق في هذه الشرعة والمقصود منها.
الخاتمة : وألخص فيها أهم ما توصلت إليه الدراسة من نتائج.
وإذ أشكر الله على توفيقه فإني أنسب توفيق هذا العمل إلى أهله، فنشكر السادة العلماء ، وبخاصة أولئك الذين أفدت من كتبهم وأشرت إليها في قائمة المراجع، فقد كانت دراساتهم القيمة شمعة أضاءت لي الطريق، كما كانت الركن الركين الذي قامت على أساساته هذه الدراسة، فلهم مني الشكر والاعتراف بالجميل والسبق.
وأسأل الله أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
د. منقذ بن محمود السقار
مكة المكرمة – صفر – 1427هـ


التمهيد
قبل الشروع في تبيان حكم الإسلام في غير المسلمين المقيمين في بلاد المسلمين أرى ضرورة التعريف بأنواعهم وتبيان الملامح الرئيسة والأحكام العامة لكل منهم.
الكفر: وصف يشمل كل من كذب الرسول عليه الصلاة والسلام، في شيء مما جاء به، أو صدقه وامتنع عن الدخول في الإسلام، يقول ابن تيمية: " الكفر يكون بتكذيب الرسول  فيما أخبر به، أو الامتناع عن متابعته مع العلم بصدقه، مثل كفر فرعون واليهود ونحوهم". فالمقصود به ما سوى المسلمين من أهل الملل والأديان.
والكفار تجاه المجتمع المسلم على أنواع: أولها الحربي، وهو المقيم في بلاد الكفر المحاربة للمسلمين، ولا تعلق له بمبحثنا إلا إذا دخل بلاد المسلمين بهدنة أو أمان، فلا يصير حينذاك حربياً، بل معاهداً أو مستأمناً. قال ابن القيم: "الكفار إما أهل حرب وإما أهل عهد؛ وأهل العهد ثلاثة أصناف: أهل ذمة، وأهل هدنة، وأهل أمان".
والأصل في ألفاظ الأمان والعهد والذمة أنها ألفاظ عامة، تشمل المستأمنين والمعاهدين وغيرهم ممن هم في بلاد الإسلام بعقد ذمة أو هدنة أو أمان، فذمَّة المسلمين وعهودهم وأمانهم ثابتة لكل هذه الأصناف.
والأصل في معاملة هذه الأصناف جميعاً قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود  (المائدة: 1).
ورغم ترادف ألفاظ الذمة والهدنة والأمان وغيرها؛ فإن الفقهاء فرقوا بينها من الناحية الاصطلاحية، فخصوا كل واحد منها بنوع.
فأهل الذمة هم المقيمون تحت ذمَّة المسلمين بدفع الجزيَّة حصراً، قال ابن القيم: "ولفظ الذمة والعهد يتناول هؤلاء [أهل الذمة وأهل الهدنة وأهل الأمان] كلهم في الأصل , وكذلك لفظ الصلح ، فإن الذمة من جنس لفظ العهد والعقد.
وقولهم: هذا في ذمة فلان، أصله من هذا، أي: في عهده وعقده .. ولكن صار في اصطلاح كثير من الفقهاء أهل الذمة عبارة عمن يؤدي الجزية ، وهؤلاء لهم ذمة مؤبدة، وهؤلاء قد عاهدوا المسلمين على أن يجري عليهم حكم الله ورسوله، إذ هم مقيمون في الدار التي يجري فيها حكم الله ورسوله". ومقصوده رحمه الله بجريان أحكام الإسلام أي العامة منها، وإلا فإنه لا يعرض لهم في خاصة أمورهم وما تعلق بدينهم من شرائع.
قال سليمان البجيرمي: " ذمة المسلمين أي عهدهم وأمانهم وحرمتهم".
وأما أهل العهد من غير المسلمين فهم الذين صالحهم الإمام أو هادنهم، قال ابن القيم: "أهل الهدنة فإنهم صالحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم، سواء كان الصلح على مال أو غير مال، لا تجري عليهم أحكام الإسلام كما تجري على أهل الذمة، ولكن عليهم الكف عن محاربة المسلمين، وهؤلاء يسمون أهل العهد وأهل الصلح وأهل الهدنة".
وأما المستأمن فهو من أهل بلاد الحرب يدخل بلاد المسلمين بأمان لغرض ما ، لا على وجه الديمومة، قال النووي: "المستأمن هو الحربي الذي دخل دار الإسلام بأمان".
وفصّل ابن القيم فقال: "وأما المستأمن فهو الذي يقدم بلاد المسلمين من غير استيطان لها، وهؤلاء أقسام: رسل وتجار ومستجيرون، وحكم هؤلاء ألا يهاجروا ولا يقتلوا، ولا تؤخذ منهم الجزية".
والأصل في الأمان أن يكون من الوالي، ولو أعطاه أحد المسلمين ثبت له ، فقد أجارت زينب بنت النبي e أبا العاص بن الربيع , فأمضاه عليه الصلاة والسلام.
كما أمضى  جوار أم هانىء لأحمائها، فقال لها: ((قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانىء, إنما يجير على المسلمين أدناهم)).
وعليه فأي مسلم أمّن حربياً دخل بلاد المسلمين ثبت أمانه - كائناً من كان - ، لأن ((ذمة المسلمين واحدة, يسعى بها أدناهم, فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين , لا يُقبل منهم صرف ولا عدل)).
ويلحق بالمستأمن من كان له شبهة عهد أو ادعاه، قال محمد بن الحسن الشيباني: "لو خرج من دار الحرب كافر مع مسلم، فادعى المسلم أسره، وادعى الآخر الامان؛ فالقول قول الحربي".
وبمثله لو ادعى أنه رسول، قال ابن قدامة : "إذا دخل حربي دار الإسلام بغير أمان , وادعى أنه رسول قُبِل منه, ولم يجز التعرض له؛ لقول النبي e لرسولي مسيلمة : (( لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما))". وذلك أن العادة جارية بذلك.
وكل ما يشتبه على الحربي أنه أمان؛ يصير أماناً له، قال ابن قدامة: "وإن أشار إليه [مسلم] بالأمان فهو آمن .. وإن قال له: قف أو قم أو ألق سلاحك فقال أصحابنا: هو أمان؛ لأن الكافر يعتقده أماناً، فأشبه قوله: لا تخف".
وممن يأمن بأمان المسلمين في بلادهم؛ التجار. قال أحمد: " إذا ركب القوم في البحر فاستقبلهم فيه تجار مشركون من أرض العدو يريدون بلاد الإسلام لم يعرضوا لهم ولم يقاتلوهم، وكل من دخل بلاد المسلمين من أهل الحرب بتجارة بويع، ولم يسأل عن شيء".
وهكذا فالكافر إذا دخل بلاد المسلمين بعهد أو امان، أو أقام بينهم؛ فهو في ذمة المسلمين وعهدهم، والله يقول: وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولاً (الإسراء: 34).


المبحث الأول: حقوق غير المسلمين في المجتمع المسلم
تمتع غير المسلمين - المقيمون في بلاد المسلمين – بسلسلة من الضمانات التي منحها لهم المجتمع المسلم بهدي من كتاب الله وسنة رسوله .
ولسوف نعرض لأهم هذه الضمانات، ونوثقها بشهادة التاريخ ونصوص الفقهاء، حراس الشريعة، ورثة النبي .
ومن هذه الضمانات:
أولاً : ضمان حرية المعتقد
يعتقد المسلمون أن دينهم هو الحق المبين، وأن ما عداه إنما هي ديانات حُرفت ونُسخت بالإسلام أو ضلالات وقع فيها البشر جهلاً منهم بحقيقة الدين والمعتقد.
وقد عمل المسلمون على استمالة الأمم والشعوب التي اختلطوا بها إلى الإسلام، وذلك بما آتاهم الله من حجة ظاهرة وخلق قويم ودين ميسر تقبله الفطر ولا تستغلق عن فهم مبادئه العقول.
ولم يعمد المسلمون طوال تاريخهم الحضاري العظيم إلى إجبار الشعوب أو الأفراد الذين تحت ولايتهم، وذلك تطبيقاً لمجموعة من المبادئ الإسلامية التي رسخت فيهم هذا السلوك:
أً. حتمية الخلاف وطبيعته
إن التعدّد في المخلوقات وتنوّعها سنة الله في الكون وناموسه الثابت، فطبيعة الوجود في الكون أساسها التّنوّع والتّعدّد.
والإنسانية خلقها الله وفق هذه السنة الكونية، فاختلف البشر إلى أجناس مختلفة وطبائع شتى، وكلّ من تجاهل وتجاوز أو رفض هذه السُّنة الماضية لله في خلقه، فقد ناقض الفطرة وأنكر المحسوس.
واختلاف البشر في شرائعهم هو أيضاً واقع بمشيئة الله تعالى ومرتبط بحكمته، يقول الله: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً (المائدة: 48).
قال ابن كثير : "هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث اللّه به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام المتفقة في التوحيد ".
وقال تعالى: ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدةً ولا يزالون مختلفين  إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم  ( هود : 118– 119).
قال ابن حزم: "وقد نص تعالى على أن الاختلاف ليس من عنده، ومعنى ذلك أنه تعالى لم يرض به، وإنما أراده تعالى إرادة كونٍ، كما أراد الكفر وسائر المعاصي".
وقال ابن كثيرعن قول الله ولا يزالون مختلفين  إلا من رحم ربك : "أي: ولا يزال الخلف بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم .. قال الحسن البصري: الناس مختلفون على أديان شتى إلا من رحم ربك، فمن رحم ربك غير مختلف".
ولما كان الاختلاف والتّعدّد آية من آيات الله، فإنّ الذي يسعى لإلغاء هذا التّعدّد كلية، فإنما يروم محالاً ويطلب ممتنعاً، لذا كان لابد من الاعتراف بالاختلاف.
ب. مهمة المسلمين الدعوة إلى الله لا أسلمة الناس
أدرك المسلمون أن هداية الجميع من المحال، وأن أكثر الناس لا يؤمنون، وأن واجب الدعاة الدأب في دعوتهم وطلب أسباب هدايتهم. فإنما مهمتهم هي البلاغ فحسب، والله يتولى حساب المعرضين في الآخرة، قال الله مخاطباً نبيه :  فإن تولوا فإنما عليك البلاغ (النحل: 82). وقال تعالى: فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصيرٌ بالعباد (آل عمران: 20).
قال القرطبي: " فإن تولوا أي أعرضوا عن النظر والاستدلال والإيمان؛ فإنما عليك البلاغ، أي ليس عليك إلا التبليغ، وأما الهداية فإلينا".
قال الشوكاني في سياق شرحه لقول الله تعالى:  فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب (الرعد: 40): " أي: فليس عليك إلا تبليغ أحكام الرسالة، ولا يلزمك حصول الإجابة منهم، لما بلّغته إليهم، وعلينا الحساب أي: محاسبتهم بأعمالهم ومجازاتهم عليها، وليس ذلك عليك".
وقال تعالى: فذكر إنما أنت مذكر  لست عليهم بمسيطر (الغاشية: 21-22).
ولذلك فإن المسلم لا يشعر بحالة الصراع مع شخص ذلك الذي تنكب الهداية وأعرض عن أسبابها، فإنما حسابه على الله في يوم القيامة ، فقد قال الله تعالى لنبيه  : ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء  (البقرة: 272). وقال له وللأمة من بعده: فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير (الشورى: 15).
ج. التكريم الإلهي للإنسان، ومبدأ عدم الإكراه على الدين
خلق الله آدم عليه السلام، وأسجد له ملائكته  وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طيناً  (الإسراء: 61)، وندبه وذريته من بعده إلى عمارة الأرض بمنهج الله:  إني جاعل في الأرض خليفة (البقرة: 30).
ووفق هذه الغاية كرم الله الجنس البشري على سائر مخلوقات الله  ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثيرٍ ممن خلقنا تفضيلاً  (الإسراء: 70).
وأكد نبينا  وصحبه احترام النفس الإنسانية ، ففي الخبر أن سهل بن حنيف وقيس بن سعد كانا قاعدين بالقادسية، فمروا عليهما بجنازة فقاما، فقيل لهما: إنها من أهل الأرض، أي من أهل الذمة فقالا: إن النبي  مرت به جنازة فقام. فقيل له: إنها جنازة يهودي؟! فقال: ((أليست نفساً)).
