المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : في بيان دلالة الشريعه المحكمه على أسماء الله الحسنى وصفاته العلى



حفيدة بني عامر
04-19-2008, 11:50 AM
في بيانِ دلالةِ الشريعةِ المُحْكَمَةِ على أسماءِ اللَّهِ الحُسْنَى وصفاتِهِ العُلَى

(الحمدُ للَّهِ الذي نـزَّهَ شريعتَهُ عن…التناقضِ والفسادِ، وجعَلَها كفيلةً وافيَةً بمصالحِ خلقِهِ في المعاشِ والمعادِ، وجعَلَها منْ أعظمِ آياتِهِ الدالَّةِ عليهِ، ونصَبَها طريقاً مُرْشِداً لمَنْ سلكَهُ إليهِ، فهوَ نورُهُ المبينُ، وحصْنُهُ الحصينُ، وظلُّهُ الظليلُ، وميزانُهُ الذي لا يعولُ.

لقدْ تعرَّفَ بها إلى أَلِبَّاءِ عبادِهِ غايَةَ التعرُّفِ، وتحبَّبَ بها إليهم غايَةَ التحبُّبِ، فأَنِسُوا بها منهُ حكمتَهُ البالغةَ، وتمَّتْ بها عليهم منهُ نعَمُهُ السابغةُ، ولا إلهَ إلاَّ اللَّهُ الذي في شرْعِهِ أعظمُ آيَةٍ تدلُّ على تفرُّدِهِ بالإلهيَّةِ وتوحُّدِهِ بالربوبيَّةِ، وأنَّهُ الموصوفُ بصفاتِ الكمالِ، المُسْتَحِقُّ لنعوتِ الجلالِ، الذي لهُ الأسماءُ الحسنى والصِّفَاتُ العُلَى فلا يدخلُ السوءُ في أسمائِهِ ولا النقصُ والعيبُ في صفاتِهِ، ولا العبثُ ولا الجَوْرُ في أفعالِهِ، بلْ هوَ منـزَّهٌ في ذاتِهِ وأوصافِهِ وأفعالِهِ وأسمائِهِ عمَّا يُضَادُّ كمالَهُ بوجهٍ من الوجوهِ. وتباركَ اسمُهُ، وتعالَى جَدُّهُ، وبهَرَتْ حكمتُهُ، وتمَّتْ نعمتُهُ، وقامَتْ على عبادِهِ حُجَّتُهُ، واللَّهُ أكبرُ كبيراً أنْ يكونَ في شَرْعِهِ تناقضٌ واختلافٌ، فلوْ كانَ منْ عندِ غيرِ اللَّهِ لوجَدُوا فيهِ اختلافاً كثيراً، بلْ هيَ شريعةٌ مُؤْتَلِفَةُ النظامِ، متعادلةُ الأقسامِ، مُبَرَّأَةٌ منْ كلِّ نقصٍ، مُطَهَّرَةٌ منْ كلِّ دَنَسٍ، مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها، مُؤَسَّسَةٌ على العَدْلِ والحكمةِ والمصلحةِ والرحمةِ قواعدُها ومبانِيها، إذا حَرَّمَتْ فساداً حرَّمَتْ ما هوَ أولى منهُ أوْ نظيرُهُ، وإذا رَعَتْ صلاحاً رَعَتْ ما هوَ فوقَهُ أوْ شبهَهُ، فهيَ صراطُهُ المستقيمُ الذي لا أَمْتَ فيهِ ولا عِوَجَ، ومِلَّتُهُ الحنيفيَّةُ السَّمْحَةُ التي لا ضيقَ فيها ولا حرجَ، بلْ هيَ حنيفيَّةُ التوحيدِ سمحةُ العملِ، لمْ تأْمُرْ بشيءٍ فيقولُ العقلُ: لوْ نَهَتْ عنهُ لكانَ أوفقَ، ولمْ تَنْهَ عنْ شيءٍ فيقولُ الحِجَى: لوْ أباحَتْهُ لكانَ أرفقَ، بلْ أَمَرَتْ بكلِّ صلاحٍ، ونَهَتْ عنْ كلِّ فسادٍ، وأباحَتْ كلَّ طَيِّبٍ، وحرَّمَتْ كلَّ خبيثٍ، فأوامرُها غذاءٌ ودواءٌ، ونواهيها حِمْيَةٌ وصيانةٌ، وظاهرُها زينةٌ لباطِنِها، وباطنُها أجملُ منْ ظاهرِها، شعارُها الصدقُ، وقَوَامُها الحقُّ، وميزانُها العَدْلُ، وحُكمُها الفصلُ، لا حاجةَ بها البتَّةَ إلى أنْ تكْمُلَ بسياسةِ ملِكٍ، أوْ رَأْيِ ذي رأيٍ، أوْ قياسِ فقيهٍ، أوْ ذوقِ ذي رياضةٍ، أوْ منامِ ذي دينٍ وصلاحٍ. بلْ لهؤلاءِ كلِّهم أعظمُ الحاجةِ إليها، ومَنْ وُفِّقَ منهم للصوابِ فلاعتمادِهِ وتعويلِهِ عليها؛ فقدْ أكملَها الذي أتمَّ نعمتَهُ علينا بشرْعِها قبلَ سياساتِ الملوكِ وحِيَلِ المُتَحَيِّلِينَ، وأقيسةِ القِيَاسِيِّينَ، وطرائقِ الخِلافيِّينَ، وأينَ كانتْ هذهِ الحيلُ والأقيسةُ والقواعدُ المتناقضةُ والطرائقُ القِدَدُ وَقْتَ نـزولِ قولِهِ: [المائدة: 3]؟! وأينَ كانتْ يومَ قولِهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: ((لَقَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلاَّ هَالِكٌ)) ( )؟! ويومَ قولِهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: (( مَا تَرَكْتُ مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُكُمْ عَنِ النَّارِ إِلاَّ أَعْلَمْتُكُمُوهُ))؟! ( ) وأينَ كانتْ عندَ قولِ أبي ذرٍّ: لقدْ تُوُفِّيَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ , وما طائرٌ يُقَلِّبُ جَنَاحَيْهِ في السماءِ إلاَّ ذَكرَ لنا منهُ علماً، وعندَ قولِ القائلِ لسلمانَ: لقَدْ علَّمَكُم نبيُّكُم كلَّ شيءٍ حتَّى الْخِرَاءَةَ، فقالَ: أجَلْ( )) ( ).



