مشاهدة النسخة كاملة : رد شبهــات حـول عصمــة النــبى / عماد الشربيني
قتيبة
03-09-2008, 01:59 AM
جامعة الأزهر
كلية أصول الدين بالقاهرة
قسم الحديث وعلومه
رسالة دكتواره وموضوعها
رد شبهــات حـول عصمــة النــبى
فى ضوء السنة النبوية الشريفة
مقدمة من الباحث
عمـاد السيــد محمــد إسماعيـــل الشــربيـــــنى
المدرس المساعد بقسم الحديث وعلومه بالكلية
إشـــراف
فضيلة الأستاذ الدكتور/ عبد المهدى عبد القادر عبد الهادى
أستاذ الحديث وعلومه بكلية أصول الدين بالقاهرة
1423هـ – 2002م
قال الله عز وجل
أَوَلَمْ يَتَفَكَرُوا مَا بِصَاحِبِهِم مِن جِنَّةٍ إِن هُو إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ( )
وَمَا كَانَ لَكُم أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ( )
ويرحم الله القائل
هو النعمة العظمى هو الرحمة التى *** تجلى بها الرحمن فى السر والجهر
أيروم مخلــوق ثنـاءك بعـدمـا *** أثنى على أخلاقــك الخــلاق؟( )0
الإهـــــــداء
إلــى النــــور الخــالــــد0
إلى من أرجو الله تعالى شفاعته يوم الدين0
بأبى أنت وأمــى يا سيدى يا رسول الله!
هل لى أن أستـأذن فــى أن أطـــرق
باب خدمتك بإهـدائك هــذه الرسالــة؟
عماد الشربينى
كلمة شكر وتقدير
انطلاقاً من قول الله عز وجل : أن اشكر لى ولوالديك إلىَّ المصير( )، وقول رسول الله : "لا يَشْكُرُ اللهَ منْ لاَ يَشكُرُ الناسَ"( )0
• أحمد الله عز وجل؛ أن جعلنى تلميذاً من تلاميذ هذه المدرسة المباركة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام، وأن منَّ علىَّ بالبحث فى هذا الموضوع الجليل، والحمد لله أولاً وآخراً على عونه وتوفيقه لإتمام هذا البحث، وأسأله عز وجل أن يتقبله خالصاً لوجهه الكريم0
• وأتقدم بجزيل الشكر وعرفان الجميل لوالدىَّ، اللذين شملانى برعايتهما وعطفهما حتى تمكنت من إتمام هذا العمل، أدعو الله عز وجل أن يغفر لهما ويرحمهما، وأن يبارك فى دينهما، وبدنهما، وأموالهما، وأن يجعل ذلك فى ميزان حسناتهما يوم القيامة0
• كما أتقدم بجزيل الشكر وعرفان الجميل، لأستاذى وشيخى الجليل، فضيلة الأستاذ الدكتور/ عبد المهدى عبد القادر، على الرعاية والعناية التى شملنى بها، ما أعجزنى عن أداء شكره0
وهذا البحث مدين لفضيلته منذ أن كان أطروحة وحتى تمت الموافقة عليه، والبحث وصاحبه ثمرة من ثمرات غرسه المبارك0
وأخيراً : لا أملك إلا أن أدعو الله عز وجل أن يبارك فى دينه، وبدنه، وأهله، وولده، وماله، وأن يجزيه عنى وعن الإسلام خير الجزاء0
• ثم إن أجمل الشكر وأحسنه لمشايخى وأساتذتى الأجلاء،بكلية أصول الدين المباركة،على ما قدموا لى من عون على الموافقة على اختيار هذا الموضوع،وعلى ما قدموا لى من توجيهات وإرشادات،وتشجيع دائم، حتى تمكنت من إتمام هذا العمل. وإن استطردت لذكر أسمائهم لطال بى المقام ولكن مالا يدرك كله، لا يترك جله، فأخص بالذكر منهم؛ فضيلة الأستاذ الدكتور/ عزت عطية أستاذ ورئيس قسم الحديث بالكلية، والأستاذ الدكتور/ مروان شاهين، والأستاذ الدكتور/ بهاء الشاهد، الأساتذة بقسم الحديث بالكلية، فلهم ولسائر مشايخى وأساتذتى منى جزيل الشكر، وصالح الدعاء، وجزاهم الله عن العلم وأهله خير الجزاء0
• ولا يفوتنى أن أتقدم بجزيل الشكر، وعرفان الجميل، لكل من كانت له يد عون أو نصح أو إرشاد، أو توجيه، أو غير ذلك حتى أنجزت هذه الرسالة0
الله عز وجل أسأل أن يجزى الجميع عنى، وعن الإسلام خير الجزاء
وأن يوفقهم لما يحبه ويرضاه0
===
المقـدمـة
الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وهو اللطيف الخبير، الحمد لله رب العالمين الذى هدانا وعلَّمنا، ومنَّ علينا، وتفضل ببلوغ المراد من خدمة سنة سيد المرسلين، التى فسرت الكتاب الكريم،، وبينته للناس، وحياً بوحى، ونوراً بنور، فاكتمل بهما الدين القويم، والصراط المستقيم0
اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب العالمين، سبحانك لا نحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك0
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، وعصمه فى دينه وخلقه، ليكون أميناً على وحيه، مبيناً لكتابه، خاتماً لأنبيائه ورسله، ولتقوم به الحجة والقدوة على هذه الأمة إلى يوم الدين0
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله، وصحبه البررة الأوفياء، أئمة الدين، وصفوة الخلق بعد الأنبياء والمرسلين0
ورضى الله عمن تبع سنتهم، وسلك طريقتهم، واقتفىَ أثرهم، ونصرهم إلى يوم الدين0
ثم أما بعد
فإن الله تعالى يقول فى كتابه العزيز : قل الحمد الله وسلام على عباده الذين اصطفى( ) ويقول سبحانه : وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار( )0
إن رب العزة فى هاتين الآيتين ونحوهما، يبين لكافة عباده أنه اختار واصطفى من خلقه أناساً أخياراً، عصمهم فى ظاهرهم وباطنهم، ورضاهم وغضبهم قبل النبوة وبعدها، لما علمَه عز وجل فيهم من أنهم سيكونون هداة للخلق يخرجونهم من الظلمات إلى النور، ويهدونهم إلى صراط العزيز الحميد0
وهذا الاصطفاء الذى يتحدث عنه رب العزة، هو اصطفاء وهم لا يزالون فى عالم الغيب لم يخلقوا بعد0
وهو ما يُظهر أن عصمة سيدنا رسول الله ، وسائر الأنبياء والمرسلين – عليهم الصلاة والسلام – مبنية على إرادة إلهية يمتنع معها وقوع المعصية منهم0
ويقول عز وجل : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءَنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لى أن أبدله من تلقاء نفسى إن أتبع إلا ما يوحى إلى إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم. قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عُمُراً من قبله أفلا تعقلون( )0
ففى قوله : فقد لبثت فيكم عُمُراً من قبله يقدم رب العزة حياة رسوله ، وسيرته الطاهرة قبل بعثته، دليلاً على عصمته ونبوته. والمعنى فى الآيتين : إنى جئتكم بالقرآن عن إذن الله لى فى ذلك ومشيئته وإرادته، والدليل على أنى لست أتقوله من عندى ولا افتريته؛ أنكم عاجزون عن معارضته، وأنكم تعلمون صدقى وأمانتى منذ نشأت بينكم إلى حين بعثنى الله عز وجل، لا تنتقدون علىَّ شيئاً تُعِّيرونى به. ولهذا قال : فقد لبثت فيكم عُمُراً من قبله أفلا تعقلون أى : أفليس لكم عقول تعرفون بها الحق من الباطل!
والقارئ لسيرة سيدنا رسول الله ، لا يشك فى عصمته فقد كانت نشأته ، منذ ولدته أمه إلى أن بعثه الله عز وجل رحمة للعالمين، أكمل نشأة، تولاه الله تعالى فأدبه، ورباه فكمِله، ورعاه فحفظه مما كان يشين حياة قومه من وثنية، وعادات مستقبحة، حتى غدا أكمل إنسان فى بشريته، فلم تعرف له فى سيرته هفوة، ولم تحص عليه فيها زلة، بل إنه امتاز بسمو الخلق، ورجاحة العقل، وعظمة النفس، وحسن الأحدوثة بين الناس، ثم نبأه الله تعالى وبعثه، فنمت فيه هذه الفضائل وترعرعت حتى أصبحت حياته فريدة فى تاريخ هذه الحياة الدنيا0
فمن أين له هذا؟ وهو اليتيم الذى تعرض منذ طفولته لمحنة اليتم والفقر! وهو الأمى الذى لم يجلس طيلة حياته إلى معلم يثقف عقله! وهو الذى نشأ فى بيئة سيطرت عليها الجاهلية سيطرة كاملة فى مجال العقيدة والفكر، وفى مجال الأخلاق والسلوك، وطبعت الناس بطابعها البغيض حتى لا تكاد تجد إنساناً يسلم من وراثة البيئة، وعدوى التقاليد الجاهلية الموروثة عن الآباء والأجداد. فكيف نجا سيدنا رسول الله من تلك المؤثرات القوية؟0
إنك لا تستطيع أن تدرك سر كمال عقله وعقيدته وأخلاقه، وبراءته من كل نقائص ومثالب بيئته التى نشأ فيها إلا أن تقول : إنه الإعداد الإلهى للنبوة والله أعلم حيث يجعل رسالته( ) إنها العصمة الربانية التى حفظته من بيئة الجاهلية أربعين عاماً لم يصبه أذى من غبارها، فشب أكمل الناس خَلْقاً وخُلُقاً0
وشهد له بتلك العصمة ربه عز وجل فى عشرات الآيات القرآنية منها إجمالاً قوله تعالى : قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدى عذاب شديد( )0
وقوله سبحانه : ما ضل صاحبكم وما غوى( ) ففى هاتين الآيتين ونحوهما كان التعبير فيها بـ "صاحبكم" تذكيراً وتقريراً بأن كفار مكة أعرف الناس به، فرسول الله لم يفارقهم، وهم لم يفارقوه، بل صحبهم وصحبوه، ولازمهم ولازموه، وهذا يفيد أن كفار مكة فى اتهامهم لرسول الله بعدم العصمة ووصفه بالضلال والجنون والسحر مكابرون، والدليل حاله قبل نبوته حيث صحبتهم له منذ نشأته بينهم، واعترافهم له بالأمانة والصدق، ورجاحة العقل، والخلق القويم0
وإذا طعن كفار قريش قديماً فى عصمة رسول الله ، وتبعهم من لا يعتد بخلافهم من الفضيلية والأزارقة من الخوارج والكرامية وغيرهم، فقد ظهر حديثاً أذيالهم من المنكرين للسنة النبوية، الزاعمين أن رسول الله غير معصوم، ويجوز عليه ما يجوز على سائر البشر من الذنوب؛ كما زعموا أن سيرة رسول الله الواردة فى السنة المطهرة تختلف عنها فى سيرته فى القرآن الكريم، وأن فى الأحاديث المتعلقة بسيرته ما يطعن فى عصمته، ويشوه شخصيته0
وقد استند هؤلاء المشاغبون فى عصمة النبى إلى بعض النصوص القرآنية التى قد يُتوهم من ظاهرها أن رسول الله ، كان فى ضلال أو غفلة أو شك، وكذلك نصوص ورد فيها بعض التنبيهات الموجهة مباشرة إلى ضمير خطابه 0
كما استندوا أيضاً إلى بعض الأحاديث التى قد يتوهم من ظاهرها عدم عصمة رسول الله فى عقيدته وقلبه، وبلاغه للوحى، واجتهاده، وسلوكه وهديه0
وهذا ما دفعنى إلى اختيار موضوع هذه الرسالة : "رد شبهات حول عصمة النبى فى ضوء السنة النبوية الشريفة" وقد هدفت من تسجيله إلى عدة أهداف منها :
أولاً : بيان أن عصمة الأنبياء وعلى رأسهم سيدنا رسول الله ضرورة دينية، وأنها سبيل حجية وحى الله تعالى من القرآن والسنة0
ثانياً : أن يكون هذا البحث هادياً لمن تأثر من أبناء الإسلام بشبهات أعداء السنة حول عصمة رسول الله ، مما يوجب على من عرف الحق أن يأخذ بأيديهم إلى بر الأمان0
ثالثاً : إرادة توطيد إيمان المؤمنين، وتقوية محبتهم لرسول الله ، ومعرفتهم بمكانته العليا، وحفاوة الله تعالى به فى تربيته حتى فى الآيات المتشابهات التى يتعلق بها أعداء الإسلام ومقلدوهم من المسلمين، مما يظهر أن ما ورد من ظاهر تلك الآيات مما يمس عصمته غير مراد0
رابعاً : بيان أن سيرة رسول الله الواردة فى صحيح السنة المطهرة تعتبر فى ميزان العقل البشرى والعلمى معجزة، لا تستطيع الأمم جميعها فى الحاضر والمستقبل أن تفعل مثلها، إذ لم يحفظ لنا التاريخ من بين جميع الأمم، حياة رجل منذ طفولته إلى وفاته، مثلما حفظه المسلمون عن رسولهم بكل دقة، وبكل حب وإخلاص0
خامساً : بيان أن أئمة السيرة ورواتها لم تكن وظيفتهم بصدد أحداث السيرة إلا تثبيت ما هو ثابت منها بمقياس علمى دقيق، يتمثل فى قواعد مصطلح الحديث المتعلقة بكل من السند والمتن، وفى قواعد علم الجرح والتعديل المتعلقة بالرواة وتراجمهم؛ ولا تستطيع أى أمة من الأمم فى السابق واللاحق أن تأتى بمثل هذا الميزان العلمى، أو حتى تلتزمه فى ميدان التطبيق العمِلى0
سادساً : بيان أن سيرة رسول الله لها أهميتها فى فهم الإسلام قرآناً، وسنةً، وحضارةً0
سابعاً : بيان أن حملة التشكيك فى السيرة العطرة الواردة فى السنة النبوية مرض عقلى، ووباء فكرى، يصيب الحاقدين، وهو مذهب الذين فى قلوبهم مرض، الذين يستهدفون أن يفقد المسلمون الصورة التطبيقية لحياة رسول الله ، وبذلك يفقد الإسلام أكبر عناصر قوته، فأحببت أن تكون لى مشاركة فى رد تلك الحملة، وإيقاف زحفها، مع من بذلوا جهوداً فى الدفاع عن السيرة، لحماية حصنها من التهديم والتخريب، راجياً بذلك المثوبة من الله تعالى0
ثامناً : بيان أن الباطل مهما لمع بريقه، وتكاتف من ورائه أناس على تقويته، إلا أنه سرعان ما يخفت هذا اللمعان، ولا يجنى أصحاب هذا الباطل من وراء باطلهم إلا الخيبة والخسران0
وما شأن شراذم البغى قديماً وحديثاً، ومحاولاتهم النيل من سيرة المعصوم ، وسنته المطهرة، إلا كشأن من قال عنه الأعشى بن قيس :
كناطح صخرة يوماً ليوهنها … فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل0
خطة البحث :
تتكون خطة البحث فى الموضوع إلى مقدمة، وتمهيد، وأربعة أبواب، وخاتمة0
أما المقدمة فقد ضمنتها : سبب اختيار الموضوع، وأهميته، وخطة البحث ومنهج البحث فيه0
أما التمهيد فيشتمل على مبحثين :
المبحث الأول : التعريف بالعصمة، وبيان دلالتها على حجية القرآن الكريم، والسنة النبوية، والاقتداء بالنبى 0
المبحث الثانى : أهمية السيرة النبوية فى فهم الإسلام قرآناً وسنةً، وحضارةً0
أما الأبواب فهى :
الباب الأول : عصمة رسول الله فى عقله وبدنه ودفع الشبهات ويشتمل على فصلين :
الفصل الأول : عصمته فى عقله وبدنه كما يصورها القرآن الكريم والسنة النبوية، ويشتمل على تمهيد ومبحثين :
المبحث الأول : دلائل عصمته فى عقله من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية0
المبحث الثانى : دلائل عصمته فى بدنه من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية0
الفصل الثانى : شبه الطاعنين فى سلامة عقله وبدنه والرد عليها ويشتمل على تمهيد ومبحثين :
المبحث الأول : شبهاتهم من القرآن الكريم على عدم عصمة النبى فى عقله وبدنه والرد عليها، ويشتمل على تمهيد وخمسة مطالب :
المطلب الأول : شبهتهم حول آيات ورد فيها إسناد "الضلال" و"الغفلة" إلى ضمير خطابه والجواب عنها0
المطلب الثانى : شبهتهم حول آيات ورد فيها إسناد "الذنب" و"الوزر" إلى ضمير خطابه والجواب عنها0
المطلب الثالث : شبهتهم حول آيات ورد فيها مخاطبة رسول الله بتقوى الله عز وجل، ونهيه عن طاعة الكافرين، ونهيه عن الشرك، والجواب عنها0
المطلب الرابع : شبهتهم حول آيات ورد فيها مخاطبة رسول الله بتعرض الشيطان له والجواب عنها0
المطلب الخامس : شبهتهم حول آيات ورد فيها معاتبة رسول الله والجواب عنها0
المبحث الثانى : شبهاتهم من السنة النبوية على عدم عصمة النبى فى عقله وبدنه والرد عليها ويشتمل على تمهيد وخمسة مطالب :
المطلب الأول : شبهة الطاعنين فى حديث "شق صدره " والرد عليها0
المطلب الثانى : شبهة الطاعنين فى حديث "فترة الوحى" والرد عليها0
المطلب الثالث : شبهة الطاعنين فى حديث "نحن أحق بالشك من إبراهيم" والرد عليها0
المطلب الرابع : شبهة الطاعنين فى حديث "سحر رسول الله " والرد عليها0
المطلب الخامس : شبهة الطاعنين فى حديث "أهجر" والرد عليها0
الباب الثانى : عصمة رسول الله فى تبليغ الوحى ودفع الشبهات ويشتمل على فصلين :
الفصل الأول : عصمته فى تبليغ الوحى كما يصورها القرآن الكريم والسنة النبوية، ويشتمل على تمهيد ومبحثين :
المبحث الأول : التعريف بالوحى، وكيفياته0
المبحث الثانى : دلائل عصمته فى تبليغ الوحى من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية0
الفصل الثانى : شبه الطاعنين فى الوحى الإلهى والرد عليها ويشتمل على مبحثين :
المبحث الأول : شبهات أعداء الإسلام من المستشرقين حول الوحى الإلهى والرد عليها، ويشتمل على تمهيد وأربعة مطالب :
المطلب الأول : شبهة الوحى النفسى والرد عليها0
المطلب الثانى : شبهة أن الوحى عبارة عن أمراض نفسية وعقلية والرد عليها0
المطلب الثالث : شبهة أن الوحى مقتبس من اليهودية والنصرانية والرد عليها0
المطلب الرابع : فرية الغرانيق والرد عليها0
المبحث الثانى : شبهات أعداء السنة النبوية حول الوحى الإلهى والرد عليها ويشتمل على تمهيد وأربعة مطالب :
المطلب الأول : شبهة أن مهمة رسول الله قاصرة على بلاغ القرآن فقط والرد عليها0
المطلب الثانى : شبهة أن رسول الله ليست له سنة نبوية والرد عليها0
المطلب الثالث : شبهة أنه لا طاعة لرسول الله إلا فى القرآن فقط والرد عليها0
المطلب الرابع : شبهة أن طاعة رسول الله تأليه وشرك والرد عليها0
الباب الثالث : عصمة رسول الله فى اجتهاده ودفع الشبهات ويشتمل على فصلين :
الفصل الأول : عصمته فى اجتهاده كما يصورها القرآن الكريم والسنة النبوية ويشتمل على مبحثين :
المبحث الأول : التعريف بالاجتهاد، وحكمته فى حقه 0
المبحث الثانى : دلائل عصمته فى اجتهاده من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية0
الفصل الثانى : شبهة أن اجتهاد رسول الله يؤيد أن السنة المطهرة ليست كلها وحى والرد عليها0
الباب الرابع : عصمة رسول الله فى سلوكه وهديه ودفع الشبهات ويشتمل على تمهيد وسبعة فصول :
الفصل الأول : شبهة اختلاف سيرة رسول الله فى كتب السنة والتاريخ عنها فى القرآن الكريم والرد عليها0
الفصل الثانى : شبهة الطاعنين فى حديث "خلوة النبى بامرأة من الأنصار" والرد عليها0
الفصل الثالث : شبهة الطاعنين فى حديثى "نوم النبى عند أم سليم وأم حرام" والرد عليها0
الفصل الرابع : شبهة الطاعنين فى حديث "طوافه على نسائه فى ساعة واحدة" والرد عليها0
الفصل الخامس : شبهة الطاعنين فى حديث "مباشرة رسول الله نسائه فى المحيض" والرد عليها0
الفصل السادس : شبهة الطاعنين فى حديث "دعوته لعائشة رضى الله عنها استماع الغناء والضرب بالدف" والرد عليها0
الفصل السابع : شبهة الطاعنين فى حديث "اللهم فأيما مؤمن سببته فاجعل ذلك له قربة إليك يوم القيامة" والرد عليها0
الخاتمة : وفيها نتائج هذه الدراسة، ومقترحات، وتوصيات، والفهارس العلمية للبحث0
هذا ولم أتعرض لتحرير مبحث أو مطلب إلا بعد أن رجعت إلى ما أمكننى الاطلاع عليه من الكتب المؤلفة فيه كبيرها وصغيرها، فقد يوجد فى الصغير مالا يوجد فى الكبير0
ولم أكتب شيئاً إلا بعد أن أعتقد صحته وأطمئن إليه، غير متأثر برأى أحد ممن كتب فيه كائناً من كان، معاصراً أو غير معاصر، ولم أتردد فى مخالفته متى تبين لى أنه قد أخطأ، مع بيان وجهة نظرى فى ذلك، ومع احترامى له، واعترافى بفضله، وتقديرى لعلمه، واعتقادى أنه "صاحب آيات، وسباق غايات"0
وقد يؤخذ علىَّ : أنى قد أطلت فى بعض المباحث، أو كررت بعض العبارات، أو أظهرت فى محل إضمار، أو غير ذلك. ولكنى قصدت بهذا كله توفية البحث حقه، وإتمام الفائدة، وزيادة الإيضاح، وعدم وقوع الناظر فى اللبس0
وإذا كانت الدراسة الموضوعية الصادقة هى تلك التى تعتمد على النصوص والوثائق؛ فقد التزمت هذه الرسالة – إلى حد كبير – بإيرادها كشواهد ودلائل على ما عالجته من مسائل وقضايا0
منهجى فى البحث :
1- كل ما عرضته فى الرسالة من شبه ومطاعن أهل الزيغ والهوى قديماً وحديثاً، المتضمنة الطعن فى عصمة رسول الله ، فإنى قرنت ذلك بالرد الحاسم الذى يبين بطلان وزيف تلك الشبه والمطاعن معتمداً فى ذلك على القرآن الكريم والسنة المطهرة، والسيرة العطرة، وكلام أهل السنة قديماً وحديثاً. فإن كان من جهد فى هذه الرسالة فإنما هو ثمرة الوقوف على أكتاف العلماء، ونتاج المربين الذين ربونا صغاراً، وحملونا كباراً، والمنة لله وحده، وهو ولى الجزاء، وشكر الله للعلماء بذلهم0
2- بينت مواضع الايات التى وردت فى الرسالة بذكر اسم السورة، ورقم الآية فى الهامش، مع وضع الآية بين قوسين0
3- عزوت الأحاديث التى أوردتها فى الرسالة إلى مصادرها الأصلية من كتب السنة المعتمدة، فإن كان الحديث فى الصحيحين أو أحدهما اكتفيت بالعزو إليهما، بذكر اسم الكتاب، واسم الباب، وذكر الجزء والصفحة ورقم الحديث، وأقدم فى التخريج من ذكرت لفظه، مع البيان غالباً لدرجة الحديث من خلال أقوال أهل العلم بالحديث، أو دراستى للسند، إن كان الحديث فى غير الصحيحين، وفيما عدا ذلك اقتصر على ما يفيد ثبوت الحديث أو رده0
4- اعتمدت فى التخريج من الصحيحين على طبعتى البخارى "بشرح فتح البارى" لابن حجر، والمنهاج "شرح صحيح مسلم" للنووى، لصحة متون الأحاديث فى الشرحين، ولصحة عرضهما على أصول الصحيحين، وتسهيلاً للقارئ لكثرة تداول تلك الشروح، وإتماماً للفائدة بالاطلاع على فقه الحديث المخرَّج0
5- التزمت عند النقل من أى مرجع، أو الاستفادة منه الإشارة إلى رقم جزئه وصفحته بالإضافة إلى ذكر طبعات المراجع فى الفهرست0
6- عند النقل من فتح البارى، أو المنهاج شرح مسلم للنووى، أذكر رقم الجزء والصفحة ورقم الحديث الوارد فيه الكلام المنقول، تيسيراً للوصول إلى الكلام المنقول، نظراً لاختلاف رقم الصفحات تبعاً للطبعات المتعددة0
7- اكتفيت فى تراجم الأعلام من الصحابة بذكر مصادر تراجمهم بذكر رقم الجزء والصفحة ورقم الترجمة، ولم أترجم لهم لعدالتهم جميعاً، ولم أخالف فى ذلك إلا فى القليل عندما تقتضى الترجمة الدفاع عن شبهة0
8- ترجمت لكثير من الأعلام الذين جرى نقل شئ من كلامهم، مع ذكر مصادر تراجمهم، بذكر رقم الجزء والصفحة ورقم الترجمة0
9- شرحت المفردات الغريبة التى وردت فى بعض الأحاديث مستعيناً فى ذلك بكتب غريب الحديث، ومعاجم اللغة، وشروح الحديث0
ثم ختمت الرسالة بفهارس سبعة هى :
1- فهرس الآيات القرآنية0
2- فهرس الأحاديث والآثار0
3- فهرس الأعلام المترجم لهم0
4- فهرس الأشعار0
5- فهرس القبائل والبلدان والفرق0
6- فهرس المصادر والمراجع0
7- فهرس الموضوعات التى اشتملت عليها الرسالة0
هذا وإنى – يعلم الله – ما فرطت ولا توانيت، ولا كان منى ميل إلى كسل أو ركون إلى راحة، فإن فاتنى شئ فى أثناء الكتابة، أو لم أذكر أمراً كان ينبغى ذكره، أو طرأ على سهو أو نسيان، فهذا لأن عمل الإنسان لا يخلو من نقص مهما كانت عنايته. وعذرى فى ذلك ان الكمال المطلق لله عز وجل0
ولا أدعى، وليس لى أن أدعى أنى جئت فى هذه الرسالة بشئ كان خافياً على العلماء والباحثين، وإنما حاولت بعون الله تعالى، جمع كلام الأئمة بين دفتى رسالة واحدة، حيث تتبعت الدرر المنثورة لشريعتنا الغراء فى بطون الكتب، ونظمتها فى سلك واحد، ولم أجد على قلة إطلاعى مَن عالج هذا الموضوع بهذه الصورة0
فما كان فى البحث من صواب، فهو من الله عز وجل وبتوفيقه، وما كان من خطأ فمن نفسى، ومن الشيطان، والله برئ منه ورسوله، ولله وحده الكمال والعزة والجلال0
وفى الختام : الحمد لله رب العالمين؛ على عونه وتوفيقه لإتمام هذا البحث حيث سهل لى صعبه وذلل أمامى عقباته0
وإنى لأرى لزاماً على أن أسجل هنا وافر شكرى وعظيم تقديرى، وصادق دعواتى لشيخى وأستاذى الجليل فضيلة الأستاذ الدكتور/ عبد المهدى عبد القادر عبد الهادى، إذ كان أول من أشار علىَّ بالكتابة فى هذا الموضوع، ثم أحاطه بدقيق ملاحظاته، وكامل متابعاته، وجليل تصحيحاته، فى مدة جمعه وتحريره، يقرأه المرة تلو الأخرى، ويضفى عليه كمالاً وجمالاً فى الحين بعد الآخر، حتى جاء على هذا النحو الذى هو عليه، والذى أرجو أن يسر قارئيه، ويفيد طالبيه ومبتغيه؛ فلفضيلته منى جزيل الشكر وصالح الدعاء، وجزاه الله عن العلم وأهله خير الجزاء0
ولا يفوتنى فى هذا المقام أن أقدم شكرى أيضاً : لكل من أفادنى من مشايخى وزملائى بكتاب، أو إرشاد، أو أى نوع من المساعدة0
اللهم تقبل هذا العمل خالصاً لوجهك الكريم، اللهم اجعلنى جنداً من جنود كتابك، جنداً من جنود سنة نبيك ، اللهم لا تجعلنى شقياً ولا محروماً، اللهم لا تعذب لساناً يخبر عنك، ولا عيناً تنظر إلى علوم تدل عليك، ولا قدماً تمشى إلى طاعتك، ولا يداً تكتب حديث رسولك وصفيك . اللهم لا تدخلنى النار، ولا تفضحنى فيها، فقد علم أهلها أنى كنت أذب عن دينك، وأدافع عن شرعك، وأظهر مكانة وحيك، وأبين عظمة وعصمة نبيك وخليلك وصفيك 0
اللهم اجعلنى وما عملت من عمل صالح فى ميزان أبوىَّ، واغفر لهما، وأكرمهما، وارحمهما كما ربيانى صغيراً، وألبسهما حلة الكرامة، وشفع فيهما كتابك ونبيك0
والحمــد لله رب العالمـــين
وصلى الله علـى سيدنــا ومولانــا
محمد وعلى آله وصحبه وسلم
الراجى عفو ربه الغفور
عماد الشربينى
====
الباب الأول
عصمة رسول الله فى عقله وبدنه
ودفع الشبهات
ويشتمل على فصلين :
الفصل الأول : عصمته فى عقله وبدنه كما يصورها القرآن الكريم والسنة النبوية ويشتمل على تمهيد ومبحثين :
المبحث الأول : دلائل عصمته فى عقله من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية0
المبحث الثانى : دلائل عصمته فى بدنه من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية0
الفصل الثانى : شبه الطاعنين فى سلامة عقله وبدنه والرد عليها ويشتمل على تمهيد ومبحثين:
المبحث الأول : شبهاتهم من القرآن الكريم والرد عليها0
المبحث الثانى : شبهاتهم من السنة النبوية والرد عليها0
الفصل الأول
عصمة رسول الله فى عقله وبدنه كما يصورها
القرآن الكريم والسنة النبوية
ويشتمل على تمهيد ومبحثين :
المبحث الأول : دلائل عصمته فى عقله من خلال القرآن الكريم والسنة المطهرة0
المبحث الثانى : دلائل عصمته فى بدنه من خلال القرآن الكريم والسنة المطهرة0
تمهـيــد
عصمة سيدنا رسول الله ؛ فى عقيدتنا أصل من أصول الإيمان والإسلام، وهى عقيدة لا تنفك عن شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. والطعن فى هذه العصمة طعن فى هذه الشهادة، ولم لا وهى دليلنا على حجية الوحى الإلهى (قرآناً وسنةً) وهى دليلنا على الاقتداء الشامل برسول الله على ما سبق تفصيله( )0
ومرادى فى هذا الفصل، بيان عصمته فى بدنه من القتل، وفى قلبه، وعقيدته من الكفر والشرك، والضلال، والغفلة، والشك، وعصمته من تسلط الشيطان عليه، مع بيان كمال عقله، وخلقه ، وأنه كما قال فيه ربه عز وجل : والنجم إذا هوى. ما ضل صاحبكم وما غوى. وما ينطق عن الهوى إن هو إلى وحى يوحى( ) وقال سبحانه : ما كذب الفؤاد ما رأى( ) وقال عز وجل : ما زاغ البصر وما طغى( )0
إن كمال العقل وعصمته من الكفر والشرك والشك، ومن تسلط الشيطان عليه؛ صفة أساسية فى رسل الله عز وجل، وشرط ضرورى من شروط رسالة جميع الرسل؛ وهى جزء من الكمال البشرى الذى كملهم الله عز وجل به، وهو عامل مهم، وسبب قوى من أسباب تبليغ رسالة ربهم إلى أقوامهم0
وإذا كان الكمال العقلى صفة أساسية فى رسل الله عز وجل، فإمامهم سيدنا محمد . والقارئ لسيرته لا يشك فى أنه كان أعقل الناس وأذكاهم( )0
ولم لا وقد كانت نشأته ، منذ ولدته أمه إلى أن بعثه الله عز وجل رحمة للعالمين، أكمل نشأة، تولاه الله تعالى فأدبه ورباه فكمله، ورعاه فحفظه مما كان يشين حياة قومه من وثنية، وعادات مسترذلة، حتى غدا أكمل إنسان فى بشريته، لم يستطع أحد أن يريبه فى حياته، أو يزن شبابه بغميزه أو ريبة على كثرة الخصوم، والأعداء المتربصين، فضلاً من الله ونعمة، والله ذو الفضل العظيم( )0
وبذلك الفضل العظيم تحدث المصطفى بنعمة ربه عز وجل قائلاً "أدبنى ربى فأحسن تأديبى"( )0
وقد أجمعت الأمة على هذا الأدب الربانى، وأن حياة نبيها قبل البعثة، وبعدها أمثل حياة وأكرمها وأشرفها، فلم تعرف له فيها هفوة، ولم تحص عليه فيها زلة، بل إنه امتاز بسمو الخلق، ورجاحة العقل، وعظمة النفس، وحسن الأحدوثة بين الناس، ثم نبأه الله وبعثه، فنمت فيه هذه الفضائل وترعرعت حتى أضحت حياته فريدة فى تاريخ هذه الحياة الدنيا0
فمن أين له هذا؟ وهو اليتيم الذى تعرض منذ طفولته لمحنة اليتم، والفقر! وهو الأمى الذى لم يجلس طيلة حياته إلى معلم يثقف عقله! وهو الذى نشأ فى بيئة سيطرت عليها الجاهلية، سيطرة كاملة فى مجال العقيدة والفكر، وفى مجال الأخلاق والسلوك، وطبعت الناس بطابعها البغيض حتى لا تكاد تجد إنساناً يسلم من وراثة البيئة، وعدوى التقاليد الجاهلية الموروثة عن الآباء والأجداد0
فكيف نجا سيدنا رسول الله من تلك المؤثرات القوية؟
إن الإنسان العادى قد يستطيع أن تعاف نفسه شيئاً يكرهه ولا يستسيغه بحكم الفطرة السليمة لكن من المحال عقلاً أن يعيش فى عزلة روحية كاملة، وهجرة نفسية تامة لقومه، فيسلم له عقلة من الخرافات، وتسلم روحه من الجهالات، ويسلم وجدانه من التلون بشئ يغضب الله عزوجل0
نعم لقد كان فى المجتمع العربى حنيفيون وحدوا الله ودعوا إلى توحيده، وكان هناك كرماء، وكان هناك أوفياء، وكان هناك أناس عرفوا بالعفة والتنزه عن الفواحش، ولكن كان عزيزاً جداً أن تجد فى هذه البيئة إنساناً جمع الله فيه كل هذه الصفات وغيرها مثل ما جمع الله ذلك فى النبى محمد 0
إنك لا تستطيع أن تدرك سر كمال عقله وعقيدته وأخلاقه، وبراءته من كل نقائص ومثالب بيئته التى نشأ فيها إلا أن تقول : إنه الإعداد الإلهى للنبوة والله أعلم حيث يجعل رسالته( )0
إنها العصمة الربانية! تلك التى حفظته ، من بيئة الجاهلية أربعين عاماً، لم يصبه أذى من غبارها، فشب أكمل الناس خَلقاً وخُلقاً، ودلائل تلك العصمة الإلهية متوافرة فى كتاب الله عزوجل، وسيرته العطرة، فإلى بيانها فى المبحث التالى :
المبحث الأول
دلائل عصمته فى عقله من خلال القرآن الكريم
والسنة النبوية
تجلت رعاية الله عز وجل وعصمته لرسوله فى قلبه، وعقيدته من الكفر والشرك، والضلال، والغفلة، والشك، وعصمته من تسلط الشيطان عليه، وهو فى عالم الذر، وتحدث الوحى الإلهى (قرآناً وسنةً) بذلك بياناً لمنَّة الله عز وجل على نبيه قال تعالى : وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً( )0
ووجه الاستدلال بالآية أنه إذا عهد إلى الأنبياء جميعاً وهم فى عالم الذر بتبليغ دينه، وتوحيده. دل ذلك على عصمتهم فى عقولهم وعقيدتهم، فلا يصدر عنهم ما يخالف ذلك لا قبل النبوة ولا بعدها، ولا يقول بغير ذلك إلا من يرد على الله عز وجل كلامه باصطفائهم وعصمتهم!0
وقال تعالى : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذالكم إصرى قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين( )0
وهذا غاية التكريم من الله عز وجل لنبيه بأخذ الميثاق على الأنبياء أن يؤمنوا به، وينصروه إن ظهر فى زمانهم، وفى ذلك إشارة إلى أنه نبى الأنبياء( ) وفى السنة المطهرة ما يؤكد الآية الكريمة، فعن ميسرة الفجر رضى الله عنه( ) قال : قلت لرسول الله متى كنت نبياً؟ قال : "وآدم بين الروح والجسد"( )0
وعن العرباض بن سارية رضى الله عنه( ) قال : سمعت رسول الله يقول : "إنى عبد الله وخاتم النبين، وأبى منجدل فى طينته، وسأخبركم عن ذلك، أنا دعوة أبى إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمى آمنة التى رأت، وكذلك أمهات المؤمنين يرين، وأن أم رسول الله رأت حين وضعته له نوراً أضاءت لها قصور الشام، ثم تلا : يا أيها النبى إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيرا. وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً( )0
والشاهد مما سبق أن الله عز وجل اصطفى أنبياءه ورسله وهم فى عالم الذر بتبليغ دينه وتوحيده، وفضل بعض النبيين على بعض، فجعل سيدنا محمدا إمامهم، وأخذ منهم الميثاق فى عالم الأزل بالإيمان بنبوته ونصرته0
وبعيد أن يأخذ منه الميثاق قبل خلقه، ثم يأخذ ميثاق النبيين بالإيمان به ونصره قبل مولده بدهور، ويجوز عليه ما يناقض عصمته فى عقله وعقيدته من الشرك، أو الشك، أو غيره من الذنوب صغائر كانت أم كبائر فهذا مالا يجوزه إلا ملحد( )0
وعليه فلا معنى لإثارة الخلاف حول عصمة الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – قبل نبوتهم من المعاصى كبائرها وصغائرها من حيث الوقوع أو عدمه، أو من حيث امتناعه سمعاً أوعقلاً!0
فعصمة الرسل والأنبياء مبنية على إرادة إلهية ، وهى اصطفاء الله عز وجل لهم، وعصمتهم من كل ما يخل بهذا الاصطفاء، قبل نبوتهم وبعدها، وهم فى عالم الغيب لم يخلقوا بعد!
وإليك نماذج من دلائل عصمة رسول الله :
أ- عصمته من كيد إبليس وجنوده :
حفظ الله عز وجل عباده المخلصين من كيد إبليس وجنوده فلا سبيل له عليهم كما قال عزوجل : إن عبادى ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا( ) واعترف إبليس بعجزه عن الكيد لهم فحكى عنه رب العزة قوله : قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين. إلا عبادك منهم المخلصين( )0
ولا شك أن أنبياء الله عز وجل ورسله، وعلى رأسهم خاتمهم على قمة عباد الله المخلصين الذين عصمهم رب العزة من كيد إبليس وجنوده0
والمراد بعصمة رسول الله من الشيطان قال فيها القاضى عياض : "واعلم أن الأمة مجمعة على عصمة النبى من الشيطان وكفايته منه، لا فى جسمه بأنواع الأذى – كالجنون والإغماء – ولا على خاطره بالوساوس"( )0
ولا عبرة بمن خرج عن المفهوم السابق لعصمة رسول من أعداء الإسلام وأعداء السنة المطهرة، والسيرة العطرة0
وقد دل على المفهوم السابق القرآن الكريم والسنة المطهرة0
أما القرآن الكريم : فقد ورد فيه تعرض الشيطان لبعض الأنبياء فى أجسامهم ببعض الأذى، وعلى خاطرهم بالوسوسة، مع عصمة الله عز وجل لهم بعدم تمكن الشيطان من إغوائهم، أو إلحاق ضرر بهم يضر بالدين. قال تعالى : واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الشيطان بنصب وعذاب( ) وقال سبحانه : فأذلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه( ) وقال عز وجل : قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين( ) وقال جل جلاله : وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم( )0
وليس فى هذه الآيات الكريمات ونحوها ما يتعارض مع قوله تعالى : إن عبادى ليس لك عليهم سلطان( )0
أما السنة المطهرة : فقد ورد فيها ما يؤكد ما ورد فى القرآن الكريم من تعرض الشياطين لرسول الله فى غير موطن رغبة فى إطفاء نوره، وإماتة نفسه، وإدخال شغل عليه، ولكن كانت عصمة الله عز وجل له حائلة دون تمكن الشياطين من إغواءه، أو إلحاق ضرر به. ومن هذه الأحاديث التى تدل على ما سبق، وأنكرها أعداء السيرة العطرة( ) ما يلى :
1- عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه( ) قال : قال رسول الله : "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن، وقرينه من الملائكة، قالوا : وإياك يا رسول الله؟ قال : "وإياى. إلا أن الله أعاننى عليه فأسلم. فلا يأمرنى إلا بخير"( )0
وقوله : "فأسلم" برفع الميم وفتحها، روايتان مشهورتان، فمن رفع قال : معناه : أَسْلَم أنا من شره وفتنته. ومن فتح قال : إن القرين أسلم من الإسلام، وصار مؤمناً لا يأمرنى إلا بخير0
وصحح الخطابى وغيره رواية الرفع، ورجح عياض والنووى والزرقانى الفتح، لأنه ظاهر الحديث فى قوله : "فلا يأمرنى إلا بخير" ولقوله : "فضلت على الأنبياء بخصلتين. كان شيطانى كافراً فأعاننى الله عليه حتى أسلم، قال أبو هريرة راوى الحديث، ونسيت الخصلة الأخرى"( )0
2- وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله : "إن عفريتاً من الجن جعل يفتك( ) علىَّ البارحة ليقطع على الصلاة. وإن الله أمكننى منه فذعته( ). فلقد هممت أن أربطه إلى جنب سارية من سوارى المسجد حتى تصبحوا تنظرون إليه أجمعون، أو كلكم، ثم ذكرت قول أخى سليمان: رب اغفر لى وهب لى ملكاً لا ينبغى لأحد من بعدى. فرده الله خاسئاً"( )0
3- وعن أبى الدرداء رضى الله عنه( ) قال : قام رسول الله . فسمعناه يقول : "أعوذ بالله منك" ثم قال : "ألعنك بلعنة الله" ثلاثاً. وبسط يده كأنه يتناول شيئاً. فلما فرغ من الصلاة قلنا : يا رسول الله! قد سمعناك تقول فى الصلاة شيئاً لم نسمعك تقوله قبل ذلك. ورأيناك بسطت يدك. قال : "إن عدو الله، إبليس، جاء بشهاب من نار، ليجعله فى وجهى، فقلت : أعوذ بالله منك. ثلاث مرات. ثم قلت : ألعنك بلعنة الله التامة. فلم يستأخر. ثلاث مرات. ثم أردت أخذه، والله! لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقاً يلعب به ولدان أهل المدينة"( )0
4- وعن عبد الرحمن بن خنبش رضى الله عنه( ) لما سئل كيف صنع رسول الله حين كادته الشياطين. قال : تحدرت عليه الشياطين من الجبال والأودية، يريدون رسول الله ، قال : وفيهم شيطان وبيده شعلة من نار، يريد أن يحرق بها رسول الله ، فلما رآهم رسول الله فزع منهم، فجاء جبريل عليه السلام فقال : يا محمد قل، فقال : ما أقول؟ قال : قل : "أعوذ بكلمات الله التامات، التى لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما خلق، وذرأ وبرأ، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن" قال : فقالهن، فطفئت نار الشياطين، وهزمهم الله عز وجل"( )0
بالتأمل فى الروايات السابقة تجد أن الله عز وجل عصم رسوله من قرينه الجنى بإسلامه، فلا يأمر رسول الله إلا بخير0
وكذلك عصمه الله عز وجل من سائر شياطين الجن عندما تعرضوا له فى غير موطن. منها فى الصلاة عندما تعرض له عفريت من الجن، وفى رواية إبليس، وأراد إدخال شغل عليه فى الصلاة، فتمكن منه رسول الله بخنقه، وهمَّ بربطة فى ساريه من سوارى المسجد، حتى يراه أهل المدينة إلا أنه تركه، ودفعه دفعاً شديداً، وترك ما هَّم به عندما تذكر دعوة سيدنا سليمان رب هب لى ملكاً لا ينبغى لأحد من بعدى( ) والنتيجة كما جاء فى روايات الحديث : عصمة رسول الله من هذا العاتى المارد من الجن أو إبليس كما جاء فى رواية أبى الدرداء، ورده الله خاسئاً0
وكذلك تبين رواية عبد الرحمن بن خنبش عصمة رب العزة لرسوله من الشياطين لما تحدرت عليه من الجبال والأودية، يريدون حرقه وقتله، حيث نزل جبريل عليه السلام على رسول الله يعلمه كلمات إذا قالهن نجا من كيدهم، فقالهن ، فطفئت نار الشياطين، وهزمهم الله عز وجل0
وهكذا كانت عصمة المولى عز وجل لرسوله من الشياطين حتى مرض وفاته الذى لده فيه( ) بعض الحاضرين عنده بغير إذنه، ولما سألهم عن ذلك قالوا : خشينا أن يكون بك ذات الجنب( ) فبين لهم رسول الله أن ذات الجنب من الشيطان وهو معصوم منه.قائلاً : "إنها
من الشيطان، ولم يكن الله عز وجل ليسلطه علىَّ"( )0
ب- عصمته من الجهالات :
شب رسول الله ، يحفظه الله عز وجل، ويعصمه من أقذار الجاهلية ومعائبها، ويتحدث رسول الله عن مظاهر عصمة الله عز وجل له فى صغره، وقبل النبوة قائلاً :
1- "ما هممت بقبيح مما كان أهل الجاهلية يهمون بها إلا مرتين الدهر، كلتاهما يعصمنى الله عز وجل منها، قلت ليلة لفتى من قريش بأعلى مكة فى أغنام لأهلنا نرعاها : انظر غنمى حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما يسمر الفتيان، قال : نعم فخرجت، فجئت أدنى دار من دور مكة، سمعت غناء وضرب دفوف وزمراً، فقلت : ما هذا؟ قالوا : فلان تزوج فلانة، لرجل من قريش تزوج امرأة من قريش، فلهوت بذلك الغناء، وبذلك الصوت حتى غلبتنى عينى، فما أيقظنى إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبى فقال : ما فعلت؟ فأخبرته، ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك، ففعل، فخرجت، فسمعت مثل ذلك، فقيل لى مثل ما قيل لى، فلهوت بما سمعت حتى غلبتنى عينى، فما أيقظنى إلا مس الشمس، ثم رجعت إلى صاحبى، فقال لى! ما فعلت؟ فقلت : ما فعلت شيئاً، قال رسول الله : فوالله ما هممت بعدها بسوء مما يعمل أهل الجاهلية حتى أكرمنى الله عز وجل بنبوته"( )0
وفيما قصه النبى عن نفسه من خبر حفظ الله إياه من كل سوء منذ صغره وصدر شبابه، ما يوضح لنا حقيقتين كل منهما على جانب كبير من الأهمية :
الأولى : أن النبى كان متمتعاً بخصائص البشرية كلها، وكان يجد فى نفسه ما يجده كل شاب من مختلف الميولات الفطرية التى اقتضت حكمة الله أن يجبل الناس عليها. فكان يحس بمعنى السمر واللهو، ويشعر بما فى ذلك من متعة، وتحدثه نفسه لو تمتع بشئ من ذلك كما يتمتع الآخرون0
الثانية : أن الله عز وجل قد عصمه مع ذلك عن جميع مظاهر الانحراف، وعن كل مالا يتفق مع مقتضيات الدعوة التى هيأه الله لها، فهو حتى عندما لا يجد لديه الوحى أو الشريعة التى تعصمه من الاستجابة لكثير من رغائب النفس، يجد عاصماً آخر خفياً يحول بينه وبين ما قد تتطلع إليه نفسه مما لا يليق بمن هيأته الأقدار لتتميم مكارم الأخلاق، وإرساء شريعة الإسلام( )0
جـ- عصمته من التعرى ودفع ما يتوهم عكس ذلك :
عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال : "لما بنيت الكعبة ذهب النبى وعباس ينقلان حجارة، فقال العباس للنبى : اجعل إزارك على عاتقك من الحجارة. ففعل فخر إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء ثم قام فقال : "إزارى إزارى" فشد عليه إزاره، وفى رواية : فما رؤى بعد ذلك اليوم عرياناً"( )0
وهذه القصة وما فيها من حفظه من التعرى قبل النبوة، وردت فى غير الصحيح عن ابن إسحاق عن أبيه عمن حدثه عن النبى قال : "لقد رأيتنى فى غلمان من قريش ننقل حجارة لبعض ما يلعب به الغلمان، كلنا قد تعرى وأخذ إزاره فجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة، فإنى لأقبل معهم كذلك وأدبر إذ لكمنى لاكم ما أراه، لكمة وجيعة، ثم قال : شد عليك إزارك قال : فأخذته وشددته علىَّ ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتى وإزارى علىَّ من بين أصحابى"( )0
قال الحافظ ابن كثير : "هذه القصة شبيهة بما فى الصحيح عند بناء الكعبة حين كان ينقل هو وعمه العباس، فإن لم تكن فهى متقدمة عليها كالتوطئة"( )0
وقال الإمام السهيلى : "وهذه القصة إنما وردت فى الحديث الصحيح فى حين بنيان الكعبة، فإن صح أنه كان فى صغره، إذ كان يلعب مع الغلمان : فمحمله على أن هذا الأمر كان مرتين : مره فى صغره، ومره فى أول اكتهاله عند بنيان الكعبة"( )0
قلت : هذه القصة فى حالة صغره لم تصح سنداً، وإنما هى نفس قصة بنيان الكعبة، وإلى هذا مال الحافظ فى الفتح، فبعد أن ذكر روايات بنيان الكعبة، وهو فى حالة كبره، والمؤيدة لما فى الصحيحين ذكر رواية الحاكم عن ابن عباس رضى الله عنهما( ) وهو فى حالة صغره، وقال فيها : "النضر أبو عمر الخزاز" ضعيف، وقد خبط فى إسناده، وفى متنه، فإنه جعل القصة فى معالجة زمزم بأمر أبى طالب وهو غلام، وكذا روى ابن إسحاق – إشارة إلى الرواية السابق ذكرها – ثم قال الحافظ : فكأن هذه قصة أخرى، واغتر بذلك الأزرقى فحكى قولاً : أن النبى لما بنيت الكعبة كان غلاماً"0
ثم أكد الحافظ أن القصة واحدة فى موضع آخر إذ يقول معقباً على كلام السهيلى السابق على رواية ابن إسحاق قائلاً : "قلت : وقد يطلق على الكبير غلام إذا فعل فعل العلماء، فلا يستحيل اتحاد القصة اعتماداً على التصريح بالأولية فى حديث أبى الطفيل رضى الله عنه قال : "فبينما رسول الله ينقل الحجارة معهم إذ انكشفت عورته، فنودى يا محمد غط عورتك، فذلك فى أول ما نودى، فما رؤيت له عورة قبل ولا بعد"( )0
فرية على عصمته من التعرى والرد عليها :
رغم ما فى هذه القصة الصحيحة من عناية الله عز وجل بحفظ رسوله من التعرى؛ إلا أننا نجد بعض أعداء السيرة العطرة الواردة فى السنة المطهرة من يرى فى إثبات هذا الأمر فى سيرة المصطفى : "خرافة، وأكذوبة مفضوحة، وشناعة، ليس الهدف منها إلا الحط من كرامة النبى والإساءة لمقامه الأقدس"( )0
ولست أدرى أى خرافة، أو كذب، أو شناعة أو…الخ فى عصمة الله عز وجل لرسوله من التعرى عند بناء الكعبة المشرفة؟
إن الشناعة فى نظر الرافضى هى فى تعرى رسول الله ! دون التفات منه لكيفية تعرى رسول الله ، وعصمة الله عز وجل منه! إنه يتكلم عن تعرى رسول الله فى الرواية، وكأنه تعمد ذلك أمام الناس0
إذ يقول بعد أن ذكر بعض النصوص فى حياء رسول الله ، وأنه كان مصوناً من رؤية عورته، حتى بالنسبة لأزواجه، وأن المشركين كانوا يستقبحون التعرى أمام الناس0
يقول متسائلاً : "فكيف إذن يكشف النبى الأعظم عورته أمام الناس يا تُرى؟"( ) وأقول له : من أين لك من روايات عصمة رسول الله من التعرى عند بناء الكعبة، أنه تعمد التعرى أمام الناس (وحاشاه من ذلك) من أين لك هذا التعمد حتى ولو فى رواية ضعيفة؟!! وأنى لك هذا، وفى الصحيح ما يبطل افتراءك0
فعن أبى الطفيل رضى الله عنه قال : فبينما رسول الله يحمل حجارة من أَجْياد( )، وعليه نمرة فضاقت عليه النمرة، فذهب يضع النمرة على عاتقه، فيرى عورته من صغر النمرة، فنودى يا محمد خمر عورتك، فلم ير عرياناً بعد ذلك"( )0
فواضح من هذه الرواية، وما فيها معناها من الروايات التى فى الصحيحين أن رسول الله ، وهو يحمل الحجارة كان يستر عورته بنمرة، ولكنه وهو يحاول أن يتقى أذى الحجارة على عاتقه، حاول أن يضع طرفاً من النمرة على عاتقه، سواء من قبل نفسه أو بنصح عمه العباس له كما جاء فى الصحيح، لا تعارض. إذ النتيجة واحدة وهى : لصغر النمرة، بدت عورته، فسقط مغشياً عليه، وفى الصحيح أيضاً فخر إلى الأرض، وكلها بمعنى واحد، ولا تعارض ولا تناقض كما زعم الرافضى مستدلاً بذلك على وضع الحديث( )0
وفى هذا الغشيان أو السقوط على الأرض، عصمة من الله عز وجل لرسوله إذ الجلوس أستر للعورة، ومعه أى هذا (السقوط) تمكن رسول الله من شد إزاره على عورته التى انكشفت بلا تعمد منه، ومع كل ذلك كانت عناية وعصمة ربه عز وجل له إذ نودى : "يا محمد خمر عورتك، فلم ير عرياناً بعد ذلك" وكل الروايات فى الصحيح وغيره على هذا المعنى!0
فأين إذن ما يزعمه الرافضى بأن فى روايات عصمة رسول الله ، من التعرى حط من كرامته ، وإساءة لمقامه الأقدس؟ وأين ما يزعمه بأن هذه الروايات تظهره بتعمد كشف عورته أمام الناس؟ وأين أيضاً ما يزعمه بأن محاولة علماء أهل السنة للجمع بين هذه الروايات محاولة فاشلة، تأتى على حساب القرآن الذى لا نقدسه – على حد كذبه – ونزعم أن فيه تحريف، ونسخ لتلاوته، أما البخارى فنقدسه ونجله عن ذلك؟!( ) أهـ0
د- عصمته من أكل ما ذبح على النصب، ودفع ما يتوهم عكس ذلك :
1- عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما، أن النبى ، لقى زيد بن عمرو بن نفيل( ) بأسفل بلدح( ) قبل أن ينزل عليه الوحى، فقدمت إلى النبى سفرة( ) فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد : إنى لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه"( )، ففى الحديث تصريح بعدم أكله ، مما ذبح على النصب0
- أما ما جاء فى حديث سعيد بن زيد بن عمرو أن رسول الله ، وزيد بن حارثة( ) مر بهما زيد بن عمرو، فدعوه إلى سفرة لهما، فقال : يا ابن أخى إنى لا آكل مما ذبح على النصب، فما رؤى النبى بعد ذلك أكل شيئاً مما ذبح على النصب"( )0
- وفى حديث زيد بن حارثة رضى الله عنه قال : خرج رسول الله وهو مردفى إلى نصب من الأنصاب، فذبحنا له شاة، ووضعناها فى التنور( ) حتى إذا نضجت، استخرجناها فجعلناها فى سفرتنا، ثم أقبل رسول الله يسير، وهو مردفى فى أيام الحر، من أيام مكة، حتى إذا كنا بأعلى الوادى لقى فيه زيد بن عمرو – فذكر الحديث مطولاً – وفيه : ثم قدّمنا إليه يعنى زيد بن عمرو – السفرة التى كان فيها الشواء، فقال : ما هذه؟ فقلنا : هذه شاة ذبحناها لنصب كذا وكذا، فقال : إنى لا آكل ما ذبح لغير الله"( )0
وفى رواية قال : "ما كنت لآكل مما لم يذكر اسم الله عليه"( ) فليس فى الروايتين ما يتعارض مع رواية البخارى السابقة من عصمته من أكل ما ذبح للأصنام، لأن قول زيد : "هذه شاة ذبحناها لنُصب كذا وكذا" تعنى الحجر الذى ذبحت عليه الشاة، وليس هذا الحجر بصنم ولا معبود، وإنما هو من آلات الجزار التى يذبح عليها، لأن النُصب فى الأصل حجر كبير. فمنها ما يكون عندهم من جملة الأصنام، فيذبحون له وعلى اسمه! ومنها مالا يعبد، بل يكون من آلات الذبح، فيذبح الذابح عليه لا للصنم!0
وهذا أكثر ما تحمله العبارة السابقة : أن يكون زيد بن حارثة ذبح شاة، واتفق ذلك الذبح عند صنم، كانت قريش تذبح عنده، لا أنه ذبحها للصنم!0
فظن زيد بن عمرو أن ذلك اللحم مما ذبح لصنم، فامتنع لذلك حسماً للمادة، ولم يكن الأمر كما ظن زيد( )0
ويكون امتناع النبى بعد ذلك عن أكل شئ ذبح على النصب أى الحجر مثل امتناع زيد بن عمرو حسماً للمادة0
هذا ولا يعنى قول زيد بن حارثة : "فما رؤى النبى بعد ذلك أكل شيئاً مما ذبح على النصب" أنه قبل ذلك كان يأكل مما ذبح لصنم! كلا! وحاشاه من ذلك، ويؤكده ما جاء فى نفس الرواية السابقة من حديث زيد بن حارثة قال : "وكان صنماً من نحاس يقال له أساف أو نائلة يتمسح به المشركون إذا طافوا، فطاف رسول الله وطفت معه، فلما مررت مسحت به، فقال رسول الله : "لا تمسه" قال زيد : فطفنا. فقلت فى نفسى لأمسنه حتى أنظر ما يقول، فمسحته! فقال رسول الله : "ألم تنه؟"( )0
فكيف يعقل إذن أن ينهى رسول الله عن استلام الأصنام ثم يذبح لها؟!( )0
أما ما يستشكل من قول زيد بن عمرو : "إنى لا آكل مما لم يذكر اسم الله عليه" وهو ما يعنى أنه علم أن الشاة المذبوحة، إنما ذبحت على النصب الذى هو من آلات الذبح، ولم تذبح لصنم، ولكنه مع ذلك امتنع عن الأكل منها، لأنها لم يذكر عليها اسم الله عز وجل، وهو ما يعنى أن رسول الله كان أولى بهذه الفضيلة من زيد بن عمرو0
فالجواب : أنه ليس فى الحديث أنه أكل منها، وعلى تقدير أن يكون أكل، فزيد إنما كان يفعل ذلك برأى يراه، لا بشرع بلغه، ولاسيما وزيد يصرح عن نفسه بأنه لم يتبع أحداً من أهل الكتابين( )0
وهو وإن كان على دين سيدنا إبراهيم، فشرعه على تحريم الميتة، لا تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه، واستمر ذلك حتى جاء الإسلام( )0
أما قول بعض خصوم السيرة العطرة : "بأن هذا جواب بارد، لأن فيه إدراك زيد لهذا الأمر الذى وافق فيه نظر الشرع"( )0
فأقول له : وأين نظر الشرع هنا فى إدراكه، وقد جاء النهى عن أكل ما ذبح إلى غير اسم الله عز وجل، بعد المبعث بمدة طويلة، ولم ينقل أن أحداً بعد المبعث كف عن الذبائح حتى نـزل قوله تعالى : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق( )0
أما زعمه بان إدراك زيد لذلك دونه مما لا يمكن قبوله، أو الالتزام به، لأنه يعنى أن زيداً كان أعقل من النبى وأعرف به( )0
فالجواب : أنه ليس فى إسناد فضيلة لزيد بن عمرو أو لغيره، ما يعود بالنقض على رسول الله ،ولا ما يثبت تفضيله عليه. إذ من المسلم أنه قد يكون فى المفضول من الخصائص ما ليس للأفضل، ولا يؤثر هذا فى أفضليته، لأن له من الخصائص ما يؤهله لاستحقاق الأفضلية. وهذا بديهى. وإلا فليخبرنا الرافضى، هل الفضائل والمناقب الصحيحة، بل وحتى الضعيفة والموضوعة التى تنسب لسيدنا على بن أبى طالب، أو غيره من الصحابة رضى الله عنهم أجمعين تعنى أنه أو أنهم أعقل من سيدنا رسول الله وأعرف منه، وأفضل منه؟!! أهـ0
هـ عصمته من الحلف بأسماء الأصنام التى كان يعبدها قومه، ويحلفون بها تعظيماً لها:
جاء فى قصة بحيرا الراهب أنه استحلف النبى باللات والعزى حينما لقيه بالشام فى سفرته مع عمه أبى طالب وهو صبى، لما رأى فيه علامات النبوة، فقال بحيرا للنبى يا غلام أسألك باللات والعزى إلا أخبرتنى عما أسألك عنه، وإنما قال له بحيرا ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما. فقال له النبى : "لا تسألنى باللات والعزى شيئاً، فوالله ما أبغضت بغضها شيئاً قط"( )0
وعن عروة بن الزبير رضى الله عنه قال : حدثنى جار لخديجة بنت خويلد رضى الله عنها قال : سمعت النبى يقول لخديجة : أى خديجة والله لا أعبد اللات أبداً، والله لا أعبد العزى أبداً، قال : فتقول خديجة خل العزى، قال : كانت صنمهم الذى يعبدون، ثم يضطجعون"( )0
====
و- عصمته من استلام الأصنام، وبيان مراد ما يفيد ظاهره عكس ذلك :
عن زيد بن حارثة رضى الله عنه قال : "وكان صنماً من نحاس يقال له أساف أو نائلة يتمسح به المشركون إذا طافوا، فطاف رسول الله وطفت معه، فلما مررت مسحت به، فقال رسول الله : "لا تمسه" قال زيد : فطفنا. فقلت فى نفسى لأمسنه؛ حتى أنظر ما يقول! فمسحته فقال رسول الله : "ألم تنه؟" قال زيد : فوالذى أكرمه وأنزل عليه الكتاب، ما استلمت صنماً حتى أكرمه الله بالذى أكرمه، وأنزل عليه الكتاب…الحديث"( )0
أما ما روى ما يفيد ظاهره من استلامه الأصنام، فليس ظاهره مراداً على فرض صحة الرواية، كيف والرواية فى ذلك لم تصح0
فعن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال : "كان النبى يشهد مع المشركين مشاهدهم، قال : فسمع مَلَكين خلفه، وأحدهما يقول لصاحبه : اذهب بنا حتى نقوم خلف رسول الله . قال : كيف نقوم خلفه، وإنما عهده باستلام الأصنام قبيل؟ قال : فلم يعد بعد ذلك أن يشهد مع المشركين مشاهدهم"( ) أى لم يعد رسول الله يشهد مع المشركين مشاهدهم التى فيها شئ من الوثنية، وإلا فقد كان يشهد مشاهد الحلف ونحوه، لا مشاهد استلام الأصنام0
قال الحافظ ابن حجر فى المطالب العالية : "هذا الحديث أنكره الناس على عثمان ابن أبى شيبة فبالغوا، والمنكر منه قوله عن الَملَك "عهده باستلام الأصنام" فإن ظاهره أنه باشر الاستلام، وليس ذلك مراداً، بل المراد أنه شهد مباشرة المشركين استلام أصنامهم"( )0
وهذا الرأى ذهب إليه الأئمة : السيوطى فى الخصائص الكبرى( ) وابن كثير فى البداية
والنهاية( ) والبيهقى فى دلائل النبوة( ) والهيثمى فى مجمع الزوائد( ) قائلاً : "رواه أبو يعلى وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل، ولا يحتمل هذا من مثله، إلا أن يكون رسول الله كان يشهد تلك المشاهد قبل النبوة للإنكار وهذا يتجه، ويفسره ويؤكده رواية زيد بن حارثة السابقة" أهـ بتصرف0
قلت : وأنا مع الأئمة فيما ذهبوا إليه من إنكارهم للحديث، وتفسيرهم لظاهر استلامه للأصنام بأن المراد به شهوده مشاهد المشركين واستلامهم لأصنامهم، ويؤكد هذا التفسير سيرته العطرة قبل النبوة والتى عصمه ربه عز وجل فيها مما كان عليه المشركون، من أكل ما ذبح على النصب، أو الحلف بأسماء الأصنام، وكذلك عصمته من مظاهر لهو الجاهلية، ولو كان من رسول الله شئ من ذلك لاحتجوا به فى رد دعوته بعد البعثة، ولكن ذلك لم يرد، فدل على عصمته منه0
"وأياً كان الأمر فإن حديث جابر منكر، أنكره أحمد بن حنبل جداً، وقال هو موضوع، أو شبيه بالموضوع، وقال الدارقطنى : يقال إن عثمان بن أبى شيبة وَهِمَ فى إسناده وقال القاضى عياض : والحديث بالجملة منكر غير متفق على إسناده فلا يلتفت إليه"( ) ورغم حكم أئمة السنة على رواية جابر بالنكارة، إلا أنك تجد بعض الشيعة يحاول أن يوهم قارئه أن علماء السنة يصححونها( )0
أما ما زعمه "در منغم" من تقربه إلى العزى بشاة بيضاء( ) وما ذكره الدكتور هيكل تبعاً له، من أنه تمسح بالصفراء( ) فكلاهما ادعاء باطل؛ واختلاق من نسج خيال مريض، حيث لم يرد لم زعموا ذكر البتة، فى أى من كتب السنة أو السير أو التاريخ أو غيرها. وأنى لهما أن يثبتا ذلك؟! ولماذا اختيار الشاة البيضاء؟ أو صنم الصفراء بأعيانهما؟ وإذا كان رسول الله ، يصون لسانه عن مجرد ذكر الأصنام؛ فكيف يقرب القرابين إليها ويتعبدها؟ سبحانك هذا بهتان عظيم0
ز- من مظاهر عصمته شق صدره الشريف :
قال تعالى : ألم نشرح لك صدرك( ) فى هذه الآية الكريمة يبين رب العزة منته على رسول الله ، بشرح صدره الشريف لإعداده للقيام بعبء الدعوة، وحمل الرسالة، وعصمته من الشيطان الرجيم( )0
والاستفهام فى الآية (ألم) للتقرير : أى قد شرحنا لك صدرك والشرح هنا فى حقه ، شرح معنوى وحسى معاً0
أما الشرح المعنوى : فهو بالنور الإلهى كما فى قوله تعالى : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد فى السماء( ) وقوله سبحانه : أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه( )0
أما الشرح الحسى : فقد حدث له أربع مرات( ) وبه قال كثير من الأئمة :
1- وكانت المرة الأولى : عندما كان ابن أربع سنين من عمره المبارك، وكان القصد منها كما جاء فى الرواية – نزع العلقة السوداء من قلبه، كرامة له من عند ربه عز وجل، تلك العلقة التى ولد بها تكملة للخلق الإنسانى، لأنها حظ الشيطان من كل البشر، وقد تم بنزعها من قلبه ، أن نشأ مبرءاً من كل عيب، فنشأ على أكمل أحوال البشر من العصمة من الشيطان، والاتصاف بالمحامد العليا منذ نعومة أظفاره، والتى لا يفوقه فيها غيره( )0
وقد أخرج الإمام مسلم فى صحيحه هذه المرة الأولى لشق صدره الشريف مجملة عن أنس بن مالك رضى الله عنه( ) أن رسول الله أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال : هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله فى طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده فى مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه – يعنى ظئره( ) فقالوا : إن محمداً قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس : وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط فى صدره"( ) فالحديث نص صريح على الشق الحسى لصدر رسول الله ( )، وإخراج جبريل لحظ الشيطان منه، وتطهير لقلبه، فلا يقدر الشيطان على إغوائه إذ لا سبيل له عليه، وهذا دليل على عصمته من كل ما يمس قلبه، وعقيدته، وخلقه، منذ صغره 0
2- وقد تكرر شق صدره الشريف للمرة الثانية، وهو ابن عشر سنين وأشهر من عمره الطيب المبارك، وهو سن بداية الكمال، وذلك لقربه من سن التكليف، من أجل أن لا يلتبس بشئ مما يعاب على الرجال، وحتى لا يكون فى قلبه شئ إلا التوحيد، كما كان أيضاً شق صدره الشريف هذه المرة توطئة لما بعده عند البعثة الشريفة( )0