ومن تكريم الله للجنس البشري ما وهبه من العقل الذي يميز به بين الحق والباطل }وهديناه النجدين { (البلد: 10) ، وبموجبه وهبه الحرية والإرادة الحرة لاختيار ما يشاء} إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً { (الإنسان: 3)} ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين { (يونس: 99).
وعليه فالإنسان يختار ما يشاء من المعتقد} لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي{ (البقرة: 256) ، والله يتولى في الآخرة حسابه } وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها{ (الكهف: 29).
قال ابن كثير : "أي لا تُكرِهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بَيِّن واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته؛ دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره؛ فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهاً مقسوراً".
و يقول تعالى: }قل الله أعبد مخلصاً له ديني  فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم و أهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين{ (الزمر: 14- 15)، ويقول: وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون  الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون (الحج: 68-69).
وقد امتثل سلفنا هدي الله، فلم يلزموا أحداً بالإسلام إكراهاً، ومن ذلك أن عمر بن الخطاب قال لعجوز نصرانية: أسلمي تسلمي، إن الله بعث محمداً بالحق قالت: أنا عجوز كبيرة، والموت أقرب إليّ! فقال عمر: اللهم اشهد، وتلا:  لا إكراه في الدين (البقرة: 256).
والإيمان ابتداء هو عمل قلبي، فليس بمؤمن من لم ينطو قلبه على الإيمان، ولو نطق به كرهاً فإنه لا يغير في حقيقة قائله ولا حكمه، وعليه فالمكره على الإسلام لا يصح إسلامه، ولا تلزمه أحكامه في الدنيا، ولا ينفعه في الآخرة.
قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة: "لم ينقل عن النبي  ولا عن أحد من خلفائه؛ أنه أجبر أحداً من أهل الذمة على الإسلام ... وإذا أكره على الإسلام من لا يجوز إكراهه كالذمي والمستأمن فأسلم؛ لم يثبت له حكم الإسلام حتى يوجد منه ما يدل على إسلامه طوعاً؛ مثل أن يثبت على الإسلام بعد زوال الإكراه عنه، وإن مات قبل ذلك فحكمه حكم الكفار، وإن رجع إلى دين الكفر لم يجز قتله ولا إكراهه على الإسلام .. ولنا أنه أكره على ما لا يجوز إكراهه عليه، فلم يثبت حكمه في حقه، كالمسلم إذا أكره على الكفر والدليل على تحريم الإكراه قول الله تعالى :  لا إكراه في الدين  (البقرة: 256)".
وبمثله قال الفقيه الحنبلي ابن قدامة: "وإذا أكره على الإسلام من لا يجوز إكراهه كالذمي والمستأمن فأسلم؛ لم يثبت له حكم الإسلام حتى يوجد منه ما يدل على إسلامه طوعاً".
وهذا ما حصل بالفعل زمن الحاكم بأمر الله الذي يصفه ترتون بالخبل والجنون، وقد كان من خبله أن أكره كثيرين من أهل الذمة على الإسلام، فسمح لهم الخليفة الظاهر بالعودة إلى دينهم، فارتد منهم كثير سنة 418هـ.
ولما أُجبر على التظاهر بالإسلام موسى بن ميمون فر إلى مصر، وعاد إلى دينه، ولم يعتبره القاضي عبد الرحمن البيساني مرتداً، بل قال: "رجل يكره على الإسلام، لا يصح إسلامه شرعاً"، وعلق عليها الدكتور ترتون بقوله: "وهذه عبارة تنطوي على التسامح الجميل".
لقد فقه المسلمون هذا ووعوه، فتركوا لرعاياهم من غير المسلمين حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر التعبدية، ولم يأمروا أحداً باعتناق الإسلام قسراً وكرهاً.
ثانياً: حرية ممارسة العبادة وضمان سلامة دورها
وإذا لم يجبر الإسلام من تحت ولايته على الدخول فيه؛ فإنه يكون بذلك قد ترك الناس على أديانهم، وأول مقتضياته الإعراض عن ممارسة الآخرين لعباداتهم، وضمان سلامة دور العبادة.
وهذا – بالفعل - ما ضمنه المسلمون في عهودهم التي أعطوها للأمم التي دخلت في ولايتهم أو عهدهم، فقد كتب النبي  لأهل نجران أماناً شمل سلامة كنائسهم وعدم التدخل في شؤونهم وعباداتهم ، وأعطاهم على ذلك ذمة الله ورسوله، يقول ابن سعد: "وكتب رسول الله e لأسقف بني الحارث بن كعب وأساقفة نجران وكهنتهم ومن تبعهم ورهبانهم: أن لهم ما تحت أيديهم من قليل وكثير، من بيعهم وصلواتهم ورهبانهم، وجوار الله ورسوله، لا يغير أسقف عن أسقفيته، ولا راهب عن رهبانيته، ولا كاهن عن كهانته".
ووفق هذا الهدي السمح سار الخلفاء الراشدون من بعده  ، فقد ضمن الخليفة عمر بن الخطاب نحوه في العهدة العمرية التي كتبها لأهل القدس، وفيها: "بسم الله الرحمن الرحيم ؛ هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان ، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ، ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أن لا تُسكن كنائسهم، ولا تُهدم، ولا يُنتقص منها ولا من حيزها ، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم .
ولا يكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم .. وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين ".
وبمثله كتب عمر لأهل اللُد.
وبمثله أيضاً كتب عياض بن غنم  لأهل الرقة، ولأسقف الرها.
وقد خاف عمر من انتقاض عهده من بعده فلم يصل في كنيسة القمامة حين أتاها وجلس في صحنها، فلما حان وقت الصلاة قال للبترك: أريد الصلاة. فقال له البترك: صل موضعك. فامتنع عمر  وصلى على الدرجة التي على باب الكنيسة منفرداً، فلما قضى صلاته قال للبترك: (لو صليتُ داخل الكنيسة أخذها المسلمون بعدي، وقالوا: هنا صلى عمر).
وكتب لهم أن لا يجمع على الدرجة للصلاة، ولا يؤذن عليها، ثم قال للبترك: أرني موضعاً أبني فيه مسجداً فقال: على الصخرة التي كلم الله عليها يعقوب، ووجد عليها دماً كثيراً، فشرع في إزالته".
وحين فتح خالد بن الوليد دمشق كتب لأهلها : "بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أعطى خالد بن الوليد أهل دمشق إذا دخلها أماناً على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وسور مدينتهم لا يهدم، ولا يسكن شيء من دورهم ، لهم بذلك عهد الله وذمة رسول الله e والخلفاء والمؤمنين".
وتضمن كتابه  لأهل عانات عدم التعرض لهم في ممارسة شعائرهم وإظهارها: "ولهم أن يضربوا نواقيسهم في أي ساعة شاءوا من ليل أو نهار، إلا في أوقات الصلاة، وأن يخرجوا الصلبان في أيام عيدهم".
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله: "لا تهدموا كنيسة ولا بيعة ولا بيت نار".
قال أبو الوليد الباجي: " إن أهل الذمة يقرون على دينهم ويكونون من دينهم على ما كانوا عليه، لا يمنعون من شيءٍ منه في باطن أمرهم، وإنما يمنعون من إظهاره في المحافل والأسواق".
وقال الفقهاء المسلمون بتأمين المسلمين لحقوق رعاياهم في العبادة، فقرروا أنه "يحرم إحضار يهودي في سبته، وتحريمه باق بالنسبة إليه، فيستثنى شرعاً من عمل في إجازة، لحديث النسائي والترمذي وصححه: ((وأنتم يهود عليكم خاصة ألا تعدوا في السبت)).
ويمتد أمان الذمي على ماله ، ولو كان خمراً أو خنزيراً ، وينقل الطحاوي إجماع المسلمين على حرية أهل الذمة في أكل الخنازير والخمر وغيره مما يحل في دينهم، فيقول: "وأجمعوا على أنه ليس للإمام منع أهل الذمة من شرب الخمر وأكل لحم الخنازير واتخاذ المساكن التي صالحوا عليها، إذا كان مِصراً ليس فيه أهل إسلام (أي في بلادهم التي هم فيها الكثرة)".
قال مالك: "إذا زنى أهل الذمة أو شربوا الخمر فلا يعرض لهم الإمام؛ إلا أن يظهروا ذلك في ديار المسلمين ويدخلوا عليهم الضرر؛ فيمنعهم السلطان من الإضرار بالمسلمين".
وحين أخل بعض حكام المسلمين بهذه العهود اعتبر المسلمون ذلك ظلماً، وأمر أئمة العدل بإزالته وإبطاله، ومنه أن الوليد بن عبد الملك لما أخذ كنيسة يوحنا من النصارى قهراً، وأدخلها في المسجد، اعتبر المسلمون ذلك من الغصب، فلما ولي عمر بن عبد العزيز شكا إليه النصارى ذلك، فكتب إلى عامله يأمره برد ما زاد في المسجد عليهم، فاسترضاهم المسلمون، وصالحوهم، فرضوا.
كما شكا النصارى إلى عمر بن عبد العزيز في شأن كنيسة أخرى في دمشق كان بعض أمراء بني أمية أقطعها لبني نصر، فردها إليهم.
ومن أمارات تسامح المسلمين مع غيرهم أنهم لم يتدخلوا في الشؤون التفصيلية لهم ، ولم يجبروهم على التحاكم أمام المسلمين وإن طلبوا منهم الانصياع للأحكام العامة للشريعة المتعلقة بسلامة المجتمع وأمنه.
وينقل العيني عن الزهري قوله: "مضت السنة أن يرد أهل الذمة في حقوقهم ومعاملاتهم ومواريثهم إلى أهل دينهم؛ إلا أن يأتوا راغبين في حكمنا، فنحكم بينهم بكتاب الله تعالى".
كما ينقل عن ابن القاسم: " إن تحاكم أهل الذمة إلى حاكم المسلمين ورضي الخصمان به جميعاً؛ فلا يحكم بينهما إلا برضا من أساقفهما، فإن كره ذلك أساقفهم فلا يحكم بينهم، وكذلك إن رضي الأساقفة ولم يرض الخصمان أو أحدهما لم يحكم بينهما".
وقد بين المرداوي المراد من التزام الأحكام الإسلامية فقال: "لا يجوز عقد الذمة إلا بشرطين : بذل الجزية والتزام أحكام الملة من جريان أحكام المسلمين عليهم .. يلزم أن يأخذوهم بأحكام المسلمين في ضمان النفس والمال والعرض وإقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه".

شهادات المؤرخين الغربيين على سماحة المسلمين مع غيرهم
وإن خير شاهد على التزام المسلمين بهذه المبادئ، تلك الشهادات التاريخية المتتابعة التي سجلها مؤرخو الغرب والشرق عن تسامي المسلمين عن إجبار أحد - ممن تحت سلطانهم – في الدخول في الإسلام.
يقول ول ديورانت: "لقد كان أهل الذمة، المسيحيون والزرادشتيون واليهود والصابئون يستمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح، لا نجد لها نظيراً في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحراراً في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم".
ويقول: "وكان اليهود في بلاد الشرق الأدنى قد رحبوا بالعرب الذين حرروهم من ظلم حكامهم السابقين .. وأصبحوا يتمتعون بكامل الحرية في حياتهم وممارسة شعائر دينهم .. وكان المسيحيون أحراراً في الاحتفال بأعيادهم علناً، والحجاج المسيحيون يأتون أفواجاً آمنين لزيارة الأضرحة المسيحية في فلسطين .. وأصبح المسيحيون الخارجون على كنيسة الدولة البيزنطية، الذين كانوا يلقون صوراً من الاضطهاد على يد بطاركة القسطنطينية وأورشليم والاسكندرية وإنطاكيا، أصبح هؤلاء الآن أحراراً آمنين تحت حكم المسلمين".
يقول توماس آرنولد : "لم نسمع عن أية محاولة مدبرة لإرغام غير المسلمين على قبول الإسلام أو عن أي اضطهاد منظم قصد منه استئصال الدين المسيحي".
وينقل معرب "حضارة العرب" قول روبرتسن في كتابه "تاريخ شارلكن": "إن المسلمين وحدهم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم وروح التسامح نحو أتباع الأديان الأخرى، وإنهم مع امتشاقهم الحسام نشراً لدينهم، تركوا مَن لم يرغبوا فيه أحراراً في التمسك بتعاليمهم الدينية".
