المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قول الشيخ الألباني في التفريق بين المتقدمين والمتأخرين.



أبو عمير
04-25-2008, 01:23 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ظهر مؤخرا جدل حول مسألة التفريق بين منهج العلماء المتقدمين وبين العلماء المتأخرين في الحديث، وصارت فئة جديدة من طلبة العلم تقسم علماء الحديث إلى متقدمين ومتأخرين، وجعلت الدارقطني آخر المتقدمين، وصارت لا تأخذ إلا بقول المتقدمين وتنبذ المتأخرين ولا تلتفت إليهم !!

وكان من آثار هذا المذهب الجديد توسع كبير في التضعيف وإسقاط الأحاديث، حتى صار لا يسلم لبعضهم كم كبير من أحاديث الصحيحين !!

وفيما يلي بعض الأقوال لمحدث العصر الشيخ الألباني وبعض العلماء في هذا الأمر.

من شريط 636 من سلسلة الهدى والنور:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

* فضيلة الشيخ، نشأ منهجٌ جديد، أو شاع واشتهر بين بعض طلاب العلم وهناك من يتزعم هذا المنهج، وله مريدين وطلاب، وهذا المنهج خلاصته: أن هناك فرقًا بين منهج المحدثين الأقدمين ومنهج المحدثين المتأخرين، ويفصلون بين المتقدمين والمتأخرين بالدارقطني رحمه الله, فمن عند الدارقطني إلى الآن لا يقبلون كلام أي محدِّث أو أي مشتغلٍ بعلم الحديث، بما في ذلك الخطيب البغدادي والذهبي والحافظ ابن حجر وغيرهم، إلى أن يصلوا إلى شيخنا حفظه الله، ويزعمون أن هؤلاء المتأخرين لهم قواعد مخالفة لقواعد المتقدمي،ن وبناءً عليه فهم لا يقبلون أي حكم من هذا الصنف الذي ذكرناه، فنريد إجابةً مفصَّلةً موضَّحةً ليستبين الأمر، وجزاكم الله كل خيرٍ .
* الشيخ: قبل أن أجيب بما يحضرن،ي أريد أن أُلْفِتَ النظر إلى أمرين اثنين:
أولهما وأَوْلاهما: ما هي حجتهم في هذا التفريق ؟ الذي أراه أنه مجرد فرض نظرية لا يقوم عليها دليل لا شرعي ولا عقلي، فهل هم يقدِّمون هذه النظرية مجردة كدعوى مجردة عن أي دليل وبرهان، أم هم - ولو على زعمهم - يأتون بدليل أو برهان، إن كان لديهم شيء من ذلك فأنا أعتقد أن من تمام السؤال عرض ذاك الدليل أو البرهان المزعوم لنناقشه، لأنك تعلم، وجميع الحاضرين يعلمون قول ذلك العالم الشاعر:
والدعاوي ما لم تقيموا عليها بيناتٍ * أبـــناؤهــا أدعيـــاءُ
وكل إنسان يستطيع أن يتكلم بما يبدو له سواء كان عن رأيٍ واجتهادٍ مخلص فيه أو عن هوى متبع، هذا هو الشيء الأول. والشيء الآخر الذي يليه هل هذا الذي ظهر بهذه الدعوى بعد هذه القرون الطويلة التي اتفق علماء المسلمين على الاستفادة من جهود العلماء العاملين في مجال هذا العلم خالفوهم، سواء -كما قلت - برأيٍ أخطئوا فيه أو بهوًى اتبعوه . أقول هذا الذي ظهر بهذا الرأي، في ظنِّي إنه ليس شيخًا لا لغةً ولا علمًا، وإنما هو من هؤلاء الشباب الناشئين الذين عَرفوا شيئًا من علم الحديث ومن مصطلح علماء الحديث، نظريًّا ولم يطبقوه عمليًّا، هذا .. إذن هنا الأمر الأول والأهم، إن كانوا يذكرون برهانًا فنريد أن نسمعه، بعد ذلك أُدلي بما عندي كجواب عن هذا السؤال. والشيء الثاني: هل رأيي صواب .. وهو نابع من تجربتي الخاصَّة: إن هذا الذي تبنى هذا الرأي وكتَّل طلابًا حوله .. طبعًا هؤلاء الطلاب - شأن كل طلاب الدنيا - حينما يبتلون بداعيةٍ، سواء كان على حق أو على باطل، على صواب أم على خطأ، هم يتبعون هذا الداعية .. فهل كان ظني في محله ؟ إنه ليس شيخًا لا لغةً ولا اصطلاحًا، أكذلك ؟
* أمَّا عن الأمر الأول، وهو حجة هؤلاء، الحقيقة: هم لا يذكرون حججًا واضحة، إنما يعني أكثر زعمهم أو أكثر حجة عندهم أنهم يقولون: منهجنا قام على استقراء علم الأولين وكلامهم، أو المتقدمي،ن هذه هي حجتهم .
* الشيخ: هذه - بارك الله - فيك لا تخرج عن كونها دعوى، ونحن نؤيد الكلام السابق:
والدعاوي ما لم تقيموا عليها بيناتٍ* أبـــناؤهــا أدعيـــاءُ
طيب الأمر الثاني .
* وهي -كما تفضلتم - هي فعلاً دعوى، وأحد الذين تأثروا بهذا المنهج ذهب ليتعلم واقتنع بهذا المنهج فترة، ثم بُيِّن له الأمر، فقلنا: سله سؤالاً واحدًا: من معه على هذا المنهج ؟ جلس الرجل عنده فترة، ثم سأله هذا السؤال فقال: معي كثير من أهل العلم، قال: سمِّ لنا واحدًا، فلم يسمِّ أحدًا، ثم عاد فقال: هذه القواعد أنا ما أحضرتها من عندي، إنما هي باستقراء كتب هؤلاء الأئمة، قال: نحن نريد أسماء، قال: معي هؤلاء الذين تراهم الآن في هذا الدرس. فقال: هؤلاء لا يوجد فيهم ولا عالم واحد، ثم انصرف عنه، فلو كان عنده حجة لأظهرها، لأن هذا ___
* مثل المشجعين يعني .. مثل المشجعين لعبة الكرة .
* أما ما تفضلتم به في الشق الثاني فهو في محله. وهو الصواب .
* الشيخ: أن أعود لأقول .. الحقيقة أن هذا الذي أنت تشير إليه هو لم يفهم لا مذهب المتقدمين ولا مذهب المتأخرين، هو -لو قدِّر لي اللقاء به - لكنت أسأله: مذهب المتقدمين حدَّدتَّه بآخرهم، الدارقطني، أما من جاء بعد الدارقطني فلا يؤبه لرأيه واجتهاده وتصحيحه وتضعيفه، سأقول له: ما قبل الدارقطني .. هل اتفقوا على كل شيء أم اختلفوا ؟ أظن أنه إذا كان على علمٍ، وله من هذا العلم - الذي هو علم نظري وليس بعملي - فسيكون جوابه: إنهم قد اختلفوا، طيب، فحينما يختلفون في مسألة ما .. ولنضرب على ذلك مثلاً: الخلاف بين الإمامين الكبيرين البخاري من جهة ومسلم من جهة، وهؤلاء طبعًا في قائمة القدامى الذين يحتج برأيهم وباجتهادهم .. لا إله إلا الله .. فالإمام البخاري - كما يعلم طلاب هذا العلم - لا يثبت عنه اللقاء من التلميذ للشيخ بمجرد أن يروي عنه وكان معاصرًا له إلا بأن يثبت عنده لقاؤه إياه. هذا رأي البخاري .. الإمام مسلم يرى أن هذا التلميذ الذي يروي عن شيخه معاصرًا له ولم يُعرَف بالتدليس فالمعاصرة في هذه الحالة كافية لإثبات الاتصال، ما موقف هذا الرجل الذي يدعي هذه الدعوى، التي:
- أولاً لم يسبق إليها فهو خالف سبيل المؤمنين، وحسبه حجةً عليه ؟
- وثانيًا ماذا يفعل بين هذين الرأيين ؟ لابد له أن يتخذ رأيًا.
فما فائدة - حينئذٍ - هذا التقسيم المبتدع بين مذهب المتقدمين ومذهب المتأخرين، ما دام في المتقدمين يوجد اختلاف وجهة نظر، فمن الحكم الفصل في الموضوع حينذاك، أليس الرجوع إلى الدليل الذي يقتنع به هذا الإنسان ؟ ظني أنه - إن كان على شيء من فهم ووعيٍ وإنصافٍ أيضًا - أنه سيقول: لابد من تحكيم الدليل في ترجيح أحد القولين على الآخر، إذا الأمر كذلك، أي: إنه لابد من الرجوع إلى الدليل في ما اختلف فيه الناس، سواء كان الاختلاف قديمًا أو حديثًا، أو كان الاختلاف بين القديم وبين الحديث، فلابد -والحالةُ هذه - من الرجوع إلى الدليل, فإذا افترضنا أن الخطيب البغدادي -الذي يعتبر من المحدَثِين - خالف الدارقطني الذي يعتبر من المتقدمين، فهل يكفي أن نقول هذا متقدم فقوله أرجح من هذا لأنه متأخر ؟!!! هذا لا يوجد له وجه في العلم إطلاقًا، لمجرد كونه هذا متقدم وهذا متأخر، والرسول عليه السلام يقول في الحديث الصحيح كما تعلمون جميعًا: "فرب مبلَّغٍ أوعى له من سامع" ، فالمبلَّغ بلا شك في هذا الحديث متأخِّر، والثاني هو الصحابي المتقدم، فرب مبلغٍ أوعى له من سامع، فربَّ رأي من مثل الخطيب يكون أرجح في النقد العلمي من رأي الدارقطني، فإذن باختصار أقول: لأن هذا البحث –الحقيقة - لوضوح بطلانه ولعدم إشغال الفكر مطلقًا طيلة هذه الحياة التي قضيناها في خدمة هذا العلم، ما فكَّرنا أن نحصر ذهننا يومًا ما لكي نجمع الأدلة التي تبطل رأي هذا المدعي، لكننا نكتفي بمثل هذا الذي قدمناه، وخلاصة ذلك: أنه خالف سبيل المؤمنين، وأن فيه إهدار لجهود العلماء الذين ذكرتهم عنه، كالحافظ ابن حجر العسقلاني، الذي بحق لقِّب بأمير المؤمنين في الحديث، وكم ترك الأول للآخر، فكيف هذا التصنيف .. أن المتقدم يؤخذ رأيه دون نظر إلى حجته وبرهانه، ويقدَّم على قول المتأخر، ولو كان الدليل قائمًا على صحة رأيه، لنفترض أن الدارقطني علل حديثًا رواه بإسناد فيه رجل قال بعض المتقدمين فيه " مجهول "، فهو بناءً على هذا القول وصرَّح بأنه مجهول صار الحديث عنده ضعيفًا، لكن هناك رواية عن بعض الأئمة المتقدمين في توثيق هذا الرجل المجهول، أخذ به المتأخِّرين، فليكن هو الخطيب البغدادي أو من جاء بعده، ومن آخرهم أمير المؤمنين كما قلنا الحافظ ابن حجر العسقلاني، تبنَّى رأي من وثَّق هذا المجهول عند الدارقطني، وبناء على ذلك صحح الحديث، ماذا يكون موقف هذا الرجل المدعي لهذه الدعوى التي هي من أبطل ما يُسْمع في هذا الزمان، زمان العجائب، وزمان حبّ الظهور، وكما نقول مرارًا وتكرارًا: حبّ الظهور يقطع الظهور.
هذا ما يحضرني الآن من الجواب عن هذا السؤال . إذا كان عندك شيء آخر، تفضَّل .
* نذكر مثالاً واحدًا مما يدندنون حوله في الخلاف بين منهج المتقدمين والمتأخرين: ألا وهو التدليس، ويحتجون بالمثال الشائع والمشهور حديث أبي الزبير عن جابر .. للمرمى المقصود .. بحديث صحيح مسلم .. يقولون: لا يوجد من المتقدمين من أعلَّ حديث النبي صلى الله عليه وسلم بالتدليس، ولكن المتأخرين هم الذين أتوا بهذه البدعة، وهم الذين أعلوا الأحاديث بهذا التدليس، فما هو ردكم على هذا بارك الله فيك ؟
* الشيخ: طيب الحقيقة ينبغي أن نعرف هل التدليس - كعلة من علل الحديث - هل هو من آراء المتأخرين فقط أم هو من آراء المتقدمين أيضًا ؟
* لا، - على قولهم هو من آراء المتأخرين - ، ولذلك هم يقولون: المدلس، كل حديثه صحيح، إلا ما يثبت أنه دلس، يعني ..كأن يأتينا إسناد -مثلاً - من طريق محمد بن إسحاق، يروي هذا الإسناد .. معنعنا، نحن نحكم بصحة هذا الإسناد، إلا إن جاءنا طريق آخر تبينت فيه الواسطة بين محمد بن إسحاق وشيخه عندئذٍ نُعِلَّ هذا الحديث .
* الشيخ: والله من أصعب الأمور التفاهم مع الجُهَّال المدِّعين للعلم. هل يقولون أو هل يعلمون بأن محمد بن إسحاق صاحب السيرة هو فعلاً كان يدلس ؟ أي كان يروي عن بعض شيوخه ما لم يسمع منهم، هل يعلمون هذه الحقيقة أم لا ؟
* لا أدري .. لكن ___ .
* الشيخ: هذه المشكلة، لذلك التفاهم مع شخص بعيد عنك صعب جدًّا، لأنك لو خاطبته وجهًا لوجهٍ لثبت جهله في المجلس آنيًا، نحن سنقول له: الذين أثبتوا تدليس محمد بن إسحاق، وهو روايته عن بعض شيوخه ما لم يسمع منه هم المتقدمون، فإذا ثبتت هذه الحقيقة فكيف أنت لا تفرق بين ما يقول " عن نافع " لأن نافع فعلاً من شيوخه، كيف لا تفرق بين الرواية التي يقول فيها " حدثني نافع " وبين الرواية التي يقول فيها " عن نافع " ؟ وهو له روايات عن نافع لم يسمعها منه؛ هل يجوز الحكم بالظنِّ المرجوح في الشريعة الإسلامية، ومن ذلك في نسبة حديث إلى الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي ستبنى عليه أحكام كثيرة وكثيرة جدًّا ؟! أنا في اعتقادي أنهم - كما قلت لك، وأزيد على ما قلتُ آنفًا - إنهم درسوا المصطلح نظريًّا .. لكن .. لا .. حتى نظريًّا ما درسوه، لأنهم لو درسوه لوقفوا عند هذه، أو عند هذا المثال، ولتبين لهم أن إعلال الحديث برجل من عادته أن يروي عمن لقيه ما لم يسمع منه، فإذن في هذه الحالة لابد من التثبت من كونه سمع هذه الرواية عنه أو لم يسمعها, ويكفي أيضًا برهانا آخر: أن هؤلاء يُسَوُّون بين الحريصين على عدم التدليس وبين أولئك الذين يدلسون، فيُسَوُّون حديث هؤلاء بحديث هؤلاء، وهذا ظلم، وهذا خلاف " أنزلوا الناس منازلهم "، ولو أنَّ في هذا الحديث شيء من الضعف، لكن معناه صحيحا, فهل يستوي الإمام الذي لا يحدِّث إلا بما سمع مع آخر يحدث عمن لم يسمع ؟! كالحسن البصري مثلاً .. و.. كثير، الآن أذكر مثالاً آخر، وهذا في الواقع يجعلني أقدِّم عذرًا لعدم جمع الأدلة لتحطيم هذا الرأي، فالحسن البصري أظن يعاملونه على هذه القاعدة المنحرفة .