فقد أخرج عبد الله بن أحمد فى زوائده على المسند عن أبى بن كعب رضى الله عنه( ) أن أبا هريرة رضى الله عنه كان جريئاً على أن يسأل رسول الله عن أشياء لا يسأله عنها غيره، فقال : يا رسول الله ما أول ما رأيت فى أمر النبوة؟ فاستوى رسول الله جالساً. وقال : لقد سألت أبا هريرة إنى لفى صحراء ابن عشر سنين وأشهر، وإذا بكلام فوق رأسى، وإذا رجل يقول لرجل : أهو هو؟ قال : نعم، فاستقبلانى بوجوه لم أراها لخلق قط، وأرواح لم أجدها من خلق قط، وثياب لم أرها على أحد قط، فأقبلا إلىَّ يمشيان حتى أخذ كل واحد منهم بعضدى، لا أجد لأحدهما مساً، فقال أحدهما لصاحبه : أضجعه؛ فأضجعانى بلا قصر ولا حصر، وقال أحدهما لصاحبه : أفلق صدره، فهوى أحدهما إلى صدرى، ففلقها فيما أرى بلا دم، ولا وجع، فقال له : أخرج الغل والحسد، فأخرج شيئاً كهيئة العلقة ثم نبذها فطرحها، فقال له : أدخل الرأفة والرحمة، فإذا مثل الذى أخرج يشبه الفضة، ثم هز إبهام رجلى اليمنى، فقال : اغد وأسلم، فرجعت بها أغدو رقة على الصغير، ورحمة للكبير"( )0
3- وكان المرة الثالثة لشق صدره الشريف عند المبعث، وذلك لإعداد قلبه لتحمل عبء الوحى والرسالة، بقلب قوى فى أكمل الأحوال من التطهير( ) فعن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله نذر أن يعتكف شهراً هو وخديجة بحراء، فوافق ذلك شهر رمضان، فخرج النبى ذات ليلة فسمع : السلام عليك، فقال : فظننتها فجأة الجن، فجئت مسرعاً حتى دخلت على خديجة، فسجتنى ثوباً، وقالت : ما شأنك يا ابن عبد الله؟ فقلت سمعت : السلام عليك، فظننتها فجأة الجن، فقالت : أبشر يا ابن عبد الله، فإن السلام خير، قال : ثم خرجت مرة فإذا بجبريل على الشمس، جناح له بالمشرق، وجناح له بالمغرب، قال فهلت( ) منه، فجئت مسرعاً، فإذا هو بينى وبين الباب، فكلمنى حتى أنست به، ثم وعدنى موعداً، فجئت له فأبطأ علىَّ، فأردت أن أرجع، فإذا أنا به وميكائيل قد سدا الأفق، فهبط جبريل وبقى ميكائيل بين السماء والأرض، فأخذنى جبريل، فاستلقانى لحلاوة القفا، ثم شق عن قلبى، فاستخرجه، ثم استخرج منه ما شاء الله أن يستخرج، ثم غسله فى طست من ذهب بماء زمزم، ثم أعاده مكانه، ثم لأمه، ثم أكفأنى كما يكفأ الأديم، ثم ختم فى ظهرى حتى وجدت مس الخاتم فى قلبى، ثم قال : اقرأ، ولم أك قرأت كتاباً قط، فلم أجد ما أقرأ، ثم قال : اقرأ، قلت ما أقرأ قال اقرأ باسم ربك الذى خلق( ) حتى انتهى إلى خمس آيات منها، فما نسيت شيئاً بعد، ثم وزننى برجل، فوزنته، ثم وزننى بآخر فوزنته، حتى وزننى بمائة رجل، فقال ميكائيل : تبعته أمته ورب الكعبة، فجعلت لا يلقانى حجر ولا شجر إلا قال : السلام عليك يا رسول الله، حتى دخلت على خديجة قالت : السلام عليك يا رسول الله"( )0
4- أما المرة الرابعة التى شق فيها صدر النبى فكانت ليلة الإسراء والمعراج وذلك تأهباً لمناجاة ربه عز وجل، والمثول بين يديه، واستعداداً لما يلقى إليه من سائر أنواع الفيوضات الإلهية، وما يراه من عظيم الآيات الربانية( )0
فعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: كان أبو ذر رضى الله عنه( ) يحدث أن رسول الله قال : "فرج عن سقف بيتى وأنا بمكة، فنزل جبريل عليه السلام، ففرج صدرى، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيماناً. فأفرغها فى صدرى، ثم أطبقه. ثم أخذ بيدى، فعرج بى إلى السماء … الحديث( )0
والحكمة هنا فى شق صدره الشريف، مع القدرة على أن يمتلئ قلبه إيماناً وحكمة بغير شق؛ الزيادة فى قوة اليقين، لأنه أعطى برؤية شق بطنه، وعدم تأثره بذلك، ما أمن معه من جميع المخاوف العادية المهلكة، فكمل له بذلك ما أريد منه من قوة الإيمان بالله عز وجل وعدم الخوف مما سواه، فلذلك كان أشجع الناس، وأعلاهم حالاً ومقالاً، ولذلك وصف بقوله تعالى : ما كذب الفؤاد ما رأى( ) وقوله سبحانه : ما زاغ البصر ما طغى( )0
والشاهد فى الروايات السابقة على عصمته ، أنه قد أُفرغ فى صدره الشريف طست ممتلئ حكمة وإيماناً؛ وتجسيد المعنويات فى قدرة الله عز وجل هين… وهذا يوضح عصمته، إنه الذى نزعت عقله من صدره، هى حظ الشيطان منه، وأفرغ فى صدره طست الإيمان والحكمة، فكيف يكون عقل هذا شأنه؟ إنه يكون عقله أسمى من كل عقل، وأزكى من كل فهم، ولم لا : وقد نزع منه حظ الشيطان، وملئ قلبه بالحكمة والإيمان والحكمة جامعة لعموم العلوم والمعارف، والإيمان كلمة جامعة لكل ما يرضى الله تبارك وتعالى( )0
ح- من مظاهر عصمته تكافؤ أخلاقه :
وهكذا نشأ المصطفى ، محفوظاً ومعصوماً قبل النبوة وبعدها من الشيطان الرجيم، ومعصوماً من كل ما يمس عقيدته بسوء، بل ومن كل ما يمس خلقه، حتى كان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأعظمهم حلماً وأمانة، وأصدقهم حديثاً حتى سماه قومه "الأمين"( )0
وهذا الاسم العظيم "الأمين" يمثل أصدق تمثيل مدح رب العزة له بقوله سبحانه : وإنك لعلى خلق عظيم( )0
وهو اسم يمثل التكافؤ الخلقى فى شخصية سيدنا محمد أصدق تمثيل؛ وأعنى بالتكافؤ الخلقى : أن أخلاقه كلها قبل النبوة وبعدها تنبع من عصمة المولى عز وجل له، فهو الذى أدبه ربه فأحسن تأديبه، ومن هنا كانت أخلاقه كلها نِسَبِها متفقة، فصهره مثل شجاعته، وشجاعته مثل كرمه، وكرمه مثل حلمه… وهكذا لا تجد له خلقاً فى موضعه من الحياة يزيد أو ينقص على خلق آخر فى موضعه منها، وهذا التكافؤ الخلقى فى وجوده الواقعى فى شخصيته معجزة فى الحياة، لأن الإنسان معترك الغرائز، والتكافؤ الخلقى فى الشباب ضرب من المحالات فى متعارف الحياة، فإذا حققه الوجود الواقعى فى شباب سيدنا محمد كان وجوده معجزة، ودليل على عصمة رب العزة له، وعنايته به وحفظه من مظاهر الجاهلية، على ما سبق تفصيله0
وكذلك التكافؤ الخلقى فى شخصيته بعد النبوة يعد معجزة ودليل على عصمته. لأن التاريخ لم يذكر من النماذج العليا للبشرية من كان هذا التكافؤ الخلقى خليقته العامة سوى المصطفى محمد ، وإذا ذكر التاريخ غيره من النماذج العليا ذكره عنواناً لتبرير جزئى فى بعض الفضائل والأخلاق. فهذا مثل مضروب فى الصبر، وذاك فى الحلم، وثالث فى الكرم، ورابع فى الشجاعة. وهكذا تتفرق النهايات فى الأخلاق والفضائل فى نماذج متعددة، ولكنها تجتمع متكافئة فى شخصيته ، وهذا من الإعجاز والعصمة0
وإذا أردت مثلاً على هذا التكافؤ الخلقى فى شخصيته فتأمل حاله قبل زواجه من خديجة رضى الله عنها من شظف العيش، وقلة ذات يده، وتأمل حاله بعد زواجه منها، حيث أصبح بين عشية وضحاها من أغنياء قريش، وذوى ثرواتها، حيث أصبح عُرفاً مالها ماله، وثراؤها ثراءه. فهل غير ذلك تكافؤه الخلقى؟!0
كلا! إن سيدنا محمد ظل بعد هذا الثراء الغامر، كما كان من ولد ونهد وشب، يعيش فى شظف عيشه؛ لا من قلة المال فى يده، بل لأن خصيصة التكافؤ الخلقى عنده طبعته على الزهادة فى الحياة المادية المترهلة التى كانت تحياها قريش، وطبعته على التسامى بنفسه عن مطامع الماديين، إذا هبط عليهم الثراء من غير كد ولا تعب0
فحياته قبل زواجه من خديجة كانت تقلل من الدنيا، وكذلك كانت حياته بعد زواج خديجة، حياة تقلل من الدنيا وهى ملء يده وهكذا كان آخر حياة شبابه، صورة من أولها( )0
ولا غرو فى أن يكون رسول الله بتلك المثابة من التكافؤ الخلقى، فقد عصمه ربه عز وجل، واصطنعه لنفسه، وأراد منه أن يكون خاتم أنبيائه ورسله إلى الخلق كافة، ولا يقوم بذلك إلا أمين صاحب خلق عظيم، ينال ثقة الناس فيستجيبون له ويؤمنون به0
ط- من مظاهر عصمته كمال عقله :
إن كمال العقل وفطنته من أبرز صفات الرسل الذاتية التى منحهم الله تعالى إياها، وهى من لوازم الرسالة الإلهية، والاصطفاء الربانى لها، كما أنها عامل مهم، وسبب قوى من أسباب تبليغ رسالة الرسل إلى أقوامهم، ومعالجتهم بالتربية الحكيمة، والقيادة السليمة وفق طبائعهم وأخلاقهم. قال تعالى : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن( ) وواضح من هذه الآية الكريمة التى تبين سبيل الدعوة أنها تعتمد على رجاحة العقل وفطنته0
فلابد أن يكون الرسول أكمل الناس عقلاً وفطنة حتى يقيم الحجة على قومه على خير وجه، بحيث تكون ملزمة للخصم كل الإلزام، فإن آمن، وإلا جادله فاستعمل معه أسلوب المعارضة، والمناقضة، وهو فى كل ذلك يسلك مسالك الكرام لا يسئ ولا يغضب( ) وقد قص الله عز وجل لنا من أحوال فطنة الرسل مالا ينقض منه العجب، من سرعة البديهة، وإقامة الحجة الصادقة، وذلك كنوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، ويونس، وموسى، وداود، وسليمان، وعيسى، ومحمد، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين0
وإذا ذهبنا لذكر نماذج من فطن الأنبياء فى القرآن الكريم، فإن ذلك يفضى بنا إلى الإطالة، ولكن بحسبنا أن نأتى ببعض النماذج من واقع حياة سيدنا محمد ، لتكون كافية للدلالة على باقى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إذ ما يجوز فى حق نبى يجوز فى حق غيره من الأنبياء0
قال القاضى عياض : بعد أن قرر أنه لا مرية فى أنه أعقل الناس وأذكاهم وفى ذروة الذرى فى الفطنة، ورجاحة العقل قال : "ومن تأمل تدبيره أمر بواطن الخلق وظواهرهم، وسياسة العامة والخاصة، مع عجيب شمائله، وبديع سيره، فضلاً عما أفاضه من العلم، وقرره من الشرع، دون تعلم سبق، ولا ممارسة تقدمت، ولا مطالعة للكتب فيه، لم يمتر فى رجحان عقله، وثقوب فهمه لأول بديهة"( )0
وإليك بعض الأمثلة على كمال عقله وفطنته من سيرته العطرة :
أ- سرعة حله للمشاكل المستعصية التى تحار فى حلها العقول الكبيرة الشهيرة وصور ذلك كثيرة منها :
1- حله لمشكلة قريش فى وضع الحجر الأسود الذى تنافست فيه قبائلها، وأرادت كل قبيلة أن تحوز شرف وضعه، وتستأثر به على غيرها، حتى وصل بها الحال إلى شفا الحرب، حيث قربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دماً، ثم تعاقدوا هم وبنو عدى على الموت، وأدخلوا أديهم فى ذلك الدم فى تلك الجفنة، فسموا لعقة الدم، فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمساً ثم إنهم اجتمعوا فى المسجد فتشاوروا وتناصفوا، وأشار عليهم أبو أمية بن المغيرة، وكان يومئذ أسن قريش كلها على أن يجعلوا بينهم فيما يختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد – يعنى باب بنى شيبة – فكان أول داخل رسول الله ، فلما رأوه قالوا : هذا الأمين رضينا، هذا محمد! فلما انتهى إليهم أخبروه الخبر فقال : "هلم إلى ثوباً، فأتى به، فأخذ الركن فوضعه فيه بيده، ثم قال : لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعاً. ففعلوه حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده ثم بنى عليه"( )0
وبذلك رفع ما بينهم من ذلك الخلاف الذى كاد يؤدى برجالهم، والذى حارت فيه عقولهم، وفيهم المشهورون بالعقل والحنكة والتجربة والسؤود، ومع ذلك بارت فى هذه المشكلة العويصة، حتى خلصهم منها ذو الفطنة النبوية سيدنا محمد ، وهو يومئذ فى سن الخامسة والثلاثين من عمره ( ) على الرغم من وجود الكبار والكبار جداً، وعلى الرغم من وجود العقلاء والنبلاء جداً، إلا أنه هو الذى حل المشكلة، إنه الذى ارتضاه الجميع لمكانته، فلما حكم ارتضوا حكمه لعدالته. لم يعترض أحد على شخصه، ولم يعترض أحد على فكره، حتى قال من لا يعرفه! يا عجبا لقوم أهل شرف وعقول، وسن وأموال، عمدوا إلى أصغرهم سناً، وأقلهم مالاً، فرأسوه فى مكرمتهم وحرزهم، كأنهم خدم له!! ( )0
2- ومثل هذا الحل السريع الحاسم حله لمشكلة المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله( ) فوفدوا إلى المدينة لا يملكون شيئاً، فكانوا بذلك فى خطر المجاعة والغربة، مما اقتضى إيجاد حل سريع لهذه المشكلة، وكان رجلها وواحدها رسول الله ، حيث آخى بين المهاجرين والأنصار على المواساة والحق، والتوارث، واستمروا على ذلك الحال إلى أن أنزل الله تعالى : وأولوا الرحام بعضهم أولى ببعض فى كتاب الله( ) فنسخت حكم التوارث بين المهاجرين والأنصار( ) وبذلك حل النبى مشكلة من أكبر المشاكل استعصاءً فى الحل0
3- كما حل فى نفس الوقت مشكلة أخرى هى بمثابة المشكلة الأولى فى الأهمية، وهى مشكلة التعايش فى المدينة بين طوائف مختلفة : الأوس والخزرج الذى كان بينهما من العداء بسبب ما كان يجرى بينهما من الحروب مالا يكاد ينسى والمهاجرين الذين تركوا أوطانهم وأموالهم، وأتوا لنصرة رسول الله وجموع يهود التى كانت تسيطر على الحركة الاقتصادية فى المدينة باحتكارها التجارة فيها، وتشكيلهم خطراً عظيماً على الدولة الإسلامية الفتية، وهم أيضاً منقسمون على أنفسهم، فبعضهم يوالى الأوس، والبعض الآخر يوالى الخزرج. فكان لابد من إيجاد ثقة كاملة، بين هذه الأطراف المختلفة للتعايش السلمى، والدفاع العام عن عدو مشترك يقدم عليهم من الخارج، يريد المساس بأحد من هذه الطوائف، فكان ذلك بما أجراه النبى من عهد موادعة بين هذه الطوائف يرضى جميعها0
وبهذا العهد( ) قضى رسول الله على النعرات الجاهلية، والدسائس اليهودية، وأوجب للجميع الود والإخاء، والتراحم، وإقامة العدل، وما كان لذلك أن يتم لولا هذا العلاج الناجح، من ذى الفطنة العظيمة، والسياسة الحكيمة – صلوات الله وسلامه عليه0
4- وكم كانت فطنته الكاملة تحل من مشاكل عديدة فى أسرع وقت وأقصره، فيتحقق بذلك له ولأمته ما يصبون إليه من نصر وسعادة وعز وسيادة، وليس أدل على ذلك من صلح الحديبية! الذى كان آية من الآيات العظيمة، فبه فتح الله عليه مكة دون حرب أو قتل… ومن كان يتصور فتح مكة بهذا السلام العظيم؟!! والأمثلة غير ذلك ينوء عنها الحصر فى مثل هذا المقام المقتضى للإيجاز، والإتيان من كل بحر قطرة كالأنموذج لغيره، والدليل على ما سواه0
ب- ومن مظاهر كمال عقله وفطنته، سرعة إقامة الحجة على المعارضين وقطع شغبهم وجدالهم بالباطل، فلا يستطيعون مجاراته أو مكابرته، بل لا يسعهم إلا الإذعان والتسليم، أو النكوص على أعقابهم خاسئين خاسرين، وصور ذلك كثيرة منها :
1- ما جاء عن سعيد بن أبى راشد( ) – رحمه الله – قال : رأيت التنوخى رسول هرقل إلى رسول الله (بحمص) وكان جاراً لى شيخاً كبيراً، قد بلغ الفناء أو قرب، فقلت : ألا تخبرنى عن رسالة هرقل إلى رسول الله ، ورسالة رسول الله إلى هرقل؟ قال : بلى… وذكر الحديث وفيه : "فانطلقت بكتابه (أى كتاب هرقل) حتى جئت "بتبوك" فإذا هو جالس بين أصحابه على الماء، فقلت : أين صاحبكم؟، قيل : ها هو ذا، قال : فأقبلت أمشى حتى جلست بين يديه، فناولته كتابى فوضعه فى حجره، إلى أن قال : ثم إنه ناول الصحيفة رجلاً عن يساره، فقلت : من صاحب كتابكم الذى يقرأ لكم؟ فقالوا : معاوية. فإذا فى كتاب صاحبى : يدعونى إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين! فأين النار؟ فقال رسول الله "سبحان الله، فأين الليل إذا جاء النهار؟!…"( )0
2- وجاءت قريش إلى حصين بن عبيد( ) وهو من عظماء قريش، فقالوا له : كلم لنا هذا الرجل، يقصدون : رسول الله ، فإنه يذكر آلهتنا ويسبهم، فجاءوا معه حتى جلسوا قريباً من باب النبى ، فقال : أوسعوا للشيخ، وعمران( ) وأصحابه متوافرون0
فقال حصين : ما هذا الذى بلغنا عنك، إنك تشتم آلهتنا، وتذكرهم، وقد كان أبوك حصينة وخيراً؟ فقال : يا حصين، إن أبى وأباك فى النار. يا حصين! كم تعبد من إله؟ قال : سبعاً فى الأرض، وواحداً فى السماء. قال : فإذا أصابك الضر من تدعوا؟ قال : الذى فى السماء. قال: فإذا هلك المال من تدعوا؟ قال : الذى فى السماء. قال : فيستجيب لك وحده، وتشركهم معه؟! أرضيته فى الشكر أم تخاف أن يغلب عليك؟ قال : لا واحدة من هاتين. قال : "وعلمت أنى لم أكلم مثله" قال : يا حصين! أسلم تسلم. قال : إن لى قوماً وعشيرة فماذا أقول؟ قال : قل : اللهم إنى أستهديك لأرشد أمرى، وزدنى علماً ينفعنى. فقالها حصين، فلم يقم حتى أسلم. فقام إليه عمران فقبل رأسه، ويديه، ورجليه، فلما رأى ذلك النبى بكى، وقال : بكيت من صنيع عمران، دخل حصين، وهو كافر، فلم يقم إليه عمران، ولم يلتفت ناحيته، فلم أسلم قضى حقه، فدخلنى من ذلك الرقة، فلما أراد حصين أن يخرج قال لأصحابه : قوموا فشيعوه إلى منزله، فلما خرج من سدة الباب رأته قريش فقالوا : صبأ( ) وتفرقوا عنه( )0
فنتأمل كلمة "حصين" الذى تعظمه قريش : "وعلمت أنى لم أكلم مثله" إن هذه الكلمة من هذا الرجل تبين مدى كمال عقله ، وأنه يفوق عقل المعظمين من البشر، إنه عقل نبى مصطفى معصوم!( )0
3- وعن أبى أمامة رضى الله عنه( ) قال : إن فتى شاباً أتى النبى فقال : يا رسول الله، ائذن لى بالزنا!! فأقبل القوم عليه، فزجروه، وقالوا : مهٍ مهٍ( ) فقال : أدنه، فدنا منه قريباً. قال : فجلس فقال : أتحبه لأمك؟ قال : لا! والله، جعلنى الله فداك فقال : ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. ثم قال : أفتحبه لابنتك؟ قال : لا!، والله يا رسول الله، جعلنى الله فداك. قال ولا الناس يحبونه لبناتهم. ثم قال : أفتحبه لأختك؟ قال : لا والله، جعلنى الله فداك. قال : ولا الناس يحبونه لأخواتهم، ثم قال : أفتحبه لعمتك؟ قال : لا والله، جعلنى الله فداك. قال ولا الناس يحبونه لعماتهم. ثم قال : أفتحبه لخالتك؟ قال : لا والله، جعلنى الله فداك. قال : ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال : فوضع يده عليه، وقال : اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شئ"( )0
انتهى الفتى عن هذه الفاحشة، وأصبح لا يلتفت إليها، فقد أقنعه إقناعاً تاماً، وردد، وكرر، حتى قبح هذا الفعل فى نظر الرجل، فأبغضه وابتعد عنه، وهو بدعائه له زاد الأمر حسناً فلم يقف عند حد الإقناع، وإنما دعا له – وهو مستجاب الدعوة – فاقتناع الرجل، وهداه الله، وهكذا النبوة( )0
والشاهد مما سبق أنه لم يغضب، ولم يثر، وإنما كلمه كلاماً سهلاً غاية السهولة، أقنعه كل الإقناع. وهذا من كمال العقل وفطنته0
4- وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن أعرابياً أتى رسول الله فقال : يا رسول الله! إن امرأتى ولدت غلاماً أسود، وإنى أنكرته( ) فقال له النبى هل لك من إبل؟ قال : نعم. قال ما ألوانها؟ قال : حمر. قال : فهل فيها من أورق( ) قال : نعم. قال رسول الله : فأنى هو؟( ) قال : لعله يا رسول الله يكون نزعه عرق له( ) فقال له النبى وهذا لعله يكون نزعه عرق له( )0
إنه فى هذا الموقف جعل السائل ينطق بالجواب، وضرب له مثلاً من بيئته، وأقنعه أيما إقناع، ولقد كان الرجل منصفاً، فما أن ضرب له المثل إلا اقتنع. لقد سلم الرجل واعترف أن العرق نزاع، وعليه فلعل عرقاً نزع ابنه هذا، كما أن إبله التى فيها جمل يختلف لونه عن بقية الإبل لعله نزعه عرق( )0
جـ- ومن مظاهر كمال عقله وفطنته براهينه الساطعة القاطعة التى كان يقيمها على مجادليه ومناظريه من مشركين، وأهل كتاب وغيرهم، وصور ذلك كثيرة أكتفى منها بما يلى :
1- مجادلته لكفار قريش، وهو ما كان من ابن الزبعرى( ) الذى سمع بقول الله تعالى إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون. لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون. لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون( ) فقال : أما والله لو وجدت محمداً لخصمته، فسلوا محمداً! أكل ما يعبد من دون الله فى جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة! واليهود تعبد عزيزاً! والنصارى تعبد عيسى ابن مريم! فعجب الحاضرون مما قاله ابن الزبعرى، ورأوا أنه قد خصم رسول الله وغلبه، فقال النبى : "إن كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده، إنهم إنما يعبدون الشياطين، ومن أمرتهم بعبادته" فأنزل الله تعالى تصديقاً لنبيه : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون. لا يسمعون حسيسها وهم فى ما اشتهت أنفسهم خالدون. لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذى كنتم توعدون( )0
فانظر إلى هذا الجواب المفحم الذى لم يترك للمجادل مجالاً للتمادى بالباطل، حيث أعلمه أن من ذكر لم يأمروهم بعبادتهم، وأنهم إنما يعبدون الشياطين، وأنهم لو أمروهم بذلك أو حبذوا ذلك منهم لكان الحكم عاماً فيهم0
على هذا النحو كانت مجادلة النبى للمشركين فى مكة، وأهل الكتاب فى المدينة( ) والوفود الواردة من كل نواحى الجزيرة، يجادلوه فيأيده الله، ويقيم الحجة عليهم، وأذكر من ذلك مثالاً ما يلى :
2- وفد بنى تميم : فلقد قدم عليه أشرافهم، منهم الأقرع بن حابس، وهو من سادات العرب وحكامها( ) والزبرقان بن بدر التميمى– أحد بنى سعد – وعمرو بن الأهتم. وقالوا لرسول الله : جئنا نفاخرك، فأذن لشاعرنا وخطيبنا، وتمت المفاخرة، وفى نهايتها قال الأقرع بن حابس : إن هذا الرجل لموتى له( ) لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا( )0
لقد اعترف الرجل بكمال عقله وفطنته ، وأنه اختار من أتباعه خطيباً يناسب هذه القبيلة من العرب، ففاق خطيبهم، واختار شاعراً فاق شاعرهم، وما ذلك إلا لكمال عقله وفطنته، وفهمه الدقيق للوافدين عليه، وفهمه الدقيق لأتباعه0
لقد أسلم الوفد( )، وهكذا كل من ورد عليه، يعترف بنبوته، وعصمة المولى عز وجل له، وتأييده فى كل أموره( )0
وبعد : فقد اتضح لك فيما سبق من خلال القرآن الكريم والسنة المطهرة، والسيرة العطرة، عصمة سيدنا رسول
قتيبة
03-09-2008, 02:03 AM
الله من كل ما يمس قلبه وعقيدته بسوء، من التمسح بالأصنام، أو الحلف بها، أو أكل ما ذبح على النصب، ونحو ذلك من مظاهر الكفر والشرك والضلال، والغفلة، والشك، وكذا عصمته من تسلط الشيطان عليه، وعصمته من كل ما يمس أخلاقه بسوء حتى استحقت أن توصف بالعظمة قال تعالى : وإنك لعلى خلق عظيم( ) وبلغ من عظمة أخلاقه تكافؤها بنسب متفقة، فحلمه مثل رحمته، ورحمته مثل مروءته، الخ، وهو فى كل ذلك فى أول شبابه كآخر حياته. وكذلك اتضح عصمته من كل ما يمس عقله بسوء، حتى كان قبل النبوة وبعدها أكمل الناس عقلاً وفطنة، كما كان أكمل الناس إيماناً وخلقاً0
وكذا عصم رب العزة رسوله وخصه دون سائر الأنبياء بعصمة بدنه الشريف من القتل، وقد دل على ذلك الكتاب الكريم، والسنة المطهرة، والسيرة العطرة، فإلى تفصيل ذلك فى المبحث التالى0
=====
المبحث الثانى
دلائل عصمته فى بدنه من خلال القرآن الكريم
والسنة النبوية
المراد بعصمة النبى فى بدنه هنا، عصمته من القتل، أما الأمراض والآفات الغير منفرة فلا. لأن رسول الله وسائر الأنبياء والرسل، من البشر. وهم بحسب ظواهرهم يطرأ عليها ما يطرأ على سائر البشر من الآفات والتغييرات والآلام والأسقام0
وهذا كله ليس بنقيصه فيهم لأن الشئ إنما يسمى ناقصاً بالإضافة إلى ما هو أتم منه، وأكمل من نوعه، وقد كتب الله عز وجل على أهل هذه الدار كلها، بأنهم فيها يحيون، وفيها يموتون، ومنها يخرجون. فالمرض والشكوى منه والتداوى، والإحساس بالحر والبرد، وإدراك الجوع والعطش، والغضب والضجر، والتعب والضعف والموت. كل ذلك سمات البشر كلها، والتى لا محيص عنها، وقد جرى على خير خلق الله عز وجل من أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام السمات السابقة، كما ابتلاهم الله عز وجل بضروب من المحن، وذلك من تمام حكمته عزوجل لحكم منها ما يلى :
1- ليتحقق بامتحانهم بشريتهم، ويرتفع الالتباس من أهل الضعف فيهم لئلا يضلوا بما يظهر من العجائب على أيديهم، ضلال النصارى بعيسى ابن مريم، وضلال اليهود بعزيز0
2- ليظهر شرفهم، ورفعة درجاتهم، كما قال عز وجل: ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم( )0
3- تسلية لأممهم، وتذكرة لهم ليتأسوا بهم فى البلاء، ويستخرجوا حالات الصبر، والرضى، والشكر، والتسليم، والتوكل ونحو ذلك مما وقع منهم0
4- فى امتحانهم محو لهنات فرطت منهم أو غفلات سلفت لهم – إن صح التعبير – ليلقوا الله عزوجل طيبين مهذبين، وليكون أجرهم أكمل، وثوابهم أوفر وأجزل( )0
وكل ذلك تحقيقاً لما أجمله القرآن الكريم ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين( ) وقوله سبحانه ليبلوكم أيكم أحسن عملاً( ) وهذا ما فصله وبينه النبى فى أحاديث عدة منها ما يلى :
1- عن سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه( ) قال : قلت : يا رسول الله! أى الناس أشد بلاءً قال: "الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فيبلتى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان فى دينه رقة ابتلى على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض ما عليه خطيئة"( )0
1- وقوله قال الله تعالى : "إنما بعثتك لأبتليك وأبتلى بك"( )0
2- وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله : ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة فى نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة"( )0
3- وعن أبى سعيد الخدرى وعن أبى هريرة عن النبى قال : "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم – حتى الشوكة يشاكها – إلا كفر الله بها من خطاياه"( )0
ومن أجل كل ما سبق كانت شدة المرض والوجع بالنبى بدليل :
1- عن عائشة رضى الله عنها قال : ما رأيت أحداً أشد عليه الوجع من رسول الله "( )0
2- وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال : دخلت على رسول الله وهو يوعك فقلت : يا رسول الله، إنك توعك وعكاً شديداً. قال : "أجل إنى أوعك كما يوعك رجلان منكم. قلت : ذلك بأن لك أجرين. قال : أجل، ذلك كذلك"( )0
3- وعن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال : دخلت على رسول الله وهو موعوك، عليه قطيفة، ووضعت يدى عليها، فوجدت حرارتها فوق القطيفة، فقلت : ما أشد حر حماك يا رسول الله ، فقال : "إنا كذلك يشدد علينا البلاء، ويضاعف لنا الأجر" قال أبو سعيد : يا رسول الله، من أشد الناس بلاء؟ قال : الأنبياء قال : ثم من؟ قال : العلماء، قال : ثم من؟ قال : "ثم الصالحون، كان أحدهم يبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يلبسها، ويبتلى بالقمل حتى تقتله، ولأحدهم كان أشد فرحاً بالبلاء من أحدكم بالعطاء"( )0
خصوصية عصمة النبى فى بدنه من القتل :
إذا كانت الأحاديث النبوية السابقة تؤكد على أن رسول الله جرى عليه ما جرى على غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، من سمات البشر التى لا ميحص عنها، وابتلى كما ابتلى غيره من الأنبياء بضروب المحن، إلا أنه اختص بعصمة بدنه الشريف من القتل بدليل قوله تعالى :
1- وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقاً لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين( )0
2- وقال سبحانه : الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلى بالبينات وبالذى قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين( )0
فتأمل قوله تعالى : قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل وقوله سبحانه : قد جاءكم رسل من قبلى بالبينات وبالذى قلتم فلم قتلتموهم إن الخطاب فى هاتين الآيتين موجه من رسول الله كما أمره ربه عز وجل إلى قتلة الأنبياء والمرسلين من بنى إسرائيل، وتحدى لهم بأوضح بيان، بأنهم وإن وقع منهم قتل الأنبياء من قبل رسول الله بإذن الله تعالى، فهم مع رسول الله مهما حاولوا قتله، فلم ولن يفلحوا، لأن الله عز وجل عصم بدنه الشريف من القتل، كما عصم قلبه وعقله وَخُلُقَه من كل ما يمسهم بسوء، وخصوصية عصمة بدنه الشريف من القتل مستفادة من الآيتين السابقتين فى تكرار قوله : "من قبل" و"من قبلى" فتأمل0
3- وقال عز وجل : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس( )0
روى عن عائشة رضى الله عنها قالت : "كان النبى يحرس حتى نزلت هذه الآية : والله يعصمك من الناس فأخرج رسول الله رأسه من القبة، فقال لهم : "يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمنى ربى عز وجل"( ) وهذه الآية الكريمة، وإن كانت مدنية النزول على قول الأكثرين من المفسرين، إلا أنها لا تعنى أن خصوصية عصمة رسول الله فى بدنه من القتل لم تكن إلا بعد الهجرة النبوية، كلا! لما يلى :
أولاً : لاحتمال تكرار نزول الآية مرة بمكة، وبمرة بالمدينة :
ومن تمسك برواية أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها السابقة، فلا حجة له فيها لاحتمال أن السيدة عائشة لم تخبر عن أمر شهدته، وإنما حدثـت عن من شهـد الحادثة، وقـت نزول الآية فى مكة من الصحابة رضى الله عنهم ويؤيد هذا الاحتمـال، الاختـلاف فى رفع الحديـث ووقفه كما قال الحافظ ابن حجر( ) وأيضاً : اختلاف ألفـاظ روايـات حديـث عائشـة تشير إلى أنها حدثت أولاً عن أمر سمعته من غيرها، كما فى حديث الترمذى – وهذا هو ما ذكرت فيه نزول الآية، وهو محتمل احتمالاً قوياً أن يكون فى مكة، فلا حجة فيه لمن يتمسك بمدنية الآية لأنه كما "لا يخفى ليس بنص فى المقصود" كما قال الإمام الألوسى فى تفسيره( )0
وهى رضى الله عنها تحدثت مرة أخرى عما رأته وشاهدته، وكانت فيه مع رسول الله ، بدليل رواية الإمام أحمد "وهى إلى جنبه"( )0
ثانياً : يحتمل أن قول رسول الله السابق فى حديث عائشة – على فرض أن هذا القول كان بالمدينة، إخبار عن حال ثابتة له منذ كان بمكة، ولما رأى حرص أصحابه على حمايته، وانتدابهم لحراسته فى بلد نزل فيه مهاجراً قبل أن يستقر؛ ذكرهم بأنه لا حاجة له بحراستهم فى المدينة أيضاً، لأن الله تعالى قد عصمه منذ كان فى شدة الأزمات والشدائد بمكة( )0
ويؤيد ذلك ما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال : كان النبى يحرس، وكان يرسل معه عمه أبو طالب كل يوم رجالاً من بنى هاشم حتى نزلت هذه الآية : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس( ) فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه فقال : يا عم إن الله قد عصمنى من الجن والإنس"( ) وللحديث شاهد من رواية جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال : "كان رسول الله إذا خرج بعث معه أبو طالب من يكلؤه حتى نزلت : والله يعصمك من الناس فذهب ليبعث معه فقال : "يا عم إن الله قد عصمنى لا حاجة لى إلى من تبعث"( )0
وللحديث شاهد ثانى من رواية أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال : "كان العباس عم رسول الله فيمن يحرسه، فلما نزلت هذه الآية : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك… الآية، ترك رسول الله الحرس"( ) فهذه الروايات السابقة مع معنى الآية الواردة فيها يقتضى أنها نزلت بمكة أيام الشدائد والأزمات التى كانت تعترض رسول الله وهو يدعو قومه، فقوله تعالى : والله يعصمك من الناس أى بلغ أنت رسالتى، وأنا حافظك وناصرك، ومؤيدك على أعدائك، ومظفرك بهم، فلا تخف ولا تحزن، فلن يصل أحد منهم إليك بسوء يؤذيك( ) والعباس فى حراسته لرسول الله على ما جاء فى رواية أبى سعيد الخدرى، هو بلا شك أحد فتيان بنى هاشم الذين كان يبعثهم أبو طالب كل يوم لحراسة رسول الله 0
وذهاب الحافظ ابن حجر فى الفتح( ) إلى أن ملازمة العباس لرسول الله إنما كانت بعد فتح مكة عدول منه – رحمه الله تعالى – عما تلهمه الآية، ويقتضيه حال الدعوة فى مستهلها من حاجة الرسول إلى العصمة من الناس ليتمكن من إبلاغهم ما أمره الله بتبليغهم إياه، واستدلاله على ما ذهب إليه بما ورد فى الأخبار من أن رسول الله حرس فى بدر، وفى أحد، وفى الخندق، وفى رجوعه من خيبر، وفى وادى القرى، وفى عمرة القضاء، وفى حنين، وهذا يقتضى عنده نزول الآية متراخية عن وقعة حنين( ) غير مسلم به من وجهين :
الوجه الأول : أن ملازمة العباس للرسول ومداومته عليها كانت معلومة للناس بمكة قبل الهجرة، فقد كان من لا يعرف شخص رسول الله من العرب، ولم يسبق له أن رآه، ويعرف عمه العباس، فإنه يدل على رسول الله بأنه الرجل الذى يجلس مع العباس بن عبد المطلب( ) ومما يؤكد ملازمة العباس لرسول الله بمكة قبل الهجرة أيضاً – وهى بلا ريب ذات هدف سام أهم ما فيها حراسة رسول الله ، من أعدائه – أن العباس لم يترك رسول الله وحده فى بيعة العقبة الكبرى التى تمت بين رسول الله ، وبين الأنصار، وكان أول متكلم فى تلك الليلة، وفيما قاله دليل على أنه كان يحرس رسول الله ويمنعه من أذى قومه قال : "يا معشر الخزرج… إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو فى عز من قومه، ومنعة فى بلده… فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه، وخاذلوه بعد الخروج إليكم، فمن الآن فدعوه فإنه فى عز ومنعة من قومه وبلده"( )0
فحراسات رسول الله بمكة من قبل أهله وعشيرته، كانت لأسباب عامة، الغرض منها حماية سيدنا محمد وهو منهم فى الذروة لرد اعتداء قريش عنه، ومنع طغيانها عليه0
الوجه الثانى : أن حراسته بعد الهجرة كانت جميعها لأسباب خاصة. وباستقصاء الأسباب الخاصة لحراسة رسول الله فى المدينة، تراها :
1- إما فى أول مقدمة المدينة كما فى حديث عائشة رضى الله عنها عند البخارى أنها قالت : "كان النبى سهر، فلما قدم المدينة قال : ليت رجلاً من أصحابى صالحاً يحرسنى الليلة، إذ سمعنا صوت سلاح، فقال : من هذا؟ فقال : أنا سعد بن أبى وقاص جئت لأحرسك، فنام النبى "( )0
2- أو أن تكون أسباب حراسته أموراً داخلية خاصة به، كما فى حراسة أبى أيوب رضى الله عنه( ) لرسول الله ليلة بنائة بصفية بنت حى بن أخطب رضى الله عنها( )وهو عائد من خيبر، فقد بين أبو أيوب سبب حراسته لرسول الله حين سأله عن حراسته له فقال أبو أيوب : "خفت عليك من هذه المرأة، وكانت امرأة قد قتلت أباها، وزوجها، وقومها، وكانت حديثة عهد بكفر، فخفتها عليك" فقال رسول الله : "اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظنى"( )0
3- أو أن تكون وقائع حربية كما فى حراسته فى بدر وأحد والخندق وحنين( ) وغيرها من المشاهد الحربية0
وهذه جميعها أمور يجب أن يحرس فيها الإمام والقائد، ورسول الله كان يعلم قطعاً فى هذه الحراسات الخاصة أنه معصوم، ولكنه طلبها أو أقرها تشريعاً لأمته لتقتدى به فى ذلك، ولتتعلم الأخذ بالحذر، والاحتراس من العدو، وحراسة السلطان أو القائد خشية القتل،وفى هذا يقول الحافظ ابن حجر : "وإنما عانى النبى ذلك مع قوة توكله، للاستنان به فى ذلك، وقد ظاهر بين درعين مع أنهم كانوا إذا اشتد البأس كان أمام الكل. وأيضاً فالتوكل لا ينافى تعاطى الأسباب، لأن التوكل عمل القلب، وهى عمل البدن، وقد قال : "اعقلها وتوكل"( )0
وقال القرطبى : "ليس فى الآية – يعنى والله يعصمك من الناس ما ينافى الحراسة، كما أنه ليس فى أعلام الله نصر دينه وأظهاره، ما يمنع الأمر بالقتال، وإعداد العدد"( )0
وبهذين الاحتمالين السابقين تبقى مكية الآية قائمة، ومما يؤكد القول بمكيتها ما قاله لابنته زينب رضى الله عنها( ) لما قامت تغسل عنه التراب الذى نثره أحد سفهاء قريش، وهى تبكى؛ خاطبها : بقوله : "لا تبكى يا بنية، فإن الله مانع أباك"( ) فهذا يدل بما لا مجال للريب فيه أنه كان على يقين من عصمة الله عز وجل له من جميع ما يكيدون ويدبرون0
وأيضاً فإن القول بمدنية هذه الآية مع ما فى أسلوبها من شدة الأمر بالتبليغ، والتحريض عليه، والتوعد على التقصير فيه، يتنافى مع ما كان عليه رسول الله فى المدينة من عزة ومنعة، مكنته من التبليغ ونشر الدعوة بقوة، ونقلها إلى خارج المدينة التى هو فيها سيد الموقف وبيده المبادأة متى أرادها0
بل كيف يتأتى القول أن تنزل عليه آية العصمة من الناس فى المدينة، وهو للعصمة أحوج فى مطلع الرسالة منه عليها فى آخرها؛ وسورة المائدة من آخر القرآن تنزيلاً"( )0
هذا فى الوقت الذى تأييده بالمؤمنين ظاهر فى قوله تعالى : هو الذى أيدك بنصره وبالمؤمنين( ) فلا معنى لأخباره على القول بمدنية آية العصمة – بعصمته من الناس – وقد عَرَفَه قبلاً أنه مؤيد بنصره تعالى، وبالمؤمنين0
وتعليل ابن كثير نكارة حديث جابر بن عبد الله فى بعث أبى طالب حُراساً مع رسول الله بأن "هذه الآية مدنية، وهذا الحديث يقتضى أنها مكية"( ) غير مسلم به لأن دعواه مدنية هذه الآية لم يقم عليها دليلاً سوى ما يظهر من أنها موجودة فى نظم التلاوة فى سورة مدنية. ووجود الآية فى سورة مدنية، لا يستلزم كونها مدنية، لأن كثيراً من الآيات المكية، وضعت توقيفاً منه فى سورة مدنية، وكثيراً من الآيات المدنية وضعت توقيفاً فى سورة مكية0
وبهذا أيضاً يُردَّ على الإمام القرطبى فيما ذهب إليه، من أن حديث ابن عباس – الذى سبق أن سقناه – يقتضى مكية هذه الآية، والسورة مدنية بإجماع( ). فمدنية السورة لا يمنع من وجود آية أو آيات مكيات فيها0
ودعوى أبى حيان فى البحر : "أن مكية هذه الآية يجعلها أجنبية بالنسبة لما قبلها وما بعدها لأنها فى قصة اليهود والنصارى"( ) غير مسلمة أيضاً لأن وجود آية بين آيات منسجمة معها فى المعنى منسقة فى الربط والتناسب، لا يلزمه اتحاد زمن نزول هذه الآيات، إذ كثيراً ما تكون الآية مكية، لكنها مناسبة لمعانى آيات مدنية اقتضت وضعها بينها توقيفاً من رسول الله ( )0
"لأن المدار فى سمو نظم القرآن الكريم لم يقم على أساس التوافق الزمنى أو المكانى فى نزول الآيات، وإنما المدار فيه على انسجام المعنى، واتساقه فى نظم التلاوة، ولو تباعد زمن النزول واختلف مكانه، وهذا هو سر التوقيف فى ترتيب الآيات ونظمها فى وضع التلاوة. فلا بدع أن تكون آية أو آيات نزلت فى مطلع الرسالة وشدائدها، ثم وضعت توقيفاً بين آيات نزلت فى أواخر ما نزل من القرآن مادام المعنى فى الآيات منسجماً متسقاً، يأخذ بعضه بحجز بعض، وهذا كثير فى القرآن الحكيم، وهو من دلائل الإعجاز"( )0
قلت : ويؤكد مكية الآية، أو تكرار نزولها، وبالتالى خصوصية عصمة النبى فى بدنه الشريف من القتل، ما ورد فى القرآن الكريم من آيات كلها مكية تخاطبه بأنه محفوظ بعناية الله عز وجل، وسيكفيه المستهزئين من قومه، ومن هذه الكفاية عصمة بدنه الشريف من القتل. قال تعالى : واصبر لحكم ربك فإنك بأعيينا( ) وقال سبحانه : أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه( ) وقال تعالى : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين( ) وهذه الآيات الكريمات السابقة كلها مكية، وهى واضحة الدلالة على بيان اختصاص النبى بعصمته من القتل0
ولم لا! ورب العزة يخاطبه فى شدة المحن والابتلاء فى مكة المكرمة بقوله تعالى : فاصبر لحكم ربك أى اصبر على أذاهم، ولا تبالهم فإنك بأعيينا أى بمرأى منا، وتحت كلاءتنا. وما تلك العناية الإلهية إلا خطاب للنبى ، بأنه معصوم من ربه عز وجل من الناس"( ) وجاء التأكيد لعصمته من الناس، بالأمر الربانى بالمضى فى دعوتة، وعدم المبالاة بأعداءه من المشركين، حيث سيكفيهم إياه سبحانه القائل فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين. إنا كفيناك المستهزءين( ) وهذه الآية المكية نظير الآية المدنية على ما ذهب إليه بعض المفسرين : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس( )0
ففى الآيتين والله يعصمك من الناس وإنا كفيناك المستهزءين خطاب من رب العزة لنبيه ومصطفاه بالعصمة من الناس. فعن ابن عباس رضى الله عنهما قال فى قوله تعالى : إنا كفيناك المستهزءين قال : "المستهزءين : الوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب أبو زمعة من بنى أسد بنى عبد العزى، والحارث بن غيطل السهمى، والعاص بن وائل السهمى. فأتاه جبريل – عليه السلام فشكاهم إليه رسول الله ، فأراه أبا عمرو الوليد بن المغيرة، فأومأ جبريل إلى أبجله( ) فقال : ما صنعت شيئاً، فقال : كفيتكه، ثم أراه الحارث بن غيطل السهمى، فأومأ إلى بطنه، فقال : ما صنعت شيئاً، فقال : كفيتكه، ثم أراه العاص بن وائل السهمى، فأومأ إلى أخمصه( )، فقال : ما صنعت شيئاً، فقال : كفيتكه، فأما الوليد بن المغيرة فمر برجل من خزاعة، وهو يرش نبلاً له( ) فأصاب أبجله فقطعها، وأما الأسود بن المطلب فعمى، فمنهم من يقول : عمى كذا، ومنهم من يقول : نزل تحت شجرة، فجعل يقول : يا بنى لا تدفعون عنى، قد هلكت أطعن بشوك فى عينى، فجعلوا يقولون : ما نرى شيئاً، فلم يزل كذلك حتى عميت عيناه، وأما الأسود بن عبد يغوث، فخرج فى رأسه قروح فمات منها، وأما الحارث بن غيطل، فأخذه الماء الأصفر فى بطنه حتى خرج خرؤه( ) مِنْ فِيه، فمات منها، وأما العاص بن وائل فبينما هو كذلك يوماً حتى دخل فى رجله شبرقه( ) حتى امتلأت منها فمات"( )0
وللحديث شاهد عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال : مر النبى على أناس بمكة، فجعلوا يغمزون فى قفاه، ويقولون : هذا الذى يزعم أنه نبى، ومعه جبريل، فَغَمَزَ جبريل بإصبعه، فوقع مثل الظفر فى أجسادهم، فصارت قروحاً، حتى نَتُنُوا، فلم يستطيع أحدٌ أن يدنو منهم، فأنزل الله : إنا كفيناك المستهزءين( )0
وصدق رب العزة : أليس الله بكاف عبده( ) بلى كاف عبده!! وقال : "إن الله أمرنى أن أُحَرِّقَ قريشاً، فقلت رب إذاً يَثْلَغُوا( ) رأسى! فَيَدعُوهُ خُبْزَةً، قال : استخـرجهـم كمـا
استجرجوك واغزهم نغزك( )، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله…"( )0
وسياق هذا الحديث فى صحيح مسلم يشعر على طوله بأن التحديث به كان بعد الهجرة النبوية، وقد تنبه الإمام القرطبى إلى ذلك، فنزع هذه الجملة من سياق مسلم، ووضعها فى موضعها عند كلامه على آية : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس( ) باعتبارها مكية( ) وهذا هو الصواب عندى، وعند غيرى( ) والله أعلم0
وتأكيداً لخصوصية عصمته من القتل فى مكة، حتى على فرض مدنية آية والله يعصمك من الناس إليك هذه النماذج :
1- ما نزل فى قوله تعالى : أرأيت الذى ينهى عبداً إلى صلى. أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى. أرأيت إن كذب وتولى. ألم يعلم بأن الله يرى. كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية. ناصية كاذبة خاطئة. فليدع ناديه. سندع الزبانية. كلا لا تطعه واسجد واقترب( ) فعن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال أبو جهل : هل يعفر( ) محمد وجهه بين أظهركم؟ قال : فقيل نعم. فقال : واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، أو لأعفرن وجهه فى التراب، قال : فأتى رسول الله وهو يصلى، زعم ليطأ على رقبته، قال : فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقى بيديه، قال : فقيل له : مالك؟ فقال: إن بينى وبينه لخندقاً من نار وهولا، وأجنحة، فقال رسول الله : "لو دنا لاختطفته الملائكة عضواً عضواً" قال : فأنزل الله عز وجل – لا ندرى فى حديث أبى هريرة أو شئ بلغه - كلا إن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى… الآيات( )0
2- وفى رواية عن أبى عباس رضى الله عنهما قال فى قوله تعالى : سندع الزبانية قال : قال : أبو جهل : لئن رأيت محمداً يصلى، لأطأن عنقه، فقال النبى "لو فعل لأخذته الملائكة عياناً"( ) لقد ظن أبو جهل فرعون هذه الأمة أنه يستطيع أن ينال من رسول الله ، بل ظن أنه يستطيع أن يقتله، لكنه ما إن اقترب من رسول الله إلا سلط الله عليه ما أخافه كل الخوف، وأفزعه كل الفزع، مما جعله يعود خاسئاً، يجرى إلى الخلف صاغراً، وهكذا يعصم الله عز وجل رسوله ، ويهين أعداءه( )0
قال الحافظ ابن حجر : "وإنما شدد الأمر فى أبى جهل، ولم يقع مثل ذلك لعقبة بن أبى معيط، حيث طرح سلى الجزور على ظهره وهو يصلى"( ) لأنهما وإن اشتركا فى مطلق الأذية حالة صلاته، لكن زاد أبو جهل بالتهديد، وبإرادة وطء العنق الشريف، وفى ذلك من المبالغة ما اقتضى تعجيل العقوبة لو فعل ذلك، ولأن سلى الجزور لم يتحقق نجاستها، وقد عوقب عقبه بدعائه عليه وعلى من شاركه فى فعله فقتلوا يوم بدر"( )0
3- ما نزل فى قوله تعالى : تبت يدا أبى لهب وتب( ) فعن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما قال : لما نزلت : تبت يدا أبى لهب جاءت امرأة أبى لهب( ) ورسول الله جالس، ومعه أبو بكر، فقال له أبو بكر : لو تنحيت لا تؤذيك بشئ( ) فقال رسول الله : "إنه سيحال بينى وبينها" فأقبلت حتى وقفت على أبى بكر، فقالت : يا أبا بكر، هجانا صاحبك. فقال أبو بكر : لا، ورب هذه البنية ما نطق بالشعر، ولا يتفوه به، فقالت : إنك لمصدق، فلما ولت، قال أبو بكر رضى الله عنه : ما رأتك؟ قال : "لا، مازال ملك يسترنى حتى ولت"( )0
4- وروى عنه أيضاً قال : "إن الملأ من قريش اجتمعوا فى الحجر فتعاقدوا باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ونائلة وإساف، لو قد رأينا محمداً لقمنا إليه قيام رجل واحد، فلم نفارقه حتى نقتله، فأقبلت ابنته فاطمة( ) تبكى، حتى دخلت على النبى فقالت : هؤلاء الملأ من قومك قد تعاقدوا عليك، لو قد رأوك لقاموا إليك فقتلوك، فليس منهم رجل إلا قد عرف نصيبه من ديتك، فقال : يا بنيه ائتنى بوضوئى، فتوضأ، ثم دخل المسجد، فلما رأوه قالوا : هاهو ذا، وخفضوا أبصارهم، وسقطت أذقانهم فى صدورهم، وعقروا فى مجالسهم، ولم يرفعوا إليه أبصارهم، ولم يقم إليه منهم رجل، فأقبل رسول الله حتى قام على رؤوسهم، فأخذ حفنة من تراب، فقال : شاهت الوجوه، ثم حصبهم، فما أصاب رجلاً منهم من ذلك الحصى حصاة إلا قتل يوم بدر"( )0
5- وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال : فى قوله تعالى : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين( ) قال : "تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم : إذا أصبح فاثبتوه بالوثاق – يريدون النبى - وقال بعضهم : بل اقتلوه. وقال بعضهم : بل اخرجوه. فأطلع الله نبيه على ذلك، فبات على بن أبى طالب رضى الله عنه على فراش رسول الله تلك الليلة، وخرج رسول الله حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليَّاً يحسبونه النبى : فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوا علياًّ رد الله تعالى مكرهم، فقالوا : أين صاحبك هذا؟ قال : لا أدرى. فاقتفوا أثره، فلما بلغوا الجبل خلط عليهم، فصعدوا فى الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا : لو دخل ها هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال"( )0
فتأمل ما فى الروايات السابقة من عصمة المولى عز وجل لرسوله من محاولات قتله التى همَّ بها كفار قريش، فرادى تارة، وجماعات تارة أخرى، والتى كان آخرها جماعة فى مكة، ليلة هجرته إلى المدينة المنورة، حيث رد كيدهم إلى نحورهم، وعادوا إلى ديارهم، كحالهم فى كل مرة يجرون أذيال خزى الله عز وجل لهم0
6- هذا ولم تكن عصمة المولى عز وجل لرسوله فى ليلة الهجرة قاصرة على نجاته من بين أيدى صناديد الكفر فى مكة، وإنما امتدت عنايته عز وجل ورعايته لرسوله ، وهو فى طريقه إلى المدينة، وفى غار ثور، كما جاء فى الحديث السابق، من نسج العنكبوت على باب الغار، فكان قولهم : "لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه"0
ولم تكن عصمة الله عز وجل لرسوله فى غار ثور، قاصرة على العنكبوت، وإنما امتدت إلى الشجرة التى أنبتها الله عز وجل على فهم الغار، تستر رسول الله ، وصاحبه رضى الله عنه، وإلى حمامتين وحشيتين وقفتا على فم الغار0
فعن أبى مصعب المكى( ) قال : أدركت أنس بن مالك، وزيد بن أرقم، والمغيرة بن شعبة، رضى الله عنهم، فسمعتهم يحدثون : أن النبى ليلة الغار أمر الله سبحانه، شجرة فنبتت على وجه الغار فسترته، وأمر حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار، وأقبل فتيان قريش من كل بطن رجل، بعصيَّهم وحرْباتهم وسيوفهم، حتى إذا كانوا من النبى ، قدر أربعين ذراعاً جعل بعضهم ينظر فى الغار، فقال : رأيت حمامتين بفم الغار، فعرفت أنه ليس فيه أحد، فسمع النبى ما قال؛ فعرف أن الله عز وجل قد درأ بهما، فدعا لهن وسمَتَ( ) عليهن، وفرض جزاءَهن، ونزلن بالحرم"( )0
وهذا الحديث على غرابة سنده، فلا غرابة فى متنه، وما فيه قليل فى كرامته ، وجائز فى العقل، مؤيد بمطلق قوله تعالى : إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثانى اثنين إذ هما فى الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هى العليا والله عزيز حكيم( ) فتأمل ما فى الآية الكريمة من نسبة نصر رسول الله إلى الله عز وجل، وتأييده بجنود لا يراها أحد، تجد أنه لا يوجد ما يمنع أن يكون ما ورد فى الحديث الغريب السند من الحمامتين الوحشيتين، والشجرة، والعنكبوت من جنود الله تعالى!!
7- وامتدت عصمة الله عز وجل لنبيه فى غار ثور إلى أمره عز وجل ملائكته أن تستر نبيه وصاحبه عن أعين المشركين، فكان وصحابه يريان المشركين، والمشركون لا يرونهما0
فعن أبى بكر رضى الله عنه قال : "كنت مع النبى فى الغار، فرأيت آثار المشركين، قلت يا رسول الله، لو أن أحدهم رفع قدمه رآنا، قال : "ما ظنك باثنين الله ثالثهما"( ) "لا تحزن إن الله معنا"( ) وهذا اليقين من النبى بعصمة الله عز وجل له، تجلى فى ملائكة الله عز وجل التى سترتهم وهم فى الغار0
فعن أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنها( ) : "وطافوا فى جبال مكة حتى انتهوا إلى الجبل الذى فيه رسول الله ، فقال أبو بكر : يا رسول الله إن هذا الرجل يرانا – وكان مواجهة– فقال : كلا! إن ملائكة تسترنا بأجنحتها، فجلس ذلك الرجل يبول مواجهة الغار، فقال النبى : "لو كان يرانا ما فعل هذا"( )0
8- وتمتد عناية الله عز وجل وعصمته لنبيه من محاولة سراقة بن مالك( )النيل من رسول الله ، بالقتل أو الأسر للحصول على الدية التى رصدها كفار قريش (مائة ناقة لمن يأتى برسول الله " قتيلاً أو أسيراً وكما جاء على لسان سراقة بعد أن تتبع أثرهم قال : "حتى إذا دنوت منهم، (أى اقترب من رَكْبِه ) فعثرت بى فرسى، فخررت عنها، فقمت فأهويت يدى إلى كنانتى فاستخرجت منها الأزلام( ) فاستقسمت بها : أضرهم أم لا؟ فخرج الذى أكره، فركبت فرسى – وعصيت الأزلام – تقربِّ بى، حتى إذا سمعت قراءة رسول الله ( ) وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات، ساخت يدا فرسى فى الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها، فنهضت فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عثان( ) ساطع فى السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذى أكره، فناديتهم بالأمان، فوقفوا فركبت فرسى حتى جئتهم، ووقع فى نفسى حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم، أن سيظهر أمر رسول الله ، فقلت له : إن قومك قد جعلوا فيك الدية. وأخبرتهم أخباراً ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآنى( ) ولم يسألانى إلا أن قال : أخف عنا. فسألته أن يكتب لى كتاب أمن( )، فأمر عامر بن فهيرة رضى الله عنه( ) فكتب فى رقعة من آدم( ) ثم مضى رسول الله "( )0
فتأمل كيف عصم رب العزة رسوله من محاولة سراقة قتله أو أسره، ليفوز بالدية التى رصدت من كفار قريش، إذ ما اقترب من ركب رسول الله حتى عثرت به فرسه، مرة تلو الأخرى بعد إصراره على تتبع ركبه ، حتى إذا ما سمع دعاءه بأن يصرعه، أو يكفيه إياه بما شاء، إلا وتتعثر به فرسه للمرة الثالثة، حتى أن يدا فرسه فى هذه المرة غاصت فى الأرض حتى بلغتا الركبتين، وبعد محاولات منه لاستنهاضها، إذ به يرى على يديها أثر دخان من غير نار ساطع فى السماء،وهنا أيقن سراقة بأن رسول الله محفوظ، ومعصوم منه، كما أيقن فى نفس الوقت، أنه نبى الله حقاً، وأن دينه سيظهر، فما كان منه إلا أن سأل رسول الله أن يكتب له كتاب أمان، فأعطاه إياه، ولم يسأله رسول الله سوى أن يقف فى مكانه، ولا يترك أحداً يلحق برَكْبِهِ ، ففعل سراقة، وهنا تتجلى إرادة المولى عز وجل ومشيئته فى عصمة رسول الله بتغير حال سراقة "إذ كان فى أول النهار جاهداً على رسول الله ، وكان آخر النهار مسلحة له"( ) أى حارساً له بسلاحه، بل وبلسانه أيضاً كما جاء فى رواية ابن سعد : "أنه لما رجع، قال لقريش : قد عرفتم بصرى بالطريق وبالأثر، وقد استبرأت لكم، فلم أر شيئاً، فرجعوا"( ) وقال أيضاً رضى الله عنه رداً على أبى جهل لما بلغه موقفه هذا، ولامه فى تركهم أنشده :
أبا حكم والله لو كنت شاهـداً *** لأمـر جوادى إذ تسيخ قوائمه
عجبت ولم تشكك بأن محمداً *** نبـى وبرهان فمن ذا يقاومه؟!
عليك بكف الناس عنه فإننى *** أرى أمره يوماً ستبدو معالمه( )0
وبعد : فهل فى كل ما سبق من دلائل حفظ الله عز وجل وعصمته لرسوله من محاولات كفار قريش قتله، شك فى عصمته من القتل فى فترة مكة، حتى على فرض مدنية الآية الكريمة : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس( )؟!!0
إن خصوصية عصمة النبى فى بدنه الشريف من القتل، دلت عليها نصوص القرآن الكريم والسنة فى مكة على ما سبق، وفى المدينة أيضاً0
وإليك نماذج من كفاية الله عز وجل وعصمته لرسوله من مؤامرات أعدائه لقتله أو النيل منه، فى المدينة المنورة :
1- ما حدث بعد غزوة بدر الكبرى من محاولة عمير بن وهب( ) قتل النبى ، وكتمه ذلك سراً بينه وبين صفوان بن أمية( ) على أن يؤدى عنه صفوان دينه، ويعوله فى أهله وعياله، ولا ينقسهم شيئاً ما بقوا، فلما قدم عمير المدينة، ودخل على رسول الله وكان ابنه "وهب" وقع أسيراً يوم بدر، فلما رآه رسول الله وعمر آخذ بحمالة سيفه فى عنقه قال : أرسله يا عمر، أدن يا عمير، فدنا، ثم قال : انعموا صباحاً – وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم – فقال رسول الله : "قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير بالسلام تحية أهل الجنة" فقال : أما والله يا محمد إن كنت بها لحديث عهد، قال : "فما جاء بك يا عمير؟ قال : جئت لهذا الأسير الذى فى أيديكم فأحسنوا فيه، قال : "فما بال السيف فى عنقك" قال : قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئاً؟ قال : "أصدقنى ما الذى جئت له؟" قال : ما جئت إلا لذلك، قال: "بلى قعدت أنت وصفوان بن أمية فى الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت : لولا دين على، وعيال عندى، لخرجت حتى أقتل محمداً : فتحمل لك صفوان بن أمية، بدينك، وعيالك، على أن تقتلنى له، والله حائل بينك وبين ذلك" قال عمير : أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحى، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إنى لأعلم أن ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذى هدانى للإسلام، وساقنى هذا المساق، ثم شهد شهادة الحق، فقال رسول الله : "فقهوا أخاكم فى دينه، وأقرئوه القرآن، وأطلقوا له أسيره" ففعلوا"( )0
فتدبر ما فى القصة السابقة، من يقين رسول الله بعصمته من القتل، بعد أن أخبر عمير بما كان بينه وبين صفران من اتفاق على قتله، وإعلامه بأن الله عز وجل حائل بينه، وبين ما جاء من أجله0
2- وعن جابر بن عبدالله رضى الله عنه أن رجلاً من محارب يقال له غورث بن الحارث قال لقومه: اقتل لكم محمداً، فقالوا: كيف تقتله؟ قال: أفتك به، فأقبل إلى رسول الله وهو جالس، وسيفه فى حجره، فقال: يا محمد انظر إلى سيفك هذا، قال: نعم، فأخذه واستله وجعل يهزه ويهم، فيكبته الله، فقال: يا محمد أما تخافنى؟ قال: لا، وما أخاف منك؟ قال: أما تخافنى، وفى يدى السيف؟ قال: لا، يمنعنى الله منك، ثم أغمد السيف، ورده إلى رسول الله، فأنزل الله عز وجل يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم( )0
3- وقيل فى سبب نزول هذه الآية، ما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: إن عمرو بن أمية الضمرى( ) حين انصرف من بئر معونة( ) لقى رجلين كلابيين معهما أمان من رسول الله، فقتلهما ولم يعلم أن معهما أماناً من النبى، ففداهما رسول الله ومضى إلى بنى النضير، ومعه أبو بكر وعمر وعلى، فتلقوه بنو النضير فقالوا: مرحباً يا أبا القاسم؛ ماذا جئت له؟ قال: رجل من أصحابى قتل رجلين من كلاب معهما أمان منى، طلب منى ديتهما، فأريد أن تعينونى، قالوا: نعم والحب لك والكرامة يا أبا القاسم، اقعد حتى نجمع لك، فقعد رسول الله تحت الحصن، وأبو بكر عن يمينه، وعمر عن يساره، وعلى بين يديه، وقد توامر بنو النضير أن يطرحوا عليه حجراً( )، وقال بعض أهل العلم: بل ألقوه، فأخذه جبرئيل عليه السلام، وأخبر النبى بما توامر الفسقة، وما هموا به، فقام رسول الله واتبعه أبو بكر وعمر وعلى رضى الله عنهم، فأنزل الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم( )، وفى رواية عن عروة بن الزبير زاد: "وأمر رسول الله بإجلائهم، لما أرادوا برسول الله، فلما أخذهم بأمر الله وأمرهم أن يخرجوا من ديارهم، فيسيروا حيث شاؤوا، قالوا: أين تخرجنا، قال : إلى الحشر"( )0
فتأمل ما فى حديث جابر من عصمة المولى عز وجل لنبيه من الإعراب حيث أغمد السيف ورده هو بنفسه إلى رسول الله بعد أن أخذ يراجع رسول الله فى قتله، فما الذى أحوجه إلى مراجعته مع احتياجه إلى الحظوة عند قومه بقتله؟!