وينقل أيضاً عن الراهب ميشود في كتابه "رحلة دينية في الشرق" (ص 29) قوله: "ومن المؤسف أن تقتبس الشعوب النصرانية من المسلمين التسامح ، الذي هو آية الإحسان بين الأمم واحترام عقائد الآخرين وعدم فرض أي معتقد عليهم بالقوة".
وينقل ترتون في كتابه "أهل الذمة في الإسلام" شهادة البطريك " عيشو يابه " الذي تولى منصب البابوية حتى عام 657م:" إن العرب الذين مكنهم الرب من السيطرة على العالم يعاملوننا كما تعرفون. إنهم ليسوا بأعداء للنصرانية ، بل يمتدحون ملتنا ، ويوقرون قديسينا وقسسنا، ويمدون يد العون إلى كنائسنا وأديرتنا ".
ويقول المفكر الأسباني بلاسكوا أبانيز في كتابه "ظلال الكنيسة" (ص 64) متحدثاً عن الفتح الإسلامي للأندلس: "لقد أحسنت أسبانيا استقبال أولئك الرجال الذين قدموا إليها من القارة الإفريقية، وأسلمتهم القرى أزمتها بغير مقاومة ولا عداء، فما هو إلا أن تقترب كوكبة من فرسان العرب من إحدى القرى؛ حتى تفتح لها الأبواب وتتلقاها بالترحاب .. كانت غزوة تمدين، ولم تكن غزوة فتح وقهر .. ولم يتخل أبناء تلك الحضارة زمناً عن فضيلة حرية الضمير، وهي الدعامة التي تقوم عليها كل عظمة حقة للشعوب، فقبلوا في المدن التي ملكوها كنائس النصارى وبيع اليهود، ولم يخشَ المسجد معابد الأديان التي سبقته، فعرف لها حقها، واستقر إلى جانبها، غير حاسد لها، ولا راغب في السيادة عليها".
ويقول المؤرخ الإنجليزي السير توماس أرنولد في كتابه "الدعوة إلى الإسلام": " لقد عامل المسلمون الظافرون العرب المسيحيين بتسامح عظيم منذ القرن الأول للهجرة ، واستمر هذا التسامح في القرون المتعاقبة ، ونستطيع أن نحكم بحق أن القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام قد اعتنقته عن اختيار وإرادة حرة ، وإن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات المسلمين لشاهد على هذا التسامح ".
وتقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه : " العرب لم يفرضوا على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام، فالمسيحيون والزرادشتية واليهود الذين لاقوا قبل الإسلام أبشع أمثلة للتعصب الديني وأفظعها؛ سمح لهم جميعاً دون أي عائق يمنعهم بممارسة شعائر دينهم، وترك المسلمون لهم بيوت عبادتهم وأديرتهم وكهنتهم وأحبارهم دون أن يمسوهم بأدنى أذى، أو ليس هذا منتهى التسامح؟ أين روى التاريخ مثل تلك الأعمال؟ ومتى؟".
يقول المـؤرخ الإسباني أولاغي: "فخلال النصف الأول من القرن التـاسع كـانت أقـلية مسيحية مهمة تعيش في قرطبة وتمارس عبادتها بحرية كاملة".
يقـول القس إيِلُوج : "نعيش بينهم دون أنْ نتعرض إلى أيّ مضايقات، في ما يتعلق بمعتقدنا".
بل ينقل المؤرخون الغربيون باستغراب بعض الحوادث الغريبة المشينة في تاريخنا، وهي على كل حال تنقض ما يزعمه الزاعمون المفترون على الإسلام، تقول المؤرخة زيغرد: "لقد عسّر المنتصرون على الشعوب المغلوبة دخول الإسلام حتى لا يقللوا من دخلهم من الضرائب التي كان يدفعها من لم يدخل في الإسلام".
ويقول ول ديورانت في سياق حديثه عن الخليفة عمر بن عبد العزيز: " وبينما كان أسلافه من خلفاء الأمويين لا يشجعون غير المسلمين في بلاد الدولة على اعتناق الإسلام، حتى لا تقل الضرائب المفروضة عليهم، فإن عمر قد شجع المسيحيين، واليهود، والزرادشتيين على اعتناقه، ولما شكا إليه عماله القائمون على شؤون المال من هذه السياسة ستفقر بيت المال أجابهم بقولهِ: (والله لوددت أن الناس كلهم أسلموا، حتى نكون أنا وأنت حراثين نأكل من كسب أيدينا)".
ويبين لنا توماس أرنولد أن خراج مصر كان على عهد عثمان اثنا عشر مليون دينار، فنقص على عهد معاوية حتى بلغ خمسة ملايين، ومثله كان في خراسان، فلم يسقط بعض الأمراء الجزية عمن أسلم من أهل الذمة، ولهذا السبب عزل عمر بن عبد العزيز واليه على خراسان الجراح بن عبد الله الحكمي ، وكتب: "إن الله بعث محمداً هادياً ولم يبعثه جابياً".
إذا كان الحال كما عرفنا، فما السر في تقبل الشعوب للإسلام وإقبالها عليه؟
وينقل الخربوطلي عن المستشرق دوزي في كتابه "نظرات في تاريخ الإسلام" قوله: "إن تسامح ومعاملة المسلمين الطيبة لأهل الذمة أدى إلى إقبالهم على الإسلام وأنهم رأوا فيه اليسر والبساطة مما لم يألفوه في دياناتهم السابقة ".
ويقول غوستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب" : " إن القوة لم تكن عاملاً في انتشار القرآن ، فقد ترك العرب المغلوبين أحراراً في أديانهم .. فإذا حدث أن انتحل بعض الشعوب النصرانية الإسلام واتخذ العربية لغة له؛ فذلك لما كان يتصف به العرب الغالبون من ضروب العدل الذي لم يكن للناس عهد بمثله، ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم تعرفها الأديان الأخرى".
ويقول: "وما جهله المؤرخون من حلم العرب الفاتحين وتسامحهم كان من الأسباب السريعة في اتساع فتوحاتهم وفي سهولة اقتناع كثير من الأمم بدينهم ولغتهم .. والحق أن الأمم لم تعرف فاتحين رحماء متسامحين مثل العرب ، ولا ديناً سمحاً مثل دينهم ".
ويوافقه المؤرخ ول ديورانت فيقول: "وعلى الرغم من خطة التسامح الديني التي كان ينتهجها المسلمون الأولون، أو بسبب هذه الخطة اعتنق الدين الجديدَ معظمُ المسيحيين وجميع الزرادشتيين والوثنيين إلا عدداً قليلاً منهم .. واستحوذ الدين الإسلامي على قلوب مئات الشعوب في البلدان الممتدة من الصين وأندنوسيا إلى مراكش والأندلس، وتملك خيالهم، وسيطر على أخلاقهم، وصاغ حياتهم، وبعث آمالاً تخفف عنهم بؤس الحياة ومتاعبها".
ويقول روبرتسون في كتابه "تاريخ شارلكن": "لكنا لا نعلم للإسلام مجمعاً دينياً، ولا رسلاً وراء الجيوش، ولا رهبنة بعد الفتح، فلم يُكره أحد عليه بالسيف ولا باللسان، بل دخل القلوب عن شوق واختيار، وكان نتيجة ما أودع في القرآن من مواهب التأثير والأخذ بالأسباب ".
ويقول آدم متز: "ولما كان الشرع الإسلامي خاصاً بالمسلمين، فقد خلَّت الدولة الإسلامية بين أهل الملل الأخرى وبين محاكمهم الخاصة بهم، والذي نعلمه من أمر هذه المحاكم أنها كانت محاكم كنسية، وكان رؤساء المحاكم الروحيون يقومون فيها مقام كبار القضاة أيضاً، وقد كتبوا كثيراً من كتب القانون، ولم تقتصر أحكامهم على مسائل الزواج، بل كانت تشمل إلى جانب ذلك مسائل الميراث وأكثر المنازعات التي تخص المسيحيين وحدهم مما لا شأن للدولة به".
ويقول أيضاً: "أما في الأندلس، فعندنا من مصدر جدير بالثقة أن النصارى كانوا يفصلون في خصوماتهم بأنفسهم، وأنهم لم يكونوا يلجؤون للقاضي إلا في مسائل القتل".
لكن الخربوطلي ينقل عن الدكتور فيليب في كتابه "تاريخ العرب" حديثه عن رغبة أهل الذمة في التحاكم إلى التشريع الإسلامي، واستئذانهم للسلطات الدينية في أن تكون مواريثهم حسب ما قرره الإسلام.
ثالثاً : حسن العشرة والمعاملة الحسنة
أمر الله في القرآن الكريم المسلمين ببر مخالفيهم في الدين، الذين لم يتعرضوا لهم بالأذى والقتال، فقال: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (الممتحنة: 8).
قال الطبري: "عنى بذلك لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين من جميع أصناف الملل والأديان أن تبروهم وتصلوهم وتقسطوا إليهم .. وقوله:  إن الله يحب المقسطين  يقول : إن الله يحب المنصفين الذين ينصفون الناس ويعطونهم الحق والعدل من أنفسهم، فيبرون من برهم، ويحسنون إلى من أحسن إليهم".
والبر أعلى أنواع المعاملة ، فقد أمر الله به في باب التعامل مع الوالدين ، وقد وضحه رسول الله  بقوله : (( البر حسن الخلق )).
قال القرافي وهو يعدد صوراً للبر أمر بها المسلم تجاه أهل الذمة: " ولين القول على سبيل اللطف لهم والرحمة، لا على سبيل الخوف والذلة، واحتمال إذايتهم في الجوار مع القدرة على إزالته، لطفاً منا بهم، لا خوفاً وتعظيماً ، والدعاء لهم بالهداية، وأن يجعلوا من أهل السعادة، نصيحتهم في جميع أمور دينهم، وحفظ غيبتهم إذا تعرض أحد لأذيتهم .. وكل خير يحسُن من الأعلى مع الأسفل أن يفعله، ومن العدو أن يفعله مع عدوه، فإن ذلك من مكارم الأخلاق .. نعاملهم – بعد ذلك بما تقدم ذكره - امتثالاً لأمر ربنا عز وجل وأمر نبينا ".
وقد تجلى حسن الخلق عند المسلمين في تعاملهم مع غيرهم في كثير من تشريعات الإسلام التي أبدعت الكثير من المواقف الفياضة بمشاعر الإنسانية والرفق.
فقد أوجب الإسلام حسن العشرة وصلة الرحم حتى مع الاختلاف في الدين ، فقد أمر الله بحسن الصحبة للوالدين وإن جهدا في رد ابنهما عن التوحيد إلى الشرك، فإن ذلك لا يقطع حقهما في بره وحسن صحبته: وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً (لقمان: 15).
قال ابن كثير: " إن حرصا عليك كل الحرص، على أن تتابعهما على دينهما؛ فلا تقبل منهما ذلك، ولا يمنعك ذلك أن تصاحبهما في الدنيا معروفاً أي محسناً إليهما".
وقد جاءت أسماء بنت الصديق إلى رسول الله  تقول: يا رسول الله ، قدمت عليّ أُمّي وهي راغبة ، أفأَصِلُ أُمي؟ فأجابها الرحمة المهداة : (( صِلِي أُمَّك)).
قال الخطابي: "فيه أن الرحم الكافرة توصل من المال ونحوه كما توصل المسلمة، ويستنبط منه وجوب نفقة الأب الكافر والأم الكافرة؛ وإن كان الولد مسلماً".
قال محمد بن الحسن: "يجب على الولد المسلم نفقة أبويه الذميين لقوله تعالى: وصاحبهما في الدنيا معروفاً (لقمان: 15)، وليس من المصاحبة بالمعروف أن يتقلب في نعم الله، ويدعهما يموتان جوعاً، والنوازل والأجداد والجدات من قبل الأب والأم بمنزلة الأبوين في ذلك، استحقاقهم باعتبار الولاد بمنزلة استحقاق الأبوين".
وفي مثل آخر لصلة الرحم – وإن كانت كافرة - يقول عبد الله بن مروان: قلت لمجاهد: إن لي قرابة مشركة، ولي عليه دين، أفأتركه له؟ قال: نعم. وصِله.