* نعم .
* الشيخ: الحسن البصري هو يعترف في بعض روايته أنه يروي أشياء لم يسمعها من الصحابي، إنما سمعها من غيره، هذه مصرحة في ترجمة الرجل، لكن أنا أريد أن أذكر مثالاً، حديثٌ كنت ذكرته في السلسة الضعيفة في تفسير قوله تعالى: ( فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا...) الآية في ظاهرها مشكلة، لأنها - كما يعلم الجميع إن شاء الله - لأنها تعني الأبوين الكريمين آدم وحوَّاء، ( فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا...) يعني - بادئ ذي بدء كما يقال - النفس المؤمنة المطمئنَّة لا تقبل نسبة أي شرك إلى آدم وحواء؛ آدم نبيّ وهي زوجه .. تمام الحديث أن الشرك الذي أُشِيرَ إليه في هذه الآية هو أن حواء عليها السلام كانت كلما حملت أسقطت، فجاء الشيطان وأوحى إليها أن سميه الحارث .. أيش .. الحارث .. فسمته الحارث فما أسقطت .. أو .. عبد الحارث ..
* الشيخ: المهم هذا الحديث___الحديث هذا موجود من رواية الحسن البصري عن سمرة، فله هذه العلة، وقد يكون له علة أخرى .. ما أذكر الآن، الحسن البصري ثبت عنه بالسند الصحيح أنه فسر الآية بخلاف حديثه، فهل يعقل أن الحسن البصري - الإمام الجليل - يكون من الثابت عنده في تفسير الآية ما حدَّث هو به عن سمرة بالعنعنة، لو كان هذا الحديث صح عنده، هل يفسر الآية بالتالي، وهو " فلما آتاهما صالحًا جعلا له .. " أي ذريتُهما .. بتقدير مضاف محذوف، ذرية آدم وحواء هم الذِّين جعلا شركاء لما يؤتهم الله عزَّ وجلَّ من فضله، فهذا مثال أيضًا يصلح تقديمه إلى هؤلاء أو من كان منهم مريدًا للحق ولم يكن مُضَلَّلاً بالباطل، أيضًا هذا ينير لهم الطريق، أنه لا يجوز الأخذ برواية من ثبت تدليسه إلا إذا صرَّح بالتحديث، فهذا أيضًا يضم إلى ما سبق إن شاء الله .
* جزاك الله خير .
* الشيخ: وإياكم، نعم .
* يعني يتفرع عن هذا المنهج السؤال التالي: وهو ما هي خطورة هذا المنهج على حديث النبي صلى الله عليه وسلَّم ؟
* الشيخ: طبعًا خطورته تعطيل علم الحديث بالكلية، وعدم الوصول إلى معرفة مراتب الأحاديث التي هي عندنا بالأُلوف المؤلَّفة التي لم ... أقل ما يقال، ولا أريد أن أقول أكثر ما سأقول، التي هي عندنا بالأُلوف المؤلَّفة ولم يرد إلينا حكم أحد الحفَّاظ، ولو على منهجنا من المتأخرين، فضلاً عن المتقدمين، فماذا يكون موقف هؤلاء ؟! وأقولها صراحةً مع الأسف، ما يكون موقف هؤلاء الجهلة بالنسبة لهذه الأحاديث الموجودة في مثل مسند الإمام أحمد وسائر المسانيد والمعاجم التي لا نجد فيها نصًّا بتصحيح أو تضعيف لمثل هذه الأحاديث عن أحد من أولئك المتقدمين الذين لا يقبلون حكم المتأخرين، معنى هذا تجميد علم الحديث وتعطيل أحاديث الرسول عليه السلام، وعدم استمراريَّة هذا العلم الشريف، وكما قلت أنا اليوم – بالمناسبة - أن الله عزَّ وجلَّ يعني جعل .. أين الخطيب اليوم .. شو قال المناسبة .. قلن: الله جعل المناسبة كي يستمر العلم .. علم الحديث .. إذ المسألة اليوم معنا فما أستحضرها الآن ... فابن حبَّان مثلاً هو بلا شكَّ عندهم من المتقدمين .
* نعم .
* الشيخ: طيب، ماذا يفعلون بتوثيقاته، بالمئات ، المعارَضة بتجهيل أبي حاتمٍ وابن أبي ـــ ، أي يجعلون علم الحديث .. هكذا .. مهلهلاً .. لا نعرف حقًّا من باطل، الحقيقة: إن هذا الرأي أنا أراه يتصل أخيرًا بصلة ولو أنها ضعيفة؛ بقول ابن الصَّلاح أن التصحيح والتضعيف للأحاديث انتهى .. في أي عصر ؟؟ القرن الرابع .. أظن .. ذكرت .. تذكر هذا ؟
* هذا كان في عصره يا شيخ.
...
* الشيخ: إذن هذا أوسع من ذاك .. فقلت: يتصل بهذا صلة بسيطة جدًّا، خلاصة القول: إن هذا الرأي .. الحقيقة .. إذا ما أسأنا الرأي بالذي ابتدع هذا القول بأنه أراد هدم الحديث فهنا أقول: "عدوٌ عاقلٌ خيرٌ من صديقٍ غير ملم بالموضوع", هل هناك شيء آخر .
* جزاك الله كلّ خير، لكن ، أخيرًا نريد توجيه للطلاب الذين يريدون أن يتعلموا، وما هو السبيل الذي يسلكونه حتى لا يقعوا في مثل هذه الأخطاء أو في مثل هذه المناهجَ ويغترُّون بها ؟
* الشيخ: لا إله إلا الله .. نحن نقول دائمًا وأبدًا أن أي علمٍ لا يمكن أن يتسلق المتسلقون إليه دون الاستعانة بالذين سبقوه إليه، فلابد للمتأخِّر من أن يستفيد من المتقدم، فقبل كل شيء، يجب على طلاب هذا العلم - وأي علم آخر - أن يدرسوا هذا العلم دراسةً نظريَّةً قبل كلِّ شيء، وأن يدرسوه - إذا تيسر لهم - على عالم متمكنٌ فيه تمكُّنًا نظريًّا وعمليًّا، ثم هم إذا درسوا هذا العلم بهذه الطريق إن تيسرت لهم أو بدراستهم الشخصيَّة .. وأنا أعتقد بتجربتي الخاصَّة أن هذه الدراسة الشخصيَّة صعبة جدًّا وتحتاج إلى أناة وإلى صبرٍ وجلد قلما تتوفَّر هذه الخصال في صدور كثير من طلاب العلم، فإن تيسرت لهم الطريق الأولى لدراسة هذا العلم فهي الطريقة المثلى، أو لم تتيسَّر فدرسوها بأنفسهم، فأنصحهم بأن لاَّ يبدؤوا بتطبيق دراستهم النظرية تطْبيقًا عمليًّا إلا كدروس عملية يضعونها لأنفسهم، ويضعونها عندهم محفوظة على الرف، إلى ما بعد زمن طويل، يبدو لهم برأيهم واجتهادهم المستمر أولاً، وبشهادة بعض أهل العلم فيهم ثانيًا، أنهم صاروا من الذي يمكنهم أن يُصدروا حكمهم تصحيحًا أو تضعيفًا، فأنصحهم بأن لا يبدؤوا بتطبيق دراستهم النظرية تطْبيقًا عمليًّا إلا كدروس عملية يضعونها لأنفسهم ويضعونها عندهم محفوظة على الرف إلى ما بعد زمن طويل، يبدو لهم برأيهم واجتهادهم المستمر أولاً وبشهادة بعض أهل العلم فيهم ثانيًا أنهم صاروا من الذي يمكنهم أن يُصدروا حكمهم تصحيحًا أو تضعيفًا، وأنا وجَّهتُ كلمة في بعض المقدمات لبعض الكتب التي الآن هي وشيكة الخروج، بمناسبة هذا الرجل الذي ربما بلغكم خبره المسمَّى بـ .. حسان عبد المنان الذي أفسد رياض الصالحين إفسادًا كبيرًا جدًّا، وضعَّف أحاديث لم يُسْبَقْ - أوَّلاً - إلى تضعيفها، فهو قرين هذا الرجل الذي تنقل عنه هذه القاعدة الضالة، فهو قرينه في مخالفة سبيل المؤمنين في تضعيف أحاديث كثيرة جدًّا، هو أوَّلاً لم يُسْبَقْ إلى تضعيفها، بل سُبِقَ إلى تصحيحها صراحةً، وثانيًا لا يساعده على التضعيفِ القواعدُ التي وضعها علماء الحديث سواء كانوا من المتقدمين أو المتأخرين، وأنا وجهت إليه نصيحة كتابةً بعد أن ناقشناه بحضور الأستاذ أبو مالك عندنا في داري مناقشة هادئة، وبيَّنا له أنه ليس أهلاً لأن يتولى وأن ينصب نفسه منصب المصحح والمضعِّف، إلى درجة أن القاعدة المعلومة لدى كل العلماء، لا أستثني فقهاء أو محدِّثين، وهي: "المُثْبِتُ مُقَدَّمٌ على النافي"، "منْ عَلِمَ حُجَّة على من لم يعلمْ " ،هو ما عرف هذه القاعدة، ولم يُقم لها وزنًا، لعلك تذكر هذه الحقيقة المرَّة مع الأسف، فأنا وجهت إليه الآن، بعد أن اغتنمتها فرصة، ورددُّت عليه في بعض تعليقاتي لبعض الكتب التي أُجدِّد طباعتها الآن، وجهت إليه نصيحة على النحو الذي سبق ذكره؛ أي: فليجتهد وليطبِّق، لكن لا ينتج الآن ولا يطبع لا ينشر لأنه لم ينضج في علمه، ونقلت له في ــ جيِّدة جدًّا لأبي إسحاق الإمام الشاطبي في كتابه الاعتصام، ذكر هناك أن مما يدل على أن طالب العلم هو من أهل الأهواء: أن ينتصب للعلم وأن يفتي ويتصدَّر للمجالسَ دون أن يشهد له العلماء بأنه صار أهلاً للعلم وللإفتاء، لأنه في هذه الحالة يكون اتبع هواه، وما اتبع رأي أهل العلم، ودعمت وأنا أظنُّ هذه المسألة أو هذا الرأي القوي جدًّا بمثل قوله تعالى: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ )، وأنا في كثير من الأحيان أقتبس من هذه الآية علاجًا لهذا المرض الذي استشرى في العصر الحاضر، سواء ما يتعلق بالتصحيح والتضعيف للحديث، أو بالتسرع في الإفتاء - بأن هذا حرام وهذا حلال وهذا يجوز وهذا لا يجوز- قلت إن هذه الآية جعلت المجتمع الإسلامي قسمين؛ القسم الأكثر هم الذين لا يعلمون وهذه عليها نصوص كثيرة, والقسم الآخر هم العلماء، فأوجب على كل من القسمين واجبًا؛ أوجب على القسم الأول الأكثر أن يسألوا القسم الأول الأقل وهم أهل العلم " فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ "، فكل طالب علم يعلم من قرارة نفسه أنه لم يشهد له أهل العلم معًا بأنه أهلٌ للتصحيح والتضعيف والتحليل والتحريم _ الاجتهاد منه _ فهذا يجب أن يكبح جماح نفسه ولا يتسرَّع في إصدار أراءه ونشرها على الناس حتى يؤذن له، من هنا بدا لي أن الإجازة الحقَّة التي كانت من قبل لها أثرها، لها فعلها قبل أن تصبح شكل وهيئة، كمثل هذه الإجازات التي الآن تصدر من بعض الجامعات أو من بعض الشيوخ .. _أجزت فلانًا_ ولا يكاد يفقه شيئًا .. ويكفيك مثالاً هذا السَّقَّاف، مجاز من مشايخ المغرب كما قرأتُ في بعض كتابته، ربما لذلك هو يفخر علينا إن أنا لم أجاز إلا من الطَّبَّاخ فقط، أما هو فمن مشايخ كثيرين كثيرين جدًّا، هذه الإجازة قديمًا فعلاً كان لها أثرًا طيب .. نعم .. يقولون في ترجمة بعض الأفاضل .. لعلك .. والأستاذ أبو عبيدة، والأستاذ أبو مالك، تذكِّروننا أنه ما جلس في مجلس العلم إلا بعد أن أذن له كذا معمماً .
* تذكر يا أبو عبيدة ؟
* سبعون عمامة ! .
* الشيخ: عمامة .. نعم يعني موجود هذا، في هذا دليل إن الجماعة ما كانوا يتسرَّعون يعني يتصدروا مجالس العلم ويفتوا الناس إلاَّ بعد أن يؤذن من أهل العلم، أما الآن فمع الأسف الشديد أصبح الأمر فوضى .. فنصيحتي لطلاب العلم أن يدرسوا علم المصطلح دراسة أولية بإحدى الطريقتين التي ذكرنهما آنفًا، ثم لا يتسرعوا في الإنتاج العمليّ _ تطبيق العمل على النظر _ إلا بعد أن يمضي عليهم زمن لا بأس به، وأن يبدؤوا رويدًا رويدًا، يَعرضون نتائج علمهم على من يثقون بعلمهم من أهل العلم والفضل، فبهذه الطريقة يمكن أن يسلك طلاب العلم السبيل القويم لتحصيل هذا العلم - الذي مع الأسف - في القرون السابقة كاد أن يضمحلَّ، ولم يكن ذلك فيما يبدو لي الآن إلا لأنهم عرفوا صعوبة أمره، وعلى العكس من ذلك الآن لما استسهلوه صار كل طالب علم عالمًا في الحديث، هذه نصيحتي. انتهى .