[فصْلٌ]

(وقدْ تقرَّرَ أنَّ اللَّهَ سُبحانَهُ كاملُ الصِّفَاتِ لهُ الأسماءُ الحسنى ولا يكونُ عن الكاملِ في ذاتِهِ وصفاتِهِ إلاَّ الفعلُ المحكَمُ)( ).

(فإنَّ الشرائعَ بتنـزيلِ الحكيمِ العليمِ أنزَلَها وشرَعَها الذي يعلمُ ما في ضِمْنِها منْ مصالحِ العبادِ في المعاشِ والمعادِ، وأسبابِ سعادتِهم الدنيويَّةِ والأُخرويَّةِ، فجعلَها غذاءً ودواءً وشفاءً وعصمةً وحصناً وملجأً وجُنَّةً ووقايَةً، وكانتْ بالقياسِ إلى مصالحِ الأبدانِ بمنـزلةِ حكيمٍ عالمٍ رَكَّبَ للناسِ أمراً يصلحُ لكلِّ مرضٍ ولكلِّ ألمٍ، وجعَلَهُ معَ ذلكَ غذاءً للأصحَّاءِ، فمَنْ تغَذَّى بهِ من الأصِحَّاءِ غذَاهُ، ومَنْ تدَاوَى بهِ من المرضِ شفَاهُ.


وشرائعُ الربِّ تعالى فوقَ ذلكَ وأجلُّ منهُ، وإنَّما هوَ تمثيلٌ وتقريبٌ. فلا أحسنَ منْ أمرِهِ ونهْيِهِ وتحليلِهِ وتحريمِهِ. أمْرُهُ قوتٌ وغذاءٌ وشفاءٌ، ونهْيُهُ حمايَةٌ وصيانةٌ. فلمْ يأْمُرْ عبادَهُ بما أمرَهُم بهِ حاجةً منهُ إليهم ولا عَبَثاً، بلْ رحمةً وإحساناً ومصلحةً، ولا نهَاهُم عمَّا نهَاهُم عنهُ بُخْلاً منهُ عليهم، بلْ حمايَةً وصيانةً عمَّا يُؤْذِيهم ويَعُودُ عليهم بالضَّرَرِ إنْ تنَاوَلُوهُ.

فكيفَ يَتَوَهَّمُ مَنْ لهُ مُسْكَةٌ منْ عقلٍ خُلُوَّهَا من الحِكَمِ والغاياتِ المحمودةِ المطلوبةِ لأجْلِها؟!!.

ولهذا استَدَلَّ كثيرٌ من العقلاءِ على النبُوَّةِ بنفسِ الشريعةِ، واستَغْنَوْا بها عنْ طلبِ المعجزةِ. وهذا منْ أحسنِ الاستدلالِ؛ فإنَّ دعوةَ الرُّسُلِ منْ أكبرِ شواهدِ صِدْقِهم.

وكلُّ مَنْ لهُ خبرةٌ بنوعٍ منْ أنواعِ العلومِ إذا رأى حاذقاً قدْ صنَّفَ فيهِ كتاباً جليلاً عَرَفَ أنَّهُ منْ أهلِ ذلكَ العلمِ بنظَرِهِ في كتابِهِ.
وهكذا كلُّ مَنْ لهُ عقلٌ وفطرةٌ سليمةٌ وخبرةٌ بأقوالِ الرسلِ ودعْوَتِهم إذا نظرَ في هذهِ الشريعةِ قطعَ قطعاً نظيرَ القطعِ بالمحسوساتِ أنَّ الذي جاءَ بهذهِ الشريعةِ رسولٌ صادقٌ، وأنَّ الذي شرَعَها أحكمُ الحاكمينَ.

ولقدْ شَهِدَ لها عقلاءُ الفلاسفةِ بالكمالِ والتمامِ، وأنَّهُ لمْ يَطْرُق العالمَ ناموسٌ أكملُ ولا أحكمُ. هذهِ شهادةُ الأعداءِ.

وشهِدَ لها مَنْ زعمَ أنَّهُ من الأولياءِ بأنَّها لمْ تُشْرَعْ لحكمةٍ ولا لمصلحةٍ، وقالُوا: أيُّ حكمةٍ في الإلزامِ بهذهِ التكاليفِ الشاقَّةِ المُتْعِبَةِ؟! وأيُّ مصلحةٍ للمُكَلَّفِ في ذلكَ؟! وأيُّ غرضٍ للمُكَلَّفِ؟! وما هيَ إلاَّ محضُ المشيئةِ المُجَرَّدَةِ منْ قصدِ غايَةٍ أوْ حكمةٍ.