ويمتد البر وصلة الرحم بالمسلم حتى تبلغ الرحم البعيدة التي مرت عليها المئات من السنين، فها هو  يوصي أصحابه بأهل مصر خيراً ، براً وصلة لرحم قديمة تعود إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، حيث قال r : ((إنكم ستفتحون مصر .. فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها؛ فإن لهم ذِمة ورحِماً)).
قال النووي: " وأما الذمة فهي الحرمة والحق , وهي هنا بمعنى الذمام ، وأما الرحم فلكون هاجر أم إسماعيل منهم".
ومن البر وصلة الأرحام عيادة المريض ، فقد عاد النبي  عمه أبا طالب في مرضه ، وعاد أيضاً جاراً له من اليهود في مرضه، فقعد عند رأسه.
ومن صور البر التي تهدف إلى كسب القلوب واستلال الشحناء؛ الهدية، وقد أهدى النبي  إلى مخالفيه في الدين، من ذلك ما رواه ابن زنجويه أن رسول الله أهدى إلى أبي سفيان تمر عجوة، وهو بمكة، وكتب إليه يستهديه أدماً، فأهدى إليه أبو سفيان.
وقبِل  في خيبر هدية زينب بنت الحارث اليهودية، لكنها هدية غدر لا مودة، فقد أهدت له شاة مشوية دست له فيها السم.
وفي مرة أخرى دعا يهودي النبي  إلى خبز شعير وإهالة سنخة، فأجابه .
كما قبِل النبي  هدايا الملوك إليه، فقِبل هدية المقوقس، وهدية ملك أيلة أكيدر، وهدية كسرى.
قال ابن قدامة : "ويجوز قبول هدية الكفار من أهل الحرب لأن النبي e قبل هدية المقوقس صاحب مصر".
وأهدى النبيُّ r عمر بن الخطاب  حُلّةً ثمينة، فأهداها عمر  أخيه بمكة كان يومئذ مشركاً.
قال النوويّ: " وفي هذا دليل لجواز صلة الأقارب الكفار , والإحسان إليهم, وجواز الهدية إلى الكفار".
ويروي البخاري في الأدب المفرد عن مجاهد أنه سمع عبد الله بن عمرو t يقول لغلام له يسلخ شاة: يا غلام إذا فرغت فابدأ بجارنا اليهودي. فقال رجل من القوم : اليهودي أصلحك الله!؟ فقال : سمعت النبي e يوصي بالجار، حتى خشينا أنه سيورثه.
وحين تحدث الفقهاء عن حقوق الضيف رأوا وجوبها لكل ضيف، سواء كان مسلماً أم غير مسلم، قال أبو يعلى: "وتجب الضيافة على المسلمين للمسلمين والكفار لعموم الخبر، وقد نص عليه أحمد في رواية حنبل، وقد سأله إن أضاف الرجل ضيفان من أهل الكفر؟ فقال: قال r : ((ليلة الضيف حق واجب على كل مسلم))، دل على أن المسلم والمشرك مضاف .. يعم المسلم والكافر".
ومن حق الضيافة إكرام الضيف على قدر الاستطاعة ، وقد صنعه النبي  لما جاءه عدي بن حاتم، يقول عدي: "أتيتُ رسول الله  وهو جالس في المسجد، فقال القوم: هذا عدي بن حاتم. وجئتُ بغير أمان ولا كتاب، فلما دُفعتُ إليه أخذ بيدي .. حتى أتى بي داره، فألقت له الوليدة وسادة، فجلس عليها".
ومن أعظم أنواع البر وصوره؛ دعاءُ النبي  لغير المسلمين، وهو بعض رحمته  للعالمين، ومنه دعاؤه لقبيلة دوس ، وقد قدم عليه الطفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه فقالوا: يا رسول الله إن دوساً قد كفرت وأبت ؛ فادع الله عليها، فقيل : هلكت دوس - أي ستهلك بدعائه عليها - فقال e : (( اللهم اهد دوساً، وائت بهم)).
ولما قيل له  في موطن آخر: يا رسول اللّه، ادع على المشركين .. قال: ((إنّي لم أبعث لعّاناً، وإنّما بعثت رحمةً)).
رابعاً : العدل في معاملتهم ورفع الظلم عنهم
إن من أهم المُثل ومكارم الأخلاق التي جاء الإسلام لحمايتها وتتميمها؛ العدل، والعدل غاية قريبة ميسورة إذا كان الأمر متعلقاً بإخوة الدين أو النسب، وغيرها مما يتعاطف له البشر.
لكن صدق هذه الخُلة إنما يظهر إذا تباينت الأديان وتعارضت المصالح، وهو ما يعنينا في هذا المبحث، فما هو حكم الإسلام في العدل مع غير المسلمين، وهل حقق المسلمون ما دعاهم إليه دينهم أم خالفوه؟
لقد أمر القرآن الكريم بالعدل، وخصَّ - بمزيد تأكيده – على العدل مع المخالفين الذين قد يظلمهم المرء بسبب الاختلاف والنفرة، قال تعالى:  يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى (المائدة: 8).
قال القرطبي: " ودلت الآية أيضاً على أن كفر الكافر لا يمنع من العدل عليه، وأن يُقتصر بهم على المستحق من القتال والاسترقاق، وأن المُثلة بهم غير جائزة ، وإن قتلوا نساءنا وأطفالنا، وغمّونا بذلك؛ فليس لنا أن نقتلهم بمثله قصداً لإيصال الغم والحزن إليهم ".
وقال البيضاوي: "لا يحملنكم شدة بغضكم للمشركين على ترك العدل فيهم، فتعتدوا عليهم بارتكاب ما لا يحل، كمُثلة وقذف وقتل نساء وصِبية ونقض عهد، تشفياً مما في قلوبكم ]اعدلوا هو أقرب للتقوى[ أي: العدل أقرب للتقوى ".
وأعلم الله تعالى المؤمنين بمحبته للذين يعدلون في معاملتهم مع مخالفيهم في الدين الذين لم يتعرضوا لهم بالأذى والقتال، فقال: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (الممتحنة: 8). فالعدل مع الآخرين موجب لمحبة الله.
وحذر النبي  من ظلم أهل الذمة وانتقاص حقوقهم، وجعل نفسه الشريفة خصماً للمعتدي عليهم، فقال: ((من ظلم معاهداً أو انتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس؛ فأنا حجيجه يوم القيامة)).
وأكد أن ظلم غير المسلم موجب لانتقام الله الذي يقبل شكاته ودعوته على ظالمه المسلم ، فقال  ((اتقوا دعوة المظلوم - وإن كان كافرًا - فإنه ليس دونها حجاب)).
ولمزيد التأكيد يوصي رسول الله  المسلمين بعدم التعرض للمستضعفين من غير المسلمين بالظلم والتسلط، فيقول: ((لعلكم تقاتلون قوماً فتظهرون عليهم، فيتقوكم بأموالهم دون أنفسهم وذراريهم، فيصالحونكم على صلح، فلا تصيبوا منهم فوق ذلك ، فإنه لا يصلح لكم)).
لذا لما سأل رجل ابن عباس فقال: إنا نمر بأهل الذمة، فنصيب من الشعير أو الشيء؟ فقال الحبر ترجمان القرآن: (لا يحل لكم من ذمتكم إلا ما صالحتموهم عليه).
ولما كتب النبي كتاب صلحه لأهل نجران قال فيه: ((ولا يغير حق من حقوقهم ، ولا سلطانهم ولا شيء مما كانوا عليه، ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم ولا ظالمين)).
أما منتهى الظلم وأشنعه، فهو قتل النفس بغير حق، لهذا جاء فيه أشد الوعيد وأعظمه، يقول  : ((من قتل معاهَداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً )).
قال ابن حجر: "المراد به من له عهد مع المسلمين، سواء كان بعقد جزية أو هدنة من سلطان أو أمان من مسلم".
ومن الطريف أن الخوارج الذين استباحوا دماء المسلمين وأوغلوا فيها توقفوا عن قتل أهل الذمة خشية نقض عهدهم. قال ابن حجر: " الخوارج لما حكموا بكفر من خالفهم استباحوا دماءهم، وتركوا أهل الذمة فقالوا: نفي لهم بعهدهم".
وقال r : ((أيما رجل أمّن رجلاً على دمه، ثم قتله، فأنا من القاتل بريء، وإن كان المقتول كافراً)).
قال ابن القيم: " المستأمن يحرم قتله، وتضمن نفسه، ويقطع بسرقة ماله".
ويقول القرطبي: "الذمي محقون الدم على التأبيد، والمسلم كذلك، وكلاهما قد صار من أهل دار الإسلام، والذي يحقِق ذلك: أنّ المسلم يقطع بسرقة مال الذمي، وهذا يدل على أنّ مال الذمي قد ساوى مال المسلم، فدل على مساواته لدمه، إذ المال إنّما يحرم بحرمة مالكه".
وقد ذهب جمع من العلماء على أن المسلم يقتل بقتله النفس المعصومة من غير المسلمين، وتأولوا الحديث الوارد في النهي عن ذلك.
ويروي عبد الرزاق عن إبراهيم النخعي أن رجلاً مسلماً قتل رجلاً من أهل الذمة من أهل الحيرة على عهد عمر، فأقاد منه عمر.
ويروي الشافعي في مسنده أن رجلاً من المسلمين أُخذ على عهد علي  وقد قتل رجلاً من أهل الذمة، فحكم عليه بالقصاص، فجاء أخوه، واختار الدية بدلاً عن القود، فقال له علي: "لعلهم فرقوك أو فزّعوك أو هددوك؟" فقال: لا ، بل قد أخذت الدية، ولا أظن أخي يعود إلي بقتل هذا الرجل، فأطلق علي القاتل، وقال: "أنت أعلم، من كانت له ذمتنا، فدمه كدمنا، وديته كديتنا".
ويحدث ميمون بن مهران أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى بعض أمرائه في مسلم قتل ذميّاً، فأمره أن يدفعه إلى وليه، فإن شاء قتله، وإن شاء عفا عنه. يقول ميمون: فدفع إليه، فضرب عنقه، وأنا أنظر.
ولئن اختلف الفقهاء في مسألة قتل المسلم بالذمي؛ فإنهم لم يختلفوا في عظم الجناية وشناعة الفعل، كما لم يختلفوا في وجوب العدل مع مخالفيهم في الدين ووجوب كف الأذى والظلم عنهم.
قال r : (( إن الله عز وجل لم يُحِلَّ لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن ، ولا ضَرْبَ نسائهم ، ولا أكلَ ثمارهم ، إذا أعطوكم الذي عليهم )).
ويرى ابن عابدين في حاشية الدر المختار وجوب " كف الأذى عن الذمي، وتحرم غيبته كالمسلم".
ويفسر ابن عابدين ذلك بقوله: "لأنه بعقد الذمة وجب له ما لنا، فإذا حرمت غيبة المسلم حرمت غيبته، بل قالوا: إن ظلم الذمي أشد".
قال القرافي: "عقد الذمة يوجب حقوقاً علينا لهم، لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا وذمة الله تعالى وذمة رسوله  ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة في عِرْض أحدهم، أو نوع من أنواع الأذية، أو أعان على ذلك؛ فقد ضيع ذمة الله تعالى وذمة رسوله  وذمة دين الإسلام".
وشواهد عدل المسلمين مع أهل ذمتهم كثيرة، منها العدل معهم في خصومتهم مع الخلفاء والأمراء، ومنه خصومة الخليفة علي بن أبي طالب  مع يهودي في درعه التي فقدها ثم وجدها عند يهودي، فاحتكما إلى شريح القاضي، فحكم بها لليهودي، فأسلم اليهودي وقال: "أما إني أشهد أن هذه أحكام أنبياء! أمير المؤمنين يدينني إلى قاضيه، فيقضي لي عليه! أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، الدرع درعك يا أمير المؤمنين، اتبعت الجيش وأنت منطلق من صفين، فخرجت من بعيرك الأورق". فقال علي : أما إذ أسلمت فهي لك.
ومنه أيضاً قصة القبطي مع عمرو بن العاص والي مصر وابنه، وقد اقتص الخليفة للقبطي في مظلمته، وقال مقولته التي أضحت مثلاً: "يا عمرو، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟".