إن مراجعة الأعرابى لرسول الله فى الكلام، دليل على أن الله عز وجل منعه، بدليل ما ورد فى الحديث من تلويحه بالسيف، فيكبته الله0
وفى جوابه "يمنعنى الله منك" إشارة إلى ذلك، ولذلك لما أعاد الأعرابى كلامه، لم يزده على ذلك الجواب، وفى ذلك غاية التهكم، وعدم المبالاة به، وفى ذلك دليل على قوة صبره وشجاعته، ويقينه بعصمة المولى عز وجل له0
وفى حديث ابن عباس بيان لعصمة رسول الله من محاولة يهود بنو النضير قتله، كما فعل أسلافهم مع أنبيائهم سابقاً، ولكن عصمة رب العزة، سواء بتلقى جبريل الحجر قبل أن يقع عليه، أو بإخباره بمؤامرتهم، وبما هموا به، وقيامه قبل أن يلقوا الحجر0 ففى تلك القصة تأكيد لخصوصية عصمته فى بدنه الشريف من القتل، كما قال عز وجل: وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقاً لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين( ) فقوله "من قبل" بيان لخصوصية عصمته فى بدنه من القتل لأن اليهود وإن وقع منهم قبله قتل أنبياءهم بإذن الله تعالى، إلا أنهم مع رسول الله، لم ولن يفلحوا فى قتله مهما حاولوا، بدليل الآية الكريمة، وهو ما أكدته السنة المطهرة كما فى هذه القصة، وكما فى الحديث التالى0
4- عن أنس بن مالك رضى الله عنه أن امرأة يهودية( ) أتت رسول الله بشاه مسمومة، فأكل منها0 فجئ بها إلى رسول الله فسألها عن ذلك؟ فقالت: أردت لأقتلك0 قال: "ما كان الله عزوجل ليسلطك على ذاك" قال: أو قال: "علىَّ" قال قالوا ألا نقتلها؟ قال: لا( )، قال: فما زلت أعرفها فى لهوات( ) رسول الله( )0
ففى قوله "ما كان الله ليسلطك على ذاك أو قال: علىَّ" فيه بيان عصمته من الناس كلهم، كما قال الله تعالى: والله يعصمك من الناس( ) وهى معجزة لرسول الله فى سلامته من السم المهلك لغيره، وفى إعلام الله تعالى له بأنها مسمومة، وكلام الشاة له، فقد جاء فى غير مسلم، أنه قال: "ارفعوا أيديكم فإنها أخبرتنى أنها مسمومة"( )0
5- وعن سلمة بن الأكوع رضى الله عنه( ) أنه كان مع رسول الله إذ جاءه رجل بفرس له يقودها عقوق( ) ومعها مهرة لها يتبعها فقال: من أنت؟ فقال: "أنا نبى" قال: ما نبى؟ قال "رسول الله" قال: متى تقوم الساعة؟ فقال رسول الله: "غيب، ولا يعلم الغيب إلا الله" قال: أرنى سيفك، فأعطاه النبى سيفه، فهزه الرجل ثم رده عليه، فقال رسول الله "أما أنك لم تكن تستطيع الذى أردت"( ) زاد الطبرانى فى روايته، ثم قال رسول الله: "إن هذا أقبل، فقال آتية فاسأله، ثم أخذ السيف، فأقتله، ثم أغمد السيف"( )0
فتأمل يقين رسول الله بعصمته من القتل، إذ أخبره ربه عز وجل بحال الرجل القادم عليه، وأنه سيسأل رؤية سيفه ليقتله به، ومع ذلك عندما يأتى الرجل يعطيه النبى السيف عندما سأله، ويهز الرجل السيف محاولاً قتل رسول الله، ولكن يكبته الله ويمنعه، فلا يملك إلا رد السيف إلى رسول الله ويخبره بما كان فى نفسه من نية قتله، وأنه لم يكن يستطيع ذلك، لعصمة الله له0
6- وعن جعدة بن خالد بن الصَّمة رضى الله عنه( ) قال: شهدت النبى وأتى برجل، فقيل يا رسول الله، هذا أراد أن يقتلك، فقال له النبى : لم تراع، لم تراع( ) لو أردت ذلك لم يسلطك الله على قتلى"( )0
7- وعن فضالة بن عمير الليثى رضى الله عنه( ) قال: أردت قتل النبى، وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما دنوت منه، قال رسول الله "أفضالة"؟ قلت: نعم! فضالة يا رسول الله، قال: ماذا كنت تحدث به نفسك؟ قلت: لا شئ، كنت أذكر الله عز وجل، فضحك النبى ثم قال: "استغفر الله" ثم وضع يده على صدرى، فسكن قلبى، فوالله ما رفع يده عن صدرى حتى ما من خلق الله شئ أحب إلىَّ منه"( ) نعم: هكذا النبوة يقين بعصمة الله تعالى وحفظه، وعلم بالغيب، ورحمة وسكن، وهداية للعصاة0
8- وعن حذيفة بن اليمان رضى الله عنه( ) قال: كنت آخذاً بخطام ناقة رسول الله أقود به، وعمار( ) يسوقه، أو أنا أسوقه، وعمار يقوده، حتى إذا كنا بالعقبة( )، فإذا أنا باثنى عشر راكباً، قد اعترضوه فيها، قال : فأنبهت رسول الله بهم، فصرخ بهم فولوا مدبرين، فقال لنا رسول الله ، هل عرفتم القوم؟ قلنا : لا، يا رسول الله، كانوا متلثمين، ولكنا قد عرفنا الركاب، قال : هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة، وهل تدرون ما أرادوا؟ قلنا : لا، قال : أرادوا أن يزحموا رسول الله فى العقبة، فليقوه منها. قلنا : يا رسول الله أولا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم؟ قال : لا، أكره أن تحدث العرب بينها : أن محمداً قاتل بقوم، حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم، ثم قال : اللهم ارمهم بالدبيلة( ). قلنا : يا رسول الله! وما الدبيلة؟ قال : شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك"( )0
وللحديث شاهد صحيح أخرجه أحمد فى مسنده عن أبى الطفيل رضى الله عنه( )0
وأصل هذه القصة أخرجها الإمام مسلم فى صحيحه مختصرة عن حذيفة رضى الله عنه عن النبى قال : "فى أمتى اثنا عشر منافقاً، لا يدخلون الجنة، ولا يجدون ريحها، حتى يلج الجمل فى سم الخياط، ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة. سراج من النار يظهر فى أكتافهم حتى ينجم من صدورهم"( ) وكان حذيفة رضى الله عنه على علم بأسمائهم من رسول الله دون غيره من الصحابة( )، ولما سئل رضى الله عنه : "كيف عرفت المنافقين، ولم يعرفهم أحد من أصحاب رسول الله أبو بكر ولا عمر؟ قال : إنى كنت أسير خلف رسول الله ، فنام على راحلته، فسمعت ناساً منهم يقولون : لو طرحناه عن راحلته، فاندقت عنقه فاسترحنا منه، فسرت بينه وبينهم، وجعلت أقرأ وأرفع صوتى، فانتبه النبى ، فقال : من هذا؟ فقلت حذيفة، قال : من هؤلاء خلفك؟ قلت : فلان وفلان حتى عددت أسماءهم، قال : وسمعت ما قالوا؟ قلت : نعم، ولذلك سرت بينك وبينهم، فقال : إن هؤلاء فلاناً وفلاناً، حتى عدد أسماءهم، منافقون، لا تخبرن أحداً"( )، وفيهم أنزل قوله تعالى : يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا( )0
إن فى تلك الآية الكريمة يمتن رب العزة على نبيه ومصطفاه بعصمته من مؤامرة نفراً من المنافقين هموا بقتله ، وهو عائد من تبوك فى طريقه إلى المدينة، بطرحه من فوق عقبة فى الطريق، وقد جمعهم رسول الله وهم اثنا عشر منافقاً، وأخبرهم بقولهم، وبما هموا به من قتله، ولكنهم حلفوا بالله ما قالوا، وتركهم رسول الله وتجاوز عنهم، حتى لا يقال إن محمداً يقتل أصحابه، بعد أن أظهره الله عز وجل على أعداءه، ولكن مع ذلك لحقتهم لعنة الله فى الدنيا، وموتهم شر ميتة بالدبيلة، وفى الآخرة لهم عذاب جهنم، جزاء نفاقهم وما همو به من قتله ، ولم ينالوا ذلك لعصمة رب العزة له 0
وبعد : فما ذكر من هذه النماذج الصحيحة فى عصمته من القتل، غنىٌ عن غيره مما لم يذكر من الصحيح، أو ورد ضعيفاً0
وإذا تقرر هنا فى هذا الفصل تفصيل دلائل عصمته فى عقله وبدنه من خلال القرآن الكريم، والسنة المطهرة، والسيرة العطرة، فقد حان الآن بيان شبهات الطاعنين فى سلامة عقله وبدنه والرد عليها، فإلى تفصيل ذلك فى الفصل التالى0
====
المبحث الثانى
شبهاتهم من السنة النبوية على عدم عصمة النبى
فى عقله وبدنه والرد عليها
ويشتمل على تمهيد وخمسة مطالب :
المطلب الأول : شبهة الطاعنين فى حديث "شق صدره " والرد عليها0
المطلب الثانى : شبهة الطاعنين فى حديث "فترة الوحى" والرد عليها0
المطلب الثالث : شبهة الطاعنين فى حديث "نحن أحق بالشك من إبراهيم" والرد عليها0
المطلب الرابع : شبهة الطاعنين فى حديث "سحر رسول الله " والرد عليها0
المطلب الخامس : شبهة الطاعنين فى حديث "أَهَجَرَ" والرد عليها0
تمهيـــد
بعد أن تحايل أعداء الإسلام، وأعداء السنة والسيرة العطرة، على بعض آيات من القرآن الكريم، ليحوروا معانيها، ويستدلوا بهذا التحوير على عدم عصمة سيدنا رسول الله فى قلبه، وعقيدته، وخلقه، تجدهم هنا باسم السنة ونصوصها يستشهدون بها أيضاً على إنكار حجتها، وإنكار مصدريتها التشريعية، فى تحديد شخصية وسيرة رسول الله ، بزعم أن فيها أحاديث صحيحة يفيد ظاهرها – فى نظرهم – عدم عصمته ويشوه سيرته، وهذا رأى الشيعة ممن تغالوا فى فهم العصمة0
وفريق آخر يشترك مع سابقه فى إنكار حجية السنة، وإنكار مصدريتها التشريعية فى فهم سيرة رسول الله ، إلا أنه فى نفس الوقت يستشهد من ظاهر نصوص السنة والسيرة ما يفيده فى زعمه ودعواه بعدم عصمته فى قلبه وعقيدته0
وهكذا عكس المشاغبون القضية، ونظروا فى السنة المطهرة والسيرة العطرة فما وافق دعواهم منها قبلوه، واعترضوا به على منازعيهم، واحتجوا به مع وضعه أو ضعف دلالته على ما يزعمون0
وهذا العمل مع جهالته، أخطر منطق عكسى فى التدليل على فساد الشئ بمادته، نصاً وأسلوباً0
لأنه إذا كان من الخطأ والخطر قبول الأحاديث الباطلة والموضوعة، وعزوها إلى رسول الله ، فمثله فى البطلان رد الأحاديث الصحيحة الثابتة، بالهوى، والعجب، والتعالم على الله ورسوله، وسوء الظن بالأمة، وعلمائها، وأئمتها، فى أفضل أجيالها وخير قرونها0
إن قبول الأحاديث المكذوبة يدخل فى الدين، وفى سيرة رسول الله ما ليس منها0
أما رد الأحاديث الصحيحة، فيخرج من الدين، ومن سيرة النبى ما هو منها. ولا ريب أن كليهما مرفوض مذموم، قبول الباطل، ورد الحق0
ولأعداء الإسلام، والسنة المطهرة، والسيرة العطرة، شبهات على عدم عصمة رسول الله فى قلبه وعقيدته، بنوها على أحاديث مكذوبة، وضعيفة، وأخرى صحيحة مع ضعف دلالتها على ما احتجوا به0
وسوف أذكر تلك الشبهات مع الرد عليها فى المطالب التالية، فإلى بيان ذلك، سائلاً المولى عز وجل التوفيق والسداد0
المطلب الأول
شبهة الطاعنين فى حديث "شق صدره "
والرد عليها
يذهب أعداء الإسلام من المستشرقين، وأذيالهم من أعداء السنة المطهرة إلى إنكار الشق الحسى لصدر رسول الله ( ) فبعض المستشرقين مثل "نيكولوسون" يرجعه إلى حالة عصبية كانت تنتابه فى فترات متقطعة( ) بينما تجد "موير" يوافقه ويزيد عليه أنها لم تؤثر فى شخصيته، معللاً ذلك بحسن تكوينه وسلامة أعضائه، ونجد أن "شبرنجر" يؤيدهما أيضاً ويتلمس مخرجاً لظهور هذه الحالة عنده، فيعللها بأنها موروثة له عن أمه بسبب الرؤيا التى كانت تراه أثناء حمله… وما هى إلى من قبيل الخرافات( ) وهو يقصد أن أمه آمنة كانت مصابة بداء الصرع، يدلنا على وجوده عندها تلك الرؤيا المتكررة لها أثناء حملها له، وليس لها نصيب من الحق، وقد ورث هذا الصرع منها0
أما "درمنغم" فإنه يعزو شرح الصدر إلى أمر معنوى يشير إلى مغزى فلسفى نبهت إليه سورة "الشرح" فيقول : "إنها نشأت من قول الله تعالى ألم نشرح لك صدرك( ) وأن هذه العملية أمر باطنى قام على تطهير ذلك القلب وتوسيعه ليتلقى رسالة الله عن حسن نية، ويبلغها بإخلاص تام، ويحتمل عبئها الثقيل، وأن أسطورة شق الصدر ذات مغزى فلسفى لما تشير إليه تلك الدرنة السوداء من الخطيئة الأولى التى لم يعف منها غير مريم وعيسى، ولما يدل عليه تطهير القلب من معنى الورع الصوفى"( )0
وقد تأثر بهذا الفكر الاستشراقى أعداء السنة المطهرة والسيرة العطرة من القرآنيين، والرافضة0
يقول محمود أبو ريه( ) مصرحاً بهذا التأثير قائلاً : "من شاء أن يستزيد من معرفة الإسرائيليات، والمسيحيات وغيرها فى الدين الإسلامى، فليرجع إلى كتب التفسير والحديث والتاريخ، وإلى كتب المستشرقين أمثال جلدتسيهر" وفون كريمر وغيرهما، فقد نقلت فيهما من هذه الإسرائيليات والمسيحيات أشياء كثيرة"( )0
ويقول طاعناً فى حديث شق الصدر قائلاً : "إن حديث شق الصدر يأتى مؤيداً لحديث البخارى : "ما من بنى آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان، غير مريم وابنها، ثم يقول أبو هريرة : واقرءوا إن شئتم وإنى أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم( )0
ويقول : "وبذلك لم يسلم من طعن الشيطان أحد غيرهما من بنى آدم أجمعين، حتى الرسل: نوح وإبراهيم وموسى وغيرهم، وخاتمهم محمد فانظر واعجب! ولم يقفوا عند ذلك بل كان من رواياتهم أن النبى لم ينج من نخسة الشيطان إلا بعد أن نقذت الطعنة إلى قلبه، وكان ذلك بعملية جراحية تولتها الملائكة بآلات جراحية مصنوعة من الذهب! ونصت هذه الروايات أن صدره صلوات الله عليه قد شق وأخرجت منه العلقة السوداء! وحظ الشيطان كما يقولون، وكأن هذه العملية لم تنجح فأعيد شق صدره… وإن هذه العملية الجراحية لتشبه من بعض الوجوه عملية صلب السيد المسيح عليه السلام، وإنما ذكروا ذلك لكى يغفر الله خطيئة آدم التى احتملها هو وذريته من بعده إلى يوم القيامة، وأصبحت فى أعناقهم جميعاً، وتنص العقيدة المسيحية أنه لا يظفر بهذا الغفران إلا من يؤمن بعقيدة الصلب0
ولئن قال المسلمون لإخوانهم المسيحيين : ولم لا يغفر الله لآدم خطيئته بغير هذه الوسيلة القاسية التى أزهقت فيها روح طاهرة بريئة، هى روح عيسى عليه السلام بغير ذنب؟ قيل لهم : ولم لم يخلق الله قلب رسوله الذى اصطفاه كما خلق قلوب إخوانه من الأنبياء والمرسلين – نقياً من العلقة السوداء، وحظ الشيطان بغير هذه العملية الجراحية التى تمزق فيها صدره وقلبه مراراً عديدة!" ( ) ومما يؤسف له تأثر بعض كتاب المسلمين بهذا الفكر الاستشراقى ومنهم الدكتور محمد حسين هيكل( ) حيث يقول فى كتابه حياة محمد : "لا يطمئن المستشرقون، ولا يطمئن جماعة من المسلمين كذلك إلى قصة الملكين هذه، ويرونها ضعيفة السند، فالذى رأى الرجلين فى رواية كُتَّاب السيرة إنما هو طفل لا يزيد على سنتين إلا قليلاً، وكذلك كانت سن محمد يومئذ"( )0
ويجاب عن الشبهات السابقة بما يلى :
أولاً : رواية شق صدر رسول الله ثابتة صحيحة رويت فى مصادر عدة بطرق صحيحة لا يسع العقل المدرك إنكارها0
ثانياً : المستشرقون ومن تابعهم فى إنكارهم لشق الصدر لا يستندون إلى علم أو منطق سليم. وإليك التفصيل0
أما مستند إنكار "موير" و"نيكولسون" و"شبرنجر" فيكمن فى : أن ما حدث لرسول الله إنما كان ضرباً من نوبات الصرع التى كانت تتعاوده بين الحين والحين، وهو ما زعموه أيضاً فى حالات نزول الوحى عليه( ) بهدف إنكار نبوته! لكن المتأمل فى معجزة شق الصدر يجد أن هناك بوناً شاسعاً بينه وبين الصرع، فإن نوبة الصرع لا تذر عند من تصيبه أى ذكر لما مر به أثناءها، بل هو ينسى هذه الفترة من حياته بعد إفاقته من نوبته نسياناً تاماً، ولا يذكر شيئاً مما صنع أو حل به خلالها، ذلك أن حركة الشعور والتفكير تتعطل فيه تمام التعطيل0
هذه أعراض الصرع كما يثبتها العلم، ولم يكن ذلك ليصيب رسول الله ، بل كانت تنتبه حواسه المدركة فى تلك الأثناء تنبهاً لا عهد للناس به، وكان يذكر كل ما يطرأ عليه بدقة فائقة، بدليل قوله لما سئل عن كيفية إتيانه الوحى قال : أحياناً يأتينى مثل صلصلة الجرس، وهو أشده على، فيفصم عنى، وقد وعيت عنه ما قال…"( )0
هذا بالإضافة إلى أن قصة شق صدره الشريف تحدث به الأطفال الذين كانوا فى صحبته إبان حدوثها، ومن البعيد، بل ومن المستحيل أن يتفق الأطفال على اختراع حادثة لا أساس لها، وذلك لطهرهم وصفاء سريرتهم ونقائها على أن رسول الله تحدث بها أيضاً بعد الرسالة على ما جاء فى رواية مسلم عن أنس بن مالك، وتصريحه بأنه كان يرى أثر المخيط فى صدره !0
وكذلك جاء التصريح بقصة شق الصدر صريحاً على لسان رسول الله على ما جاء فى رواية عبد الله بن أحمد عن أبى هريرة رضى الله عنه، وكذلك جاء التصريح بالشق ليلة الإسراء والمعراج على ما جاء فى الصحيحين عن أبى ذر رضى الله عنه0
أما ما زعمه "موير" من عدم تأثير النوبة فيه لحسن تكوينه فإنه دس خبيث، وطعن مردود، مؤداه إنكار شق صدره لإنكار نبوته، متذرعاً بما هو مقرر عند المسلمين من كمال هيئته وحسن تكوينه ، وليس فى الروايات ما يساعد على زعمه وافتراءاته0
إذ كيف يجتمع حسن التكوين، وحدوث الصرع؟ إنها قضية من المضحكات المبكيات على عقله الكليل المتناقض!0
وأما ما زعمه "شبرنجر" من أن رسول الله كانت له حالات عصبية تنتابه، وأنه ورثها عن أمه بسبب الرؤيا التى كانت تراها أثناء حمله، وما هى إلا من قبيل الخرافات! يكذبه ما سبق من أن أعراض الصرع ما كان ليصيب رسول الله منها شئ0
وحمله سبب الصرع، على رؤيا آمنة يكذبه أيضاً ما ثبت فى الصحيح من تأكيده لرؤيا أمه، فى قوله : "إنى عبد الله وخاتم النبيين وأبى منجدل فى طينته، وسأخبركم عن ذلك، أنا دعوة أبى إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمى آمنة التى رأت، وكذلك أمهات المؤمنين يرين…"( )0
وإذا كان "شبرنجر" يعتبر رؤيا أم رسول الله ، من قبيل الخرافات، فهل يعتبر أيضاً رؤيا أم موسى من قبيل الخرافات؟ والواردة فى قوله تعالى : وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه فى اليم ولا تخافى ولا تحزنى إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين( )0
إن أم رسول الله آمنة، كان من أعقل الناس، وأصحهم بدناً، ومن زعم خلاف ذلك من المستشرقين فعليه الدليل، ولا دليل! لأن الحق المؤيد بالأدلة القاطعة. أن أم رسول الله كانت مؤمنة بعصمة ابنها (محمد بن عبد الله ) من الشيطان، وأنه سيكون له شأن، وكان هذا بناءاً على أمارات تحدثت بها لحليمة السعدية عندما تخوفت على رسول الله لما بلغها قصة شق صدره الشريف مع الغلمان0
قالت لها : "أفتخوفت عليه الشيطان؟ قالت حليمة : قلت نعم، قالت آمنة : كلا! والله ما للشيطان عليه من سبيل( ) وإن لابنى شأناً! أفلا أخبرك خبره، قالت : قلت : بلى، قالت : رأيت حين حملت به أنه خرج منى نور أضاء لى به قصور بصرى من أرض الشام، ثم حملت به، فوالله ما رأيت من حمل قط كان أخف، ولا أيسر منه، ووقع حين ولدته، وإنه لواضع يديه بالأرض رافع رأسه إلى السماء، دعيه عنك، وانطلقى راشدة"( )0
أما ما ادعاه "درمنغم" من أن قصة شق الصدر لا تستند إلا إلى الآية الكريمة وأنه عمل روحى خالص، فإن الدليل ليس هو الآية فقط، وإنما الدليل على وقوع شق الصدر على جهة الحس، إنما هو الروايات المتواترة والمتكاثرة، التى ذخرت بها كتب السنة كما أسلفنا، وحسبك بمصدرها أحد الصحيحين (مسلم) فلا سبيل إلى التشكيك فى وقوع القصة بعدها، وخاصة أنها جاءت مؤكدة ومفسرة للآية الكريمة ألم نشرح لك صدرك( )0
وإن كانت دعوى المفكرين من المستشرقين، ومن لف لفهم من المسلمين، بأن حياة الرسول حياة إنسانية رفيعة، فلا معنى لمثل هذا الحادث بالنسبة له!! فإننا نقول لهم : إن الحياة الإنسانية الرفيعة لا تتعارض والمعجزات الحسية للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولماذا ينكر هذا على سيد ولد آدم، ولا ينكر على غيره ممن سبقه من الأنبياء ممن ظهرت على أيديهم خوارق العادات كموسى وعيسى عليهما السلام،ولم يقل أحد من أهل العلم إن ذلك كان مجافياً لحياتهما الإنسانية الرفيعة؟0
وقصة شق الصدر لا تخالف العقل أيضاً من جهة كونها تمت دون إراقة دم، والتأمت دون آلات طبية، فإن العلم الحديث يؤيد ذلك ويصدقه، فقد اخترعت آلات للجراحة تجعل الجرح يلتئم بدون سيلان دم من جسم المريض، كما وجد بعض الأودية تمنع سيلان الدم بمجرد بثها على الجرح، والطبيب لا يدعى أنه يفعل الأشياء الخارقة، وإنما يعتقد أن ذلك قد تم بعلم مدروس له قواعده وأصوله. كيف وقد تم زرع بعض الأجسام المنقولة من ميت أو صحيح إلى آخر مريض، ويزاول حياته الطبيعية بعد أن برأ وعافاه الله وزال عنه المرض؟ وإذا جاز ذلك فى حق البشر وهو من جملة ما خلق الله عز وجل، أيستبعد ذلك على الخالق جل جلاله؟0
أما ما ادعاه الدكتور هيكل وغيره : بأن قصة شق الصدر ضعيفة السند، ولم يقم عليها دليل قطعى من الكتاب أو السنة( ) أو أن هذه القصة مأخوذة عن أهل الجاهلية، ومفتعلة ومختلقة( )0
فهو نقد هزيل، لأنه نقد عام دون بيان الضعف من جهة السند، كيف وقد وردت قصة شق الصدر فى صحيح مسلم وغيره من كتب السنة كما بينا( ) حتى قال الحافظ فى الفتح عن شق الصدر ليلة الإسراء إنه تواترت الروايات به( )0
وهؤلاء الطاعنون بذلك أدخلوا أنفسهم فى ميدان هم ليسوا من فرسانه فحالفهم الخطأ، وخالفهم الصواب، لأن رواية قصة شق الصدر – كما عرفت آنفاً – رواها أئمة الحديث، وجهابذته العارفون بكل دقائقه، وما يتصل به من تمحيص المرويات، ودراسة أحوال رجالها، وما يتصل بذلك من قواعد علم الجرح والتعديل وغيرها. وأهل كل فن هم أعلم به من غيرهم! وقد ثبت صحة هذه القصة سنداً ومتناً، وأنها خالية من كل مطعن حسب قواعد علم الحديث وأصوله، مما يضطر العقل إلى قبولها والتسليم بها، وأحاديث شق الصدر رواها الخلف عن السلف فى كل الطبقات منذ حدوثها إلى الآن، وهذا هو المعول عليه فى قبول الحديث أو رده( ) وليس اتباع الهوى والغرض دون دليل أو برهان، وإذا ثبت ذلك فاعلم أنه لا يشذ عن الإقرار بحدوثها إلا كل مكابر يجافى الحق وأهله، وطرائق البحث الجاد المستقيم فى صادق الأخبار0
أما قول الدكتور هيكل : إن الذى رأى الرجلين فى رواية كتاب السيرة إنما هو طفل لا يزيد على سنتين إلا قليلاً، وكذلك كانت سن محمد يومئذ0
فهو ادعاء ينقصه الدليل، والأرجح والأصح عند العلماء أنها كانت بعد إتمامه الأربع من السنين، وهو سن أجاز علماء الحديث فيه صحة تحمل الطالب للحديث مادام مرتفعاً عن حال من لا يعقل فهماً للخطاب، ورداً للجواب ونحو ذلك طبقاً لمعايير خاصة حول الإدراك والتمييز والضبط تتفق مع ما هو ملاحظ فى واقع الأطفال من النباهة، وقوة الحافظة( )0
وإذا كان مقبولاً ممن سوى المصطفى فى مثل سنه، وهم بلا ريب فى أدنى درجات التعقل بالنسبة له، أفلا يجوز ذلك لمن لو وزن بأمته كلها لرجحها ؟0
وحتى لو كان سن رسول الله ومن معه من الغلمان ممن شهدوا قصة شق الصدر لا يزيد على سنتين إلا قليلاً كما يزعم الدكتور هيكل؛ أليس رسول الله صرح بالتحديث بها بعد البعثة؟! أليس فى هذا التصريح بعد البعثة دليل على أن ذلك وحى من الله عز وجل إليه بما حدث له فى صغره من عناية الله عز وجل به وعصمته؟!0
أليس فى التحديث بها بعد وحى الله عز وجل إليه دليل على صحة القصة ووجوب قبولها، حتى ولو كان رسول الله ومن شهدها فى الصغر دون سن التمييز؟!0
وأختم الرد على الدكتور هيكل ومن شايعه بما قاله فضيلة الشيخ محمد عرجون : قال : "ولا عبرة بعدم اطمئنان المستشرقين، وجماعة "العقلانيين" من الباحثين المعاصرين إلى القصة ووقوعها، فلو لم يكن فى رواياتها إلا رواية الشيخين البخارى ومسلم لكانت فى أعلى مرات الصحة من ناحية السند0
وأما غمز القصة بطفولية النبى ، واستعظام ما حدث به على سنه فى الرواية، فهذا من قبيل الإيهام المضلل، لأن تحديد السن لم تتفق عليه الروايات!0
على أننا نسأل عبيد الاستشراق والمستشرقين، ما قولكم فى رواية البخارى وهى صريحة فى أن القصة وقعت بعد النبوة ليلة الإسراء؟ والحديث معكم فى وقوع القصة لا فى زمانها ومكانها، لأن ذلك تحقيق تاريخى لا يضير البحث ألا تؤمنوا به، وكيف يستعظم تحدثه على سنه، والأمر كله من قبيل الإعجاز؟ على أن تحدثه كان وهو نبى رسول، إذ سئل من بعض أصحابه فأجاب بما جاء فى الرواية0
والذى يعنى البحث أن قصة شق الصدر حادث كونى، ومعجزة عجيبة وقعت لنبينا محمد ، وجاءتنا بها الروايات الصحيحة الثابتة، ولا يردها تشكيك مستشرق، ولا مستغرب، ولا متعوقل ولا متعالم"( )0
أما من حمل شرح الصدر على الأمور المعنوية من المستشرقين فظاهر من جحدهم وإنكارهم، أما من حمله على ذلك من المسلمين، فإن صاحب السيرة الهاشمية يقول رداً عليهم : "وما وقع من بعض جهلة العصر من إنكار ذلك وحمله على الأمر المعنوى، وإلزام قائله القول بقلب الحقائق، فهو جهل صريح، وخطأ قبيح، نشأ من خذلان الله تعالى لهم وعكوفهم على العلوم الفلسفية، وبعدهم عن دقائق السنة"( )0 أهـ.
ولا شك أن ذلك ينسحب على كل منكر له فى القديم والحديث. عصمنا الله من ذلك.
أما مقارنة محمود أبو ريه بين قصة شق الصدر، وحديث نخس الشيطان كل مولود. فلا وجه لهذه المقارنة، لأن شق الصدر لم يكن لإزالة أثر النخسة كما زعم، وإنما كانت لتطهير القلب من شئ يخلق لكل إنسان بمقتضى أنه خلق ليبتلى0
أما تكراره فذلك كان لمقصود مناسب لوقت وقوعه، فالمقصود أولاً، غير المقصود ثانياً، وثالثاً، ورابعاً. على نحو ما فصل سابقاً( ) وبالتالى لا وجه لسؤال أعداء السيرة العطرة، لماذا تكررت هذه العملية أربع أو خمس مرات فى أوقات متباعدة؟!!0
كما أنه لا وجه للمقارنة بين شق الصدر والصلب لما يلى :
أولاً : لأن شق الصدر أمر حق وممكن، وثابت بالأسانيد الصحيحة المؤكدة للآية الكريمة ألم نشرح لك صدرك( ) والصلب أمر باطل، وفيه مخالفة للعقل والنقل، وقد نفاه القرآن نفياً باتاً، قال تعالى : وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفى شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً( )0
ثانياً : شق صدر رسول الله لم يؤلمه البتة على ما زعمه أعداء السنة والسيرة( ) وإنما شق صدره الشريف على ما جاء فى الحديث : "أخذ كل واحد من الملكين بعضده، ولا يجد لأحدهما مساً، واضجعاه بلا قصر ولا حصر، وهوى أحدهما إلى صدره الشريف ففلقها، ورسول الله لا يرى دماً، ولا وجعاً"( ) وهذا كله بخلاف الصلب!0
ثالثاً : شق صدره على ما جاء فى الروايات الصحيحة ليس لتكفير ذنبه ولا ذنب غيره، وهذا بخلاف خرافة صلب المسيح!0
أما قول محمود أبو ريه تبعاً لأسياده من المبشرين والمستشرقين قال : "ولئن قال المسلمون… ولم لا يغفر الله لآدم خطيئته بغير هذه الوسيلة القاسية… قيل لهم : ولم لم يخلق الله قلب رسوله الذى اصطفاه كما خلق قلوب إخوانه المرسلين؟"0
قيل له : أما المسلمون فلا يقولون ما زعمت، وإنما يقولون : كيف يذنب آدم عليه السلام وهو عبد من عبيد الله، فيعاقب الله عيسى عليه السلام! وهو عند زاعمى ذلك "ابن الله الوحيد" بتلك العقوبة القاسية التى تألم لها عيسى بزعمهم أبلغ الألم، وصرخ بأعلى صوته "إيلى ايلى، لم شبقتنى" أى إلهى إلهى لم تركتنى؟ وقد قال الله عز وجل : يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جازٍ عن والده شيئاً إن وعد الله حق( ) وقال سبحانه : ألا تزرُ وازرةٌ وزرَ أخرى( ) وغير ذلك من الآيات التى تبطل الأساس الذى قامت عليه خرافة صلب المسيح!0
ثم أين العلم : أن قلوب سائر المرسلين لم تُخْلَق كما خُلِقَ قلب محمد ؟ فقد تكون خلقت سواء، وخص سيدنا رسول الله بهذا التطهير، أو طهرت أيضاً بهذه الوسيلة أو غيرها، والله يعلم وأنتم لا تعلمون( )0
أما ما ادعاه محمود أبو ريه من أن بعض القساوسة المسيحيين : "اتكأوا على حديث نخس الشيطان كل مولود حين يولد، وقصة شق الصدر فى إثبات عقيدة من عقائدهم الزائفة، وهذا فى زعمه دليل على بطلان الحديث وقصة شق الصدر وردهما( )0
فهذا ادعاء واتكاء باطل، والتبعة فى هذا الادعاء والاتكاء على من حرف الحديث عن موضعه، وحمله على غير محامله الصحيحة0
فالحديث صحيح رواية، ودراية، وليس فى معناه ما يدعو إلى رده عند المحققين، لأنه لا يخالف عقلاً ولا نقلاً. بل الحديث استجابة لدعاء أم السيدة مريم حيث قالت كما حكى القرآن عنها: وإنى سميتها مريم وإنى أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم( ) وبالتالى فالحديث جاء تأكيداً وبياناً للآية الكريمة، كما جاء على لسان راوى الحديث أبو هريرة رضى الله عنه0
كما أن الحديث ليس كما توهم مخالفاً لقوله تعالى : قل رب بما أغويتنى لأزينن لهم فى الأرض ولأغوينهم أجمعين. إلا عبادك منهم المخلصين. قال هذا صراط على مستقيم إن عبادى ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين( )0
ولا مخالفاً أيضاً لما ثبت من عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الشيطان الرجيم لأن الذى يقتضيه ظاهر الحديث. أن إبليس – عليه لعنة الله – مُمَكَنْ من مس كل مولود عند ولادته، لكن عباد الله المخلصين لا يضرهم ذلك المس أصلاً، واستثنى من المخلصين مريم وابنها، فإنه ذهب يمس على عادته، فحيل بينه وبين ذلك، فهذا وجه الاختصاص( )، ولا يلزم منه تسلطه على غيرهما من المخلصين من أنبياء الله عليهم جميعاً الصلاة والسلام0
وليس فى إسناد خصوصية لعيسى عليه السلام، أو لغيره من الأنبياء، ما يعود بالنقص على إخوانه الأنبياء، ولا ما يثبت تفضيله عليهم، إذ من المسلم به أنه قد يكون فى المفضول من الخصائص ما ليس للأفضل، ولا يؤثر هذا فى أفضليته، لأن له من الخصائص ما يؤهله لاستحقاق الأفضلية( )0
هذا ولا يلزم من وقوع المس إضلال الممسوس وإغواءه، فإن ذلك ظن فاسد، فكم تعرض الشيطان للأنبياء بأنواع الإفساد والإغواء، ومع ذلك عصمهم الله عز وجل، بعدم تمكنه من إغوائهم، أو إلحاق ضرر بهم يضر بالدين؛ وتأمل قوله تعالى فى حق سيدنا أيوب عليه السلام : واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الشيطان بنصب وعذاب( ) وقوله سبحانه فى حق سيدنا آدم وزوجته : فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه( ) وقوله عز وجل فى حق سيدنا موسى عليه السلام : قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين( ) وقوله تعالى لسيدنا رسول الله : وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم( ) وقوله : "إن عفريتاً( ) من الجن جعل يفتك( ) على البارحة ليقطع على الصلاة. وإن الله أمكننى منه فذعته( )… الحديث"( )0
فكل هذا لا يتعارض مع حديث (نخس الشيطان كل مولود) ولا مع قوله تعالى إن عبادى ليس لك عليهم سلطان لأن معناه والله أعلم : "لن تسلط على إغوائهم الإغواء اللازم، لأن الكلام فيه لتقدم قوله : لأغوينهم أجمعين. وهذا لا ينافى أن يسلط على بعضهم لإغواء عارض، أو لإلحاق ضرر لا يضر بالدين( )0
هذا ولا يلزم من ظاهر حديث (نخس الشيطان كل مولود) أن تمتلئ الدنيا صراخاً وعياطاً كما توهم الزمخشرى( ) لأن الحديث إنما جعل ذلك عند الولادة فحسب، وأما بعدها فلا! ولو حكمنا المشاهدة، فما من مولود إلا ويستهل صارخاً أو باكياً، وإنكار ذلك مكابرة( )0
أما زعم محمود أبو ريه : أن ذلك النخس أو المس لو وجد لبقى أثره، ولو بقى أثره لزم الصراخ والبكاء. فنقول : أرأيتم إذا ختن الطفل فتألم وبكى، أيستمر الألم والبكاء؟!!0
أما ما ذكره محمود أبو ريه : عن الرازى وغيره( ) أن الخبر على خلاف الدليل لأن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من يعرف الخيروالشر، والصبى ليس كذلك، كما أنه يلزم منه تمكن الشيطان من إهلاكهم… فأقول : ومن قال إن النخسة دعاء إلى الشر؟ بل إن كانت للإيلام فقط، فذلك من خبث الشيطان، مُكِّن منها، كما مُكِّن مما أصاب به سيدنا أيوب عليه السلام، وكما يمكن الكفار من قتل المسلمين حتى الأنبياء، وذبح أطفالهم. وإن كانت النخسة لإحداث أمر من شأنه أن يورث القلب قبولاً ما للوسوسة بعد الكِبَرْ، فهذا لا يستدعى معرفة الخير والشر فى الحال. والتمكين من هذا كالتمكين من الوسوسة والتزيين، وذلك من تمام أصل البلاء. ولا يلزم من تمكنه من هذا النخس أن يفعل أكثر من ذلك من إهلاك الصالحين، وإفساد أحوالهم كما زعم أعداء السنة والسيرة العطرة، لأنه لا يتمكن إلا إن مكنَّه الله تعالى، فإذا مكنَّه الله تعالى من أمر خاص، فمن أين يلزم تمكنه من غيره؟!!( )0
ولعله بعد هذا العرض، ومناقشة المستشرقين وأضرابهم قد تبين لك الثقة الكاملة فى ثبوت الشق الحسى لصدر رسول الله فى المرة الأولى مدعماً بالدليل الصحيح، وأيضاً فيما تبعه من تكرره فى سن العاشرة وأشهر، وعند البعثة، وفى ليلة الإسراء والمعراج، مدعماً بالأدلة فى أصح كتب الصحيح كما بينا فى موضعه مما سبق0
هذا وقد أنكر صحة وقوع شق الصدر ليلة الإسراء ابن حزم وعياض، وادعيا أنها تخليط من "شريك" وليس كذلك فقد ثبت هذا أيضاً فى الصحيحين من غير طريق "شريك"( )0
قال الحافظ ابن حجر : "جميع ما ورد من شق الصدر، واستخراج القلب، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة مما يحبب التسليم له، دون التعرض لصرفه عن حقيقته لصلاحية القدرة، فـلا يستحيـل شئ من ذلك( ) ويؤيده الحديث الصحيح. أنهـم كانوا يرون أثر المخيط فى صـدره "( ) أهـ.
والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم
=======
المطلب الثانى
شبهة الطاعنين فى حديث "فترة الوحى"
والرد عليها
روى البخارى ومسلم وغيرهما عن عائشة رضى الله عنها قالت : "أول ما بدئ به رسول الله من الوحى الرؤيا الصالحة فى النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه – وهو التعبد – الليالى ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة( ) فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق، وهو فى غار حراء، فجاءه الملك،، فقال : اقرأ. قال : ما أنا بقارئ. قال : فأخذنى فغطنى( ) حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى فقال : اقرأ. قلت : ما أنا بقارئ. فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى فقال : اقرأ. فقلت : ما أنا بقارئ فأخذنى فغطنى الثالثة، ثم أرسلنى فقال : اقرأ باسم ربك الذى خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم( ) فرجع بها رسول الله يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضى الله عنها فقال : زملونى زملونى فزملوه( ) حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر : لقد خشيت على نفسى. فقالت خديجة : كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل( ) وتكسب المعدوم( ) وتقرى الضيف، وتعين على نوائب( ) الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل ابن أسد بن عبد العزى – ابن عم خديجة – وكان امرءاً تنصر فى الجاهلية، فيكتب بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمى( ) فقالت له خديجة : يا ابن عم اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة : يا ابن أخى، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله خبر ما رأى. فقال له ورقة : هذا الناموس الذى نزل الله على موسى، يا ليتنى فيها جذعاً( ) ليتنى أكون حيا إذ يخرجك قومك رسول الله أو مخرجى هم؟ قال نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودى، وإن يدركنى يومك، أنصرك نصراً مؤزراً. ثم لم ينشب ورقة أن توفى، وفتر الوحى"( )0
وفى هذا الحديث الموصول زيادة فى آخره رواها الإمام عبد الرزاق عن معمر عن الزهرى بلاغاً قال : "وفتر الوحى فترة حتى حزن النبى فيما بلغنا حزناً غدا منه مراراً، كى يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل، لكى يلقى منه نفسه، تبدى له جبريل فقال : يا محمد، إنك رسول الله حقاً، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحى غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له : مثل ذلك"( )0
بهذه الرواية وزيادتها، طعن أعداء السنة والسيرة العطرة قديماً وحديثاً فى المحدثين زاعمين أن فى هذه الرواية طعن فى نبوة رسول الله وعصمته. فقديماً قالوا : "كيف يجوز للنبى أن يرتاب فى نبوته حتى يرجع إلى ورقة، ويشكوا لخديجة ما يخشاه، وحتى يوفى بذروة جبل ليلقى منها نفسه على ما جاء فى رواية معمر؟"( )0
وحديثاً : لم يخرج أعداء السنة والسيرة عن طعون أسلافهم قديماً. إذ يقول : عبد الحسين شرف الدين الموسوى( ) "تراه – يعنى حديث بدء الوحى – نصاً فى أن رسول الله كان – والعياذ بالله – مرتاباً فى نبوته بعد تمامها، وفى المَلَكْ بعد مجيئه إليه، وفى القرآن بعد نزوله عليه، وأنه كان من الخوف على نفسه فى حاجة إلى زوجته تشجعه، وإلى ورقة الأعمى الجاهلى…"( )0
ويقول جعفر مرتضى العاملى( ) "كيف يجوز إرسال نبى يجهل نبوة نفسه، ويحتاج فى تحقيقها إلى الاستعانة بامرأة، أو نصرانى؟ ألم تكن هى فضلاً عن ذلك النصرانى أجدر بمقام النبوة من ذلك الخائف المرعوب الشاك؟ ثم كيف يتناسب ذلك مع كونه أراد أن يلقى نفسه من شواهق الجبال"( )0
ويجاب عن الشبهات السابقة بما يلى :
أولاً : الحديث الذى طعنوا فيه – بدون الزيادة – صحيح سنداً ومتناً، وفى أعلى درجات الصحة، باتفاق البخارى ومسلم وغيرهما على إخراجه من رواية عائشة رضى الله عنها، ولا يقدح فى سند الحديث، وصحة متنه، أن عائشة رضى الله عنها لم تدرك القصة، لما يلى :
أ- لأن مرسل الصحابى حكمه على المذهب الصحيح، الوصل المقتضى للاحتجاج به( )0
ب- السيدة عائشة رضى الله عنها لم تنفرد برواية حديث بدء الوحى، فللحديث شاهد من حديث جابر بن جابر عبد الله رضى الله عنه، وهو أيضاً لم يشهد هذه القصة، ولكنه فى روايته يصرح بالتحديث عن بدء الوحى وفترته سماعاً من رسول الله ( ) مما يؤكد صحة مرسل عائشة، حيث لا يبعد سماعها تلك القصة من رسول الله أو ممن سمعها منه ، وهو يحدث بها، كما سمعها جابر وصرح بذلك. ومما يؤكد صحة سماعها رضى الله عنها من رسول الله حديث بحثنا، ما ورد فى الحديث من قوله (فغطنى حتى بلغ منى الجهد) فهنا فى الكلام التفات، حيث انتقل الكلام من حكاية عائشة، إلى حكاية رسول الله ، عن نفسه، مما يؤيد صحة إرسالها، وأنه موصول من أوله إلى آخره0
ثانياً : الزيادة الواردة فى سند حديث عائشة رضى الله عنها غير ثابتة عن رسول الله ، ولم يقل شيئاً منها، ولا فعلها، فهى لا تصح سنداً ولا متناً لما يلى :
أ- فأما الدليل على عدم صحة هذه الرواية سنداً فهو ما ورد فى الرواية ذاتها إذ فيها "حزن النبى ، فيما بلغنا…" والقائل "فيما بلغنا" هو الإمام الزهرى( ) وهو أعلم الحفاظ، ولكن لا يقبل ما رواه من غير سند! فعن يحيى بن سعيد القطان( ) قال : مرسل الزهرى شر من مرسل غيره، لأنه حافظ، وكلما قدر أن يسمى سمى! وإنما يترك من لا يستجيز أن يسميه( ) وهذه الزيادة من هذه القبيل، حيث أنها منقطعة قد رواها الزهرى بلاغاً، وهو من صغار التابعين، وجل روايته عن كبار التابعين، وأقلها عن صغار الصحابة( ) فكيف بالكبار منهم، لاسيما من شهدوا بدء الوحى إلى رسول الله ( ) وعلى ذلك فلا سند يعتمد عليه، ولعل الإمام البخارى وغيره ممن أخرج هذه الزيادة أرادوا بذلك التنبيه إلى مخالفتها لما صح من حديث بدء الوحى الذى لم تذكر فيه هذه الزيادة، وخصوصاً أن البخارى لم يذكر هذه الزيادة فى بدء الوحى، ولا التفسير، وإنما ذكرها فى التعبير على ما سبق فى التخريج0
ويؤيد ما سبق، أن الأئمة الحفاظ يذكرون عقب هذه الزيادة حديث جابر الصحيح فى فترة الوحى إلى الزهرى بنفس السند الذى يروونه عنه فى حديث عائشة الأول، ويفهم من صنيعهم ذلك: أن الزهرى نفسه كان يحدث بحديث جابر عقب حديث عائشة0
ففى مصنف الإمام عبد الرزاق بعد فراغه من حديث عائشة : قال معمر، قال الزهرى، فأخبرنى – حرف الفاء هذا يفيد العطف على رواية سابقة، والتعقيب بأخرى لاحقة، وذلك فى مجلس واحد - أبو سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله ، وهو يحدث عن فترة الوحى، فقال فى حديثه : "بينما أنا أمشى سمعت صوتاً من السماء، فرفعت رأسى، فإذا الذى جاءنى بحراء جالساً على كرسى بين السماء والأرض، فجُئِثْتُ( ) منه رعباً، ثم رجعت، فقلت : زملونى، زملونى، ودثرونى، فأنزل الله تعالى : يا أيها المدثر إلى والرجز فاهجر( )0
وكذلك الإمام البخارى ذكر حديث عائشة المتقدم فى بدء الوحى عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضى الله عنها إلى قولها : ثم لم ينشب ورقة أن توفى، وفتر الوحى، ثم قال عقبة : قال ابن شهاب : وأخبرنى أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصارى قال… فذكر الحديث بنحو رواية عبد الرزاق، غير أنه زاد فى آخره : "فحمى الوحى وتتابع"( )0
قال الحافظ ابن حجر : قوله : (قال ابن شهاب : وأخبرنى أبو سلمة) إنما أتى بحرق العطف، ليعلم أنه معطوف على ما سبق، كأنه قال : أخبرنى عروة بكذا، وأخبرنى أبو سلمة بكذا، وأخطأ من زعم أن هذا معلق، وإن كانت صورته صورة التعليق، ولو لم يكن فى ذلك إلا ثبوت الواو العاطفة، فإنها دالة على تقديم شئ عطفته – وهو حديث عائشة المتقدم – ثم قال ابن شهاب – أى بالسند المذكور – وأخبرنى أبو سلمة بخبر آخر، وهو حديث جابر عن فترة الوحى)( )0
وكذلك فعل الإمام أحمد فى مسنده، مع أنه قد جمع فى مسنده مرويات كل صحابى على حده، دون الالتزام بالوحدة الموضوعية للأحاديث، لكنه لما روى حديث عائشة المتقدم عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهرى، قال : فذكر حديثاً( ) لعله يشير إلى حديث جابر الذى أخرجه قبل ذلك فى المسند( )0
وكذلك صنعا مسلم، وابن حبان فى صحيحيهما عقب إخراجهما لحديث عائشة رضى الله عنها( ) فدل هذا كله، على أن ابن شهاب الزهرى كان يحدث بالحديثين معاً، كما روى عنه غير واحد مما سبق بيانه، وأن الصواب فى رواية حديث عائشة بدون تلك الزيادة، كما أخرجه مسلم، والبخارى فى بعض مواضعه، وغيرهما( )0
ب- أما الدليل على عدم صحة هذه الزيادة متناً فهو ما يلى :
1- معارضتها لأصل من أصول الإسلام، وهو عصمة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام بمعنى : حفظ الله ظواهرهم وبواطنهم، وتفكيرهم وخواطرهم، وسائراً أعمالهم، حفظاً كاملاً، فلا يقع منهم قط ما يشكك فى نبوتهم ورسالاتهم، وهذا البلاغ المعمرى أو الزهرى، لم يبق لعصمة النبى مكاناً فى مدة الحزن اليائس التى تقول أقصوصة هذا البلاغ إنه مكثها وهو يغدو مراراً كى يتردى من شواهق الجبال، ولاسيما على مذهب من يرى أن مدة فترة الوحى – وهى مدة الحزن اليائس – قد طالت إلى ثلاث سنوات، أو سنتين ونصف سنة، أو ستة أشهر، وفى هذا البلاغ الضعيف تصريح بأن صاحبه يذهب مذهب من يرى طول مدة فترة الوحى( ) لأن ما ذكر فيه من الغدو مراراً لكى يلقى بنفسه من ذرا الشواهق يقتضى طول المدة، ولاسيما مع تمثل جبريل له وقوله : أنا جبريل، وأنت رسول الله حقاً، أكثر من مرة0
2- يتعارض هذا البلاغ مع ما يجب أن يكون عليه النبى من رسوخ الإيمان بنبوته، وكمال اليقين برسالته، ولا شك أن ما جاء فى هذا البلاغ، من تبدى جبريل عليه السلام للنبى كلما أوفى بذروة جبل لكى يلقى منها نفسه، وقوله له : يا محمد : أنت رسول الله حقاً، فإذا طالت عليه فترة الوحى غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل عليه السلام، فقال مثل ذلك – يصور مدى ما بلغه ذلك الحزن اليائس – فى زعم قائليه – من نفس النبى حتى جعله يتشكك فى تبدى جبريل له، وفى إخباره أنه رسول الله حقاً، فالنبى - كما تصرح به عبارة هذا البلاغ – لم يكد يسكن جأشه لتبدى جبريل له وإخباره أنه رسول الله حقاً حتى يعود إلى عزيمته فى إلقاء نفسه من ذرا شواهق الجبال، فيتبدى له جبريل مرة أخرى، ويقول له : يا محمد، أنت رسول الله حقاً0
فأين سكون جأشه الذى أحدثه فى نفسه تبدى جبريل له، وإخباره أنه رسول الله حقاً؟0
وأين رسوخ إيمانه برسالة ربه التى شرفه بها قبل فترة الوحى، وأنزل عليه فى أول مراتب وحيها فى غار حراء قرآناً يتلى، حتى يعود عن عزيمته لإلقاء نفسه من ذرا شواهق الجبال إذا طالت عليه فترة الوحى؟!0
3- إن ما تضمنه هذا البلاغ الضعيف يشمل أمرين :
أحدهما : ظاهر محسوس، يمكن مشاهدته، والحكم بوجوده أو عدم وجوده بمقتضى إمكان مشاهدته حساً0
ثانيهما : باطن محجوب فى داخل النفس، لا يمكن معرفته إلا بإخبار صاحبه الذى دار فى نفسه، أو إخبار من أظهرهم عليه بنقل ثابت عنه. فذهاب النبى إلى أعالى الجبال وشواهقها التى ألف الصعود إليها فى أزمان خلواته وتطلعاته للتفكر فى عجائب آيات الله الكونية، وبدائع ملكوته، أمر محسوس، يمكن الحكم عليه برؤيته ومشاهدته، ولا حرج فى أن يكون النبى قد حزن فى فترة الوحى اشتياقاً لأنوار الشهود الروحانى الأعلى الذى كان يغمره فى أوقات نزول الوحى، ونزول آيات القرآن المبين، حزناً كان يغدو منه إلى ذرا الجبال التى كانت مأنس روحه، تطلعاً إلى آفاق أشواقه لشهود تجليات أمين الوحى جبريل عليه السلام الذى سبق له أن تجلى فى آفاقها بصورته الملائكية الروحانية العالية0
وكون هذا الذهاب إلى ذرا شواهق الجبال لقصد التردى منها ليقتل نفسه – كما هو نص عبارة البلاغ الضعيف – أمر باطن محجوب بأستار الضمير فى حنايا النفس، لا يعلمه، ولا يطلع عليه إلا الله علام الغيوب، وإلا صاحبه الذى دار فى حنايا نفسه، وعزم على تحقيقه عملياً، وإلا من يظهره عليه صاحبه العليم به، بأخبار منه إليه، وكل ذلك لم يثبت!0
وما روى عن ابن عباس من قوله : "مكث النبى أياماً بعد مجئ الوحى لا يرى جبريل، فحزن حزناً شديداً حتى كان يغدو إلى ثبير( ) مرة، وإلى حراء أخرى، يريد أن يلقى نفسه"( ) غير مسلم من وجوه0
أ- أن حديث ابن عباس من رواية الواقدى( )، وهو معروف بالضعف، لا يقبل الجهابذة من المحدثين روايته إلا إذا اعتضدت بروايات الثقات0
ب- إذا صح سند الحديث إلى ابن عباس رضى الله عنهما، فهو اجتهاد لا يعلم معتمده، فى أمر لا سبيل إلى معرفته إلا بإخبار من النبى ، ولم يثبت هذا الإخبار، فالحديث موقوف على ابن عباس، فيكون فى منزلة بلاغ الزهرى، كما يؤخذ من كلام ابن حجر( ) يجب رفضه كرفض بلاغ الزهرى، وإبطاله كإبطاله، ولعل هذا الحديث الضعيف فى سنده، الباطل فى متنه ونصه، هو مستند بلاغ الزهرى، والزهرى إمام موثق، فلا حرج على البخارى فى إلحاق بلاغة بجامعه من جهة توثيق السند، على أن البخارى لم يلحقه بجامعه إلا فى موضع واحد فقط من مواضع حديث بدء الوحى، وهى متعددة فيه بالإسناد نفسه مقروناً بإسناد آخر تارة، وغير مقرون تارة أخرى، ولم يرد فى تلك المواضع ذكر لهذا البلاغ الضعيف إلا فى كتاب (التعبير) بلاغاً لا تأصيلاً0
ثالثاً : ثبت فى الصحيح من حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنه، أن رسول الله تحدث عن فترة الوحى، ولم يرد فى كلامه كلمة واحدة، تشعر بما جاء فى هذا البلاغ الضعيف، حتى ولو مجرد حزن لحق به تأسفاً على هذه الفترة0
هذا مع أنه لا نرى حرجاً فى أن يكون النبى قد اعتراه شئ من الحزن فى مدة فترة الوحى، لانقطاع أنوار الشهود الروحى، ولا نرى حرجاً فى أن النبى كان يغدو إلى ذرا الجبال تطلعاً لتجليات أمين الوحى الذى عهد لقاءه فى هذه الذرا، وهذا أمر فطرى وطبيعى، فالإنسان إذا حصل له خير أو نعمة فى مكان ما، فإنه يحب هذا المكان، ويلتمس فيه ما افتقده، فلما فتر الوحى: صار يكثر من ارتياد قمم الجبال، ولاسيما حراء، رجاء أنه إن لم يجد جبريل فى حراء، فليجده فى غيره، فرآه راوى هذه الزيادة وهو يرتاد قمم الجبال، فظن أنه يريد أن يلقى بنفسه، وقد أخطأ الراوى المجهول فى ظنه قطعاً0
وليس أدل على ضعف هذه الزيادة وتهافتها من أن جبريل عليه السلام كان يقول للنبى كلما أوفى بذروة جبل : "يا محمد إنك رسول الله حقاً" وأنه كرر ذلك مراراً، ولو صح هذا لكانت مرة واحدة تكفى فى تثبيت النبى وصرفه عما حدثته به نفسه كما زعموا( )0
رابعاً : ما يشكل ظاهره فى الحديث الموصول – لعائشة رضى الله عنها – من ارتياب وشك من رسول الله فى نبوته – كما زعموا – مستشهدين على ذلك بقوله لخديجة "لقد خشيت على نفسى" وزعمهم شكواه لخديجة، ورجوعه إلى ورقة بن نوفل… هذا الإشكال لا وجه لهم فيه، كما أن هذه الكلمة : "لقد خشيت على نفسى" فى ذاتها لا تضير عصمة رسول الله ، ولا نبوته شيئاً0
والذين ذكروا هذه الكلمة فى رواياتهم قد أدوا أمانة العلم، ولا سبيل عليهم، إنما السبيل على الذين تقحموا متخرصين فى تفسير المراد من الخشية، حتى زعم بعضهم فى تفسيرها، وبيان المراد منها، بما كان ويكون أمضى سلاح فى يد أعداء الإسلام، وأعداء السنة المطهرة، والسيرة العطرة0
وما قيل فى تفسير الخشية من كلام لا يليق، ولا ينبغى أن يدون فى سيرة المعصوم قد أبطله بعض حذاق الأئمة، وحق له أن يبطل( )0
أما ما زعمه أعداء السنة المطهرة من أن ظاهر هذه العبارة "لقد خشيت على نفسى يفيد ارتياب وشك رسول الله فى نبوته، فهذا من تخرصاتهم، ويرده سياق الحديث الذى وردت فيه هذه العبارة، وقبل بيان ذلك أقول : إن الله عز وجل إذا اصطفى أحداً لنبوته أو رسالته يخلق فيه علماً ضرورياً بنبوته بحيث لا يبقى له قلق ولا اضطراب، كما يظهر من قصة سيدنا موسى عليه السلام، حين توجه إلى جبل الطور بسيناء ليأتى بقبساً أو يجد على النار هدى0
ومعلوم أنه لم يكن مراقباً عما يصنع به، ولا منتظراً بما يكلف به، إذ ناداه ربه عز وجل من شاطئ الوادى الأيمن : إنى أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى( ) وأمره أن يذهب إلى فرعون إنه طغى، فلما سمعه موسى عليه السلام، ألقى عليه فى ساعته تلك من اليقين، والإذعان بنبوته، ما هون عليه الدعوة لمثل فرعون الباغى الطاغى، ولم يشك فى نبوته كجناح بعوضة، إلا أنه كان بشراً، خلق من ضعف، ولذا خاف من عصاه حين صار جاناً – حية عظيمة – لما أمره ربه عز وجل، بإلقاءها من يده، قال تعالى : وما تلك بيمينك يا موسى. قال هى عصاى أتوكؤ عليها وأهش بها على غنمى ولى فيها مآرب أخرى.