ولو استحْيَا هؤلاءِ من العقلاءِ لمنَعَهُم الحياءُ منْ تسويدِ القلوبِ والأوراقِ بمثلِ ذلكَ. وهلْ ترَكَت الشريعةُ خيراً ومصلحةً إلاَّ جاءَتْ بهِ وأمَرَتْ بهِ وندَبَتْ إليهِ؟!! وهلْ تركَتْ شرًّا ومفسدةً إلاَّ نهَتْ عنهُ؟!! وهلْ ترَكَتْ لمُفْرِحٍ إفراحاً، أوْ لمُتَعَنِّتٍ تعنُّتاً أوْ لسائلٍ مطلباً؟! [المائدة: 50].

وعندَ نُفَاةِ الحُكْمِ أنَّهُ يجوزُ عليهِ ضدُّ ذلكَ الحُكْمِ منْ كلِّ وجهٍ، وأنَّهُ لا فرقَ بينَهُ وبينَ ضدِّهِ في نفسِ الأمرِ إلاَّ لمجرَّدِ التحكُّمِ والمشيئَةِ. فلَو اجتمَعَتْ حكمةُ جميعِ الحكماءِ منْ أوَّلِ الدهرِ إلى آخرِهِ ثمَّ قِيسَتْ إلى حكمةِ هذهِ الشريعةِ الكاملةِ الحكيمةِ الفاضلةِ لكانَتْ كقطرةٍ منْ بحرٍ.

وإنَّما نَعْنِي بذلكَ الشريعةَ التي أنزَلَها اللَّهُ على رسولِهِ وشرَعَها للأُمَّةِ ودَعاهُم إليها، لا الشريعةَ المُبَدَّلَةَ ولا المُؤَوَّلَةَ، ولا ما غَلِطَ فيهِ الغالطونَ، وتأوَّلَهُ المُتَأَوِّلُونَ؛ فإنَّ هذيْنِ النوعيْنِ قدْ يشتملانِ على فاسدٍ وشرٍّ، بل الشرُّ والفسادُ الواقعُ بينَ الأُمَّةِ منْ هاتيْنِ الشريعتيْنِ اللَّتَيْنِ نُسِبَتَا إلى الشريعةِ المُنَـزَّلَةِ منْ عندِ اللَّهِ عمداً أوْ خطأً، وإلاَّ فالشريعةُ على وجْهِها خيرٌ محضٌ ومصلحةٌ منْ كلِّ وجهٍ، ورحمةٌ وحكمةٌ ولطفٌ بالمُكَلَّفِينَ، وقيامُ مصالِحِهم بها فوقَ قيامِ مصالحِ أبدانِهم بالطعامِ والشرابِ، فهيَ مُكْمِلَةٌ للفِطَرِ والعقولِ، مُرْشِدةٌ إلى ما يُحبُّهُ اللَّهُ ويرضاهُ، ناهيَةٌ عمَّا يُبغِضُهُ ويَسْخَطُهُ، مستعملةٌ لكلِّ قُوَّةٍ وعضوٍ وحركةٍ في كمالِهِ الذي لا كمالَ لهُ سواهُ، آمرةٌ بمكارمِ الأخلاقِ ومعالِيها، ناهيَةٌ عنْ دنيئِها وسَفْسَافِهَا.

واختصارُ ذلكَ أنَّهُ شَرَعَ استعمالَ كلِّ قوَّةٍ، وكلِّ عضوٍ، وكلِّ حركةٍ في كمالِها. ولا سبيلَ إلى معرفةِ كمالِها على الحقيقةِ إلاَّ بالوحيِ. فكانَت الشرائعُ ضروريَّةً في مصالحِ الخلقِ. وضَرُورَتُها لهُ فوقَ كلِّ ضرورةٍ تُقَدَّرُ.

فهيَ أسبابٌ مُوصِلَةٌ إلى سعادةِ الدَّارَيْنِ، ورأسُ الأسبابِ المُوصِلَةِ إلى حفظِ صِحَّةِ البدنِ وقوَّتِهِ واستفراغِ أخلاطِهِ.

ومَنْ لمْ يتصوَّر الشريعةَ على هذهِ الصورةِ فهوَ منْ أبعدِ الناسِ عنها، وقدْ جعلَ الحكيمُ العليمُ لكلِّ قوَّةٍ من القُوَى، ولكلِّ حاسَّةٍ من الحواسِّ، ولكلِّ عضوٍ من الأعضاءِ، كمالاً حِسِّيًّا وكمالاً معنويًّا، وفَقْدُ كمالِهِ المعنويِّ شرٌّ منْ فقدِ كمالِهِ الحسِّيِّ. فكمالُهُ المعنويُّ بمنـزلةِ الروحِ، والحسِّيُّ بمنـزلةِ الجسمِ. فأعطاهُ كمالَهُ الحسِّيَّ خلقاً وقَدْراً، وأعطاهُ كمالَهُ المعنويَّ شرعاً وأمراً. فبلغَ بذلكَ غايَةَ السعادةِ والانتفاعِ بنفْسِهِ. فلمْ يدَعْ للإحسانِ إليهِ والاعتناءِ بمصالِحِهِ وإرشادِهِ إليها وإعانَتِهِ على تحصيلِها إفراحاً يفرحُهُ ولا شفاءً يطلُبُهُ، بلْ أعطاهُ منْ ذلكَ ما لمْ يَصِلْ إليهِ إفراحُهُ، ولا تُدْرَكُ معرفتُهُ.