ولما كان ابن رواحة  يخرص ليهود خيبر حاولوا رشوته فأبى، وقال: (وليس يحملني بغضي إياكم على أن أحيف عليكم، قد خرصت عشرين ألف وسق من تمر، فإن شئتم فلكم، وإن أبيتم فلي). فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض، قد أخذنا، فاخرجوا عنا.
ومن عجيب الأخبار، أخبار عدل الخلفاء مع أهل ذمة الله ورسوله والمؤمنين ؛ أن عمير بن سعد  ترك ولاية حمص لإساءته إلى ذمي، فقد قال للخليفة مستعتباً عن الرجوع إلى الإمارة: (إن ذلك لسيء، لا عملت لك، ولا لأحد بعدك، والله ما سلِمت، بل لم أسلم، قلت لنصراني: أخزاك الله، فهذا ما عرضتني به يا عمر، وإن أشقى أيامي يوماً خلفت معك يا عمر)، ولم يجد الخليفة بُداً من قبول هذه الاستقالة، فتقبلها على مضض وهو يقول: (وددت أن لي رجلاً مثل عمير بن سعد استعين به على أعمال المسلمين).
وفي تاريخ دمشق أن عميراً  قال للخليفة عمر: " فما يؤمنني أن يكون محمد  خصمي يوم القيامة، ومن خاصمه خصمه".
ولما ولي أمير العدل عمر بن عبد العزيز أمر مناديه أن ينادي: ألا من كانت له مظلمة فليرفعها، فقام إليه رجل ذمي يشكو الأمير العباس بن الوليد بن عبد الملك في ضيعة له أقطعها الوليد لحفيده العباس، فحكم له الخليفة بالضيعة، فردها عليه.
وفي أحيان أخرى لم يأخذ المسلمون العدل من خصومهم، بل عفوا وتجاوزوا كما جرى زمن معاوية بن أبي سفيان حين نقض أهل بعلبك عهدهم مع المسلمين، وفي أيدي المسلمين رهائن من الروم، فامتنع المسلمون من قتلهم، ورأوا جميعاً تخلية سبيلهم، وقالوا:
"وفاء بغدر خير من غدر بغدر". قال هشام: وهو قول العلماء، الأوزاعي وغيره.
ولم يخلُ تاريخنا - على وضاءته - من بعض المظالم التي وقعت للمسلمين ولغيرهم، وقد استنكرها فقهاء الإسلام، ورأوا فيها جوراً وخروجاً عن رسوم الشريعة، ومنه أن هشام بن حكيم بن حزام  مرّ على أناس من الأنباط بالشام قد أقيموا في الشمس، فقال: ما شأنهم؟ قالوا: حبسوا في الجزية، فقال هشام: أشهد لسمعت رسول الله  يقول: ((إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا)). قال: وأميرهم يومئذ عمير بن سعد على فلسطين، فدخل عليه، فحدثه، فأمر بهم فخُلوا.
ولما خاف الخليفة الوليد بن يزيد من نصارى قبرص أجلاهم منها، فاستفظع المسلمون ذلك، واعتبروه من الظلم ، يقول إسماعيل بن عياش : "فاستفظع ذلك المسلمون، واستعظمه الفقهاء، فلما ولي يزيد بن الوليد ردهم إلى قبرص ، فاستحسن المسلمون ذلك من فعله، ورأوه عدلاً".
كما حطَّ عمر بن عبد العزيز عن أهل قبرص ألف دينار زادها عبد الملك عما في عهد معاوية  لهم، ثم ردها عليهم هشام بن عبد الملك، فلما كانت خلافة أبي جعفر المنصور أسقطها عنهم، وقال: "نحن أحق من أنصفهم، ولم نتكثر بظلمهم".
ومثله صنع الأوزاعي فقيه الشام حين أجلى الأمير صالح بن عليٍّ بن عبد الله بن عباس أهل ذمة من جبل لبنان، فكتب إليه الأوزاعي: "فكيف تؤخذ عامة بذنوب خاصة، حتى يُخرَجوا من ديارهم وأموالهم؟ وحكم الله تعالى: ألا تزر وازرة وزر أخرى (النجم: 38)، وهو أحق ما وقف عنده واقتدي به ، وأحق الوصايا أن تحفظ وترعى وصية رسول الله  فإنه قال: ((من ظلم ذميًا أو كلَّفه فوق طاقته فأنا حجيجه)) ... فإنهم ليسوا بعبيد، فتكونَ في حِلٍ من تحويلهم من بلد إلى بلد، ولكنهم أحرار أهلُ ذمة".
وما زال العلماء والخلفاء يتواصون بحقوق الذمة، كل يحذر أن تخفر ذمة الله وذمة نبيه  وهو شاهد، لأجل ذلك حرصوا على تفقد أحوالهم ومعرفة أمورهم، ومن ذلك أن وفداً من أهل الذمة جاء إلى عمر، قال عمر للوفد: (لعل المسلمين يفضون إلى أهل الذمة بأذى وبأمور لها ما ينتقضون بكم؟) فقالوا: ما نعلم إلا وفاء وحسن ملكة".
ويرسل عمر كتاباً إلى عامله أبي عبيدة، فيقول موصياً بأهل الذمة: "وامنع المسلمين من ظلمهم والإضرار بهم، وأكل أموالهم إلا بحلها، ووف لهم بشرطهم الذي شرطت لهم في جميع ما أعطيتهم".
ولما جاءه مال الجباية سأل  عن مصدره مخافة العنت والمشقة على أهل الذمة، ففي الأثر عنه  "أنه أتي بمال كثير، أحسبه قال: من الجزية. فقال: إني لأظنكم قد أهلكتم الناس؟ قالوا: لا، والله ما أخذنا إلا عفواً صفواً. قال: بلا سوط ولا نوط؟ قالوا: نعم. قال: الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني ".
ولما جاء عمر  الشام تلقاه المقلسون من أهل أذرعات بالسيوف والريحان‏ يلعبون بين يديه.‏ فكره عمر لعبهم، وأمر بمنعهم‏.‏ فقال له أبو عبيدة‏:‏ يا أمير المؤمنين هذه سُنتهم، وإنك إن منعتهم منها يروا أن في نفسك نقضاً لعهدهم‏.‏ فقال عمر‏:‏ دعوهم‏.
وفي رواية ابن زنجويه أنه قال: (دعوهم ، عمر وآل عمر في طاعة أبي عبيدة). فقد كره  مساءتهم، وأن يظنوا به النقض، فأذعن لقول أبي عبيدة.
ولما تدانى الأجل به  لم يفُته أن يوصي المسلمين برعاية أهل الذمة فقال: (أوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيراً، وأن يوفي لهم بعهدهم ، وأن يقاتلوا من ورائهم ، وألا يكلفوا فوق طاقتهم).
وكتب إلى واليه في مصر: "واعلم يا عمرو أن الله يراك ويرى عملك، فإنه قال تبارك وتعالى في كتابه :  واجعلنا للمتقين إماماً  (الفرقان: 74) يريد [أي من المؤمن] أن يُقتدى به، وأن معك أهل ذمة وعهد، وقد أوصى رسول الله  بهم، وأوصى بالقبط فقال : ((استوصوا بالقبط خيراً، فإن لهم ذمة ورحماً))، ورحِمُهم أن أم إسماعيل منهم، وقد قال  : ((من ظلم معاهداً أو كلفه فوق طاقته؛ فأنا خصمه يوم القيامة)) احذر يا عمرو أن يكون رسول الله  لك خصماً، فإنه من خاصمه خَصَمه".
وكتب علي بن أبي طالب  بلسان الوجِل من ربه إلى عماله على الخراج: "إذا قدمت عليهم فلا تبيعن لهم كسوة، شتاءً ولا صيفاً، ولا رزقاً يأكلونه، ولا دابة يعملون عليها، ولا تضربن أحداً منهم سوطاً واحداً في درهم، ولا تقمه على رجله في طلب درهم، ولا تبع لأحد منهم عَرَضاً في شيء من الخراج، فإنا إنما أمرنا الله أن نأخذ منهم العفو، فإن أنت خالفت ما أمرتك به يأخذك الله به دوني، وإن بلغني عنك خلاف ذلك عزلتُك".
ولما فتح المسلمون دمشق ولي قسم منازلها بين المسلمين سبرة بن فاتك الأسدي، فكان ينزل الرومي في العلو، وينزل المسلم في السفل؛ لأنْ لا يضر المسلم بالذمي.
ويدخل فقيه عصره أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة على الخليفة هارون الرشيد يذكره برعاية أهل الذمة وتفقد أحوالهم، ويستميل قلبه بذكر قرابته من رسول الله  صاحب ذمتهم، فيقول: "وقد ينبغي يا أمير المؤمنين - أيدك الله - أن تتقدم بالرفق بأهل ذمة نبيك وابن عمك محمد r ، والتفقد لهم حتى لا يظلموا، ولا يؤذوا، ولا يكلفوا فوق طاقتهم، ولا يؤخذ من أموالهم إلا بحق يجب عليهم".
وقد شهد المؤرخون بسمو حضارتنا في هذا الباب، فقد اعترف بريادتنا له نصارى حمص حين كتبوا إلى أبي عبيدة بن الجراح t: " لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم، ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم"، ثم أغلقوا أبواب المدينة في وجه الروم إخوانهم في العقيدة.
وتنقل المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه في كتابها الماتع " شمس العرب تسطع على الغرب" شهادة مهمة من بطريك بيت المقدس، فتقول: " فبطريرك بيت المقدس يكتب في القرن التاسع لأخيه بطريرك القسطنطينية عن العرب: إنهم يمتازون بالعدل، ولا يظلموننا البتة، وهم لا يستخدمون معنا أي عنف".
خامساً : التكافل الاجتماعي
لعل من أهم الضمانات التي يقدمها الإسلام لغير المسلمين - الذين يقيمون في المجتمع المسلم - كفالتهم ضمن نظام التكافل الإسلامي.
فإن الله عز وجل بعث نبيه  رحمة للعالمين وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين  (الأنبياء: 107)، وقد أمر  المسلمين أن يتصفوا بصفة الرحمة، في تعاملهم فيما بينهم ومع غيرهم، بل وحتى مع الحيوان ، فقال  (( لا يرحم الله من لا يرحم الناس)) ، وكلمة الناس لفظة عامة تشمل كل أحد ، دون اعتبار لجنس أو دين .
قال ابن بطال: "فيه الحض على استعمال الرحمة لجميع الخلق , فيدخل المؤمن والكافر والبهائم والمملوك منها وغير المملوك ".
وحث الإسلام أيضاً المؤمنين وألزمهم بالإحسان والبر في معاملة من لا يعتدي على المسلمين، فقال تبارك وتعالى:  وأحسنوا إن الله يحب المحسنين  (البقرة: 195).
وقد جعل الإسلام دفع الزكاة إلى مستحقيها من المسلمين وغيرهم ركناً من أركان الإسلام، فقال تعالى:  إنما الصدقات للفقراء والمساكين  (التوبة: 60) قال القرطبي: " ومطلق لفظ الفقراء لا يقتضي الاختصاص بالمسلمين دون أهل الذمة .. وقال عكرمة: الفقراء فقراء المسلمين، والمساكين فقراء أهل الكتاب".
ويقول السرخسي: "لنا أن المقصود سد خلة المحتاج ودفع حاجته بفعل هو قربة من المؤدي، وهذا المقصود حاصل بالصرف إلى أهل الذمة، فإن التصديق عليهم قربة بدليل التطوعات، لأنّا لم ننه عن المبرة لمن لا يقاتلنا، قال الله تعالى :  لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين  (الممتحنة: 8)".
ولئن كان الخلاف بين الفقهاء قوياً في بر أهل الذمة من أموال الزكاة المفروضة، فإنهم أجازوا دفع الكفارة الواجبة إلى أهل الذمة، بل قدمهم الكاساني فيها حتى على المسلم ، لأنها " وجبت لدفع المسكنة، والمسكنة موجودة في الكفرة، فيجوز صرف الصدقة إليهم، كما يجوز صرفها إلى المسلم، بل أولى، لأن التصدق عليهم بعض ما يرغبهم إلى الإسلام ويحملهم عليه".
وأمر القرآن الكريم ورغَّب بالصدقة على غير المسلمين، فقد روى أبو عبيد أن بعض المسلمين كان لهم أنسباء وقرابة من قريظة والنضير، وكانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم، يريدوهم أن يسلموا ، فنزلت :  ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم (البقرة: 272).