قال ألقها يا موسى. فألقاها فإذا هى حية تسعى. قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى( )0
وقال سبحانه : وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبراً ولم يعقب يا موسى لا تخف إنى لا يخاف لدى المرسلون. إلا من ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء فإنى غفور رحيم( )0
وبمقتضى بشريته أيضاً خاف من القتل، كما حكى القرآن الكريم على لسانه : ولهم على ذنب فأخاف أن يقتلون( ) ومن هنا شكى إلى ربه عن ضعفه، وسأله أن يجعل أخيه ردئاً يصدقه، ويكون عوناً له فإنه كان أفصح لساناً، قال تعالى : قال رب إنى قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون. وأخى هارون هو أفصح منى لساناً فأرسله معى ردءاً يصدقنى إنى أخاف أن يكذبون( )0
ولم يكن هذا الخوف شكاً منه أو إعراضاً عما أمره الله عز وجل به – والعياذ بالله – بل إظهاراً لضعف جبل عليه الإنسان0
فإذا لم يشك من كان نبى بدون تمهيد، ولا سابقة خبر، فكيف بمن مهد له تمهيداً، ومرن تمريناً فى النوم واليقظة؟0
فالتمهيد كان منذ صغره وشبابه، من شق صدره، ونهيه عن التعرى، وعصمته من كل مظاهر الجاهلية التى سبق تفصيلها( ) والتمرين فى النوم بالرؤيا التى كان لا يراها إلا وتجئ مثل فلق الصبح الذى لا شك فيه، وفى اليقظة كان التمرين على الوحى والنبوة بسلام الحجر عليه، وسماع الصوت، ورؤية الضوء0
فعن جابر بن سمرة رضى الله عنه عن رسول الله قال : "إنى لأعرف حجراً بمكة كان يسلم على، قبل أن أبعث، إنى لأعرفه الآن"( )0
وجاء التصريح بصيغة التسليم برسول الله فى حديث عائشة رضى الله عنها( ) وحديث على بن أبى طالب رضى الله عنه إذ يقول : "كنت مع النبى بمكة فخرجنا فى بعض نواحيها، فما استقبله جبل ولا شجر، إلا وهو يقول السلام عليك يا رسول الله"( ) وعنه قال : "يا خديجة إنى أسمع صوتاً، وأرى ضوءاً، وإنى أخشى أن يكون بى جنن، فقالت : لم يكن الله ليفعل بك ذلك يا عبد الله…"( )0
وكل هذا التمهيد والتمرين على النبوة قبل التنبؤ يستحيل معه أن يشك رسول الله فى نبوته ورسالته بعد التنبؤ – حتى لو فتر الوحى – وهنا نصل إلى تفسير الخشية0
تفسير الخشية فى قوله (لقد خشيت على نفسى) :
ورد فى سياق حديث (بدء الوحى) ما يعين على فهم صحيح ودقيق لقوله : "لقد خشيت على نفسى" ويرد تخرصات أعداء الإسلام، وأعداء السيرة العطرة، فى أن ظاهر هذه العبارة يفيد ارتياب وشك من رسول الله فى نبوته ورسالته0
1- وأول ما يعين على بيان حقيقة المراد من الخشية فى سياق الحديث قوله : "حتى فجئه الحق"( ) بكسر الجيم أى بغتة الأمر الحق، وهو الملك جبريل عليه السلام بالوحى0
وهذه الجملة فى الحديث، تفيد أن رسول الله تعرض وهو فى غار حراء للمفاجأة، وتحققت ثلاثة مرات متواليات :
الأولى : فى دخول الملك عليه مختلاه ومتعبده، دون تمهيد يشعر النبى بأن أحداً سيدخل عليه فى الغار0
الثانية : فى رؤيته للملك جبريل عليه السلام على صورته الملائكية، وقد سد الأفق0
الثالثة : فى أمره بالقراءة عقب دخوله عليه مباشرة، وهو أمى لا يقرأ ولا يكتب!0
وفى كل ذلك نوع من المفاجأة الباغتة المؤثرة على الطبيعة البشرية بما يهز كيانها هزاً يقحم عليها الرعب والفزع0
ومن هنا كان خوف وفزع النبى خوفاً وفزعاً بشرياً رجف منه فؤاده، وسائر جسده، وظهرت على بشريته آثاره، حتى هدأت نفسه، فتلقى رسالة ربه متثبتاً، مغموراً بأنوار شهود العزة الإلهية فى يقين لا يداخله أدنى شك فى اصطفائه رسولاً بعد اجتبائه نبياً من الصالحين0
2- وثانى ما يعين على تفسير الخشية قوله : "فغطى حتى بلغ منى الجهد" فهذه العبارة تبين مدى الشدائد التى صحبت رسول الله فى هذا اللقاء المفاجئ0
إذ صحب مع دخول الملك عليه فى متعبده، دون تمهيد، ورؤيته للملك فى صورته الملائكية، وأمره بالقراءة، صحب كل ذلك مع ما فيه من شدة شدائد أخرى، إذ غطه الملك ثلاث مرات، والغط : العصر الشديد، وحبس النفس، وكأنه أراد ضمنى وعصرنى، أو أراد غمنى، ومنه الخنق، ويدل عليه رواية أبو داود الطيالسى "فأخذ بحلقى"( ). وفى كل مرة من هذا الغط بلغ من رسول الله "الجهد" مبلغه وغايته حتى ظن بنفسه الموت( )0
3- وثالث ما يعين على فهم قوله "لقد خشيت على نفسى" نزول الوحى عليه بأوائل سورة "العلق" وحالات النبى وقت نزول الوحى عليه كلها شدة، فهى حالات خاصة تتغلب فيها روحانيته على بشريته، ليتصف بصفة الملك، ليقع بينهما التناسب والتجانس، ويتم التلقى على أكمل وجه وأثبته0
قتيبة
03-09-2008, 02:05 AM
يقول الإمام ابن حجر : "وهى حالة يؤخذ فيها النبى عن حال الدنيا من غير موت، فهو مقام برزخى، يحصل له عند تلقى الوحى، ولما كان الرزخ العام ينكشف فيه للميت كثير من الأحوال، خص الله عز وجل نبيه ببرزخ فى الحياة، يلقى إليه فيه وحيه المشتمل على كثير من الأسرار"( )0
ويدل على شدة الوحى أثناء نزوله على رسول الله أحاديث كثيرة منها :
1- حديث زيد بن ثابت رضى الله عنه قال : "كنت أكتب الوحى لرسول الله وكان إذا نزل عليه أخذته برحاء شديدة، وعرق عرقاً شديداً مثل الجمان ثم سرى عنه. وكنت أكتب وهو يملى على، فما أفرغ حتى تكاد رجلى تنكسر من ثقل الوحى، حتى أقول : لا أمشى على رجلى أبداً"0
2- وعن عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما قال : سألت رسول الله ، هل تحس بالوحى؟ فقال: أسمع صلاصل ثم أسكت عند ذلك، فما من مرة يوحى إلى إلا ظننت أن نفسى تقبض" وغير ذلك من الروايات السابق ذكرها( ) وهى روايات تبين لنا إلى أى مدى لاقى النبى من شدة أثناء تنزيل الوحى عليه حتى أن الملامس لجسده الشريف، كان يشعر به كما مر من حديث زيد بن ثابت رضى الله عنه، وحتى أنه يصرح بأنه ما من مرة يوحى إليه إلا ظن أن نفسه تقبض!0
فإذا كانت الروايات السابقة تبين لنا حاله بعد مزاولات ومعاهدات بالوحى، فما ظنك بحاله إذا نزل عليه الوحى لأول مرة، وهو غير ممارس لتلك الأهوال ولا حامل لهذه الأثقال؟!0
إن كل ما سبق من دخول الملك على رسول الله فى متعبده دون تمهيد، وتجلى الملك له، وقد سد الأفق، وغطه حتى بلغ منه الجهد، وأمره بالقراءة مع أميته، ونزل الوحى عليه، وهو ما لو أنزل على الجبال لتصدعت من خشية الله0
كل ذلك جعله يرجف فؤاده، ويخشى على نفسه، لا لريب عرضه، أو هول هاله، بل لضعف فطر عليه الإنسان. نعم وحق لرسول الله أن يرجف ويخشى، كيف وقد كان هذا أول معاملة اعترته! وفكر فى نفسك لو اعتراك ما اعتراه كيف يكون حالك؟!0
ومما يؤكد ما سبق من تفسير الخشية قوله : "بينما أنا أمشى، إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصرى، فإذا الملك الذى جاءنى بحراء جالس على كرسى بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت، فقلت : زملونى"( ) وهذا الحديث وإن كان فى واقعة أخرى، لكن ما جاء فيه من قوله : "فرعبت منه" قرينه قوية على أن خشيته على نفسه كانت مما رأى من المفاجآت السابق ذكرها، فضلاً عن شدة الوحى التى اعترته لأول مرة، وهو فى غار حراء، وكلها أمور تضعف عن حملها فطرة البشر. فالخوف والخشية، لا يصادم الإذعان والإتقان بشئ أصلاً، لأنه فى بنية البشر، قال تعالى : يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا( )0
وكما جاز لموسى عليه السلام أن يخاف من عصاه حين صار ثعباناً، ولم يصادم ذلك إيمانه، جاز لرسول الله أيضاً أن يخشى عند رؤية الملك بهيئته الملائكية، وغطه، وشدة الوحى، فكل ذلك ليس بأقل من عصا موسى عليه السلام( )0
وكما هو معلوم فإن النبوة لا تمنع الأعراض البشرية التى لا تنافى العصمة، وسيدنا رسول الله ثبتت له النبوة قطعاً قبل مفاجأة الغار، وقبل فترة الوحى( )0
فإذا روى أنه فزع من هول المفاجأة، وما حف بها، فلا يجوز قط أن يقال : إنه فزع فزعاً أذهله عن مقام نبوته فلم يتمكن من التأمل، وخشى على نفسه أن يكون كاهناً أو أن يكون به جنن0
كما لا يجوز قط أن يقال عنه : إنه حزن على فتور الوحى حزناً أخرجه عن عصمة النبوة والرسالة، وحمله على محاولة قتل نفسه0
ففترة الوحى طالت أو قصرت( ) شأن من شئون الله تعالى التى ينفرد بحكمتها فهى كانت لطفاً من الله تعالى لنبيه ورحمة به، ليستجم من عناء ما لاقى من روع المفاجأة، وشدة الغط، وشدة الوحى، لاستفراغ بشريته ليزداد تشوفاً وتشوقاً إلى تتابع الوحى، وتقوية لروحانيته على احتمال ما يتوالى من الله عز وجل إليه، حتى يتم استعداده لتبليغ رسالته إلى الخلق كافة بصبر وقوة، ويقين لا يدانيه يقين فى أن الله عز وجل، سيتم عليه نعمته0
ويشهد لصحة تفسير الخشية بما سبق ذكره، رجوعه إلى مكان تحنثه فى غار حراء( )، بعد ما لاقاه من الشدائد السابق ذكرها0
فهل فى منطق العقل أن يكون رسول الله خشى على نفسه ما تخرص به المتخرصون، ثم يسرع إلى العودة إلى المكان الذى لقى فيه ما خشيه على نفسه فى زعم المتخرصين؟!0
إن بداهة العقل تأبى أن تقبل ذلك، وتنادى بأن أى إنسان توجس خفية من شر حادث وقع له فى مكان لا يمكن أن يعود إليه، وفى سرعة، وهو يملك الاختيار والإرادة، وبالتالى فعودة رسول الله لنفس المكان الذى لقى فيه ما خشيه على نفسه، دليل قاطع على ثباته ، ورباطة جأشه، واطمئنانه ويقينه بفوزه برسالة ربه وأنه لم يشك قط ولو للحظة واحدة فى نبوته، ولا فى أن ما جاءه هو جبريل عليه السلام، ومعه وحى الله تعالى0
فكل ذلك يؤكد أن الخشية من الموت من شدة الرعب (من المفاجآت التى توالت عليه فى هذا اللقاء على ما سبق تفصيله) هو أدنى الأقوال بالصواب فى تفسير الخشية، وأسلمها من الارتياب كما قال الحافظ ابن حجر( ) وهو ما أقول به وأرجحه، بدليل سياق الحديث على ما سبق شرحه، وبدليل قوله يعد تتابع نزول الوحى عليه : "فما من مرة يوحى إلى إلا ظننت أن نفسى تقبض"( ) فهو نص صريح فى خشيته على نفسه من الموت، من شدة الوحى، وهو أحد المفاجآت التى توالت عليه فى هذا اللقاء0
كما لا يمنع أن تكون خشيته على نفسه من الموت على أيدى كفار قريش، إذا بلغهم رسالة ربه عز وجل، ويشهد لصحة هذا قوله : "…وإن الله أمرنى أن أحرق قريشاً. فقلت رب! إذا يثلغوا رأسى فيدعوه خبزه. قال : استخرجهم كما استخرجوك"( )0
إن خوف رسول الله على نفسه من الموت من شدة الرعب، وشدة نزول الوحى عليه، ومن أن يقتله قومه، جعله يرجع بما حملت نفسه الكريمة من آثار ذلك كله، إلى بيته، وزوجته الأمينة، وزيرة الصدق، ومأنس الوفاء، يبدى لها ما تعرض له فى غار حراء، من محن وشدائد تذيب رواسى الجبال، فكان من فراستها ورجاحة عقلها، أن أقسمت على أن الله تعالى لن يخزيه، وأكدت ذلك بلفظ التأبيد (كلا والله ما يخزيك الله أبداً) واستدلت على ما أقسمت عليه بأمر استقرائى، فوصفته بأصول مكارم الأخلاق (إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق)0
خامساً : بقى الجواب عن ما يزعمه أعداء السنة المطهرة من استنكار لتخفيف الزوجة على زوجها، إذا ألمت به محنة وشدة، وكذلك استنكار لطلب عين اليقين0
إذ زعموا أن فى إخبار رسول الله لزوجته ما حدث له، ثم ذهابهم إلى ورقة بن نوفل، منقصة لرسول الله ، ودليل فى زعمهم على ارتيابه فى نبوته، ومنقبة لزوجته خديجة وورقة وأنهما أحق بالنبوة منه( ) وهذا لعمرى لمنطق معكوس إذ كيف ينكر عاقل دور الزوجة عامة فى تخفيف الآلام عن زوجها، وخاصة دور خديجة العظيم فى تخفيف آلام رسول الله منذ أول يوم أرسل إليه فيه، حتى تتابعت على رسول الله المصائب بموتها وموت عمه أبو طالب، ونالت قريش من أذيته ما لم تكن تطمع به فى حياتهما( ) وما ذلك إلا لأن مواقفها من رسول الله ، من أشرف المواقف التى تحمد لامرأة فى الأولين والآخرين0
ويدل على ذلك ما روى عن عائشة رضى الله عنها قالت : "كان رسول الله لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة، فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوماً من الأيام، فأدركتنى الغيرة، فقلت : هل كانت إلا عجوزاً، فقد أبدلك الله خيرا منها، فغضب، حتى اهتز مقدم شعره من الغضب، ثم قال : "لا والله ما أبدلنى الله خيراً منها، آمنت بى إذ كفر الناس، وصدقتنى إذ كذبنى الناس، وواستنى بمالها إذ حرمنى الناس، ورزقنى الله منها أولاداً إذ حرمنى أولاد النساء" قالت عائشة : فقلت فى نفسى، لا أذكرها بسيئة أبداً"( )0
وأصل الحديث فى الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها قالت : "ما غرت على أحد من نساء النبى ما غرت على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبى يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة، ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها فى صدائق خديجة، فربما قلت له : كأنه لم يكن فى الدنيا امرأة إلا خديجة؟! فيقول : "إنها كانت وكانت، وكان لى منها ولد" وفى رواية مسلم : "إنى قد رزقت حبها"( )0
فتأمل قوله : "لا والله ما أبدلنى الله خيراً منها، آمنت بى إذ كفر الناس.. إلخ إنها كلمات من جوامع الكلم تبين عظيم دورها فى تخفيف آلام الدعوة وشدائدها عن رسول الله ، كما أن فى الحديث بيان لعظم فضلها، وإلى أى مدى عرف لها النبى قدرها ومنزلتها فى حياتها، وحفظ لها ودها وعهدها بعد وفاتها، فرضى الله عنها وأرضاها، وجزاها بفضله وكرمه عن دينه ونبيه، خير وأوفر الجزاء0
وإذا كان دورها فى الدعوة الإسلامية لا ينكره عاقل، فلا وجه لاستنكار أعداء السنة المطهرة، تخفيفها عن رسول الله بعد عودته من غار حراء ولاسيما ورسول الله ، عاد إليها وعليه آثار الروع والمشقة، رأتها على وجهه وجسده الشريف، كما كان يراها فيما بعد صحابة رسول الله ، على ما ورد فى حالات نزول الوحى عليه0
وليس فى روايات الحديث ما يحاول زعمه أعداء السنة والسيرة العطرة، من أن رسول الله اشتكى لخديجة (شكوى من يرتاب فى نبوته ورسالته والعياذ بالله)0
وإنما إذا صح التعبير أن يكون من رسول الله شكوى، فهى شكوى من زوج لزوجته، يريد أن يخفف عنه ما لاقاه من رعب وفزع وشدة فى هذا اللقاء الذى عاد منه إلى بيته، ولا تزال آثاره على سائر جسده الذى يرجف مما جعله يقول : "زملونى، زملونى" أو "دثرونى، دثرونى" والمعنى واحد، وكأنه يقول : غطونى بما أدفأ به حتى يذهب عنى أثر الرعب والرجفة عن سائر جسدى( ) تقول أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها "فزملوه حتى ذهب عنه الروع" وهو بفتح الراء أى الفزع، وأما الذى بضم الراء فهو موضع الفزع من القلب( )0
وتأمل ما جاء فى الحديث من قوله : "يا خديجة مالى؟" وهو استفهام تعجبى، أى : أى شئ ثبت لى، حتى حصل ما حصل، وأخبرها الخبر، وما عانى فيه، حتى ظن أن نفسه تقبض من شدة الفزع والرعب، من هول المفاجأة، ومن معاناة نزول الوحى عليه، وهو ما عبر عنه بقوله : "لقد خشيت على نفسى"0
فأين الشكوى التى يزعمها أعداء السيرة العطرة؟ وإذا كانت شكوى فأين ما فيها مما يفيد فى زعمهم أنه شك وارتاب فى نبوته؟ إنه مجرد "إخبار من زوج لزوجته لموقف شديد حدث له يريد أن تخفف عنه آثاره! فأى استنكار فى ذلك؟!0
وقد أدت الزوجة خديجة رضى الله عنها دورها باطمئنان زوجها والتخفيف عنه بأعظم الكلمات على ما سبق شرحه قريباً0
وأرادت أن تزداد يقيناً فانطلقت به إلى ورقة بن نوفل ابن عمها وكان امرءاً تنصر فى الجاهلية، واشتهر عنه فى مكة من العلم بما فى التوراة والإنجيل، وتباشير الأحبار والرهبان، بما جاء فى الكتابين من أوصاف نبى آخر الزمان، وأن وقته قد أظل، فلما أخبره بما رأى، قال ورقة (هذا الناموس الذى أنزل على موسى) وتمنى ورقة أن يعيش حتى يدرك انتشار الإسلام، ليكون جندياً من جنود الله، يجاهد فى ظل لواء النبى فى سبيل إعلاء كلمة الله ولكنه أدركته منيته، فلم يلبث بعد بعث النبى إلا قليلاً، ثم توفى، وفتر الوحى، هذا كل ما تفيده قصة ذهابه وزوجته إلى ورقة بن نوفل0
فهل فيها ما يزعمه الخصوم من ارتياب رسول الله فى نبوته؟!0
وأنى لهم هذا الزعم، وكل ما فى الحديث أن ورقة، سأل رسول الله ، عما رأى قائلاً: "يا ابن أخى ماذا ترى؟" فأخبره خبر ما رأى" إذن لم يسأله ورقة عما يشك فيه؛ ولم يقل له رسول الله إنى أشك فى كذا، وإنما كل ما فى الأمر، سؤال عما حدث له، وإخبار منه لهذا الحدث0
وما كان من جواب ورقة لرسول الله إلا بيان بأن ما رآه هو أمين وحى الله تعالى الذى أنزل على موسى عليه السلام، وهنا ازداد رسول الله نوراً إلى نور يقينه، لما يعلمه من مكانه ورقة فى العلم والمعرفة بما فى التوراة والإنجيل من المبشرات ببعث رسول الله قد أظل الحياة مخرجه0
فهل فى طلب عين اليقين استنكار؟! لاسيما وأن النبوة، من المغيبات تبقى فيها أمور تتردد النفس فى تفاصيلها، ولا يكون هذا التردد فى المتعلقات التى لا تدخل فى الإيمان، ألا ترى إلى قوله تعالى فى سؤال إبراهيم عليه السلام عن كيفية إحيائه عز وجل للموتى أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبى( ) أى الإيمان حاصل بالمرة، ولكن إحيائك غيب، فأريد أن أرى الغائب شاهداً لأزيل به ما يبقى فى الغيب، وسماه طمأنينة، وبالتالى سؤاله عليه السلام لم يخالف إيمانه، بل أكده0
وكذلك الحال مع ذهاب رسول الله إلى ورقة، كل ما فيه طلب عين اليقين؛ ولا يعنى ذهابه أنه شك فى نبوته عما يزعم الرافضة، بدليل أن رسول الله لم يعقب على كلام ورقة إلا بقوله : "أو مخرجى هم؟" ولم يعقب على قوله "هذا الناموس الذى أنزل على موسى" لأنه كان على يقين بأنه مَلَك من عند ربه عز وجل، نزل عليه بوحى الله تعالى، فلم يزده هذا الجواب إلا يقيناً على يقينه، وإلا لو كان فى شك – لجاء – ما يشير إلى ذلك، تعقيباً واستفسار منه لورقة، وإنما لم يعقب ولم يستفسر عن ذلك ليقينه بذلك، وإنما جاء التعقيب والاستفسار على قول ورقة "ليتنى أكون حياً إذ يخرجك قومك" ففى هذا الكلام شئ جديد على رسول الله ، فيستفسر "أو مخرجى هم" وكأنه عليه الصلاة والسلام يقول : كيف يخرجونى، وأنا جئت لإخراجهم من الظلمات إلى النور، وكيف يخرجونى من حرم الله، وجوار بيته، وبلدة آبائى من عهد إسماعيل عليه السلام؟0
فيأتى الجواب من ورقة : نعم! أى هم مخرجوك، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودى، وإن يدركنى يومك أنصرك نصراً مؤزراً0
ولعل حكمة المولى عز وجل اقتضت أن تكون ما أخذت رسول الله من المخافة، وما غشيته من الخشية والرهبة كلها ألقيت عليه تكويناً، ليرجع إلى من جعلها الله عز وجل سكناً، وترجع به إلى ورقة، فيشيع خبر نبوته من قبلهم… ويصير بهذا الطريق دليلاً محكماً على أن محمداً نبى صادق، حتى شهد به شاهد من أهله، (خديجة) وشهد به ورقة الذى كان يعرف حال الأنبياء، ليكون حجة على أهل الكتاب، وعلى المشركين الذين يقدرون علم ومكانه ورقة بالمبشرات0
وهكذا يقدر المولى عز وجل لأنبيائه ورسله أموراً، ويلقيها عليهم تكويناً لمصالح لا يعلمها إلا هو( ) أهـ0
والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم
=======
المطلب الثالث
شبهة الطاعنين فى حديث "نحن أحق بالشك من إبراهيم"
والرد عليها
روى البخارى ومسلم من حديث أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله قال : "نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال : رب أرنى كيف تحى الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبى( )0
هذا الحديث طعن فيه أعداء السنة والسيرة قديماً من أهل الأهواء والبدع، وزعموا أن فيه طعناً فى عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام( ) وتابعهم حديثاً أذيالهم إذا يقول عبد الحسين شرف الدين الموسوى : "إن الظاهر من قوله : "نحن أحق بالشك من إبراهيم" ثبوت الشك لرسول الله ، ولسائر الأنبياء، وأنهم جميعاً أولى به من إبراهيم، ولو فرض عدم إرادة الأنبياء جميعاً فإرادة رسول الله مما لابد منها…، والحديث نص صريح فى أنه أولى بالشك"( )0
ويجاب عن ما سبق بما يلى :
أولاً : إجماع الأمة على عصمة أنبياء الله عز وجل ورسله، من الكفر والشرك، والشك، ومن تسلط الشيطان عليهم، وأن تلك العصمة صفة أساسية فيهم، وشرطاً ضرورياً من شروط الرسالة، كما أنها جزء من الكمال البشرى الذى كملهم الله عز وجل به، حتى يبلغوا رسالة ربهم إلى أقوامهم، وقد سبق تفصيل ذلك فى حقه من خلال القرآن والسنة( )0
ثانياً : اتفاق علماء المسلمين على أن ظاهر الشك فى قوله : "نحن أحق بالشك من إبراهيم" ليس مراداً، كما أنه ليس فى ظاهر هذا القول اعتراف بالشك، بل نفيه عن نفسه ، وعن إبراهيم وسائر أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، إذ ما يجوز فى حق واحد منهم يجور فى حق الجميع0
يقول الحافظ ابن كثير : قوله : "نحن أحق بالشك من إبراهيم" ليس المراد هاهنا بالشك ما قد يفهمه من لا علم عنده، بلا خلاف( )0
وقال الإمام على القارى( ) : "ليس فى قوله : "نحن أحق بالشك من إبراهيم" اعترافاً منه بالشك لهما، بل نفى لأن يكون إبراهيم عليه السلام شك"( )0
ثالثاً : إن سبب قوله "نحن أحق بالشك من إبراهيم" على ما جاء فى الحديث ما ذكره من قوله تعالى على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام : رب أرنى كيف تحى الموت قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبى( ) وهذه الآية وما بعدها قد يسبق إلى بعض الأذهان الفاسدة منها احتمال الشك، فأراد نفى هذا الشك عن سيدنا إبراهيم، وإبعاد للخواطر الضعيفة أن تظن هذا به عليه السلام0
ويؤكد ذلك أنه ليس فى سؤال سيدنا إبراهيم عليه السلام ما يدل على أنه شك، إذ السؤال وقع بـ "كيف" الدالة على حال شئ موجود مقرر عند السائل والمسئول، كما تقول : كيف علم فلان؟ فكيف فى الآية، سؤال عن هيئة الإحياء، لا عن نفس الإحياء، فإنه ثابت مقرر لدى سيدنا إبراهيم عليه السلام( ) وهو ما شهد به رب العزة لسيدنا إبراهيم رداً على سؤاله، بقوله عز وجل: "أولم تؤمن" والاستفهام هنا تقريرى للمنفى، وهو الشك، كأنه قال له : ألست مؤمناً بالبعث؟ فكان جوابه عليه السلام بـ "بلى" لإثبات المنفى وهو الشك، والمعنى : أنا مؤمن بالبعث كما علمت ما فى قلبى، لكننى أريد أن يطمئن قلبى برؤية الكيفية فقط، واعتبر بذلك0
فما شك إبراهيم عليه السلام، ولم يكن لديه أى شبهة فى قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، إذ لم يقل لله تعالى : أتستطيع أن تحى الموتى؟ وإنما أراد أن يرى الهيئة، كما أننا لا نشك فى وجود الفيل، والتمساح، والكسوف، وزيادة النهر، ورسول الله ، ثم يرغب من لم يرى ذلك منا، فى أن يرى كل ذلك، ولا يشك فى أنه حق، لكن ليرى العجب الذى يتمثله فى نفسه، ولم تقع عليه حاسة بصره قط( )0
فواضح فى السؤال والجواب، أنه عليه السلام، لم يسأل لشك أو شبهة أو تردد وهذا ظاهر من سؤاله، إذ لم يقل لله تعالى : "هل تقدر أن تحى الموتى، أم لا تقدر؟0
وهذا يشبه قولك لرسام كبير : دعنى أنظر إليك وأنت ترسم لوحة، أو لخطاط فنان : خط أمامى لكى أرى كيف تخط مثل هذه الخطوط الجميلة0
فليس فى مثل هذا الطلب أى ناحية تعجيزية، بل هو تعبير عن الافتنان بفنه الجميل، واعتراف به، ولهفة على رؤية دقائق فنه، وسعادة كبيرة فى تأمل كيفية ظهور لوحة رائعة، مرحلة مرحلة. أجل : فالسؤال كان حول كيفية الإحياء، وليس حول إمكانيته أو عدم إمكانيته"( )0
قلت : وكيف يشك من وصفه ربه عز وجل فى كتابه بقوله تعالى : ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين( ) وقوله سبحانه : وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين( ) والرشد، والإيقان، اسمى مراتب العلم الذى لا يصح معه شك أو حتى شبهة!0
وكيف يصح الشك، وقد وصفه ربه تعالى بقوله : وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم( ) فبين رب العزة كما ترى أنه جاء ربه بقلب سليم، وإنما أراد به، أنه كان سليماً من الشك، وخالصاً للمعرفة واليقين، ثم ذكر المولى عز وجل، أنه عاب قومه على عبادة الأصنام فقال تعالى : ماذا تعبدون. أإفكاً آلهة دون الله تريدون( ) فسمى عبادتهم بأنها إفك وباطل، ثم قال سبحانه : فما ظنكم برب العالمين( ) وهذا قول عارف بالله تعالى غير شاك!0
فكيف يكون قوله رب أرنى كيف تحى الموتى( ) شك فى البعث وإحياء الموتى؟!0
الحديث حجة لنا لا علينا :
ومن هنا كان قوله : "نحن أحق بالشك من إبراهيم" حجة لنا إذ فيه نفى للشك عن سيدنا إبراهيم عليه السلام، وعن نفسه ، وهذا من أحسن الأقوال وأصحها وأرجحها عندى فى معنى قوله ، "نحن أحق بالشك من إبراهيم" فكأنه يقول : إن الشك مستحيل فى حق إبراهيم عليه السلام، فإن الشك فى إحياء الموتى لو كان متطرقاً إلى الأنبياء، لكنت أنا أحق به من إبراهيم، لأن ما يجوز فى حق واحد من الأنبياء يجوز فى حقهم جميعهم، وقد علمتم أنى لم أشك، فاعلموا أن إبراهيم عليه السلام لم يشك!0
أو أراد بقوله : "نحن أحق بالشك من إبراهيم" أن يقول : إن هذا الذى تظنونه شكاً، أنا أولى به، ولكنه ليس بشك، وإنما هو طلب لمزيد اليقين0
وهذا الكلام مما جرت به العادة فى المخاطبة، لمن أراد أن يدفع عن آخر شيئاً، قال : مهما أردت أن تقوله لفلان فقله لى، ومقصوده لا تقل ذلك0
وإنما خص إبراهيم عليه السلام، لكون الآية قد يسبق إلى بعض الأذهان الفاسدة، منها احتمال الشك، وإنما رجح إبراهيم عليه السلام على نفسه ، تواضعاً وأدباً، أو قبل أن يعلم أنه خير وسيد ولد آدم عليه السلام( )0
هذا : وقيل غير ذلك من الأقوال فى توجيه قوله : "نحن أحق بالشك من إبراهيم" لكنها أقوال ضعيفة( ) ومن هنا اقتصرت على ذكر ما سبق منها، لكونها أصحها، وأوضحها، وأرجحها أهـ.
والله تعالى أعلى وأعلم
المطلب الرابع
شبهة الطاعنين فى حديث "سحر رسول الله " والرد عليها
روى البخارى ومسلم : عن عائشة رضى الله عنها قالت : "سحر رسول الله يهودى من يهود بنى زُريق، يقال له : لبيد بن الأعصم( ) قالت : حتى كان رسول الله ، يخيل إليه أنه يفعل الشئ وما يفعله، حتى إذا كان ذات يوم، أو ذات ليلة، دعا رسول الله ، ثم دعا. ثم دعا. ثم قال : يا عائشة! أَشَعَرْتِ أن الله أفتانى فيما استفتيته فيه؟ جاءنى رجلان( ) فقعد أحدهما عند رأسى، والآخر عند رجلى، فقال الذى عند رأسى، للذى عند رجلى، أو الذى عند رجلى، للذى عند رأسى : ما وجع الرجل؟ قال : مطبوب( ) قال : من طبه؟ قال : لبيد بن الأعصم قال فى أى شئ؟ قال فى مشط( ) ومشاطة( ) قال : وجب( ) طلعة ذكر، قال : فأين هو؟ قال : فى بئر ذى أروان( ) قالت : فأتاها رسول الله فى أناس من أصحابه، ثم قال : يا عائشة! والله! لكأن ماءها نقاعة الحناء، ولكأن نخلها رءوس الشياطين، قالت : فقلت : يا رسول الله! أفلا أحرقته؟( ) قال : لا. أما أنا فقد عافانى الله، وكرهت أن أثير على الناس شراً، فأمرت بها فدفنت( )0
أنكر هذا الحديث بعض المبتدعة قديماً على ما حكاه عنهم غير واحد من الأئمة قال الإمام النووى : "وقد أنكر بعد المبتدعة هذا الحديث بسبب أنه يحط من مقام النبوة وشرفها، ويشكك فيها، وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع"( ) وتابع المبتدعة طعناً فى الحديث أذيالهم من الرافضة، ودعاة اللادينية0
يقول أحمد صبحى منصور : "اتهام الرسول بالسحر أو بأن بعضهم سحره فيه تشكيك فى الرسالة، وطعن فى الدين( ) ويفقد المصداقية فى أى قول أو فعل يصدر منه، ومنه يدخل باب الشك فى الإسلام جملة وتفصيلاً، ويتعارض مع قوله تعالى : وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً( )0
ويقول صالح الوردانى( ) : "وتأتى قضية السحر لتؤكد لنا مدى هامشية شخصية الرسول فى نظر أهل السنة، ومدى إهمال الوحى له، حتى أن بعض السحرة يسحرونه ويسيطرون عليه، فيفعل الشئ ولا يفعله، أو يتخيل فعل الشئ، وهذا يعنى أن الساحر قد هيمن على الرسول نفسياً، ومن الممكن أن يقول على لسانه ما يشاء. ومرة أخرى يطرح السؤال : أين دور الوحى…"( )0
وتأثر بتلك الطعون من علماء المسلمين الإمام محمد عبده( ) وتابعه على ذلك من سار على طريقته من علماء المسلمين، وقال بقولهم بعض أدعياء العلم0
قال الإمام محمد عبده رحمه الله : "نعلم أن البخارى أصدق كتاب بعد كتاب الله، وأنا لا أشك أن البخارى سمع هذا من أساتذته، والبخارى يشترط فى أحاديثه المعاصرة واللقاء، إلا أننى أرى أن هذا لم يحدث مع النبى ، وإن كان قد دس من الإسرائيليات إلى مشايخ البخارى الذين أخذ منهم، وإلا فإننا إن قد صدقنا أن النبى ، قد سحر فقد صدقنا كلام الظالمين الذى حكاه القرآن عنهم، وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحورا( ) وإن صدقنا أن النبى قد سحر، فقد كذبنا الله سبحانه وتعالى القائل فى كتابه الحكيم : إنهم عن السمع لمعزولون( ) وقال عز وجل : فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصدا( ) ثم قال : وأما الحديث على فرض صحته فهو آحاد، والآحاد لا يؤخذ بها فى باب العقائد، وعصمة النبى من تأثير السحر فى عقله عقيدة من العقائد، لا يؤخذ فى نفيها عنه إلا باليقين، ولا يجوز أن يؤخذ فيها بالظن المظنون على أى حال، فلنا بل علينا أن نفوض الأمر فى الحديث، ولا نحكمه فى عقيدتنا، ونأخذ بنص الكتاب، وبدليل العقل، فإنه إذا خولط النبى فى عقله – كما زعموا – جاز عليه أن يظن أنه بلغ شيئاً، وهو لم يبلغه، أو أن شيئاً نزل عليه، وهو لم ينزل عليه، والأمر هنا ظاهر لا يحتاج إلى بيان. ثم ختم كلامه قائلاً : أحب أن أكذب البخارى، من أن أنسب إلى رسول الله ، أنه سحر"( )0
ويجاب عن الشبه السابقة بما يلى :
أولاً : إن الحديث صحيح، وثابت بأصح الأسانيد فى أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل فقد رواه الشيخان فى صحيحهما، ولا يصح لنا أن نقول بصدق البخارى ثم نكذب شيوخه، فإن ما يجرى على شيوخه، يجرى عليه، ولا يصح لنا أن نكذب البخارى وروايته، اعتماداً على رأى ليس له من حظ فى توثيق الأخبار، وإقرار الحقائق من قريب أو بعيد، ولو أننا سلمنا جدلاً بصدق معطيات العقل، لأتينا على كثير من السنة، بل وعلى كثير من آيات القرآن الكريم نفسه( )0
ثانياً : قول الإسناد الإمام : بأن الحديث على فرض صحته فهو آحاد، والآحاد لا يؤخذ بها فى باب العقائد، لأنها لا تفيد إلا الظن، قول غير صحيح، لأن الحق الذى ترجحه الأدلة الصحيحة، أن الحديث الصحيح، مقطوع بصحته، ويفيد العلم اليقينى النظرى، سواء كان فى أحد الصحيحين أم فى غيرهما، وهذا العلم اليقينى نظرى برهانى، لا يحصل إلا للعالم المتجر فى الحديث العارف بأحوال الرواة والعلل، المميز بين صحيحه وسقيمه، وغثه وثمينه، وأصيله ودخيله، أما من ليس من أهل هذا الشأن، فإن هذه القرائن ولو كثرت، لا تفيدهم علماً، فمثلهم لا يعتد به فى هذا المقام، ولا تبنى عليه هنا الأحكام( )0
هذا مع العلم بأن التفرقة بين العقائد والأحكام فى العمل بخبر الواحد، لا تعرف عن أحد من الصحابة، ولا عن أحد من التابعين، ولا من تابعهم، ولا عن أحد من أئمة الإسلام، وإنما تعرف عن رءوس أهل البدع ومن تبعهم0
يقول الإمام ابن دحية( ) : "وعلى قبول خبر الواحد الصحابة والتابعون وفقهاء المسلمين، وجماعة أهل السنة، يؤمنون بخبر الواحد، ويدينون به فى الاعتقادات"( )0
ثالثاً : قول الأستاذ الإمام عن حديث السحر : وعلى أى حال، فلنا بل علينا أن نفوض الأمر فى الحديث، ولا نحكمه فى عقيدتنا، ونأخذ بنص الكتاب، وبدليل العقل. فهذا كلام خطير جداً يفتح ثغرة ضد الثابت الصحيح من السنة، كما يفتح مجالاً لقالة السوء فى الصدام بين الكتاب والسنة، والأمر ليس كذلك، بينما حدد لنا رسول الله فى حديثه الصحيح : "إنى قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً كتاب الله، وسنة نبيه "( ) كما أن الأستاذ الإمام بجعله الأخذ بالكتاب، وبدليل العقل فقط، ترك فرصة للهجوم عليه، مما دفع تلميذه محمد رشيد رضا( ) إلى القول : بأن الأستاذ الإمام كان ضعيفاً فى الحديث، كما أنه وحتى الآن محل نقد من رجال السنة، مما جرهم إلى التهجم عليه، وعلى أفكاره، بينما أبان هو عن هدفه من ذلك وجعله محدداً فى قوله : "وقد قال الكثير من المقلدين الذين لا يعقلون ما هى النبوة، ولا ما يجب لها، أن الخبر بتأثير السحر فى النفس الشريفة قد صح فليزم الاعتقاد به"0
ويبدو أن الأستاذ الإمام قد أبدى بعض التراجع عن هذه الفكرة عندما قال : "ثم إن نفى السحر عنه لا يستلزم نفى السحر مطلقاً" مع أنه قد أقر سابقاً بأن السحر إما حيلة وشعوذة، وإما صناعة علمية خفية، يعرفها بعض الناس، ويجهلها الأكثرون… إلى أن قال : أن السحر يتلقى بالتعليم، ويتكرر بالعمل فهو أمر عادى قطعاً بخلاف المعجزة، ثم يجعل بعد ذلك نفى السحر بالمرة ليس بدعة، لأن الله تعالى لم يذكره ضمن آية آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير( ) ويجعل سحر سحرة فرعون ضرباً من الحيلة ويستدل بقوله تعالى : يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى( ) وما قال أنها تسعى بسحرهم0
مع أن أقوى دليل يمكن أن ترد به على الأستاذ الإمام قوله تعالى : قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم( ) فكيف غاب عن الأستاذ الإمام النظر فى هذه الآية، وكيف كان يمكن له أن يفسرها على خلاف ما هى عليه من إثبات حقيقة السحر لا كونه تخييلاً أو وهماً0
وهل يأمر رب العزة بالاستعاذة من وهم وتخيل فى قوله : ومن شر النفاثات فى العقد؟( ) وهو يعنى بالنفاثات السواحر إذا رقين ونفثن فى العقد؟( )0
أما الحديث فقد ثبت فى صحيح البخارى، وهو مرجع أساسى للسنة، فلو شككنا فى حجية الثابت فى البخارى، فكيف يقبل الناس بعد ذلك حديثاً ورد فى كتب الصحاح أو فى رواية عن غير البخارى؟!0
وما دفع الأستاذ الإمام من عاطفة تنزيه مقام النبوة أو محاولة إظهار الإسلام بمظهر لا يكون فيه موضع اتهام من أعداء الإسلام، أو محاربة السحر كخرافة، بعد أن توسع الناس فى عمل أشياء تتنافى مع عظمة الإسلام، وإنكاره لمظاهر الكهانة والسحر والشعوذة0
وهذه إن جاز أن تكون دوافع الأستاذ الإمام فلا يجوز أن تكون بحيث تصادم الثابت الصحيح، وهو الذى كثيراً ما وقف عند الثابت عن المعصوم لا يتعداه، ولا يحاول تأويله، ويسلم به تسليم معتقد لما جاء به، حيث لا مجال للعقل فيه0
ثم ما هو الدافع؛ لأن يتأثر الأستاذ الإمام بالمعتزلة فى ذلك، ويحاكى رأيهم، وهو الذى كثيراً ما نعى على التقليد والمقلدين، وكان أولى به أن يأخذ برأى الإمام ابن قيم الجوزية، عندما قال فى هذا الشأن : "وأما قولكم أن سحر الأنبياء ينافى حماية الله لهم، قيل لكم : إنه سبحانه كما يحميهم، ويصونهم، ويحفظهم، ويتولاهم، يبتليهم بما شاء من أذى الكفار لهم، ليستوجبوا كمال كرامته، وليتأسى بهم من بعدهم من أممهم، إذا أوذوا من الناس، فرأوا ما جرى على الرسل والأنبياء، صبروا، ورضوا، وتأسوا بهم"( )0
ومن أجل ذلك أثبت علماء الإسلام هذا الحديث، وأوجدوا له مخرجاً يتفق مع سلامة النسبة إليه، ومع مكانة النبوة، وعصمته ، فقالوا :
أولاً : الزعم بأن الحديث يحط من منصب النبوة، ويشكك فيها، وفى عصمة الأنبياء، وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع، هذا الذى ادعاه هؤلاء المبتدعة باطل؛ لأن الدلائل القطعية قد قامت على صدقه وصحته، وعصمته فيما يتعلق بالتبليغ، والمعجزة شاهدة بذلك، وتجويز ما قام الدليل بخلافه باطل( )0
ثانياً : أن سحر الرسول ، يرفع من مقام النبوة وشرفها، ولا يحط من شأنها، ولا يتعارض مع عصمته ، فالرسول لم يكن معصوماً من الأمراض، فلقد كان يأكل، ويشرب، ويمرض، كما قالت عائشة رضى الله عنها "إن رسول الله كان رجلاً مسقاماً،وكان أطباء العرب يأتونه فأتعلم منهم"( ) وكانت تجرى عليه كل النواميس المعتادة التى أودعها الله فى ولد آدم، وليس فى السحر على الهيئة الواردة ما ينقص من قدره وعصمته كإمام لسائر الأنبياء والمرسلين، مادام السحر على قواه البدنية( )0
قال القاضى عياض : "وقد جاءت راويات هذا الحديث مبينة أن السحر إنما تسلط على جسده، وظواهر جوارحه، لا على عقله وقلبه واعتقاده، ويكون معنى قوله فى الحديث : "حتى يظن أنه يأتى أهله ولا يأتيهن" ويروى : "يخيل إليه" بالمضارع كلها : أى يظهر له من نشاطه ومتقدم عادته القدرة عليهن، فإذا دنا منهن أخذته أخذة السحر فلم يأتهن، ولم يتمكن من ذلك كما يعترى المسحور0
قلت : وهذا مثل ما يعترى الرجل السليم قوى البدن، المحطم للأرقام القياسية فى رفع الأثقال، يظن تحطيم رقم قياسى أعلى، وعند محاولة الرفع لا يستطيع، ومثل ذلك أيضاً الإنسان فى حالة النقاهة من المرض، يظن أن به قدرة على الحركة، وعندما يهم بذلك لا تحتمله قدماه0
قال القاضى عياض : وكل ما جاء فى الروايات من أنه يخيل إليه فعل الشئ ولم يفعله ونحوه، فمحمول على التخيل بالبصر، لا لخلل تطرق إلى العقل، وليس فى ذلك ما يدخل لبساً على تبليغه أو شريعته، أو يقدح فى صدقه لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا( ) فلا مطعن لأهل الضلالة"( ) ثم إنه لم يثبت، بل ولم يرد أنه تكلم بكلمة واحدة فى أثناء مدة السحر تدل على اختلال عقله ، ولا أنه قال قولاً فكان بخلاف ما أخبر به، ومن نفى فعليه بالدليل ولا دليل( ) وكل هذا يوضح كيف أخطأ خصوم السنة والسيرة العطرة فى تفسير السحر، وأنه أثر على عقله - عصمه الله من ذلك0
ثالثاً : أن عصمة الرسول الواردة فى قوله تعالى : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس( ) العصمة هنا المراد بها عصمته من القتل، والاغتيال، والمكائد المهلكة، فضلاً عن عصمته من الغواية، والهوى، والضلال، وعدم الوقوع فى المعاصى والمنكرات، ولا يدخل فى العصمة هنا عصمته من الأمراض كما سبق أن ذكرت، بل الأنبياء جميعاً غير معصومين من المرض غير المنفر، فهم جميعاً تجرى عليهم كل النواميس المعتادة التى أودعها الله فى ولد آدم، وعلى ذلك فالآية ليست على عمومها، ولو كانت على عمومها ما استطاع أحد أن يخطئ فى حقه ، ولا أن يناله بأذى، وهاهم يخطئون فى حقه كثيراً، بوصفه بالجنون والكهانة، والسحر، وينالون منه فى المعارك بكسر رباعيته، وشج رأسه، وهذا يدل على أن الآية فى عصمته من القتل، والغواية، والضلال، ولا تعارض بينهما وبين شخص يسحره( )0
رابعاً : أن القول بأن الحديث معارض للقرآن الكريم، ويصدق المشركين فى قولهم : إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً( ) مردود بأن المشركين كانوا يقولون إن محمداً بشر، وأنه فقير، وأنه لا يعلم الغيب، فهل نكذبهم فى ذلك؟!0
ثم إننا نعلم يقيناً، أن الكفار لا يريدون بقولهم هذا، أن يثبتوا لرسول الله ما أثبته هذا الحديث، وهو أن فلاناً من اليهود سحره بضعة أيام، فأدركه شئ من التغير، وخيل إليه أنه يفعل بعض الشئ، وهو لا يفعله، ثم أن الله شفاه من ذلك، هم لا يريدون هذا، بل يريدون أن ما يصدر عن رسول الله ، إنما يصدر عن خيال وجنون، وأنه لم يوح إليه شئ، فإذا آمنا بما دل عليه الحديث لم نكن مصدقين للمشركين فى دعواهم، فمفهوم الحديث شئ، ودعواهم شئ آخر0
خامساً : زعمهم أن السحر من عمل الشياطين، وصنع النفوس الشريرة الخبيثة، أما من تحصن بعبادة الله كالأنبياء، فليس للشيطان، ولا للشريرين عليهم من سلطان، قال تعالى : إن عبادى ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين( )0
هذا الزعم مردود عليهم بما ورد فى القرآن الكريم من آيات تثبت تعرض الشيطان للأنبياء بأنواع الإفساد والإغواء، ومع ذلك عصمهم الله عز وجل بعدم تمكنه من إغوائهم، أو إلحاق ضرر بهم يضر بالدين، وتأمل قوله تعالى : فى حق سيدنا أيوب عليه السلام واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الشيطان بنصب وعذاب( ) وقوله سبحانه فى حق سيدنا آدم وزوجته : فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه( ) ومن هنا لا يلزم من وقوع السحر فى حق الأنبياء، إضلالهم وإغوائهم، فإن ذلك ظن فاسد، وتأمل قوله تعالى : قالوا يا موسى إما أن تلقى وإما أن نكون أول من ألقى. قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى. فأوجس فى نفسه خيفة موسى. قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى. وألقى ما فى يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى( ) فقد صرحت الآيات بأن سحر أولئك السحار، قد أوقع نبى الله موسى فى التخييل، حتى تغيرت أمامه الحقائق، فحسب الحبال حيات، والساكنات متحركات، وعندما أوجس فى نفسه من ذلك خيفة، كانت عصمة ربه له بالوحى إليه بعدم الخوف لأنه رسول الله حقاً، وعليه إلقاء ما فى يمينه يعنى عصاه فإذا هى تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى فتأمل ما فى الآيات من إثبات السحر للأنبياء مع عصمتهم من آثاره المضرة بدعوتهم0
وهكذا يتضح أن الحديث لا يتعارض مع أى آية من القرآن الكريم، بل آيات القرآن الكريم تؤيده نحو قوله تعالى : قل أعوذ برب الفلق. من شر ما خلق. ومن شر غاسق إذا وقب. ومن شر النفاثات فى العقد. ومن شر حاسد إذا حسد( ) فهذه السورة وسورة الناس، واللتين تسميان بالمعوذتين، نزلتا فى قصة سحره ، كما جاء من حديث ابن عباس( ) ومن حديث عائشة أيضاً ففيه من الزيادة أنه "وجد فى الطلعة تمثالاً من شمع، تمثال رسول الله وإذا فيه إبر مغروزة، وإذا وتر فيه إحدى عشرة عقدة، فنزل جبريل بالمعوذتين، فكلما قرأ آية انحلت عقدة، وكلما نزع إبرة وجد لها ألماً، ثم يجد بعدها راحة"( ) حتى قام رسول الله ، كأنما نشط من عقال، أى من حبل كان مربوطاً به0
وهنا قد يرد سؤال : إذا كانت عصمة الله وعنايته أحاطت رسول الله فلم أثر فيه السحر؟0
والجواب : لتتعلم الأمة كيف تعالج نفسها من السحر، إذا وقع لواحد من أبنائها شئ من السحر، وهو علاج من أربعة أمور وردت فى الحديث :
الأول : الصبر على البلاء، ابتغاء الأجر والمثوبة الواردة فى قوله : "ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة فى نفسه، وولده، وماله، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة"( ) وكذلك الأنبياء يبتلون ابتغاء أجر البلاء وهو فى حقهم لرفعة درجاتهم، وإظهاراً لشرفهم، كما قال عز وجل: ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم( ) وفى الحديث عن سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه قال : قلت : يا رسول الله! أى الناس أشد بلاءاً قال : الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان فى دينه رقة ابتلى على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد، حتى يتركه يمشى على الأرض وما عليه خطيئة"( ) ومن هنا صبر رسول الله على سحره يحتسب أجر ذلك عند الله تعالى0
الثانى : كثرة الدعاء، ففى الحديث الذى معنا صبر فترة، ثم دعا، ودعا، ودعا. وفى هذا تعليم للأمة، أنه للمبتلى منها عليه بكثرة الدعاء، فإنه ببركة الدعاء، يفرج الله عنه ما هو فيه، قال تعالى : وقال ربكم ادعونى أستجب لكم( ) وقال : "لا يرد القضاء إلا الدعاء"( )0
الثالث : الرقية، وذلك بقراءة سورتى قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس( ) ففى بعض روايات هذا الحديث على ما سبق قريباً أنه ، رقى بهاتين السورتين، وكلما رقى بآية انحلت عقدة، حتى انحلت العقد كلها، وشفى بفضل الله تماماً0
وفى سورتى الفلق والناس واللتين تسميان بالمعوذتين، فيهما يقول : "ما سأل سائل بمثلهما، ولا استعاذ مستعيذ بمثلهما"( )0
الرابع : النشرة( ) وهى مباحة، وهذه الإباحة مستفادة من قول عائشة رضى الله عنها : "هلا تنشرت" ولم ينكر عليها قولها0
وذكر الإمام البخارى عن سعيد بن المسيب( ) بأنه سئل عن النشرة للذى يؤخذ عن أهله، فقال : لا بأس! لم ينه عن الصلاح، إنما نهى عن الفساد، ومن استطاع ان ينفع أخاه فليفعل( )0
ومن الناس من كره النشرة على العموم، ونزع بحديث خرجه أبو داود مرفوعاً "هو من عمل الشيطان"( )0
قال الحافظ ابن حجر : "ويجاب عن الحديث، بأنه إشارة إلى أصلها، ويختلف الحكم بالقصد، فمن قصد بها خيراً كان خيراً، وإلا فهو شر"( ) وقال الإمام السهيلى : النشرة من عمل الشيطان، هذا والله أعلم فى النشرة التى فيها الخواتم والعزائم، وما لا يفهم من الأسماء العجمية( )0
وبعد : فإن حديث سحر رسول الله ، لا يتعارض مع عصمته ولا يشكك فى النبوة، كما أنه لا يمثل ثغره فى السنة والسيرة العطرة، وإنما يمثل نقطة مشرقة، إنه سحر، لكنه لم يخرج عن دائرة الصواب، بل كان فى أعلى درجات الاستقامة والهداية، وهذا يدل على أن السحر لم يؤثر فى قواه العقلية، ولا فى درجته الإيمانية، وإنما كان مؤثراً فى أداء الجسم، وهذا لا علاقة له بالرسالة والوحى، والعصمة، ومع أنه أمر جسدى، فإن الرعاية الإلهية قد شملته، وتولاه الله بالحفظ، وسلمه سبحانه وشفاه، بعد أن أطلعه عز وجل على المكيدة التى صنعها له لبيد بن الأعصم فى السحر، فذهب إلى حيث قد طوى الرجل أمشاطه، وأسباب سحره، فأبطل كل ذلك0
وهكذا فأنت ترى أن هذا الحديث دليل إكرام وعصمة من الله عز وجل لرسوله أكثر من كونه دليل أذى قد أصابه فى جسمه، أو أى جانب يتعلق ببشريته( ) أهـ.
والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم
المطلب الخامس
شبهة الطاعنين فى حديث "أَهَجَرَ"
والرد عليها"
روى البخارى ومسلم وغيرهما من حديث ابن عباس رضى الله عنهما قال : "لما حضر رسول الله ، وفى البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، فقال النبى : "هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده" فقال عمر : إن رسول الله قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت فاختصموا، فمنهم من يقول : قربوا يكتب لكم رسول الله كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول : ما قال عمر. فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند رسول الله ، قال عليه الصلاة والسلام : قوموا، وكان ابن عباس يقول : إنا الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله ، وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب، من اختلافهم ولغطهم"( )0
هذا الحديث طعن فيه الرافضة، بما جاء فى بعض رواياته من قول بعض الحاضرين "أهجر" وزعموا كذباً نسبة هذه اللفظة إلى سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وأنه بقوله "أهجر" ورفعه شعار "حسبنا كتاب الله" تجاوز حد الأدب مع رسول الله ، وطعن فى شخصه الكريم، واتهامه بالتخريف والهذيان، كما زعموا أن تبرير الفقهاء لموقف عمر تشويه لرسول الله ، وحط من قدره وشخصه، ومكانته العالية، ومساس بعصمته ورسالته( )0
يقول : أحمد حسين يعقوب( ) : "أول من اتهم رسول الله بالهجر، ورفع بوجهه شعار "حسبنا كتاب الله" هو عمر بن الخطاب، حيث حضر هو وثلة من حزبه ليطمئنوا على الوضع الصحى لرسول الله، ومن المؤكد أن شخصاً ما أخبر عمر بأن الرسول سوف يكتب وصية تلك الليلة، فأحضر عمر عدداً كبيراً من حزبه ليحول بين الرسول، وبين كتابة وصيته كما أقر عمر بذلك. وما أن قال الرسول : "قربوا كتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً" حتى تصدى له عمر بن الخطاب، فقال فوراً دون أن يسأل عن مضمون الكتاب : "حسبنا كتاب الله، إن رسول الله قد هجر" وبدون تروى صاح الحاضرون من حزب عمر فقالوا : القول ما قاله عمر!! إن رسول الله يهجر، واستغرب الحاضرون من غير حزب عمر، وصعقوا من هول ما سمعوا، فقال عفوياً : قربوا يكتب لكم رسول الله، وكان الحاضرون من حزب عمر يشكلون الأكثرية، لأنهم أعدوا للأمر عدته فصاح عمر وأعوانه : "حسبنا كتاب الله إن الرسول يهجر" واختلف الفريقان وتنازعوا، وصدم عمر وحزبه خاطر النبى، فقال النبى للجميع : "قوموا عنى، ولا ينبغى عندى التنازع، وما أنا فيه خير مما تدعونى إليه" ولقد أصاب ابن عباس عندما سمى ذلك اليوم بيوم الرزية!!!" ( )0
ويجاب عن الشبهات السابقة بما يلى :
أولاً : نسبة القول بـ "أَهَجَر" إلى الفاروق عمر بن الخطاب، لا دليل عليه، إذ جميع روايات هذا الحديث تنفى هذه الكلمة إلى عمر رضى الله عنه. وإنما الذى جاء على لسان عمر فى جميع الروايات : قال ابن عباس : "فقال عمر : إن رسول الله قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله"( )0
أما لفظ "أَهَجَر" فجاءت جميع الروايات بنسبتها إلى بعض الحاضرين فى بيت رسول الله دون تحديد لأشخاصهم، قال ابن عباس : "فقالوا ما شأنه؟ أهجر! استفهموه"( )0
فأين إذن ما يزعمه الرافضة من نسبة هذه الكلمة إلى سيدنا عمر رضى الله عنه؟0
إنه لا وجود لهذه النسبة إلا فى أذهانهم المريضة، وقلوبهم الممتلئة حقداً على صحابة رسول الله !!0
ثانياً : ليس فى كلمة "أهجر" ما يعارض عصمة رسول الله فى عقله، وفى الوحى وتبليغ الرسالة، حال صحته، وحال مرضه يبين ذلك ضبط الكلمة المبين حقيقة المراد منها وهو سلب الهجر لا إثباته، وحاصل هذا الضبط فيما يلى :
أ- إثبات همزة الاستفهام، وبفتحات عليها، "أَهَجَرَ" على أنه فعل ماض، والكلمة فى هذه الحالة، على سبيل الاستفهام الإنكارى على من توقف فى امتثال أمره ، بإحضار الكتف والدواة. فكأن قائلها قال : كيف تتوقف فى امتثال أمره ، أتظن أنه كغيره يقول الهذيان فى مرضه، امتثل أمره، وأحضره ما طلب فإنه لا يقول إلا الحق0
وهذا الضبط والمراد به، هو أحسن الأجوبة، وأرجحها عند الحافظ ابن حجر، والقرطبى فى توجيه هذه الكلمة( ) وهو ما أرجحه أيضاً0
ب- وضبطها بعضهم : "أهُجْراً" بضم الهاء، وسكون الجيم، والتنوين والكلمة فى هذه الحالة راجعة إلى المختلفين عند رسول الله وقائلها خاطبهم بها، والمراد : جئتم باختلافكم عند رسول الله ، وبين يديه هجراً ومنكراً من القول( )0
وهذا الضبط الثانى والمراد به، تثبته الروايات، وما جاء فيها من كثرة لغطهم ولغوهم0
ثالثاً : اتفق العلماء على أنه لا يصح أن تكون هذه الكلمة "أهجر" إخباراً، لأن الهجر بالضم، ثم السكون، من الفحش أو الهذيان، والمراد به هنا : ما يقع من كلام المريض الذى لا ينتظم، ولا يعتد به لعدم فائدته( ). ووقوع ذلك من النبى مستحيل فى حقه، لأنه معصوم فى صحته ومرضه، لقوله تعالى : وما ينطق عن الهوى( ) ولقوله : "فوالذى نفسى بيده ما يخرج منه (أى من فمه الشريف فى حال غضبه، ورضاه، وكذا صحته ومرضه)، إلا حق"( )0
وعلى هذا لا يصح ظاهر رواية من روى فى الحديث "هجر" أو "يهجر"( ) وهى محمولة عند أهل العلم على وجهين :
الوجه الأول : حذف ألف الاستفهام، والتقدير أهجر؟0
ويؤيد صحة هذا الحمل، أنه لو احتمل من بعض الصحابة أنه قال تلك الكلمة، إخباراً عن حال رسول الله ، أو عن شك عرض له فى عصمة رسول الله حال مرضه، لوجد من ينكره عليه من كبار الصحابة، بل من رسول الله نفسه رداً عن عصمته، ولو ثبت الإنكار من الصحابة أو الرسول، لنقل إلينا، ولا نقل! وهو ما يؤكد صحة هذا المحمل0
الوجه الثانى : فى المراد بظاهر رواية "هجر" و"يهجر" هو حملها على ما جاء فى الرواية الثانية من قول الفاروق عمر : "إن رسول الله قد غلبه الوجع" ويكون قائل "هجر" أو "يهجر" لم يضبط لفظه، وأجرى الهجر، مجرى شدة الوجع، لأنه ينشأ منه، لا أنه اعتقد أنه يجوز عليه الهجر، وإلا وجد من ينكر عليه كما سبق0
هذا وقيل غير ذلك من الأقوال فى توجيه كلمة "هجر" و"يهجر" فاقتصرت على ما سبق لكونه أرجح عندى من غيره( )0
وعلى ما سبق فليس فى قول القائل "أَهَجَر" أياً كان قائلها، كما أنه ليس فى قول عمر رضى الله عنه : "إن رسول الله قد غلبه الوجع" ما يتعارض مع عصمة رسول الله ، ولا ما يشوه شخصيته، ويحط من قدره كما يزعم الرافضة! لأن قائل "أهجر" أو "أهجراً" كان القول منه سلباً للهجر لا إثباته، وإنكاراً منه على من توقف فى امتثال أمره ، وإنكاراً أيضاً على المختلفين بين يديه ، وما أحدثوه بحضرته من لغط ولغو. ولو حملت الكلمة من قائلها، على الإخبار بحاله عليه الصلاة والسلام لوجد من ينكر على قائلها، وعلى رأسهم رسول الله ينكر ذلك، ولنقل إلينا، ولا نقل! مما يؤكد أن قائل "أهجر" قصد بها سلب الهجر عن رسول الله ، لا إثباته كما يزعم الرافضة!0
رابعاً : اتفق قول العلماء – سوى الرافضة – على أن قول عمر "إن رسول الله، قد غلبه الوجع، عندكم القرآن، حسبنا كتاب الله" رد على من نازعه، لا على أمر النبى 0
كما أن العلماء عدو قوله : من قوة فقهه، ودقيق نظره، ومن موافقاته للوحى، قصد منه التخفيف عن رسول الله ، حين رآه قد غلب عليه الوجع، وشدة الكرب، وقامت عنده قرينه بأن الذى أراد كتابته، ليس مما لا يستغنون عنه، إذ لو كان من هذا القبيل، لم يتركه عليه الصلاة والسلام، لأجل اختلافهم ولغطهم، لقوله تعالى : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس( )0
كما لم يترك تبليغ غيره بمخالفة من خالفه، ومعاداة من عاداه، وفى تركه عليه الصلاة والسلام، الإنكار على عمر إشارة إلى تصويبه رأيه( )0
قلت : وهذا عندى من أقوى ما يتمسك به فى الرد على الرافضة ومن قال بقولهم، لأن ترك رسول الله الإنكار على عمر، هو إقرار منه بتصويب رأيه، ويأخذ هذا الإقرار حكم المرفوع المسند0
ويؤيد صحة ما سبق، من صحة رأى عمر، وأن أمره بالكتابة لم يكن على سبيل الوجوب، ما جاء فى نفس الحديث من وصيته عليه الصلاة والسلام بثلاث قال : "اخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم( ) وسكت عن الثالثة أو قال الراوى : فنسيتها"( )0
فهذا يدل على أن الذى أراد أن يكتبه ، لم يكن أمراً متحتماً، لأنه لو كان مما أمر بتبليغه، لم يكن يتركه لوقوع اختلافهم، ولعاقب الله عز وجل، من حال بينه وبين تبليغه، ولبلغه لهم لفظاً، كما أوصاهم بإخراج المشركين وغير ذلك0
وقد عاش عليه الصلاة والسلام بعد هذه المقالة أياماً، وحفظوا عنه أشياء لفظاً، فيحتمل أن مجموعها ما أراد أن يكتبه ويبعد مع كل هذا أن يكون أمره بالكتابة على الوجوب ويتركه!0
كما يبعد كل البعد، بدليل ما سبق، ما يزعمه الرافضة من الوصية لعلى بن أبى طالب رضى الله عنه، بالخلافة من بعده عليه الصلاة والسلام، وزعمهم أن عمر رضى الله عنه، حال بين رسول الله، وبين كتابة تلك الوصية( )0
قال الإمام المازرى( ) : "وإنما جاز للصاحبة الاختلاف فى هذا الكتاب، مع صريح أمره لهم بذلك، لأن الأوامر قد يقارنها ما ينقلها من الوجوب، فكأنه ظهرت منه عليه الصلاة والسلام قرينة دلت على أن الأمر ليس على التحتم، بل على الاختيار، فاختلف اجتهادهم، وصمم عمر رضى الله عنه، على الامتناع، لما قام عنده من القرائن، بأنه قال ذلك من غير قصد جازم، وعزمه على الكتابة كان إما بالوحى، وإما بالاجتهاد، وكذلك تركه الكتابة إن كان بالوحى فبالوحى، وإلا فبالاجتهاد أيضاً، وفيه حجة لمن قال بالرجوع إلى الاجتهاد فى الشرعيات"( ) وهو ما ينكره الرافضة على صحابة رسول الله ( )0
قلت : وفى كلا الحالتين العزم على الكتابة وتركها، سواء كان بالوحى، أو بالاجتهاد، فيه إقرار من رسول الله لرأى عمر رضى الله عنه، فيأخذ حكم المرفوع المسند، وهو دليل على صحة موقف الصحابة رضى الله عنهم من اختلافهم فى الكتاب، مع صريح أمره 0
قال الإمام القرطبى( ) : "واختلاف الصحابة رضى الله عنهم، فى هذا الكتاب كاختلافهم فى قوله : "لا يصلين أحد العصر إلا فى بنى قريظة"( ) فتخوف ناس فوات الوقت فصلوا، وتمسك آخرون بظاهر الأمر فلم يصلوا، فما عنف أحد منهم، من أجل الاجتهاد المسوغ، والمقصد الصالح"( )0
وعلى ما سبق من اختلاف الصحابة رضى الله عنهم، فى فهم أمره ، ثم إقراره لهذا الاختلاف فى فهمهم لأمره، يرد على زعم الرافضة، ومن قال بقولهم، فى أن اختلاف الصحابة، فى أمر رسول الله بالكتابة، سوء أدب منهم، مع رسول الله !!0
لأنهم رضوان الله عليهم أجمعين، كانوا يراجعونه فى بعض الأمور قبل أن يجزم فيها بتحتيم، كما راجعوه يوم الحديبية، فى كتاب الصلح بينه وبين قريش( ). فأما إذا أمر عليه الصلاة والسلام بالشئ أمر عزيمة، ولا قرينة تصرفه عن ذلك، فلا يراجع فيه أحد منهم( )0
خامساً : زعم الرافضة أن فى قول عمر : "حسبنا كتاب الله" دعوى منه للاكتفاء به عن بيان السنة، زعم لا دليل عليه، لأن سيدنا عمر رضى الله عنه لم يرد بقوله هذا، الاكتفاء به عن بيان السنة المطهرة، بل قال ما قاله لما قام عنده من القرينة، على أن الذى أراد كتابته مما يستغنى عنه، بما فى كتاب الله عز وجل، لقوله تعالى : ما فرطنا فى الكتاب من شئ( ) حيث لا تقع واقعة إلى يوم القيامة، إلا وفى الكتاب، أو السنة بيانها نصاً أو دلالة0
وفى تكلف النبى فى مرضه من شدة وجعه، كتابة ذلك مشقة ومن هنا رأى عمر، الاقتصار على ما سبق بيانه إياه نصاً أو دلالة تخفيفاً عليه ، ولئلا ينسد باب الاجتهاد على أهل العلم والاستنباط، وإلحاق الفروع بالأصول، وقد كان سبق قوله : "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ، فله أجر"( )0
وهذا دليل على أنه وكل بعض الأحكام إلى اجتهاد العلماء، وجعل لهم الأجر على الاجتهاد، فرأى عمر رضى الله عنه الصواب تركهم على هذه الجملة، لما فيه من فضيلة العلماء بالاجتهاد، مع التخفيف عن رسول الله ، وفى تركه عليه الصلاة والسلام الإنكار على عمر، دليل على استصوابه رضى الله عنه رغم أنف الرافضة( )0
ولا يعارض ذلك قول ابن عباس رضى الله عنهما : إن الرزية كل الرزية … الخ لأن عمر كان أفقه منه قطعاً، هذا مع اعترافنا بأنه حبر الأمة، وترجمان القرآن، وأعلم الناس بتفسير كتاب الله وتأويله، ولكنه أسف على ما فاته من البيان بالتنصيص عليه، لكونه أولى من الاستنباط، لاسيما وقد بقى ابن عباس حتى شاهد الفتن( ). أهـ0
وبعــد :
فقد استبان لك أيها الناظر بما سبق؛ عصمة رسول الله ، فى بدنه من الصرع( ) وفى عقله وقلبه من الكفر( ) والشرك والضلال والغفلة( ) والشك، والفحش، ومن تسلط الشيطان عليه( ) واستحالة ذلك ونحوه عليه شرعاً وإجماعاً، ونظراً وبرهاناً وعصمته فيما سبق قبل النبوة وبعدها، وفى كل حالاته من رضى وغضب، وجد ومزح0
وما استدل به أعداء السنة المطهرة، والسيرة العطرة من أحاديث يفيد ظاهرها عدم عصمة رسول الله فى عقله وبدنه لا تفيدهم فى دعواهم، لأن ما استدلوا به من أحاديث، منها ما هو ضعيف، وموضوع لا يحتج به، ومنهما ما هو صحيح ولكن تضعف دلالته على ما احتجوا به، على ما سبق تفصيله فى المطالب السابقة أهـ.
والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم
====
الباب الثانى
عصمة رسول الله فى تبليغ الوحى
ودفع الشبهات
ويشتمل على فصلين :
الفصل الأول : عصمته فى تبليغ الوحى كما يصورها القرآن الكريم والسنة النبوية0
ويشتمل على تمهيد ومبحثين :
المبحث الأول : التعريف بالوحى، وكيفياته0
المبحث الثانى : دلائل عصمته فى تبليغ الوحى من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية0
الفصل الثانى : شبه الطاعنين فى الوحى الإلهى والرد عليها ويشتمل على مبحثين :
المبحث الأول : شبهات أعداء الإسلام من المستشرقين حول الوحى الإلهى والرد عليها ويشتمل على تمهيد وأربعة مطالب :
المطلب الأول : شبهة الوحى النفسى والرد عليها0
المطلب الثانى : شبهة أن الوحى عبارة عن أمراض عقلية ونفسية والرد عليها0
المطلب الثالث : شبهة أن الوحى مقتبس من اليهودية والنصرانية والرد عليها0
المطلب الرابع : فرية الغرانيق والرد عليها0
المبحث الثانى : شبهات أعداء السنة المطهرة حول الوحى الإلهى والرد عليها ويشتمل على تمهيد وأربعة مطالب :
المطلب الأول : شبهة أن مهمة رسول الله ، قاصرة على بلاغ القرآن فقط والرد عليها0
المطلب الثانى : شبهة أن رسول الله ، ليست له سنة نبوية والرد عليها0
المطلب الثالث : شبهة أنه لا طاعة لرسول الله إلا فى القرآن فقط والرد عليها0
المطلب الرابع : شبهة أن طاعة رسول الله ، تأليه وشرك والرد عليها0
الفصل الأول
عصمته فى تبليغ الوحى كما يصورها
القرآن الكريم والسنة المطهرة
ويشتمل على تمهيد ومبحثين :
المبحث الأول : التعريف بالوحى، وكيفياته0
المبحث الثانى : دلائل عصمته فى تبليغ الوحى من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية0
تمهيــد
الوحى الإلهى : هو كلمة الله عز وجل إلى عباده ليخرجهم من الظلمات إلى النور وهو أصل الدين، إذ يتعلق بكتاب الله عز وجل، وسنة نبيه والوحى فى الإسلام ثابت محفوظ بحفظ الله تعالى، والأمة مهيأة لخدمة نصوصه كما تقتضيه ظروف الحياة العلمية لها0
والوحى : أهم عنصر يميز شخصية النبى أو الرسول، وأكبر الدعائم التى ترتكز عليها حقيقة النبوة0
وقد دلت نصوص الكتاب الكريم، والسنة الشريفة، والسيرة العطرة على عصمة سيدنا محمد ، فى تبليغ وحى الله تعالى إلى الأمة، وانعقد إجماع علماء الأمة على ذلك0
إلا أنه يوجد فى كل أمة، وفى كل زمان ومكان، من يطعن فى عصمة رسول الله فى تبليغ وحى الله تعالى؛ من أعداء الإسلام من المستشرقين والمبشرين، ومن أذيالهم المتسترين بعباءة القرآن الكريم ممن يسمون أنفسهم (القرآنيون)0
أما المستشرقون : فشبهاتهم حول الوحى الإلهى قائمة على إنكار نبوة سيدنا رسول الله ، إذ لم تكن لدى معظمهم القناعة العلمية ولا الإيمان الراسخ بهذه النبوة، وبخاصة أولئك الذين جمعوا بين الاستشراق والتبشير، وألبسوا أفكارهم أردية كنسية متطرفة، فقد نشأوا على أديان أخرى، ونفذوا بشئ من العداء لهذه الشخصية النبوية الكريمة، ودفعوا دفعاً مقصوداً للإيقاع بنبوته، وحملوا حملاً مغرضاً لتجريده من صفاتها، وعلى رأسها صفة العصمة0
فزعموا تارة، أن الوحى الذى جاء به رسول الله أمر ذاتى من داخل نفسه الصافية، وعقله العبقرى0
وتارة ثانية، يزعمون أنه عبارة عن أمراض عقلية ونفسية، وهم بذلك يتناقضون مع أنفسهم؛ إذ كيف يجتمع الضدان، صفاء النفس، والعقل العبقرى، مع الإصابة بالأمراض النفسية والعقلية؟! وتارة ثالثة، يزعمون أن الوحى الذى جاء به رسول الله مقتبس من اليهودية والنصرانية، أو أنه وحى شيطانى بناءاً على فرية الغرانيق، وهذه الطعون فى الوحى الإلهى، هى رأى معظم المستشرقين الذين يدرسون ظاهرة الوحى والنبوة، ويخلطون عن عمد بين النبوة والعبقرية، ومعانى البطولة، ومعانى الرسالة، إذا استثنينا أولئك المستشرقين الذين ينحون بتفكيرهم نحو المادية والعلمانية، وينكرون الوحى كله جملة وتفصيلاً ويهاجمون النبوات كلها بما فيها نبوة موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام0
أما أعداء السنة المطهرة، والسيرة العطرة، ممن هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ففاقت شبهاتهم حول الوحى الإلهى، شبهات أعداء الإسلام، إذ أعلنوا صراحة الكفر بالشطر الثانى من الوحى الإلهى وهو سنة رسول الله ، وسيرته العطرة الواردة فى سنته الشريفة0
وهم فيما يزعمون يتسترون بعباءة القرآن الكريم، وفاق تسترهم كل حد، إذ تجرأوا على كتاب ربهم عز وجل، ففسروه وأولوه بما يأتى فى النهاية صراحة بردهم على الله عز وجل كلامه، وتطاولهم عليه عز وجل من حيث يشعرون أو لا يشعرون0
إذ رسموا من خيالهم المريض صورة لدور رسول الله فى رسالته - وهو أمر لا يملك منه أحد شئ سوى الخالق - تساعدهم فيما يكفرون به من سنة رسول الله 0
فزعموا أن دور النبى فى رسالته قاصراً على بلاغ كتاب الله عز وجل فقط، وأنه ليست له سنة نبوية، وأن طاعته الواردة فى القرآن الكريم، تعنى الطاعة لكتاب الله عز وجل، وتنحصر فيها، ولم يقف إفكهم عند هذا الحد، إذ زعموا أن القول بطاعة رسول الله شرك وتأليه له ، وأن من يقول بطاعته فقد كفر وأشرك بربه!0
وقبل تفصيل تلك الشبهات والرد عليها، أرى لزاماً على تأصيل المسألة أولاً : وذلك بالتعريف بالوحى، وكيفياته، ثم تفصيل دلائل عصمته فى تبليغ الوحى الإلهى من خلال القرآن الكريم والسنة المطهرة. فإلى تفصيل ذلك فى المبحثين التاليين :
المبحث الأول
التعريف بالوحى لغة، وشرعاً، وكيفياته
أولاً : التعريف بالوحى :
أ- من حيث اللغة :
ذكر غير واحد من علماء هذا الشأن أن أصل الوحى فى الأسلوب العربى، معناه : الخفاء، والسرعة، والإشارة0
فالواو والحاء والحرف المعتل أصل يدل على إلقاء علم فى خفاء إلى غيرك، فكل ما ألقيته إلى غيرك حتى علمه، فهو وحى كيف كان. وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب، وبإشارة بعض الجوارح، وبالكتابة، والرسالة والإلهام0
وأوحى ووحى لغتان يقال : وحيث إليه الكلام، وأوحيت، ووحى، وحياً وأوحى. لكن أوحى بالهمزة أفصح من – وحى – بدونها. ولذلك جرى استعمال القرآن على ما هو الأفصح فى الفعلين أهـ بتصرف( )0
وقد استعمل القرآن الكريم الوحى بمعناه اللغوى، وهو : الإعلام الخفى السريع، ويتناول الوحى بهذا المعنى عدة أنواع كما جاءت فى القرآن الكريم :
1- الإشارة السريعة على سبيل الرمز كما فى قوله تعالى : فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشياً( ) وكما فى قوله تعالى : قال رب اجعل لى آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً( )0
2- الإلهام الغريزى للإنسان( ) ومنه ما يطلق عليه إلهام الخواطر، وهو ما يلقيه الله تعالى فى روع الإنسان السليم الفطرة، الطاهر الروح، كما فى قوله تعالى : وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بى وبرسولى قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون( )0
3- الإلهام الغريزى للحيوان أو ما يطلق عليه بعض العلماء الأمر الكونى كالوحى إلى النحل، وذلك كما فى قوله تعالى : وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذى من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون( )0
ومما يشير إلى هذا المعنى أيضاً قوله تعالى : ثم استوى إلى السماء وهى دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات فى يومين وأوحى فى كل سماء أمرها( ) ويدخل تحت ذلك كل الأوامر الكونية للجمادات وغيرها0
4- وسوسة الشياطين كما فى قوله تعالى : وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون( )0
وهذه الأقسام كلها ليست هى المرادة من اصطلاح الوحى فى علوم القرآن والسنة إذ المراد : الوحى الشرعى الذى جاء إلى أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام0
ب- معناه الشرعى :
1- قال الحافظ ابن حجر : هو الإعلام بالشرع( )0
2- وعرفه الأستاذ الإمام محمد عبده بقوله : هو عرفان يجده الشخص( ) من نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله بواسطة أو بغير واسطة( )0
3- وعرفه البعض بأنه كلام الله المنزل على النبى الموحى إليه( )0
وبالنظر فى هذه التعريفات تلاحظ أنها جاءت متنوعة تبعاً لتنوع الاعتبارات، فمن نظر إلى المعنى المصدرى عرفه بالتعريف الأول، ومن نظر إلى المعنى الحاصل بالمصدر، عرفه بالثانى، ومن نظر إلى الموحى به، عرفه بالثالث، وهو المختار عندى. والله أعلم0
ثانياً : كيفيات الوحى :
هذه الكيفيات ذكرها غير واحد من العلماء( ) وهى بتصرف واختصار، على النحو التالى:
إحداها : الرؤيا الصادقة، وكانت مبدأ وحيه ، فعن عائشة رضى الله عنها قالت : أول ما بدئ به رسول الله من الوحى الرؤيـا الصالحـة فى النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح – الحديث( ) وواضح من قولها رضى الله عنها : "أول ما بدئ به … من الوحى الرؤيا الصالحة" أن الرؤيا الصالحة، كيفية من كيفيات الوحى، وقد جاء ذلك مصرحاً به، عن ابن عباس رضى الله عنهما قال : قال رسول الله : "رؤيا الأنبياء وحى"( )0
ويبدوا هذا واضحاً فى رؤيا سيدنا إبراهيم عليه السلام فى المنام ذبح ولده إسماعيل عليه السلام، قال تعالى : قال يا بنى إنى أرى فى المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى( )0
وتجده أيضاً فى رؤيا سيدنا يوسف عليه السلام، والتى تحققت بعد سنوات، قال تعالى : إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إنى رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين( ) وتحققها قصة القرآن الكريم فى قوله عز وجل : ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً وقال يا أبت هذا تأويل رؤياى من قبل قد جعلها ربى حقاً( )0
وفى حق سيدنا رسول الله قص القرآن الكريم نماذج من الرؤى وقعت بعد النبوة منها على سبيل المثال :
1- قوله تعالى : إذ يريكهم الله فى منامك قليلاً ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم فى الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور( ) ففى غزوة بدر الكبرى واجه المسلمون المشركين فى أول واقعة حربية حاسمة، وكان المشركون ضعف عدد المسلمين، وقد وقعت رؤيا لرسول الله شاهد فيها المشركين قلة قليلة فأخبر أصحابه يومئذ بذلك، فكان تثبيتاً لهم، وكانت تلك الرؤيا مناماً كما صرح بذلك القرآن، فلا حاجة إلى تأويل بعضهم أنه رآهم بعينه التى ينام بها( )0
2- وقال عز وجل : لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون( )0
فقد أخبر الرسول صحابته فى العام السادس للهجرة برؤيا حق شاهد فيها المسلمين داخلين المسجد الحرام فى أمن تام مؤدين المناسك ولما سار المسلمون، ووصلوا إلى الحديبية( ) لم يشك جماعة منهم أن الرؤيا النبوية تتحقق عامهم هذا… وحين وقع ما وقع من صلح الحديبية تساءل عمر بن الخطاب رضى الله عنه وقال : أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتى البيت فنطوف به؟ قال : بلى، أفأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قال قلت : لا. قال : فإنك آتيه ومطوف به"( )0
وفعلاً ففى العام السابع، وفى ذى القعدة أدى الرسول والمسلمون عمرة القضاء، ودخلوا مكة معتمرين ملبين بعد سبع سنين طوال حرموا خلالها من رؤية الكعبة المشرفة0
ثانيها : الإلهام والقذف فى القلب من غير رؤية، بأن يلقى الله أو الملك الموكل بالوحى فى قلب نبيه ما يريد، مع تيقنه أن ما ألقى إليه من قبل الله تعالى0
وهذه الكيفية هى المرادة من قوله تعالى : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً( ) إذ يقابلها إجمال بقية الكيفيات فى قوله سبحانه : أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحى بإذنه ما يشاء( ) وبهذا قال أكثر المفسرين( )0
ومن هذه الكيفية حديث ابن مسعود : أن رسول الله قال : "ليس من عمل يقرب إلى الجنة إلا أمرتكم به، ولا عمل يقرب إلى النار إلا قد نهيتكم عنه، ولا يستبطئن أحد منكم رزقه، إن جبريل عليه السلام ألقى فى روعى أن أحداً منكم لن يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه فاتقوا الله أيها الناس، واجملوا فى الطلب، فإن استبطأ أحد منكم رزقه فلا يطلبه بمعصية الله، فإن الله لا ينال فضله بمعصية"( )0
ثالثها : تكليم الله نبيه بما يريد من وراء حجاب، ولذلك صورتان :
الأولى : إما فى اليقظة : وذلك مثل ما حدث لسيدنا موسى عليه الصلاة قال تعالى : وكلم الله موسى تكليما( ) ومثل ما حدث لنبينا محمد ليلة الإسراء والمعراج، وهو ما عبر عنه العلماء بقولهم : أن يكلمه الله كفاحاً – أى مواجهة، حيث فرض الله عليه هناك الصلاة، وهو ما يدل عليه قوله تعالى : فأوحى إلى عبده ما أوحى( )0
الثانية : وإما فى المنام : كما فى حديث معاذ رضى الله عنه( ) أن النبى تأخر عنهم ذات غداة فخرج عليهم وصلى وتجاوز فى صلاته، فلما سلم قال : "كما أنتم على مصافكم"، ثم أقبل إلينا فقال : إنى سأحدثكم ما حبسنى عنكم الغداة( ) إنى قمت من الليل فصليت ما قدر لى، فنعست فى صلاتى حتى استيقظت فإذا أنا بربى عز وجل فى أحسن صورة، فقال : يا محمد أتدرى فيم يختصم الملأ الأعلى، قلت : لا أدرى يا رب… الحديث"( )0
رابعها : إرسال الملك، ولذلك ثلاث حالات :
الحالة الأولى : أن يتمثل له الملك فى صورة رجل، والأصل فى ذلك نزول الملائكة على سيدنا إبراهيم عليه السلام ضيفاً مكرمين، وقدم لهم عجلاً حنيذاً، ولم يعرف أنهم ملائكة إلا حين أفصحوا له عن حقيقة أمرهم، قال تعالى : هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال سلام قوم منكرون فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم قال ألا تأكلون فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم( ) وأتى الملائكة لوطاً عليه السلام فى صورة شباب بهى جميل المنظر قال سبحانه : ولما جاءت رسلنا لوطاً سئ بهم وضاق بهم ذرعاً وقال هذا يوم عصيب وجاءه قومه يهرعون إليه( )0
وبعث الله إلى مريم البتول جبريل عليه السلام فى صورة بشر سوى يبشرها باصطفائها واصطفاء وليدها، قال عز وجل : فاتخذت من دونهم حجاباً فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً( )0
وانطلاقاً من هذه الحقيقة كان جبريل عليه السلام يتنزل على سيدنا محمد ، ويتمثل لى فى صورة رجل، بحيث يراه النبى وحده ويكلمه بما أراد فيعى عنه ما يقول، ويدل على ذلك قوله ، لما سئل كيف يأتيك الوحى؟ قال : "وأحياناً يتمثل لى الملك رجلاً فيكلمنى فأعى ما يقول"( )0
وقد يظهر الملك المتشكل فى صورة رجل للعيان، فيراه الناس ويسمعون كلامه للنبى ، كما فى حديث جبريل المشهور الذى سأل فيه النبى عن الإيمان والإسلام والإحسان والساعة، ففى نهايته قال : يا عمر! أتدرى من السائل؟ قلت الله ورسوله أعلم. قال : فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم"( ). وعن ابن عمر قال : "وكان جبريل عليه السلام يأتى النبى فى صورة دحية"( )0
الحالة الثانية : أن يأتى جبريل فى صورته التى خلقه الله عليها، وهذه الصورة نادرة وقليلة، ولا يراها إلا النبى وحده، لأن غيره لا يطيق ذلك بل ربما النبى كان لا يطيق ذلك، ولاسيما فى أول مرة وقد رأى النبى جبريل على صورته الملائكية التى خلقه الله عليها، له ستمائة جناح، كل جناح قد سد الأفق. مرتين :
المرة الأولى : كانت فى الأرض، يشير إلى ذلك ما أخرجه الشيخان عن جابر بن عبد الله أن رسول الله قال : أى وهو يحدث عن فترة الوحى، بينما أنا أمشى إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصرى، فإذا الملك الذى جاءنى بحراء جالس على كرسى بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت، فقلت دثرونى، وصبوا على ماء بارد، وأنزل الله على يا أيها المدثر قم فأنذر… الآيات( ). وأشار إلى هذه الصورة أيضاً قوله تعالى : ولقد رآه بالأفق المبين( )0
المرة الثانية : كانت فى السماء عند سدرة المنتهى ليلة المعراج. وإليها أشار قوله تعالى : ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى( )0
وعن ابن مسعود رضى الله عنه فى تفسير قوله تعالى : فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى قال : أى ابن مسعود، إنه أى رسول الله رأى جبريل له ستمائة جناح"( ) وفى رواية أخرى عن ابن مسعود عن النبى قال فى قوله تعالى : ولقد رآه نزلة أخرى قال : رأيت جبريل عليه السلام عند السدرة له ستمائة جناح يتناثر منها تهاويل الدر"( )، وكون النبى رأى جبريل على صورته الملائكية مرتين، ذلك ما أشار إليه ما ثبت فى الصحيحين عن عائشة مرفوعاً : "لم أره على صورته التى خلق عليها إلا مرتين"( ) وفى رواية "مرة عند سدرة المنتهى، ومرة فى أجياد( ) له ستمائة جناح قد سد الأفق"( ) وهى رواية مبينة لما روى مختصراً فى الصحيحين0
والحالة الثالثة : من حالات إرسال الملك : أن يأتى جبريل على صورته الملائكية لكنه فى هذه الحال لا يرى، أى أنه يأتى خفية فيتلبس بالنبى ويتغشاه. لكن يصحب مجيئه شدة يراها صحابة رسول الله وذلك فى نحو مجئ الملك بصوت صلصلة الجرس، فيوحى إليه بما شاء الله وحيه، وقد دل على ذلك قوله لما سئل كيف يأتيك الوحى؟ قال : "أحياناً يأتينى مثل صلصلة الجرس، وهو أشده على فيفصم عنى، وقد وعيت عنه ما قال" وفى رواية سئل هل تحس بالوحى؟ فقال : "أسمع صلاصل، ثم أسكت عند ذلك، فما من مرة يوحى إلى إلا ظننت أن نفسى تقبض"0
وعن عائشة رضى الله عنها قالت : "ولقد رأيته ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقاً"( )0
وبالجملة : الوجى بجميع هذه الكيفيات يصحبه علم يقينى ضرورى من رسول الله ، بأن ما ألقى إليه حق من عند الله تعالى، وليس من خطرات النفس، ولا نزغات الشيطان، وهذا العلم اليقينى لا يحتاج إلى مقدمات، وإنما هو من قبيل إدراك الأمور الوجدانية كالجوع والعطش ونحوهما0
وحى الله إلى أنبياءه قرآن وسنة :
الوحى المنزل على النبى الموحى إليه بناء على التعريف الثالث للوحى، بأنه كلام الله المنزل على النبى الموحى إليه. نوعان : كتاب، وسنة. قال تعالى : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذالكم إصرى قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين( ) ويقول رب العزة فى حق آل إبراهيم عليهم السلام فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً( ) ويقول عز وجل فى حق عيسى عليه السلام : إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتى عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس فى المهد وكهلاً وإذا علمتك الكتاب والحكمة( ) وقال تعالى فى حق سيدنا محمد : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفى ضلال مبين( ) وقال تعالى : واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شئ عليم( )0
وهذا يدل على أن الوحى إلى رسول الله قسمان :
القسم الأول : الكتاب المعجز المتعبد بتلاوته، وكيفية الوحى فى هذا القسم تكون يقظة بواسطة جبريل عليه السلام0
القسم الثانى : الحكمة( ) والمراد بها هنا السنة المطهرة قال تعالى : واذكرن ما يتلى فى بيوتكن من آيات الله والحكمة( ) فالتلاوة هنا المرة بعد المرة، والمتلو هنا شيئان، أولهما : آيات الله فى كتابه، وثانيهما : الحكمة وهى : صنف آخر من الوحى المتلو، ولا يكون ذلك إلا السنة النبوية المطهرة( ) وكيفية الوحى فى هذا القسم ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : توقيفى، أوحى الله تعالى بمعناه إلى رسول الله وعبر عنه الرسول بألفاظ من عنده، وهذا القسم هو الأعم الأغلب من السنة النبوية، ويدخل فى هذا القسم الحديث القدسى( )0
أما القسم الثانى : توفيقى، وهو ما قاله الرسول باجتهاده مما يعلم أنه من شرع الله تعالى، فإن وافق قوله أو فعله مراد الله تعالى، فالأمر كما أخبر به رسول الله ، وإن كان الأمر يحتاج إلى تصحيح أو توضيح. أوحى الله تعالى إلى نبيه بذلك( ) كما فى حديث أبى قتاة رضى الله عنه أن رجلاً سأل رسول الله ، أرأيت إن قتلت فى سبيل الله؛ تكفر عنى خطاياى؟ فقال له رسول الله : نعم، إن قتلت فى سبيل الله، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر، ثم قال رسول الله كيف قلت؟ قال : أرأيت إن قتلت فى سبيل الله، أتكفر عنى خطاياى؟ فقال رسول الله : نعم، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر إلا الدين، فإن جبريل عليه السلام قال لى ذلك"( )0
فتأمل استدراك الوحى من خلال جبريل، لم اجتهد فيه رسول الله بزيادة الدين فى جوابه 0
وهذا القسم الاجتهادى التوفيقى هو الأقل فى السنة الشريفة، ويدخل فى هذا القسم ما صدر من رسول الله على سبيل العادة والطبيعة وأقره الله تعالى عليها، كشؤونه فى طعامه وشرابه ولباسه، وجلوسه ونومه، وما ماثل ذلك، فإن ذلك كله بعد تقرير الله عز وجل له، يكون بمنزلة الوحى حجة على العباد ما لم يقم دليل على خصوصيته بالنبى ( )0
"وذلك يدل على أن كل ما أخبر به رسول الله من خبر فهو كما أخبر، وهو حق وصدق مطابق لما عند الله إجماعاً، فيجب التمسك به، لأنه من وحى الله تعالى إليه، وسواء علينا انبنى على هذا الوحى فى التكليف حكم أم لا، لا يفرق فى ذلك بين ما أخبر به الملك عن الله تعالى، وبين ما نفث فى روعة وألقى فى نفسه، أو رآه رؤية كشف واطلاع على مغيب على وجه خارق للعادة، أو اجتهد فى أمر أو نهى أو حكم وأقر عليه، فذلك معتبر يحتج به، ويبنى عليه فى الاعتقادات والأعمال جميعاً، لأنه ، مؤيد بالعصمة فيما نقل إلينا من وحى الله تعالى"( )0
وقد قامت دلائل الكتاب والسنة على عصمته فى نقل هذا الوحى وتبليغه إلى الناس، وهذا هو مضمون المبحث الثانى فإلى بيان ذلك0
===
المبحث الثانى
دلائل عصمته فى تبليغ الوحى
من خلال القرآن الكريم والسنة المطهرة
إن مهمة الرسل الأولى التى كلفهم الله عز وجل بها إلى الأمم ليخرجوهم من الظلمات إلى النور، هى التبليغ الذى أوجبه الله تعالى عليهم بمقتضى اصطفائهم للرسالة التى حملهم إياها، فيجب عليهم التبليغ، ويستحيل عليهم أى شئ يخل به ككتمان الرسالة، والكذب فى دعواها، وتصور الشيطان لهم فى صورة الملك وتلبيسه عليهم فى أول الرسالة وفيما بعدها، وسلطه على خواطرهم بالوساوس، لا على وجه العمد، ولا على وجه السهو، ولا فى حال الرضى أو السخط، والصحة أو المرض، ويجب على المسلمين اعتقاد ذلك فيهم0
ولقد دلت نصوص القرآن الكريم، والسنة المطهرة، والسيرة العطرة على عصمة نبينا محمد فى هذا الجانب، وانعقد إجماع الأمة على ذلك وقبل تفصيل ذلك، أرى لزاماً علىَّ بيان مجالات البلاغ الذى أمر الله عز وجل به رسوله ، وشهادة الله تعالى لنبيه بأداء واجب البلاغ على أكمل وجه0
مجالات البلاغ الذى أمر الله تعالى به رسوله :
والبلاغ الذى أمر الله به رسوله عام وشامل لكل ما تحتاج إليه البشرية فى عاجلها وآجلها، ودنياها وأخراها، سواء كان ذلك بوحى القرآن، أو وحى السنة، فشمل ذلك إبلاغ القرآن، وإبلاغ السنة، إذ كل ذلك مما أنزله الله عليه من أمر الدين، كما أفاد ذلك عموم الاسم الموصول (ما) فى الآية الكريمة : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك( ) كما عمم من أراد تبليغهم حيث حذف المفعول الأول لبلغ، ليعم الخلق المرسل إليهم، والتقدير : بلغ جميع ما أنزل إليك من يحتاج إلى معرفته من أمر الدين الموحى به إليك"( )0
وقد قام رسول الله بذلك البلاغ كله على وجه الكمال والتمام من يوم أن أنزل الله تعالى الرسالة، وكلفه بالبلاغ، بصدر سورة المدثر، يا أيها المدثر. قم فأنذر( ) فإنه من حينئذ قام بإبلاغ القرآن، وإبلاغ السنة على حد سواء، لا يألو فى ذلك جهداً ولا يدخر وسعاً، حتى أتم الله له الدين وقمع به المشركين والمبطلين0
تبليغه القرآن الكريم :
أما تبليغه القرآن فقد قام بذلك استجابة لقوله تعالى : وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً( ) أى : لتبلغه الناس وتتلوه على مهل لتكون ألفاظه ومعانيه أثبت فى نفوس السامعين( )0
فقام بذلك حق القيام، فكانت له به عناية خاصة فى تعليمه وإذاعته ونشره، فهو يقرؤه لهم على مكث لو عده العاد لأحصاه، ترتيلاً كما أمر الله، ويسمعهم إياه فى الخطب، والصلاة، وفى الدروس والعظات والدعوة والإرشاد، وفى الفتوى والقضاء، ويدارسهم إياه فيسمع منهم ويسمعون منه، ومن لم يكن حاضراً لديه كأهل البلاد المختلفة، أرسل إليهم بعثات القراء ليعلموهم إياه ويفقهونهم به، كما هو معلوم من رسالته وسيرته وسننه( )0
وقبل ذلك كله كان لا يكاد ينفك عنه الوحى حتى يقرأه على الناس ويدعو كتبة الوحى فيكتبوه ثم يحفظ فى بيته ليكون وثيقة لحفظه، وحفظ أصحابه كما هو مبين فى مظانه من كتب السنة والسيرة المشرفتين( )0
تبليغه للسنة الشريفة :
وأما تبليغه للسنة، فما كان أقل شأناً من إبلاغ القرآن، بل كان مسايراً له فى كل أطوار البلاغ على حد سواء، لأن السنة هى : من الوحى الذى أنزل على النبى ، كما قال الله تعالى : وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحى يوحى( ) وقال عز وجل : وأنزل عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما( )0
ولذلك كانت سنته واجبة الطاعة والامتثال ككلام الله تبارك وتعالى، كما ألزم الله تعالى بقوله : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا( ) إلى غير من الآيات الكثيرة التى توجب طاعته كما توجب طاعة الله تبارك وتعالى( )0
فلهذا كان النبى يعنى بإبلاغ السنة كما يعنى بإبلاغ القرآن، بل إن إبلاغه السنة كان أوسع دائرة من حيث إنه لا يمضى عليه حال من الأحوال، إلا وهو محتاج إلى أن يبين ما يستجد فيه من حكم أو موعظة أو قصة أو مثل، إذ القرآن يعنى بجوامع الأمور، وأصول التشريع، وقواعد الأحكام، ويتولى رسول الله بيان دقائق الأخبار وتفاصيل الأحوال فى كل الأحيان والأحوال، بل غالبه مجمل أوكل الله بيانه إلى نبيه محمد بقوله : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون( ) وقد كان عليه الصلاة والسلام يبين القرآن الكريم على الدوام، والدليل على هذا محسوس ملموس؛ إذ هذه سنته التى بلغت مئات الآلاف من الأحاديث، والمدونة فى دواوين السنة، لم تترك صغيرة ولا كبيرة من أمر الدين إلا وتناولتها بالتفصيل والبيان، حتى بلغ من بيانه ، أن أخبر أصحابه بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة0
فعن عمرو بن أخطب الأنصارى رضى الله عنه( ) قال : "صلى رسول الله يوماً الفجر، وصعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما كان، وبما هو كائن إلى يوم القيامة، قال : فأعلمنا أحفظنا"( )0
ومن هذا الحديث تعلم مدى تبليغه للسنة، حيث كان ذلك البيان كله فى مجلس واحد، فما بالك ببقية المجالس فى سائر الأيام؟!0
ثم إنه لم يكتف بذلك، بل كلف كل من يسمع عنه شيئاً أن يبلغه إلى من وراءه ليعم بلاغه الأمة فى كل زمان ومكان، ليعملوا بما بلغهم من سنته فى كل ما كلف به بنو الإنسان من أمور الدين والدنيا0
فقال عليه الصلاة والسلام : "بلغوا عنى ولو آية، وحدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج، ومن كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"( ) ورغبهم عليه الصلاة والسلام فى ذلك وشجعهم عليه بقوله : "نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه"( )0
وهكذا أدى رسول الله ، واجب التبليغ تارة بالعبارة، وتارة بالكتابة، وتارة بالحث على إبلاغ من لم يبلغه، لا يألو جهداً، ولا يدخر وسعاً فى إيصال رسالة الله التى حملها إلى كل من يستطيع إيصالها إليه، تنفيذاً لواجب البلاغ الذى تحمله بمقتضى رسالته، وتنفيذاً لأوامر الله تعالى فى ذلك، كقوله سبحانه : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك( ) فبلغ البلاغ المبين منذ أن بعثه الله تعالى إلى أن أتاه اليقين، وقد شهد له بالعصمة فى هذا البلاغ القرآن الكريم،والسنة المطهرة، وإجماع الأمة، وإليك تفصيل تلك الشهادات0
أولاً : دلائل عصمته فى تبليغ الوحى من القرآن الكريم والعقل :
جاءت آيات فى القرآن الكريم تثبت عصمته وصدقه فى كل ما يبلغ عن الله تعالى، وهذه الآيات تتضمن أيضاً أدلة عقلية على صدقه . من هذه الآيات ما يلى :
أ- قول الله تعالى : وصدق الله ورسوله( ) وقوله سبحاه : والذى جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون( ) والذى جاء بالصدق كما يدل عليه سياق هذه الآية هو نبينا محمد ، وقد شهد لما جاء به من عنده سبحانه (قرآناً وسنة) سماه صدقاً، ويلزم من صدق ما أتى به، صدقه هو فى نفسه، إذ لا يأتى بالصدق إلا كامل الصدق، وذلك مما لا جدال فيه حيث كان صدقه معلوماً منذ حداثة سنه، وشهد له بذلك أعداؤه قبل أصدقائه، فإن الأعداء من الكفرة والمشركين لم يكونوا يشكون يوماً فى صدقه، كما قال عز وجل فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون( ) وكما كانوا يشهدون له بذلك فى مواقف مختلفة، تقدم ذكر بعضها( )0
وإذا كانت الآيات السابقة شهادات حسية على صدقه فى كل ما يبلغ عن ربه، فهناك شهادات معنوية على صدقه تتمثل فى تأييد الله عز وجل له بالمعجزات المنزلة منزلة قوله عز وجل : "صدق عبدى فيما يبلغ عنى" ومن هذه المعجزات : القرآن الكريم، وانشقاق القمر، وتسبيح الحصى، وحنين الجذع، وتكثير الطعام، والإخبار بمغيبات كثيرة( ) وتأييده له بالنصر على الأعداء، على قلة جنده وضعف عدته فى معركة إثر معركة، ولقاء بعد لقاء، وكل ذلك منزل منزلة قول مرسله تبارك وتعالى : "صدق عبدى فيما يبلغ عنى"0
إذ أن تأييده بذلك كله، وهو يدعى أنه مرسل من عند ربه، وهو على مسمع من ربه سبحانه ومرأى، وهو جل شأنه لا يزال يؤيده بكل ذلك : دليل على كمال صدقه، وعصمته فى كل ما يبلغه من قرآن وسنة، إذ لو كان بخلاف ذلك لما أيده، ولفضح أمره للملأ، كما هى سنته سبحانه فيمن حاولوا الكذب عليه0
ب- وقال تعالى : ولو تقول علينا بعض الأقاويل. لأخذنا منه باليمين. ثم لقطعنا منه الوتين. فما منكم من أحد عنه حاجزين( ). فهذه الآيات دليل صدقه وعصمته فى تبليغه الوحى (قرآناً وسنة) بدليل التمانع، فقد امتنع أخذه سبحانه لنبيه بتلك الصفة، لامتناع تقوله عليه، وامتناع التقول عليه يعنى الصدق والعصمة فيما يقول ويبلغ عن ربه0
قلت : وفى الآيات دلالة على أن القرآن الكريم، والسنة المطهرة من عند الله تعالى وهو استدلال بما هو مقرر فى الأذهان، من أن الله عز وجل لا يقرر أحداً على أن يقول عنه كلاماً لم يقله0
أى : لو لم يكن القرآن والسنة منزلين من عندنا، ومحمد ادعى أنهما منا، لما أقررناه على ذلك، ولعجلنا بإهلاكه. فعدم هلاكه دال على أنه لم يقل على الله ما لم يقله عزوجل، لأن "لو" حرف امتناع، لامتناع، فامتنع ذلك من الله عز وجل، لامتناع سيدنا محمد عن هذه الأشياء0
قال الحافظ ابن كثير : بعد أن فسر هذه الآيات : "والمعنى فى هذا بل هو صادق بار راشد، لأن الله عز وجل مقرر له ما يبلغه عنه، ومؤيد له بالمعجزات الباهرات، والدلالات القاطعات"( )0
وبالجملة : فالآيات من جملة مدحه، ودليل عصمته فى البلاغ لوحى الله تعالى، إذ فيها القسم على تصديقه بجميع الموجودات، وأنه لا يمكنه الافتراء عليه( ) قال تعالى : فلا أقسم بما تبصرون. ومالا تبصرون. إنه لقول رسول كريم. وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون. ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون. تنزيل من رب العالمين( )0
جـ- وقال سبحانه : وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحى يوحى( ) فكلمة "ينطق" فى لسان العرب، تشمل كل ما يخرج من الشفتين قول أو لفظ( ) أى : ما يخرج نطقه عن رأيه، إنما هو بوحى من الله عز وجل( )0
ولقد جاءت الآيتان بأسلوب القصر عن طريق النفى والاستثناء، والفعل إذا وقع فى سياق النفى دل على العموم، وهذا واضح فى إثبات أن كلامه محصور فى كونه وحياً لا يتكلم إلا به وليس بغيره( ) وفى هذا دليل واضح على عصمته ، فى كل أمر بلغه عن ربه من كتاب وسنة، فهو لا ينطق إلا بما يوحى إليه من ربه، ولا يقول إلا ما أمر به فبلغه إلى الناس كاملاً من غير زيادة ولا نقصان، وهذه شهادة وتزكية من الله عز وجل لنبيه ورسوله فى كل ما بلغه للناس من شرعه تعالى0
د- وقال عز وجل : وإن كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينا إليك لتفترى علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً( )
قتيبة
03-09-2008, 02:07 AM
فهذه الآيات من جملة الآيات المادحة للمصطفى ، والشهادة بعصمته فى كل ما يبلغ عن ربه عز وجل. وحكم "كاد" فى الآيات حكم سائر الأفعال، فمعناها : منفى إذا صحبها حرف نفى، وثابت إذا لم يصحبها، فإذا قيل كاد زيد يبكى، فمعناه : قارب البكاء، فمقاربة البكاء ثابتة، وإذا قيل : لم يكد يبكى، فمعناه : لم يقارب البكاء، فمقاربته منفية، ونفسه منتف انتفاء أبعد من انتفائه عند ثبوت المقاربة"( ) والشرط فى الآيات على فرض الإمكان، لا على فرض الوقوع، والمعنى : لولا ثبوت تثبيتنا إياك، لقد قاربت أن تميل إليهم شيئاً يسيراً من أدنى الميل، لكن امتنع قرب ميلك وهواك لوجود تثبيتنا إياك0
فتأمل كيف بدأ بثباته وسلامته بالعصمة، قبل ذكر ما عتبه عليه، وخيف أن يركن إليهم، على فرض الإمكان، لا على فرض الوقوع. وتأمل كيف جاء فى أثناء عتبه – إن كان ثم عتب – براءته، وفى طى تخويفه تأمينه وكرامته0
وبالجملة : فسياق الآيات بين واضح فى أن رسول الله لم يركن إليهم أبداً، وإلا لأنزل الله به من العقوبة ما ذكره فى هذه الآيات، وحيث إن رسول الله لم يقع له شئ من ذلك، فلم يعذبه ضعف عذاب الحياة، وضعف عذاب الممات، ولم يتخلى عنه طرفة عين، كما تشهد بذلك سيرته العطرة، دل ذلك على أنه ، لم يتقول على ربه مالم يقله، ولم يفتر شيئاً من عند نفسه، وبهذا تثبت عصمته فى كل ما بلغه عن ربه من وحى الله تعالى قرآناً وسنة0
قال القاضى عياض: "فى الآية دليل على أن الله تعالى امتن على رسوله بعصمته وتثبيته بما كاده به الكفار، وراموه من فتنته، ومرادنا من ذلك تنزيهه وعصمته وهو مفهوم الآية"( )0
هـ- وقال سبحانه : من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً( )0
قال الإمام القسطلانى( ) : "يعنى : من أطاع الرسول لكونه رسولاً مبلغاً إلى الخلق أحكام الله فهو فى الحقيقة ما أطاع إلا الله… وهذه الآية من أقوى الأدلة على أن الرسول معصوم فى جميع الأوامر والنواهى، وفى كل ما يبلغه عن الله، لأنه لو أخطأ فى شئ منها لم تكن طاعته طاعة لله، وأيضاً وجب أن يكون معصوماً فى جميع أحواله، لأنه تعالى أمر بمتابعته فى قوله تعالى : فآمنوا بالله ورسوله النبى الأمى الذى يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون( ) والمتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير، فثبت أن الانقياد له فى جميع أقواله وأفعاله، إلا ما خصه الدليل، طاعة له، وانقياد لحكم الله تعالى"( )0
و- ليس أدل على عصمة رسول الله فى تبليغ وحى ربه، من تبليغه حتى ما يمس جنابه العظيم، من العتاب الذى كان يوجهه الله تعالى إليه، كما هو مقتضى تأديب الله تعالى له الدال عليه ما روى عنه من حديث ابن مسعود رضى الله يرفعه : "أدبنى ربى فأحسن تأديبى"( ) وذلك كما فى قوله جل شأنه : يا أيها النبى لم تحرم ما أحل ما أحل الله لك تبتغى مرضات أزواجك والله غفور رحيم( ) وقوله سبحانه : وتخفى فى نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه( ) إلى غير ذلك من آيات العتاب التى سبق ذكرها والجواب عما يشكل من ظاهرها فى عدم عصمته ( )0
فآيات العتاب فى القرآن الكريم ما كان ليتفوه النبى بها لولا كمال عصمته فى البلاغ وكمال أمانته فيه، لأن كتمان ذلك فى نظر العقول البشرية ستر على النفس الشريفة، واستيفاء لحرمة آرائه، ولكنه الوحى لا يستطيع كتمانه، ولذلك قال أنس بن مالك رضى الله عنه : "لو كان رسول الله كاتماً شيئاً، لكتم هذه الآية وإذ تقول للذى أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفى فى نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه( ) وعن عائشة رضى الله عنها قالت : "من حدثك أن محمداً كتم شيئاً مما أنزل عليه فقد كذب، والله يقول : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته( ) ولقد صدق أنس، وصدقت عائشة رضى الله عنهما، وبرا، فما أدق استنباطهما فى الدلالة على عصمة رسول الله فى بلاغه وحى الله إلى الناس!0
ز- وقال تعالى : وما هو على الغيب بضنين( ) ففى هذه الآية الكريمة يزكى رب العزة نبيه، ويشهد له بالعصمة فى بلاغ الوحى، فقوله "بضنين" قرأت بالظاء، أى : ما هو على ما يخبر به من الوحى إليه، وغيره من الغيوب، بمتهم، وقرأت بالضاد "بضنين" من الضن : وهو البخل، أى : لا يبخل بالتعليم والتبليغ( ) بل يبذله لكل أحد، كما قال قتادة : كان القرآن
غيباً، فأنزله الله تعالى على محمد، فما ضن به على الناس، بل نشره وبلغه، وبذله لكل من أراده، قال الحفاظ ابن كثير : وكلاهما متواتر، ومعناه صحيح( )0
ح- وقال سبحانه : فتول عنهم فما أنت بملوم( ) فهذه شهادة من رب العزة لنبيه بالبلاغ المبين وعصمته فيه، حيث أباح لنبيه الإعراض عن المشركين، وأخبر أنه غير ملوم فى إعراضه عنهم، وما ذاك إلا لأنه أدى لهم الرسالة، وبذل معهم غاية الجهد، بحيث إنهم اعترفوا بذلك فى قولهم كما حكاه رب العزة عنهم : أهذا الذى بعث الله رسولا إن كان ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها( )0
قال الإمام الزمخشرى : "قولهم إن كاد ليضلنا دليل على فرض مجاهدة رسول الله ، فى دعوتهم، وبذل قصارى الوسع والطاقة فى استعطافهم، مع عرض الآيات والمعجزات عليهم، حتى شارفوا بزعمهم أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام، لولا فرط لجاجهم، واستمساكهم بعبادة آلهتهم"( )0
وبعد : فهذه شهادات من الله عز وجل لرسوله بعصمته فى أداء واجب البلاغ على أكمل وجه (وكفى بالله شهيداً) ولم يكتف عز وجل لحبيبه محمد بهذه الشهادات، بل لقد أضاف إليها شهادة أخرى بأسلوب آخر، حيث قال جل شأنه : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام ديناً( ) فإن كمال الدين لا يكون إلا بالتبليغ لجميع أحكامه، وما أوحى الله إليه من كتاب وسنة، وعصمته فى هذا البلاغ0
ومع ما شهد الله له بالعصمة فى بلاغ الوحى، فإنه عليه الصلاة والسلام أحب أن تشهد له أمته بذلك فاستنطقها بذلك فى أعظم المحافل، وذلك فى يوم عرفه فى حجة الوداع، حيث قال لهم فى خطبته العظيمة ذلك اليوم : "وأنتم تسالون عنى، فما أنتم قائلون؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت، وأديت، ونصحت، فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس : اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثلاث مرات"( ) فشهد له خير قرون هذه الأمة وهم صحابته رضوان الله عليهم( ) وفى حديث سمرة بن جندب رضى الله عنه( ) فى قصة الكسوف قال : "يا أيها الناس، إنما أنا بشر، ورسول الله، فأذكركم الله إن كنتم تعلمون إنى قصرت عن شئ من تبليغ رسالات ربى لما أخبرتمونى! قال : فقام الناس فقالوا : نشهد أنك قد بلغت رسالات ربك، ونصحت لأمتك، وقضيت الذى عليك"( )0
فهكذا كانت سناء أخلاقه العظيمة تحمله على أن يتحسس من أصحابه أن يخبروه إن وجدوا منه تقصيراً فى واجب البلاغ، وذلك لكمال خشيته لله عز وجل وأمانته فيما اؤتمن عليه، وإلا فإنه يعلم أنه المعصوم عن ذلك، فإن كان جانب البشرية منه يجوز له التقصير، فإن واجب العصمة تمنعه منه، ويدفعه إلى كمال البلاغ0
ثانياً : دلائل عصمته فى تبليغ الوحى من خلال السنة المطهرة والسيرة العطرة :
الدلائل على صدق رسول الله فى كل ما يخبر به عن الله تعالى من الوحى وعصمته فيه من خلال السنة والسيرة كثيرة منها :
أ- حاله قبل النبوة، فصدقه عليه الصلاة والسلام مع الناس دليل على صدقه فيما يخبر به عن ربه؛ إذ لا يترك إنسان الكذب على الناس ثم يكذب على الله تعالى0
وهذا القياس العقلى قد استخدمه هرقل، وهو يسأل أبا سفيان بن حرب أثناء رحلة تجارية بالشام، عن أحوال النبى وصفاته فكان مما سأل عنه : فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان، قلت : لا. (فاستخلص هرقل النتيجة المنطقية لهذا، وهى أن محمداً صادق فى دعواه الرسالة، وفى كل ما يخبر به عن الله تعالى) قائلاً : إنه لم يكن ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله( ). وقد شهد له بالصدق، الأعداء والأصدقاء على السواء0
فمن شهادات الأعداء ما يلى :
1- عن ابن عباس رضى الله عنهما قال : لما نزلت : وأنذر عشيرتك الأقربين( ) خرج رسول الله حتى صعد الصفا، فهتف : يا صباحاه، فقالوا : من هذا؟ فاجتمعوا إليه، فقال : "أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً بالوادى تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقى؟ قالوا : نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً!! وفى رواية : ما جربنا عليك كذباً!! قال : فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد"( )0
هكذا يعترف له قومه أجمعون بالصدق، وعدم عثورهم على ما يناقض هذا الخلق منه، وهم وإن لم يكونوا قد ناصبوه العداء آنذاك، إلا أن هذه الشهادة وغيرها ظلت قائمة لا ينازعون فيها، ولم يسحبوها حينما جاهرهم بالدعوة وناصبوه العداء، وقد حرصوا بعد ذلك على صد الناس عن الإيمان كل الحرص، وبذلوا كل جهد، غير أنهم لم يقدروا أن ينالوا من صدقه وأمانته وعفافه.. حتى قال أبو طالب فى لاميته المشهورة التى قالها إبان المقاطعة التى ضربوها عليه وعلى قومه بنى هاشم، لعدم كفهم رسول الله عن دعوته، أو تخليهم عنه، قال لهم مذكراً بحاله وأخلاقه :
لقد علموا أن ابننا لا مكذب *** لدينا ولا يعنى بقول الأباطل( )0
فهم يعلمون هذه الحقيقة حقا، ولكن تعاموا عنها، وأعماهم الباطل والكبر والعناد، كما قال الله تعالى : وجحدوا بها واستيقانتها أنفسهم ظلماً وعلوّاً( ) وكما قال عز وجل : فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون( ) ومما روى فى ذلك تفسيراً للآية الأخيرة0
2- أن الأخنس بن شريف سأل أبو جهل، وقد خلا كل منهما بالآخر يوم بدر، فقال : يا أبا الحكم، أخبرنى عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ههنا من قريش أحد غيرى وغيرك يسمع كلامنا، فقال أبو جهل : ويحك، والله إن محمداً لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذ ذهب
بنو قصى باللواء، والحجابة، والسقاية، والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ فذلك قوله تعالى : فإنم يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون : قال : "فآيات الله يا محمد : محمد "( )0
3- وعن على بن أبى طالب قال : قال أبو جهل للنبى ، قد نعلم يا محمد أنك تصل الرحم وتصدق الحديث، ولا نكذبك ولكن نكذب الذى جئت به، فأنزل الله عز وجل : قد نعلم إنه ليحزنك الذى يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون( )0
4- ومن شهادات الأعداء لرسول الله بالصدق، شهادة أمية بن خلف عندما قال له سعد بن معاذ، إنى سمعت محمداً يزعم أنه قاتلك قال : إياى؟ قال : نعم. قال : والله ما يكذب محمد إذا حدث، وقد تحقق ذلك يوم بدر حيث اشترك فى الغزوة، ورآه المسلمون فقتلوه شر قتلة( )0
5- ومن ذلك أيضاً شهادة النضر بن الحارث فى قوله : "يا معشر قريش إنه والله قد نزل بكم أمر ما ابتليتم بمثله، ولقد كان محمد فيكم غلاماً حدثاً، أرضاكم عقلاً، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم فى صدغيه( ) الشيب، وجاءكم بما جاءكم قلتم : ساحراً! لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم : كاهن! لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وحالهم، وسمعنا سجعهم، وقلتم : شاعر! لا والله ما هو بشاعر، لقد رأينا الشعر، وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه وقريضه، وقلتم : مجنون! لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون، فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه، ثم قال لهم، يا معشر قريش، انظروا فى شأنكـم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم"( ) فهذا كلام النضر بن الحارث الـذى كـان
من شيطاناً من شياطين قريش، وممن كان يؤذى رسول الله ، وينصب له العداوة. وكذا قال غيره كلاماً نحو ذلك من إثبات صدق النبى ، وكماله الخلقى والخلقى، كالوليد بن المغيرة( ) وعتبة بن ربيعة( ) وغيرهما0
ومن شهادات الصحابة رضى الله عنهم بصدقه ما يلى :
1- قول خديجة رضى الله عنها فى قصة بدء الوحى، حيث قالت له وهى الخبيرة به : "كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبداً، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق"( )0
فهذه شهادة من خبر أخلاقه وسبر أحواله ، ولا ينبئك مثل خبير، ولذلك كانت مثل هذه الشهادات على صدقه من أقرب الناس إليه تعد من أبلغ الدلائل على صدق دعواه الرسالة، وعصمته فى بلاغ الوحى، وكانت تلك الشهادات محل ثقة أعدائه0
قال الكتاب المستشرق الإنجليزى (هـ جى ويلز) : "إن من أرفع الأدلة على صدق محمد كون أهله وأقرب الناس إليه يؤمنون به، فقد كانوا مطلعين على أسراره، ولو شكوا فى صدقه لما آمنوا به"( )0
2- ومن أقوال الصحابة رضى الله عنهم عن صدقه وعصمته فى بلاغ الوحى، ما كان يعبر عنه ابن مسعود رضى الله عنه بقوله : "حدثنا رسول الله وهو الصادق المصدوق : "إن أحدكم يجمع خلقه فى بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك… الحديث"( )0
3- وكذا كان يقول أبو هريرة رضى الله عنه، كقوله : "سمعت أبا القاسم الصادق المصدوق ، صاحب هذه الحجرة يقول : "لا تنزع الرحمة إلا من شقى"( )0
4- وكذلك ما كان من أبى بكر رضى الله عنه من التصديق الكامل بكل ما يقوله النبى منذ أول دعوته، حتى شهد له بذلك بقوله : "إن الله بعثنى إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر : صدق، وواسانى بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لى صاحبى؟ مرتين…"( )0
وبالجملة : فقد كانت هيئته تدل على مبلغ مكانته من الصدق، ودليلاً كافياً على صدق دعواه الرسالة، وعصمته فى كل ما يبلغه من وحى الله عز وجل، يعرفه بذلك كل من صفت فكرته، وتجرد عن الأنانية كما كان من الحبر عبد الله بن سلام رضى الله عنه( ) فإنه ما إن رآه عند مقدمة المدينة حتى استيقن صدقه كما قال : "لما قدم النبى المدينة انجفل( ) الناس إليه، وقيل قدم رسول الله ، قدم رسول الله ، قدم رسول الله ، فجئت فى الناس لأنظر إليه، فلما استبنت وجه رسول الله ، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، وكان أول شئ تكلم به أن قال : "أيها الناس : أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا والناس نيام، تدخلون الجنة بسلام"( )0
فلم يسعه بعد ذلك غير أن يعلن إسلامه، ويتبرأ من كيد يهود وعنادهم ففعل ذلك مقتنعاً مختاراً، ولقد أجاد عبد الله بن رواحة رضى الله عنه حيث قال :
لو لم تكن فيه آيات مبينة *** لكان منظره ينبيك بالخبر( )0
فانظر إلى حكاية الصحابة رضى الله عنهم عن صدقه حيث يسمونه بالصادق المصدوق، أى الصادق فى نفسه، المصدوق أى المعصوم فيما يجئ به عن ربه عز وجل، ويرون صدقه وعصمته ينبئ عنه مظهره وجواره، قبل أن تنبئ عنه أقواله0
ب- من دلائل عصمته فى نقل الوحى، ما ثبت من أخباره وآثاره، وسيره وشمائله، المعتنى بها، المستوفاة تفاصيلها، ولم يرد فى شئ منها تداركه لخبر صدر عنه، رجوعاً عن كذبة كذبها أو اعترافاً بخلف فى خبر أخبر به، ولو وقع منه شئ من ذلك لنقل إلينا. وإن الصحابة رضوان الله عليهم قد اتفقوا على أنه لم يصدر عن النبى خبر بخلاف الواقع فى أى أمر من الأمور، ولم يتثبتوا عن حاله عند ذلك، هل وقع فيها سهواً أم لا، ولم يتوقفوا حتى يتأكدوا إن كان ذلك جداً أو هزلاً، لأنه عليه الصلاة والسلام صادق معصوم فى كل ذلك عندهم، كل الصدق، وكل العصمة0
قال القاضى عياض : "ودليل ذلك اتفاق السلف، وإجماعهم عليه، وذلك أنا نعلم من دين الصحابة وعادتهم مبادرتهم إلى تصديق جميع أقواله، والثقة بجميع أخباره فى أى باب كانت، وعن أى شئ وقعت، وأنه لم يكن لهم توقف، ولا تردد فى شئ منها ولا استثبات عن حاله عند ذلك، هل وقع فيها سهو أم لا"( ) وقد استدل على ذلك بما جرى لسيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه، مع ابن أبى الحقيق اليهودى، حين أجلاهم من خيبر، حيث احتج عليه عمر رضى الله عنه، بقوله : "كيف بك إذا أخرجت من خيبر تعدو بك قلوصك ليلة بعد ليلة؟!" فقال اليهودى : كانت هذه هزيلة من أبى القاسم فقال له عمر : كذبت يا عدو الله! فأجلاهم عمر، وأعطاهم قيمة ما كان لهم من الثمر مالاً وإبلاً وعروضاً من أقتاب وحبال وغير ذلك"( )0
قلت : فثبت عن يقين عصمته فى بلاغ وحى الله من كتاب وسنة إلى الناس، ولا يجوز عليه خلف فيما أخبر به من الوحى، لا بقصد، ولا بغير قصد، ولا فى حال الجد والهزل، ولا فى حال الصحة والمرض أو أى حال كان0
جـ- ومما يشهد بعصمته فى بلاغ الوحى، وأنه لا يقول إلا حقاً سواء فى الرضى والغضب، والصحة والمرض "فترة الوحى فى قصة الإفك" لقد كانت تنزل برسول الله نوازل من شأنها أن تحفزه إلى القول، وكانت حاجته القصوى تلح عليه أن يتكلم بحيث لو كان الأمر إليه، لوجد له مقالاً ومجالاً، ولكنه كانت تمضى الليالى والأيام تتبعها الليالى والأيام، ولا يجد فى شأنها وحياً من قرآن أو سنة يقرؤه على الناس0
ألم يرجف المنافقون بحديث الإفك عن زوجه عائشة رضى الله عنها، وأبطأ الوحى، وطال الأمر والناس يخوضون، حتى بلغت القلوب الحناجر، وهو لا يستطيع إلا أن يقول بكل تحفظ واحتراس : "إنى لا أعلم عنها إلا خيراً" ثم إنه بعد أن بذل جهده فى التحرى والسؤال، واستشارة الأصحاب، ومضى شهر بأكمله، والكل يقولون ما علمنا عليها من سوء، لم يزد على أن قال آخر الأمر : "يا عائشة، أما إنه بلغنى كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفرى الله"( )0
هذا كلامه بوحى ضميره، وهو كما ترى كلام البشر الذى لا يعلم الغيب إلا بوحى ربه، وكلام الصديق المتثبت الذى لا يتبع الظن، ولا يقول ما ليس له به علم0
على أنه ، لم يغادر مكانه بعد أن قال هذه الكلمات حتى نزل صدر سورة النور معلناً براءتها، ومصدراً الحكم المبرم بشرفها وطهارتها. فماذا كان يمنعه، لو أن أمر الوحى إليه، أن يتقول هذه الكلمة الحاسمة من قبل، ليحمى بها عرضه، ويذب بها عن عرينه، وينسبها إلى الوحى الإلهى لتنقطع ألسنة المتخرصين؟ ولكنه ما كان ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله، قال تعالى : ولو تقول علينا بعض الأقاويل. لأخذنا منه باليمين. ثم لقطعنا منه الوتين. فما منكم من أحد عنه حاجزين( )0
د- هذا حاله فى أفعاله يشهد بصدقه وعصمته فى كل ما يبلغ عن ربه عز وجل، ومن أقواله على عصمته فى بلاغ وحى الله عز وجل من كتاب وسنة ما يلى :
1- حديث طلحة بن عبيد الله رضى الله عنه وجاء فيه قوله : "إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإنى لن أكذب على الله"( ) والحديث نص على عصمته من الكذب فيما يخبر به عن الله تعالى0
2- حديث عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما قال : كنت أكتب كل شئ أسمعه من رسول الله أريد حفظه، فنهتنى قريش وقالوا : أتكتب كل شئ تسمعه؟ ورسول الله بشر يتكلم فى الغضب والرضى؟! قال : فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله ، فأومأ بأصبعه إلى فيه، فقال : "أكتب فواللذى نفسى بيده ما يخرج منه إلا الحق"( )0
3- حديث أبى هريرة رضى الله عنه عن رسول الله أنه قال : "إنى لا أقول إلا حقاً" قال بعض أصحابه : فإنك تداعبنا يا رسول الله. قال : "إنى لا أقول إلا حقاً"( )0
ثالثاً : من دلائل عصمته فى تبليغ الوحى، إجماع الأمة :
أجمع أهل الملل والشرائع كلها على عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من أى شئ يخل بالتبليغ، فلا يجوز عليهم التحريف، ولا الكذب قليلة وكثيرة، سهوه وعمده، فكل هذا مما ينزه عنه منصب النبوة، وإلا لم يبق الاعتماد على شئ من الشرائع، ولما تميز لنا الغلط والسهو من غيره، ولاختلط الحق بالباطل، واستدلوا لذلك بأنه لو جاز عليهم التقول والافتراء فى ذلك عقلاً، لأدى إلى إبطال المعجزة القاطعة بصدقهم؛ وإبطال المعجزة محال، فالكذب فى التبليغ وعدم العصمة فيه، محال أيضاً( )0
يقول القاضى عياض : "قامت الدلائل الواضحة بصحة المعجزة على صدقه وأجمعت الأمة فيما كان طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار بشئ منها بخلاف ما هو به( ) والكلام هنا ليس خاصاً بالنبى ، بل وغيره من الأنبياء كذلك، إذ لا فرق بينهم فى واجب التبليغ0
واستدل القاضى على ذلك بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص السابق ذكره قريباً، ثم قال: فإذا قامت المعجزة على صدقه وأنه لا يقول إلا حقاً، ولا يبلغ عن الله تعالى إلا صدقاً، وأن المعجزة قائمة مقام قول الله له : صدقت فيما تذكر عنى، وهو يقول : إنى رسول الله إليكم، لأبلغكم ما أرسلت به إليكم، وأبين لكم ما نزل عليكم، فلا يصح أن يوجد منه فى هذا الباب خبر بخلاف مخبره على أى وجه كان، قال : فلو جوزنا عليه الغلط والسهو فى بلاغ الوحى، لما تميز لنا الغلط والسهو من غيره، ولاختلط الحق بالباطل، فالمعجزة مشتملة على تصديقه جملة واحدة من غير خصوص، فتنزيه النبى ، عن ذلك كله واجب برهاناً وإجماعاً"( )0
وبعد : إذا تقرر لك هنا فى هذا الفصل، عصمته فى تبليغ الوحى، من خلال القرآن الكريم، والسنة المطهرة، والسيرة العطرة، وإجماع الأمة، فقد حان الوقت لبيان شبه الطاعنين فى الوحى الإلهى من أعداء الإسلام، وأعداء السنة المطهرة والرد عليها، فإلى بيان ذلك فى الفصل التالى0
=====
الباب الثالث
عصمة رسول الله فى اجتهاده
ودفع الشبهات
ويشتمل على فصلين :
الفصل الأول : عصمته فى اجتهاده كما يصورها القرآن الكريم والسنة النبوية. ويشتمل على مبحثين :
المبحث الأول : التعريف بالاجتهاد، وحكمته فى حقه 0
المبحث الثانى : دلائل عصمته فى اجتهاده من خلال القرآن الكريم والسنة المطهرة0
الفصل الثانى : شبهة أن اجتهاد رسول الله يؤيد أن السنة ليست كلها وحى والرد عليها0
الفصل الأول
عصمته فى اجتهاده كما يصورها القرآن الكريم
والسنة النبوية
ويشتمل على مبحثين :
المبحث الأول : التعريف بالاجتهاد، وحكمته فى حقه 0
المبحث الثانى : دلائل عصمته فى اجتهاده من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية0
المبحث الأول
التعريف بالاجتهاد، وحكمته فى حقه
أولاً : التعريف بالاجتهاد :
أ- من حيث اللغة :
مأخوذ من الجهد، وهو المشقة والطاقة، فيختص بما فيه مشقة ليخرج عنه مالا مشقة فيه0
قال الرازى( ) هو فى اللغة عبارة عن استفراغ الوسع فى أى فعل كان، يقال : استفرغ وسعه فى حمل الثقيل، ولا يقال : استفرغ وسعه فى حمل النواة( ) ومنه حديث معاذ رضى الله عنه حين بعثه رسول الله إلى اليمن، وقال له : "كيف تقضى إذا عرض لك قضاء" قال : أقضى بكتاب الله، قال : "فإن لم تجد فى كتاب الله" قال : فبسنة رسول الله ، قال : "فإن لم تجد فى سنة رسول الله ، ولا فى كتاب الله؟" قال : اجتهد رأى ولا آلوا، فضرب رسول الله صدره وقال : الحمد الذى وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضى رسول الله"( )0
ب- معناه الاصطلاحى :
اختلفت عبارات الأصوليين فى تعريف الاجتهاد اصطلاحاً، اختلافاً يرجع إلى معنى واحد، وهو : بذل الفقيه الوسع، فى تحصيل الأحكام الشرعية الظنية من أدلتها التفصيلية( ) وبهذا تظهر العلاقة بين المعنى اللغوى والاصطلاحى وهى : استفراغ الوسع فى تحصيل شئ0
قال ابن الأثير : والمراد به رد القضية التى تعرض للحاكم من طريق القياس إلى الكتاب والسنة، ولم يرد الرأى الذى يراه من قبل نفسه، من غير حمل على كتاب أو سنة( )0
وإذا نظرنا فى المعنى الاصطلاحى رأيناه ينصب على اجتهادات فقهاء الأمة بجميع مداركها من النظر فى النصوص كتاباً وسنة، وفى القياس والإجماع وغيرهما من مدارك الاجتهاد0
واجتهاده لا يحتاج إلى النظر فى النصوص من الجهات التى احتاج إليها علماء أمته، لأن النصوص جميعها بينة له من جميع هذه الجهات وغيرها0
وأما ما يظهر فى بعض اجتهاداته أنه من قبيل القياس، فالحمل فيه لتقريب فهم الحادثة المسئول عنها أو المخبر بها، ولفتح باب الاجتهاد لعلماء أمته المؤهلين له، لا لاستنباط الحكم بالنظر فى النصوص( )0
وبالجملة : فالقسم الثانى من الوحى الإلهى إلى رسول الله (الوحى التوفيقى) أو (الوحى الباطنى) على حد تعبير الأحناف( ) وهو : ما قاله رسول الله باجتهاده مما يعلم أنه من شرع الله تعالى، فإن وافق قوله أو فعله مراد الله تعالى، فالأمر كما أخبر رسول الله ، وإن كان الأمر يحتاج إلى تصحيح أو توضيح، أوحى الله تعالى إلى نبيه بذلك( )0
وهذا أهم ما يفرق به بين اجتهاد النبى ، واجتهاد علماء أمته أن اجتهاده محروس بوحى الله تعالى، فلا يقر على خطأ ومن هنا فهو حجة فى الدين ويحرم مخالفته، وليس كذلك اجتهاد علماء أمته. اللهم إذا كان اجتهاد علماء الأمة فى عصر من العصور وأجمعوا عليه فيحرم مخالفته0
قال الإمام الغزالى( ) : "دل الدليل من الإجماع على تحريم مخالفة اجتهاده ، كما دل على تحريم مخالفة الأمة كافة، وكما دل على تحريم مخالفة اجتهاد الإمام الأعظم والحاكم، لأن صلاح الخلق فى اتباع رأى الإمام والحاكم وكافة الأمة، فكذلك النبى "( )0
ثانياً : الحكمة فى اجتهاد رسول الله :
أمر المولى عز وجل نبيه ، بالاجتهاد فى قوله تعالى : وشاورهم فى الأمر( ) ووجه الاستدلال بالآية : أن المشاورة إنما تكون فيما حكم فيه بطريق الاجتهاد، إذ لا مشاورة فيما نزل به وحى( )0
ولا ريب أن الأمر بالمشاورة أمر له بالاجتهاد لاستظهار آراء من معه من المؤمنين ليختار منها باجتهاده ما يراه موافقاً للمصلحة، وهذا هو الاجتهاد المطلوب0
وقول من قال أن الآية واردة فى الحروب؛ لا يمنع من ثبوت الاجتهاد له بها( ) إذ الحروب جهاد فى سبيل الله، وهى أحكام شرعية فالاجتهاد فيها يقتضى جواز الاجتهاد فى غيرها إذ لا فارق0
وهنا يرد سؤال :
إذا كان أى نبى عندما يجتهد عرضة لأن يصيب وأن يخطئ، فلماذا يكلهم الله عز وجل إلى الاجتهاد الذى قد يخطئون فيه؟ ولماذا لا يسعفهم بالوحى الذى يفصل فى الأمور والقضايا ولا يحوجهم إلى الاجتهاد؟0
والجواب :
أن الله عز وجل حكماً فى أن يترك الرسل يجتهدون، ثم ينبههم ويعاتبهم إذا أخطأوا؛ أبين بعضها بالنسبة لنبينا محمد على النحو التالى :
الحكمة الأولى :
إقامة الدليل على بشرية الرسول وعبوديته، وأنه مع كونه رسولاً، لم يتجاوز أن يكون عبداً يصيب ويخطئ، كما يصيب البشر ويخطئون؛ ولكنه لا يقر على خطأ0
ويدل على هذه الحكمة ويشهد لها قوله : "إنما أنا بشر، وإنه يأتينى الخصم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صدق فأقضى له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم؛ فإنما هى قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها"( )0
الحكمة الثانية :
البرهنة على أمانة الرسول فى إبلاغ الرسالة، وعدم كتمانه شيئاً مما أنزل عليه من ربه، إذ لو كتم شيئاً لكتم آيات العتاب ما خالف فيه الأولى؛ يدل على ذلك ما روى عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال : "لو كان رسول الله كاتماً شيئاً، لكتم هذه الآية : وإذا تقول للذى أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفى فى نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه( )0
الحكمة الثالثة :
تشجيع الأمة على الاجتهاد وإعمال الفكر فيما يعرض لها من قضايا وأحداث لا يجدون فيها نصوصاً، فإن الأحداث تتجدد، ولا تنتهى عند حد، فكيف يواجهها المسلمون ولا نصوص فيها؛ إذا لم يجتهدو ليتعرفوا على أحكامها؟0
الحكمة الرابعة :
رحمة للأمة بتأسيس أعظم قاعدة للحكم الإسلامى، وهى التزام الشورى، وترك الاستبداد. ويؤيد هذا ما جاء عن ابن عباس رضى الله عنهما قال : "لما نزلت وشاورهم فى الأمر قال رسول الله : "أما إن الله ورسوله لغنيان عنها، ولكن جعلها الله رحمة لأمتى فمن استشار منهم لم يعدم راشداً، ومن تركها لم يعدم غياً"( )0
قال الإمام ابن جرير : "إن الله عز وجل أمر نبيه بمشورة أصحابه فيما حزبه من أمر عدوه، ومكايد حربه، تألفاً منه بذلك من لم تكن بصيرته بالإسلام؛ البصيرة التى يؤمن عليها معها فتنة الشيطان، وتعريفاً منه أمته فى الأمور التى تقع بهم من بعده وحلها، ليقتدوا به فى ذلك عند النوازل التى تنزل بهم فيتشاوروا فيما بينهم، كما كانوا يرونه فى حياته يفعله، فأما النبى فإن الله تعالى كان يعرفه مطالب وجوه ما حزبه من الأمور بوحيه وإلهامه إياه صواب ذلك، وأما أمته فإنهم إذا تشاوروا مستنين بفعله فى ذلك على تصادق وتآخ للحق، وإرادة جميعهم للصواب، من غير ميل إلى هوى، ولا حيد عن هدى، فالله مسددهم وموفقهم"( )0
ويؤيد ما سبق ما روى عن الحسن البصرى قال : "قد علم أنه ليس به إليهم حاجة، وربما قال : ليس له إليهم حاجة، ولكن أراد أن يستن به من بعده"( )0
وقد غرس رسول الله هذا المبدأ "الشورى" فى نفوس أصحابه حتى كان يشاورهم فى أمور الدين والدنيا( ) قال أبو هريرة رضى الله عنه : "ما رأيت أحداً قط أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله "( ) وقد اقتفى أثره الخلفاء الراشدون رضى الله عنهم وغيرهم ممن ولى أمر المسلمين بعده من صحابته الكرام وولاة المسلمين الأخيار، فكانوا لا يعدلون بالاستشارة فى أمور المسلمين النازلة بهم، كما قال الإمام البخارى : "وكانت الأئمة بعد النبى يستشيرون الأمناء من أهل العلم فى الأمور المباحة، ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبى ، ثم ضرب البخارى أمثلة لذلك( ) وهى كثيرة معلومة، لا مجال لذكرها هنا( )0
وبعد أن فرغت من تعريف الاجتهاد، وحكمته فى حق رسول الله ، فقد حان الوقت لبيان دلائل عصمته فى اجتهاده، فإلى بيان ذلك فى المبحث التالى0
المبحث الثانى
دلائل عصمته فى اجتهاده من خلال
القرآن الكريم والسنة النبوية
اجتهاد رسول الله فى الشريعة الإسلامية، جوازه وعدمه فى حقه، موضوع قديم أعطاه العلماء حقه فى البحث، وجمهور المحققين من العلماء؛ أن رسول الله اجتهد فعلاً( ). واجتهاده فى الدين والدنيا، إن وافق مراد الله تعالى، فالأمر كما أخبر به رسول الله ، وإن كان الأمر يحتاج إلى تصحيح أو توضيح أوحى الله تعالى إلى نبيه بذلك0
قال الإمام الشاطبى : "فاعلم أن النبى مؤيد بالعصمة، معضود بالمعجزة الدالة على صدق ما قال وصحة ما بين، وأنت ترى الاجتهاد الصادر منه معصوماً بلا خلاف، إما بأنه لا يخطئ البتة، وإما بأنه لا يقر على خطأ إن فرض، فما ظنك بغير ذلك؟"( ) والأدلة على عصمة رسول الله فى اجتهاده كثيرة يشهد بها كتاب الله عز وجل وسنة رسوله ، وإجماع الأمة0
أولاً : الأدلة من القرآن الكريم على عصمته فى اجتهاده :
1- قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم فى شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً( ) ووجه الاستدلال بهذه الآية الكريمة فى موضعين :
الأول : أن الله تعالى أمر فيها بطاعته سبحانه وطاعة رسوله، وطاعة الله تعالى إنما تكون بامتثال جميع ما نزل به وحيه تعالى على الرسول ، وطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام، إنما تكون بامتثال كل حكم يخبر به سواء كان عن وحى أو عن اجتهاد، وإلا لم يكن لتخصيص طاعة الرسول بعد طاعة الله فائدة فى الذكر. وبالتالى فالأمر بطاعته دليل على عصمته فى اجتهاده0
الثانى : أن الله تعالى أمر فى هذه الآية الكريمة المتنازعين فى شئ بالرد إلى الله وإلى الرسول. والرد إلى الله رد إلى وحيه المنزل على الرسول سواء أكان متلو وهو القرآن، أم غير متلو وهو السنة. والرد إلى الرسول يقتضى أن يكون الأمر المردود إليه غير داخل فى الوحى وإلا لزم التكرار، والذى لا يدخل فى الوحى وتجب طاعة الرسول فيه هو ما أمر به باجتهاده بدليل قوله تعالى : ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم( ) ووجه الاستدلال به أن الله تعالى قد سوى بين الرسول وبين أولى الأمر – وهم العلماء – فى الاستنباط. فلو لم يكن الاجتهاد جائزاً للرسول ، وتجب طاعته فيه لعصمته؛ لما كان الأمر بالرد أى فائدة!!0
2- وقوله تعالى : فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط( ) ووجه الاستدلال بالآية من ناحيتين:
الأولى : أن الله تعالى جعل الرسول بالخيار فى الحكم بينهم، فإن شاء حكم، وإن شاء أعرض ولم يحكم، أى أن الأمر مفوض إليه ، فإن رأى – باجتهاده – مصلحة وحسن قبول منهم لحكمه حكم بينهم وإلا أعرض عنهم ولا ضرر عليه منهم0
الثانية : أن تقييد أمره بالحكم بينهم (بالقسط) يشعر بزيادة تنبيهه على تحرى الصواب فيما يحكم به، وهو دليل على أن الله تعالى أذن له أن يحكم بينهم باجتهاده، لأنه لو كان الحكم بالوحى لم يكن لهذا القيد فائدة بالنسبة للرسول لأنه لا يحكم إلا بالقسط فدل ذلك على عصمته فى اجتهاده فيما يحكم فيه0
3- وقوله سبحانه : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً( )0
ووجه الاستدلال بالآية : أمر رب العزة عباده بتحكيم رسول الله فى كل شأن من شئون حياتهم، وينقادوا لحكمه انقياداً مطلقاً لا معارضة فيه، وإلا فلا يستحقوا وصف الإيمان0
وإذا كان حكم رسول الله على ما سبق – من الآيات السابقة – يكون بوحى وباجتهاده؛ دل ذلك على عصمته فى اجتهاده، وإلا لما وجب التسليم لحكمه تسليماً مطلقاً0
والآية ترد قول الذين شذوا بتجويز الخطأ عليه فى اجتهاده، وقد أشار التاج السبكى إلى رد هذا القول الشاذ بقوله : "والصواب أن اجتهاده عليه الصلاة والسلام لا يخطئ"( )0
4- وقوله عز وجل : إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما آراك الله ولا تكن للخائنين خصيما( )0
فهذه الآية الكريمة احتج بها العلماء على حكم رسول الله باجتهاده؛ وأن هذا الحكم معصوم فيه، بدلالة قوله تعالى : بما أراك الله فإذا أقره رب العزة على اجتهاده فى حكمه فهو حكم الله فى النهاية0
وفى الصحيحين وغيرهما عن أم سلمة رضى الله عنها قالت : جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله فى مواريث بينهما قد درست، ليس عندهما بينة، فقال رسول الله : "إنكم تختصمون إلى، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحن( ) بحجته من بعض، وإنما أقضى بينكم على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار، يأتى بها إسطاماً( ) فى عنقه يوم القيامة. فبكى الرجلان، وقال كل منهما : حقى لأخى فقال رسول الله : "أما إذ قلتما فاذهبا فاقتسما، ثم توخيا الحق، ثم استهما( ) ثم ليحلل لك واحد منكما صاحبه"( ) وفى رواية : "إنى إنما أقضى بينكم برأيى فيما لم ينزل على فيه"( )0