ويكفي العاقلَ البصيرَ الحيَّ القلبِ فكرةٌ في فرعٍ واحدٍ منْ فروعِ الأمرِ والنهيِ، وهوَ الصلاةُ وما اشتمَلَتْ علَيْهِ من الْحِكَمِ الباهِرَةِ، والمصالِحِ البَاطِنَةِ والظَّاهِرَةِ، والمنافعِ المتَّصلةِ بالقلبِ والروحِ والبدنِ والقُوَى، التي لو اجتمعَ حكماءُ العالمِ قاطبةً واستفرَغُوا قُوَاهُم وأذْهَانَهُم لمَا أحَاطُوا بتفاصيلِ حِكَمِهَا وأسرارِها، وغاياتِها المحمودةِ، بل انقطَعُوا كلُّهُم دونَ أسرارِ الفاتحةِ، وما فيها من المعارفِ الإلهيَّةِ، والحِكَمِ الربَّانيَّةِ، والعلومِ النافعةِ، والتوحيدِ التامِّ، والثناءِ على اللَّهِ بأصولِ أسمائِهِ وصفاتِهِ، وذكرَ أقسامَ الخليقةِ باعتبارِ غايَاتِهِم ووسائِلِهم. وما في مُقدِّمَاتِها وشُروطِها من الحِكَمِ العجيبةِ منْ تطهيرِ الأعضاءِ والثيابِ والمكانِ، وأخذِ الزينةِ، واستقبالِ بيتِهِ الذي جعَلَهُ إماماً للناسِ، وتفريغِ القلبِ للَّهِ، وإخلاصِ النيَّةِ، واستقبالِ بيتِهِ الذي جعلَهُ إماماً للناسِ، وتفريغِ القلبِ للَّهِ، وإخلاصِ النيَّةِ، وافتتاحِها بكلمةٍ جامعةٍ لمعاني العبودِيَّةِ، دالَّةٍ على أُصُولِ الثناءِ وفُروعِهِ، مُخْرِجَةٍ من القلبِ الالتفاتَ إلى ما سِوَاهُ، والإقبالَ على غيرِهِ، فَيُقَدِّمُ بقلبِهِ الوقوفَ بينَ يدَيْ عظيمٍ جليلٍ أكبرَ منْ كلِّ شيءٍ، وأجلَّ منْ كلِّ شيءٍ بلا سببٍ، في كبريائِهِ السَّماوَاتُ وما أظلَّتْ، والأرضُ وما أقلَّتْ، والعوالِمُ كلُّها، عَنَتْ لهُ الوجوهُ، وخضَعَتْ لهُ الرقابُ، وذلَّتْ لهُ الجبابرةُ، قاهرٌ فوقَ عبادِهِ، ناظرٌ إليهم، عالمٌ بما تُكِنُّ صدورُهم، يسمعُ كلامَهُم/ ويَرَى مكانَهُم لا يخْفَى عليهِ خافيَةٌ منْ أمْرِهم.

ثمَّ أخذَ في تسبيحِهِ وحمدِهِ/ * وذِكْرِهِ تباركَ اسمُهُ وتعالى جَدُّهُ , وتَفَرُّدِهِ بالإلهيَّةِ.


ثمَّ أخذَ في الثناءِ عليهِ بأفضلِ ما يُثْنَى عليهِ بهِ مِنْ حَمْدِهِ وذِكْرِ ربُوبيَّتِهِ للعالمِ وإحسَانِهِ إليهم ورحمتِهِ بهم وتمجيدِهِ بالمَلِكِ الأعظمِ في اليومِ الذي لا يكونُ فيهِ ملكٌ سواهُ حتَّى يجمعَ الأولِينَ والآخرينَ في صعيدٍ واحدٍ ويُدِينَهم بأعمالِهِم.


ثمَّ إفرادِهِ بنوْعَي التوحيدِ؛ توحيدِ رُبُوبيَّتِهِ استعانةً بهِ، وتوحيدِ إلهيَّتِهِ عُبوديَّةً لهُ.


ثمَّ سُؤَالِهِ أفضلَ مسئولٍ وأجلَّ مطلوبٍ على الإطلاقِ وهوَ هدايَةُ الصراطِ المستقيمِ الذي نصَبَهُ لأنبيائِهِ ورُسُلِهِ وأتباعِهِم , وجعلَهُ صراطاً مُوصِلاً لمَنْ سلَكَهُ إليهِ وإلى جنَّتِهِ، وأنَّهُ صراطُ مَن اختصَّهُم بنعمَتِهِ بأنْ عرَّفَهُم الحقَّ وجعلَهُم مُتَّبِعِينَ لهُ، دونَ صراطِ أُمَّةِ الغضبِ الذينَ عرَفُوا الحقَّ ولمْ يتَّبِعُوهُ، وأهلِ الضلالِ الذينَ ضلُّوا عنْ معرفتِهِ واتِّبَاعِهِ.


فتضمَّنَتْ تعريفَ الربِّ، والطريقَ المُوصِلَ إليهِ، والغايَةَ بعدَ الوصولِ.