وقد جاء في مراسيل سعيد بن المسيب أن رسول الله  تصدق بصدقة على أهل بيت من اليهود، فهي تجري عليهم ".
وعليه قد أجاز فقهاء الشريعة التصدق على أهل الذمة، يقول أبي رزين: كنت مع سفيان بن سلمة، فمر عليه أسارى من المشركين، فأمرني أن أتصدق عليهم، ثم تلا هذه الآية: ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً (الإنسان: 8).
يقول أبو عزيز بن عمير: كنت في الأسارى يوم بدر، فقال رسول الله  : ((استوصوا بالأسارى خيراً))، وكنت في نفر من الأنصار، وكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم أكلوا التمر وأطعموني الخبز، بوصية رسول الله  إياهم.
كما أجاز الفقهاء الوقف لهم، واعتبروه من وجوه البر التي يحبها الله، يقول محمد بن الحسن الشيباني: " ويصح [الوقف] على أهل الذمة؛ لأنهم يملكون ملكاً محترماً، وتجوز الصدقة عليهم .. وإذا جازت الصدقة عليهم جاز الوقف عليهم كالمسلمين، وروي أن صفية زوج النبي  وقفت على أخ لها يهودي، ولأن من جاز أن يقف عليه الذمي جاز أن يقف المسلم عليه كالمسلم، ولو وقف على من ينزل كنائسهم وبيعهم من المارة والمجتازين من أهل الذمة وغيرهم؛ صح".
وهذا كما رأينا بعض البر والعدل الذي حثَّ عليه القرآن الكريم ، حين ذكر أهل الذمة المسالمين الذين لا يعتدون على المسلمين، فقال: } لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين { ( الممتحنة: 8 ).
ويفصل الإمام القرافي في شرحه للبر والعدل المأمور به في معاملة غير المسلمين، فيقول: "وأما ما أمر به من برِّهم من غيرمودة باطنية، فالرفق بضعيفهم، وسد خلة فقيرهم ، وإطعام جائعهم، وكساء عاريهم .. وصون أموالهم، وعيالهم، وأعراضهم، وجميع حقوقهم ومصالحهم، وأن يعانوا على دفع الظلم عنهم، وإيصالهم لجميع حقوقهم...".
ويقول القرشي المالكي في شرحه على مختصر خليل: "دفع الضرر وكشف الأذى عن المسلمين أو ما في حكمهم من أهل الذمة من فروض الكفايات، من إطعام جائع وستر عورة، حيث لم تفِ الصدقات ولا بيت المال بذلك".
ووفق هذا الهدي سلك أصحاب النبي  من بعده ، فكتب خالد بن الوليد t لنصارى الحيرة : " وجعلتُ لهم أيما شيخ ضعف عن العمل ، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنياً فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه؛ طرحت جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين هو وعياله".
وروى ابن زنجويه بإسناده أن عمر بن الخطاب رأى شيخاً كبيراً من أهل الجزية يسأل الناس فقال: (ما أنصفناك إن أكلنا شبيبتك، ثم نأخذ منك الجزية، ثم كتب إلى عماله أن لا يأخذوا الجزية من شيخ كبير).
وفي رواية أن عمر أخذ بيده وذهب به إلى منزله، فرضخ له بشيء من المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال : (انظر هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم  إنما الصدقات للفقراء والمساكين  والفقراء هم المسلمون ، وهذا من المساكين من أهل الكتاب)، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه.
وكان مما أمر به رضي الله عنه : "من لم يطق الجزية خففوا عنه، ومن عجز فأعينوه".
ومر  في الجابية على مجذومين من أهل الذمة، فأمر أن يعطوا من صدقات المسلمين، وأن يجرى عليهم القوت من بيت المال.
وكتب الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز إلى واليه عدي بن أرطأة : "وانظر من قِبَلك من أهل الذمة قد كبرت سنه وضعفت قوته وولت عنه المكاسب؛ فأجرِ عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه".
وقد سجل هذه الرعاية الفريدة المستشرق بارتولد في كتابه "الحضارة الإسلامية"، فقال :" إن النصارى كانوا أحسن حالاً تحت حكم المسلمين، إذ أن المسلمين اتبعوا في معاملاتهم الدينية والاقتصادية لأهل الذمة مبدأ الرعاية والتساهل ".

المبحث الثاني : الجزية
ما يزال البعض - ممن حرم التحقيق والإنصاف - يعيب على المسلمين ما قرره القرآن من الجزية على الذين رفضوا الدخول في الإسلام، }قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون { (التوبة: 29) واعتبروا ذلك نوعاً من الإكراه على الإسلام، واعتبروها جزاء على الكفر، وأنها نوع من الظلم لأهل الذمة، وزاد نفورهم من هذه الشرعة حين قرؤوا قوله تعالى:  وهم صاغرون  فأخطؤوا في فهمها.
ولسوف نعرض في هذه الدراسة لمعنى الجزية والصغار، والحكمة منها ومقدارها، كما نلقي إيماءة على تاريخها:
أ. الجزية في اللغة والاصطلاح والتاريخ الإنساني
الجزية في اللغة مشتقة من مادة (ج ز ي)، تقول العرب: "جزى ، يجزي، إذا كافأ عما أسدي إليه"، والجزية مشتق على وزن فِعلة من المجازاة، بمعنى "أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن"، وقال ابن المطرز: بل هي من الإجزاء "لأنها تجزئ عن الذمي".
وعلى كلا المعنيين فهي ليست – كما زعم بعض الفقهاء وتلقفها المتربصون - عقوبة ينالها الكافر على كفره، فإن عقوبة الكفر لن تكون بضعة دنانير.
ولو كانت الجزية عقوبة على الكفر لما أسقطت عن النساء والشيوخ والأطفال لاشتراكهم في صفة الكفر، بل لو كان كذلك لزاد مقدارها على الرهبان ورجال الدين، بدلاً من أن يُعفوا منها.
قال الباجي: "الجزية تؤخذ منهم على وجه العوض، لإقامتهم في بلاد المسلمين والذبِّ عنهم والحماية لهم".
وقد تبين لنا قبلُ أن الله هو يتولى حساب من كفر به في الآخرة: }قل الله أعبد مخلصاً له ديني  فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين{ (الزمر: 14-15).
وأما الجزية عند أهل الاصطلاح فعرفها ابن قدامة بقوله: "هي الوظيفة المأخوذة من الكافر لإقامته بدار الإسلام في كل عام".
الجزية قبل الإسلام
لم يكن الإسلام بدعاً بين الأديان، كما لم يكن المسلمون كذلك بين الأمم؛ حين أخذوا الجزية من الأمم التي دخلت تحت ولايتهم، فإن أخذ الأمم الغالبة للجزية من الأمم المغلوبة أشهر من علم ، والتاريخ البشري أصدق شاهد على ذلك.
وقد نقل العهد القديم والجديد شيوع هذه الصورة ، ففي إنجيل متى أن المسيح عليه السلام قال لسمعان: " ماذا تظن يا سمعان؟ ممن يأخذ ملوك الأرض الجباية أو الجزية، أمن بنيهم أم من الأجانب؟ قال له بطرس من الأجانب. قال له يسوع: فإذاً البنون أحرار" (متى 17/24-25).
ويذكر العهد القديم شرعة الجزية في شرائع التوراة ، وأن الأنبياء عليهم السلام أخذوا الجزية من الأمم المغلوبة حين غلبوا على بعض الممالك ، كما صنع النبي يشوع مع الكنعانيين حين تغلب عليهم "فلم يطردوا الكنعانيين الساكنين في جازر، فسكن الكنعانيون في وسط افرايم إلى هذا اليوم، وكانوا عبيداً تحت الجزية" (يشوع 16/10)، وقد جمع لهم بين العبودية والجزية.
وفي المسيحية أمر المسيح أتباعه بدفع الجزية للرومان، وسارع هو إلى دفعها ، فقد ذكر إنجيل متى أنه قال لسمعان بطرس: " اذهب إلى البحر وألق صنارة، والسمكة التي تطلع أولاً خذها، ومتى فتحت فاها تجد أستاراً، فخذه وأعطهم عني وعنك" (متى 17/24-27).
ويذكر إنجيل متّى أنه في مرة أخرى سئل: "أيجوز أن تعطى جزية لقيصر أم لا؟ .. فقال لهم: لمن هذه الصورة والكتابة؟ قالوا له: لقيصر. فقال لهم: أعطوا إذاً ما لقيصر لقيصر، وما للّه للّه" (متى 22/17-21).
ويعتبر العهد الجديد أداء الجزية للسلاطين حقاً مشروعاً، بل ويعطيه قداسة، ويجعله أمراً دينياً، إذ يقول بولس: "لتخضع كل نفس للسلاطين، السلاطين الكائنة هي مرتبة من الله، حتى إن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة ... إذ هو خادم الله، منتقم للغضب من الذي يفعل الشر، لذلك يلزم أن يخضع له ليس بسبب الغضب فقط، بل أيضا بسبب الضمير، فإنكم لأجل هذا توفون الجزية أيضاً، إذ هم خدام الله مواظبون على ذلك بعينه، فأعطوا الجميع حقوقهم، الجزية لمن له الجزية، الجباية لمن له الجباية، والخوف لمن له الخوف، والإكرام لمن له الإكرام" (رومية 13/1-7).

ب. شرعة الجزية في الإسلام
إن أصل شرعة الجزية في الإسلام قوله تعالى: }قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون { (التوبة: 29)، وأول ما نلحظه أن الآية خطاب إلى المؤمنين تأمرهم بأخذ الجزية من المقاتلين دون غيرهم.
قال القرطبي: "قال علماؤنا: الذي دل عليه القرآن أن الجزية تؤخذ من المقاتلين ... وهذا إجماع من العلماء على أن الجزية إنما توضع على جماجم الرجال الأحرار البالغين، وهم الذين يقاتلون، دون النساء والذرية والعبيد والمجانين المغلوبين على عقولهم والشيخ الفاني".
قال مالك: "مضت السنة أن لا جزية على نساء أهل الكتاب ولا على صبيانهم، وأن الجزية لا تؤخذ إلا من الرجال الذين قد بلغوا الحلم، وليس على أهل الذمة ولا على المجوس في نخيلهم ولا كرومهم ولا زروعهم ولا مواشيهم صدقة".
قال ابن حجر: " لا تؤخذ من شيخ فانٍ ولا زمِن ولا امرأة ولا مجنون ولا عاجز عن الكسب ولا أجير ولا من أصحاب الصوامع والديارات في قولٍ, والأصح عند الشافعية الوجوب على من ذكر آخراً [أي أصحاب الصوامع]".
وقد كتب عمر بذلك إلى أمراء الأجناد: (لا تضربوا الجزية على النساء والصبيان، ولا تضربوها إلا على من جرت عليه المواسي) أي ناهز الاحتلام، وهو من يقدر عادة على حمل السلاح.
والتزم بذلك أمراء الإسلام ، ومنهم عمرو بن العاص والي مصر، فقد اصطلح مع المقوقس (على أن يفرض على جميع من بمصر أعلاها وأسفلها من القبط ديناران ديناران، عن كل نفس، شريفهم ووضيعهم، من بلغ الحلم منهم، ليس على الشيخ الفاني ولا على الصغير الذي لم يبلغ الحلم ولا النساء شيء).
ويشهد آدم متز بالتزام المسلمين بذلك في البلاد التي تحت سلطانهم، فيقول: " فكان لا يدفعها إلا الرجل القادر على حمل السلاح، فلا يدفعها ذوو العاهات، ولا المترهبون وأهل الصوامع إلا إذا كان لهم يسار".
وبمثله شهد ول ديورانت: " ولم يفرض عليهم أكثر من ارتداء زي ذي لون خاص، وأداء ضريبة عن كل شخص تختلف باختلاف دخله، وتتراوح بين دينار وأربعة دنانير .. ويعفى منها الرهبان، والنساء، والذكور الذين هم دون البلوغ، والأَرِقَّاء، والشيوخ، والعَجَزة، والعُمي، والشديد الفقر".
ومن النص السابق والشهادتين اللتين بعده يبين لنا أن المبلغ المدفوع للجزية لم يكن كبيراً يعجز عن دفعه الرجال، بل كان ميسوراً يطيقه كل أحد.