يتبع ..

أبو عمير
04-25-2008, 01:25 PM
تتمة
تفريغ لشريط " مِنْ بِدَعِ المُحْدَثين على المُحَدّثين " :

يتحدث أخ من طلبة العلم يعرض مشكلة التفريق بين منهج المتقدمين والمتأخرين في الرياض:

علي الحلبي: رياض، ما رأيك أن نسجل ...
-: ما رأيك يا شيخ ؟
الشيخ: الرأي رأيه، التسجيل بيده.
-: وتوافق الجماعة ؟
علي: وافقت الجماعة أو .... ؟
-: أقول - يا شيخ - طُلِبَ منهم أن يكتبوا – ليصبح الشباب على بصيرة – فقالوا: " إن شاء الله غدا "، وإلى أجلٍ غير مسمى ...
-: الذين هم ؟؟؟
-: من يقول بالمتقدمين والمتأخرين.
علي: حتى نضبط الموضوع في الكلام – شيخنا – أنا كتبت لعبد الله السعد [ وهو سعودي من كبار القائلين بمذهب المتقدمين والمتأخرين ] رسالة أسأله فيها عن منهجه، أول ما – كما يقال – شَعَّ شعاعه، قبل حوالي ثمان سنوات ...
الشيخ: نعم.
-: نعم والله يا شيخنا ..
علي: ... رسالة ودودة .. وتعارف وكذا، فلم يجبني بجواب منذ ذلك الحين، قبل أربع سنوات بعث لي مع واحد أردني ـــ هناك في الرياض يقول له: سلم على فلان، وقل له وصلت الرسالة، وانتظر شرح المنهج في مقدمة كتاب " ـــ في رواية ابن الزبير عن جابر " و أيضا في كتاب " ـــ ".
-: يا شيخ، شيخُنا الشيخ سعد الحميد هو الذي ـــ عليه علم الحديث، ضَجّتْ عنده هذه المسألة فطلب من السعد مجالساً، فيقول له: بعد أسبوع، بعد أيام، حتى كتب له كتابات: من قال – من العلماء السابقين، علماء السنة أو علماء البدعة في الحديث – بهذا المنهج وهذا التفريق ؟ فأعطاه الأسئلة، ولم يجبه على هذا أبداً.
الشيخ: هذه منهجهم، هذه جهلهم.
-: والمصيبة – يا شيخ – إذا كنا نقول هذا الأمر، لا نبالغ فيه، ولا نتصدر لهذا الأمر إلا لما نعلم من الشيخ عبد الله السعد، هناك يحضر عنده فوق المائة، والمائة وخمسين، فهؤلاء ما ذنبهم أن يسلكوا هذا المنهج المتخبط في الحديث ؟
الشيخ: أنا كنت سمعت له شريطا، يخاطب هؤلاء الطلبة الذين حوله، وهم – بلا شك – لا يعلمون شيئا – بأنه يجب الاهتمام والعناية بنقد المتون.
-: نعم .. مسجل يا شيخ .. أنا جمعت ...
علي: أخونا رياض، جمع عدة أشرطة من أشرطة السعد، ثم اختار أهم النقاط ليسهل عليك مراجعتها، لأنه بدون الشريط – أحيانا - يُتعب، أما هذه ...
الشيخ: أنا كنت قرأت شيئا من هذه، قلت: " يا وَيْلَهُ " ، نقد المتون بِلْكاد أنه يستطيع أن ينهض به كبار علماء الحديث، فهو يذيع هذا بين الطلبة الذين ـــ شيئاً، والحقيقة أنه في هذا الزمان يصدق فيه على كثير من الناشئين من الطلابِ المثلُ العربي القديم " إن البغاث بأرضنا يستنسر " ، والبغاث – كما تعلمون – هو الطير الصغير، يعمل ويتشبه بالنسر الكبير، أو – كما قيل – " تزبب قبل أن يتحصرم " أو – كما يقول الحافظ الذهبي " يريد أن يطير قبل أن يريش " .فتنةٌ .. ونبلوكم بالشر والخير فتنة. كنا نشكو من الجمود، أصبحنا نشكو من الفَلَتان، ومن الانطلاق، بدون حدود ولا قيود.
علي: أقول: أذكر لكم كلمة: قبل سنوات، كنا في مجلس من مجالس الحسن، هذه التي عند ـــ فقلتم: إن التقليد المنضبط خير من الاجتهاد الأهوج.
الشيخ: صحيح، والله صحيح.
-: الله أكبر.
يقرأ الشيخ في أوراق، ثم يقول:
الشيخ: هذا الكلام لك ؟
-: أبدا يا شيخ، كل الكلام من شريطه، وفيه ملاحظة – يا شيخ – في الشريط، هو ضعيف في النحو، فأنا ـــ كل .. يعني ــ أبو الحارث كله – يا شيخ – موجود، بالشريط وابن الشريط.
الشيخ: أنا فاهم، الآن .. أنا أقرأ مقتطفات، أنا أسألك بالذات: هذا الكلام له أم لك ؟
-: ـــ هو في الحقيقة هو له يا شيخ.
علي: كله ..
الشيخ: طيب، فأنت تحصر كلامه على الطريقة القديمة أم الحديثة ؟
-: لا، على الطريقة القديمة والحديثة، كلها.
علي: لم يصنع شيئا – شيخنا - ، هو أخونا رياض ... الشريط .. كل هذا له ..
الشيخ: ما فيه له كلمة ؟؟
علي: ولا كلمة .. إلا اسم الشريط.
الشيخ: كويس. طيب أنت قرأت هذا .. ووعيته لابد، فأنا كنت أريد أن أسأل، فبعد هذه التوضيح أسأل: هل وضّحَ الفقرة الأولى ؟
-: لا، لم يوضح يا شيخ، كأنه ـــ
الشيخ: يعني مجرد دعوى ؟
-: مجرد دعوى .... يعني – يا شيخ – بدون أن أقاطع كلامك، له طريقة في النقاش، هو يقول: ما سكت عنه النسائي صحيح، ويستدل بعبارة ابن حجر في " نتائج الأفكار " ، يقول ابن حجر" ذكر هذا الحديث النسائي ولم يذكر له علة فاقتضى أنه صحيح عنده، قلت للشيخ عبد الله السعد: هذا ما يقتضي كل هذا الأمر .. فهذا حديث الطير، سكت عنه النسائي، فهل هو من هذا الباب ؟ فيقول: "ليس الغالب" ، فيعطينا عبارة مطاطة، فيجمع بين هذا وهذا.
الشيخ: نعم، نعم. اللهم اهدنا فيمن هديت. اللهم اهدنا فيمن هديت.
-:يا شيخ، في الرياض .. يعني أصبحوا محتارين .. ينظرون إلى الشيخ .. الآن هو يعقد أمالي .. يقول: حدثنا شيخنا عبد الله بن الصديق الغماري بسنده ... ثم يسرد، عنده حفظ عجيب، لكن هذا ما يبرر .. فيحضر عنده حوالي مائتين، أما شيخنا سعد الحميد فما يحضر عنده إلا عشرة، في التأصيل في المصطلح، منها ألفية السيوطي و ـــ كلها، حتى فتح المغيث، فأصبحوا يحتارون، نقول لهم ــ المجالس، اقرؤوا السلسلة، لا لذات الألباني، لكن لما يقرر في السلسلة، واقرؤوا فتح المغيث، قالوا: ليس فيه استقراء، ليس فيه منهج الأئمة المتقدمين، هذا غموض، هذا جمود .. وهذه العبارات.
الشيخ: الله المستعان.
علي: شيخنا، كلمة الاستقراء والسبر في هذه الأزمان المتأخرة التي لا يوجد بين أيدي أهل الحديث المشتغلين به سوى الواحد والاثنين من كتب أهل الحديث، إلا النزر اليسير، كيف يستطيعون أن يطلقوا ألسنتهم بكلمة الاستقراء والتتبع والسبر ؟
الشيخ: الأهواء تعمي وتطم، الأهواء والجهل .. جاءني بعض الشباب من سورية ... المشكلة الكبرى أن الوعي العام غير منتشر بين المسلمين، بغض النظر عن أن يكون عندهم ثقافة شرعية أو حديثية، إنه كل من تكلم ظنوا أنه عالم، على ما فيه من بساطة في التفكير .. وسذاجة .. طرح علي هذا الشاب من سورية سؤالا: يقول: نحن نعرف أنه من القواعد الأصولية أن الأصل في الأشياء الإباحة، ما رأيك ؟ قلت له: هذا هو المعروف، قال: نبت عندنا نابتة، يقولون" لا، الأمر ليس كذلك ، - والشاهد ليس مجرد هذا النفي وإنما الدعم لهذا النفي - ، قال: واستدلوا بقوله عليه السلام ( كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط ) ، قلت له: هذا لا يؤيد، بالعكس، هذا يثبت أنه لا يجوز وضع شرط لم يشرعه الشارع، قال: هو يقول: هناك رواية فيها ( كل عقد ... ) بدل ( كل شرط ... ) ، قلنا له هذه رواية أولا غير معروفة ومخالفة لرواية الصحيح، ومع ذلك هذا لا يثبت عكس القاعدة، الشاهد من كلامي قلت: أنتم مشكلتكم أن كل من تكلم ظننتم فيه أنه عالم، يا أخي لا تهتموا بكل من تكلم.
-: فكْر المتقدمين والمتأخرين، استنتج الشيخ سعد الحميد أنه منطلقٌ من مكة، أعطيناه رسائل المليباري، " نظرات في علوم الحديث " ... الخ، كل من أتى بهذا المنهج كانت له دراسة مسبقة في مكة. الآن – يا شيخ - كتب المليباري في الرياض مجرد ما تنزل تنفد النسخ خلال أربعة أيام، أنا تتبعت هذا بالاستقراء - على ما يقولون - ..
-: المليباري ؟؟؟؟
-: حمزة المليباري، واحد صار عالم من الهند، كان مقيم في الجزائر ... آخر ما نزل له يا شيخ ...
.... حديث غير مسموع بين طلبة الشيخ ....
-: أقول يا شيخ مجرد ما نزل ( نظرات جديدة في علوم الحديث ) حتى تطايروا عليه، وأصبح – يا شيخ – كأنه كشف ما يكنونه من مناهجهم .. لأنهم صرحوا صراحة ..
الشيخ : يعني وافق شن طبقة.
-: وافق شن طبقة.
الشيخ: الله المستعان.
-: التفريق بين منهج المتقدمين ومنهج المتأخرين ... يعني هم أصلاً لا يعتدون بكتب المصطلح ..
الشيخ: هذه ظاهرة جديدة يا أستاذ ..
-: هذه التي الآن في السعودية ...
الشيخ: هو هذا ..
-: عبد الله السعد ..
الشيخ: هو كان .. ناس .. مُستنْسِخ .. أدخل أشرطة أحد الدعاة لهذا المنهج المنحرف، الشيخ عبد الله السعد .. لابد سمعتم عنه شيئا..
-: .. تكلمنا عنه ..
الشيخ: قلت للأخ .. من انحرافه أولا في هذا العلم، عدم وضع الشيء في محله ثانيا - طبعا مما ينافي الحكمة - يلقن الطلاب الذين يحضرون حلقته بأنه ينبغي ألا نقتصر على نقد الأحاديث بأسانيدها، وإنما يجب أن ننقدها من متونها أيضاً ..
-: أعوذ بالله ..
الشيخ: هذا تخريب للشرع، هذا منهج الماديين أو العلمانيين .. يعني نحن لا نشك أن كبار أئمة الحديث كانوا ينقدون المتون، لكن كان عندهم قدرات، وعندهم مبررات .. وأين كان هو أو غيره من الناشئين اليوم .. فكيف يلقن هؤلاء المبتدءون مثل هذا الهدم الصريح للسنة ؟ نقد المتون .. هذا الذي يسمونه الآن – بالاصطلاح الغربي – النقد الداخلي، وهذا تعبيري لأن هذا حقيقة هدم للداخل.
-: يدندن – يا شيخ – على قضية نقد المتون هنا. والمشكلة أنه أكثر ...
الشيخ: هو أنكر أحاديث صحيحة على هذه الطريقة.
-: يا شيخ، عندنا بعض الأسئلة لتوضيح هذه المسألة، خصوصا الآن في الرياض هم الذين يحضنون هذا المنهج، فأصبحت جملة من الشباب متذبذباً، فأوردنا بعض الأسئلة، ومنها من أسئلة الشيخ سعد الحميد، فقال:اعرضوها على الشيخ ناصر.
السؤال الأول: لا يخفى على فضيلتكم ما يتردد في أوساط طلبة علم الحديث في هذا الزمن من إثارة لما يسمى ( منهج المتقدمين والمتأخرين )، فهل تعلمون – بارك الله فيكم - أحدا أثار هذه الدعوى من العلماء السابقين ؟
الشيخ: جوابي على ذلك: لا، بل أعتقد أن هذا التفريق هو مما يدخل في عموم قوله عليه الصلاة والسلام ( كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار ) ، ولست أعني أنها بدعة .. مجرد أنه أمر حادث لأن هذا المعنى المحدد ليس هو المقصود من هذا الحديث وأمثاله، وإنما المقصود: المحدثة التي يتقرب بها المحدِث إلى الله تبارك وتعالى، فمن هذه الحيثية، هذه بدعة ضلالة، وليس هذا فقط، بل هم أشبه ما يكون بالذين يتقربون إلى الله بما حرم الله، كالذين يتقربون بالصلاة عند قبور الأولياء والصالحين والأنبياء، فهذه بلا شك معصية .. فهي معصية، لكن التقرب بالمعصية إلى الله هي بدعة، فهم حينما يفرقون بين علماء الحديث المتقدمين و علماء الحديث المتأخرين أحدثوا شيئا لا يعرفه أهل الحديث إطلاقاً، ولو أنهم وقفوا عند هذا الإحداث فقط لربما كان الخطب سهلاً، لكنهم أضافوا إلى ذلك أنهم يتقربون بهذا الإحداث إلى الله، ثم زادوا – كما يقال – في الطين بلة أنهم يُخَرّبون السنة ويقضون عليها بمثل هذا التفريق، ثم مما لا شك فيه أن مثل هذا التقسيم مجرد خاطرةٍ خطرت في بالِ أحدهم، وهو الذي سَنّ هذه السنة السيئة، وعليه وزرها ووِزْرُ من عمل بِها إلى ما شاء الله ، ولعله يقضى عليها قريبا بإذن الله تبارك وتعالى ، فالمقصود أن هذا التقسيم لا سبيل إلى وضع حدود له ، فمن هم علماء الحديث القدامى؟ ومن هم المحدثون من بعدهم ؟ كنت – أظن – سمعت شريطا لهذا، فأنت - باعتبارك أنك حديث عهد بالاستماع لأشرطته – تذكرني إن أصبتُ أو أخطأت، في ذهني – وهذا من سنين كنت سمعت شريطا له – يجعل الإمام الدارقطني ... هو ... هو كذلك ؟
-: يعني: هو الحاجز بين ....
-: أوردنا - يا شيخ – عليه هذا السؤال فقال: لم أقل هكذا.
الشيخ: آه .. ماذا قال ؟
-: قال: الغالب أنَّه منْ أتى بعد الدارقطني ..
.....
-: لكن – شيخنا – هناك مسألة .. المليباري – إضافة على التقسيم – يفرق، يقول: التقسيم الصحيح ليس ثلاثمائة، التقسيم الصحيح هو أن نقول: هناك مرحلة الرواية، وهناك مرحلة ما بعد الرواية، مرحلة الرواية هي ما يسمى بالمتقدمين الآن .. عصر الإسناد وعصر الرواية .. تأخذ بالحفظ، أما مرحلة ما بعد الرواية فهي مرحلة إلى من بعد القرن الثالث .. وهكذا .. التي قعّدوا ما حفظوا أولئك في المرحلة الأولى.
الشيخ: لا حول ولا قوة إلا بالله .. يعني .. ما معنى هذا ؟ علم الحديث والمصطلح قُضِيَ عليه يعني ؟
-: أقول – يا شيخ – هو يجعل فرقاً - كما أسلفتم في كلامكم – أن المتقدمين والمتأخرين، الفرق بينهم أن منْ أتى بعد الدارقطني في الغالب تغير المنهج، ثم هو يقول: أن من الخطيب البغدادي وبعده تغير المنهج الصحيح لعلم الحديث، وهو مكتوب هنا .. في الكفاية .. ثم يفرق يقول إن منهج البغدادي في ( الكفاية ) على منهج المتأخرين، أما في ( الزيادة ) وما يتعلق بها .. وهذه مخطوطة ولم تخرج بعد .. أنه سار فيها على طريقة المتقدمين ..