وتضمَّنَت الثناءَ والدعاءَ، وأشرفَ الغاياتِ وهيَ العبودِيَّةُ، وأقربَ الوسائلِ إليها وهيَ الاستعانةُ، مُقَدِّماً فيها الغايَةَ على الوسيلةِ، والمعبودَ المستعانَ على الفعلِ، إيذاناً لاختصاصِهِ، وأنَّ ذلكَ لا يَصْلُحُ إلاَّ لهُ سُبحانَهُ.

وتضمَّنَتْ ذكرَ الإلهيَّةِ والربوبيَّةِ والرحمةِ، فيُثْنَى عليهِ ويُعبدُ بإلهيَّتِهِ، ويخلُقُ ويرزقُ ويميتُ ويُحْيِي ويُدَبِّرُ الملكَ ويُضِلُّ مَنْ يَسْتَحِقُّ الإضلالَ ويغْضَبُ على مَنْ يَسْتَحِقُّ الغضبَ بربوبيَّتِهِ وحكمتِهِ، ويُنْعِمُ ويرحمُ ويجودُ ويعفُو ويغفرُ ويهْدِي ويتوبُ برحمَتِهِ.

فلِلَّهِ كمْ في هذهِ السورةِ منْ أنواعِ المعارفِ والعلومِ والتوحيدِ، وحقائقِ الإيمانِ!!

ثمَّ يأخذُ بعدَ ذلكَ في تلاوةِ ربيعِ القلوبِ، وشفاءِ الصدورِ، ونورِ البصائرِ، وحياةِ الأرواحِ، وهوَ كلامُ ربِّ العالمينَ، فيَحِلُّ بهِ في ما شاءَ منْ روضاتٍ مُونِقَاتٍ، وحدائقَ مُعْجِبَاتٍ، زاهيَةٍ أزهارُها، مُونَّقَةٍ ثمارُها، قدْ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تذليلاً، وسُهِّلَتْ لمُتناوِلِها تسهيلاً، فهوَ يجتنِي منْ تلكَ الثمارِ خيراً يُؤْمَرُ بهِ، وشرًّا يُنْهَى عنهُ، وحكمةً وموعظةً، وتبصرةً وتذكرةً وعبرةً، وتقريراً لحقٍّ، ودَحْضاً لباطلٍ، وإزالةً لشبهةٍ، وجواباً عنْ مسألةٍ، وإيضاحاً لمُشْكِلٍ، وترغيباً في أسبابِ فلاحٍ وسعادةٍ، وتحذيراً منْ أسبابِ خُسْرَانٍ وشقاوةٍ، ودعوةً إلى هُدًى، وردًّا عنْ رَدًى *، فتنـزلُ على القلوبِ نـزولَ الغيثِ على الأرضِ التي لا حياةَ لها بدُونِهِ، ويحلُّ منها محلَّ الأرواحِ منْ أبدَانِها؛ فأيُّ نعيمٍ وقُرَّةِ عَيْنٍ، ولذَّةِ قلبٍ، وابتهاجٍ وسرورٍ، لا يحصلُ لهُ في هذهِ المناجاةِ؟! والربُّ تعالى يسْمَعُ لكلامِهِ، جارياً على لسانِ عبدِهِ ويقولُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَمَجَّدَنِي عبدِي.

ثمَّ يعُودُ إلى تكبيرِ ربِّهِ عزَّ وجلَّ فيَجِدُ رَبَّهُ عَهِد التذكرةَ كونَهُ أكبرَ منْ كلِّ شيءٍ بحقِّ عبوديَّتِهِ وما ينبغي أنْ يُعَاملَ بهِ.

ثمَّ يرجعُ جاثياً لهُ ظهرَهُ خضوعاً لعظمَتِهِ وتذلُّلاً لعِزَّتِهِ واستكانةً لجبروتِهِ مُسَبِّحاً لهُ بذكْرِ اسمِهِ العظيمِ. فنَـزَّهَ عظمتَهُ عنْ حالِ العبدِ وذُلِّهِ وخُضُوعِهِ، وقابلَ تلكَ العظمةَ بهذا الذلِّ والانحناءِ والخضوعِ، وقدْ تطَامَنَ وطَأْطَأَ رأْسَهُ وطَوَى ظهْرَهُ، ورَبُّهُ فوقَهُ يرى خُضُوعَهُ وذلَّهُ، ويسمعُ كلامَهُ، فهوَ ركنُ تعظيمٍ وإجلالٍ كما قالَ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: ((أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ)) ( ).

ثمَّ عادَ إلى حالِهِ من القيامِ حامداً لربِّهِ مُثْنِياً عليهِ بأكملِ محامِدِهِ وأجمَعِها وأعمِّها، مُثْنِياً عليهِ بأنَّهُ أهلُ الثناءِ والمجدِ، مُعْتَرِفاً بعبوديَّتِهِ، شاهداً بتوحيدِهِ وأنَّهُ لا مانعَ لما أعْطَى ولا مُعْطِيَ لما منعَ، وأنَّهُ لا ينفعُ أصحابَ الجدودِ والأموالِ والحظوظِ جُدُودُهُم عندَهُ، ولوْ عظُمَتْ.