ففي زمن النبي  لم تجاوز جزية الفرد الدينار الواحد في كل سنة، فحين أرسل النبي معاذاً إلى اليمن أخذ من كل حالم منهم ديناراً، يقول معاذ: (بعثني النبي  إلى اليمن، فأمرني أن آخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعاً، أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة [هذه زكاة على المسلمين منهم]، ومن كل حالم ديناراً، أو عدله مَعافر[للجزية]). والمعافري: الثياب.
وعلى عهد عمر بن الخطاب  كانت الجزية على أهل الذهب: أربعة دنانير، وعلى أهل الورِق: أربعين درهماً؛ مع ذلك أرزاق المسلمين، وضيافة ثلاثة أيام.
وقد تفاوت مقدار الجزية في عصور الإسلام، وقد مر معنا أن عمرو بن العاص أوجب على أهل مصر دينارين فقط في كل سنة ، تدفع عن الرجال دون النساء والأطفال والشيوخ، فيما لم تتجاوز جزية الشخص الواحد الأربعة دنانير زمن الدولة الأموية.
والذي يظهر من هذا التفاوت أن مقدار الجزية متروك للإمام، قال ابن أبي نجيح: قلت لمجاهد: ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير، وأهل اليمن عليهم دينار؟ قال: جعل ذلك من قبل اليسار.
لكنه على كل حال لن يجاوز هذه المبالغ البسيطة التي تراعي حالة الناس ويسارهم، ولا تكلفهم فوق طاقتهم، وهو ما نفهمه من وصية عمر للخليفة بعده بأهل الذمة، إذ يقول: ( وألا يكلفوا فوق طاقتهم).
قال ابن حجر: "ويستفاد من هذه الزيادة أن لا يؤخذ من أهل الجزية إلا قدر ما يطيق المأخوذ منه ".
وفي هذا الصدد ينقل آدم متز عن المؤرخ بنيامين قوله: "إن اليهود في كل بلاد الإسلام يدفعون ديناراً واحداً".
ويقول دربير في كتابه "المنازعة بين العلم والدين": "إن المسلمين ما كانوا يتقاضون من مقهوريهم إلا شيئاً ضئيلاً من المال لا يقارن بما كانت تتقاضاه منهم حكوماتهم الوطنية".
ويقول مونتسكيو في كتابه "روح الشرائع" : "إن هذه الأتاوات المفروضة كانت سبباً لهذه السهولة الغريبة التي صادفها المسلمون في فتوحاتهم، فالشعوب رأت – بدل أن تخضع لسلسلة لا تنتهي من المغارم التي تخيلها حرص الأباطرة – أن تخضع لأداء جزية خفيفة يمكن توفيتها بسهولة، وتسلمها بسهولة كذلك".
وأما من عجز عن دفع هذا المبلغ الزهيد، فإن الفقهاء أسقطوها عنه، يقول ابن القيم: " تسقط الجزية بزوال الرقبة أو عجزها عن الأداء ".
قال القاضي أبو يعلى: "وتسقط الجزية عن الفقير وعن الشيخ وعن الزَمِن".
وفي مقابل هذه الدنانير المعدودات فإن المسلمين يلتزمون بالدفاع عن أهل الذمة وحمايتهم، ولو أدى ذلك إلى إزهاق أرواحهم في سبيل حماية أهل ذمتهم.
فقد ضمنه كتاب النبي  لربيعة الحضرمي، إذ يقول: "وأن نَصْرَ آل ذي مرحب على جماعة المسلمين ، وأن أرضهم بريئة من الجور".
وبمثله ضمن عبادة بن الصامت للمقوقس عظيم القبط ، حين قال: " نقاتل عنكم من ناوأكم وعرض لكم في شيء من أرضكم ودمائكم وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم إن كنتم في ذمتنا ، وكان لكم به عهد علينا ...".
وكتب خالد لأهل بعض النواحي في العراق : "فإن منعناكم فلنا الجزية، وإلا فلا حتى نمنعكم".
قال أبو الوليد الباجي: " وذلك أن الجزية إنما تؤخذ منهم على وجه العوض لإقامتهم في بلاد المسلمين والذب عنهم والحماية لهم".
وأكد فقهاء الإسلام على حق أهل الذمة بالحماية، واعتبروا قيام المسلمين به من الوفاء بالعهود الذي تحرسه الشريعة وتأمر به.
قال الماورديّ: "ويلتزم ـ أي الإمام ـ لهم ببذل حقَّين: أحدهما: الكفُّ عنهم. والثانِي: الحماية لهم، ليكونوا بالكفِّ آمنين، وبالحماية محروسين".
وقال النوويّ: "ويلزمنا الكفُّ عنهم، وضمان ما نُتلفه عليهم، نفسًا ومالاً، ودفعُ أهلِ الحرب عنهم".
قال ابن قدامة: "الجزية تجب على أهل الذمة في كل عام، وهي بدل عن النصرة".
وينقل القرافي عن ابن حزم إجماعاً للمسلمين لا تجد له نظيراً عند أمة من الأمم، فيقول: "من كان في الذمة، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك، صوناً لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله ؛ فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة".
ويعلق القرافي فيقول: "فعقد يؤدي إلى إتلاف النفوس والأموال صوناً لمقتضاه عن الضياع إنه لعظيم".
ولا يسقط واجب المسلمين بحماية أهل الذمة وهم في ديار الإسلام، بل يمتد إلى إطلاق أسراهم الذين غُلبنا عليهم، يقول ابن النجار الحنبلي: "يجب على الإمام حفظ أهل الذمة، ومنع من يؤذيهم، وفكُّ أسرهم، ودفع من قصدهم بأذى".
ولما أغار أمير التتار قطلوشاه على دمشق في أوائل القرن الثامن الهجري، وأسر من المسلمين والذميين من النصارى واليهود عدداً، ذهب إليه الإمام ابن تيمية ومعه جمع من العلماء، وطلبوا فك الأسرى، فسمح له بالمسلمين، ولم يطلق الأسرى الذميين، فقال له شيخ الإسلام: "لابد من افتكاك جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا، ولا ندع لديك أسيراً، لا من أهل الملة، ولا من أهل الذمة، فإن لهم ما لنا، وعليهم ما علينا"، فأطلقهم الأمير التتري جميعاً.
وهذه الأحكام الشرعية لا تختص بأهل الذمة، بل تسري على كل من كان ببلاد المسلمين من المعاهدين والمستأمنين، فإنهم جميعاً أهل ذمة كما سبق بيانه، يقول السرخسي: "قد بيَّنا أنّ المستأمنين فينا إذا لم يكونوا أهل منعة؛ فحالهم كحالِ أهل الذمّة في وجوب نصرتِهم على أمير المسلمين، ودفع الظلم عنهم؛ لأنّهم تحت ولايته.
ألا ترى أنّه كان يجب على الإمام والمسلمين اتّباعهم لاستنقاذهم من أيدي المشركين الذين قهروهم ما لم يدخلوا حصونَهم ومدائنهم، كما يجب عليهم ذلك إذا وقع الظهور على المسلمين، أو على أهل الذمّة؟ وكذلك لو أنّ هؤلاء المستأمنين كانوا من أهل دار الموادعة، دخلوا إلينا بتلك الموادعة".
وحين عجز المسلمون عن حماية أهل الذمة ردوا إليهم ما أخذوه من الجزية لفوات شرطها، وهو الحماية، فقد روى القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج وغيره من أصحاب السير عن مكحول أن الأخبار تتابعت على أبي عبيدة بجموع الروم، فاشتد ذلك عليه وعلى المسلمين، فكتب أبو عبيدة لكل والٍ ممن خلَّفه في المدن التي صالح أهلها يأمرهم أن يردوا عليهم ما جُبي منهم من الجزية والخراج، كتب إليهم أن يقولوا لهم: إنما رددنا عليكم أموالكم، لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط وما كان بيننا وبينكم ؛ إن نصرنا الله عليهم".
وحين قام أهل الذمة بالمشاركة بالذود عن بلادهم أسقط عنهم المسلمون الجزية، كما صنع معاوية  مع الأرمن، يقول لوران المؤرخ الفرنسي في كتابه "أرمينية بين بيزنطة والإسلام" : "إن الأرمن أحسنوا استقبال المسلمين ليتحرروا من ربقة بيزنطة، وتحالفوا معهم ليستعينوا بهم على مقاتلة الخزر، وترك العرب لهم أوضاعهم التي ألفوها وساروا عليها، والعهد أعطاه معاوية سنة 653م، إلى القائد تيودور رختوني ولجميع أبناء جنسه ماداموا راغبين فيه، وفي جملته: (أن لا يأخذ منهم جزية ثلاث سنين، ثم يبذلون بعدها ما شاؤوا، كما عاهدوه وأوثقوه على أن يقوموا بحاجة خمسة عشر ألف مقاتل من الفرسان منهم بدلاً من الجزية، وأن لا يرسل الخليفة إلى معاقل أرمينيا أمراء ولا قادة ولا خيلاً ولا قضاة... وإذا أغار عليهم الروم أمدهم بكل ما يريدونه من نجدات. وأشهد معاويةُ الله على ذلك).
ولما تعهد الجراجمة (قريباً من أنطاكيا) بالقيام بالدفاع عن ثغرهم مع المسلمين، وأن يكونوا عيوناً للمسلمين وأعواناً لهم؛ أسقط عنهم أبو عبيدة  الجزية، بل صالحهم على أن ينفلوا مع المسلمين إذا غنموا في حربهم إلى جانب المسلمين.
وبمثله صالح  أهل السامرة فأسقط عنهم الجزية ، يقول البلاذري: "كانوا عيوناً وأدلاء للمسلمين على جزية رؤوسهم".
وأما أهل جرجان، فقد نقل الطبري أن سويد بن مقرن رفع الجزية عمن يقوم بحمايتها منهم، وكتب لهم بذلك كتاباً جاء فيه: " إن لكم الذمة، وعلينا المنعة، على أن عليكم من الجزاء (أي الجزية) في كل سنة على قدر طاقتكم، على كل حالم، ومن استعنا به منكم فله جزاؤه (جزيته) في معونته عوضاً من جزائه، ولهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم، ولا يغير شيء من ذلك هو إليهم؛ ما أدوا وأرشدوا ابن السبيل ونصحوا وقروا المسلمين، ولم يبد منهم سل ولا غل ".
ومثله ما كتبه عتبة بن فرقد عامل عمر بن الخطاب لأهل أذربيجان ، فقد أعطاهم "كلهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم، على أن يؤدوا الجزية، على قدر طاقتهم ليس على صبي ولا امرأة، ولا زمِن ليس في يديه شيء من الدنيا، ولا متعبد متخل ليس في يديه من الدنيا شيء ... ومن حشر منهم في سنة (أي دعي للمشاركة في الدفاع) وضع عنه جزاء تلك السنة".
ثم يضيف الطبري بأن عتبة قدم بالكتاب على الخليفة عمر " وذلك أن عمر كان يأخذ عماله بموافاة الموسم في كل سنة، يحجر عليهم بذلك الظلم، ويحجزهم به عنه".
ومثله أيضاً كتب سراقة بن عمرو لأهل أرمينيا، فقد تضمن عهدهم: " أن ينفروا لكل غارة، وينفذوا لكل أمر ناب أو لم ينب؛ رآه الوالي صلاحاً؛ على أن توضع الجزاء عمن أجاب إلى ذلك .. والحشر عوض من جزائهم، ومن استغنى عنه منهم وقعد فعليه مثل ما على أهل أذربيجان من الجزاء .. فإن حشروا وضع ذلك عنهم ".
لذا حق لآدم ميتز أن يرى الجزية أشبهت ما نسميه اليوم بالخدمة العسكرية، إذ يقول: " وكانت هذه الجزية أشبه بضريبة الدفاع الوطني، فكان لا يدفعها إلا الرجل القادر على حمل السلاح ".
ويوافقه المؤرخ توماس أرنولد، فيقول: "ولم يكن الغرض من فرض هذه الضريبة على المسيحيين - كما يريدنا بعض الباحثين على الظن - لوناً من ألوان العقاب لامتناعهم عن قبول الإسلام، وإنما كانوا يؤدونها مع سائر أهل الذمة. وهم غير المسلمين من رعايا الدولة الذين كانت تحول ديانتهم بينهم وبين الخدمة في الجيش، في مقابل الحماية التي كفلتها لهم سيوف المسلمين".