الشيخ: أعوذ بالله .. يعني: معنى هذا الكلام أن الرجل أحاط بعلم المتقدمين وعلم المتأخرين في الحديث، ثم استطاع أن يميز المتقدم من المتأخر، هو بلكاد أن يحيط علما بما سُطّر في كتب المتأخرين فضلاً عن أن يحيط بعلم المتقدمين المبثوث والموزع في عشرات الكتب .. الله المستعان .. صدق رسول الله ( إذا لم تستح فاصنع ما شئت ).
-: الطلبة الصغار، قال أحدهم لأحد المدرسين عندنا في قسم الحديث وأصول الدين: يا شيخ، الفرق بين المتقدمين والمتأخرين هو ما سطره صاحب ميزان الاعتدال، الذهبي في مقدمة كتابه، ألا وهو قوله: الحد الفاصل بين المتقدم والمتأخر عام ثلاثمائة، فهذا يقوله الصغار، وهو يقول أن من الدارقطني في الغالب تغير المنهج، والمليباري يقول: أن المتقدمين والمتأخرين، ليس عندنا هذا المصطلح في التفريق، المصطلح عندنا في التفريق هو أن نقول: هناك مرحلة، وهي مرحلة الرواية، وهي ..كالبخاري وأحمد ــ سطروا من حفطهم، فهؤلاء قاموا على الرواية، وهناك المرحلة الأخرى وهي ما يسمى عندنا بمنهج المتأخرين، وهي مرحلة ما بعد الرواية، والمرحلة الأولى، ألا وهي مرحلة الرواية تبدأ من مرحلة من بعد الصحابة إلى نهاية القرن الخامس الهجري، وأما الأخرى – أي مرحلة ما بعد الرواية - تبدأ من ما بعد هذا ..
الشيخ: طيب، ما ثمرة هذا التفريق لو سلم به جدلاً ؟ ما ثمرة هذا التفريق ؟
-: ثمرته – يا شيخ – الإحالة على الفهم عندهم.
الشيخ: ليس في كلام الرجل توضيح: الذين كانوا في مرحلة الرواية، هل كانوا ينطلقون في الرواية تصحيحاً وتضعيفاً وترجيحاً وتعديلاً ونحو ذلك .. كانوا ينطلقون في أثناء الراوية حول هذه العلوم التي سجلت فيما بعد وسمي بعلم مصطلح الحديث ؟ لا يوجد توضيح عن هذه الفكرة .. بلا شك .. إن علم رواية الحديث انقطع في القرون المتأخرة، لكن ما ثمرة هذا التفريق ؟ ليس فيه .. لعله في مكان آخر مثلا يتعرض للبيان ثمرة هذا التفريق .. يعني .. أئمة الحديث الأولين، كأصحاب السنن والصحاح ونحو ذلك، هؤلاء من علماء الرواية فيما تنقل، هل يعني أنهم لم يكن عندهم دراية ؟
-: لا يا شيخ ..
الشيخ: هذه المشكلة، فإذن صفّ كلاماً ليس تحته ثمرة، وفلسفة ليس لها نهاية، وتوجيه لطلاب العلم، ماذا يستفيدون من هذا التقسيم ؟ لا شيء أبداً .. بينما لا بد من الرجوع إلى علم الرواية وعلم الدراية، وعلم الدراية ينقسم إلى قسمين كما هو معلوم: علم مصطلح الحديث، وعلم أصول الفقه، ولا شك أن علماء الحديث الأولين كانوا على قسميْن، هذا لا يمكن إنكاره، فمنهم من كان عالما بالرواية وبالدراية معاً، ومنهم من كان حاملاً للعلم، وهي الرواية في الحقيقة، ولذلك أنا أستحيي من هذا التقسيم، لأن فيه إشعاراً بهضم حقوق أولئك الرواة من حيث أنهم كانوا علماء بما يروون، ويعرفون ما يروون من صحيح ومن ضعيف وما شابه ذلك .. والله المستعان.
-: الفقرة الثانية من السؤال: هل هناك مسألة علمية أخذ بها المتأخر لم يقل بها من المتقدمين أحد ؟ أعني في علم الحديث.
الشيخ: لا أعتقد أنه يوجد شيء من هذا، هذا علمي، لكني لا أستبعد أن يكون هناك قول قديم أخذ به بعض المتأخرين، مرجحين له على غيره، هذا ممكن .. وهذا - الحقيقة الذي أنا أفهمه - أن القول في هذه المسألة الحديثية كالقول في مسألة من المسائل الفقهية، أي أنه كما لا يجوز يتبنى الفقيه حقّاً في هذا الزمان قولا محدثا لم يسبق إليه من أحد الأئمة المتقدمين، كذلك لا يجوز لمن كان عالما بعلم الحديث أن يتبنى رأيا جديدا لم يسبق إليه من أحد الأئمة المتقدمين، كل ما يجوز لهؤلاء وهؤلاء أن يرجحوا أو أن يتبنوا رأيا من رأيين أو أكثر، أما أن يبتدعوا فلا، وعلى هذا أقول: لا أعتقد أن هناك مسألة أو رأي لم يقل به أحد ممن سبقنا.
-: الفقرة الثالثة: من القضايا العلمية التي تثار الدعوى على أن فيها فرقاً بين المتقدمين والمتأخرين ما يلي: التدليس، الاختلاط، تحسين الأحاديث، الشذوذ، النكارة، زيادة الثقة، التفرد، تعليل الأئمة للأحاديث التي ظاهرها الصحة، فمثلا يرون أن من وُصف بالتدليس لا يُتوقّف في حديث رواه بالعنعنة إلا إذا كان هناك ما يدل على أن المدلس أسقط منه الواسطة، ويستدلون بعبارة نقلت عن يعقوب بن سفيان ويحيى بن معين في هذا، فما رأيكم ؟ وشبيه بذلك من وُصف بالاختلاط أو التغير كأبي إسحاق السبيعي.
الشيخ: ليس بنا رأي محدث بطبيعة الحال، فنحن مع العلم المسجل في علم المصطلح، ولا أكثر من ذلك ... اتركنا – يا أستاذ - نصلي العصر ...
-: هم يقولون – يا شيخ – عن التدليس: لما لا نرد كل من عنعن ؟ ولماذا نقبل كل من تفرد ؟
الشيخ: هل يقولون بالحديث الحسن ؟
-: نعم – يا شيخ – يقولون بالحديث الحسن.
الشيخ: ما معنى الحديث الحسن ؟ هل هو كالحديث الصحيح ؟ .. هو دونه.
-: دون الحديث الصحيح.
الشيخ: طيب، دونه عندنا، وعندهم كذلك ؟
-: ... عندهم مسمى بالصحيح ..
الشيخ: بارك الله فيك، ما نريد الآن التسمية، ـــ في الاصطلاح القديم: كل حديث يحتج به فهو صحيح .. يدخل تحته الحسن، لكن لما ندقّق ... من جاء بعدهم ... مثل هذا الخلاف، قد يكون بين القدامى والمحدثين ... فهو اختلاف اصطلاحي، ما يغير من حقيقة ــــ ، ليكون تعبيرهم دقيقاً قالوا صحيح وقالوا حسن، لكن الحديث الحسن في واقعه معرَّضٌ لأن يحشر في زمرة الحديث الضعيف أكثر من الحديث الصحيح، وهنا يقال لهم: لماذا تأخذون الحديث الحسن مع أنه دون الصحيح ؟ فالذي يدلس مثلا يُتَتبّع حديثه، فقد يُردّ إذا لم يوجد – مثلا – له تصريح بالتحديث، أو لم يكن له شاهد يقويه مثلا، فهم يريدون المسألة أن تكون جامدةً ما فيها مرونة، هذا من جهلهم في الواقع، والله المستعان.
-: السؤال الثاني: ما رأيك في سبر أحوال الرواة عن طريق تتبُّع مروياتهم للحكم عليهم بحكمٍ قد يوافق قول بعض الأئمة في ذلك الرجل، وقد يخالفه، وبالذات الرواة المختلف فيهم ونحوهم، كشريك القاضي، وإذا ما سبرت مروياته وتُتُبّعَتْ ورأينا أنه حسن الحديث وهكذا ...
الشيخ: لا أرى مانعا من هذا التتبع، بل – وبلا شك – يفيد ما دام منضبطا ومقيدا بالقيد المذكور فيه، أي بشرط ألا يخرج على قول من أقوال الأئمة المتقدمين، فإذا كان المقصود من هذا التتبع لأحاديث الراوي هو أن يساعده على ترجيح قول على آخر فنعما هو، أما أن يبتدع قولا لم يسبق إليه فقد عرفنا جوابه من قبل، وكما نقول في كثير من المناسبات – سواء ما كان منها حديثيا أو فقهيا – أننا نستدل بعموم قوله تبارك وتعالى: ( ومن يشاقق الرسول من بعد أن تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا )، عندنا نصٌّ عن الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – أنه يقول: ( ليس لأحد من المتأخرين أن يأتي بقول يخالف كل أقوال المتقدمين )، لأنه يكون محدثا ويكون مبتدعاً، ويكون مخالفاً لسبيل المؤمنين، فسبيل المؤمنين في المسألة الفقهية الفلانية مثلا فيها قولان، فلك أن تختار أحدهما، أما أن تأتي بقول آخر، لا هو موافق للقول الأول ولا هو موافق أيضا للقول الآخر فهذا مخالفة لسبيل المؤمنين.
ضربت مثلا منذ أمد بعيد: الفقهاء – كما تعلمون – بالنسبة لأكل لحم الجزور هل هو من نواقض الوضوء أم لا، لهم قولان، أحدهما: ينقض، وهذا هو الصحيح، دليلا أواستدلالاً، والآخر: لا ينقض، لكن: هؤلاء الذين يقولون: لا ينقض، يستحبون الوضوء من لحم الجزور، وجدنا قولا لم يقل به أحد ممن سبق أو لحق، وإنما تفرد به ذلك الصوفي الذي يعرف بـ ( محيي الدين )، فقد كنت من زمان قرأت كثيرا من كتبه وبخاصة كتابه الضخم ( الفتحات المكية ) .. سبحان الله .. هذا الرجل يجمع بين المتناقضات، في الفقه ظاهري جامد، وفي التصوف ملحد يقول بوحدة الوجود، سبق الظاهرية في الجمود – وهنا الشاهد – فقال: من أكل لحم الجزور فعليه أن يتوضأ، لكنه إن لم يتوضأ فصلاته صحيحة .. أي لم يعتبره من النواقض .. أمر الرسول بالأمر بالوضوء .. فنحن ننفذه، لكن لا ارتباط بين هذا وبين الصلاة، حكمه مستقل تماماً. على هذا نحن نقول دائما: ننطلق في الفقه وفي الحديث من هذه القاعدة القرآنية، ألا يتبع غير سبيل المؤمنين، وإنما أن يتبع سبيل المؤمنين، فإذا كان إذن المقصود من هذا الاستقراء والتتبع لحديث الراوي هو أن يتخذ ذلك سبيلا لترجيح قول من أقوال العلماء المتقدمين في هذا الراوي فنعما هو. واضح ؟؟
-: نعم.
الشيخ: باقي خمس دقائق فقط ... إن شاء الله. ( لا حظ حرص الشيخ على الوقت )
-: ــــ عشر دقائق يا شيخ ..
الشيخ: خمس دقائق فقط.
-: .. قضية التحسين: هناك من يرى أنها ليست حكما على السند من حيث النظر في ثقة الرجال واتصاله، ولكنها تعني صلاحيته للعمل، أو جريان العمل عليه مع كونه منحطا عن رتبة الصحيح إلى الضعيف ضعفا محتملا، وربما قصد بالتحسين الغرابة والتفرد، وهناك من يرى أن الحسن لغيره وقبول الحديث بمجموع طرقه إنما نشأ من عند المتأخرين، فنرجو التفصيل في هذا.
الشيخ: التفصيل الآن لا مجال له، لكن أقول: هذا الذي يقول هذا الكلام – وأنا لا أدري من هو القائل – إنما يهرف بما لا يعرف، الحديث الحسن عند علماء الحديث معروف أنه ما توفر فيه كل شروط الحديث الصحيح إلا أن أحد رواته خف ضبطه، هذا هو الحديث الحسن، هو خلط – من جملة خلطه الذي أشرت إليه – أنه قد يطلق الحسن على حديث غريب، والعكس هو الصواب، قد يطلق الغريب على الحديث الحسن، بل وعلى الحديث الصحيح أيضا، لأن علماء الحديث يقولون: الغرابة قد تجامع الصحة، ذلك بأن المقصود بالغرابة هو التفرد، فلا فرق بين من يقول: هذا حديث غريب، وبين من يشرح فيقول: تفرد بهذا الحديث فلان، حينذاك حينما ننظر في المتفرد أهو ثقة ؟ قلنا حديثه صحيح، أهو دون الثقة ضبطا ؟ قلنا حديثه حسن، قلنا: إنه ضعيف الحفظ، فالحديث حينذاك ضعيف، فالغرابة تجامع الحسن والصحة، وليس الحسن يطلق ويراد به الغرابة، هذا خطأ، والمهم هذا كلام كله نابع من معين واحد، معين عكر يعني، لأنه لا ــــ على المصطلح، فالحديث الصحيح ينقسم لذاته ولغيره، والحسن أيضا لذاته ولغيره، فقد يكون الحديث حسنا بمجموع طرقه، هذا يكون أحيانا، لكن الحديث الحسن إذا أطلق فالمقصود: حديث حسن لذاته، ولذلك فالإمام الترمذي – ولعله من القرون التي يطلقونها على الجيل الأول من علماء الحديث – فإنه تلميذ الإمام البخاري، ولم يجاوز القرن الثالث، فهو قد اصطلح على تقسيم الحديث إلى صحيح وحسن .. بل لعلي أطلقت القول بأنه اصطلح .. لأن الحقيقة أن الذي اصطلح على هذا هو شيخه البخاري، وإنما التلميذ الترمذي أشاع هذا الاصطلاح في كتابه السنن، لكنه فرق بين الحديث الحسن لذاته والحسن لغيره، حيث ذكر في آخر كتابه السنن، في العلل التي تعرف بالعلل الصغرى .. فرق بينما إذا كان الحديث حسنا لذاته أو حسنا لغيره عنده، فيقول في الحديث الحسن لذاته: حديث حسن غريب، أما إذا كان الحديث حسنا لغيره لا يقول: غريب، يقول: حديث حسن، أي إنه تقوى بمجموع طرقه، وقد نص على أنه يشترط عنده ألا يكون في تلك الطرق من هو متهم بالكذب. وبهذا القدر كفاية والحمد لله رب العالمين.
-: .....معنى أن ( حسن غريب ) هو حسن لذاته .... أنا تتبعت شيئا، إذا قال: حسن، معناه حسن لغيره، لكم إذا قال: حسن غريب، قلتم: هو حسن لذاته، أنا ما وجدت هذا عند المتقدمين ... فيما قرأت ..
الشيخ: هذا كلام الترمذي.
-: ... هو يبين، لكن هل قصده الحسن لذاته ؟
الشيخ: ما معنى حديث صحيح غريب ؟ ما معنى غريب ؟
-: ... هم اختلفوا ...
-: الشيخ: .. معليش .. معليش ... قل ما شئت مما اختلفوا ... ما معناه ؟
-: صحيح ... يعني ....
الشيخ: لا، لا ، صحيح غريب، ما معناه ؟
-: يعني أنه فرد.
الشيخ: فرد ؟؟
-: نعم.
الشيخ: هذا الذي قلته آنفاً.
علي الحلبي: هو الحسن لذاته.
الشيخ: وحسن غريب ؟
-: أي .. معناه .. فرد.
الشيخ: فرد.طيب. وحسن؟؟
-: عند الترمذي ... يتقوى ..
علي الحلبي: حسن لغيره.
..........
-: الشيخ ربيع كَلَّمَكُم ؟؟؟
الشيخ: أي نعم.
-: ( يكلم الشيخ على وفاة أحد الإخوان )
الشيخ: أي والله ... رحمهم الله .. بلغكم وفاة ... ؟؟؟
-: نعم ..
الشيخ: كلنا على هذا الدرب ..
-: درب واحد لا يختلف.
الشيخ: نسأل الله الوفاة على الإيمان.
-: اللهم آمين.