ثمَّ يعودُ إلى تكبيرِهِ ويَخِرُّ لهُ ساجداً على أشرفِ ما فيهِ وهوَ الوجهُ فيُعَفِّرُهُ في الترابِ ذُلاًّ بينَ يدَيْهِ ومَسْكَنَةً وانكساراً، وقدْ أخذَ كلُّ عُضوٍ من البدنِ حظَّهُ منْ هذا الخضوعِ حتَّى أطرافِ الأناملِ ورؤُوسِ الأصابعِ. ونَدَبَ لهُ أنْ يسجدَ معَهُ ثيابُهُ وشعرُهُ فلا يكُفُّهُ، وأنْ يكونَ بعضُهُ محمولاً على بعضٍ، وأنْ يتأثَّرَ الترابُ بجبهَتِهِ، وينالَ قِبَلَ وِجْهَةِ المصلِّي، ويكونَ رأْسُهُ أسفلَ ما فيهِ تكميلاً للخضوعِ والتذليلِ لمَنْ لهُ العِزُّ كلُّهُ والعظمةُ كلُّها. وهذا أيْسَرُ منْ حقِّهِ على عبدِهِ. فلوْ دامَ كذلكَ منْ حينَ خُلِقَ إلى أنْ يموتَ لما أدَّى حقَّ ربِّهِ عليهِ.

ثمَّ أُمِرَ أنْ يُسَبِّحَ ربَّهُ الأعلى فيَذْكُرَ علوَّهُ سُبحانَهُ في حالةِ سُفُولِهِ هوَ، ويُنَـزِّهَهُ عنْ مثلِ هذهِ الحالِ. وإنَّ مَنْ هوَ فوقَ كلِّ شيءٍ، وعالٍ على كلِّ شيءٍ يُنَـزَّهُ عن السُّفُولِ بكلِّ معنًى، بلْ هوَ الأعلى بكلِّ معنًى منْ معاني العلوِّ.

ولمَّا كانَ هذا غايَةَ ذُلِّ العبدِ وخضوعِهِ وانكسارِهِ كانَ أقربَ ما يكونُ الربُّ منهُ في هذهِ الحالِ.

فأُمِرَ أنْ يجتهدَ في الدعاءِ لقُرْبِهِ من القريبِ المجيبِ وقدْ قالَ تعالى: [العلق: 19]، وكأنَّ الركوعَ كالمُقَدِّمَةِ بينَ يدَي السجودِ والتوطئةِ لهُ، فينتقلُ منْ خضوعٍ إلى خضوعٍ أكملَ وأتمَّ منهُ وأرفعَ شأناً. وفصلَ بينَهما بركنٍ مقصودٍ في نفسِهِ يجتهدُ فيهِ بالحمدِ والثناءِ والتمجيدِ، وجُعِلَ بينَ خضوعٍ قبلَهُ، وخضوعٍ بعدَهُ. وجُعِلَ خضوعُ السجودِ بعدَ الحمدِ والثناءِ والمجدِ، كما جُعِلَ خضوعُ الركوعِ بعدَ ذلكَ.

فتأمَّلْ هذا الترتيبَ العجيبَ، وهذا التنقُّلَ في مراتبِ العبوديَّةِ، كيفَ ينتقلُ منْ مقامِ الثناءِ على الربِّ بأحسنِ أوصافِهِ وأسمائِهِ وأكملِ محامدِهِ إلى مَنْ لهُ خضوعُهُ وتذلُّلُهُ أنَّ لهُ هذا الثناءَ. ويستصحبُ في مقامِهِ خضوعَهُ بما يُنَاسِبُ ذلكَ المقامَ ويليقُ بهِ، فيذكرُ عظمةَ الربِّ في حالِ خضُوعِهِ، وعُلُوَّهُ في حالِ سُفُولِهِ.

ولمَّا كانَ أشرفَ أذكارِ الصلاةِ القرآنُ شُرِعَ في أشرفِ أحوالِ الإنسانِ وهيَ هيئةُ القيامِ التي قد انتصبَ فيها قائماً على أحسنِ هيئةٍ.

ولمَّا كانَ أفضلَ أركانِها الفعليَّةِ السجودُ شُرِعَ فيها بوصفِ التكرارِ، وجُعِلَ خاتمةَ الركعةِ وغايتَها التي انتَهَتْ إليها مطابقَ افتتاحِ الركعةِ بالقرآنِ، واختتامِها بالسجودِ أوَّلَ سورةٍ افتتحَ بها الوحيُ فإنَّها بُدِئَتْ بالقراءةِ وخُتِمَتْ بالسجودِ.

وشُرِعَ لهُ بينَ هذيْنِ الخضوعَيْنِ أنْ يجلسَ جِلْسةَ العبيدِ، ويسألَ ربَّهُ أنْ يغفرَ لهُ ويرحمَهُ ويرزقَهُ ويهدِيَهُ ويُعَافِيَهُ. وهذهِ الدعواتُ تَجْمَعُ لهُ خيرَ دُنياهُ وآخرتِهِ.