فتأمل قوله : "أقضى بينكم برأيى… الخ" مع وصف رب العزة هذا الرأى بأنه من عنده فى قوله تعالى : لتحكم بين الناس بما أراك الله وتأمل مع ذلك قول عمر بن الخطاب رضى الله عنه وهو على المنبر : "يا أيها الناس، إن الرأى إنما كان من رسول الله مصيباً، لأن الله كان يريه، وإنما هو منا الظن والتكلف"( ) وهذا الكلام صريح فيما قررته من أنه يحكم باجتهاده، وهو فى هذا الاجتهاد معصوم لا يخطئ فيه0
5- وقوله تعالى : إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون( ) وأفرد الضمير فى قوله "ليحكم" لإفادة أن حكم الله ورسوله واحد. قال الأستاذ عبد الله الغمارى : "وفى الآية دليل على أن رسول الله معصوم فى أحكامه الاجتهادية لا يخطئ فيها، لأن الله تعالى جعل حكم نبيه حكمه، والخطأ فى حقه تعالى محال. فما زعمه بعض مبتدعة هذا العصر من نسبة الخطأ إليه فى بعض أحكامه الاجتهادية ضلال مبنى على جهل، لأن الخطأ الاجتهادى لا يقر عليه ، إذ ينزل التنبيه وبعد التنبيه والتصحيح لا خطأ، وزاد بعضهم جهلاً وضلالة، فجوز مخالفة بعض قضاياه الاجتهادية، إذا اقتضت المصلحة ذلك، ولا أدرى كيف خفيت عليه هذه الآية؟ وآية سورة النساء؟( ) وأى مصلحة تقتضى مخالفة حكمه؟ والقرآن ينفى الإيمان عمن لم يسلم له تسليماً"( )0
6- وقوله عز وجل إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستئذنوه إن الذين يستئذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استئذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم( )0
والشاهد فى الآية فى قوله : فأذن لمن شئت منهم حيث فوض رب العزة إلى رسوله الأمر لمشيئته وإذنه بعد وجوب استئذانهم قبل الانصراف عنه فى كل أمر يجتمعون عليه. وفى هذا التفويض من المولى عزوجل لرسوله دليل على اجتهاده وعصمته فيه! ولو خالف الأولى فى اجتهاده ينزل التصحيح والتنبيه. وهو دليل عصمته فى اجتهاده. بدليل قوله تعالى : عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين( )0
فظاهر الآية الكريمة يفيد : أنه اجتهد بالأذن لبعض المنافقين فى التخلف عن الخروج إلى تبوك، وكان إذنه على خلاف الأولى فجاء التصحيح والتنبيه على ذلك؛ وهو دليل عصمته فى اجتهاده. وليس فى هذا الإذن ذنب ولا جريمة لسببين :
أولهما : أن الله تعالى لم يتقدم إليه فى ذلك بأمر ولا نهى0
ثانيهما : أنه أذن لهم اجتهاداً منه بناء على عموم آية النور من تفويضه بالإذن لمن شاء، فكيف ينسب إليه ذنب أو جريمة؟! بل لو فرض أنه أخطأ لكان مثاباً على اجتهاده غير مؤاخذ بخطئه، ولكنه لم يخطئ، لأنه سلك ما هو الأوفق بخلقه العظيم من التيسير على أصحابه، والميل إلى ستر حالهم، وتفويض أمرهم إلى الله تعالى، ولكن الله تعالى أراد منه أن يكون شديداً على المنافقين فهو كقوله تعالى : يا أيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم( ) فالإذن للمنافقين كان جائزاً بحسب عموم آية النور، ثم نسخ بهذه الآية. كما كان الاستغفار لهم والصلاة عليهم جائزين، ثم نسخا بقوله تعالى: ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره( ) وفاعل الحكم المنسوخ قبل نسخه لا يكون عاصياً، بل هو مثاب مبرور0
ويؤيد ما سبق استفتاح الكلام بالعفو، عفا الله عنك والآية بحسب الأسلوب العربى، تفيد تكريم النبى وتعظيمه خلافاً لمن وهم ففهم منها عتابه أو تأنيبه، فيستوجب ما فهمه ذلك الواهم( )0
7- وقوله سبحانه : إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور رحيم( ) إن هذه الآية تتحدث عن أمر رسول الله للرماة يوم أحد الوارد فى قوله : "احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتنمونا قد غنمنا فلا تشركونا"( )0
إن هذا الأمر النبوى للرماة يوم أحد أمر اجتهادى منه تقتضيه طبيعة المعركة يومها، وهو اجتهاد عصم فيه رسول الله ، ووافق مراد الله تعالى بدليل عتاب المولى عز وجل للرماة فى الآية السابقة، ووصفهم بالعصاة فى قوله عز وجل : ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم فى الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين( )0
وتأمل : وتنازعتم فى الأمر وعصيتم إنه تقرير لعصمة رسول الله فى أمره الاجتهادى للرماة يوم أحد، ووصف المخالفين له يومئذ بالعصيان، ولكن عفا الله عنهم : والله ذو فضل على المؤمنين0
8- وقوله عز وجل : ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزى الفاسقين( ). ووجه الاستدلال بالآية على عصمته فى اجتهاده أنها تصرح على ما ورد فى الصحيح من أن أمر رسول الله بحرق نخيل بنى النضير وقطعه كان باجتهاده، وهو اجتهاد أقره رب العزة حيث وصفه بإذنه فى وحى متلو، وأنزله جواباً لسؤال بعض الصحابة كما حاك فى صدورهم وأثر فيها؛ من حيث صواب وخطأ بعضهم فى قطع بعض النخيل وترك بعضه. فعن ابن عباس رضى الله عنهما قال : "اللينة النخلة، وليخزى الفاسقين قال : استنزلوهم من حصونهم قال : أمروا بقطع النخل فحاك فى صدورهم. فقال المسلمون : قد قطعنا بعضاً وتركنا بعضاً، فلنسألن رسول الله ، هل لنا فيما قطعنا من أجر؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ فأنزل الله عز وجل : ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزى الفاسقين( ) فهل بعد ذلك شك فى اجتهاده فى الشريعة الإسلامية وعصمته فيه؟!0
نعم أقول : إن رسول الله أذن له بالاجتهاد فى الشريعة الإسلامية واجتهد فعلاً، وأن اجتهاده فى بعض الأحيان القليلة كان خلاف حكم الله، فجاء الوحى بتصحيح الحكم والإرشاد إلى ما ينبغى. كما فى قوله تعالى : يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضات أزواجك والله غفور رحيم. قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم( )0
أو جاء الوحى بإمضاء حكم اجتهاده مع التنبيه بما ينبغى كما فى قوله تعالى : ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم( ). أو جاء الوحى بإمضاء حكم اجتهاده وإقراره على ما سبق تفصيله قريباً فى الآيات السابقة0
أما زعم الشيعة أن اجتهاد رسول الله لا يجوز، فهو زعم مردود عليهم بما سبق من الأدلة القرآنية على اجتهاده فى الدين والدنيا وعصمته فيه0
أما زعمهم بأن ما استدل به من الآيات التى تدل على اجتهاده تنسب إليه الخطأ والذنب وهو يخل بعصمته( ) فقد سبق الجواب عن هذه الآيات تفصيلياً بما لا يخل بعصمته ( )0
وأزيد هنا جواباً إجمالياً ما قاله الأستاذ محمد عزة دروزة قال : "ولسنا نرى مساساً بالعصمة النبوية من ناحية تلك الاجتهادات التى عوتب عليها رسول الله فى القرآن، فالاجتهادات التى عوتب عليها فى القرآن ليست ذنوباً يمكن أن يكون صدورها من النبى ، مناقضاً للعصمة التى يجب الإيمان بها فيه، وإنما هى خلاف لما هو الأولى فى علم الله المغيب عنه فيما لا وحى فيه. والعصمة الواجب الإيمان بها ليست هى التى تجعل النبى يمتنع عليه أن يصدر منه أى فعل أو قول أو اجتهاد فى مختلف شئون الحياة والناس، قد يكون فيه الخطأ والصواب، وخلاف الأولى الذى فى علم الله تعالى؛ والذى لا ينكشف له إلا بوحى، مما لا يمكن أن ينتفى عن الطبيعة البشرية النبوية المقررة فى القرآن ولكنها التى تجعله يمتنع عن أى إثم أو جريمة أو فاحشة، أو مخالفة للقرآن قولاً وفعلاً، وعن كتم أى شئ أوحى به إليه، أو تحريفه وتبديله نتيجة لما وصل إليه بنعمة الله وفضله من كمال الخلق والروح والعقل والإيمان والاستغراق فى الله الذى جعله أهلاً للاصطفاء الربانى"( ) أهـ0
ثانياً : الأدلة من السنة النبوية على عصمته فى اجتهاده :
اعتبر العلماء ما قاله رسول الله باجتهاده مما يعلم أنه من شرع الله تعالى؛ من وحى السنة المطهرة، وسماه الأحناف بالوحى الباطنى( ) وعللوا ذلك بأنه ما كان الله عز وجل ليترك خطأ يصدر من رسوله المبلغ عنه، مما يترتب عليه وقوع الأمة فيه اتباعاً0
وإذا كانت الحكمة من إرسال الرسل أن لا تكون للناس على الله حجة رسلاً مبشرين ومنذرين لئلاً يكون للناس على الله حجة بعد الرسل( ) فإن ذلك يتم بعصمة المرسل من الوقوع فى أى خطأ، فإن كان اجتهاده صواباً أقره الوحى، وإن كان غير صواب نبهه الوحى. يدل على ذلك ما يلى :
1- عن أبى قتادة رضى الله عنه، أن رجلاً سأل رسول الله ، أرأيت إن قتلت فى سبيل الله، تكفر عنى خطاياى؟ فقال له رسول الله : نعم. إن قتلت فى سبيل الله، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر، ثم قال رسول الله كيف قلت؟ قال : أرأيت إن قتلت فى سبيل الله، أتكفر عنى خطاياى؟ فقال رسول الله : نعم. وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر إلا الدين، فإن جبريل عليه السلام قال له ذلك"( )0
فتأمل كيف اجتهد رسول الله فى الجواب عن سؤال فى الإسلام! وكيف أقره وحى الله؛ مع الاستدراك فى الجواب زيادة "الدين" على ما أجاب به رسول الله ! وفى ذلك دلالته على جواز الاجتهاد لرسول الله فى الإسلام وعصمته فيه0
2- وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال : اختصم إلى النبى رجلان. فوقعت اليمين على أحدهما، فحلف بالله الذى لا إله إلا هو، ماله عنده شئ. فنزل جبريل على النبى ، فقال : إنه كاذب إن له عنده حقه، فأمره أن يعطيه حقه، وكفارة يمينه معرفته أن لا إله إلا الله أو شهادته"( )0
فتأمل دلالة الحديث على حكم رسول الله باجتهاده فى أموال الناس، وتأمل كيف أن الحكم فى المسألة الواردة فى الحديث لا بينة فيه، ويتوقف حكمها على يمين أحدهما، فحلف وكان كاذباً فى حقيقة الأمر، فحكم له رسول الله بالناقة – التى سرقها – إذ لا بينة مع المدعى ملكيتها0
وحكمه للحالف – كاذباً فى حقيقة الأمر – لا حرج عليه فى ذلك؛ بناء على الأصل فى الفصل فى الأحكام (البينة على المدعى، واليمين على من أنكر) كما قال : "لو يعطى الناس بدعواهم، لا دعى ناس دماء رجال وأموالهم. ولكن اليمين على المدعى عليه"( ) ولكن تأمل كيف أن الله عز وجل لا يرضى لنبيه إلا أن يكون حكمه الاجتهادى مطابقاً للواقع، ونفس الأمر، ظاهراً وباطناً؛ فنبهه جبريل عليه السلام قبل صدور الحكم. فبان بذلك بطلان ما زعمه بعض الشذاذ أن اجتهاد رسول الله يخل بعصمته0
3- ومن اجتهاداته المعصوم فيها اجتهاده فى غزوة بدر الكبرى، وكان ذلك فى ثلاثة مواضع: أحدها : فى الإقدام على المعركة، وثانيها : فى موضع نزول جيشه فى بدر، وثالثها : فى شأن الأسرى0
أما الموضع الأول : الاستشارة فى القتال، فكانت عندما "خرج رسول الله يريد عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد"( ) عندئذ استشار أصحابه فى مواجهتهم فعن أنس بن مالك؛ أن رسول الله شاور حين بلغه إقبال أبى سفيان. قال : فتكلم أبو بكر فأعرض عنه. ثم تكلم عمر فأعرض عنه. فقام سعد بن عبادة فقال : إيانا تريد؟ يا رسول الله! والذى نفسى بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها. ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد( ) لفعلنا"( ) فسر النبى بذلك ودعى له بخير، غير أنه عليه الصلاة والسلام لم يقنعه قول المهاجرين، لأن قتالهم معه أمر لا يشك فيه، فقد باعوا أنفسهم لله وخرجوا من ديارهم وأموالهم فراراً بعقيدتهم ونصرة نبيهم0
لكن الأنصار لم يكونوا كذلك، إذ إنما عاهدوا رسول الله على نصرته فى مدينتهم وديارهم، أما وهو فى بدر فذلك ما لم تقتضه نصوص المعاهدة، فأراد استشارتهم فيما هو محدق به وبهم من الخطر، ليكتشف رأيهم فيما يعد خارجاً عن بنود المعاهدة، فكرر طلب الاستشارة قائلاً : "أشيروا على أيها الناس" ففهمت الأنصار أنه يعنيهم، فبادر سعد بن معاذ فقال : يا رسول الله والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ فقال : أجل. فقال : لقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذى بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبر فى الحرب، صدق فى اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله0
فسر رسول الله بقول سعد ونشطه ذلك، ثم قال : "سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدنى إحدى الطائفتين. والله لكأنى الآن أنظر إلى مصارع القوم"( )0
وهكذا تمخضت المشاورة هذه برأى صائب سديد، وافقت ما قدره الله تعالى، لنبيه وعباده المؤمنين، واراه إياه، حتى كأنه يرى نتيجة ما هو قادم عليه رأى العين0
ويشهد بصحة هذه المشاورة، وأنها وافقت ما قدره الله تعالى قوله تعالى : كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون. يجادلونك فى الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون. وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين( )0
الموضع الثانى : الاستشارة فى المنزل، فعندما نزل النبى على أقرب ماء من بدر وعرض الأمر على الصحابة، فجاء الحباب بن المنذر( ) وقال : يا رسول الله! أرأيت هذا المنزل؛ أمنزلاً انزلكه الله تعالى ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأى والحرب والمكيدة؟ قال : "بل هو الرأى والحرب والمكيدة" فقال : يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نتأتى أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبنى عليه حوضاً فنملؤه ماء، ثم نقاتل فنشرب ولا يشربون، فقال النبى : "لقد أشرت بالرأى"( )0
وهذه المشاورة وافقت ما قدره الله تعالى، بدليل ما جاء فى مغازى الأموى، أن حباب بن المنذر لما أشار على النبى بتغير مكان نزوله يوم بدر؛ ورجع النبى إلى رأيه، نزل ملك من السماء، وجبريل جالس عند رسول الله ، فقال ذلك الملك : يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول لك : إن الرأى ما أشار به الحباب بن المنذر"( ) أليس فى ذلك أعظم دليل على أن اجتهاده معصوم فيه، بدلاله مراقبة الوحى لهذا الاجتهاد، حيث وافق مراد الله تعالى فجاء الإقرار؟!0
الموضع الثالث : الاستشارة فى شأن الأسرى، فقد انجلت المعركة عن قتل سبعين وأسر سبعين، فضلاً عن الغنائم الكثيرة، وكانت الأسرى أمراً ذى بال، استدعى أن يجمع له الرأى ويفكر فى أمره، لعددهم الكبير، وما يترتب على الإقدام فى شأنهم من نفع للإسلام والمسلمين0
وذلك ما جعل النبى يستشير ذوى الرأى والحجا من أصحابه فى الأمر الذى يصنعه بهم من قتل أو من أو فداء، فقال : لأبى بكر وعمر : "ما ترون فى هؤلاء الأسارى؟" فقال أبو بكر : يا نبى الله! هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله : "ما ترى يا ابن الخطاب؟" قال : فقلت : لا والله يا رسول الله! ما أرى الذى رأى أبو بكر، ولكنى أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم، فتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكنى من فلان (نسيب لعمر) فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، قال : فهوى رسول الله ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، قال : فلما كان من الغد جئت، فإذا رسول الله ، وأبو بكر قاعدين يبكيان، فقلت يا رسول الله! أخبرنى من أى شئ تبكى أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما؟ فقال رسول الله : "ابكى للذى عرض على أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض على عذابهم أدنى من هذه الشجر" شجرة قريبة من نبى الله وأنزل الله عز وجل : ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم. لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم. فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً واتقوا الله إن الله غفور رحيم( ) فأحل الله الغنيمة لهم"( )0
وفى نزول هذه الآيات دليل على مراقبة الوحى لما يجتهد فيه رسول الله وفى ذلك شاهد على عصمته فى اجتهاده؛ حيث جاء الوحى بإمضاء حكم اجتهاده مع التنبيه على ما ينبغى( )0
4- ومن اجتهاداته التى عصم فيها وجاء الوحى بإقرارها ما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن امرأة جاءت إلى النبى فقالت : أن أمى نذرت أن تحج فماتت قبل أن تحج أفأحج عنها؟ قال : نعم حجى عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت نعم. قال : فاقضوا الذى له فإن الله أحق بالوفاء"( )0
ووجه الاستدلال بالحديث أنه اجتهد فى إجابة السائلة واعتبر دين الله بدين العباد، وذلك بيان بطريق القياس، ولم يأت ما يخالف ذلك مما يدل على أن اجتهاده وافق مراد الله عز وجل فصار إقراراً0
وبهذا الإقرار صار اجتهاده حجة على العباد لعصمة الله له فيه، وبحكمه (قضاء الدين عن الميت) قالت الأمة، وأجمعت عليه( )0
5- ومن هذا النوع أيضاً أجابته عمر بن الخطاب حين قبل عمر امرأته وهو صائم؛ فظن أنه فعل أمراً عظيماً0
فعن عمر رضى الله عنه قال : "هششت( ) فقبلت وأنا صائم، فجئت رسول الله ، فقلت: إنى صنعت اليوم أمراً عظيماً، قبلت وأنا صائم. قال : "أرأيت لو مضمضت من الماء؟ قلت: إذاً لا يضر. قال : ففيم!" ( ) أى : ففيم تسأل( ) قال الخطابى : "فإذا كان أحد الأمرين منهما غير مفطر للصائم فالآخر بمثابته( ) ووجه الاستدلال بالحديث اجتهاده فى قياس القبلة على المضمضة فى عدم الأثر على الصوم، ولم يأت ما يخالف ذلك، فصار إقراراً من الوحى بعصمته فيما اجتهد فيه0
6- وعن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى ذات ليلة فى المسجد فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم ، فلما أصبح قال : قد رأيت الذى صنعتم، ولم يمنعنى من الخروج إليكم إلا إنى خشيت أن تفرض عليكم، وذلك فى رمضان"( )0
ووجه الاستدلال منه على عصمته فى اجتهاده أنه توقع أن يترتب على المواظبة على صلاة الليل جماعة فرضها عليهم، كما هى واجبة عليه ، لأن الأصل فى الشرع المساواة بين النبى وبين أمته فى العبادة مالم يدل دليل على الخصوصية، فأداه اجتهاده عليه الصلاة والسلام بسبب رحمته بهم إلى عدم الخروج إليهم والصلاة بهم خشية أن تفرض عليهم فيعجزوا عنها( ) وبما أنه لم يرد دليل على الفرضية، فهو بمنزلة الإقرار من رب العزة لما اجتهد فيه ؛ حيث وافق مراد الله بعدم الفرضية، وهو دليلنا على عصمته فى اجتهاده0
7- وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال : بعثنا رسول الله فى بعث فقال : "إن وجدتم فلاناً وفلاناً فاحرقوهما بالنار" ثم قال : حين أردنا الخروج : إنى أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً وأن النار لا يعذب بها إلا الله فإن وجدتموهما فاقتلوهما"( )0
إن قوله : "إن وجدتم فلاناً وفلاناً فاحرقوهما" كان هذا الأمر منه أولاً اجتهاداً، ثم عدل عنه باجتهاد آخر؛ وعلله بقوله : "النار لا يعذب بها إلا الله"0
وقد استدل بالحديث الحافظ ابن حجر على : "جواز الحكم بالشئ اجتهاداً ثم الرجوع عنه"( ) وفى الرجوع واستمرار الحكم على ذلك، وعدم ورود ما يخالفه عنه هو بمنزلة الإقرار من الله تعالى على هذا الحكم النهائى الذى رجع فيه رسول الله . وهو دليل عصمته فى اجتهاده0
وبعد : فهذه نماذج من الأحاديث التى تدل على اجتهاده فى الشريعة الإسلامية، وعصمة الله تعالى له فيها؛ إما بالإقرار إذا وافق اجتهاده مراده عز وجل، وإما بالتصويب والإرشاد إذا خالف اجتهاده مراده تعالى0
وفى كلا الأمرين (الإقرار والتصويب) هو بمنزلة الوحى الإلهى يصير حجة على العباد إلى يوم الدين؛ ويحرم مخالفته خلافاً لمن أجاز ذلك، وزعم أن خطأ رسول الله فى اجتهاده دليل على أنه يجوز الاجتهاد فى نفس الأحكام التى اجتهد فيها ومخالفته!( )0
ونعم أقول : إن بعض اجتهاداته لم تصادف الصواب؛ ولكن أين حكم الله تعالى فى الأمر الذى اجتهد فيه ولم يصب؟! إن ما يصدر عن النبى من اجتهاد – على ما تقرر سابقاً فى أكثر من موضع، إما أن يوافق حكم الله أولاً0
فإن وافق حكم الله على لسان نبيه ، فهو كما أخبر به عليه الصلاة والسلام، وإن لم يوافق حكم الله عدله إلى حكمه جلا جلاله. وإذن تصبح الأحكام الدينية التى حكم بها رسول الله اجتهاداً أحكام الله فى النهاية، وقبل لقائه الرفيق الأعلى، وتصير تلك الأحكام حجة إجماعاً بلا شك( ) ويشهد لصحة ما سبق إجماع الأمة على عصمته فى اجتهاده، فإلى بيان ذلك0
ثالثاً : إجماع الأمة على عصمة رسول الله فى اجتهاده :
لقد كان معلوماً لدى صحابة رسول الله أن الوحى قريب جداً من رسول الله ، ومنهم، وأنه لن يترك أمراً مخالفاً يمر، فما قاله عليه الصلاة والسلام باجتهاده دون وحى، فإنما هو من الإسلام وإلا جاء الوحى. يشهد لذلك ما روى عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال : "كنا نعزل على عهد رسول الله والقرآن ينزل" قال سفيان – أحد رجال إسناد هذا الحديث – موضحاً كلام جابر : لو كان شيئاً ينهى عنه لنهانا عنه القرآن"( )0
قال فضيلة الدكتور عبد المهدى عبد القادر : "ويظهر لى من كلام جابر هذا أن جابراً استدل على شرعية العزل بتقرير الله سبحانه وتعالى( ) وعليه فجابر يرى أن الوحى لا يقتصر على مراقبة رسول الله ، وإنما يراقب الأمة كلها، فأيما فعل فعلوه مخالفاً الإسلام نبه الوحى عليه، وأيما فعل فعلوه زمن الوحى وأقرهم عليه الوحى فهو من الإسلام"( ) وهذا هو الذى يفيده أيضاً ما رواه ابن سعد فى الطبقات عن الواقدى عن شيوخه قال : قد قتل مجذر بن ذياد، سويد بن الصامت، فى وقعة التقيا فيها فى الجاهلية. فظفر المجذر بسويد فقتله، وذلك قبل الإسلام. فلما قدم رسول الله المدينة أسلم الحارث بن سويد( ) ومجذر بن زياد( ) وشهدا بدراً. فجعل الحارث يطلب مجذراً ليقتله بأبيه، فلا يقدر عليه0
فلما كان يوم أحد وجال المسلمون تلك الجولة، أتاه الحارث من خلفه، فضرب عنقه. فلما رجع رسول الله من حمراء الأسد، أتاه جبريل، فأخبره أن الحارث بن سويد قتل مجذر بن زياد غيلة، وأمره أن يقتله… الحديث"( )0
قال ابن الأثير : اتفق أهل النقل على أن الحارث بن سويد هو الذى قتل المجذر بن زياد. فقتله النبى ( )0
وهذا الاتفاق الذى نقله ابن الأثير، يقتضى الحكم بصحة الحديث وإن لم يكن إسناده على شرط الصحة، كما تقرر فى علم الحديث( ) وهو ما ذكره السيوطى فى حكمه على هذا الحديث فى كتابه الباهر فى حكم النبى بالباطن والظاهر( )0
هذا ودلالة الحديث على مراقبة الوحى للأمة واضحة بإخبار جبريل عليه السلام لرسول الله بأن الحارث قتل مجذر غيلة، وأمره أن يقتله وهذه المراقبة للأمة كانوا على يقين بها، وهذا هو الذى يفيده حديث ابن عمر رضى الله عنه قال : "كنا نتقى الكلام والانبساط إلى نسائنا على عهد النبى هيبة أن ينزل فينا شئ، فلما توفى النبى تكلمنا وانبسطنا"( ) ومنه حديث عمر حينما سأل رسول الله ثلاث مرات فلم يجبه. فقال – أى عمر – ثكلتك أمك يا عمر، ثم قال : وخشيت أن ينزل فى قرآن"( )0
ومنه حديث سلمة بن صخر البياضى( ) إذ أتى زوجته فى رمضان فقال لقومه : امشوا معى إلى رسول الله ، فقالوا : لا والله لا نمشى معك، ما نأمن أن ينزل فيك القرآن، أو أن يكون فيك من رسول الله مقالة يلزمنا عارها … الحديث( )0
ومن إنكار الوحى عليهم حديث زيد بن خالد الجهنى( ) قال : صلى بنا رسول الله : صلاة الصبح بالحديبية فى إثر السماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال : هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال أصبح من عبادى مؤمن بى وكافر، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بى، كافر بالكواكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بى، مؤمن بالكواكب"( )0
وهكذا يتضح أن الوحى كان يراقب تصرفاته ، ويراقب الأمة أيضاً. وفى كل ذلك دلالته على عصمته فى اجتهاده. وعلى ذلك اتفاق السلف وإجماعهم عليه؛ وذلك أنا نعلم من دين الصحابة وعادتهم مبادرتهم إلى تصديق جميع أحواله، والثقة بجميع أخباره فى أى باب كانت، وعن أى شئ وقعت، وأنه لم يكن لهم توقف، ولا تردد فى شئ منها، ولا استثبات عن حاله عند ذلك هل وقع فيها سهو أم لا، وهل وقع عن وحى أو اجتهاد، وأيضاً فإن أخباره وآثاره وسيره وشمائله معتنى بها مستقصى تفاصيلها، ولم يرو فى شئ منها استدراكه لغلط فى قول قاله، أو اعترافه بوهم فى شئ أخبر به، ولو كان ذلك لنقل كما نقل من قصته عما أشار به على الأنصار فى تلقيح النخل( ) وكان ذلك رأياً لا خبراً يعنى : فلا يدخله الصدق والكذب( )0
قلت : وهذا الذى أدين الله تعالى به فى أخبار النبى ، فقد كانت أقواله وأفعاله كلها تشريعاً تقتضى المتابعة والاقتداء سواء كانت بوحى أو اجتهاد لعصمة رب العزة له فى أحواله كلها0
أما زعم أعداء السنة المطهرة بأن اجتهاد رسول الله يؤيد أن السنة المطهرة ليست كلها وحى، وذهاب بعض المسلمين إلى تقسيم السنة إلى قسمين سنة تشريعية ملزمة عامة ودائمة، وسنة غير تشريعية ولا ملزمة واستدلالهم على ذلك باجتهاد رسول الله عموماً، وحديث تأبير النخل خصوصاً. فذلك منهم طعن فى عصمته فى اجتهاده0
فإلى تفصيل شبهتهم فى ذلك والرد عليها…
====
الفصل الثانى
شبهة أن اجتهاد رسول الله
يؤيد أن السنة المطهرة ليست كلها وحى
والرد عليها
سبق أن تقرر لك أن اجتهاد رسول الله فى الشريعة الإسلامية لا يخل بعصمته فى أقواله وأفعاله وتقريراته، لأن وحى الله تعالى يراقبه؛ فإن أصاب فى اجتهاده لم يأت تنبيه، فدل على إقرار رب العزة له، وإن خالف اجتهاد الأولى نزل وحى الله تعالى بالتنبيه والتصويب لما هو أولى، وفى الإقرار والتنبيه؛ يصبح اجتهاده ، وحى وحكم الله النهائى، حجة على العباد واجب الاتباع ويحرم مخالفته بالآيات والأحاديث السابقة الدالة على عصمته فى اجتهاده وبإجماع الأمة. إلا أن بعض دعاة الفتنة وأدعياء العلم زعموا أن اجتهاد رسول الله ليس من الوحى الإلهى. ويستدلون على ذلك بحديث المعصوم ، الوارد فى قصة تأبير النخل بمختلف رواياته عن طلحة بن عبيد الله رضى الله عنه قال : مررت مع رسول الله بقوم على رؤوس النخل. فقال : ما صنع هؤلاء؟ فقالوا : يلقحونه يجعلون الذكر فى الأنثى فيلقح، فقال رسول الله "ما أظن يغنى ذلك شئ" قال فأخبروا بذلك فتركوه، فأخبر بذلك فقال : إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإنى إنما ظننت ظناً، فلا تؤاخذونى بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً، فخذوا به، فإنى لن أكذب على الله عز وجل"0
وفى حديث رافع بن خديج رضى الله عنه( ) قال : قال رسول الله : إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشئ من دينكم فخذوا به. وإذا أمرتكم بشئ من رأى فإنما أنا بشر" قال عكرمة : أو نحو هذا.
وفى حديث أنس بن مالك رضى الله عنه قال : قال رسول الله : "أنتم أعلم بأمر دنياكم"( ) وهذا الحديث من زمن طويل كان المشجب الذى يعلق عليه من شاء، ما شاء من أمور الشرع التى يراد التحلل منها، فقد أراد بعضهم أن يحذف النظام السياسى كله من الإسلام بهذا الحديث وحده، لأن أمر السياسة أصولاً وفروعاً من أمر دنيانا، فنحن أعلم به، فليس من شأن الوحى أن يكون له فيها تشريع أو توجيه، فالإسلام عند هؤلاء دين بلا دولة، وعقيدة بلا شريعة؛ وأراد آخرون أن يحذفوا النظام الاقتصادى كله من الإسلام كذلك، بسبب هذا الحديث الواحد0
المهم : أن بعض الناس أراد أن يهدم بهذا الحديث الفرد كل ما حوت دواوين السنة الزاخرة، من أحاديث البيوع، والمعاملات، والعلاقات الاجتماعية، والاقتصادية والسياسية0
وكأن الرسول قال هذا الحديث لينسخ به جميع أقواله وأعماله وتقريراته التى تكون السنة النبوية0
وهذا الغلو من بعض الناس، هو الذى جعل عالماً كبيراً مثل المحدث الجليل الشيخ أحمد محمد شاكر – رحمه الله – يعلق على هذا الحديث فى مسند الإمام أحمد فيقول : "هذا الحديث مما طنطن به ملحدوا مصر، وصنائع أوروبة فيها، من عبيد المستشرقين، وتلامذة المبشرين، فجعلوه أصلاً يطعنون به فى عصمة رسول الله فى اجتهاده، وأخذوا يحجون به أهل السنة وأنصارها، وخدام الشريعة وحماتها، إذا أرادوا أن ينفوا شيئاً من السنة، وأن ينكروا شريعة من شرائع الإسلام، فى المعاملات، وشئون الاجتماع وغيرها، يزعمون أن هذه من شئون الدنيا، ويتمسكون برواية أنس : "أنتم أعلم بأمر دنياكم"( ) والله يعلم أنهم لا يؤمنون بأصل الدين، ولا بالألوهية، ولا بالرسالة، ولا يصدقون القرآن فى قرارة نفوسهم. ومن آمن منهم فإنما يؤمن لسانه ظاهراً، ويؤمن قلبه فيما يخيل إليه، لا عن ثقة وطمأنينة، ولكن تقليداً وخشية، فإذا ما جد الجد، وتعارضت الشريعة، الكتاب والسنة، مع ما درسوا فى مصر أو فى أوروبا، لم يترددوا فى المفاضلة، ولم يحجموا عن الاختيار، وفضلوا ما أخذوه عن سادتهم، واختاروا ما أشربت قلوبهم، ثم ينسبون نفوسهم بعد ذلك أو ينسبهم الناس إلى الإسلام0
والحديث واضح صريح، لا يعارض نصاً، ولا يعارض عصمته فى اجتهاده، ولا يدل على عدم الاحتجاج بالسنة فى كل شأن، كما لا يدل على ما يزعمون أن السنة النبوية ليست كلها وحى0
وإنما الحديث فى قصة تلقيح النخل أن قال لهم : "ما أظن ذلك يغنى شيئاً، فهو لم يأمر ولم ينه، ولم يخبر عن الله، ولم يسن فى ذلك سنة حتى يتوسع فى هذا المعنى إلى ما يهدم به أصل التشريع"( ) أهـ0
ومن اجتهاد النبى ، وقوله : "أنتم أعلم بأمر دنياكم" ذهب بعض علماء المسلمين الأجلاء إلى عدم عصمة رسول الله فى اجتهاده؛ حيث ذهبوا إلى تقسيم السنة النبوية إلى قسمين :
أ- سنة تشريعية ملزمة ودائمة0
ب- وسنة غير تشريعية غير ملزمة ولا دائمة0
وقصدوا بغير التشريع ثلاثة أنواع :
1- ما سبيله سبيل الحاجة البشرية، كالأكل والشرب والنوم والمشى والتزاور… الخ0
2- ما سبيله سبيل التجاوب والعادة الشخصية أو الاجتماعية، كالذى ورد فى شئون الزراعة والطب، وطول اللباس وقصره0
3- ما سبيله سبيل التدبير الإنسانى كتوزيع الجيوش على المواقع الحربية ونحو ذلك0
فهذه الأنواع الثلاثة ليس شرعاً يتعلق به طلب الفعل أو الترك، وإنما هو من الشئون البشرية التى ليس مسلك الرسول فيها تشريعاً ولا مصدر تشريع( )0
وبهذا التقسيم قال غير واحد من علماء المسلمين( ) وبالغ بعضهم حتى كاد يخرج قضايا المعاملات، والأحوال المدينة كلها من دائرة السنة التشريعية. حيث كان يرى أن كثيراً من أوامر الرسول ونواهيه فى المعاملات كان أساسها الاجتهاد لا الوحى( ) حتى انتهى به هذا الاتجاه إلى أن حرم برأيه ما أحلته السنة النبوية؛ وما أجمع المسلمون – من جميع المذاهب والمدارس الفقهية – على حله. وذلك هو (بيع السلم) الذى رخص فيه النبى لحاجة الناس إليه، بعد أن وضع له الضوابط اللازمة لمنع الغرر والنزاع ويسميه بعضهم (السلف) أيضاً وبه جاء الحديث، ومضى عليه عمل الأمة أكثر من خمسة عشر قرناً0
فعن الصحيحين عن ابن عباس رضى الله عنهما قال : قدم النبى المدينة، وهم يسلفون فى الثمار السنة والسنتين، فقال : "من أسلف فى تمر، فليسلف فى كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم"( ) بل قال ابن عباس : أشهد أن السلف المضمون إلى أجله قد أحله الله فى كتابه، وأذن فيه، ثم قرأ : يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه( ) وكلمة "أشهد" بمثابة القسم، فهذا رأى ترجمان القرآن0
ولكن الدكتور عبد المنعم النمر قال عن السلم : "وهو بيع معدوم موصوف فى الذمة، ويسير عليه كثير من الناس فى الأرياف، مستغلين حاجات الزراع استغلالاً سيئاً، مما يجعلنا نميل إلى تحريمه. من أجل هذا الاستغلال الكريه المحرم فى الإسلام"( )0
يقول الدكتور القرضاوى : "وكان أولى بالشيخ هنا أن يقتصر على تحريم الظلم والاستغلال، ولا يتعدى ذلك إلى تحريم التعامل الثابت بالسنة والإجماع"( )0
والجواب :
أقول كما قال فضيلة الدكتور موسى شاهين : "غفر الله للقائلين بأن السنة تشريع وغير تشريع، وللقائلين بالمصلحة. غفر الله لهم وسامحهم، لقد فتح هؤلاء وهؤلاء باباً لم يخطر لهم على بال0
القائلون بأن السنة تشريع وغير تشريع؛ قصدوا بغير التشريع ما ورد منها خاصاً بالصناعات، والخبرات كالزراعة والطب، ولم يخطر ببالهم أن من سيأتى بعدهم سيستدل بتقسيمهم ليدخل المعاملات، وأحاديث البيع، والشراء، والإجارة، ويدخل ما قاله النبى من أحاديث فى العادات، وشئون الاقتصاد، والسياسة، والإدارة والحرب، وغير ذلك فى السنة غير التشريعية، وهم من هذا القول برءاء!0
أما ما جعلوه مما سبيله الحاجة البشرية، كالأكل والشرب والنوم… الخ من السنة غير التشريعية، فهذا الكلام على عمومه مرفوض، وفى حاجة إلى تحقيق فهل بيان المأكول والمشروب المحرم، والمكروه، والمباح، من السنة غير التشريعية؟0
هل حديث : "أحلت لكم ميتتان ودمان : فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال"( )، وحديث:"أكل الضب على مائدة رسول الله "( )سنة غير تشريعية؟ اللهم لا0
إن رسول الله بمقتضى عصمته، أحل لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث، فالمأكول والمشروب سنة تشريعية من حيث الحل والحرمة، أما أنه أكل نوعاً من الحلال، وترك غيره يأكل نوعاً آخر، فالتشريع فيها الإباحة، إباحة ما أكل وما لم يأكل مما له ينه عنه0
وأما الأوانى : فقد نهى عن الأكل والشرب فى صحائف الذهب والفضة( ) وهذا تشريع قطعاً. أما أنه أكل فى قصعة من الفخار، ونحن نأكل فى الأوانى الفاخرة غير الذهبية والفضية، فهذا من المباحات والإباحة تشريع( )0
وأما الهيئة : فهناك هيئات مأمور بها، وهيئات منهى عنها، وهيئات أخرى كثيرة مباحة، والكل تشريع0
فقوله : "يا غلام سم الله وكل بيمينك، وكل مما يليك"( ) هيئة أكل مشروعة( ). و"نهى رسول الله أن يتنفس فى الإناء"( ) هيئة ممنوعة شرعاً فى نفس الإناء، ومستحبة خارج الإناء( )0
أما أنه أكل بأصابعه ويده؛ ونحن نأكل بالملاعق والشوك، والسكاكين، فهو من المباحات المشروعة. فماذا فى الأكل والشرب من السنة غير التشريعية؟!!0
إن قصدوا بالسنة غير التشريعية فى ذلك السنة غير الملزمة، وهى المباحات كان الخلاف بيننا لفظياً. وإن قصدوا ما هو مطلوب على وجه الوجوب أو الندب، وما هو منهى عنه على وجه الحرمة أو الكراهة فهو غير مسلم0
ومثال ذلك يقال فى الأفعال الجبلية التى وقعت منه مما لا يخلو البشر عنه من حركة وسكون، على اختلاف أنواع الحركة المحتاج إليها بحكم العادة من قيام، وقعود، ونوم، وركوب، وسفر، وإقامة، وقيلولة تحت شجرة، أو فى بيت، وتناول مأكول ومشروب معلوم حله. ومن أمثلته : تتبعه الأكل من جوانب الصحفة( ). وأكله القثاء بالرطب( ) وأنه كان يحب الحلو البارد( ) وكان يحب الحلوى والعسل( ) وسائر ما روى عنه فى هيئة لباسه، وطعامه، وشرابه، ونومه، وكيفية مشيه، وجميع ما نقل عنه من شمائله ، مما لم يظهر فيه قصد القربة0
ومن ذلك ما كرهه عيافة لا شريعة، كتركه أكل الضب( ) بخلاف تركه أكل الثوم والبصل والكراث، فيستحب التنزه عنه ما أمكن( )0
ويلتحق بالجبلى : كل فعل فعله رسول الله مما علمت إباحته شرعاً، إباحة مطلقة له ولأمته0
كما روى أنه : أكل التمر( ) وشرب العسل( ) واللبن( ) ولبس جبة شامية ضيقة الكمين( ) ودخل مكة وعليه عمامة سوداء( )0
فهذا ونحوه لا دليل يدل على أنه يستحب للناس كافة أن يفعلوا مثله، بل إن فعلوا فلا بأس، وإن تركوا فلا بأس، ما لم يكن تركهم رغبة عما فعله واستنكافاً، فمن رغب عن سنته وطريقته فليس منه0
والتحقيق : أنه من الخطأ أن نطلق هذا الإطلاق "السنة غير التشريعية" على ما سموه الحاجة البشرية أو الأفعال الجبلية، أو ما يصدر عنه ، بوصفه إماماً ورئيساً للدولة المسلمة، أو بوصفه قاضياً فكل هذه الأمور التى أطلقوا عليها، سنة غير تشريعية، منها الواجب شرعاً، ومنها المحرم شرعاً، ومنها المكروه، ومنها المندوب، ومنها المباح، وحتى إذا أردنا كيفية هذه الأمور نجد منها الممنوع شرعاً، كما سبقت الإشارة إليه قريباً0
أما القائلون بالمصلحة كمصدر من مصادر التشريع فقد اشترطوا لها ألا تصادم نصاً من الكتاب أو السنة الصحيحة، فهم أخذوا بمراعاة المصالح فيما لم يرد فيه قرآن أو حديث صحيح، أما ما ورد فيه قرآن أو حديث صحيح فالمصلحة فيما جاء به النص( )0
واعتقد كما قال الدكتور فتحى عبد الكريم. "أن القائلين بالسنة التشريعية، والسنة غير التشريعية قد فاتهم المعنى الدقيق للتشريع الإسلامى، حيث قصر بعضهم وصف التشريع على الواجب، والحرام، ونفاه عن المندوب والمكروه، والمباح، وأدخل بعضهم المندوب والمكروه فى التشريع، ونفاه عن المباح وحده"( )0
وفى ذلك يقول العلامة الدكتور عبد الغنى عبد الخالق – رحمه الله : "هذا وإخراج الأمور الطبيعية من السنة أمر عجيب، وأعجب منه : أن يدعى بعضهم ظهوره، مع إجماع الأمة المعتبرين على السكوت عنها، وعدم إخراجها. ولست أدرى : لم أخرجها هؤلاء؟! أأخرجوها : لأنها لا يتعلق بها حكم شرعى؟0
وكيف يصح هذا مع أنها من الأفعال الاختيارية المكتسبة، وكل فعل اختيارى من المكلف لابد أن يتعلق به حكم شرعى : من وجوب أو ندب أو إباحة أو كراهة أو حرمة0
وفعل النبى الطبيعى مثل الفعل الطبيعى من غيره، فالأبد أن يكون قد تعلق به واحد من هذه الأحكام؟ وليس هذا الحكم الكراهة، ولا الحرمة، لعصمته فى أحواله كلها، وليس الحكم الوجوب ولا الندب : لعدم القربة فيه0
فلم يبق إلا الإباحة وهى حكم شرعى؛ فقد دل الفعل الطبيعى منه على حكم شرعى، وهو الإباحة فى حقه، بل وفى حقنا أيضاً لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة( )0
ولقد أجمع الأصوليون فى باب أفعاله على أن أفعاله الطبيعية تدل على الإباحة فى حقه ، وفى حق أمته، وكل يحكى الاتفاق على ذلك عن الأئمة السابقين( )0
أم أخرجوها : لأنهم ظنوا أن الإباحة ليست حكماً شرعياً؟ وهذا لا يصح أيضاً : فإن الأصوليين مجمعون على شرعيتها – أى الإباحة – اللهم إلا فريقاً من المعتزلة ذهب إلى عدم شرعيتها؛ فهما منهم : أن الإباحة انتفاء الحرج عن الفعل والترك( ) وذلك ثابت قبل ورود الشرع، وهو مستمر بعده، فلا يكون حكماً شرعياً0
والجمهور ينكرون أن هذا المعنى ثابت قبل ورود الشرع، وأنه لا يسمى حكماً شرعياً. ولكنهم يقولون : ليس هذا هو معنى الإباحة الشرعية، إنما هى خطاب الشارع بالتخيير بين الفعل والترك من غير بدل. ولا شك أن هذا حكم شرعى؛ وأنه غير ثابت قبل ورود الشرع. ولو التفت هذا الفريق إلى هذا المعنى لم ينازع فيه؛ فليس هناك خلاف حقيقى بينهما0
فالإباحة حكم شرعى يحتاج إلى دليل؛ والفعل الطبيعى منه يدل عليه. ونظرة واحدة فى باب أفعاله فى أى كتاب من كتب أصول الفقه، ترشدك إلى الحق فى هذا الموضوع( )0
ويقول الإمام الشاطبى فى رده على من قال : "ترك المباح طاعة على كل حال". قال : "بل فعل المباح طاعة بإطلاق؛ لأن كل مباح ترك حرام. ألا ترى أنه ترك المحرمات كلها عند فعل المباح، فقد شغل النفس به عن جميعها. وهذا الثانى أولى؛ لأن الكلية هنا تصح، ولا يصح أن يقال كل مباح وسيلة إلى محرم أو منهى عنه بإطلاق، فظهر أن ما اعترض به لا ينهض دليلاً على أن ترك المباح طاعة"( )0
قلت : ويشهد لهذا قول الإمام السرخسى فى أصوله : "ترك العمل بالحديث الصحيح عن رسول الله حرام، كما أن العمل بخلافه حرام"( )0
ومن هنا فكل ما ورد عن رسول الله من أفعال لم تحصل منه على وجه القرب، يستحب التأسى به فيها رجاء بركته مثل : أكله، وشربه، ولبسه، ومعاشرته نسائه، وجميع أفعاله المتعلقة بأمور الدنيا، يستحب التأسى به فى جميع ذلك. لأن هذه الأفعال وإن لم تصدر من الرسول قربه – إن صح التعبير – فهى فى نفسها قربة؛ نرجوا بفعلها التقرب إلى الله تعالى لما انطوى عليه فعلنا لها عن محبته التى حملنا عليها بقوله : "لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من أهله، وماله، والناس أجمعين"( )0
قال أبو شامة( ) : "ولهذا اعتنى الرواة بنقل تفاصيل أحواله فى ذلك كله، واقتدى أهل الدين والعلم من السلف، بسلوك طريقته فى ذلك، وترك التكلف فيما ينوبهم من حاجاتهم، حتى أنه لو قيل لأحدهم لا تركب الحمار، ولا تحلب الشاة، ولا تسلخها، ولا ترقع الثوب، ولا تخصف النعل، ولا تهنأ( ) البعير، لقال : كيف لا أفعل ذلك وقد رأيت رسول الله فعله، أو جاء عنه أنه فعله!! ( ) وقال أيضاً : "إن التأسى به فى فعله المباح هو أدنى الدرجات فى استحباب المتابعة فيها، ولهذا أكثر المصنفين من الأصوليين لا يذكرون التأسى به فيها، وما ذكرناه أولى وأصح، وله سر. وهو : أن أصل الفعل وإن كان الإنسان مضطراً إليه، فمن حيث الحاجة لا يفعله تأسياً بالنبى ، بل من حيث إيقاعه على هيئة مخصوصة نقلت عن النبى ، أو استعمال شئ مخصوص، مع أنه يمكنه استعمال غيره0
والفقهاء أرباب المذاهب يستحبون من هذا النوع أشياء، وهو ما إذا أراد الإنسان أن يفعل شيئاً، ذلك الشئ يقع على هيئات مختلفة وقد نقل عن الرسول ، أنه أوقعه على بعض تلك الهيئات، فأهل العلم يستحبون أن يوقع على تلك الهيئة، نحو استحبابهم سلوك طريق المأزمين( ) والمبيت بذى طوى( ) ودخول مكة من الثنية العليا، والخروج من الثنية السفلى( ) ونزوله بالمحصب( ) وكهيئة الأصابع فى التشهد( )0
وقالوا : يستحب أن لا ينقص فى الغسل من صاع، ولا فى الوضوء من مد، اقتداء برسول الله ( ) إلى أحكام كثيرة لا تحصى لمن تتبعها0
فمتابعته فى تلك الأفعال التى يكاد يقطع فيها بخلوها من القربة، كهيئة وضع أصابع اليد اليمنى فى التشهد، يستحب المحافظة عليها والأخذ بها ما أمكن، تدريباً للنفس على الجموح، وتمريناً لها على أخلاق صاحب الشرع، لتعتاد ذلك؛ فلا تخل بعده بشئ مما فيه قربة وإن خفيت0
فإن النفس مهما سومحت فى اليسير تشوقت إلى المسامحة فيما فوقه. فهذا ونحوه هو الذى يظهر لى أن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما كان يلاحظه ويراقبه، فأخذ نفسه بالمحافظة على جميع آثاره قال نافع( ) : "لو رأيت ابن عمر يتبع آثار رسول الله لقلت هذا مجنون"( )0
قلت : واستحباب التأسى بأفعال رسول الله الجبلية هو المختار والراجح عندى0
ومستند هذا الاختيار علمنا بأن أصحاب رسول الله لو اختلفوا فى حكم أمر حرام أو مباح، فنقل الناقل فى موضع اختلافهم فعلاً عن المصطفى ، فهموا منه أنه لا حرج على الأمة فى فعل مثله( ) وجاحد هذا جاهل بمسالك المنقل على المعنى واللفظ( )0
وجميع المذاهب المنقولة فى هذه المسألة من الوجوب( ) والإباحة( ) ضعيفة، وأشدها ضعفاً من ذهب إلى الحظر( ) والوقف( ). ويؤيد هذا الضعف النص والإجماع0
أما النص : فقد سبق ذكر الأدلة القرآنية التى حثت على التأسى برسول الله ، واتباعه فى فعله على الوجه الذى كان عليه ، من أجل الهداية والفلاح فى الدارين( )0
أما الإجماع : فهو ما علمناه من سيرة الصحابة رضى الله عنهم فى رجوعهم إلى أفعاله وتقربهم وتأسيهم بها، والمحافظة عليها، وإن لم تلح فيها قربة، ولم يكن لهم توقف ولا تردد فى شئ منها0
فعن سهل بن الربيع بن الحنظلية رضى الله عنه( ) قال : قال لنا رسول الله نعم الرجل خريم الأسدى( ) لولا طول جمته( ) وإسبال إزاره( ) فبلغ ذلك خريماً، فعجل فأخذ شفرة فقطع بها جمته إلى أذنيه، ورفع إزاره إلى أنصاف ساقيه"( )0
فتأمل كيف أسرع خريم فامتثل قول رسول الله . ولم يقل : وماذا فى طول الشعر؟ ولم يقل : ماذا فى طول الإزار؟ لم يقل : سنة عادة أو سنة عبادة شأن الذين قى قلوبهم مرض، إنما عجل سريعاً فقصر شعره، ورفع إزاره( )0
فبطل بذلك قول الحظر والوقف،وثبت أنهم فهموا؛ أنهم شرع لهم مثل ذلك القول والفعل قربة، فبطل قول الإباحة، وترجح الندب. ويبطل قول الوجوب ما سبق فى حديث أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه من خلع الصحابة رضى الله عنهم نعالهم لما رأوا رسول الله خلع نعليه( ) فكان من كمال تأسيهم برسول الله أنهم فهموا من خلعه نعليه القربة فبادروا إلى متابعته، أو لم يفهموا قربه، واتبعوه على جارى عادتهم فى اتباعه والتأسى به، مع أنهم لم يعلموا أن ذلك صدر منه وجوباً أو ندباً أو إباحة، وهو عين مسألة النزاع مع من يشترط فى شرعية التأسى به معرفة صفة فعله؛ فبطل قول الوقف0
وأيضاً : لو كان الاقتداء به فى فعله واجباً ما سألهم "ما حملكم إلقائكم نعالكم؟" لعلمه بأنه يجب عليهم متابعة فعله، فبطل قول الوجوب0
ثم إنه لما سألهم لم فعلوا ذلك، ذكروا أن مستند فعلهم متابعته فى فعله، ولم ينكر عليهم الاستدلال به، فدل ذلك كله على ما سبق من ترجيح استحباب متابعته فى فعله0
وإنه لدرس لأهل زماننا، ولمن بعدنا أن نتبع هديه كما اتبعوا، وأن نسير على نهجه، كما أمرنا ربنا سبحانه وتعالى فقال : فآمنوا بالله ورسوله النبى الأمى الذى يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون( ) وصور اتباع السلف هديه ، وحرصهم على الاقتداء به كثيرة وكثيرة( ) ودلالاتها متعددة؛ فهم يؤمنون بعصمته فى أحواله كلها،وهم يحبون هديه، ويحرصون على الاقتداء به كل الحرص، لا يفرقون بين الواجب والمندوب، ولا بين الفعل الشرعى والفعل الجبلى، وإنما يفعلون ما فعل، ويتركون ما ترك، يمتثلون أمره، وإن دلت القرائن على أقل من الواجب، ويجتنبون ما نهى عنه، وإن دلت القرائن على أنه دون الحرام0
إنهم يرون المعصوم رسم خطاً، جاء به من عند الله، فالتزموه حباً وطاعة، ولم يؤولوا، ولم يسوفوا، ولم يهونوا، وإنما امتثلوا على خير وجه، فإنه الدين الذى أمرنا الله به، ورتب السعادة عليه، وأمرنا بالاستقامة التى لا تتفق مع أدنى ميل عنه فقال سبحانه : فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعمون بصير( )0
وبعد : هذا المعصوم نبيكم ، وخيار أمتكم رضى الله عنهم، فكيف أنتم؟( )0
وإذا كان عمدة الأدلة عند من يذهبون إلى أن السنة المطهرة ليست كلها وحى، أو يذهبون إلى تقسيم السنة إلى سنة تشريعية، وسنة غير تشريعية، إذا كان عمدة أدلتهم جميعاً، اجتهاده ، وقوله : "أنتم أعلم بأمر دنياكم" فلنحرر القول فى المراد من قوله : "أنتم أعلم بأمر دنياكم" بعد أن سبق تحرير القول فى اجتهاده وعصمته فيه. فإلى نقض دليلهم فى أن السنة المطهرة ليست كلها وحى0
نقض دليل أن السنة المطهرة ليست كلها وحى :
الدليل الأساسى الذى يستند إليه القائلون بأن السنة النبوية ليست كلها وحى؛ وبالتالى يقسمونها إلى سنة تشريعية، وغير تشريعية، هو حديث رسول الله الوارد فى قصة تأبير النخل بمختلف رواياته ومنها قوله : "أنتم أعلم بأمر دنياكم" ففى رأى أنصار تقسيم السنة إلى سنة تشريعية وغير تشريعية أنه "لو لم يكن غير هذا الحديث الشريف فى تبيين أن سنته ليست كلها شرعاً لازماً، وقانوناً دائماً لكفى. ففى نص عبارة الحديث – بمختلف رواياته – تبين أن ما يلزم اتباعه من سنة رسول الله إنما هو ما كان مستنداً إلى الوحى فحسب"( )0
وبالتأمل فى قول بعضهم السابق ترى التصريح بأنهم يعتبرون أن اجتهاده ليس من الوحى!0
ولقد صرح بعضهم على ما سبق أن أفعاله الجبلية، وما سبيله الحاجة البشرية من الأكل والشرب والنوم والمشى… الخ وما صدر عنه فى المعاملات وشئون الاقتصاد والسياسة، والقضاء والإدارة والحرب… الخ من شئون الدنيا التى لا حى فيها( )0
فهل يسندهم ذلك الحديث فى تلك الدعوى الخطيرة؟! أقول : الحديث لا يسندهم فى دعواهم ولا حجة لهم فيه؛ لأن قوله : لما مر على قوم يلقحون النخل "ما أظن يغنى ذلك شيئاً" واضح منه أنه كان اجتهاداً منه ، ولم يرد بذلك صرفهم عما هم فيه؛ بدليل أنهم لما تركوا التأبير، ووصل الخبر إليه بين لهم أنه ظن – أى اجتهد – وأنه ما يصح أن يصرفهم الظن – أى الاجتهاد – عن أمر يرونه صواباً. وتأمل قوله : "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإنى إنما ظننت ظناً فلا تؤاخذونى بالظن" فهم غلطوا فى ظنهم أنه نهاهم بوحى، كما غلط من غلط فى ظنه أن الخيط الأبيض والخيط الأسود هو الحبل الأبيض والأسود( )0
ثم بين لهم رسول الله ، أنه إذا حدثهم بوحى عن الله تعالى فإنه لن يخطأ فى هذا الوحى0
وتأمل قوله : "إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإنى لن أكذب على الله تعالى" فالكذب هنا بمعنى "الخطأ"( ) أى : فلن أخطأ فيما أبلغ من وحى الله تعالى؛ ولا يصح أن يكون المراد حقيقة الكذب، لأنه معصوم منه، حتى ولو حدث عن غير الله تعالى! إذن فمراده ، أنه اجتهد، وفى اجتهاده أخطأ؛ بدليل ما جاء فى رواية رافع بن خديج من قوله عليه الصلاة والسلام: "إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشئ من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشئ من رأى فإنما أنا بشر"0
ولكن : هل هذا الاجتهاد فى قصة تأبير النخل معصوم فيه بوحى؟0
أقول : نعم بدليل قوله بعد ذلك : "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه" وقوله : "أنتم أعلم بأمر دنياكم" حيث صار هذا القول منه اجتهاد بعد اجتهاد( ) وأقره الوحى على اجتهاده الثانى( ) حيث لم يرد تنبيه أو تصويب ولا حتى عتاب، على هذا الاجتهاد فى القرآن الكريم ولا فى السنة المطهرة، وهو ما يعنى أن رب العزة أقره فى اجتهاده الثانى. أعنى : قوله : "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه" وقوله : "أنتم أعلم بأمر دنياكم" وبهذا الإقرار صار اجتهاده هنا فى هذه المسألة وحى من الله تعالى، ولا يجوز مخالفته؛ وهو ما يقر به هنا الخصم حيث استدل بهذا الاجتهاد الثانى على ما يزعم، مع اختلافنا معه فى دلالة الحديث على ما يستدل به0
فالخصم يستدل بقوله "أنتم أعلم بأمر دنياكم" على أن ما جاءت به السنة من شئون الدنيا يجوز مخالفته، حيث كل أمة فى زمانها أعلم بهذه الشئون من السنة؟0
كما استدلوا بقوله السابق، على أن ما يصدر عنه بوصفه قاضياً، أو إماماً ورئيساً للدولة، سنة غير تشريعية ليست من الوحى؟ فهل هذه المعانى واردة ومرادة فيما استدلوا به؟0
بالقطع لا. فهذه المعانى ونحوها مستبعدة ولا تصح؛ لأن ما أطلقوا عليه سنة غير تشريعية منه الواجب والمحرم والمكروه والمندوب والمباح شرعاً على ما سبق تفصيله( )0
كما أن ما أطلقوا عليه سنة غير تشريعية وضع له الإسلام قرآنا وسنة، أرقى أنواع التشريع، لأن ما يصدر عن القاضى والحاكم ونحو ذلك مما يطلقون عليه سنة غير تشريعية، له علاقة بالأفراد والجماعات وهذه العلاقة تحكمها دائماً قواعد وضوابط لئلا يحيف بعض الأطراف على بعض؛ فهل يعقل أن الله عز وجل يترك المعاملات من بيع وشراء، وتفصيل الربا، والرهن، والشركة، وغيرها من المعاملات دون تشريع؟0
وهل يعقل أن يترك القاضى ورئيس الدولة ونحوهم دون تشريع ينظم علاقة كل منهما بمن تحت سلطانهم وحكمهم؟!0
وبالجملة : هل يعقل أن يترك البشرية هملاً فى شئون دنياهم يأكل بعضهم مال بعض، ويظلم بعضهم بعضاً تحت عنوان : "أنتم أعلم بشئون دنياكم"؟0
هل يعقل أن يترك الله تعالى رسالة الإسلام (قرآناً وسنة) بما فيها من عقيدة وشريعة، ودين ودنيا، لرسول الله دون رقابة أو تصحيح؟ فيخطئ، فتعمل الأمة مجتمعة بالخطأ أكثر من خمسة عشر قرناً حتى يبعث الله لها من يرعى مصالحها، أو يزعم أنه أعلم بمصالحها، ويخالف حكم رسول الله فيما جاء به من تشريعات فى شئون الدنيا؟ أظن أن العقل المسلم السليم يستبعد ذلك كل الاستبعاد0
ومن هنا فلا يصح أن يكون المعنى فى قوله : "أنتم أعلم بأمر دنياكم" أن كل فرد أو أمة أعلم من غيرها بشئون ومصالح نفسها فى الأمور الدنيوية؛ لأن هذا المعنى وإن صح فى المباحات، فلا يصح فى الواجبات والمحرمات، فالشرع وحده هو الذى حددها على أنها مصلحة بناء على سبق علمه الذى خلق0
ثم إن هذا المعنى لا يتناسب مع القصة؛ فكما قلت : رسول الله اجتهد فى عدم تأبير النخل، وخالف اجتهاده الصواب، فجاء التصحيح لما اجتهد فيه بقوله : "أنتم أعلم بأمر دنياكم" والمراد : أنتم أيها الذين تلقحون النخل ومن على شاكلتكم من أهل الصناعات والمهارات والخبرات أعلم بصنائعكم منى. وممن ليس من أهل الصناعات، والكلام على التوزيع، على معنى: أن كل أهل صنعة أعلم بها ممن ليسوا من أهلها، كما يقال : أهل مكة أدرى بشعابها0
ويصح أن يكون المعنى أيضاً : أنتم أيها الذين تلقحون النخل أعلم بما يصلح النخل منى وممن لا علم له بالزراعة، أى أنتم أعلم بشئون دنياكم هذه التى تباشرونها، والتى لم تنجح فيها مشاورتى الاجتهادية، أعلم منى ومن مثلى، فالحديث على هذا واقعة عين أو واقعة حال، لا يستدل بها على غيرها أصلاً0
وعلى كل حال لا يصح الاستدلال بالحديث على إباحة التغيير فى المعاملات( ) أو غيرها من شئون الدنيا التى أطلقوا عليها سنة غير تشريعية. لأن الحديث – كما رأيت – تطرق إليه أكثر من احتمال فى معناه، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال0
بقى سؤال يطرح نفسه، وربما يثور فى نفوس البعض وهو : لماذا ألهم الله رسوله ، أن يشير عليهم بهذه الإشارة مع أنها لم تكن فى مصلحتهم؟0
قتيبة
03-09-2008, 02:10 AM
ولماذا جعلهم الله يستسلمون لمجرد الإشارة، وهم المعرفون بالمراجعة والنقاش وكثرة السؤال؟0
ولماذا لم يتدارك الله هذا الاجتهاد بالتصحيح قبل أن تنتج شيصاً للمسلمين يسخر منه اليهود، وأعداء الإسلام حين يصح نخلهم، ويسوء نخل المسلمين بسبب مشورة نبيهم ؟0
الجواب : عن ذلك فى محاولة تلمس حكمة لهذه القصة، فإن حصلت بها قناعة واطمئنان فالحمد لله، وإلا فنحن مؤمنون أرسخ الإيمان بأن لله عز وجل فى ذلك حكمة، وهو الحكيم الخبير. ولعل الحكمة فى ذلك تدور حول ثلاث أمور :
أولاً : صرف بلاء الأعداء عن المؤمنين الذين لم تقو شوكتهم بعد : ألم يكن هذا من الجائز أن يطمع الكافرون فى المدينة وتمرها، فيهاجموها من أجل نزول رسول الله فيها؟ فخروج التمر شيصاً جعلها غير مطمع، وصرف الله بذلك هجوم الكافرين حتى يستعد المؤمنون؟ احتمال0
ثانياً : تعليمهم الأخذ بأسباب الحياة بهذا الدرس العملى الذى كان قاسياً عليهم فتنافسوا بعده فى أسباب الحياة0
ثالثاً : اختبارهم فى صدق إيمانهم، فهذه القصة حتى اليوم فى هذا البحث ابتلاء واختبار، وقد نجح الصحابة رضى الله عنهم فى هذا الاختبار القاسى، وهم فى أول الإيمان، نجاحاً باهراً، فقد استمروا فى طاعة أوامره ، ولم يرد إلينا ردة أحد بسببها، بل لم يرد عتاب أحد منهم لرسول الله عليها رغم خسارتها، مما يشهد لهم بالإيمان الصادق المتين( ) ولعل تلك الحكمة الأخيرة هى أوجه الحكم فى هذه القصة. والله أعلم بحكمته أهـ.
وصلى الله وسلم وبارك على المعصوم
الهادى الأمين، ورزقنى الله حبه، ونصرته
واتباعه، وشفاعته
=====
الباب الرابع
عصمة رسول الله فى سلوكه وهديه
ودفع الشبهات
ويشتمل على تمهيد وسبعة فصول :
تمهيــد :
الفصل الأول : شبهة اختلاف سيرة رسول الله فى كتب السنة والتاريخ عنها فى القرآن الكريم والرد عليها0
الفصل الثانى : شبهة الطاعنين فى حديث "خلوة النبى بامرأة من الأنصار" والرد عليها0
الفصل الثالث : شبهة الطاعنين فى حديثى"نوم النبى عند أم سليم وأم حرام" والرد عليها0
الفصل الرابع : شبهة الطاعنين فى حديث "طوافه على نسائه فى ساعة واحدة" والرد عليها0
الفصل الخامس : شبهة الطاعنين فى حديث "مباشرة رسول الله نسائه فى المحيض" والرد عليها0
الفصل السادس : شبهة الطاعنين فى حديث "دعوته لعائشة رضى الله عنه استماع الغناء والضرب بالدف" والرد عليها0
الفصل السابع : شبهة الطاعنين فى حديث "اللهم فأيما مؤمن سببته فاجعل ذلك له قربة إليك يوم القيامة" والرد عليها0
تمهيد :
إن رسول الله لا تقتصر مهمته على مجرد بلاغ الوحى قرآناً وسنة، وإنما فوق ذلك نموذج حى ومتحرك، يطبق عليه الشرع الذى جاء به بأوفى ما يكون من التطبيق، حتى يظهر هذا الشرع أمام أمته وقومه فى أجلى صورة عملية0
وكان رسول الله فى هذا التطبيق معصوماً فى أحواله كلها، وشهد له بتلك العصمة القرآن الكريم، والسنة المطهرة، والسيرة العطرة، على ما سبق تفصيله فى أكثر من موضع فى البحث( )0
كما دل على عصمته فى سلوكه وهديه؛ اتفاق السلف وإجماعهم، وذلك أن نعلم من دين الصحابة رضى الله عنهم وعادتهم، مبادرتهم إلى تصديق جميع أحواله، والثقة بجميع أخباره فى أى باب كانت، وعن أى شئ وقعت، ولم يكن لهم توقف ولا تردد فى شئ منها، ولا استثبات عن حاله عند ذلك هل وقع فيها سهواً أو عمداً، أو رضا أو سخطاً، أو جداً أو مزحاً، أو صحة أو مرضاً أو … الخ0
وقد سبق ذكر الأمثلة على مسارعة السلف الصالح رضى الله عنهم إلى التأسى به ، والتبرك بآثاره فى جميع أفعاله المتعلقة بأمور الدنيا، وأحوال نفسه الشريفة( )0
إلا أن أعداء السنة المطهرة، يحرصون فى عصرنا على تناول الأحاديث الصحيحة التى تتناول سيرة رسول الله فى كتب السنة؛ وخاصة صحيحى البخارى ومسلم بالنقد والتجريح، المزور الباطل، وذلك كى يصلوا فى النهاية إلى التشكيك فى السنة والسيرة العطرة الواردة فيها، وصرف المسلمين عنها؛ بزعمهم أن كتب السنة ورواتها شوهوا سيرة المعصوم 0
إن هؤلاء النابتة من أعداء ديننا وأمتنا، اتخذوا من تحكيم عقولهم الزائغة القاصرة، المقياس الأول والأخير فى نقدهم للأحاديث والحكم عليها، ويتخذون من ذلك ذريعة إلى إنكار الأحاديث التى تتناول سيرة المصطفى ، وتخطئة علماء السنة، وتخطئة الجمهرة من المسلمين الذين اهتدوا بهديهم وعلمهم، وساروا على دربهم، يدفعهم إلى ذلك عمى البصيرة، وحقد دفين على سنة رسول الله كما يهدفون إلى أن يبتعد الناس عن نور النبوة المباركة وهديها المستقيم، وهم يطوون حقدهم وأهدافهم وراء تناول بعض الأحاديث التى تحتاج إلى فهم خاص، يتلاءم مع مبادئ الإسلام، والفهم الصحيح لتعاليمه وقيمه0
وسوف أذكر نماذج من تلك الأحاديث الصحيحة التى تتناول سيرة رسول الله ؛ والتى طعنوا فيها بحجة أنها تطعن فى عصمته فى سلوكه وهديه0
ولكن قبل ذكر تلك النماذج والجواب عنها؛ أرى الرد على زعمهم أن سيرة رسول الله فى كتب السنة والتاريخ تختلف عنها فى القرآن الكريم، لما فى ذلك من صلة بالأحاديث التى تعمدوا الطعن فيها، وطبيعة نقدهم لها0
فإلى بيان ذلك فى الفصل التالى
الفصل الأول
شبهة اختلاف سيرة رسول الله فى كتب السنة
والتاريخ عنها فى القرآن الكريم والرد عليها
حرص أعداء السنة المطهرة، وهم يطعنون فى صحيح الإمام البخارى، بل وفى سائر كتب السنة المطهرة، إيهام الناس أجمعين بأن سيرة النبى ، وشخصيته كما رسمها القرآن الكريم، تختلف عن شخصيته وسيرته كما رسمها الإمام البخارى، وغيره من أصحاب كتب السنة المطهرة0
والنتيجة كما يزعمون الإساءة المتعمدة، وتشويه سيرة النبى وشخصيته العطرة من الإمام البخارى، وسائر أئمة السنة (وعصمهم الله من ذلك) وهم قد لبسوا لهذه النتيجة لباس العلماء، لإيهام من يقرأ لهم أنهم على صواب، فساروا إلى أحاديث السيرة الشريفة فى الصحيحين، وعمدوا إلى بترها تارة، وإلى إعادة صيغتها بأسلوبهم، وتحميل ألفاظها مالا تحتمل من المعانى تارة ثانية، وعمدوا إلى الأمرين معاً تارة ثالثة، ووضعوا صياغتهم الخبيثة عناوين لأحاديث السيرة الصحيحة التى طعنوا فيها0
1- فتجد أحمد صبحى منصور فى كتابه "لماذا القرآن"( ) يخصص الفصل الثالث منه للطعن فى السيرة النبوية الواردة فى السنة المطهرة، ويبدو ذلك واضحاً فى العناوين التى وضعها؛ والتى منها ما يلى : "سيرة النبى عليه السلام بين حقائق القرآن وروايات البخارى"، "البخارى ينسب للنبى الأكاذيب والمتناقضات"، "القرآن يحرص على حرمة بيت النبى التى هتكتها كتب الأحاديث"، "هل كان النبى يباشر نساءه فى المحيض"، "هل كان لدى النبى متسع ليكون كما وصفته تلك الأحاديث"( )0
وفى كتابه "قراءة فى صحيح البخارى" يعنون للفصل الثانى منه بعنوان : "النبى والنساء من خلال أحاديث البخارى" وذكر تحته عناوين منها : "فى البخارى النبى يدور على نساء الآخرين ويخلو بهن"، "فى البخارى هوس النبى بالجماع"0
ويعنون للفصل الثالث : "البخارى يهدم شخصية النبى رسولاً وحاكما"، ويعنون للفصل الرابع : "منهج البخارى فى تصويره شخصية النبى"( )0
ويبين أحمد صبحى هدفه من كل ما سبق فى كتابيه : "لماذا القرآن" و"قراءة فى صحيح البخارى" قائلاً : "ومن واقع نظرتنا للبخارى كأحد علماء التراث؛ فإننا لا نقصد مطلقاً أن نعقد مقارنة بينه وبين القرآن الكريم – نعوذ بالله من ذلك – وإنما نقصد من هذا المبحث رصد تلك الفجوة الهائلة بين سيرة النبى فى القرآن، وبين سيرته المتناثرة بين سطور البخارى"( )0
2- وتجد نيازى عز الدين يعقد فى كتابه "دين السلطان" فصولاً يطعن فيها هو الآخر فى السيرة النبوية الواردة فى السنة المطهرة، ويعنون لبعض فصوله هكذا0
الفصل السادس : أسلوب الإساءة المتعمدة لشخص الرسول 0
الفصل السابع : الأحاديث التى تناقض أخلاق الرسول 0
الفصل الثامن : لماذا شوهوا صورة الرسول الكريم من خلال الأحاديث.. الخ0
ويبين هدفه مما سبق من عناوين فصوله، وما ذكره تحتها من أحاديث طعن فيها قائلاً : "ما هى الصورة التى صورها جنود السلطان عن الرسول وزوجاته؛ ليس فى كل الحديث، ولكن فقط فى صحيح البخارى ومسلم؟0
فما هى الصورة من خلال ما اختاره الشيخان للرسول الكريم حتى تكون بالتالى صورة لدى كل المسلمين عن رسولهم وآله أجمعين؟ لقد استغل الرواة والمحدثين وأغلبهم من الحاقدين والموتورين، استخدام الأحاديث بشكل يكون ظاهرها تعليمياً، وباطنها الدس والإساءة للرسول ونسائه أمهات المؤمنين أجمعين"( )0
3- وتجد صالح الوردانى، يخصص أحد مؤلفاته ليدافع بها عن رسول الله ضد من ظلموه فى نظره من الفقهاء والمحدثين؛ ويزعم أن الروايات التى تتحدث عن سيرته "تمثل أكبر إهانة لشخص الرسول، وأن موقف أهل السنة منها لهو إهانة أكبر وهو إن دل على شئ، فإنما يدل على أن القوم ألغوا عقولهم، وطمسوا بصيرتهم حتى أنهم لم يعوا مدلول قوله تعالى : وإنك لعلى خلق عظيم( ) وأن هذا الخلق العظيم الذى وصفه به سبحانه ليتنافى مع ما هو أقل مما يلصقونه به عن طريق هذه الروايات"( )0
4- وتجد هشام آل قطيط( ) يقول فى كتابه : "حوار ومناقشة كتاب عائشة أم المؤمنين" تحت عنوان "النبوة فى الصحيحين البخارى ومسلم" "أقول إنه من المؤسف حقاً أن نجد نفس الخرافات، والافتراءات النابية التى عجت بها التوراة والإنجيل بحق الأنبياء فى الصحيحين والأنكى من ذلك والأدهى والأمر، أن الصحيحين لم يكتفيا بلطخات العار السوداء هذه بحق الأنبياء، حتى ارتكبا ما هو أفظع وأمر، بالافتراء على النبى ، تلك الافتراءات المشينة، والتى نربأ نحن بأنفسنا عن ذكرها، فكيف بفعله؟ وتشويه صورته المقدسة بما لا ينسجم مع أى حال، وما رسمه القرآن الكريم لها"( )0
ولم يكتف أعداء الإسلام من خصوم السنة والسيرة بما سبق، بل زعموا : "أن الربط بين كتاب الله عز وجل، والسنة النبوية، فى تحديد شخصية وسيرة النبى ، صورة من صور تأليه الرسول، ومن يعتقد بها فقد وقع فى عبادة الرجال"( )0
يقول أحمد صبحى منصور : "والمؤكد أن الذى سيصمم على الانتصار للبخارى والتعصب له بعد قراءة هذا الكتاب، إنما هو فى الحقيقة عابد له لا يشرك فى عبادته أحد"( )0
ويجاب عن ما سبق بما يلى :
أولاً : إذا كان أعداء الإسلام من خصوم السنة المطهرة، يتظاهرون هنا كذباً بأنهم يدافعون عن سيرة النبى الواردة فى السنة النبوية فقد سبق أن وجدت بعضهم يطعن صراحة فى سيرته مستشهداً بالقرآن الكريم، وزاعماً كذباً أنه غير معصوم، ويجوز عليه الشرك الأكبر، وأنه كان فى ضلال وغفلة قبل الرسالة، إلى غير ذلك من افتراءاتهم التى سبق الجواب عنها فى موضعها0
ثانياً : من المقرر عند علماء المسلمين كافة أنه ليس لأحد أن يرسم من خياله صورة لنبى مرسل، ولا أن يحدد شخصيته ودوره، وسيرته فى أمته، سواء كان هذا النبى هو النبى الخاتم ، أو غيره من الأنبياء0
فالأنبياء جميعاً – عليهم الصلاة والسلام – قد اصطنعهم الله عز وجل لنفسه، وهو قد صنعهم على عينه، كما قال عز وجل فى حق سيدنا موسى عليه السلام وألقيت عليك محبة منى ولتصنع على عينى( ) وقال سبحانه : واصطنعتك لنفسى( )0
وإثبات اصطناع الله عز وجل لواحد من الأنبياء، هو إثبات لاصطناع سائر الأنبياء، لأن حقوقهم واحدة من هذه الناحية لا تختلف أبداً، فما يجب فى حق واحد منهم يجب كذلك فى حق الجميع، وما يستحيل فى حق واحد منهم يستحيل كذلك فى حق الجميع0
وعليه فالله عز وجل وحده الذى يستطيع أن يرسم لنا صورة لمن اصطنعه لنفسه، وصنعه على عينه، ويحدد لنا شخصيته ودوره، وسيرته.. الخ هذا كله لله عز وجل وحده، وليس لأحد أن يتدخل فى شئ منه0
ثالثاً : بناء على ما سبق فقد اعتبر العلماء أن سيرة النبى وشخصيته العطرة حددها رب العزة فى كتابه العزيز. واستدلوا على ذلك بما أخرجه الإمام مسلم وغيره من طريق سعد بن هشام بن عامر( ) أنه سأل عائشة رضى الله عنها عن خلق رسول الله بقوله : "يا أم المؤمنين أنبئينى عن خلق رسول الله ، قالت : ألست تقرأ القرآن؟ قال : قلت : بلى، قالت : فإن خلق رسول الله - - كان القرآن، قال : فهممت أن أقوم ولا أسأل أحداً عن شئ حتى أموت"( )0
وفى رواية عنها قالت : "كان خلق رسول الله القرآن. ثم قالت أتقرءون سورة "المؤمنون"؟ قال : قلنا نعم، فقالت : اقرأ، قال : فقرأت : قد أفلح المؤمنون. الذين هم فى صلاتهم خاشعون. والذين هم عن اللغو معرضون. والذين هم للزكاة فاعلون. والذين هم لفروجهم حافظون( ) فقالت : هكذا كان خلق رسول الله ( ) وفى رواية ثالثة قالت : "كان خلقه القرآن يرضى لرضاه، ويسخط لسخطه"( )0
وهذا الجواب الوجيز الجامع من أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها : "فإن خلق نبى الله القرآن" أجمع وصف يعرف به شخصيته وسيرته العطرة0
فقد أفادت عائشة رضى الله عنها السائل أنه كان يتمثل القرآن فى أقواله وأفعاله، وأوامره، ونواهيه "وأن كلامه كان مطابقاً للقرآن تفصيلاً وتبياناً، وعلومه علوم القرآن، وإرادته وأعماله : ما أوجبه وندب إليه القرآن، وإعراضه وتركه : لما منع منه القرآن، ورغبته : فيما رغب فيه القرآن، وزهده : فيما زهد فيه، وكراهيته لما كرهه، ومحبته لما أحبه، وسعيه فى تنفيذ أوامره0
فترجمت أم المؤمنين رضى الله عنها لكمال معرفتها بالقرآن، وبالرسول ، عن هذا كله بقولها : كان خلقه القرآن، وقد حسن تعبيرها وجمع من المعانى مالا يجمعه كثير الكلام0
وفهم السائل عنها هذا المعنى فاكتفى به واشتفى"( ) فهم أن يقوم ولا يسألها عن شئ كما جاء فى الحديث، وتأهب لأن يرجع إلى القرآن فيبحث عن مكنونات جواهره الأخلاقية، ويستدل بها على أخلاق النبى ، لأنه كان أوفى من يطبق آياته0
ولا ريب أنه إن فعل ذلك فإنه سيجد بغيته كاملة؛ لأن رسول الله قد كان متمسكاً بآداب القرآن وأوامره، ونواهيه، وجميع ما قصه الله تعالى! فى كتابه من مكارم الأخلاق عن نبى أو ولى، أو حث عليه أو ندب إليه، كان متخلقاً به0
وكل ما نهى عنه ونزه عباده عنه، كان لا يحوم حوله، لأنه كان يبين القرآن بأقواله وأفعاله وأحواله، وتلك هى مهمته التى كلفه الله تعالى بها بمثل قوله عز وجل : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم( )0
ولأن الإحاطة بكل أخلاقه ، والتعرض لحصر جزئياتها تعرض لما ليس من مقدور الإنسان، وأمر يطول، أرادت السيدة عائشة رضى الله عنها أن تقرب للسائل إدراك ما لابد من إدراكه من تلك الجزئيات الأخلاقية فأوقفته على مثال واحد، وهو ما تضمنته مقدمة سورة المؤمنون" ليذهب فيستضئ بذلك المثال، لاستنباط أخلاقه من القرآن على ذلك الغرار.