****************************

من شريط رقم 842

... خطورة الإخلال بالقواعد المشهورة من أفراد ولو كانوا علماء ومن ذلك ما يدور على لسان بعضهم من التفريق بين منهج المتقدمين والمتأخرين في الحسن لغيره؟؟؟
قال الأخ –لم أعرف من هو-: شيخنا في هذه الأيام طلبة يدندنون حول مسألة الحسن لغيره هذا ليس مذهب المتقدمين أنما هو مذهب المتأخرين , فأردنا منكم كلمة بهذا الصدد لا سيما ونحن نعرف كلام الإمام الشافعي في باب الاستشهاد في المرسل متى , وكلام الإمام الترمذي , فهم يجيبون أن الشافعي أصولي والترمذي متساهل .
الشيخ ناصر رحمه الله : الله أكبر الله أكبر.
الأخ : والله بارك الله فيكم.يعني هذا هو جوابهم.
قلنا بعض العلماء يقولون نروي الحديث على ثلاثة أوجه:
1. منها للعمل به.
2.منها للمعرفة وللتحذير منه.
3.منها للاستشهاد والاعتبار.

الدار قطني يروي كثيراً عن بعض الرواة ويقول يعتبر به والإمام أحمد قال عن ابن لهيعة إنما أكتب حديثه لأعتبر به فإذا قيل لهم ذلك فيقولون الاعتبار هنا معناه أن هذا الضعيف يشهد له صدوق أو ثق من عنده إذا كان هناك رواية صحيحة مع رواية ضعيفة , أما رواية ضعيفة مع رواية ضعيفة وإلا فلا.
الشيخ ناصر رحمه الله : هذه الحداثة , تضر الدعوة بعامة والحديث بخاصة أنهم يريدون أن يضعوا قواعد حديثة و جديدة لعلم الحديث يكفيهم في هذا أنهم يقعون في مخالفة قوله تعالى "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا" ، فهؤلاء يخالفون سبيل المؤمنين.
لا يمكن إطلاقا لأحد من أهل الإسلام لا نتكلم عن الكفار أن يأتي برأي جديد سواء أكان فرعاً أو أصلاً , قاعدةً أو فرعاً من قاعدة لا يمكن لأحد من هؤلاء أن يأتي بشيء يخالف فيه المسلمين لأن الله يهدد من يفعل ذلك بالآية.
لآن من المعلوم في علم الحديث وعلم أصول الفقه أيضاً أن الحديث صحيح ,حسن , ضعيف وهناك تقسيمات أخرى لسنا الآن بصددها فلو أن إنساناً ما اليوم من المغرورين بعلمهم وإن شئت بجهلهم. فلو قالوا ما في عندنا إلا حديث صحيح وضعيف فهنا يكون شاقوا الله ورسوله وسبيل المؤمنين.
من الجهة الواقعية لا سبيل أبداً لمخالفة هؤلاء العلماء لأن أي علم يمضي عليه قرون وقرون والعلماء يتتابعون في البحث فيه لا شك أنه يأخذ قوةً دعماً من المتقدم والمتأخر فإذا ما جاء إنسان أن يضرب هذه الجهود كلها إلا رجل أحمق. لا يجوز لمسلم أن يخالف سبيل المؤمنين.

*******************
يتبع

أبو عمير
04-25-2008, 01:28 PM
تتمة
قول للشيخ سليم الهلالي: [ من موقع الشيخ ]

سؤال:هناك من يرد الحديث الحسن لغيره بالكلية ويزعم أن هذا منهج المتقدمين من علماء الحديث وأن الذي طار به وأشهره هم المتأخر ون فما هو الموقف الصحيح من هؤلاء ؟

الجواب:

إن التفريق بين منهج المتقدمين والمتأخرين في علم الحديث بدعة وإن ظنوا أنفسهم على شيء وإليك التفصيل.
1- ليس لديهم حد في معرفة المتقدمين من المتأخرين وأدل شيء على ذلك اضطرابهم فيما بينهم فبعضهم يقول الخطيب البغدادي وآخر الدارقطني و .... إلخ.
2- على فرض صحة ما قالوه في التفريق الزمني بين المتقدمين والمتأخرين فمن من أهل العلم قال بذلك ؟
3- أن علماء الحديث الذين زعموا أنهم متأخر ون من أمثال ابن الصلاح وابن حجر لم يأتوا بمصطلحات حديثية من تلقاء أنفسهم بل جمعوا ورتبوا وألفوا بين ما تركه الأقدمون.
4- وأما ما يتعلق بالحديث الحسن لغيره فالجواب على وجوه متعددة:
الأول: هذا التفريق ليس له أصل عند علماء المسلمين، ولذلك فهذا القول مخترع ومحدث.
ولقد سمعت شيخنا أسد السنّة وقامع البدعة أبو عبد الرحمن ناصر الدين الألباني -وقد سئل عمن لا يقوون الحديث الضعيف بتعدد طرقه ـ فتلا قوله تعالى: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً.
الثاني: اضطرابهم في تحديد من هو المتقدم ومن هو المتأخر. لذلك لا تجد لهم قولاً ثابتاً بل كل منهم قوله واجتهاده.
الثالث: قوله تعالى: واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى.
ووجه الدلالة: أن معنى " تضل " ، أي: تنسى؛ فجبر الله عز وجل نقص المرأة وخطأها ونسيانها بالأخرى؛ فيتبين أن الضعيف يشتد بمثله، فمن كان في حفظه ضعف أو نقص ينجبر إذا تابعه غيره.
الرابع:قول علماء الجرح والتعديل في بعض الرواة: فلان يكتب حديثه، ولا يحتج به، و«فلان يعتبر به» و«فلان لا يعتبر به».
فكون الراوي يعتبر به ويكتب حديثه؛ أي: يصلح للاعتبار في المتابعات والشواهد.
قال ابن الصلاح رحمه الله في المقدمة في علوم الحديث : ثم اعلم أنه قد يدخل في باب المتابعة والاستشهاد رواية من يحتج بحديثه وحده، بل يكون معدوداً في الضعفاء، وفي كتابي البخاري ومسلم جماعة من الضعفاء ذكراهم في المتابعات والشواهد، وليس كل ضعيف يصلح لذلك، ولهذا يقول الدارقطني وغيره في الضعفاء: فلان يعتبر به، وفلان لا يعتبر به.
وبهذا يتضح مقصد علماء الجرح والتعديل أن الضعيف الذي لم يشتد ضعفه ينجبر برواية غيره.
الخامس: مسألة الحفظ نسبية، ولذلك يختلف اجتهاد العلماء في بعض الرواة، فبعضهم يصحح حديثهم، وآخرون يحسنونه وقد يضعفهم آخرون، وقد سبق كلام المصنف رحمه الله في الحديث الحسن: ثم لا تطمع بأن للحسن قاعدة تندرج كل الأحاديث الحسان فيها، فأنا على إياس من ذلك، فكم من حديث تردد فيه الحفاظ، هل هو حسن أو ضعيف أو صحيح ؟ بل الحافظ قد يتغير اجتهاده في الحديث الواحد؛ فيوماً يصفه بالصحة، ويوماً يصفه بالحسن، ولربما استضعفه. وهذا حق، فإن الحديث الحسن يستضعفه عن أن يرقيه إلى رتبه الصحيح، فبهذا الاعتبار فيه ضعف ما، إذ الحسن لا ينفك عن ضعف ما، ولو انفك عن ذلك لصح باتفاق.
وسيأتي قوله رحمه الله في الضعيف «ما نقص عن درجة الحسن قليلاً، ومن ثم تردد في حديث الناس، هل بلغ حديثهم إلى درجة الحسن أم لا ؟
وبلا ريب فخلق كثير من المتوسطين في الرواية بهذه المثابة، فآخر مراتب الحسن هي أول مراتب الضعيف.
ورحم الله شيخه ابن تيميه القائل في مجموع الفتاوى: وقد يكون الرجل عندهم ضعيفاً؛ لكثرة الغلط في حديثه، ويكون حديثه الغالب عليه الصحة لأجل الاعتبار به والاعتضاد به؛ فإن تعدد الطرق وكثرتها يقوي بعضها بعضاً حتى قد يحصل العلم بها، ولو كان الناقلون فجاراً فساقا، فكيف إذا كانوا علماء عدولاً، ولكن كثر في حديثهم الغلط.
السادس: الاعتبار بحديث الضعيف الذي لم يشتد ضعفه من البدهيات التي يقتضيها العقل الصحيح؛ لأنها عملية رياضية واضحة.
السابع: ما جرى عليه علماء الحديث خلفاً عن سلف، وورثوه كابراً عن كابر.
قال سفيان الثوري رحمه الله: إني لأكتب الحديث على ثلاثة وجوه: فمنه ما أتدين به، ومنه ما أعتبر به، ومنه ما أكتبه لأعرفه.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: قد يحتاج الرجل أن يحدث عن الضعيف مثل عمرو بن مرزوق، وعمرو بن حكام، ومحمد بن معاوية، وعلي بن الجعد، وإسحاق بن إسرائيل، ولا يعجبني أن يحدث عن بعضهم.
وقال في رواية ابن القاسم: ابن لهيعة ما كان حديثه بذاك، وما أكتب حديثه إلا للاعتبار والاستدلال، إنما قد أكتب حديث الرجل كأني أستدل به مع حديث غيره يشده، لا أنه حجة إذا انفرد.
وقال في رواية المروذي: كنت لا أكتب حديث جابر الجعفي ثم كتبته؛ اعتبر به.
وقال الدارقطني رحمه الله: وأهل العلم بالحديث لا يحتجون بخبر ينفرد بروايته رجل غير معروف، وإنما يثبت العلم عندهم بالخبر إذا كان رواته عدلاً مشهوراً، أو رجل قد ارتفع اسم الجهالة عنه، وارتفاع اسم الجهالة عنه أن يروي عنه رجلان فصاعدا، فإذا كان هذا صفته ارتفع عنه اسم الجهالة،وصار حينئذ معروفاً، فأما من لم يرو عنه إلا رجل واحد انفرد بخبر وجب التوقف عن خبره ذلك حتى يوافقه غيره، والله أعلم.
وقال البيهقي رحمه الله: ونحن لا نقول بالمنقطع إذا كان منفرداً؛ فإذا انضم إليه غيره، أو انضم إليه قول بعض الصحابة، أو ما تتأكد به المراسيل، ولم يعارضه ما هو أقوى منه؛ فإنا نقول به.
وقال النووي رحمه الله: إذا روي الحديث من وجوه ضعيفة لا يلزم أن يحصل من مجموعها حسن، بل ما كان ضعفه لضعف حفظ راويه الصدوق الأمين زال بمجيئه من وجه آخر وصار حسناً، وكذا إذا كان ضعفها الإرسال زال بمجيئه من وجه آخر.
وقال الذهبي رحمه الله: فكتاب أبي داود أعلى ما فيه من الثابت ما أخرجه الشيخان وذلك نحو شطر الكتاب، ثم يليه ما أخرجه أحد الشيخين، ورغب عنه الآخر، ثم يليه ما رغبا عنه، وكان إسناده جيداً سالماً من علة وشذوذ، ثم يليه ما كان إسناده صالحاً وقبله العلماء؛ لمجيئه من وجهين لينين فصاعداً يعضد كل إسناد منهما الآخر.
قال الحافظ العراقي:
فإن يقل يحتج بالضعيف فقل إذا من الموصوف
رواته بسوء حفظ يجبر بكونه من غير وجه يذكر
وإن يكن لكذب أو شذا أو قوي الضعيف فلم يجبر ذا
ألا ترى المرسل حيث أسندا أو أرسلوا كما يجيء اعتضدا