ثمَّ شُرِعَ لهُ تَكرارُ هذهِ الركعةِ مرَّةً بعدَ مرَّةٍ، كما شُرِعَ تكرارُ الأذكارِ والدعواتِ مرَّةً بعدَ مرَّةٍ، ليَسْتَعِدَّ بالأوَّلِ لتكميلِ ما بعدَهُ، ويَجبُرَ بما بعدَهُ ما قبلَهُ، وليُشْبِعَ القلبَ منْ هذا الغذاءِ، وليَأْخُذَ زادَهُ ونصيبَهُ وافراً من الدواءِ ليُقَاوِمَهُ؛ فإنَّ منـزلةَ الصلاةِ من القلبِ منـزلةَُ الغذاءِ والدواءِ. فإذا تناولَ الجائعُ الشديدُ الجوعِ من اللقمةِ أو اللُّقمتيْنِ كانَ غناؤُها عنهُ وسدُّها منْ جُوعِهِ يسيراً جدًّا. وكذلكَ المرضُ الذي يحتاجُ إلى قدرٍ يُغْنِي من الدواءِ، إذا أخذَ منهُ المريضُ قيراطاً منْ ذلكَ لمْ يُزِلْ مرَضَهُ بالكُلِّيَّةِ وأزالَ بحَسَبِهِ. فما حصلَ الغذاءُ أو الشفاءُ للقلبِ بمثلِ الصلاةِ، وهيَ لصحَّتِهِ ودوائِهِ بمنـزلةِ غذاءِ البدنِ ودوائِهِ.

ثمَّ لمَّا أكملَ صلاتَهُ شُرِعَ لهُ أنْ يقْعُدَ قِعْدَةَ العبدِ الذليلِ المسكينِ لسيِّدِهِ، ويُثنيَ عليهِ بأفضلِ التحيَّاتِ ويُسلِّمَ على مَنْ جاءَ بهذا الحظِّ الجزيلِ ومَنْ نالَتْهُ الأمَّةُ على يدَيْهِ، ثمَّ يُسَلِّمَ على نفْسِهِ وعلى سائرِ عبادِ اللَّهِ المشاركينَ لهُ في هذهِ العبودِيَّةِ، ثمَّ يتشهَّدَ شهادةَ الحقِّ، ثمَّ يعودَ فيُصَلِّيَ على مَنْ عَلَّمَ الأمَّةَ هذا الخيرَ ودلَّهُم عليهِ. ثمَّ شُرِعَ لهُ أنْ يسألَ حوائِجَهُ ويدْعُوَ بما أحبَّ ما دامَ بينَ يدَيْ ربِّهِ مُقْبلاً عليهِ. فإذا قضى ذلكَ أُذِنَ لهُ في الخروجِ منها بالتسليمِ على المشاركينَ لهُ في الصلاةِ.

هذا إلى ما تضمَّنَتْهُ الأحوالُ والمعارفُ منْ أوَّلِ المقاماتِ إلى آخرِها، فلا تجدُ منـزلةً منْ منازلِ السيرِ إلى اللَّهِ، ولا مقاماً منْ مقاماتِ العارفينَ إلاَّ وهوَ في ضمنِ الصلاةِ. وهذا الذي ذكرْنَاهُ منْ شَأْنِها كقطرةٍ منْ بحرٍ.

فكيفَ يُقالُ: إنَّها تكليفٌ محضٌ لمْ يُشْرَعْ لحكمةٍ ولا لغايَةٍ قصَدَها الشارعُ، بلْ هيَ محضُ كُلْفَةٍ ومشقَّةٍ مستندةٌ إلى محضِ المشيئةِ، لا لغرضٍ ولا لفائدةٍ البتَّةَ، بلْ مجرَّدُ قهرٍ وتكليفٍ وليْسَتْ سبباً لشيءٍ منْ مصالحِ الدنيا والآخرةِ؟!

ثمَّ تأمَّلْ أبوابَ الشريعةِ ووسائِلَها وغاياتِها كيفَ تجدُها مشحونةً بالحِكَمِ المقصودةِ، والغاياتِ الحميدةِ التي شُرِعَتْ لأجلِها التي لَوْلاها لكانَ الناسُ كالبهائمِ بلْ أسوأَ حالاً. فكَمْ في الطهارةِ منْ حكمةٍ ومنفعةٍ للقلبِ والبدنِ، وتفريحٍ للقلبِ، وتنشيطِ الجوارحِ، وتخفيفٍ منْ أحمالِ ما أوْجَبَتْهُ الطبيعةُ وألْقَاهُ عن النفسِ منْ دُونِ المخالفاتِ، فهيَ مُنَظِّفَةٌ للقلبِ والروحِ والبدنِ، وفي غُسْلِ الجنابةِ منْ زيادةِ النُّعُومةِ والإخلافِ على البدنِ نظيرُ ما تحلَّلَ منهُ بالجنابةِ ما هوَ منْ أنفعِ الأمورِ.

وتأمَّلْ كونَ الوضوءِ في الأطرافِ التي هيَ محلُّ الكسبِ والعملِ. فجُعِلَ في الوجهِ الذي فيهِ السمعُ والبصرُ والكلامُ والشمُّ والذوقُ. وهذهِ الأبوابُ هيَ أبوابُ المعاصي والذنوبِ كلِّها؛ منها يدخلُ إليها. ثمَّ جُعِلَ في اليدَيْنِ وهُمَا طرَفَاهُ وجَنَاحَاهُ اللَّذَانِ بهما يَبْطِشُ ويأخذُ ويُعْطِي. ثمَّ في الرجلَيْنِ اللَّتَيْنِ بهما يمشي ويسْعَى. ولمَّا كانَ غَسْلُ الرأسِ ممَّا فيهِ أعظمَ حرجٍ ومشقَّةٍ جعلَ مكانَهُ المَسْحَ وجعلَ ذلكَ مُخْرِجاً للخطايا منْ هذهِ المواضعِ حتَّى يخْرُجَ منْ قَطْرِ الماءِ منْ شعْرِهِ وبشَرِهِ. كما ثبتَ عن النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ منْ حديثِ أبي هريرةَ قالَ: ((إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ أَوِ الْمُؤْمِنُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنِهِ مَعَ الْمَاءِ، أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ. فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَتْ تَبْطِشُهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ. فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ)) رواهُ مسلمٌ ( ).