ويقول ول ديورانت: " ولم تكن هذه الضريبة تفرض إلا على غير المسلمين القادرين على حمل السلاح .. وكان الذميون يعفون في نظير هذه الضريبة من الخدمة العسكرية .. وكان لهم على الحكومة أن تحميهم ".
وينقل الدكتور علي الخربوطلي عن فان فلوتن قوله بأن "الضرائب ليست فادحة بالنسبة لما كانت تقوم به الحكومة العربية من بناء الطرق وحفر الترع وتوطيد الأمن وما إلى ذلك من ضروب الإصلاح، والحقيقة أن الجزية لم تكن عقاباً لأهل الذمة، فهي نظير إعفائهم من الجندية وفي مقابل حماية المسلمين لهم".
وحين يعجز دافع الجزية عنها فإنها تسقط عنه، لا بل يدفع له من بيت مال المسلمين ما يكفيه ويقوته – كما سبق بيانه – ، ويقول أبو الوليد الباجي: " إذا اجتمعت على الذمي جزية سنتين أو أكثر لم تتداخل في قول الشافعي، وتتداخل في قول أبي حنيفة، وتجب عليه جزية سنةٍ واحدةٍ، والظاهر من مذهب مالكٍ أنه إن كان فر منها أخذ منه للسنين الماضية، وإن كان ذلك لعجزٍ لم تتداخل، ولم يبق في ذمته ما يعجز عنه من السنين .. وهذا القول مبني على أن الفقير لا جزية عليه ولا تبقى في ذمته".
قال القرطبي: "وأما عقوبتهم إذا امتنعوا عن أدائها مع التمكين فجائز، فأما مع تبين عجزهم فلا تحل عقوبتهم، لأن من عجز عن الجزية سقطت عنه، ولا يكلف الأغنياء أداءها عن الفقراء".
وأما عن تفسير قوله:  عن يدٍ  فقال ابن حجر: " أي عن طيب نفس , وكل من أطاع لقاهرٍ وأعطاه عن طيب نفس من يد فقد أعطاه عن يد . وقيل معنى قوله :  عن يد  أي نعمة منكم عليهم , وقيل: يعطيها من يده ولا يبعث بها".
وأما الأمر بالصغار الوارد في قوله: } وهم صاغرون {، فهو معنى لا يمكن أن يتنافى مع ما رأيناه في أقوال النبي  من وجوب البر والعدل، وحرمة الظلم والعنت، وهو ما فهمه علماء الإسلام ، ففسره الشافعي بأن تجري عليهم أحكام الإسلام، أي العامة منها، فالجزية علامة على خضوع الأمة المغلوبة للخصائص العامة للأمة الغالبة.
وفسره التابعي عكرمة مولى ابن عباس بصورة دفع الجزية للمسلمين، فقال: "أن يكونوا قياماً، والآخذ لها جلوساً"، إذ لما كانت اليد المعطية على العادة هي العالية، طلب منهم أن يشعروا العاطي للجزية بتفضلهم عليه، لا بفضله عليهم، يقول القرطبي في تفسيره: "فجعل يد المعطي في الصدقة عليا، وجعل يد المعطي في الجزية سفلى، ويد الآخذ عليا".
وقال ابن القيم: " لما كانت يد المعطي العليا، ويد الآخذ السفلة؛ احترز الأئمة أن يكون الأمر كذلك في الجزية، وأخذوها على وجه تكون يد المعطي السفلى، ويد الآخذ العليا".
وأما ما نقل عن بعض الفقهاء من صور مستقبحة في معنى الصغار فهي مما استقبحه العلماء وأنكروه، ومنه ما نقله تقي الدين الحصني الشافعي عن بعضهم بقولهم: "وتؤخذ على وجه الصغار والإهانة؛ بأن يكون الذمي قائماً، والمسلم جالساً، ويأمره أن يخرج يده من جيبه، ويحني ظهره، ويطأطئ رأسه، ويصب ما معه في كفة الميزان، ويأخذ المستوفي بلحيته، ويضرب في لهزمته، وفي مجمع اللحم بين الماضغ والأذن".
وتعقبها النووي بقوله: "هذه الهيئة باطلة، ولا نعلم لها أصلاً معتمداً، وإنما ذكرها بعضهم .. فالصواب الجزم ببطلانها، وردها على من اخترعها، ولم ينقل أنه عليه الصلاة والسلام ولا أحد من الخلفاء الراشدين فعل شيئاً منها".
ولما ذكر ابن القيم صوراً شبيهة ذكرها الفقهاء عقّب بقوله: "وهذا كله مما لا دليل عليه ولا هو مقتضى الآية، ولا نقل عن رسول الله ولا عن الصحابة أنهم فعلوا ذلك، والصواب في الآية أن الصغار هو التزامهم لجريان أحكام الملة عليهم وإعطاء الجزية، فإن التزام ذلك هو الصغار".
ونقل النووي عن جمهور العلماء قولهم: "تؤخذ برفق كأخذ الديون".
وليست الحماية السبب الوحيد الذي لأجله شرعت الجزية، بل ذكر العلماء أموراً ، منها أن الجزية والصغار وسيلة ضغط محدودة تدفع الذمي إلى التفكر في الإسلام والاطلاع على محاسنه والاهتداء إليه والفوز بالجنة.
قال ابن حجر: "قال العلماء: الحكمة في وضع الجزية أن الذل الذي يلحقهم ويحملهم على الدخول في الإسلام مع ما في مخالطة المسلمين من الاطلاع على محاسن الإسلام".


خاتمة
- الإسلام دين الله الخاتم الذي أرسل به الله تعالى محمداً  رحمة للعالمين ، وارتضى دينه من بين سائر الأديان ديناً.
- الإسلام سبق إلى رعاية حرية الإنسان في البقاء على دينه، وأن لا يكره على تركه، كما ضمن حرية العبادة وسلامة دورها.
- أهل الذمة والأمان والعهد مصطلحات أطلقها الفقهاء المسلمون على غير المسلمين المقيمين أو الوافدين إلى بلاد الإسلام، وتفيد أن هؤلاء في عهد المسلمين وذمتهم وحمايتهم.
- اعترف الإسلام بوجود الأديان تجانساً مع اعترافه بحتمية الخلاف وبقدرة الإنسان على التمييز والاختيار.
- الإكراه على الإسلام سوءة لم يصنعها المسلمون طوال تاريخهم بسبب قطعية النصوص المحرمة لذلك، وقد شهد لهذا المؤرخون الغربيون وغيرهم.
- حرص فقهاء الإسلام وملوكهم على رعاية أهل الذمة وحراسة حقوقهم فرقاً من وعيد النبي  لمن ظلمهم واعتدى عليهم.
- الله يحب المسلم الذي يعدل ويبر أهل الذمة بصور البر المختلفة من صلة وهدية وعيادة وضيافة وإكرام.
- أدركت الأمم عظمة الإسلام وسماحة دين الفاتحين ، فأحسنت استقبالهم وكانت عوناً لهم على حفظ الثغور ورد العدوان.
- شمل الإسلام بتعاليمه أهل الذمة في نظامه التكافلي، فتحول الذمي من دافع للجزية إلى مكفول من قبل المجتمع المسلم.
- الجزية نظام عرفته الأمم قديماً كما شرعته الكتب المقدسة عند اليهود والنصارى، بيد أن الإسلام سما بهذه الشريعة، وأضاف إليها ضمانات فريدة في مقابل دنانير معدودة سارع المغلوبون إلى دفعها.

فهرس المصادر والمراجع
• الأحكام السلطانية، أبو يعلى الفراء الحنبلي، دار الفكر، 1406هـ.
• أحكام أهل الذمة، ابن قيم الجوزية، تحقيق: يوسف أحمد البكري وشاكر العاروري، دار ابن حزم، الدمام، 1408هـ.
• الإسلام وأهل الذمة، علي حسن الخربوطلي، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، 1389 هـ.
• الأموال، أبو عبيد القاسم بن سلام، تحقيق: محمد خليل هراس، ط2، دار الفكر للطباعة والنشر، 1395هـ.
• الأموال، حميد بن زنجويه، تحقيق: د. شاكر ذيب فياض ، مركز الملك فيصل لبحوث والدراسات الإسلامية، 1406هـ.
• أهل الذمة في الإسلام، د. أ.س. ترتون، ترجمة وتعليق: حسن حبشي، ط3، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994م.
• تاريخ الأمم والملوك، محمد بن جرير الطبري، دار الكتب العلمية، بيروت، 1407هـ.
• تاريخ عمر، أبو الفرج ابن الجوزي، تحقيق: علي محمد عمر، دار البيان العربي.
• تحفة الأحوذي، محمد عبد الرحمن المباركفوري، دار الكتب العلمية، بيروت.
• تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ، دار الفكر ، بيروت، 1401هـ.
• جامع البيان، محمد بن جرير الطبري، دار الفكر، بيروت، 1405هـ.
• الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد الله القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني، ط2، دار الشعب، القاهرة، 1372هـ.
• الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، آدم متز، تعريب: محمد عبد الهادي أبو ريدة، ط4، دار الكتاب العربي، بيروت، 1387هـ.
• حضارة العرب، غوستاف لوبون، ترجمة: عادل زعيتر، مطبعة عيسى البابي الحلبي.
• حقوق غير المسلمين في بلاد الإسلام، صالح حسين العايد، دار أشبيليا، 1422هـ.
• الخراج، أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم، المطبعة السلفية، القاهرة، 1346هـ.
• روح الدين الإسلامي، عفيف طبارة، ط17، دار العلم للملايين، 1978م.
• سماحة الإسلام، أحمد الحوفي، إصدارات المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1391م.
• شرح السير الكبير، محمد بن الحسن الشيباني، تحقيق: صلاح الدين المنجد، [بدون معلومات نشر].
• شرح النووي على صحيح مسلم، النووي، ط2، دار إحياء التراث، بيروت، 1392هـ.
• شمس العرب تسطع على الغرب، زيغريد هونكه، ترجمة: فاروق بيضون وكمال دسوقي، ط 10، دار صادر، بيروت، 1423هـ.
• الطبقات الكبرى، ابن سعد، دار صادر ، بيروت.
• غير المسلمين في المجتمع المسلم، يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، 1397هـ.
• فتح الباري بشرح صحيح البخاري، دار المعرفة، بيروت، 1379هـ.
• فتوح البلدان، أحمد بن يحيى البلاذري، مؤسسة المعارف ، بيروت، 1407هـ.
• فتوح مصر وأخبارها، أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الحكم، طبع في مدينة ليدن.
• الفروق، أحمد بن إدريس الصنهاجي القرافي [بدون معلومات نشر].
• فن الحكم في الإسلام، مصطفى أبو زيد فهمي، المكتب المصري الحديث.
• قالوا عن الإسلام، عماد الدين خليل، الندوة العالمية للشباب الإسلامي،1412هـ.
• قصة الحضارة، ول ديورانت، ترجمة محمد بدران، ط2، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1964م.
• من أحكام أهل الذمة فى المجتمع الإسلامى، محمد عبد الرحيم،مطبعة الوفاء،2003م.
• المنتقى شرح موطأ إمام دار الهجرة، أبو الوليد الباجي، مطبعة دار السعادة، 1331هـ.

الفهرس
مقدمة
التمهيد
المبحث الأول: حقوق غير المسلمين في المجتمع المسلم
أولاً : ضمان حرية المعتقد
أ. حتمية الخلاف وطبيعته
ب. مهمة المسلمين الدعوة إلى الله لا أسلمة الناس
ج. التكريم الإلهي للإنسان، ومبدأ عدم الإكراه على الدين
ثانياً: حرية ممارسة العبادة وضمان سلامة دورها
شهادات المؤرخين الغربيين على سماحة المسلمين مع غيرهم
ثالثاً : حسن العشرة والمعاملة الحسنة
رابعاً : العدل في معاملتهم ورفع الظلم عنهم
خامساً : التكافل الاجتماعي
المبحث الثاني : الجزية
أ. الجزية في اللغة والاصطلاح والتاريخ الإنساني
ب. شرعة الجزية في الإسلام
خاتمة
فهرس المصادر والمراجع
الفهرس