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ومتى توبع السَّيِّء الحفظ بمعتبر، وكذا المستور، والمرسل، والمدلس صار حديثهم حسناً لا لذاته بل بالمجموع.

*********************************

قول للشيخ أبي إسحاق الحويني:


في شريط ماتع للشيخ، اسمه " أسئلة حول تخريج الأحاديث "، وهو موجود في موقع " طريق الإسلام "، طرح عليه هذا السؤال:
هناك أيضا مقولة الآن تنتشر بين طلبة العلم، يعني أن أقوال العلماء المتأخرين ما يُأْخَذُ بهم، فنحن نعتمد على أقوال العلماء المتقدمين في هذا العلم، يعني لو جاء مثلا الذهبي أو الحافظ ابن حجر، وهو متأخر عندهم، وتكلم في هذا العلم ، لا يؤخذ عنه كلامه، لا بد نرجع إلى الأصل: العلماء المتقدمين، فما رأيك في هذا ؟ وهل سمعت عنه ؟
فأجاب الشيخ قائلا:
نعم، طبعا سَمِعْت، أنا أجيب بجواب إجمالي، لأن الجواب التفصيلي مكانه واسع:

لا مانع أن تُبحث هذه المسألة بحثا علميا، لكن بين أهله. مسألة تعليل المتقدمين والمتأخرين، هذه مسألة مشهورة، لكن الخطورة في المسألة: دخول الصغار في هذه القضية، الخطورة البالغة أن يدخل صغير حدث له من العمر أربع سنوات في علم الحديث، ويقول: أنا لا أحتج بالذهبي ولا بابن حجر، ولا أحتج بالخطيب البغدادي، ولا أحتج بفلان، إنما أحتج بتعليل فلان. المسألة تناقش .. يعني مثلا .. تعليل المتقدمين تعليل إجمالي في الغالب، كثيرا ما يُعِلّون تعليلا إجماليا، فمثلا يسأل أبو حاتم الرازي عن حديث فيقول: هذا خطأ، ويسكت! خطأ من أين ؟ من المخطئ ؟ وما وجه الخطأ ؟ و .. و .. الخ ..... بعض المتأخرين يأتي فيقول: أما قول أبي حاتم "خطأ" فلا وجه له، طيب .. كلمة "لا وجه له " لأنه لم يظهر للمتأخر وجه تخطئة أبي حاتم الرازي مع ثقة الرجال، لأن المتقدمين مع جلالتهم ليسوا بمعصومين، وما كان قولهم قانونا لا يجوز الخروج عليه، والله تبارك وتعالى ما احتجر الصواب لفلان على فلان ، ولا أعطاه للمتقدمين وحجبه عن المتأخرين ، بل جعل العلم شيئا مقصورا بين عباده، يفتح للمتأخر منه ما أغلقه عن المتقدم. فإذا انطلقنا من هذه المسألة .. الذي يأتي فيقول: أنا آخذ بتعليل أبي حاتم الرازي وأرد المتأخر، نقول له: ما الحجة في قبولك أبي حاتم الرازي ؟ يعني: لما أنت الآن تتبنى قول أبي حاتم الرازي أن هذا الحديث خطأ، أنا أسألك: أين وجه الخطأ ؟ يمكن أن تقول لي: أبو حاتم أعلم، إذن، دخلنا في التقليد، وهذا علم المجتهدين .. علم الحديث علم المجتهدين، فلما يأتي فيقول: أنا قلدت أبا حاتم الرازي، أقول له شيئا أحسن من هذا: لو أن البخاري صحح حديثا وأبو حاتم أعله، وكلاهما من المتقدمين، فماذا نفعل ؟ يعني : البخاري أودعه في صحيحه ، وهو إمام كبير ثقة فحل، وأبو حاتم الرازي قال: هذا خطأ، أو الإمام مسلم وضع في الصحيح حديثا وأعله أبو حاتم الرازي ؟ وفي العلل عدة أحاديث هي في صحيح مسلم، ويقول أبو حاتم الرازي إنها خطأ، فبأي القولين تأخذ، وكلاهما من المتقدمين .. دعك من المتأخرين ؟ .. ما هو الدليل الذي ترجح به قول هذا على ذاك ؟ إن قال: أنا أرجح قول فلان على فلان .. هذا نفس الكلام الذي أحتج أنا به في ترجيح كلام المتأخر على المتقدم أحيانا، فالمسألة ليست جديدة، لكن الجديد، أو الخطير في المسألة أن يدخل الصغار في هذا الفن، بالذات في معترك الأقران الكبار الفحول، يعني مثلا أنه دخل في ماء ضحل، لكنه أَوْغَلَ في البحر. و - الجواب ما زال إجماليا حتى الآن - مما يدل على أن القضية التي تبناها هؤلاء تحتاج إلى نظر: أن الكبار من أئمة الفن ما تكلم أحد منهم ولا تبنى هذه القضية، فاليوم : رجل له ستين سنة أو سبعين سنة في الفن، يمارس ، وعنده ذكاء ، وعنده ملكة وتبحر واطلاع، أم رجل له أربع سنوات فقط في علم الحديث ؟ أيهما أولى أن يأخذ بقوله إجمالا ؟ مع أننا نعتقد أن الصواب قد يكون مع الصغير أحيانا ، لكن إجمالا يكون الصواب يكون مع الكبير ، فما وجدنا حتى الآن عالما ممن يشار إليه بالبنان ، الآن في الأرض تبنى هذه الدعوة، فهذا – على الأقل – يعطي علامة استفهام، يقال لهذا الرجل: قف. لكن القضية طويلة، والبحث فيها طويل مثلها.
العجيب، أنهم يجعلون الخطيب البغدادي أول المتأخرين، والدارقطني آخر المتقدمين. فيقال: إن الدعاوي يستدل لها، لا بها ، فما هو الدليل على أن الخطيب البغدادي من المتأخرين ؟ يعني - مثلا - الدارقطني توفي سنة 385 هـ ، يقولون: هذا آخر المتقدمين، مَنْ مِنَ السابقين قال إن الدارقطني آخر المتقدمين ؟ هذه مجرد دعوى .. طيب .. لو مثلا مات أحد سنة 390 هـ، هذا متقدم أو متأخر ؟ أم نجعله في البرزخ، على الأعراف، نجعله لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء ؟ 385 هـ هذا آخر المتقدمين .. طيب 386 نلحقه بمن ؟ و387 ؟ ونبقى نمشي سنة وراء سنة، إلى أن يقول لنا: هنا في هذا المكان الفيْصَل، نقول له: ما الدليل على أن هذا هو الفيصل ؟ ولماذا الخطيب البغدادي يكون أول المتأخرين ؟ مع أنهم يردون كلام الخطيب.
أنا أدري لماذا جعلوه أول المتأخرين: لأن الخطيب البغدادي هو الذي فَصَّلَ هذا العلم، وكل من جاء بعده نسج على منواله، فلو أنه قال إن الخطيب البغدادي من المتقدمين لَلَزِمَهُ القول بأن كل ما أتى بعده يجري على سنن المتقدمين، لكنهم لما رأوا أنه ليس هناك أحد قبل الخطيب سطر علوم الحديث ولا قيدها، ولا وضع لها ضوابط ولا قوانين .. إذن يكون هذا من المتقدمين، إنما لو قال إن الخطيب من المتقدمين، فَكُلُّ النسج على منواله، وبالتالي تُهْدَمُ الدَّعوى، فاضطر أن يقول إن الخطيب البغدادي هو أول المتأخرين والدارقطني آخر المتقدمين.
ومع أن هذه مجرد دعوى لا دليل عليها، فلم يقل أحد من العلماء قط إن الدارقطني هو آخر المتقدمين، لكن أنا كشفت – في ظني – أنهم قالوا إن الخطيب أول المتأخرين لهذه العلة التي ذكرتها ، والله - تبارك وتعالى - يهدي المسلمين لما يحب ويرضى.

قول آخر لأحد طلاب الشيخ الألباني رحمه الله:

سؤال: ظهرت طائفة من طلاب العلم مؤخرا تدعو إلى التمسك بمنهج المتقدمين وترك ما عليه الأئمة المتأخرون، زاعمين أن بينهم اختلافا كبيرا وتباينا ظاهرا ، فما حقيقة دعوة هؤلاء ، وهل هم متفقون في دعوتهم على ما بينهم من بعد في البلاد ؟؟

الجواب :