وفي صحيحِ مسلمٍ أيضاً عنْ عثمانَ بنِ عفَّانَ قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: ((مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ)) ( ).
فهذا منْ أجَلِّ حِكَمِ الوضوءِ وفوَائِدِهِ.

وقالَ نُفَاةُ الحكمةِ: إنَّهُ تكليفٌ ومشقَّةٌ وعناءٌ محضٌ لا مصلحةَ فيهِ ولا حكمةَ شُرِعَ لأجلِها. ولوْ لمْ يكُنْ في مصلحَتِهِ وحكمتِهِ إلاَّ أنَّهُ سِيمَاءُ هذهِ الأمَّةِ وعلامتُهم في وجوهِهم وأطرافِهم يومَ القيامةِ بينَ الأُمَمِ ليْسَتْ لأحدٍ غيرِهِمْ، ولوْ لمْ يكُنْ فيهِ من المصلحةِ والحكمةِ إلاَّ أنَّ المتوضِّئَ يُطَهِّرُ يدَيْهِ بالماءِ وقلْبَهُ بالتوبةِ ليسْتَعِدَّ للدخولِ على ربِّهِ ومُنَاجاتِهِ والوقوفِ بينَ يدَيْهِ طاهرَ البدنِ والثوبِ والقلبِ، فأيُّ حكمةٍ ورحمةٍ ومصلحةٍ فوقَ هذا؟!

ولمَّا كانَت الشهوةُ تجْرِي في جميعِ البدنِ حتَّى إنَّ تحتَ كلِّ شعرةٍ شهوةً سَرَى غُسْلُ الجنابةِ إلى حيثُ سَرَت الشهوةُ كما قالَ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: ((إِنَّ تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةً)) ( ).

فأُمِرَ أنْ يُوصِلَ الماءَ إلى أصلِ كلِّ شعرةٍ فَيُبَرِّدَ حرارةَ الشهوةِ، فتسكنَ النفسُ وتطمئنَّ إلى ذكرِ اللَّهِ، وتلاوةِ كلامِهِ، والوقوفِ بينَ يدَيْهِ.

فواللَّهِ لوْ أنَّ أبُقْرَاطَ ومَنْ دُونَهُ أَوْصَوْا بمثلِ هذا لخَضَعَ أتباعُهم لهم فيهِ، وعظَّمُوهُم عليهِ غايَةَ التعظيمِ، وأبْدَوْا لهُ من الحكمِ والفوائدِ ما قَدَرُوا عليهِ.

ثمَّ لمَّا كانَ العبدُ خارجَ الصلاةِ مُهْمِلَ جوارِحِهِ قدْ أسَامها في مَرَاتِعِ الشهواتِ والحظوظِ أَمَرَّ العبوديَّةَ * * بجميعِ جوارحِهِ كلِّها على ربِّهِ وتأخُذُ بحظِّها منْ عبوديَّتِهِ، فيسلمُ قلبُهُ وبدنُهُ وجوارحُهُ وحواسُّهُ وقُوَاهُ لربِّهِ عزَّ وجلَّ، واقفاً بينَ يدَيْهِ مُقْبِلاً بكُلِّهِ عليهِ، مُعْرِضاً عمَّنْ سِوَاهُ، مُتَنَصِّلاً منْ إعراضِهِ عنهُ وجنايتِهِ على حَقِّهِ.

ولمَّا كانَ هذا طبعَهُ وذَاتَهُ أُمِرَ أنْ يُجَدِّدَ هذا الركوعَ إليهِ والإقبالَ عليهِ وَقْتاً بعدَ وقتٍ؛ لِئَلاَّ يطولَ عليهِ الأمدُ، فَيَنْسَى ربَّهُ وينقطعَ عنهُ بالكُلِّيَّةِ. وكانت الصلاةُ منْ أعظمِ نِعَمِ اللَّهِ عليهِ، وأفضلِ هدَايَاهُ التي ساقَها إليهِ. فأَبَى نفاةُ الحكمةِ إلاَّ جعْلَها كُلْفَةً وعناءً وتَعَباً لا لحكمةٍ ولا لمصلحةٍ البتَّةَ إلاَّ مجرَّدَ القهرِ والمشيئةِ.

وقدْ فُتِحَ لكَ البابُ، فَسُقِ الشريعةَ كلَّها منْ أوَّلِها إلى آخِرِها هذا المَسَاقَ، واستَدِلَّ بما ظهرَ لكَ على ما خَفِيَ عنكَ. ولعلَّ الحكمةَ فيما لمْ تَعْلَمْهُ أعظمُ منها فيما عَلِمْتَهُ؛ فإنَّ الذي عَلِمْتَهُ على قدْرِ عقلِكَ وفهمِكَ، وما خَفِيَ عنكَ فهوَ فوقَ عقلِكَ وفهمِكَ. ولوْ تتبَّعْنَا تفصيلَ ذلكَ لَجاءَ عدَّةَ أسفارٍ فيُكْتَفَى منهُ بأدْنَى بيِّنَةٍ. واللَّهُ المستعانُ)( ).
(منقول : للشيخ :عبدالعزيز الداخل)