أو دلته على منهج يتبعه فى الوقوف على جزئيات أخلاقه من خلال القرآن، كما فى رواية : "كان خلقه القرآن يرضى لرضاه، ويسخط لسخطه"( ) فدلته على المواطن التى فيها رضا لله تعالى من صنوف الطاعات والقربات، فيعلم أن النبى قد كان متخلقاً بها، ويرضيه انتهاجها من نفسه، ومن أمته، وعلى المواطن التى فيها إغضاب لله تعالى من صنوف الإشراك والمعاصى، فيعلم أن النبى كان فى غاية البعد عنها، وأنه يغضب لاقترافها، والعمل بها من أحد من البشر، وإذا غضب لله فلا يقوم لغضبه أحد كما لا يخفى0
إذن كلمة أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها : "فإن خلق نبى الله كان القرآن" تعنى : أنه هو والقرآن كيان واحد، يتمثل فى شخصه الكريم، كل ما فى القرآن الكريم من أخلاق، وآداب، وفضائل، ومكارم، يترجمه فى كل كلامه وأفعاله بما فيها حركاته وسكناته، حتى استحق من ربه عز وجل الثناء العظيم فى قوله تعالى : وإنك لعلى خلق عظيم( )0
وأستطيع أن أقول بدون تردد : إن القرآن الكريم هو شريعة الإسلام قولاً، ورسول الله هو شريعة الإسلام عملاً فحياته كلها، وما صدر عنه فيها من أقوال، وأفعال وتقديرات حتى الحركات والسكنات، هى تفصيل وبيان وترجمة حية لما اشتمل عليه القرآن الكريم من عقائد، أو عبادات، أو معاملات أو أخلاق، أو حدود، أو أحوال شخصية… الخ0
وإذن فلم تكن هذه المفتريات التى زعمها أعداء الإسلام من خصوم السنة على سيرة النبى الواردة فى صحيح السنة النبوية، لم يكن مقصوداً بها الرسول لذاته، وإنما كانت غايتها تدمير الشريعة وصاحب الشريعة جميعاً، ثم يتأتى من وراء ذلك تدمير المجتمع الإسلامى كله!0
والنتيجة من كل ما سبق : أن القرآن الكريم خير مصدر لمعرفة شخصية رسول الله ، وسيرته الشريفة، معرفة واضحة دقيقة، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها0
فالقرآن الكريم هو الباعث لتشخيص شخصية رسول الله وسيرته منذ البعثة وما بعدها، وهو أيضاً المسيطر على دفع أو كبح أو تعديل حركة السيرة، والإشراف المتحكم بمفاهيم وقائعها( )0
رابعاً : إذا كان القرآن الكريم هو الباعث لتشخيص شخصية السيرة النبوية، وكانت تلك السيرة العطرة هى الترجمة الحية لذلك الكتاب العزيز عرفت هنا فقط : أن كتاب السيرة النبوية وعلماءها، لم تكن وظيفتهم بصدد أحداث السيرة، إلا تثبيت ما هو ثابت منها، بمقياس علمى، يتمثل فى قواعد مصطلح الحديث المتعلقة بكل من السند والمتن، وفى قواعد علم الجرح والتعديل المتعلقة بالرواة وتراجمهم وأحوالهم0
فإن انتهت بهم هذه القواعد العلمية الدقيقة إلى أخبار ووقائع، وقفوا عندها ودونوها، دون أن يقحموا تصوراتهم الفكرية أو انطباعتهم النفسية، أو مألوفاتهم البيئية إلى شئ من تلك الوقائع بأى تلاعب أو تحوير0
لقد كانوا يرون أن الحادثة التاريخية التى يتم الوصول إلى معرفتها، بالقواعد العلمية التى تتسم بمنتهى الدقة، حقيقة مقدسة، يجب أن تجلى أمام الأبصار والبصائر كما هى0
كما كانوا يرون أن من الخيانة العلمية والدينية التى لا تغتفر أن ينصب من التحليلات الشخصية؛ والرغبات النفسية، التى هى فى الغالب من انعكاسات البيئة، ومن ثمار العصبية، حاكم مسلط يستبعد منها ما يشاء، ويحور فيها كما يريد0
ضمن هذه الوقاية من القواعد العلمية، وعلى ذلك الأساس من النظرة الموضوعية للتاريخ، وصلت إلينا سيرة المعصوم بدءاً من نسبه، وولادته، إلى طفولته، فصبوته اليافعة، إلى الإرهاصات الخارقة التى صاحبت مراحل طفولته، وشبابه، إلى بعثته، وظاهرة الوحى التى تجلت فى حياته، إلى أخلاقه، وصدقه، وأمانته، إلى الخوارق والمعجزات التى أجراها الله تعالى على يده، إلى مراحل الدعوة التى سار فيها لتلبية أمر ربه، من سلم، فدفاع، فجهاد مطلق حيثما طاف بالدعوة إلى الله تعالى أى تهديد، إلى الأحكام والمبادئ الشرعية التى أوحى بها إليه، قرآناً معجزاً يتلى، وأحاديث نبوية تشرح وتبين0
لقد كان العمل التاريخى إذن بالنسبة إلى هذه السلسلة من سيرته ينحصر فى نقلها إلينا محفوظة مكلوءة، ضمن تلك الوقاية العلمية التى من شأنها ضبط الرواية من حيث الإسناد واتصاله، ومن حيث الرجال وتراجمهم، ومن حيث المتن أو الحادثة، وما قد يطوف بها من شذوذ، وعلة0
أما عملية استنباط النتائج والأحكام، والمبادئ، والمعانى، من هذه الأخبار (بعد القبول التام لها) فعمل علمى آخر يميز بعلم الحديث رواية، وهو عمل علمى متميز، ومستقل بذاته، ينهض بدوره على منهج وقواعد أخرى، من شأنها أن تضبط عملية استنباط النتائج والأحكام من تلك الأحداث، ضمن قالب علمى يقصيها عن سلطان الوهم، وشهوة الإرادة النفسية، والتى عبر عنها أعداء الإسلام من خصوم السيرة العطرة الواردة فى السنة المطهرة بصياغاتهم الخبيثة التى سبق ذكر بعضها فى أول هذا الفصل0
وهذا بخلاف أئمة الإسلام من الفقهاء والمحدثين فقد استنبطوا من أحداث السيرة النبوية طبقاً لقواعد علم الحديث رواية، أحكاماً كثيرة، منها ما يتعلق بالاعتقاد واليقين، ومنها ما يتعلق بالتشريع والسلوك( )0
إذن ليس للإمام البخارى، وغيره من أئمة السنة الشريفة، من أصحاب المصنفات الحديثية، والتاريخية، أن يرسموا شخصية النبى ، ولا سيرته العطرة، لأن دورهم كما سبق، هو تسجيل تلك التراجم الحية التى اشتمل عليها القرآن الكريم، من عقائد، وعبادات، ومعاملات، وأخلاق، وحدود، وغزوات، وأحوال شخصية… الخ0
خامساً : التأكد من صحة نقل السيرة النبوية الواردة فى السنة المطهرة، سهل ميسور من خلال دراسة السند والمتن، وهذا ما قام به أئمة أعلام من سلفنا الصالح، وأسفرت نتيجة جهودهم، إلى صحة أصول السيرة النبوية التى اشتملت عليها صحاح كتب السنة، وعلى رأسها الصحيحين للبخارى ومسلم، وهذان المصدران (القرآن الكريم، والسنة النبوية الصحيحة) أهم مصادر السيرة وأوثقها، وإليهما نرجع للاستيثاق مما يوجد فى المصادر الأخرى من كتب السيرة والتاريخ، والتى تتنوع بحسب موضوعاتها إلى كتب الشمائل، وكتب دلائل النبوة، وكتب المغازى، وكتب السيرة بوجه عام( )0
سادساً : إذا كان القرآن الكريم أوثق كتاب على وجه الأرض، وكان من الثبوت المتواتر بما لا يفكر إنسان عاقل فى التشكيك بنصوصه وثبوتها التاريخى0
وإذا كانت السنة الشريفة نقلت لنا سيرة رسول الله بالسند الصحيح المتصل مما يجب أن نقبله كحقيقة تاريخية لا يخالجنا الشك فيها0
فإنك تجد نفسك فى النهاية أمام أصح سيرة وأقواها ثبوتاً متواتراً هى سيرة المعصوم سيدنا محمد 0
واتباع تلك السيرة المطهرة، والاهتداء بها، واعتمادها فى معرفة شخصية النبى . ليس فى ذلك عبادة للرجال الذين دونوها، كما يزعم أعداء الإسلام من خصوم السنة لأن الرجال الذين دونوها من الأئمة الأعلام، دورهم كما سبق هو تسجيل ذلك البيان النبوى للقرآن الكريم قولاً وعملاً، وتلك حقيقة علمية تاريخية لا ينكرها إلا جاحد!0
فأين عبادة الرجال التى يزعمها عبدة أهواءهم وشياطينهم؟! قال تعالى : افرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون( )، وقال سبحانه : وكذلك جعلنا لكل نبى عدواً شياطين الإنس والجن يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون( )0
سابعاً : ليس فى الربط بين القرآن الكريم، والسنة النبوية فى تحديد شخصية وسيرة النبى ، شرك وتأليه لرسول الله كما يزعم أعداء السنة المطهرة( )، لأن الربط هنا ربط إلهى، وطاعة لله عز وجل0
فرب العزة هو الآمر لعباده بوجوب الإيمان به ، وتصديقه فى كل ما يخبر به من الوحى الإلهى (متلو من القرآن، أو غير متلو من السنة) قال تعالى : فآمنوا بالله ورسوله والنور الذى أنزلنا والله بما تعملون خبير( ) وقال سبحانه : فآمنوا بالله ورسوله النبى الأمى الذى يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون( ) فالإيمان بسيدنا رسول الله واجب متعين لا يتم إيمان إلا به، ولا يصح إسلام إلا معه لقوله تعالى : ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيراً( )0
فهل يصح من مخلوق بعد ذلك أن يزعم أن الإيمان برسول الله ، والربط بين الإيمان به، والإيمان بالله عز وجل شرك؟! كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً0
وإذا وجب الإيمان به ، وجب تصديقه وطاعته فيما جاء به من الكتاب والسنة، لأن ذلك مما أمرنا به المولى عز وجل فى آيات عدة منها : قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول( ) وقال سبحانه : ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً( )0
فتأمل كيف جعل رب العزة طاعة رسوله طاعته، وقرن طاعته عز وجل بطاعته ، ووعد على ذلك بجزيل الثواب، وأوعد على مخالفته بسوء العقاب، وأوجب امتثال أمره، واجتناب نهيه0
قال المفسرون والأئمة : طاعة الرسول فى التزام سنته، والتسليم لما جاء به، وقالوا : ما أرسل الله من رسول إلا فرض طاعته على من أرسله إليه قال تعالى : وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله( ) فمن زعم بعد ذلك أن الربط بين طاعته عز وجل، وطاعة رسوله ؛ شرك وتأليه لرسول الله ، فقد رد على ربه عز وجل كلامه! وقد سبق تفصيل ذلك فليراجع( )0
وجملة القول : أن منكرى السنة الذين يزعمون كذباً أن السيرة النبوية لرسول الله ، والتى نقلها أهل الحديث فى كتبهم مخالفة لسيرته فى القرآن الكريم، وأن المصادر الحديثية شوهت سيرته العطرة، كذبوا فى زعمهم وتظاهرهم هذا، فقد طعنوا أيضاً فى سيرته الواردة فى القرآن الكريم بزعمهم عدم عصمته وأنه كان فى ضلال وغفلة قبل البعثة… الخ كما سبق الإشارة إلى ذلك فى أول الجواب0
وفى الحقيقة : فإن منكرى السنة، لا يريدون السنة، ولا يريدون أسانيد ولا يريدون نقله يصلون بهم إلى رسول الله ! وكيف يصلون إلى رسول الله ، وهم يكرهون من يوصل إليه، ويحملونهم إلى عصره، وييسرون لهم سماعه ومشاهدة أفعاله، وأحواله، وصفاته… الخ0
إنهم يكرهون الصحابة، ويكرهون التابعين، واتباع التابعين، وتبع الأتباع، واتباع التبع… إنهم يكرهون الدواوين التى جمعت كل هذه الطرق، وحفظت هذا الاتصال، ويكرهون من جمع هذه الدواوين0
يكرهون القواعد التى وضعها العلماء لاستخلاص السنة والسيرة، من وضع الوضاعين، وخطأ المخطئين، ووهم الواهمين .. يكرهون مدرسة الحديث بكل ما فيها، ومن فيها0
وهذه الكراهية فى الحقيقة كراهية لرسول الله ، وحقد على بقاء رسالته، متمثلة فى سنته، وسيرته العطرة، ومحاولة للقضاء على ما ورثته الأمة عنه ، من العلم الذى هو الميراث عن النبيين، وهو فى نفس الوقت حقد على هذه الأمة التى اختصها الله عز وجل بحفظ سنة وسيرة نبيها على أكمل ما يكون الحفظ والتوثيق0
وإذا تقرر سابقاً أن سول الله ، هو والقرآن الكريم كيان واحد، وأن سيرته الشريفة هى الترجمة الحية، لما اشتمل عليه القرآن الكريم، من تعاليم وأحكام؛ فسوف يتأكد ذلك بالأمثلة عند الجواب على الأحاديث التى طعنوا فيها، وزعموا أنها تشويه لسيرته العطرة، وأنها مخالفة للقرآن الكريم، وتطعن فى عصمته فى سلوكه وهديه0
فإلى بيان ذلك فى الفصول التالية
الفصل الثالث
شبهة الطاعنين فى حديث "خلوة النبى
بامرأة من الأنصار" والرد عليها
روى الإمام البخارى فى صحيحه بسنده عن أنس رضى الله عنه قال : "جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله ، ومعها صبى لها، فكلمها رسول الله ، فقال : "والذى نفسى بيده، إنكم أحب الناس إلى مرتين"( )0
بهذه الرواية طعن أعداء السيرة العطرة فى صحيح الإمام البخارى، وأوهموا القارئ بأن الحديث يطعن فى عصمة رسول الله فى سلوكه، وفى خلقه العظيم، حيث جاء فى الرواية أنه ، خلا بامرأة، ثم قال : "إنكم أحب الناس إلى"0
يقول أحمد صبحى منصور : "والرواية تريد للقارئ أن يتخيل ما حدث فى تلك الخلوة التى انتهت بكلمات الحب تلك، وذلك ما يريده البخارى بالطبع"( )0
والجواب :
أولاً : أقول لهؤلاء النابتة الضالة التى تريد الطعن والتشكيك فى صحيح الإمام البخارى، لتسقط مكانته كأصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل، ولتسقط بسقوطه كل كتب السنة التى تليه، إذ هو بمثابة الرأس، لكتب السنة، وبسقوط الرأس يسقط كل الجسد0
أقول لهم : إن كنتم صادقين فى دعواكم تنزيه الرسول ، مما يشكك فى سيرته العطرة، وأخلاقه العظيمة، وعصمته فى سلوكه، وتزعمون أن البخارى بإخراجه لهذه الرواية فى صحيحه قد افترى كذباً على الرسول ، وشكك فى أخلاقه وعصمته - وعصم الله عزوجل - البخارى وغيره من أئمة السنة من ذلك0
وإن كنتم حقاً أهل علم، وبحث عن الحقيقة فلماذا تعمدتم عدم ذكر اسم عنوان الباب الذى ذكر تحته الإمام البخارى هذا الحديث؟ وهو باب "ما يجوز أن يخلوا الرجل بالمرأة عند الناس"0
ولماذا تجاهلتم ما قاله شراح الحديث فى بيانهم للمراد من الخلوة، وكيف كانت تلك الخلوة، ولماذا اختلى بها النبى ؟0
نعم تعمدتم عدم ذكر ذلك تلبيساً منكم وتضليلاً للقارئ، ولأنكم تعلمون كما تعلم الدنيا بأسرها، أن فقه الإمام البخارى فى تراجم أبوابه، التى أعيا فحول العلماء حل ما أبداه فى هذه العناوين من أسرار! إنكم تعلمون أنكم بذكركم عنوان الباب، ينكشف سريعاً كذبكم وتضليلكم! كما أنكم تجاهلتم ما قاله شراح الحديث من أئمة المسلمين، والذين تحرصون على وصفهم بأنهم يقدسون البخارى، ويعبدونه من دون الله "وعصمهم الله من ذلك" تجاهلتم ما فسروه وبينوه من معنى "خلوة الرجل بالمرأة عند الناس" وكيف كانت تلك الخلوة؟0
والنتيجة من تجاهلكـم كل ذلـك أنكم سفهتم عقول أئمة المسلمين، واستخففتم بعقل القارئ لكم0
ثانياً : تعالوا بنا لنظهر للقارئ ما حرصتم على كتمانه؛ ولنترك له الحكم بعد ذلك؛ فيمن الصادق البخارى أم أنتم؟ ومن الطاعن والمشكك فى عصمة النبى البخارى أم أنتم؟ ومن المحترم لعقل القارئ البخارى أم أنتم؟0
يقول الحافظ ابن حجر – رحمه الله – شارحاً المراد من عنوان الباب الذى ذكر الإمام البخارى تحته حديث أنس. قال : قوله : "باب ما يجوز أن يخلوا الرجل بالمرأة عند الناس" أى : لا يخلوا بها بحيث تحتجب أشخاصهما عنهم، بحيث لا يسمعون كلامهما، إذا كان مما يخافت به؛ كالشئ الذى تستحى المرأة من ذكره بين الناس، وأخذ المصنف قوله فى الترجمة : "عند الناس" من قوله فى بعض طرق الحديث "فخلا بها فى بعض الطرق أو فى بعض السكك" وهى : الطرق المسلوكة التى لا تنفك عن مرور الناس غالباً0
وقوله : "فخلا بها رسول الله " أى : فى بعض الطرق، ولم يرد أنس أنه خلا بها بحيث غاب عن أنصار من كان معه، وإنما خلا بها، بحيث لا يسمع من حضر شكواها، ولا ما دار بينهما، من الكلام، ولهذا سمع أنس آخر الكلام فنقله، ولم ينقل ما دار بينهما، لأنه لم يسمعه0
وفى رواية مسلم عن أنس : "أن امرأة كان فى عقلها شئ، فقالت : يا رسول الله! إن لى إليك حاجة، فقال : يا أم فلان! أى السكك شئت، حتى أقضى لك حاجتك، فخلا معها فى بعض الطرق، حتى فرغت من حاجتها"( )0
قال الإمام النووى – رحمه الله – قوله : "خلا معها فى بعض الطرق" أى : وقف معها فى طريق مسلوك، ليقضى حاجتها، ويفتيها فى الخلوة، ولم يكن ذلك من الخلوة بالأجنبية، فإن هذا كان فى ممر الناس، ومشاهدتهم إياه وإياها، لكن لا يسمعون كلامها، لأن مسألتها مما لا يظهره"( )0
ومن هنا استفاد الأئمة من هذه الرواية : "أن مفاوضة الأجنبية سراً لا يقدح فى الدين عند أمن الفتنة، ولكن الأمر كما قالت عائشة رضى الله عنها، "وأيكم يملك أربه كما كان يملك أربه"( ) قلت : وإيانا أيضاً معصوم كعصمته !0
ثالثاً : ليس فى قوله : "إنكم أحب الناس إلى – مرتين – وفى رواية : ثلاث مرات" ما يطعن فى عصمته فى سلوكه وهديه، لأن هذه الكلمة قالها النبى جهاراً على ملأ من الناس لنساء وصبيان من الأنصار كانوا مقبلين من عرس0
يدل على ذلك ما أخرجه البخارى عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال : أبصر النبى ، نساءاً وصبياناً مقبلين من عرس فقام ممتناً فقال : "أنتم من أحب الناس إلى"( ) وهو على طريق الإجمال، أى : مجموعكم أحب إلى من مجموع غيركم0
فالكلمة إذن لم يقلها رسول الله مغازلاً للمرأة الأنصارية التى اختلى بها ليقضى حاجتها؛ كما يحاول أن يزعم، ويستنتج أعداء الإسلام! وإنما قالها ، خطاباً لمجموع الأنصار. وتأمل قوله : "إنكم" ولم يقل "إنك"0
وليس أدل على ما سبق أن الراوى للحديث أنس بن مالك، سمع هذه الجملة "إنكم أحب الناس إلى" وسمع كم مرة كررها رسول الله فإذا كانت الكلمة مقصوداً بها المغازلة؛ فلم جهر بها حتى سمعها أنس؟!0
ولم لم يسر بها حتى لا يسمعها أنس إن كان مقصوداً بها ما يزعمه أعداء عصمته ؟0
إن هذه الجملة : "إنكم أحب الناس إلى" قالها المعصوم : منقبة للأنصار، حيث جعل حبهم من علامات الإيمان، وبغضهم من علامات النفاق، فقال : "الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله"( ) وفى رواية : "آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار"( )0
قال الحافظ ابن حجر : وخصموا بهذه المنقبة العظمى، لما فازوا به دون غيرهم من القبائل من إيواء النبى ، ومن معه، والقيام بأمرهم، ومواساتهم بأنفسهم وأموالهم، وإيثارهم إياهم فى كثير من الأمور على أنفسهم، فكان صنيعهم لذلك موجباً لمعاداتهم، جميع الفرق الموجودين من عرب وعجم، والعداوة تجر البغض، ثم كان ما اختصوا به مما ذكر موجباً للحسد، والحسد يجر البغض، فلهذا جاء التحذير من بغضهم، والترغيب فى حبهم، حتى جعل ذلك آية الإيمان والنفاق، تنويهاً بعظيم فضلهم، وتنبيهاً على كريم فعلهم، وإن كان من شاركهم فى معنى ذلك مشاركاً لهم فى الفضل المذكور، كل بقسطه"( )0
وبعد : فقد ظهر واضحاً جلياً لكل ذى عقل، وقلب سليم، أن الحديث صحيح رواية ودراية، وأن ما زعمه أهل الزيغ من أن لفظ الخلوة فى الحديث محمول على الخلوة المحرمة؛ مردود عليهم بما جاء فى بعض طرق الحديث "فخلا بها فى بعض الطرق أو بعض السكك" وهى الطرق التى لا يخلو منها المارة من الناس0
كما اتضح جلياً أن تلك المرأة التى خلى بها النبى ، كانت لها مسألة أرادت أن تستفتى فيها النبى ، وتلك المسألة مما تستحى من ذكره النساء بحضرة الناس، وكانت إجابة النبى لها أن تلتمس بعض الطرق أى تلتمس أى جانب من الأماكن العامة التى لا تخلو من مرور الناس غالباً حتى يسمع حاجتها، ويقضيها لها، وكل هذا صرحت به رواية الإمام مسلم من حديث أنس، راوى الحديث الذى طعنوا فيها من رواية البخارى! ليقطع لسان كل فاجر، ويدفع افتراء كل آثم يطعن فى عصمته 0
وما ختم به النبى ، حديثه مع المرأة من قوله : "والذى نفسى بيده إنكم أحب الناس إلى" هذا منه ، تأكيداً لما قاله مراراً من جعله علامات الإيمان حب الأنصار، ومن علامات النفاق بغضهم، ثم إن هذه الكلمة قالها رسول الله جهاراً على ملأ من الناس، لنساء وصبيان من الأنصار كانوا مقبلين من عرس، كما سبق من حديث أنس عند البخارى0
فهل بقى بعد كل هذا حجة فى الحديث لمن أرادوا أن يشوشوا به على عصمة سيدنا رسول الله فى سلوكه، وفى خلقه العظيم؟! وهم يوهمون البسطاء أنهم من المحبين للنبى ، المدافعين عنه، فى الوقت الذى يجحدون فيه سنته العطرة، ويطعنون فى عدالة الإمام البخارى، وفى صحيحه الجامع، ويسفهون عقول المسلمين القائلين بقول سلفهم الصالح رضى الله عنهم، ويستخفون بعقل من يقرئ لهم!0
وبالجملة : أيخشى عاقل، فضلاً عن مؤمن من رسول الله ، على زوجه، أو ابنته، أو أمه، وهو الذى لم يستطيع كافر أو جاحد، أن يلمس هذا الجانب فى حقه؟0
وقد قال الله تعالى فى حقه : النبى أولى بالمؤمنين من أنفسهم( ) إن رسول الله ، مؤتمن على الوحى، وحامل الرسالة، والأسوة الحسنة، والقدوة الصالحة، ولا يثير مؤمن فضلاً عن عاقل مثل ما أثاره أعداء السنة المطهرة فى حديثنا هذا، للإيمان بعصمته من الشيطان. وإن ما طنطن به أعداء عصمته ، يشبه ما طنطنوا به فى قصة أخرى، وكذبوا البخارى فيها، لأنه رواها، وهى قصة أم سليم وأم حرام رضى الله عنهما0
فإلى بيان شبهتهم فى ذلك والرد عليها فى الفصل التالى
====
الفصل الثالث
شبهة الطاعنين فى حديثى "نوم النبى
عند أم سليم وأم حرام" والرد عليها
أولاً : حديث أم سليم – رضى الله عنها :
روى البخارى ومسلم – رحمهما الله – عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال : "إن أم سليم( ) كان تبسط للنبى ، نطعاً فيقيل عندها على ذلك النطع، قال : فإذا نام النبى ، أخذت من عرقه وشعره فجمعته فى قارورة، ثم جمعته فى سك( ) وهو نائم. قال : فلما حضر أنس بن مالك الوفاة أوصى إلى أن يجعل فى حنوطه من ذلك السك، قال فجعل فى حنوطه"( )0
ثانياً : حديث أم حرام – رضى الله عنها :
روى البخارى ومسلم – رحمهما الله – عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال : "كان رسول الله ، إذا ذهب إلى قباء، يدخل على أم حرام بنت ملحان( )، فتطعمه، وكانت أم حرام – تحت عبادة بن الصامت – فدخل عليها رسول الله ، فأطعمته، وجعلت تفلى رأسه، فنام رسول الله ثم استيقظ وهو يضحك، قالت : فقلت : وما يضحك يا رسول الله؟ قال : ناس من أمتى عرضوا على غزاة فى سبيل الله، يركبون ثبج( ) هذا البحر، ملوكاً على الأسرة، أو قال : مثل الملوك على الأسرة، يشك – إسحاق – قالت : فقلت : يا رسول الله، ادع الله أن يجعلنى منهم، فدعا لها رسول الله ، ثم وضع رأسه فنام، ثم استيقظ وهو يضحك. فقلت : ما يضحك يا رسول الله؟ قال : ناس من أمتى عرضوا على غزاة فى سبيل الله – كما قال فى الأول – قالت : فقلت : يا رسول الله، ادع الله أن يجعلنى منهم، قال : أنت من الأولين. فركبت البحر فى زمن معاوية بن أبى سفيان رضى الله عنه، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت"( )0
بالحديثان السابقان طعن أعداء السنة، فى عدالة الإمام البخارى، وفى صحيحه الجامع، وزعموا أن الروايات السابقة يلزم منها؛ الطعن فى عصمة رسول الله فى سلوكه، وفى خلقه العظيم0
يقول أحمد صبحى منصور : "يريدنا البخارى أن نصدق أن بيوت النبى التى كانت مقصداً للضيوف، كانت لا تكفيه، وأنه كان يترك نسائه بعد الطواف عليهن، ليذهب للقيلولة عند امرأة أخرى، وأثناء نومه كانت تقوم تلك المرأة بجمع عرقه وشعره، وكيف كان يحدث ذلك… يريدنا البخارى أن نتخيل الإجابة.. ونعوذ بالله من هذا الإفك… ثم يؤكد البخارى على هذا الزعم الباطل بحديث أم حرام … الذى تضمن كثيراً من الإيحاءات والإشارات المقصودة، لتجعل القارئ يتشكك فى أخلاق النبى؛ فيفترى الراوى : كيف كانت تلك المرأة تطعمه، وتفلى رأسه، وينام عندها، ثم يستيقظ ضاحكاً ويتحادثان نعوذ بالله من الافتراء على رسول الله… ويتركنا البخارى بعد هذه الإيحاءات المكشوفة، نتخيل من معنى أن يخلو رجل بامرأة متزوجة فى بيتها، وفى غيبة زوجها، وأنها تطعمه، وتفلى له رأسه، أى أن الكلفة قد زالت بينهما تماماً، وأنها تعامله، كما تعامل زوجها.. ثم يقول : "وجعلت تفلى له رأسه، فنام رسول الله ثم استيقظ" ولابد أن القارئ سيسأل ببراءة … وأين نام النبى وكيف نام، وتلك المرأة تفلى له رأسه، وآلاف الأسئلة تدور حول هدف واحد هو ما قصده البخارى بالضبط"( )0
ويجاب عن ما سبق بما يلى :
أولاً : لنا أن نتساءل : لماذا كل هذا الحقد على الإمام البخارى؟ ولماذا الحمل على البخارى – رحمه الله – فى هذه الرواية، والتشنيع عليه، مع أن غيره من علماء الحديث شاركه فى رواية هذا الحديث؟ إنه لم يخترع، ولم يؤلف، ولم يشطح به الخيال!0
لقد نقل ما سمعه من شيوخه الثقات، مما سمعوه من شيوخهم، إلى أن وصل النقل إلى الرسول ، أو إلى الصحابى الذى روى عن الرسول 0
والناقل لا يطلب منه إلا التأكد من صحة ما نقل، واستيفاء شروط النقل ولا يكون مسئولاً عن ذات الشئ المنقول، لأن ناقل الكفر ليس بكافر بمجرد نقله لذلك0
لقد أعماهم الحقد على كل ما يتصل بالسنة، ورواتها، فصبوه صباً عليهم، واختص البخارى بأشد أنواع الحقد؛ لأنه جمع أصح الروايات، وبذل أقصى الجهود0
وذنب البخارى عندهم، أنه أخلص. وبذل حياته وماله فى جمع السنة، ونقد الحديث، واستخلص صحيحه من صفوة الصفوة من الحديث، ورسم المناهج، وقعد القواعد، وأصل الأصول0
من أجل ذلك عابوه وشتموه، وحاولوا تشويه صورته، ونطحوه بقرون حقدهم، يريدون القضاء على جهوده، وإبادة عمله، ولو استطاعوا لأخرجوا رفاته، فصبوا عليه ويلاتهم. ولكن هيهات فهم كما قال القائل :
كناطح صخرة يوماً ليوهنها *** فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
ثانياً : وماذا فى قصة أم حرام :
إن البخارى – رحمه الله – ذكرها فى صحيحه فى كتاب الاستئذان، باب "من زار قوماً فقال عندهم"0
والقوم يطلق فى الغالب على الجماعة، وكأن البخارى يرى أن ما يرويه من الحديث، فى زيارة واحد وهو الرسول ، لجماعة وهم أهل البيت الذى فيه أم حرام0
وهذا من فقهه فى تراجمه الذى رفع مكانته بين العلماء، وأثار إعجاب كل متابع له فى فهم معانى الحديث0
ثم روى البخارى الحديث عن أنس بن مالك، وأم سليم هى أم أنس، وأم حرام هى أخت أم سليم، وهنا يظهر جلياً أن البيت الذى كان يقيل فيه رسول الله ، هو بيت فيه أم سليم، وأختها أم حرام، وأنس بن أم سليم0
وقد ورد فى المسند عن أنس "أن رسول الله صلى فى بيت أم سليم، وأم سليم، وأم حرام خلفنا، ولا أعلمه إلا قال : أقامنى عن يمينه"( ) فأى ضير فى أن يكرم الرسول ، أنساً خادمه، فيدخل بيته يقيل فيه، ويأكل، وفى هذا البيت أمه، وخالته، وقد يكون فيه غيرهما زوج أم سليم، أو زوج أم حرام، أو زوجهما0
وسبب آخر لإكرام الرسول ، أهل هذا البيت بالزيارة، مع أن غيرهم كثير ممن يود أن يتشرف بالرسول فى مثل هذه الزيارة. لقد استشهد أخوهما فى سبيل الله، فكان رسول الله يواسيهما معاً بهذه الزيارة، حيث أنهما كانتا فى دار واحدة، كل واحدة منهما فى غرفة من تلك الدار( )0
فعن أنس بن مالك رضى الله عنه "أن النبى ، لم يكن يدخل بيتاً بالمدينة، غير بيت أم سليم، إلا على أزواجه، فقيل له، فقال : إنى أرحمها؛ قتل أخوها معى"( ) يعنى حرام بن ملحان( ) وكان قد قتل يوم بئر معونة0
وفى تعليله "إنى أرحمهما" فيه أنه خلف حرام بن ملحان فى أهله بخير بعد وفاته، ولذا ذكر البخارى الحديث السابق فى كتاب الجهاد، باب فضل من جهز غازياً أو خلفه بخير، وهذا من فقهه ودقته – رحمه الله0
فكانت زيارته لأم سليم وأختها أم حرام، عملاً بما قاله : "من جهز غازياً فى سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازياً فى سبيل الله بخير فقد غزا"( )0
وفضلاً عن ما سبق، فقد غنم المسلمون من هذه الزيارة علماً من أعلام النبوة، فى أخبار الرسول ، عما سيكون قبل وقوعه، حيث أراه الله له، وإخباره أم حرام بأنها من الأولين ركاب السفن الغازية. وتحقق ما أخبر به من ركوبها وغزوها ثم استشهادها الذى حال بينها وبين أن تكون من أهل السنن الغازية التى تلت ذلك، ورآها الرسول 0
ثالثاً : من أين جزم أحمد صبحى، ومن قال بقوله؛ بانفراد رسول الله مع أم حرام أو أم سليم؟ وكيف قطع بأن أحداً لم يكن معهما؟، وما الذى يمنع أنساً وهو خادمه من الدخول إلى بيت أمه، وهو نفسه بيت خالته؟ وأين أخوه اليتيم، ومن كان من الأزواج حاضراً؟ بل وأين من كان من الأقارب، وكل من حول قباء من الأنصار الذين لا يتركون الرسول ، وهو يزور قباء، وهم من أخواله الذين نزل بينهم أول قدومه المدينة؟!0
لقد كان الصحابة يحرصون على مرافقة الرسول ، وكانوا يسعدون بصحبته كلما خرج من بيته، وكانوا يلتمسون رؤيته وسماعه، ورؤية ما يصدر منه0
فكيف يزور أم حرام إذا ذهب إلى قباء فلا يجد أحداً يقابله، أو يصلى معه، أو يقابله فى الطريق فيسير معه حتى يسمح له بالانصراف؟! وكيف يدخل بيتاً، فلا يدخل إليه فيه من أراد، ممن له حاجة، أو مسألة، أو به رغبة للاستفادة من تجدد رؤيته له، وسعادته بمجالسته ؟!0
أمور كلها تعد من قبيل الشواهد التى لا تخطئ، والدلالات التى تورث اليقين، بأن النبى ، حين زار قباء ودخل على أم حرام فى بيتها، كان معهم غيرهما، ولاسيما وجود أنس بن مالك على ما ورد فى روايات الحديث( )0
وهذه الشواهد هى التى جعلت الإمام البخارى يعنون لباب القصة بقوله : "باب من زار قوماً فقال عندهم" وتأمل جيداً "قوماً"0
رابعاً : المتأمل فى الحديث يجد قول الراوى : فأطعمته : أى قدمت له طعاماً، و"جعلت تفلى رأسى"0
فهل يناسب هذا القول : "وجعلت تفلى رأسه" حال الرسول وهو يأكل؟ أو حال أنس، وهو جالس إلى خالته حال قيام رسول الله بتناول الطعام؟ وألا يمكن أن يقال : إن الرسول ، بادر إلى النوم قبل تناول الطعام، فأطعمت أم حرام أنساً، وجعلت تفلى رأسه، حتى استيقظ النبى يضحك، ويحكى ما رآه من الصحابة فى السفن كالملوك على الأسرة غزاة فى سبيل الله؟ يجوز0
إلا أن الذين فى قلوبهم مرض، لا يفطنون لذلك، ولا يسمعون كلام الحافظ الدمياطى وهو يقول : ليس فى الحديث ما يدل على الخلوة مع أم حرام، ولعل ذلك كان مع ولد، أو خادم، أو زوج، أو تابع0
ولا يهمهم قول ابن الجوزى : سمعت بعض الحفاظ يقول : كانت أم سليم أخت آمنة بنت وهب، أم رسول الله من الرضاعة، ولا يعبئون بقول ابن وهب : أم حرام إحدى خالات الرسول من الرضاعة( )0
لا يهمهم كل ذلك، ولا يرد على خاطرهم قول أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها "لا والله ما مست يد رسول الله يد امرأة قط، غير أنه يبايعهن بالكلام"( )0
أمور كلها تعد من قبيل الشواهد التى لا تخطئ، والدلالات التى تورث اليقين بأن النبى ، كان قريباً قرابة محرمة لأم سليم، وأختها أم حرام؛ وخصوصاً وأن بعض الروايات تقول : "كان النبى ، يدخل بيت أم سليم فينام على فراشها، وليست فيه"( )0
ورواية تقول : "نام النبى ، فاستيقظ، وكانت تغسل رأسها، فاستيقظ وهو يضحك، فقالت: يا رسول الله أتضحك من رأسى، قال لا"( )0
ومن هنا : فلا إشكال فى تفلية أم حرام لرأس رسول الله على فرض الأخذ بظاهر الحديث، لجواز ملامسة المحرم فى الرأس وغيره مما ليس بعورة، وجواز الخلوة بالمحرم والنوم عندها. وهذا كله مجمع عليه( )0
وقد يقول قائل : قريبات النبى معروفات، وليس منهن أم سليم ولا أم حرام( ) والجواب: أننا نتحدث عن مجتمع لم يكن يمسك سجلات للقرابات، وخاصة إذا كانت القرابة فى النساء، فهناك قريبات كثيرات أغفلهن التاريخ فى هذا المجتمع، وأهملهن الرواة( )0
وإلا هل يعقل أن يترك أهل الكفر والنفاق – زمن النبوة – مثل هذا الموقف دون استغلاله فى الطعن فى النبى ، وفى نبوته؟!0
خامساً : ليس فى روايات القصة، ما يدل على ما زعمه أحمد صبحى، ومن قال بقوله : من دخول رسول الله على أم حرام فى غيبة زوجها لأن أم حرام؛ كانت قد تزوجت مرتين، تزوجت مرة قبل عبادة بن الصامت، وأنجبت، ثم قتل ابنها شهيداً فى إحدى معارك الإسلام، وبقيت بغير زوج لكبر سنها، ثم شاء الله أن تتزوج بعبادة بن الصامت ويبقى معها بعد انتقال النبى ، وقد وقع ذلك فى كلام أنس بن مالك نفسه، وهو يحدث عن خالته بالحديث الذى هو موضوع كلامنا الآن. ففى بعض روايات الحديث قال : ثم تزوجت بعد ذلك بعبادة بن الصامت رضى الله عنه0
أما هذه الجملة التى وقع عليها – الذين فى قلوبهم مرض – والواردة فى بعض روايات هذا الحديث وهى : "كانت عبادة بن الصامت" فقد أجمع العلماء أن هذه الجملة معترضة، وهى من كلام الراوى يشرح بها حال أم حرام حين ذهبت إلى بلاد الشام، أو إلى جزيرة قبرص، وماتت بها0
فالمراد بقوله هنا : "وكانت تحت عبادة" الإخبار عما آل إليه الحال بعد ذلك، وهو الذى اعتمده النووى، وغيره تبعاً للقاضى عياض، ورجحه ابن حجر( )0
قلت : وحتى لو كان عبادة حينئذ تحتها، فلا شك أنه كان يسره، أكل النبى ، مما قدمته له امرأته، ولو كان بغير إذن خاص منه0
كما أن دخوله ، على زوجته حينئذ فى غير وجوده، لا إشكال فيه، لقرابة أم حرام لرسول الله ولأنه لم يكن وحده ، على ما تقرر سابقاً، على فرض عدم القرابة0
ولعصمته ، مع كل ما سبق أولاً وأخيراً( )0
سادساً : ما زعمه أعداء عصمته ، وحاولوا إيهام القارئ لهم، بأن روايات الحديث فيها أن النبى ، كان يبادل أم حرام كلمات غير مقبولة، عصمه الله من ذلك0
فهذا منهم من أفرى الفرى على رسول الله ، وروايات القصة ترد عليهم، فكل ما فيها أنه ، زار أم حرام، ونام عندها، واستيقظ يضحك، وسألته أم حرام عن الأمر الذى يضحك منه، فأخبرها أن ناساً من أمته سيركبون البحر، ظهره، ووسطه، ويكونون فيه، وهو أمر فيه أمثال الملوك على الأسرة، وهذا أمر يسعد النبى ، ويرضيه، لما فيه من المخاطر ما فيه، إن فيه خطر ركوب البحر، وفيه الجهاد، وما فى الجهاد من أهوال، وفيه احتمال الموت والشهادة، وأم حرام تعرف ذلك وتدركه، ثم تطمع فيه وتبتغيه، وتسأل النبى الذى لا ترد دعوته، وتقول له : سل الله أن يجعلنى منهم، والنبى سأل ربه، واستجاب له ربه عز وجل، فسألته أم حرام بعد أن نام المرة الثانية فى الوقت نفسه، وقام يضحك، مم تضحك يا رسول الله؟ فقال : كما قال فى الأولى : "إن ناساً من أمتى سيركبون البحر مثل الملوك على الأسرة، قالت : يا رسول الله! أأنا منهم، قال، لا، أنت من الأولين"0
ومرت الأيام، وركبت أم حرام مع زوجها، وعلى ساحل البحر، ركبت دابة، فسقطت من على دابتها فماتت، وقبرها على رأى البعض ما يزال ظاهراً، يعرفه الناس فى قبرص باسم قبر المرأة الصالحة0
أى حديث هذا الذى جرى بين النبى ، وبين أم حرام رضى الله عنها؟ إنه حديث عن المخاطر والأهوال، وهو حديث عن الموت والشهادة، وهو حديث عن استكمال الذات إلى ساعة الممات، وهو حديث فرح النبى بأمته حين ينتشرون بالدين ويحملون لواء الجهاد0
إن مثل هذا الحديث : لهو حديث الرجولة والكمال، وهو حديث الطمع فى رحمة الله ورضوانه0
فما علاقة مثل هذا الحديث الشاق بأحاديث الرضا، ومتابعة هوى النفس؟!0
وأين ما يزعمه أعداء الإسلام، إن فى القصة إيحاءات وإشارات مقصودة تجعل القارئ يتشكك فى أخلاق النبى وعصمته فى سلوكه؟!0
وأين كانت أختها أم سليم، وابنها وابن أختها أنس راوى الحديث، من هذه الإيحاءات؟0
ولم لم ينقلها الرواة، وهم الذين يحرصون على نقل كل صغيرة وكبيرة حتى الحركات والسكنات عن المعصوم ؟!0
إن المرء ليس ليسمع الحديث الصحيح، فيدركه على وجهه، إن كان سليم النفس، حسن الطوية، وهو ينحرف به إذا كان إنساناً مريض النفس معوجاً0
وهل ينضح البئر إلا بما فيه؟
وهل يمكن أن نتطلب من الماء جذوة نار؟0
أو نغترف من النار ماء؟
وقديماً قالوا : إن كل إناء بما فيه ينضح0
أشهد أن الله عز وجل، عصم نبيه ، من الشيطان الرجيم، وعصمه فى سلوكه وهديه، وصدق فيه قول ربه : وإنك لعلى خلق عظيم( ) أهـ0
والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم
الفصل الرابع
شبهة الطاعنين فى حديث "طوافه على نسائه
فى ساعة واحدة" والرد عليها
روى البخارى وغيره عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال : كان النبى يدور على نسائه، فى الساعة الوحدة من الليل والنهار، وهن إحدى عشرة( ) قال قتادة : قلت لأنس : أو كان يطيقه؟ قال : كنا نتحدث أنه أعطى قوة ثلاثين"( )0
وفى رواية عن ابن عمر مرفوعاً : "أعطيت قوة أربعين فى البطش والجماع"( ) وله شاهد صحيح عن أنس بن مالك، قال : قال رسول الله "فضلت على الناس بأربع : بالسخاء، والشجاعة، وكثرة الجماع، وشدة البطش"( )0
هذا الحديث الذى يبين ما اختص به رسول الله ، دون غيره من الناس، ويبين عدله بين أهل بيته، يطعن فيه أعداء السنة النبوية، بزعم أنه يسهم فى تشويه صورة الرسول ، ويطعن فى عصمته فى سلوكه، حيث يجعل الحديث بزعمهم من رسول الله مهووساً بالجماع؛ كما زعموا أن الحديث يتعارض مع القرآن الذى يبين أن النبى كان يقضى ليله فى قيام الليل، وقراءة القرآن والعبادة، ويقضى نهاره فى الجهاد ونشر الدعوة0
يقول أحمد صبحى منصور : "البخارى يجعل من النبى مهووساً بالجماع إلى درجة لا يعرفها أشد الرجال فحوله، ولا أعرف من أين لهم ذلك القياس الذى جعلوا به مقدرة النبى – المزعومة – تبلغ قوة ثلاثين رجلاً؟0
ولكن هل كان النبى فعلاً يقضى الليل والنهار فى جماع مستمر؟ وهل كان أصحابه خلفه يهتفون بقدرته الفذة فى النكاح؟ أو هل كانت سنة النبى هى فى الجماع؟0
إن النبى كان يقضى ليله فى قيام الليل، وقراءة القرآن والعبادة، ويقضى نهاره فى الجهاد، والسعى فى توطيد أركان دولته الجديدة، ولم يكن لديه متسع من الوقت ليقطعه فى جماع متصل لجميع النساء، وفى وقت واحد… ولم يكن أصحابه لديهم الفراغ ليشجعوه ويهتفوا لفحولته الخارقة0
أمامنا نوعان من السنة، أى : طريقة الحياة اليومية للنبى… السنة التى ذكرها الرحمن فى القرآن : إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثى الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين آمنوا معك( ) والسنة التى ذكرها البخارى فى صحيحه، ولا يمكن أن نؤمن بالاثنين معاً"( )0
وبنحو قوله قال صالح الوردانى، وزاد : "إن الذين اختلقوا هذه الروايات إنما كانوا يهدفون من ورائها إلى تشويه شخصية الرسول "( )0
ويجاب عن ما سبق بما يلى :
أولاً : ليس فى رواية رواة السنة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم إلى أئمة المحدثين كالبخارى ومسلم وغيرهما؛ ليس فى روايتهم الحياة الخاصة لرسول الله ، ما يشوه سيرته العطرة0
لأن رسول الله معصوم فى سلوكه وهديه، وما ينقل عنه من حياته الخاصة دين، وللأمة فيه القدوة والأسوة الحسنة، وليس أدل على ذلك، ما سبق ذكره من اختلافهم فى جواز القبلة للصائم، وفى طلوع الصبح على الجنب وهو صائم، فسألوا أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها، فأخبرتهم أن ذلك وقع من النبى ، فرجعوا إلى ذلك، وعلموا أنه لا حرج على فاعله( )0
وهذا النقل لما يخصه فى حياته الخاصة، حث عليه، وكان بإذنه بدليل ما روى أن رجلاً سأل رسول الله ، عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل، هل عليهما الغسل؟ وعائشة جالسة، فقال : "إنى لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل"( )0
كما دل على أن هذا النقل من الدين قوله تعالى : وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً( ) فهذا نص قرآنى صريح يأمر بحسن صحبة الزوجة بكل ما تعنيه كلمة "المعروف"( )0
ومعلوم أن مراد الله فى كتابه، من مهامه ، لقوله تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم( )0
ومن هنا : كان نقل هذا البيان فى الحياة الخاصة لرسول الله قولاً وعملاً، دين واجب ذكره، لتتعلم الأمة المراد بخطاب ربها : وعاشروهن بالمعروف ولذا ذكر العلماء من حكم كثرة أزواجه :
1- نقل الأحكام الشرعية التى لا يطلع عليها الرجال، لأن أكثر ما يقع مع الزوجة مما شأنه أن يختفى مثله0
2- الاطلاع على محاسن أخلاق رسول الله ، الباطنة، فقد تزوج أم حبيبة بنت أبى سفيان( ) وأبوها إذ ذاك يعاديه، وصفية بنت حى بن أخطب، بعد قتل أبيها وعمها وزوجها0
فلو لم يكن ، اكمل الخلق فى خلقه لنفرن منه! بل الذى وقع أنه كان أحب إليهن من جميع أهلهن( )0
قلت : وفيما سبق من حكم كثرة أزواجه وغيرها، تأكيد لعصمته فى سلوكه وهديه مع أزواجه الأطهار. لأنه إذا كان ما يقع مع الزوجة، مما شأنه أن يختفى مثله عن الناس، لما فيه من نقص فى قول أو عمل، فهذا بخلاف سيدنا رسول الله لعصمة الله عز وجل له، فقوله وعمله مع أهل بيته كله كمال، ومما تقتضى به الأمة. وإليك بيان ذلك فى حديثنا0
ثانياً : لا وجه على ما سبق لإنكار أعداء السنة، لما ينقل من أحوال رسول الله ، مع أهل بيته، وزعمهم أن فى ذلك تشويه لشخصيته وسيرته العطرة، لأن فى ذلك المنقول، بيان لعصمته، وعظمة شخصيته، ومحاسن أخلاقه الباطنة مع أهل بيته، وهذا ما دل عليه حديثنا، حيث فيه البيان العملى منه ، لما حث عليه قولاً0
فعن عائشة رضى الله عنها قالت:قال رسول الله :"إن من أكمل المؤمنين إيماناً، أحسنهم خلقاً؛وألطفهم بأهله"( )وعنها أيضاً عن رسول الله قال:"خيركم خيركـم لأهلـه، وأنا خيركم لأهلى"( ) وهذه الأقوال منه تأكيداً وبياناً لقول رب العزة : وعاشروهن بالمعروف وهى كلمة جامعة تعنى : التحلى بمكارم الأخلاق فى معاملة الزوجات، من صبر على ما قد يبدر منهن، أو تقصير فى أداء واجباتهن، ومن حلم عن إيذائهن فى القول أو الفعل، وعفو وصفح عن ذلك، ومن كرم فى القول والبذل، ولين فى الجانب، ورحمة فى المعاملة، إلى غير ذلك مما تعنيه المكارم الأخلاقية التعاملية الأسرية0
وذلك هو ما دل عليه حديثنا "عدله بين نسائه فى القسم" كما قالت أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها : "كان رسول الله ، لا يفضل بعضنا على بعض فى القسم من مكثه عندنا، وكان قل يوم يأتى إلا وهو يطوف علينا جميعاً فيدنوا من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ التى هو يومها فيبيت عندها"( )0
وهذا الحديث نص صريح يبين لنا حقيقة طوافه على نسائه جميعاً فى الساعة الوحدة من الليل والنهار0
إنه طواف حب، ومداعبة، بدون جماع، حتى يبلغ إلى التى هو يومها فيبيت عندها، كما هو ظاهر كلام عائشة رضى الله عنها0
ولا يتعارض مع ظاهر حديث أنس رضى الله عنه، فى أن حقيقة طوافه على نسائه جميعاً بجماع0
إذ الجمع بينهما حينئذ يكون، بحمل المطلق فى كلام أنس على المقيد فى كلام عائشة ووجه آخر : بحمل كلام عائشة على الغالب، وكلام أنس على القليل النادر، فلا مانع من أنه إذا طاف على نسائه جميعاً فى بعض الأحيان يكون بجماعهن جميعاً، وتكون له القدرة على ذلك، لم اختصه الله به من القوة وكثرة الجماع، وهو صريح قوله : "فضلت على الناس بأربع: كثرة الجماع، وشدة البطش… الحديث( )0
وقوله : "أعطيت قوة أربعين( ) فى البطش والجماع"( ) وفى ذلك تصريح بأن الصحابة رضى الله عنهم، كانوا يتحدثون عن قوة رسول الله ، فى الجماع من خلال نحو هذه الأحاديث المرفوعة، ولا يتحدثون بالقياس والظن و… كما يزعم أعداء خصائصه وعصمته 0
ثالثاً : ليس للناقل لخصائص رسول الله ، من رواة السنة والسيرة، أى دخل فيها سوى النقل، وأداء الأمانة، أمانة الدين، كما قال : "نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه"( ) وقوله : "بلغوا عنى ولو آية… الحديث( ) فإذا أدوا هذه الأمانة، كان لهم خير الجزاء من ربهم، والشكر الجميل منا، لم أدوا إلينا من الدين!0
أما الافتراء عليهم والزعم بأنهم يتدخلون فيما ينقلون، ويجعلون من النبى قوة فى الجماع لا يعرفها أشد الرجال فحولة … الخ( ) فهذا محض كذب عليهم، لا دليل عليه، ونكران لجميلهم وفضلهم، واستخفاف بعقل القارئ!0
رابعاً : إنكار أعداء العصمة، لم اختص به سيدنا رسول الله فى حديثنا هذا من قوة البدن، وكثرة الجماع، إنكار لكتاب الله عز وجل، ورد على رب العزة كلامه، القائل : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات( )0
ومع أن كثرة أزواجه ، يشترك فيها مع من سبقه من الأنبياء كما قال عز وجل : ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية( )0
وكذلك طوافه على نسائه فى الساعة الواحدة من الليل والنهار يشترك فيها مع من سبقه من الأنبياء، كما دل على ذلك قوله : "كان لسليمان ستون امرأة( ) فقال : لأطوفن عليهن الليلة. فتحمل كل واحدة منهن غلاماً فارساً يقاتل فى سبيل الله، فلم تحمل منهن إلا واحدة فولدت نصف إنسان. فقال رسول الله : "لو كان استثنى لولدت كل واحدة منهن غلاماً، فارساً، يقاتل فى سبيل الله"( )0
إلا أنه ، اختص فى طوافه بخرق العادة له فى كثرة الجماع، مع التقلل من المأكول والمشروب، وكثرة الصيام والوصال، وقد أمر من لم يقدر على مؤن النكاح بالصوم، وأشار إلى أن كثرة تكسر شهوته( ) فانخرقت هذه العادة فى حقه ( )0
خامساً : ليس فى الحديث كما يزعم أعداء السنة، ما يتعارض مع كتاب الله عز وجل، ويشغله عن قيام الليل متهجداً لربه عز وجل : قال تعالى : ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً( ) وقال سبحانه : إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثى الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين آمنوا معك( )0
لأن الحديث واضح وصريح فى طوافه على نسائه فى ساعة واحدة من النهار أو الليل، والساعة هى قدر يسير من الزمان، لا ما اصطلح عليه أصحاب الهيئة( )0
والساعة هنا : هى حق له، ولأهل بيته( ) ولا تشغله عن حق ربه عز وجل، ولا عن حق رسالته، ونشر دعوته فهو القائل لعبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما، لم أخبر عنه، أنه يصوم النهار أبداً، ويقوم الليل، ويقرأ القرآن كله ليلة، خاطبه رسول الله بقوله : "فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً"( )0
وهكذا كان رسول الله ، فى سيرته يعطى كل ذى حق حقه، يدل على ذلك ما روى عن عائشة رضى الله عنها سألت، ما كان النبى ، يصنع فى أهله؟ قالت : كان فى مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة، قام إلى الصلاة"( ) وفى رواية قالت : "كان بشراً من البشر، يفلى ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه"( )0
وتلك هى سنته ، العدل، وإعطاء كل ذى حق حقه، فمن كان عليها فقد اهتدى، ومن كان عمله على خلافها فقد ضل، وذلك ما صرح به المعصوم ، فعن ابن عباس رضى الله عنهما قال : "كانت مولاة للنبى تصوم النهار، وتقوم الليل، فقيل له، إنها تصوم النهار، وتقوم الليل، فقال رسول الله : "إن لكل عمل شرة( ) والشرة إلى فترة( ) فمن كان فترته إلى سنتى فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل"( ) وما حث عليه فى أن يكون نشاط المسلم واستقراره على سنته المطهرة، وسيرته العطرة، لا يكون إلا بالعدل، وإعطاء كل ذى حق حقه، لربه، ولجسده، ولأهله… الخ ولأنه ، لا يخالف قوله عمله، كان طوافه على نسائه جميعاً، سواء بمسيس أو بدونه، من العدل بإعطاء كل ذى حق حقه، بدون أن يشغله ذلك عن حق ربه عز وجل وإليك نماذج من قيامه الليل بما لا يتعارض مع طوافه على نسائه!0
1- فعن عائشة رضى الله عنها، قالت : "ما صلى رسول الله العشاء قط فدخل على، إلا صلى أربع ركعات، أو ست ركعات( ) ثم يأوى إلى فراشه فهذا تأكيد من زوجته عائشة، بأنه ، ما ترك قيام الليل، منذ دخل عليها0
2- وتحكى عائشة رضى الله عنها، أنها : "افتقدت رسول الله ، ذات ليلة تقول : فظننت أنه ذهب إلى بعض نسائه، فتحسست، ثم رجعت، فإذا هو راكع، أو ساجد، يقول : سبحانك وبحمدك، لا إله إلا أنت، تقول : فقلت : بأبى وأمى، إنك لفى شأن، وإنى لفى آخر"( ) تعنى : أنها غارت حيث افتقدته، وظنت أنه ذهب إلى بعض نسائه، ولكن إذ بها تجده قائماً بين يدى ربه عز وجل يناجيه0
3- وتوضح عائشة رضى الله عنها، كيف كان رسول الله ، يجمع بين حق الله تعالى فى قيام الليل، وبين حق أهل بيته وحقه، فتقول : "كان رسول الله ، ينام أول الليل، ويحى آخره، ثم إن كانت له حاجة إلى أهله قضى حاجته ثم ينام، فإذا كان عند النداء الأول قالت : وثب( ) ولا والله : ما قالت قام، فأفاض عليه الماء، ولا والله : ما قالت : اغتسل. وأنا أعلم ما تريد، وإن لم يكن جنباً توضأ وضوء الرجل للصلاة. ثم صلى الركعتين"( )0
فتأمل : كيف جعل رسول الله ، الجماع تابعاً لقيام ليله، وبعد فراغه منه، ثم ينام، حتى إذا دخل وقت الفجر قام بسرعة، وبكل نشاط استعداداً لصلاة الفجر، بإفضاء الماء على جسده تطهيراً من الجنابة – إن كان جنباً – وتأمل دقة التعبير قالت : "وثب" يقول الأسود بن يزيد راوى الحديث "لا والله : ما قالت قام… إلخ وإن لم يكن جنباً، توضأ وضوء الرجل للصلاة، ثم صلى الركعتين أى سنة الصبح0
4- وبنفس شهادة عائشة رضى الله عنها، شهد ابن عباس رضى الله عنهما، عندما بات عند خالته أم المؤمنين ميمونة رضى الله عنها0
ففى الصحيحين عنه : أنه بات عند ميمونة أم المؤمنين رضى الله عنها – وهى خالته – قال : فاضطجعت على عرض الوسادة، واضطجع رسول الله وأهله فى طولها، فنام رسول الله ، حتى انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل، ثم استيقظ رسول الله ، فجلس، فمسح النوم عن وجهه بيده، ثم قرأ العشر الآيات خواتيم سورة آل عمران، ثم قام إلى شن( ) معلقة، فتوضأ منها فأحسن وضوءه، ثم قام يصلى. قال ابن عباس رضى الله عنهما : فقمت فصنعت مثل ما صنع، ثم ذهبت فقمت إلى جنبه، فوضع رسول الله ، يده اليمنى على رأسى، وأخذ بأذنى اليمنى يفتلها بيده، فصلى ركعتين ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين ، ثم ركعتين ، ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن، فقام فصلى ركعتين خفيفتين ثم خرج فصلى الصبح"( )0
5- وحتى عندما زار أم سليم، وأم حرام، وبات عندهما، لم يمنعه ذلك من قيام الليل على ما جاء فى رواية أنس بن مالك رضى الله عنه قال : صلى رسول الله فى بيت أم سليم، وأم سليم، وأم حرام خلفنا، ولا أعلمه إلا قال : أقامنى عن يمينه"( )0
وبعد : فهل قصر رسول الله ، مع طوافه على نسائه جميعاً فى ساعة واحدة من الليل أو النهار فى قيام الليل؟0
أو هل تعارض حديث طوافه مع كتاب الله عز وجل، كما يزعم أعداء السيرة العطرة؟0
إن حديث طوافه ، على نسائه جميعاً، يبين بياناً عملياً على ما سبق؛ القرآن الكريم وعاشروهن بالمعروف ويبين البيان العملى لخيرية وكمال أخلاقه وعصمته مع أهل بيته، كما قال : "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلى" إنه يبين كمال رأفته، وحبه، وعدله مع أهل بيته، كما صرحت بذلك عائشة رضى الله عنها "لا يفضل بعضنا على بعض فى القسم، من مكثه عندنا، وكان قل يوم يأتى إلا وهو يطوف علينا جميعاً، فيدنوا من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ إلى التى هو يومها، فيبيت عندها"0
كما أن الحديث يبين ما اختص به رسول الله ، وفضل به على سائر الناس من "قوة أربعين رجلاً فى البطش والجماع" والأمر هنا : ليس من عند نفسه، ولا من عند رواة السنة – رحمهم الله – وإنما من عند ربه عز وجل، وهو ما يفيده مجئ لفظ "أعطيت" بالبناء للمجهول. فتأمل0
كما أنه ليس فى كثرة جماعه دليل على (هوسه بالجماع) على حد زعم أعداءه وأعداء عصمته ؟0
لأن الأمر فى ذلك راجع إلى قيامه بواجب العدل بين أهل بيته، كما أنه يرجع إلى طبيعته البشرية، وما اختصه به ربه عز وجل، ولم يكن فى ذلك كله ما يشغله عن حق ربه عز وجل، فهو مع ما طبعت عليه بشريته من كثرة الجماع، فهو بالإجماع أعبد الناس، ولم يخل بعبادته شيئاً، لأنه ، لم يكن يأتيها إلا على مشروعيتها، وهذا هو غاية العصمة والكمال فى البشرية0
وتأمل مع ما سبق من أحاديث قيامه الليل، حديث عائشة رضى الله عنها : "كان رسول الله إذا صلى، قام حتى تتفطر رجلاه، فقالت : يا رسول الله : أتصنع هذا، وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال : "يا عائشة! أفلا أكون عبداً شكوراً"( )0
صلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد
وعلى آله وسلم ورزقنى قدوة به فى تعدده
وفى عدله مع أهل بيته
=====
الفصل الخامس
شبهة الطاعنين فى حديث "مباشرة رسول الله
نسائه فى المحيض" والرد عليها
روى البخارى ومسلم – رحمهما الله – عن عائشة رضى الله عنها، قالت : "كانت إحدانا إذا كانت حائضاً، فأراد رسول الله ، أن يباشرها، أمرها أن تتزر( ) فى فور حيضتها( ) ثم يباشرها. قالت : وأيكم يملك إربه( ) كما كان رسول الله ، يملك إربه"( )0
هذا الحديث وما فى معناه، الذى يبين حدود علاقة الرجل بزوجته وهى حائض، والأحكام المتعلقة بحيضتها، طعن فيه أعداء السنة بحجة أنه يطعن فى عصمة رسول الله فى سلوكه، ويخالف بزعمهم القرآن الكريم0
يقول أحمد صبحى منصور : "فالبخارى هنا يسند تلك الروايات لأمهات المؤمنين ليجعلهن شهود على أن النبى كان يباشرهن وهن حائضات، ويجعل عائشة فى إحدى الروايات تشير إلى خصوصية النبى الجنسية – فى زعمه – بقولها : "وأيكم يملك إربه كما كان النبى يملك إربه"0
وفى روايات أخرى يجعل البخارى من النبى ملازماً لنسائه لا يفترق عنهن حتى فى المحيض. فيروى أن أم سلمة قالت : "بينما أنا مع رسول الله مضطجعة فى خميصة( ) إذ حضت، فانسللت( ) فأخذت ثياب حيضتى، قال : أنفست؟( ) قلت : نعم. فدعانى فاضطجعت معه فى الخميلة"( )0
يقول أحمد صبحى : وهكذا لا عمل أمام النبى ولا مسؤوليات ملقاة على عاتقه إلا أن يجلس فى الخميلة مع إحدى زوجاته، ولا يمنعه من ذلك حيض أو غيره، بل هناك أكثر من ذلك. يفترى البخارى أن عائشة قالت : "كان النبى ، يتكئ فى حجرى وأنا حائض ثم يقرأ القرآن"( ) هكذا ضاقت كل الأماكن واشتد الزحام بحيث يلجأ النبى إلى ذلك تلك هى سنة الرسول التى كتبها البخارى، فما هى سنته فى القرآن؟ يقول تعالى : ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء فى المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين( ) لم يقل رب العزة "فاعتزلهن" فقط، وإنما أيضاً : "ولا تقربوهن"0
ونحن نؤمن بأن النبى طبق هذه السنة التى فرضها الله عليه، أما البخارى فيؤكد من خلال أحاديثه أن النبى لم يطبق شرع الله. ولكل إنسان أن يختار. هل ينتصر لله ورسوله، أم ينصر البخارى فى كذبه على الله ورسوله"( ) وبنفس كلامه قال غيره من أعداء السيرة العطرة( )0
ويجاب عن ما سبق بما يلى :
أولاً : الإمام البخارى – رحمه الله – لم يخترع، ولم يؤلف، الأحاديث السابقة وغيرها الواردة فى بيان حدود علاقة الرجل بزوجته أثناء حيضتها، والمبينة الأحكام الشرعية المتعلقة بفترة حيض المرأة0
لقد نقل البخارى – كما نقل غيره من رواة السنة – ما سمعه من شيوخه الثقات مما سمعوه من شيوخهم إلى أن وصل النقل إلى رسول الله أو إلى الصحابى الذى روى عن رسول الله 0
ولنا أن نتساءل. لماذا كل هذا الحقد، والتشنيع على الإمام البخارى، مع أن غيره من علماء الحديث شاركه فى رواية هذه الأحاديث المتعلقة بأحكام الحيض؛ والتى أوردتها جميع كتب الجوامع والسنن تحت اسم كتاب "الحيض"؟0
إن كل هذا الحقد الذى يظهروه فى حق الإمام البخارى، هو جزء يسير مما تخفيه صدورهم نحو عدائهم لسنة المصطفى ، ولرواتها من الأئمة الأعلام قديماً وحديثاً0
ثانياً : ما نقله رواة السنة المطهرة، وعلى رأسهم الإمام البخارى، من الأحاديث المبينة الأحكام الشرعية المتعلقة بالمرأة أثناء حيضتها، دين واجب ذكره لتتعلم الأمة المراد بخطاب ربها : ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء فى المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإن تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين( )0
وفى البيان المنقول إلينا ما يبين عصمة رسول الله فى سلوكه وهديه ومحاسن أخلاقه الباطنة مع أهل بيته على ما سيأتى بعد قليل0
ثالثاً : ليس فى حديث مباشرة رسول الله ، نسائه فى المحيض ما يتعارض مع قوله تعالى : فاعتزلوا النساء فى المحيض ولا تقربوهن بل فى هذا الحديث وغيره البيان العملى للآية الكريمة0
وهذا البيان كما هو معلوم؛ من مهامه فى رسالته، لقوله تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون( ) فهل فى بيانه ، للآية الكريمة، ونقل هذا البيان بالسند الصحيح، ما يشوه سيرته العطرة؟ أو يطعن فى عصمته فى سلوكه وهديه كما يزعم أعداء السنة؟0
إن الآية الكريمة تتحدث عن وجوب اعتزال الرجل زوجته الحائض، وعدم الاقتراب منها، حتى تطهر من حيضتها. فهل الاعتزال وعدم الاقتراب هنا، كما هو مفهوم عند اليهود؟ من إهمال الزوجة الحائض، واعتبارها نجسة، فلا يأكل ولا يشرب معها، ولا يسكن معها فى بيت واحد؟0
إن هذا السؤال ورد على لسان أصحاب رسول الله ، وهو وارد على لسان كل مسلم إلى يوم الدين، كيف يتعامل مع زوجته الحائض؟ فجاءت الإجابة، وجاء البيان القولى والعملى مع رسول الله بإباحة كل شئ من الزوجة الحائض إلا الجماع0
فعن أنس بن مالك رضى الله عنه، أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لو يؤاكلوها، ولم يجامعوهن فى البيوت. فسأل أصحاب النبى ، النبى ، فأنزل الله تعالى : ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء فى المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن…الآية( ) فقال رسول الله : "اصنعوا كل شئ إلا النكاح" فبلغ ذلك اليهود فقالوا : ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر، فقالا: يا رسول الله! إن اليهود تقول كذا وكذا. فلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله ، حتى ظننا أن قد وجد عليهما( ) فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبى ، فأرسل فى آثارهما. فسقاهما. فعرفا أن لم يجد عليهما"( )0