أقول: من ناحية مذهب المتقدمين ومذهب المتأخرين، وهذه الشنشنة التي كثر الكلام حولها، وطلبة العلم لا يكادون يتركون شيئا إلا وقد تلقفوه والتقطوه دون إدراك منهم لحقيقة هذه المقالات، و دون إدراك منهم لمآل هذه المقالات في دعوتهم .. عندما يقال " متقدمون ومتأخرون " و " أن المتأخرين خالفوا مذهب المتقدمين " .. فأنا أقول: لا شك أنه يجب على المتأخر والمعاصر والسابق واللاحق أن يأخذ بطريقة المتقدمين التي بثوها في كتبهم والتي بينوها في المراجع التي وصلت إلينا منهم، ولا يسعنا الخروج عن طريقة المتقدمين؛ لكن .. من أين لنا أو لهؤلاء أن المتأخرين خالفوا المتقدمين ؟ أنا الذي أعتقده وأدين الله به أن من يسمون بالمتأخرين كالحافظ ابن حجر والحافظ الذهبي والحافظ العراقي وابن الصلاح والنووي وأمثال هؤلاء .. خدموا مذهب المتقدمين ونصروه وأشادوا به وبينوه وشرحوه ومهدوه وقربوه للناس أحسن بمرات لا توصف بالنسبة لمن جاء بعدهم من طلبة العلم أو بالنسبة للمعاصرين الذين يتكلمون بهذا، هذا الذي أدين الله به، أن المتأخرين خدموا مذهب المتقدمين .. أقول " خدموا " ولا أقول " هدموا " كما يتصور هؤلاء الذين يتكلمون بهذه الكلمة، وأقول إن كل مسألة أصاب فيها هؤلاء القائلون بهذه المقالة أنا أثبتها من كلام المتأخرين .. أنهم سُبقوا إليها، أي مسألة أصابوا فيها، سأثبتها من كلام المتأخرين الذين يعتقدون أنهم قد انسلخوا من مذهب المتقدمين، موجود هذا الكلام في كلام المتأخرين، أي مسألة أصابوا فيها مسبوقون إليها .. هذه الدعوة فقط أوغرت صدور طلبة العلم على العلماء، وأدخلت في صدور طلبة العلم التهوين والتحقير للعلماء ، بأن هؤلاء لم يفهموا مذهب المتقدمين، بأن هؤلاء ما عرفوا ولم يتذوقوا ما كان عند المتقدمين .. وهذا افتراء وظلم، عندما يقال في الحافظ ابن حجر والحافظ الذهبي وابن الصلاح وفلان وفلان ما فهموا مذهب المتقدمين، ونحن نراهم يرد بعضهم على بعض بطريقة المتقدمين، فإذا عرف أحدهم تعريفا أورد عليه إيراد واستدل على هذا الإيراد بنص من كلام الأئمة المتقدمين .. ما كان هَمّ المتأخرين التعريفات – كما يقال – إنهم تأثروا بعلم الكلام وأصبح همهم التعريفات حتى سموا كتبهم علم المصطلح، وكان هذا العلم معروفا بعلم معرفة علوم الحديث، والآن أصبح عند الناس معروفا بالمصطلح، لاعتنائهم ولتشبثهم بقضية التعريف،وكأن هؤلاء يعرفون تعريفات لا واقع لها عند المتقدمين، هذا ظلم .. وهذا أقل أحواله جهل حقيقة ما عليه المتقدمون فضلا عن المتأخرين .. المتقدمون الذين نقول نحن ننصر مذهبهم ونقوم به وندافع عنه .. الحقيقة أن الكثير ما فهِم مذهبهم فضلا عن أن يفهم مذهب المتأخرين الذين هم عنده قد أخذوا أو قبضوا بمعاول الهدم ليهدموا هذا الصرح العظيم .. ألا وهو مذهب المتقدمين.
ما هي المسائل التي يتكلم بها كثير من طلبة العلم بأن المتأخرين خالفوا مذهب المتقدمين ؟
يقولون: إن المتأخرين ما عندهم سبر للمتون، ما عندهم نقد للمتون ؟ أهم شيء عندهم النظر في الأسانيد! سبحان الله! هم قد نصوا بأنه لا يلزم من صحة الإسناد صحة المتن، ما قالوا هذا ؟؟ ولا يلزم من ضعف الإسناد ضعف المتن، صرحوا بهذا وقالوه، فكيف يقال إنهم إذا صح عندهم السند .. وكأنه ثقة عن ثقة عن ثقة عن ثقة يساوي صحيح ؟؟ ثقة عن ثقة عن صدوق عن ثقة يساوي حسن ؟ ما شاء الله ! هذا مستوى الحافظ ابن حجر ؟؟ هذا مستوى ابن رجب ؟ هذا مستوى الأئمة الذين جاءوا بعد ذلك ؟ وأكون أنا – الذي لا أبلغ عشر معشارهم – الذي فهمت وأتقنت طريقة المتقدمين ؟؟ لا !!
المتأخرون عندهم سبر للمتون، وعندهم نظرة دقيقة للمتن، لكن المتأخر – نظرا – لقلة حصيلته العلمية – إذا سمع حديثا ظن أنه يخالف أصلا، فإذا به يرده، ثم تفحص كلام المتأخرين فلم يجد أحدا رده، إنما اتفقوا على تصحيحه، قال: إذن هؤلاء لا يلتفتون إلى النكارة في المتن، مع أنه لو اتسعت حصيلته وكثر علمه لوجد لهذا المتن شاهدا - لقلة علمه - غاب عنه، فظن أن هذا الحديث يخالف الأصول، ولهذا أمثلة كثيرة .. لا يتسع المقام لضرب الأمثلة، ولكن أقول: قلة العلم سبب في دعوى النكارة والمخالفة، ولذلك ابن خزيمة محمد بن إسحاق – رحمه الله –عندما يقول " اتوني بأي حديث يعارض آخر، فسأجمع بينهما "، هذا نتيجة ماذا ؟ أنه مغامر ؟ لا ! نتيجة أن عنده من العلم والحصيلة الواسعة – حتى وصفه تلميذه ابن حبان وشبّهه برجل قام على رأس جبل وجمعت السنة بين يديه في شعب، فهو يأخذ منها ما يريد وما يشتهي، لأنه استحضر السنة، وجمع أطرافها في الغالب، فكلما كثرت حصيلة علم الرجل كلما قلت دعوى النكارة، لماذا ؟ لأنه يجد لهذا المتن مخارج ومحامل يحمله عليه، بخلاف الإنسان الذي ما معه إلا عدد يسير من العلم، سمع هذا الحديث .. خالف ما يعرف فادعى فيه النكارة، فلما التفت .. هل أحد سبقه بالنكارة ؟ لا ! المتأخرون قالوا فيه بالقبول وصححوه : إذن المتأخرون لا يلتفتون إلى المتن ! وأقول: الحقيقة أن القصور في الإلمام بالمتون هو الذي فتح هذا الباب، أقول هذا وأنا أستحضر تماما بعض المواضع التي حكم فيها بعض المتقدمين بالنكارة وصححها المتأخرون أو بعضهم، وهنا نقطة لا بد أن تبين، لو قال أبو حاتم في حديث " هذا الحديث منكر " فجاء الحافظ ابن حجر أو من بعده فصحح هذا الحديث .. قالوا: إذن ابن حجر أو هذا المصحح لا يلتفت إلى النكارة في المتن، أو لا يأبه إلى مذهب المتقدمين ولا يبالي به، أقول: لا ! متى نقول هذا القول ؟ أقول: إذا أمكن أن تجمع بين كلام المتقدم وكلام المتأخر فلا تعارض ولا تناقض، فمن الممكن عندما قال أبو حاتم " هذا حديث منكر " أي: من هذا الوجه، أي: بهذا السند، والذي جاء بعده، عندما قال " حديث صحيح " أي: بمجموع طرقه، ففي هذه الحالة لا مخالفة، وقد وجد ذلك بكثرة، كم من حديث يطلق أبو حاتم فيه القول بأنه منكر فيقول ابنه " يعني: بهذا السند "، وكم من حديث يطلق فيه أبو حاتم في موضع من علله بأنه منكر وفي موضع آخر يقيد، ويقول بهذا السند، ونحن نعلم في كتب العلل أنهم يطلقون النكارة على أحاديث أصلها صحيح، وهذا موجود بكثرة، وقد يقول " هذا غير محفوظ " والحديث في الصحيحين، وهو يعني " غير محفوظ من حديث فلان، أو من رواية فلان عن فلان، وإن كان محفوظا من غير هذا الوجه " .. في هذه المسائل ينبغي التوسع والاستقراء التام في معرفة كلام أهل العلم، حتى لا نحملهم ما لم يقولوا، وليس ذلك فقط .. نرجع ونتهم الأئمة الآخرين الذين منّ الله عليهم بالعلم والفهم، فالمسألة الأولى .. مسألة النظر في المتون والعلل المتنية، وأن المتأخرين – ولله الحمد – لم يغب عنهم هذا الأمر، وباشروه وعملوا به، ولكن عند المعاصر، ربما أنه – لقلة علمه وعدم اتساع حصيلته - لم ير ما رآه غيره .. فإذا أمكن الجمع بين كلام المتقدم والمتأخر فلا مناص عن ذلك، أما إذا تعارض كلامهما ولا يمكن تأويل هذا الموضع .. إما أنك أن تأخذ بكلام المتقدم أو بكلام المتأخر .. فأنا عن نفسي، وأنصح به إخواني: أننا لا نعدل عن كلام المتقدم ولا نرضى به بديلا. إذا كان هناك تناقض معناه: إن أخذت بكلام المتأخر تركت كلام المتقدم، فأقول: إن المتقدمين وقفوا على أصول الرواة، ووقفوا على رواية مشايخهم وزملائهم وتلامذتهم، وعرفوا النكارة، وعرفوا الأمر أكثر من المتأخرين .. كما تعرفون، قال ابن حبان: " دخلت حمص، فكان جل همي أن اعرف حديث بقية، فتتبعت حديثه عاليا ونازلا ". من في إمكانه أن يتتبع اليوم حديث الرواة عاليا ونازلا ؟ ليس باستطاعتنا هذا الأمر، فإذا أمكن الجمع فهو الواجب، وإلا فلا أظن رجلا قد تشبع بهذا العلم وألفت نفسه هذا العلم يترك كلام المتقدم، لأن المتقدم بعرف ما لا يعرفه المتأخر .. هذه المسألة الأولى التي خالف فيها المتأخرون - عند من ورد السؤال عنه - المتقدمين.
المسألة الثانية غير مسألة المتن، الشواهد والمتابعات .. هل الحديث الضعيف يشتد بالضعيف الآخر إذا اختلفت المخارج على الشروط السابقة أم لا ؟ قال قائلهم: إن المتقدمين لم يعملوا بذلك، ولم يقولوا بهذا الشرط ! سبحان الله ! ألم يقل الشافعي في الرسالة إن الحديث المرسل يتقوى بكذا وكذا وكذا .. ، ومنه مرسل آخر مثله إذا اختلفت المخارج، أو موصول ضعيف، أو اتصل بعمل أو بفتوى صحابي، أو بغير ذلك ؟ أيقال إن الشافعي ليس من المتقدمين ؟ بقي لنا سؤال: ما حدود المتقدمين من المتأخرين ؟؟ لكن أنا أتركه للأخير .. طيب .. عندما يقولون الشافعي متساهل ولم يُعرف بالحديث فهذه فرية أخرى، الشافعي أعرف بالحديث وألصق بالحديث منهم، والشافعي ما أخطأ – كما قالوا – إلا في حديث واحد، والشافعي مدحه الإمام أحمد في هذا الشأن، لكن ممكن أن يقولوا: هذا في باب الأصول، وشرط الأصوليين يختلف عن شرط المحدثين، فنقول لهم: مع أن هذا كلام باطل، إلا أن هناك أدلة أخرى، ماذا يقولون في تعريف الترمذي في تعريف الحديث الحسن ؟ الترمذي متقدم أم لا ؟ ربما يقولون: الترمذي ليس له صلة بهذا العلم، كيف وهو صاحب العلل ؟ والترمذي من علماء العلل ومن علماء هذا الشأن، وهو تلميذ الإمام البخاري، الفارس في هذا الميدان، قد يقولون " متساهل "، نقول: لكِنّكم – إذن - تحتاجون إلى قيود في هذا القول، تقولون: هذا ليس معروفا عن مذهب المتقدمين، الذين ليسوا بأصوليين، وليسوا بمتساهلين، وكلما أتينا لكم بمثال، ضعوا له شرطا أو قيدا جديدا في قاعدتكم حتى تسلم لكم القاعدة من الإيراد، لكن أقول: بقي إيراد ثالث، وهو: جاء في كتاب الضعفاء الكبير للعقيلي في ترجمة ابن أخي عبد الله بن وهب، فيما أذكر الجزء الرابع صفحة 80 أو 88 .. ابن معين عدّ ابنَ أخي عبد الله بن وهب ... لا .. ابنَ أخي الزهري .. فيما أذكر .. عَدّهُ من جملة الضعفاء، قال العقيلي: وأما محمد بن يحيى الذهلي – تعرفون أنه شيخ الإمام البخاري وشيخ الإمام مسلم، وكانوا يقولون لاعتنائه بحديث الزهري " إنه محمد بن يحيى الزهري " وليس الذهلي، حتى ألف كتابا سماه " الزهريات " في حديث الزهري – فقد قسم تلامذة الزهري إلى ثلاث طبقات، الأولى طبقة الاحتجاج والقبول والقوة، هم الذين بِهم يُخْتبر ويُمتحن تلامذة الزهري، فمن وافقهم فقد أصاب ومن خالفهم فقد أخطأ، وهؤلاء مثل مالك بن أنس، ومثل معمر وسفيان بن عيينة .. الذين هم أهل التثبت وأهل الملازمة وأهل المعرفة لحديث شيخهم، وأما ابن أخي الزهري فهو في الطبقة الثانية، أهل الضعف والاضطراب، هذا ما يقول محمد بن يحيى الذهلي، قال: فإذا اختلف أصحاب الطبقة الثانية في حديثٍ نظرنا في أهل الطبقة الأولى، هل وافقهم أحد أم لا .. اختلف اثنان في الطبقة الثانية فننظر في الطبقة الأولى من يوافقهم على هذا، فإذا رأينا من الطبقة الأولى من يوافق رواية أحد هذين الاثنين رجحنا رواية الذي ووفق في الطبقة الأولى وتوبع، وكانت الثانية خطأ بلا شك، فإذا لم نجد في الطبقة الأولى،طبقة الاحتجاج – وهنا يبدأ الشاهد – نظرنا في الطبقة الثانية طبقة الضعف والاضطراب هل تابع أحد هذين الاثنين رجل في الطبقة الثانية على قوله، فإذا كان كذلك قبلنا رواية الاثنين ورددنا رواية الواحد، [ هنا قبول رواية الاثنين، قبول رواية ضعيف مع ضعيف أم لا ؟؟ بقي ما هو أظهر في ذلك ] فإذا لم نجد لأحد هذين الاثنين في الطبقة الثانية من يشده – أو بهذا المعنى – نظرنا في الطبقة الثالثة .. .. الطبقة الثالثة لا شك أنها أشد ضعفا من الطبقة الثانية، قال رحمه الله: ويعرف ذلك كله بالشواهد والدلائل. قال: وقد روى ابن أخي الزهري ثلاثة أحاديث لم نجد لها أصلا عند الطبقة الأولى، ولا الثانية ولا الثالثة، إذن معناها: لو وُجد لها ما يشدها من الطبقة الثانية أو الثالثة ما سماها أنها ليس لها أصل .. هذا النص من محمد بن يحيى الذهلي، وهو إمام متقدم، ويسوقه العقيلي - تلميذ البخاري، وهو إمام متقدم – مقرا له دليل في هذا الموضع أن من مذهب المتقدمين تقوية الضعيف بالضعيف .. إذن – يا إخوان – عندما قالوا هذه المقالة، بأن المتقدمين ليس من مذهبهم تقوية الضعيف بالضعيف .. أنا أقول أن هذا ناشئ عن عدم اطلاعهم،وفوق كل ذي علم عليم، ورحم الله امرأ انتهى إلى ما سمع، فلو أنه قال " لا أعلم ذلك " لكان له عذر، أما أنه يصرح ويدعي أن هذا مذهب المتقدمين، ولا يكتفي بهذا، بل يكر على المتأخرين وينقض بنيانهم ويرميهم بأنهم لا يعرفون طريقة المتقدمين وأنهم .. وأنهم .. لا شك بأن القائل بهذا القول يكون قد وقع في باب عظيم من الخطأ والانحراف عن النهج العلمي السديد وعن الطريقة العلمية التي عرفت عن أهل العلم.