فتأمل أمر رسول الله : "اصنعوا كل شئ إلا النكاح" إنها كلمة جامعة جاءت جواباً عن موقف اليهود من المرأة الحائض، وجاءت تفسيراً وبياناً لقول رب العزة : فاعتزلوا النساء فى المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فقوله : ولا تقربوهن حتى يطهرن تفسير لقوله : فاعتزلوا النساء فى المحيض والمراد : اعتزالهن، وعدم قربانهن بالجماع مادام الحيض موجوداً( )0
وهذا يعنى أن المراد بالاعتزال وعدم القران، إنما المراد به الفرج فقط، وما عدا ذلك من مؤاكلة، ومشاربة، واجتماع معهن فى البيوت، ومباشرتهن، ونحو ذلك، فهو حلال كما قال المعصوم ، "اصنعوا كل شئ إلا النكاح"0
وتأمل : كيف تغير وجه رسول الله من كلمة عباد بن بشر، وأسيد بن حضير، لما طلبا الرخصة فى الوطء أيضاً تتميماً لمخالفة الأعداء "إن اليهود تقول كذا وكذا. فلا نجامعهن؟" فتغير وجه رسول الله ، لأن تلك الرخصة مخالفة لكتاب الله عز وجل باعتزال النساء فى المحيض، وعدم قربانهن بالجماع!0
وعندما ظنا رضى الله عنهما، أن رسول الله ، قد غضب عليهما بعث فى آثارهما رسولاً ليحضرا عنده، فسقاهما من لبن جاء إليه هدية، فعرفا حينئذ أنه ، لم يغضب عليهما0
وفى هذا الحديث النبوى القولى : "اصنعوا كل شئ إلا النكاح" والذى جاء تفسيراً وبياناً للآية الكريمة، طبقه رسول الله ، عملياً، فجاء بيانه للآية الكريمة فاعتزلوا النساء فى المحيض ولا تقربوهن بياناً قولياً وعملياً0
وإليك نماذج من هذا البيان العملى :
1- بيانه عملياً طهارة جسد المرأة الحائض، وجواز النوم معها فى ثيابها، والاضطجاع معها فى لحاف واحد، وذلك ما دل عليه حديث أم سلمة السابق، عندما حاضت، وذهبت فى خفية لتأخذ ثياب حيضتها، وظننت عدم جواز نومها وهى حائض مع رسول الله فإذ به عليه الصلاة والسلام، يقول لها : أنفست؟ فتقول : نعم. فيدعوها رسول الله ، للنوم معه فى لحاف واحد كما قالت : "فدعانى فاضطجعت معه فى الخميلة"( )0
فهذا الفعل وقع منه ، للبيان التشريعى للآية الكريمة، ورداً على ما فهمته أم سلمة، من عدم طهارتها جسدياً عندما حاضت، وظنت عدم جواز نومها مع زوجها رسول الله ، فى لحاف واحد. وليس الأمر كما يزعم أعداء عصمته، بأن الأماكن ضاقت به ، ولا مسئولية ملقاة على عاتقه، إلا أن يجلس فى الخميلة مع إحدى زوجاته، ولا يمنعه من ذلك حيض أو غيره!0
وقد دل على ذلك البيان التشريعى أيضاً قول ميمونة زوج النبى قالت : "كان رسول الله ، يضطجع معى وأنا حائض، وبينى وبينه ثوب"( ) ودل عليه أيضاً قول عائشة رضى الله عنها "كنت أنا ورسول الله ، نبيت فى الشعار( ) الواحد، وأنا طامث( ) أو حائض فإن أصابه منى شئ غسل مكانه ولم يعده( ) وصلى فيه، ثم يعود، فإن أصابه منى شئ فعل ذلك، ولم يعده، وصلى فيه"( )0
وفى هذا الحديث الأخير : زيادة على حديث أم سلمة وميمونة رضى الله عنهما، وتلك الزيادة هى بيان الحكم للرجل إذا أصاب ثوبه شئ من حيض زوجته وهى نائمة معه فى لحاف واحد، فما عليه إلا بغسل مكان ما أصابه من دم الحيض فقط ولا يتجاوزه، وإذا صلى مع ذلك صحت صلاته0
2- ويبين رسول الله ، عملياً صحة الصلاة فى المكان الذى توجد فيه المرأة الحائض، بل وصحة الصلاة فى ثوبها0
فعن عائشة رضى الله عنها، قالت : كان رسول الله ، يصلى بالليل، وأنا إلى جنبه، وأنا حائض، وعلى مرط( ) لى، وعليه بعضه"( ). وعن ميمونة زوج النبى ، قالت : صلى رسول الله ، وعليه مرط بعضه عليه، وعليها بعضه، وهى حائض"( )0
3- ويبين رسول الله ، عملياً جواز مؤاكلة الحائض، والشرب من فضلها فتقول عائشة رضى الله عنها : كنت أشرب وأنا حائض، ثم أناوله النبى ، فيضع فاه على موضع فى. فيشرب وأتعرق العرق( ) وأنا حائض، ثم أناوله النبى ، فيضع فاه على موضع فىَّ"( )0
4- ويبين رسول الله ، عملياً جواز تسريح وغسل الحائض رأس زوجها. فتقول عائشة رضى الله عنها : كان رسول الله يدنى إلىَّ رأسه، وأنا فى حجرتى. فأرجله( ) وأغسله وأنا حائض"( )0
5- ويبين رسول الله ، عملياً طهارة ذات المرأة الحائض، وطهارة ثيابها ما لم يلحق شيئاً منها نجاسة، وذلك كله دل عليه عندما كان ، معتكفاً فى المسجد، وطلب من زوجته عائشة رضى الله عنها أن تناوله ثوب من حجرته0
فعن أبى هريرة رضى الله عنه قال : بينما رسول الله فى المسجد. فقال : يا عائشة! ناولينى الثوب" فقالت : إنى حائض. فقال : "إن حيضتك ليست فى يدك" فناولته"( )0
ففى قوله : "إن حيضتك ليست فى يدك" معناه : أن النجاسة التى يصان المسجد عنها – وهى دم الحيض – ليست فى يدها، فدل ذلك على أن ذات الحائض طاهرة0
وعن عائشة رضى الله عنها قالت : كان رسول الله يتكئ فى حجرى وأنا حائض. فيقرأ القرآن"( )0
ففى هذا الحديث دلالة واضحة على جواز ملامسة الحائض، وأن ذاتها وثيابها على الطهارة، ما لم يلحق شيئاً منها نجاسة، كما فى الحديث دلالة واضحة على جواز قراءة القرآن بقرب محل النجاسة( ) وكل هذا منه ، للبيان التشريعى الذى هو من مهامه فى رسالته، وليس الأمر كما يزعم أعداء عصمته، بأن الأماكن ضاقت به حتى لجأ إلى حجر عائشة يقرأ فيه القرآن!0
6- ويبين رسول الله ، عملياً ما للرجل من امرأة إذا كانت حائضاً فتأتى رواية عائشة السابقة، لتبين بأنه كان يباشر نسائه فوق الإزار( ) وتأتى رواية أنس السابقة "اصنعوا كل شئ إلا الجماع"( ) لتبين جواز المباشرة تحت الإزار دون الفرج، ويؤيده ما رواه أبو داود بإسناد قوى( ). عن عكرمة عن بعض أزواج النبى ، أن النبى ، كان إذا أراد من الحائض شيئاً ألقى على فرجها ثوباً"( ) ولا تعارض فى ذلك فرواية عائشة محمولة على الاستحباب، لمن لا يضبط نفسه عند المباشرة من الفرج، أما من وثق من نفسه، جاز له المباشرة تحت الإزار دون الفرج( )0
ولا شك أنه ، كان أملك الناس لإربه، فهذا من خصائصه، كما صرحت عائشة رضى الله عنها، رغم أنف المنكرين لذلك( )0
وبعـد :
فهذا بيان رسول الله ، قولاً وعملاً لقوله تعالى : فاعتزلوا النساء فى المحيض ولا تقربوهن( ) وهو بيان يهم كل مسلم ومسلمة، وعنه سأل أصحاب رسول الله قديماً ورجعوا إليه( ) وعنه يسأل كل مسلم ومسلمة إلى يوم الدين0
فليختر كل إنسان لنفسه؛ إذا حاضت أخته، أو زوجته، أو أمه، أو خالته، أو… الخ هل يعتزلهن فلا يؤاكلهن ولا يشاربهن ولا يساكنهن فى بيت واحد – كما هو حال اليهود؟ أم يكون له قدوة وأسوة بسنة وسيرة المعصوم ؟!0
إن سنة وسيرة رسول الله ، فى معاملة المرأة الحائض تمثل قمة التكريم للمرأة، كما تمثل عظمة أخلاقه، وعصمته فى سلوكه مع أهل بيته، إذا أصابهن ما كتبه رب العزة على بنات آدم0
فالمرأة فى فترة حيضتها، تكون شبه مريضة أو مريضة يصبها توعك وآلام تجعلها تشعر فى تلك الفترة بالهبوط والضيق0
كما أن أغلبية الرجال يشعرون بالاشمئزاز والنفور من الرائحة الشهرية المرافقة للطمث. وقليل منهم الذين يشعرون ببهجة وانجذاب. وشم هذه الرائحة الشهرية لا يقتصر على منطقة الأعضاء الجنسية، بل تمتد فى معظم النساء إلى إفرازات الجلد والنفس( ) وكل هذا ولا شك مما قد يفسد العلاقة بين الرجل وأهله فى تلك الفترة التى تعترى المرأة شهرياً0
فهل تعتزل أخى المسلم : زوجتك الحائض فى تلك الفترة، فلا تؤاكلها، ولا تشاربها، ولا تساكنها، فى بيت واحد، مما قد يزيد الجفاء بينك وبين زوجتك؟0
قتيبة
03-09-2008, 02:12 AM
أم تمتثل لسنة وسيرة المعصوم ، مع أهل بيته فى تلك الفترة التى تحيض فيها المرأة؛ فيكون لذلك أطيب الأثر فى العلاقة بينك وبين أهل بيتك، ويكون لك الأجر والهداية، والفلاح، جزاء امتثالك وطاعتك لله عز وجل ولرسوله ؟ اختر لنفسك ما شئت0
اللهم ارزقنى القدوة بنبيك مع أهل بيتى
الفصل السادس
شبهة الطاعنين فى حديث "دعوته لعائشة استماع
الغناء والضرب بالدف" والرد عليها
روى البخارى ومسلم عن عائشة رضى الله عنها قالت : "دخل على رسول الله وعندى جاريتان تغنيان( ) بغناء بعاث( ) فاضطجع على الفراش( ) وحول وجهه. ودخل أبو بكر فانتهرنى وقال : مزمارة الشيطان( ) عند النبى ! فأقبل عليه( ) فقال : دعهما. فلما غفل غمرتهما فخرجتا. وكان يوم عيد يلعب فيه السودان( ) بالدرق( ) والحراب، فإما سألت( ) النبى ، وإما قال : تشتهين تنظرين؟ فقلت : نعم. فأقامنى وراءه، خدى على خده، وهو يقول : دونكم يا بنى أرفدة( ) حتى إذا مللت قال : حسبك؟( ) قلت : نعم. قال : فاذهبى"( )0
هذا الحديث الذى يبين محاسن ومكارم أخلاقه مع أهل بيته. طعن فيه بعض أدعياء العلم بحجة أنه يطعن فى عصمة رسول الله فى سلوكه، حيث أن الحديث فى نظرهم ينسب إليه ، استماعه وفى عقر داره إلى الغوانى يتغنين، كما ينسب إليه فى نظرهم دعوته زوجته الشابة إلى مشاهدة حفلة راقصة فى المسجد… الخ0
يقول عبد الحسين شرف الدين الموسوى : "إن رسول الله أبعد عن اللعب، وأرفع عن العبث، وأعرف بحرمات الله ورسوله من أن يوسع للجهال مجالاً إلى اللهو فى المسجد بمحضر منه، وإن أوقاته الشريفة المفعمة بالمهمات الأخروية والدنيوية، لا يتسع للهو منها شئ، وحاشا لله أن يشغل مسجده الشريف بعبث أو لهو أو لغو كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً( )0
ويقول هشام آل قطيط : "كيف يتسنى لأم المؤمنين، بعد وقوفها وراء النبى أن تضع خدها على خده؟ هل كانت أطول قامة من النبى؟ أم أنها تشبثت بعنقه كما يتشبث الأطفال بعنق الكبار فى لعبة الـ(……)؟0
ولأن أم المؤمنين لم تتطرق لذلك، ولم نحضر المشهد، فالأفضل أن نقول : لا ندرى! وكيف للخليفة أبى بكر أن يمنع المغنيات فى بيت النبى وبحضوره والنبى ساكت لا يتكلم0
هل أن أبا بكر أفضل من النبى؟ وأى نبى هذا الذى يسكت وأحد أصحابه يمنع المغنيات؟ وأى نبى هذا الذى يدعوا زوجته الشابة إلى مشاهدة هذه الحفلة الراقصة فى المسجد والنظر إلى الأجانب، وتضع خدها على خده، ثم يقوم حتى تملى هى من المشاهدة؟ بالله عليكم ألا ينطبق على هذه الأحاديث قول الشاعر :
إذا كان رب البيت بالدف ضارباً *** فشيمة أهل البيت كلهم الرقص؟( )0
ويجاب عن ما سبق بما يلى :
أولاً : الحديث صحيح سنداً ومتناً ولا يتعارض مع عصمة رسول الله ، فى سلوكه وهديه، بل فيه البيان العملى مع أهل بيته، لما هو مباح للأمة فى أيام العيد0
وهذا البيان فهمه أئمة السنة قديماً وحديثاً بما لا يتعارض مع عصمته ، وتأمل مواضع إخراج هذا الحديث فى كتب السنة تجد صدق ما أقول؛ فالإمام البخارى أخرج الحديث فى عدة مواضع من صحيحه أولها كتاب العيدين، باب الحراب والدرق يوم العيد، ثم كرره فى باب سنة العيدين لأهل الإسلام0
وهو كما ترى صريح فى بيان أن حديث عائشة، يستفاد منه السنة والشرع لأهل الإسلام فى العيدين، من جواز اللعب واللهو والرقص والغناء، بما لا معصية فيه؛ وهذا ما تضمنه عنوان الباب الذى ذكر تحته الحديث من صحيح الإمام مسلم، فى كتاب العيدين0
ومن هنا صرح العلماء؛ بأن إظهار السرور فى الأعياد من شعار الدين( ) وقولهم هذا مستفاد صراحة من هذا الحديث، على ما جاء فى رواية مسلم من قوله : "دعهما يا أبا بكر فإنهما أيام عيد"( ) ففى ذلك تعليل الأمر بتركهما، بأنه يوم عيد، أى : هو وقت سرور. وهناك من العلماء من قاس على يوم العيد فى إظهار السرور، ما فى معناه كيوم العرس( ) والوليمة والعقيقة والختان، ويوم القدوم من السفر( ) وسائر أسباب الفرح، وهو كل ما يجوز به الفرح شرعاً( )0
فمن أين نعرف مثل هذه الأحكام إلا من هذا الحديث وما فى معناه!0
ثانياً : ليس فى إنكار الصديق رضى الله عنه على عائشة رضى الله عنها، وما معها من الجوارى وبحضوره ، إفتئات على رسول الله، بل هو أدب من أبى بكر ورعاية منه لحرمة رسول الله ، وإجلال لمنصبه، لما تقرر عنده من منع الغناء واللهو فى بيته ، فبادر إلى إنكار ذلك قياماً عن النبى ، مستنداً بذلك إلى ما ظهر له، كما يحتمل أن يكون أبو بكر ظن ان رسول الله نام فخشى أن يستيقظ فيغضب على ابنته، فبادر إلى سد هذه الذريعة، فأوضح له النبى الحال، وعرفه الحكم مقروناً ببيان الحكمة بأنه يوم عيد، أى يوم سرور شرعى، فلا ينكر فيه مثل هذا، كما لا ينكر فى الأعراس ونحوها مما يجوز به الفرح شرعاً على ما سبق0
وبهذا يرتفع الإشكال أيضاً عن إنكار عمر بحضرته فى نفس القصة، على ما روى عن عائشة رضى الله عنها قالت : "رأيت النبى يسترنى وأنا أنظر إلى الحبشة، وهم يلعبون فى المسجد، فزجرهم عمر( ) فقال النبى ، دعهم. أمنا بنى أرفدة" يعنى من الأمن( ) يشير إلى أن المعنى : اتركهم من جهة إنا آمناهم أمناً0
فإنكار عمر هنا مبنى على أن الأصل تنزيه المساجد عن اللعب فيها بالحراب، فبين له رسول الله وجه الجواز0
كما يحتمل أن يكون عمر لم يرى رسول الله ، ولم يعلم أنه رآهم، كما يحتمل أن يكون إنكاره لهذا شبيه إنكاره على المغنيتين، وكان من شدته فى الدين ينكر خلاف الأولى، والجد فى الجملة أولى من اللعب المباح. وأما النبى ، فكان بصدد بيان الجواز( )0
ثالثاً : ليس فى الحديث ما يزعمه دعاة الفتنة من استماع رسول الله ، للباطل من الغناء على لسان المغنيات بدلالة ما يلى :
1- ما ورد فى الحديث من أنه ، تسجى بثوبه، أى : التف به حتى غطى وجهه وأذنه، ففى ذلك إعراض عن ذلك؛ لكون مقامه يقتضى أن يرتفع عن الإصغاء إلى ذلك، لكن عدم إنكاره دال على تسويغ مثل ذلك على الوجه الذى أقره إذ لا يقر على باطل!0
كما أن فى إعراضه بتغطية وجهه وأذنه؛ بيان لكمال رأفته ، وحلمه، وحسن خلقه، مع زوجته عائشة وصواحباتها، لئلا يستحيين فيقطعن ما هو مباح لهن( )0
وحتى على فرض استماعه ، لغناء الجوارى، فالغناء هنا من نوع المباح وجاء على لسان ممن لم يتخذا الغناء عادة لهما. يدل على ذلك0
2- ما ورد فى الحديث من قول عائشة رضى الله عنها : "وعندى جاريتان من جوارى الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث، قالت : وليستا بمغنيتين"( ) ففى قولها : "وليستا بمغنيتين" معناه : ليس الغناء عادة لهما، ولا هما معروفتان به، وإنما كان غناؤهما بما هو من أشعار الحرب، والمفاخرة بالشجاعة، والظهور والغلبة، وهذا لا يهيج الجوارى على شر، ولا إنشادهما لذلك من الغناء المختلف فيه، وإنما هو رفع الصوت بالإنشاد، ولهذا قالت : "وليستا بمغنيتين" أى ليستا ممن يتغنى بعادة المغنيات من التشويق والهوى، والتعريض بالفواحش، والتشبيب بأهل الجمال، وما يحرك النفوس، ويبعث الهوى والغزل، وليستا أيضاً ممن اشتهر وعرف بإحسان الغناء الذى فيه تمطيط وتكسير، وعمل يحرك الساكن، ويبعث الكامن، ولا ممن اتخذ ذلك صنعة وكسباً، والعرب تسمى الإنشاد غناء وليس هو من الغناء المختلف فيه، بل هو مباح، وقد استجازت الصحابة غناء العرب الذى هو مجرد الإنشاد والترنم، وفعلوه بحضرة النبى ، وفى هذا كله إباحة( )0
فتأمل ما ورد فى الحديث : من أنه ، تسجى بثوبه، واضطجع على الفراش وحول وجهه الشريف، وقول عائشة : "ليستا بمغنيتين" حيث نفت عنهما من طريق المعنى ما أثبتته لهما باللفظ، تحرزاً عن الغناء المعتاد عند المشتهرين به0
تأمل ذلك جيداً يظهر لك بطلان ما زعمه أدعياء العلم، ودعاة الفتنة، فى حق أئمة السنة، وفى حق صاحبها ، كما يظهر لك سوء فهمهم لحديثنا؟ وإلا فليأتوا لنا بما يخالف ما ورد فى الحديث؛ من أنه ، لم يتسجى بثوبه، ولم يحول وجهه، واستمع إلى مغنيات معروفات بالغناء، وتغنين بعادة المغنيات، مما يحرك النفوس، ويبعث الهوى والغزل، لا مجرد جوارى لا يعرفن بالغناء، ولا هو عادة لهما، وكل ما فعلنه أن رفعن أصواتهن بإنشاد ما هو من أشعار الحرب والمفاخرة بالشجاعة والظهور والغلبة يوم بعاث؟!0
رابعاً : إن حديثنا يبين عصمة سيدنا رسول الله ، فى سلوكه وهديه، ويبين ما كان عليه من الرأفة، والرحمة، وحسن الخلق، والمعاشرة بالمعروف مع أهل بيته امتثالاً لقوله تعالى : وعاشروهن بالمعروف( ) وخصوصاً إذا كان أهل بيته صغار السن كعائشة القائلة على ما جاء فى رواية مسلم فى ختام حديثنا "فاقدروا قدر الجارية، الحديثة السن، حريصة على اللهو"( )0
ولذا لما رأت بعض الحبشة يرقصن فى المسجد، والصبيان حولهم يشاهدون، التمست من رسول الله ، النظر إليهم، فأذن لهى، على ما جاء فى رواية مسلم فى حديثنا : "قالت : للعابين، وددت أنى أراهم قالت : فقام رسول الله ، وقمت على الباب أنظر بين أذنيه وعاتقه. وهم يلعبون فى المسجد"0
وتبين رواية النسائى فى سننه الكبرى، كيف تسنى لها بعد وقوفها وراء النبى ، أن تضع خدها على خده، مع قصر قامتها إذ تقول : "لعبت الحبشة، فجئت من ورائه ، فجعل يطأطئ ظهره، حتى أنظر"( )0
وفى تلك الرواية رد على تساؤل هشام آل قطيط : هل كانت أطول قامة من النبى؟ أم أنها تشبثت بعنقه… الخ( ) كما جاء فى رواية للنسائى فى سننه الكبرى أيضاً أنها قالت : "دخل الحبشة المسجد يلعبون، فقال لى : "يا حميراء! أتحبين أن تنظرى إليهم؟" فقلت : نعم، فقام بالباب، وجئته، فوضعت ذقنى على عاتقه، فأسندت وجهى إلى خده، قالت : ومن قولهم يومئذ : أبا القاسم طيباً، فقال : "حسبك" فقلت : يا رسول الله، لا تعجل، فقام لى، ثم قال : "حسبك" فقلت : لا تعجل يا رسول الله، قالت : ومالى حب النظر إليهم، ولكى أحببت أن يبلغ النساء مقامه لى، ومكانى منه"( )0
ففى تلك الرواية تصريح بأنه ، ابتدأها بالنظر إلى لعب الحبشة فى المسجد، ولا تعارض بينها، وبين رواية مسلم السابقة، فالجمع بينهما على ما سبق أنها التمست من رسول الله النظر إليهم، فأذن لها0
خامساً : إقرار سيدنا رسول الله ، للحبشة اللعب فى المسجد بالحراب، ليس لمجرد اللعب، بل لم فيه من تدريب الشجعان على مواقع الحروب، والاستعداد للعدو0
واللعب بالسلاح ونحوه من آلات الحرب؛ وإن كان لا يناسب بيوت الله فى زماننا – إلا أنه يستفاد من إقراره للحبشة اللعب فى المسجد بالحراب، أن لعب الصبيان فى المسجد يوم العيد ليس فيه انتهاك لحرمة بيوت الله، ولا يعارضه حديث : "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم، وشراركم، وبيعكم، وخصوماتكم؛ ورفع اصواتكم وإقامة حدودكم، وسل سيوفكم، واتخذوا على أبوابها المطاهر، وجمروها فى الجمع"( ) لضعفه( )0
كما أن العلماء استفادوا من إقراره ، جواز أى عمل فى المسجد يجمع بين منفعة الدين وأهله، لأن المسجد إنما وضع لأمر جماعة المسلمين( )0
سادساً : إقرار رسول الله ، لزوجته أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها، النظر إلى لعب الحبشة، فيه بيان لحسن خلقه مع أهله وكرم معاشرته، وفضل عائشة، وعظيم محلها عنده ، وليس فى نظرها إلى لعب الحبشة، ما يتعارض مع احتجابها من النظر إلى الأجانب، لأنه ليس فى الحديث أنها نظرت إلى وجوههم وأبدانهم، وإنما نظرت لعبهم وحرابهم، ولا يلزم من ذلك تعمد النظر إلى البدن، وإن وقع النظر بلا قصد صرفته فى الحال0
ومن هنا استفاد العلماء من ذلك، إباحة الرجل لزوجته النظر إلى اللعب واللهو المباح، إذ المكروه فى حق النساء النظر إلى محاسن الرجال، والاستلذاذ بذلك( )0
وبعـد :
فإن رسول الله ، عصمه ربه فى سلوكه وهديه، وجعله قدوة لأمته، ومبيناً لما أنزل عليه من آيات الله البينات وقد قام رسول الله ، بهذا البيان قولاً وعملاً على أكمل وجه0
فكان حديثنا بياناً عملياً لقول رب العزة : وعاشروهن بالمعروف( ) وبياناً عملياً لقوله : "إن من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وألطفهم بأهله"( ) وقوله : "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلى"( )0
حيث بين حديثنا للأمة أن حسن الخلق فى تطييب قلوب النساء والصبيان بمشاهدة اللعب، أحسن من خشونة الزهد، والتقشف فى الامتناع والمنع منه؛ وخاصة فى أيام العيد، ويقاس على أيام العيد سائر أسباب الفرح، مما يجوز به الفرح شرعاً، شريطة أن يكون هذا اللعب واللهو مما لا معصية فيه، ففى الحديث : "كل شئ ليس فيه ذكر الله، فهو لهو ولعب، إلا أربع، ملاعبة الرجل امرأته، وتأديب الرجل فرسه، ومشيه بين الغرضين( ) وتعليم الرجل السباحة"( )0
كما أن حديثنا بياناً عملياً لقوله تعالى : فى بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه( ) حيث أفاد إقراره ، للحبشة اللعب فى المسجد، أن كل ما فيه منفعة للدين وأهله، إذا وقع فى بيت الله عز جل، فلا يعارض الآية الكريمة، كما لا يعد انتهاك لحرمة المسجد0
فهنيئاً لمن اقتدى به ، وامتثل لهديه مع أهل بيته، فكان من أكمل المؤمنين إيماناً بحسن خلقه، ولطفه بأهل بيته أهـ0
والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم
====
الفصل السابع
شبهة الطاعنين فى حديث "اللهم فأيما مؤمن سببته
فاجعل ذلك له قربة إليك يوم القيامة"
والرد عليها
روى البخارى ومسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله ، "اللهم ! إنما أنا بشر، فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته، أو جلدته، فاجعلها له زكاة ورحمة"( )0
هذا الحديث الذى يبين كمال شفقة رسول الله ، على أمته، طعن فيه أعداء السنة المطهرة، والسيرة العطرة، وزعموا أنه موضوع، وفيه تشويه لصورة الرسول، وطعن فى عصمته فى سلوكه وهديه، إذ لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً، ولا لعاناً ولا سباباً0
يقول نيازى عز الدين بعد أن ذكر روايات الحديث السابق قال : "إن وراء هذه الأحاديث منافقين غايتهم تشويه صورة الرسول خدمة لسلطانهم( ) حتى إذا سب وشتم ولعن وجلد أحداً حتى لو كان بريئاً، استشهد جنوده عليه بأحاديث الرسول هذه، على أن السلطان قد تفضل عليه بذلك الجلد، وتلك الإهانة خيراً كثيراً"( )0
ويقول جعفر مرتضى العاملى : "نعم، ربما يلعن رسول الله ، بعض المنافقين، وفراعنة الأمة… لكن أتباعهم وضعوا الحديث الذى صيروا فيه اللعنة زكاة، ليعموا على الناس أمرهم، ويجعلوا لعن النبى لغواً، ودعاءه على معاوية بأن لا يشبع الله بطنه باطلاً، فجزاهم الله تعالى عن نبيهم ما يحق بشأنهم"( )0
ويقول عبد الحسين شرف الدين : "قد علم البر والفاجر، والمؤمن والكافر، أن إيذاء من لا يستحق من المؤمنين أو جلدهم أو سبهم أو لعنهم على الغضب ظلم قبيح، وفسق صريح، يربأ عنه عدول المؤمنين، فكيف يجوز على سيد النبيين، و خاتم المرسلين؟ وقد قال : "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر"( ) وعن أبى هريرة قال : قيل يا رسول الله! ادع على المشركين، قال : إنى لم أبعث لعاناً، وإنما بعثت رحمة"( ) هذه حاله مع المشركين، فكيف به مع من لا يستحق من المؤمنين؟"( )0
ويجاب عن ما سبق بما يلى :
أولاً : الحديث صحيح سنداً ومتناً وثابت بأصح الأسانيد فى أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل فقد رواه الشيخان فى صحيحيهما، ولا يصح لنا أن نكذب البخارى ومسلم وروايتهما، اعتماداً على رأى ليس له من حظ فى توثيق الأخبار، وإقرار الحقائق من قريب أو بعيد0
ثانياً : لم ينفرد أبى هريرة رضى الله عنه برواية الحديث، وإنما شاركه فى روايته جماعة من الصحابة : عائشة( ) وجابر بن عبد الله( ) وأبى سعيد الخدرى( ) وأنس بن مالك( ) وأبى السوار عن خاله( )0
ثالثاً : ليس فى حديثنا ما يشوه سيرة رسول الله ، وعصمته فى أخلاقه، لأنه لا خلاف فى أن رسول الله مأمور بالغلظة على الكفار والمنافقين عملاً بقوله تعالى : يا أيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير( )0
ولقد تكررت هذه الآية فى القرآن مرتين، فيهما "واغلظ عليهم" ولا مانع من أن يكون، من هذا الإغلاظ سبهم ولعنهم، بدليل ما ورد فى السنة المطهرة، من أنه ، كان يدعو على رجال من المشركين، يسميهم بأسمائهم حتى أنزل الله تعالى : ليس لك من الأمر شئ أو يتوب الله عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون( ) وليس فى الآية الكريمة نهى عن اللعن، وإنما النهى حسب سبب النزول، عن تعيين أسماء من يلعنهم، لعل الله أن يتوب عليهم( ) أو يعذبهم فى الدنيا بقتلهم، وفى الآخرة بالعذاب الأليم، فإنهم ظالمون0
وتأمل ختام الآية : فإنهم ظالمون والظالمون لعنهم رب العزة بصفتهم دون أسمائهم فى أكثر من آية منها :
1- قوله تعالى : فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين( )0
2- وقوله عز وجل : ألا لعنة الله على الظالمين( )0
هذا فضلاً عن الآيات التى تلعن اليهود، وتلعن الكاذبين والكافرين، وتلعن بعض عصاة المؤمنين كالذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات وغيرهم. كقوله تعالى : وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا( ) وقوله سبحانه : لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون( ) وقوله عز وجل : إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين( )0
وقوله تعالى : إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا فى الدنيا والآخرة( ) وقوله سبحانه : والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين( )0
وجاءت السنة المطهرة، وعلى لسان صاحبها المعصوم ، تلعن من لعنهم الله فى كتابه، ومنهم عصاة المؤمنين بصفتهم دون تعيـين أشخاصهـم، حيـث جـاء لعـن الله ولعـن رسول الله للسـارق( ) والواصلــة والواشمـة( ) ولعـن مـن لعـن والـديـه، ومـن ذبــح لغيـر الله، ومـن آوى محدثـاً، ومـن غيـر منــار الأرض( ) والشــارب الخمــر( )
والراشى والمرتشى( ) ومن حلق أو سلق أو خرق( ) ومن مثل بالحيوان( ) وغيرهم ممن هو مشهور فى الأحاديث الصحيحة( )0
فهذه الآيات والأحاديث تبين فى صراحة ووضوح جواز لعن من لعنهم الله فى كتابه، وعلى لسان نبيه فى سنته المطهرة بصفتهم دون تحديد أشخاصهم، وهذا الجواز فى حق الأنبياء وأممهم على السواء، فهو من اللعن المباح( )0
وتأمل الآية السابقة : لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون( ) فداود وعيسى عليهما السلام، لعنوا الذين كفروا من بنى إسرائيل، فإذا لعن رسول الله الذين كفروا من قومه لم يكن بدعاً من الرسل : وإذا لعن العصاة من هذه الأمة كما ورد فى القرآن الكريم، وكما أوحى إليه ربه بوحى غير متلو. كنحو الذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم بينة إلا أنفسهم، وكالذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات، وكنحو الواصلة والواشمة، والسارق، ومن لعن والديه…الخ0
إذا لعن رسول الله كل هؤلاء بصفتهم دون أشخاصهم كما أوحى إليه ربه – بوحى متلو أو غير متلو – لم يكن فى ذلك ما يشوه سيرته العطرة، ولا ما يطعن فى عصمته فى سلوكه وهديه وخلقه. لأن المنهى عنه من اللعن تحديد أسماء من يلعن، دون صفة فعلهم، وقد جاء التوجيه الربانى لنبيه بذلك، لعل الله أن يتوب عليهم، وهو ما حدث مع بعضهم على ما سبق فى حديث ابن عمر من رواية الترمذى0
رابعاً : ليس فى حديثنا ما يعارض ما ورد فى أحاديث أخرى نحو حديث أبى هريرة قال : قيل يا رسول الله! ادع على المشركين قال : "إنى لم أبعث لعاناً، وإنما بعثت رحمة" وحديث : "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر" لأن هذه الأحاديث مطلقة، وجاء ما يقيدها، وحمل المطلق على المقيد حينئذ واجب، جمعاً بين ما ظاهره التعارض0
أما حديث أبى هريرة : فقيده ما أخرجه الطبرانى فى الكبير من حديث كريز بن أسامة( ) قال : قيل للنبى ، العن بنى عامر، قال : إنى لم أبعث لعاناً"( ) نعم! لم يبعث لعاناً لأناس بأشخاصهم، وإنما بعث رحمة، ولذا لما قالوا له : ادع على دوس، فقال : "اللهم اهد دوساً"0
فعن أبى هريرة قال : قدم الطفيل وأصحابه، فقالوا : يا رسول الله! إن دوساً قد كفرت وأبت. فادع الله عليها، فقيل : هلكت دوس فقال : "اللهم اهد دوساً، وائت بهم"( )0
أما حديث : "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر" فمقيد بما روى عن أبى ذر رضى الله عنه أنه سمع النبى يقول : لا يرمى رجل رجلاً بالفسوق، ولا يرميه بالكفر، إلا ارتدت عليه( ) إن لم يكن صاحبه كذلك"( )0
ففى قوله : "إن لم يكن صاحبه كذلك" تقييد لابد منه، وهو يقرر ما سبق من جواز لعن العصاة بصفة فعلهم دون أشخاصهم، مع التحذير من هذا اللعن، خشية أن يكون صاحبه لا يستحقه بصفة فعله، فيعود اللعن إلى من نطق به0
والمعنى : من قال لآخر أنت فاسق، أو قال له أنت كافر، فإن كان ليس كما قال. كان هو المستحق للوصف المذكور، وأنه إذا كان كما قال، لم يرجع عليه شئ لكونه صدق فيما قال. ولكن لا يلزم من كونه لا يصير بذلك فاسقاً ولا كافراً، أن يكون آثماً فى صورة قوله له : أنت فاسق أو أنت كافر. بل فى هذه الصورة تفصيل :
1- إن قصد نصحه أو نصح غيره، ببيان حاله جاز0
2- وإن قصد تعييره وشهرته بذلك، ومحض أذاه لم يجز، لأنه مأمور بالستر عليه، وتعليمه وعظته بالحسنى، فمهما أمكنه ذلك بالرفق لا يجوز له أن يفعله بالعنف، لأنه قد يكون سبباً لإغرائه وإصراره فى ذلك الفعل، كما فى طبع كثير من الناس من الأنفة، لاسيما إن كان الآمر دون المأمور فى المنزلة( )0 وكذلك من لعن آخر، فإن كان أهلاً لها، وإلا رجعت إلى قائلها يدل على ذلك ما رواه أبو داود عن أبى الدرداء رضى الله عنه قال : قال رسول الله : "إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها؛ ثم تهبط إلى الأرض، فتغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يميناً وشمالاً، فإذا لم تجد مساغاً، رجعت إلى الذى لعن، فإذا كان لذلك أهلاً، وإلا رجعت إلى قائلها"( )0
خامساً : ليس فى حديثنا ما يعارض ما ورد عنه ، أنه لم يكن فاحشاً، ولا لعاناً ولا سباباً"( ) لأن هذا الحديث مقيد أيضاً بما سبق من الآيات والأحاديث التى تبين مشروعية وجواز أن يعلن رسول الله ، من أوحى إليه، لعنهم بصفتهم دون ذكر أسماءهم، سواء بوحى متلو أو غير متلو، على ما سبق، وقد جاء حديثنا مؤكداً لما سبق من الآيات والأحاديث، حيث جاء أيضاً مقيداً، بما رواه مسلم فى صحيحه من حديث أنس مرفوعاً : "فأيما أحد دعوت عليه من أمتى، بدعوة ليس لها بأهل، أن يجعلها له طهوراً، وزكاة، وقربة يقربه بها منه يوم القيامة"( )0
فقوله : "بدعوة ليس لها بأهل" تقييد يبين المراد بباقى الروايات المطلقة لحديثنا، وأنه إنما يكون دعاؤه رحمة، وكفارة، وزكاة ونحو ذلك، إذا لم يكن المدعو عليه، أهلاً للدعاء عليه، وكان مسلماً، وإلا فقد دعا على الكافرين والمنافقين، ولم يكن ذلك لهم رحمة( )0
وبالجملة : فكل ما سبق من الآيات والأحاديث – ومن بينها حديثنا – والتى تدل على مشروعية وجواز لعن عصاة الأمة. فيها رد على المخصيصين لعنه وسبه على الكافرين والمنافقين فقط( )0
سادساً : فإن قيل : كيف يدعو رسول الله على من ليس هو بأهل للدعاء عليه أو يسبه أو يلعنه أو يجلده؟ فالجواب ما أجاب به العلماء من ثلاثة وجوه :
الوجه الأول : أن المراد ليس بأهل لذلك عند الله تعالى، وفى باطن الأمر، ولكنه فى الظاهر مستوجب له، فيظهر له استحقاقه لذلك بأمارة شرعية، ويكون فى باطن الأمر ليس أهلاً لذلك، وهو ، مأمور بالحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر، والأحاديث فى الدلالة على ذلك كثيرة، اكتفى منها بما روى عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال : بعث على بن أبى طالب رضى الله عنه، إلى رسول الله ، من اليمن بذهيبة فقسمها بين أربعة، فقال رجل يا رسول الله، اتق الله. فقال : ويلك! أولست أحق أهل الأرض أن يتقى الله. ثم ولى الرجل، فقال خالد بن الوليد، يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ فقال : لا لعله أن يكون يصلى، فقال خالد : وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس فى قلبه، فقال : "إنى لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم"( )0
ففى قوله : "إنى لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم" دلالة على ما أجمع عليه العلماء فى حقه ، من الحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر( )0
والوجه الثانى : أنه أراد أن دعوته عليه، أو سبه، أو جلده، كان مما خير بين فعله له عقوبة للجانى، أو تركه والزجر له بما سوى ذلك فيكون الغضب لله تعالى، بعثه على لعنه وسبه، ولا يكون ذلك خارجاً عن شرعه. ويشهد لصحة هذا الوجه، ما رواه مسلم فى صحيحه بسنده عن عائشة قالت : دخل على رسول الله ، رجلان فكلماه بشئ، لا أدرى ما هو، فأغضباه، فلعناهما وسبهما، فلما خرجا. قلت : يا رسول الله، ما أصاب من الخير شيئاً ما أصابه هذان قال : وما ذاك؟ قالت : قلت لعنتهما وسببتهما. قال : أو ما علمت ما شرطت عليه ربى؟ قلت : اللهم! إنما أنا بشر. فأى المسلمين لعنته أو سببته، فاجعله له زكاة وأجراً"( )0
وفى المسند عن أنس أن رسول الله ، دفع إلى حفصة ابنة عمر رجلاً، فقال لها احتفظى به، قال : ففعلت حفصة، ومضى الرجل، فدخل رسول الله ، وقال : يا حفصة ما فعل الرجل؟ قالت : غفلت عنه يا رسول الله فخرج، فقال رسول الله : قطع الله يدك، فرفعت يديها هكذا، فدخل رسول الله ، فقال : ما شأنك يا حفصة؟ فقالت : يا رسول الله! قلت قبل لى كذا وكذا، فقال لها : ضعى يديك. فإنى سألت الله عز وجل، أيما إنسان من أمتى دعوت الله عز وجل عليه أن يجعلها له مغفرة"( )0
فتأمل : كيف أن غضبه فى الحديثين السابقين، كان غضبة لله عز وجل، فكان دعاؤه فى تلك الغضبة، مما خير بين فعله عقوبة للجانى، أو تركه والزجر له بما سوى ذلك0
وليس فى ذلك الغضب خروج عن شرعه، وعصمته فى سلوكه وخلقه، بل فى ذلك كمال خلقه، ودلالة على بشريته، كما صرح بذلك فى رواية مسلم عن أنس قال : "إنما أنا بشر. أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر"0
ولا يفهم من قوله : "وأغضب كما يغضب البشر" أن الغضب حمله على مالا يجب، بل يجوز أن يكون المراد بهذا أن الغضب لله حمله على معاقبته بلعنه أو سبه، وأنه مما كان يحتمل، ويجوز عفوه عنه، أو كان مما خير بين المعاقبة فيه والعفو عنه( )0
ومع ذلك، فمن كمال شفقته، وخلقه على أمته، سأل ربه عز وجل، أن يجعل دعاءه مغفرة ورحمة لمن دعا عليه من أمته0
والوجه الثالث : أن يكون اللعن والسب والجلد، وقع منه ، من غير قصد إليه، فلا يكون فى ذلك، كاللعنة، والسبة، والجلدة، الواقعة بقصد ونية، ورغبة إلى الله، وطلباً للاستجابة، بل كل ذلك يجرى على عادة العرب فى وصل كلامها عند الحرج، والتأكيد للعتب، لا على نية وقوع ذلك نحو قولهم : عقرى حلقى، وتربت يمينك، فأشفق من موافقة أمثالها القدر، فعاهد ربه، ورغب إليه، أن يجعل ذلك القول رحمة وقربة( ) وأشار القاضى عياض إلى ترجيح هذا الوجه( ) وحسنه الحافظ ابن حجر؛ إلا أنه أخذ عليه أن قوله "جلدته" لا يتمشى فيه، إذ لا يقع الجلد عن غيره قصد… إلا أن يحمل على الجلدة الواحدة فيتجه( )0
قلت : هى محمولة على الجلدة الواحدة، وسيأتى من حديث أبى السوار عن خاله، وعن ابن عباس، أن الجلدة تقع منه ، عن غير قصد، وهو ما يرجح عندى هذا الوجه الثالث مع الوجه الثانى ويشهد لرجحان الوجه الثالث ما يلى :
1- ما روى عن أنس قال : "لم يكن رسول الله ، فاحشاً، ولا لعاناً، ولا سباباً، كان يقول عن المعتبة : ماله ترب جبينه"( )0
2- وعن المغيرة بن شعبة قال : "ضفت( ) مع رسول الله ، ذات ليلة، فأتى بجنب( ) مشوى، ثم أخذ السفرة( ) فجعل يحز، فحز لى بها منه. قال : فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فألقى الشفرة فقال : ماله؟ تربت يداه؟ قال : وكان شاربه قد وفى( ) فقال له : أقصه لك على سواك أو قصة على سواك"( ) "فترب جبينه" و"تربت يداه" فى الحديثين، أصلها من ترب الرجل، إذا افتقر، أى : لصق بالتراب، وهى كلمة جارية على ألسنة العرب، لا يريدون بها الدعاء على المخاطب، ولا وقوع الأمر به، كما يقولون قاتله الله( )0
3- وعن معاذ بن جبل رضى الله عنه قال : قلت : يا رسول الله. آنؤاخذ بما نقول : قال : "ثكلتك أمك يا بن جبل، وهل يكب الناس فى النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم"؟!( ) فقوله : "ثكلتك أمك" أى فقدتك. والثكل فقد الولد، هذا أصل الكلمة فهو دعاء عليه بالموت على ظاهره، ولا يراد وقوعه، بل تأديب وتنبيه من الغفلة، لسوء قوله( )0
4- ومن ذلك حديث عائشة رضى الله عنها، لما قيل له ، إن صفية زوجه – حائض – قال : عقرى حلقى"( ) فقوله : "عقرى" أى عقرها الله، وأصابها بجرح فى جسدها، وقيل جعلها عاقراً لا تلد، وقيل عقر قومها0
ومعنى "حلقى" أى حلق شعرها، وهو زينة المرأة، أو أصابها وقوع فى حلقها، أو حلق قومها بشؤمها، أى أهلكهم( )0
فهذا أصل هاتين الكلمتين، ثم اتسع العرب فى قولهما، بغير إرادة حقيقتهما، ففى ذلك كله دلالة، على استعمال رسول الله لما جرت به العادة فى الخطاب، ولا يراد به حقيقته، فكثيراً ما ترد للعرب ألفاظ، ظاهرها الذم، وإنما يريدون بها المدح، كقولهم : لا أب لك، ولا أم لك، ونحو ذلك. فاشفق ، على من دعا عليه، بمثل ما سبق، أن يوافق القدر، فسأل ربه عز وجل، أن يجعل ذلك القول رحمة وقربة، وهذا من جميل خلقه العظيم0
5- وفى المسند عن خال أبى السوار قال : رأيت رسول الله ، وأناس يتبعونه، فأتبعته معه، قال : ففجئنى القوم يسعون، قال : وأبقى القوم، قال : فأتى على رسول الله ، فضربنى ضربة إما بعسيب أو قضيب أو سواك أو شئ كان معه، قال : فوالله ما أوجعنى قال : فبت بليلة، قال : وقلت ما ضربنى رسول الله ، إلا لشئ علمه الله فى، قال : وحدثتنى نفسى أن آتى رسول الله ، إذا أصبحت، قال : فنزل جبريل عليه السلام على النبى ، فقال : إنك راع، لا تكسرن قرون رعيتك، قال : فلما صلينا الغداة، أو قال أصبحنا، قال : قال رسول الله : "اللهم إن إناساً يتبعونى، وإنى لا يعجبنى أن يتبعونى، اللهم فمن ضربت أو سببت، فاجعلها له كفارة وأجراً، أو قال مغفرة ورحمة، أو كما قال"( )0
فتأمل : كيف أن ضربه هنا كالجلدة، وقعت منه ، من غير قصد ولا نية للإيذاء، حيث أقر المضروب؛ أنها لم توجعه، وقد دل الحديث على أن الجلدة، وقعت منه ، عتاباً. على من تبعه، من قومه فى مقام، لم يعجبه ، أن يتبعوه فيه0
6- ومن هذا القبيل ما جاء فى ضربه ، لعبد الله بن عباس رضى الله عنهما، ملاطفة وتأنيساً وحثاً له على سرعة إنجاز ما طلبه منه0
فعن ابن عباس قال : "كنت ألعب مع الصبيان، فجاء رسول الله فتواريت خلف باب، قال : فجاء فحطأنى – أى ضربنى باليد مبسوطة بين الكتفين – وقال : اذهب وادع لى معاوية… الحديث( )0
7- ومن ذلك أيضاً، ما جاء فى حديث معاذ، وهل نؤاخذ بما تكلمت به ألسنتنا يا رسول الله؟ قال: فضرب رسول الله ، فخذ معاذ، ثم قال : "يا معاذ ثكلتك أمك وما شاء الله أن يقول له من ذلك… الحديث"( )0
وفى الأحاديث السابقة رد على ما استدركه الحافظ على الوجه الثالث، بأن الجلد لا يقع عن غير قصد… الخ، فإن ذلك محمول كما هو ظاهر الأحاديث السابقة على الجلدة الواحدة، من غير قصد ولا نية للإيذاء إلا مجرد العادة الجارية أو التأكيد للعتب. وإذا حملت الجلدة فى الحديث على الواقعة بقصد ونية، وأكثر من جلدة، فيحمل الجلد حينئذ على الوجه الأول السابق، فيزول أيضاً اعتراض الحافظ على حسن الوجه الثالث. والله أعلم0
8- وعن أنس قال : كانت عند أم سليم يتيمة، فرأى رسول الله اليتيمة فقال : أنت هيه! لقد كبرت، لا كبر سنك. فرجعت اليتيمة إلى أم سليم تبكى، فقالت أم سليم مالك يا بنية! قالت الجارية : دعى على نبى الله ، أن لا يكبر سنى، فالآن لا يكبر سنى أبداً، أو قالت قرنى، فخرجت أم سليم مستعجلة تلوث خمارها( ) حتى لقيت رسول الله ، فقال لها : مالك يا أم سليم؟ فقالت : يا نبى الله! أدعوت على يتيمتى؟ قال : وما ذاك يا أم سليم؟ قالت : زعمت أنك دعوت أن لا يكبر سنها، ولا يكبر قرنها، قال : فضحك رسول الله ، ثم قال : يا أم سليم! أما تعلمين أن شرطى على ربى، أنى اشترطت على ربى فقلت : إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر. وأغضب كما يغضب البشر، فأيما أحد دعوت عليه، من أمتى، بدعوة ليس لها بأهل، أن يجعلها له طهوراً وزكاة، وقربة يقربه بها منه يوم القيامة"( )0
9- وعن ابن عباس رضى الله عنهما، أن رسول الله بعث إلى معاوية ليكتب له فقال : إنه يأكل، فقال رسول الله : "لا أشبع الله بطنه"، زاد البيهقى فى الدلائل : فما شبع بطنه أبداً"( )0
فما ورد هنا فى حديث أنس من قوله : "لقد كبرت لا كبر سنك" وفى حديث ابن عباس "لا أشبع الله بطنه" الظاهر من هذا الدعاء، أنه وقع منه ، بغير قصد ولا نية، بل هو مما جرت به عادة العرب فى وصل كلامها بلا نية؛ ومع ذلك أشفق نبى الرحمة من موافقة أمثالها إجابة، فعاهد ربه، كما فى روايات الحديث، أن يجعل ذلك للمقول له زكاة، ورحمة، وقربة، وهذا إنما يقع منه ، فى النادر الشاذ من الزمان0
وفيما سبق، فيه الكفاية للدلالة على ترجيح الوجه الثالث، فى معنى حديثنا كما أن فى كل ما سبق رد على استغلال بعض الفرق وأشياعهم حديث ابن عباس السابق للطعن فى معاوية رضى الله عنه( )0
وليس فى الحديث ما يساعدهم على ذلك؛ كيف وفى الحديث أنه كان كاتب الوحى لرسول الله 0
قال الإمام النووى : "وقد فهم مسلم – رحمه الله – من هذا الحديث، أن معاوية لم يكن مستحقاً للدعاء عليه، فلهذا أدخله فى هذا الباب يعنى باب (من لعنه النبى ، أو سبه، أو دعاء عليه، وليس هو أهلاً لذلك كان له زكاة وأجراً ورحمة) وجعله غيره من مناقب معاوية، لأنه فى الحقيقة يصير دعاء له"( )0
وقال الحافظ ابن كثير : "وقد انتفع معاوية رضى الله عنه، بهذه الدعوة فى دنياه وأخراه، أما فى دنياه، فإنه لما صار إلى الشام أميراً، كان يأكل فى اليوم سبع مرات، يجاء بقصعة فيها لحم كثير، وبصل فيأكل منها، ويأكل فى اليوم سبع أكلات بلحم، ومن الحلوى والفاكهة شيئاً كثيراً، ويقول : والله ما أشبع، وإنما أعيا – أى أتعب – وهذه نعمة، ومعدة يرغب فيها كل الملوك، وأما فى الآخرة فقد اتبع المسلمون هذا الحديث، بالحديث الذى رواه البخارى وغيرهما من غير وجه، عن جماعة من الصحابة؛ أن رسول الله قال : "اللهم إنما أنا بشر فأيما عبد سببته، أو جلدته، أو دعوت عليه، وليس لذلك أهلاً فاجعل ذلك كفارة وقربة تقربه بها عندك يوم القيامة"( ) فركب مسلم من الحديث فضيلة لمعاوية، ولم يورد له غير ذلك"( )0
وبالجملة : فحديثنا ليس فيه ما يعارض عصمة رسول الله فى سلوكه وهديه، وخلقه العظيم؛ بل فيه كمال شفقته على أمته، وجميل خلقه، وكرم ذاته، حيث قصد مقابلة ما وقع منه، بالجبر والتكرم0
وهذا كله فى حق معين فى زمنه واضح، وأما ما وقع منه بطريق التعميم لغير معين، حتى يتناول من لم يدرك زمنه فلا يشمله"( )0
وبعــد :
فهذه نماذج من الأحاديث الصحيحة التى تتناول سيرة سيدنا رسول الله ، والتى طعن فيها دعاة الفتنة وأدعياء العلم بحجة أنها تطعن فى عصمة رسول الله فى سلوكه وهديه، وتشوه سيرته العطرة؛ هذا فى الوقت الذى يطعن فيه بعضهم، بعدم عصمته ؛ مستدلاً ببعض الآيات المتشابهات0
والحق أن هؤلاء الأدعياء ومحاولة طعنهم فى السيرة العطرة الواردة فى السنة بحجة أنها تتعارض مع عقولهم الزائغة، أو مع كتاب الله عز وجل، أو مع العلم أو غير ذلك… يكشف عن أنهم لا يعرفون شيئاً أو يتجاهلون ليثبتوا كيدهم للسنة النبوية بل للإسلام! أهـ0
والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم
=====
الخاتمـــة فـــى
نتائج هذه الدراسة
ومقترحـــــات وتوصيـــات
الخـاتمــة
الحمد لله تعالى على فضله العظيم أن وفقنى لإتمام هذه الرسالة، التى ظهر لى من نتائج دراستى فيها التأكيد على ما يلى :
1- عصمة سيدنا رسول الله ، من كل ما يمس قلبه، وعقيدته بسوء من التمسح بالأصنام، أو الحلف بها، أو أكل ما ذبح على النصب، ونحو ذلك من مظاهر الكفر والشرك، والضلال والغفلة، والشك، قبل النبوة وبعدها، وفى كل حالاته من رضى وغضب، وجد ومزح0
2- عصمته من تسلط الشيطان عليه، وكفايته منه، وما ورد فى القرآن الكريم، والسنة النبوية من تعرض الشيطان له بالأذى فى جسمه، أو على خاطره بالوسوسة، لا يتعارض مع عصمته من الشيطان، حيث عصمه ربه عز وجل بعدم تمكن الشيطان من غوايته ، أو إلحاق ضرر به يضر بالدين0
3- عصمته من كل ما يمس عقله بسوء حتى كان قبل النبوة وبعدها أكمل الناس عقلاً وفطنة، كما كان أكمل الناس إيماناً وخلقاً0
4- عصمته من كل ما يمس أخلاقه بسوء حتى استحقت أن توصف بالعظمة. قال تعالى : وإنك لعلى خلق عظيم( ) وبلغ من عظمة أخلاقه تكافؤها بنسب متفقة، فحلمه مثل رحمته، ورحمته مثل مروءته… الخ وهو فى كل ذلك فى أول شبابه كآخر حياته 0
5- اختصاصه بعصمة بدنه الشريف من القتل دون سائر الأنبياء. بدلالة قوله تعالى : وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقاً لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين( ) فالآية تحدى واضح لقتلة الأنبياء والمرسلين من بنى إسرائيل، بأنهم مهما حاولوا قتله ، فلم ولن يفلحوا، كما سبق منهم مع أنبيائهم؛ لأن رب العزة خص رسوله بتلك العصمة فى بدنه الشريف من القتل بدلالة "من قبل" فتأمل0
6- عصمته فى بدنه من القتل لا يتعارض مع ابتلائه بضروب من المحن والشدائد، لأن رسول الله ، وسائر الأنبياء والرسل من البشر. هم بحسب ظواهرهم يطرأ عليهم ما يطرأ على سائر البشر من الآفات والتغييرات والآلام والأسقام، وكل ذلك إظهاراً لبشريتهم، وإظهاراً لشرفهم، ورفعة لدرجاتهم، وتسلية لأممهم ليتأسوا بهم فى صبرهم وشكرهم على البلاء0
7- عصمته فى نقل وحى الله تعالى وتبليغه للناس، وعلى ذلك دلائل الكتاب والسنة والسيرة العطرة، وإجماع الأمة فلا يجوز عليه خلف فيما أخبر به من الوحى، لا بقصد، ولا بغير قصد، ولا فى حال الجد والهزل، ولا فى حال الصحة والمرض أو أى حال كان؛ والكلام هنا ليس خاصاً بالنبى ، بل وغيره من الأنبياء كذلك، إذ لا فرق بينهم فى واجب التبليغ0
8- عصمته فى اجتهاده فى الإسلام، لأنه اجتهاد محروس بوحى الله تعالى، فإن وافق قوله أو فعله مراد الله تعالى، فالأمر كما أخبر رسول الله ، وإن كان الأمر يحتاج إلى تصحيح أو توضيح أوحى الله تعالى إلى نبيه بذلك ويصير اجتهاده فى النهاية، وحى من الله تعالى، وحجة شرعية إلى يوم الدين0
9- عصمته فى سلوكه وهديه، فقد كانت أقواله وأفعاله، وأحواله كلها؛ تشريعاً تقتضى المتابعة والاقتداء إلا ما قام به الدليل على أنه من خصائصه ، وعلى ذلك دلائل القرآن الكريم، والسنة المطهرة، واتفاق السلف وإجماعهم عليه. وذلك أننا نعلم من دين الصحابة وعادتهم مبادرتهم إلى تصديق جميع أحواله، والثقة بجميع أخباره فى أى باب كانت، وعن أى شئ وقعت؛ وأنه لم يكن لهم توقف ولا تردد فى شئ منها، ولا استثبات عن حاله عند ذلك، هل وقع فيها عن وحى أو اجتهاد، وهل وقع فيها سهواً أو عمداً، أو رضاً أو سخطاً، أو جداً أو مزحاً، أو صحة أو مرضاً، أو أى حال كان0
10- إن شبهات أعداء الإسلام من المستشرقين حول عصمة سيدنا رسول الله قائمة على إنكار نبوته ، إذ لم تكن لدى معظمهم القناعة العلمية، ولا الإيمان الراسخ بهذه النبوة، وبخاصة أولئك الذين جمعوا بين الاستشراق والتبشير، وألبسوا أفكارهم أردية كنسية متطرفة. فقد نشأوا على أديان أخرى، ونفذوا بشئ من العداء لهذه الشخصية النبوية الكريمة، ودفعوا دفعاً مقصوداً للطعن فى نبوته، وحملوا حملاً مغرضاً لتجريده من صفاتها، وعلى رأسها صفة العصمة0
11- إن شبهات أعداء السنة المطهرة – ممن هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا – حول عصمة سيدنا رسول الله قائمة على إعلان الكفر صراحة بالشطر الثانى من الوحى الإلهى وهو سنة سيدنا رسول الله وسيرته العطرة الواردة فيها، وزعمهم أن فى تلك الأحاديث المتعلقة بسيرة رسول الله تشويه لسيرته، وطعن فى عصمته. وهم فيما يزعمون يتسترون بعباءة القرآن الكريم، وفاق تسترهم كل حد، إذ تجرأوا على كتاب ربهم عز وجل، ففسروه وأولوه، بما يأتى فى النهاية صراحة بردهم على الله تعالى كلامه، وتطاولهم عليه عز وجل من حيث يشعرون أو لا يشعرون0
12- إن القرآن الكريم هو شريعة الإسلام قولاً، ورسول الله هو شريعة الإسلام عملاً؛ فحياته كلها، وما صدر عنه فيها من أقوال وأفعال وتقريرات حتى الحركات والسكنات، هى تفصيل وبيان وترجمة حية لما اشتمل عليه القرآن الكريم من عقائد، أو عبادات، أو معاملات، أو أخلاق، أو حدود، أو أحوال شخصية… الخ. وإذن فلم تكن هذه المفتريات التى زعمها أعداء السنة على سيرة رسول الله ، الواردة فى صحيح السنة النبوية، لم يكن مقصوداً بها الرسول لذاته، وإنما كانت غايتها تدمير الشريعة وصاحب الشريعة، ثم يأتى من وراء ذلك تدمير المجتمع الإسلامى كله!0
13- إن رواة السيرة العطرة وأئمتها، لم تكن وظيفتهم بصدد أحداث السيرة إلا تثبيت ما هو ثابت منها بمقياس علمى، يتمثل فى قواعد مصطلح الحديث المتعلقة بكل من السند والمتن، وفى قواعد علم الجرح والتعديل المتعلقة بالرواة وتراجمهم0
فإذا انتهت بهم هذه القواعد العلمية الدقيقة إلى أخبار ووقائع، وقفوا عندها ودونوها، دون أن يقحموا تصوراتهم الفكرية أو انطباعاتهم النفسية، أو مألوفاتهم البيئية إلى شئ من تلك الوقائع بأى تلاعب أو تحوير0
14- ليس فى الربط بين القرآن الكريم، والسنة المطهرة فى تحديد شخصية وسيرة المعصوم شرك وتأليه لرسول الله كما يزعم أعداء السنة، لأن الربط هنا ربط إلهى، وطاعة لله عز وجل وطاعة لرسوله . وقد دل على هذا الربط عشرات الآيات القرآنية فى طاعة الله عز وجل، وطاعة رسوله طاعة مستقلة وأنها من طاعته عز وجل0
15- إن منكرى السنة النبوية فى دعواهم التعارض بين سيرته فى القرآن الكريم، وسيرته فى السنة المطهرة، مغرضون مفترون فى تكلف التعارض، ولو أرادوا الحق لسألوا، أو قرأوا، والأجوبة عن كل استشكالاتهم فى كتب الأئمة؛ وهم أدرى بالنص، وعلى غيرهم أن يحترم رأيهم. فهم رجال قيدهم رب العزة لحفظ دينه، وأمر عباده بالرجوع إليهم. قال تعالى : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون( )0
16- إن المتتبع للآيات المتشابهات التى استدل بها أعداء الإسلام، وأعداء السنة، على عدم عصمة رسول الله ، يرى أنها واردة فى مقام المنة على رسول الله ، وبيان عظيم مكانته وفضله عند ربه عز وجل فى الدنيا والآخرة، بأعظم ما يكون البيان ويرى بوضوح وجلاء أن كل آية من تلك الآيات تأتى بنوع من الترفق برسول الله ، فى الخطاب طمأنة لقلبه الطاهر، وتنادى بأن ما ورد من ظاهر تلك الآيات مما يمس عصمته غير مراد، وتنادى بأن ما صدر منه من خطأ فى الاجتهاد، ووجه إلى الأخذ بالأصوب منه فيما يستقبل من حوادث لم يؤثر على شئ من عصمته، ولا مما ناله من شرف القرب، والرضا عليه من الله عز وجل، مما يمكن أن يقال فيه، إنه مسح بيد الرحمة على القلب الطاهر الرحيم، الذى جعله رب العزة هدى ورحمة للعالمين0
17- إن ما استدل به أعداء الإسلام من أحاديث على عدم عصمته لا حجة لهم فيها، لأن ما استدلوا به أحاديث مكذوبة، وضعيفة، وأخرى صحيحة مع ضعف دلالتها على ما احتجوا به0
18- إن عصمة رسول الله ، وسائر الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام مبنية على إرادة إلهية، وهى اصطفاء الله عز وجل لهم، وعصمتهم من كل ما يخل بهذا الاصطفاء، قبل نبوتهم وبعدها، وهم فى عالم الغيب لم يخلقوا بعد0
وعليه : فلا معنى لإثارة الخلاف حول عصمة الأنبياء قبل نبوتهم من المعاصى كبائرها وصغائرها من حيث الوقوع وعدمه، أو من حيث امتناعه سمعاً أو عقلاً0
هذه هى أهم نتائج الدراسة فى موضوع : "رد شبهات حول عصمة النبى فى ضوء السنة النبوية الشريفة" وإذا كان لى أن أقترح أو أوصى بشئ فى هذا المقام، فإنى أقترح وأوصى بما يلى :
1- دراسة شبهات أعداء السنة قديماً وحديثاً، وبيان بطلانها من خلال تدريس تاريخ السنة وعلومها0
2- إخضاع الكتابات المتعلقة بما يمس عصمة رسول الله للتدقيق والتمحيص، وسد منافذ الاجتراء على السيرة النبوية بديار المسلمين، وتجريم ذلك فى جميع الوسائل0
3- الحكم بالارتداد على منكرى عصمة رسول الله ، وتنفيذ أحكام الله فيهم بمعرفة القضاء؛ لأن منكر العصمة منكر لوحى الله تعالى0
4- العمل على أن يكون للمحدثين رابطة على مستوى العالم الإسلامى؛ تجمع شملهم، وتقنن أعمالهم، وتلم شعث جهودهم0
5- مواصلة العمل الجاد، وتضافر الجهود، وتشابك الأيدى، وإخلاص النية، كى نبين ما ينطوى عليه الغرض الخبيث الذى يلتقى عليه أعداء الله للنيل من سنة رسول الله ، وسيرته العطرة الواردة فيها، ومن أئمة السنة الأعلام، ومن ثم وقف هذه الحملة الشرسة المسعورة التى تستهدف الإسلام وهدم كل ما يتصل به من قرآن وسنة وسيرة، وتاريخ، وأمة تتداعى عليها الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها0
وبعـد :
فهذا آخر ما فتح الله علىَّ به، ووفقنى لكتابته فى هذا البحث الجليل، الذى اعترف فيه بالعجز والتقصير0
ولعلى أكون قد أصبت فى بعض مسائله، وشفيت الغليل فى شئ من مباحثه؛ فإن يكن ذلك حقاً : فبفضل الله، وهدايته، وحسن توفيقه، وعنايته. وإن كانت الأخرى، فذلك من نقصى وتقصيرى، وأتوب إلى الله وأستغفره، وأسأله عز وجل الصفح والغفران، فيما زلت فيه قدمى، وانحرف فيه عن جادة الحق قلمى.
اللهم تقبل هذا الجهد الضئيل خالصاً لوجهك الكريم وانفع به المستفيدين
وارزقنى دعوة صالحة منهم، ينالنى بها عفوك ورضاك وآخر دعوانا
أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد خاتم النبيين
وإمام المرسلين، المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله، وصحبه
والمتمسكين بسنته أجمعين0
هذا الكتاب
يتناول فيه المؤلف الرد علي الطاعنين في عصمة سيدنا رسول الله من أعداء الإسلام من المستشرقين , وأذيالهم ممن يسمون أنفسهم ( القرآنيون ) وذلك من خلال عدة قضايا :
التأكيد علي عصمة سيدنا رسول الله ، من كل ما يمس عقله، وعقيدته بسوء , من التمسح
بالأصنام، أو الحلف بها، أو أكل ما ذبح على النصب .... الخ ، والجواب عما ورد في ظاهر القرآن والسنة مما يتعارض مع تلك العصمة .
التأكيد علي عصمته من تسلط الشيطان عليه ، وكفايته منه ، والجواب عما ورد فى القرآن الكريم ، والسنة النبوية من تعرض الشيطان له بالأذى فى جسمه ، أو على خاطره بالوسوسة.
التأكيد علي عصمته فى فكره و اجتهاده , وفي خلقه وهديه , وفيمايبلغ عن ربه . والجواب عما ورد في ظاهر القرآن والسنة مما يتعارض مع تلك العصمة .
بيان إن شبهات أعداء الإسلام من المستشرقين حول عصمة سيدنا رسول الله قائمة على إنكار نبوته ، إذ لم تكن لدى معظمهم القناعة العلمية، ولا الإيمان الراسخ بهذه النبوة، وبخاصة أولئك الذين جمعوا بين الإستشراق والتبشير، وألبسوا أفكارهم أردية كنسية متطرفة.
بيان إن شبهات أعداء السنة المطهرة – ممن هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا – حول عصمة سيدنا رسول الله قائمة على إعلان الكفر صراحة بالشطر الثانى من الوحى الإلهى وهو سنة سيدنا رسول الله , وسيرته العطرة الواردة فيها.
بيان أن الآيات المتشابهات التى استدل بها أعداء الإسلام ، وأعداء السنة ، على عدم عصمة رسول الله ، واردة فى مقام المنة على رسول الله ، و فيها بيان عظيم مكانته وفضله عند ربه فى الدنيا والآخرة ، بأعظم ما يكون البيان !! .
بيان أن ما استدل به أعداء الإسلام من أحاديث على عدم عصمته لا حجة لهم فيها ، لأن ما استدلوا به أحاديث مكذوبة، وضعيفة، وأخرى صحيحة؛ مع ضعف دلالتها على ما احتجوا به0
ودار اليقين , وقد سبق لها أن طبعت للمؤلف كتابه (( السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام مناقشتها والرد عليها )) فإنه يسعدها اليوم أن تطبع كتابه هذا ((رد شبهات حول عصمة النبي
في ضوء القرآن والسنة )) .
ونسأل الله التوفيق والسداد ...
قتيبة
03-09-2008, 02:15 AM
ملاحظة
ينصح بمطالعة النسخة الموجودة في الرابط لانه واجهت مشكلة فنية فبعض الهوامش لم اتمكن من نقلها لذا اتمنى ملاحظة ذلك
http://www.offok.com/rad/emad4.htm
او طالع موقع صيد الفوائد
http://www.saaid.net/book/search.php...D1%C8%ED%E4%ED
Powered by vBulletin™ Version 4.2.1 Copyright © 2025 vBulletin Solutions, ENGAGS © 2010