المسألة الثالثة التي قيل إن المتأخرين خالفوا فيها المتقدمين: " مسألة الجهالة " :
لا شك أني لا أستحضر كل الأشياء، لكني أذكر لكم ما أستحضره في مجلسي هذا. قالوا: إن المتقدمين ليس عندهم قانون مطرد في من وُصفوا بالجهالة، فمرة يصححون حديث المجهول، ومرة يضعفونه، وأما المتأخرون فإنهم وضعوا قاعدة مطردة وأطلقوها في جميع المجاهيل، وقالوا إن رواية المجهول لا تقبل ! أقول: مع أن هذا النقل أيضا ليس بصحيح عن المتأخرين، فأنت تعرفون أن كثيرا من المتأخرين أيضا يقبلون رواية المجهول، وعُدّ ذلك من تساهلهم، لكن لنجعل كلامنا على الأئمة النقاد المعروفين، قالوا إنهم ردوا رواية المجهول مطلقا، وأما المتقدمون فإنهم يفصلون، فمرة يكون الحديث عندهم صحيحا ومرة يكون ضعيفا، فيأتي السؤال: المجهول يكون مرة عند المتقدمين صحيحا لذاته، ومرة يكون ضعيفا لذاته، أم لقرائن أخرى ؟؟ إن قال: لا، إن المتقدمين يضعفون رواية الراوي المجهول مرة ويصححونها مرة دون أي قرينة أخرى، فقد رمى المتقدمين بالتناقض، فكيف يكون هذا الراوي الذي هو في حيز الجهالة مرة يكون مقبولا ومرة يكون مردودا مع التجرد عن القرائن ؟ فإن قلنا وإن تجرد عن القرائن فمرة كذا ومرة كذا، فنحن نكون بهذا قد أسأنا إلى المتقدمين، ونقول لهم إنكم تصححون وتضعفون بأهوائكم، فما الذي جعلكم تقبلون هذا الرجل في هذا الحديث ثم تردونه في الحديث الآخر وليس معه في هذا الحديث الذي قبلتموه فيه أي قرينة تزيد عن الحديث الذي رددتموه فيه ؟؟ معنى هذا أننا نرمي المتقدمين بالتناقض وعدم الفهم، وحاشاهم من ذلك، فإن قال إنهم مرة يصححون ومرة يضعفون حديث المجهول لقرائن، قلنا جزاك الله خيرا، وهذا الذي نريد أن تقوله، وهذا عين قولنا ! إذن، عندما صححوا حديث المجهول، لعلهم صححوه لطرق أخرى، لعلهم صححوه لأنهم يعلمون أن لهذا الحديث أصلا، لعلهم صححوه لقرينة كذا أو لقرينة كذا، عَلِمَها من علمها وجهلها من جهلها .. إذن، القول بأن المتقدمين يصححون حديث المجهول ويضعفون حديث المجهول .. أحيانا وأحيانا .. إذا آل إلى هذا الأمر .. أنهم يدورون مع ذلك بالقرائن، وحكمهم في ذلك راجع للقرائن، إذن لا إشكال، وهذا عين قولنا، وهذا لا يلزم منه كلامٌ على المتأخرين، ولا يلزم المتأخرين من ذلك عيب ولا لوم. لأن عندهم أيضا أن المجهول يصحح حديثه إذا جاء من طرق أخرى، أما المجهول وحده فلا، ونحن نريد أيضا في هذا الموضع أن نلزم المخالف بإلزام آخر، نقول له: ما حكم رواية الضعيف عندك ؟ يقول: الضعيف عندي مردود، بمعنى أني أتوقف فيه حتى يتقوى .. وقد يقول: وإن تقوى من طريق أخرى لا أقبله .. لكن دعنا مع الصنف الذي يرى أنه يتقوى بمثله، فنقول له: لو أوقفناك على كلام عند المتقدمين أنهم صححوا مرة رواية الضعيف وضعفوا مرة روايته، هل تقول في النهاية إن المتأخرين أيضا أخطئوا عندما أطلقوا عدم قبول رواية الضعيف ؟؟ لأنه قد ثبت عن المتقدمين أنهم مرة ضعفوا رواية الضعيف ومرة صححوا رواية الضعيف نفسه، هذا موجود، أنتم تعرفون أن الإمام البخاري أخرج احتجاجا لبعض الضعفاء، وإن كان البعض قد يكابر في بعض الضعفاء ويقول " ليسوا بضعفاء "، هذه مسألة أخرى، البحث في الرواة أمر سهل، ارجع إلى كتب الجرح والتعديل، وكلام الأئمة حاكمٌ على الجميع، لكني أقول في هذا الموضع: إذا كنا نسلم أن المتقدمين مرة يصححون للضعيف ومرة يضعفون له، ورأينا أن المتأخرين – ووافقناهم نحن على ذلك – على إطلاق أن رواية الضعيف لا تقبل، فلماذا لا نجعل صنيع المتقدمين في المجهول وصنيع المتأخرين في المجهول مثل صنيع المتقدمين والمتأخرين في الضعيف ؟ ولا نتكلم على علمائنا ونرميهم بالتناقض، أو نرميهم بالجهل بطريقة القوم، أو نرمي علماءنا بأنهم ما أحسنوا فهم طريقة المتقدمين، مما يجعل الصبية ويجعل الأحداث والرعاع والضعفة وأحيانا يكون أيضا الذين ليس لهم أهلية بأن يكونوا من طلبة العلم يتجرءون فيقولون في ابن حجر كذا وفي الذهبي كذا، مما يجعل بعض الناس يتجرأ ويقول لا حاجة لنا بكتب المصطلح ولا بكتب المتأخرين، هذا من الخطأ وعدم وضع الشيء في موضعه الصحيح، وأنا أعدّ الذي يرمي المتأخرين بهذه الافتراءات .. ليس بموفق .. أنه ما وفقه الله في هذا الأمر، وقد يكون محروما، وقد حرم نفسه خيرا كثيرا عندما أعرض عن كلام المتأخرين ..
أنا أريد أن أقول لتعرفوا فهم .. ولتعرفوا قدر .. لا أقول فهم ولكن أقول قدر خدمة المتأخرين لنا، وأننا عالة عليهم، شيء سهل جدا .. عندما تقرؤون في تهذيب الكمال أو في تهذيب التهذيب، ترَوْن المزي يقول " فلان بن فلان، روى عن فلان وفلان وفلان، روى عنه فلان وفلان وفلان "، وأحيانا يزيد المسألة بيانا وإيضاحا فيقول " روى عن فلان، ويشير برموز البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي "، تصوروا أنتم كيف وصل المزي – رحمه الله – إلى هذه النتيجة، بأن فلانا هذا مشايخه كذا وكذا ويسوقهم على نسق وعلى حروف المعجم في التلامذة وفي الشيوخ، هذا نتيجة الحفظ، فكأنه – مثلا – عندما أراد أن يعرف مشايخ وتلامذة هذا الرجل أدار بخاطره وبذهنه جميع روايات هذا الرجل في كتب السنة، أو في الكتب التي اشترط أن يتكلم حولها، سواء كتب الأئمة الستة، أو في بعض الكتب الأخرى ... فجال بخاطره رواية هؤلاء وبسرعة خرج " يروي عن فلان في كذا وعن فلان في كذا " ، أنت الآن أيها الطالب الذي قد نفعك الله، وأنك قد أتيت بما لم يأت به الأوائل وتعرف ما لا يعرف هؤلاء الناس أنا أطلب منك أن تجمع لي تلامذة ابن لهيعة ومشايخ ابن لهيعة، بدون الرجوع إلى كتب الرجال، ماذا يقع للإنسان ؟؟ يمكن أن يبقى عمره كاملا ويقرأ كتب السنة المطبوعة والمخطوطة وينتظر المفقودة حتى يقف على روايات ابن لهيعة في كل هذه الكتب ويرى أن تلميذه فلان وشيخه فلان !! وأحيانا يكون للأئمة نقد آخر، يقولون روى عن فلان على قول فلان، أو كما قيل، يشككون في أن الشيخ هذا أو أن هذا الراوي شيخ لفلان في هذه الرواية، هذا علم ثاني .. علم العلل .. أدخلوه في هذا الموضع، فعرفوا الحديث وعرفوا ما حوله من كلام وإشكالات وكذا وكذا، وترجح عندهم أن ذكر هذا الرجل كشيخ لهذا التلميذ في هذه الرواية غير محفوظ، إنه من رواية فلان بن فلان، ذاك الذي تحته في السند، فأخطأ وخالفه فلان وفلان وفلان، حتى لم يسموا هذا الرجل شيخا له في هذه الرواية .. علم يا إخوان !! جهد عجيب !! إذا أردت أن تترجم لتلامذة ابن لهيعة ومشايخه تأخذ عمرك، فاحمد الله أنه قدر 8500 ترجمة عندك في تهذيب التهذيب، 8500 ترجمة أو نحوها أتتك بين يديك مذللة مسهلة لتستفيد منها .. ثم في النهاية .. هؤلاء الناس ما فهموا كلام المتقدمين .. هؤلاء الناس ما عرفوا .. وأنت عالة عليهم قلبا وقالبا وظاهرا وباطنا !! إذا قالوا ابن لهيعة روى عن فلان وروى عنه فلان، ولم يقولوا في الترمذي ولا في كذا ولا في كذا، أبهمها المزي، أنا أريد منك أن تثبت لي أين روى ابن لهيعة، أين شيخ ابن لهيعة هذا، وفي أي رواية ؟؟ في أي كتاب ؟؟ إذا لم يقل المزي " في الترمذي " .. فأنت الذي تبين لي أين رواية الترمذي .. هذا الرواي عن هذا الشيخ .. كيف تفعل ؟؟ تحتاج إلى قراءة واستقراء واطلاع، حتى تصل في النهاية .. رحمك الله بالمزي، فقال لك بين قوسين " ت " أو " خ " أو " م " أو "ع " .. رحمك الله بهذه الجهود، التي لو بقيت أنت وأمثالك وأمثالك ما وصلت إلى شيء منها يذكر، فمع ذلك – في النهاية – نتنقص هؤلاء القوم ونراهم لا يحسنون العلل !! سبحان الله !! من الذي علمنا العلل ؟؟ أنتم تعرفون من أين جاء العلماء بقواعد علوم الحديث هذه، أو ما يسميه الكثير من الناس بقواعد المصطلح ؟؟ أنا أريد من رجل لا يرى الاستفادة من كتب المصطلح أن يعرف لي الحديث الصحيح، متى يكون الحديث صحيحا، ويخبرني بأدلته في ما قال !! لن يأتي بجديد، بعد بحث طويل، وسيصدق عليه قول القائل: " تمخض الجبل فولد فأرا " ، ما أتى بشيء يذكر، إما أن يقول بقول المتقدمين هؤلاء أو ما يسمونهم بالمتأخرين، وإما أن يخالف فيخطئ، عندما قالوا الحديث الصحيح هو الذي يتصل إسناده .. هؤلاء عملوا .. أعطوا نظرة وتأملا لكتب العلل ولكتب التخاريج، ولأحكام الأئمة المتقدمين على الرواية وعلى الأحاديث، فرأوا الأئمة المتقدمين إذا كان الحديث فيه انقطاع جلي أو خفي لا يحكمون عليه بالصحة، واسقترؤوا هذا .. فقالوا: هذا معناه أن الحديث لا يكون صحيحا إلا إذا اتصل، ثم رأوا الأئمة المتقدمين إذا كان في الحديث رجل في عدالته أو في ضبطه طعن توقفوا في تصحيح روايته، قالوا إذن يشترط أن يكون راويه عدلا ضابطا، ثم رأوا الأئمة المتقدمين إذا كان فيه شذوذ .. مخالفة، لا يصححونه، قالوا: ولا يكون شاذا .. ولا يكون معللا .. إذن هذه الشروط ما جاءت من فراغ، ولا جلسوا تحت هذه النخلة أو هذه الشجرة، في الظلال وقالوا: نجلس ونقسم تقسيمات .. مصطلحات علم الكلام .. علماء الكلام الذين تكلموا في السفسطة .. جمعوا بين النقيضين وفرقوا بين المتماثلين .. علماء الحديث بهذه المثابة ؟؟ تأثروا بهذه الكتب ؟؟ صحيح يمكن أن يكون عندهم مبالغة في بعض المواضع، أو في تقرير تعريف من التعاريف أو حد من الحدود، لكن الأصل في ذلك أيضا هو خدمة ما عليه المتقدمون، وليس البعد بالناس والذهاب بهم والرغبة بهم عن طريق المتقدمين، إنها خدمة طريق المتقدمين .. قد تملون كثرة الكلام في هذه المسألة .. الحقيقة أن الكلام فيها ذو شجون .. وله أهميته، لاسيما وقد أُلِّفت في ذلك كتب، وعقد لذلك مجالس، ورُمي بهذه الكتب وهذه المجالس علماء، فمن حق هؤلاء العلماء علينا، ونحن لهم تبع، ونحن ننتمي لهذه الدعوة المباركة .. أننا ننتصر لهم، وأن نبين حقهم وفضلهم بالمعروف، دون تنقص ودون احتقار ودون ازدراء المخالفين لنا في ذلك، إننا نتكلم عن فكرة ولا يهمنا أن الذي يتكلم بهذه فلان بن فلان، أو ذاك أو زيد أو عمر، ما يهمنا هذا الشيء، إنما يهمنا هذه المقالة، ما حكمها وما مدى صحتها وما مقدار قوتها في ميزان النقد العلمي ؟؟ فباب الجهالة من جملة المسائل التي رمي بها أيضا العلماء .. كذلك التفرد .. باب الشذوذ .. أبواب كثيرة .. خلاصة هذا: أن ما أصاب فيه القائلون بمذهب المتقدمين والمتأخرين أنهم مسبوقون إليه، وما أخطئوا فيه فيمكن أن نلخصه في نقاط:
- أوغروا صدور الشباب – بحسن نية، وهذا الذي نعتقده، أنهم قصدوا خيرا، ما قصدوا سب العلماء، وإنما قصدوا الدفاع عن هذا العلم ونصرته - على علمائهم.
- أرادوا – بحسن نية – أن يسلخوا جهود وثمرة عدة قرون في هذه الأمة، ويضيعوا الاستفادة منها، ومآل كلامهم دفن هذه الثروة العظيمة التي هي حصيلة وثمرة هذه القرون التي تسمى بالمتأخرين، والتي ، كما عرفها بعضهم بأنها بعد انقطاع الإسناد، الإسناد الذي هو إسناد التصنيف والكتب المشهورة، وأما هذه الأمة – ولله الحمد – فقد اختصت بالإسناد، ولا يزال الإسناد فيها باقيا ولله الحمد، وذلك لأن الله حفظ لهذه الأمة هذا العلم المبارك، ألا وهو علم الإسناد، وإن كنا نرى من جهلة من ينتمي إلى الدعوة ومن ينتمي إلى العلم من يخذل عن علم الإسناد، ويقول " لسنا في زمن حدثنا وأخبرنا، ولسنا في حاجة لمعرفة صحيح وضعيف، الناس وصلوا للقمر وأنتم عندكم صحيح وضعيف .. " ، أنا أعتقد أن قائل ذلك غير ملم بالموضوع، إن لم يكن والعياذ بالله قد زج به للطعن في هذا الدين، لأنه ما أثر الطعن في علم الإسناد إلا عن الزنادقة .. لا أستطرد بعيدا عن المسألة التي أنا بصددها .. فإني أرى أن الذين ولجوا هذا الباب أوغروا صدور الشباب على العلماء، وأراهم يعتدون برأيهم وكأنه وحي، نسأل الله العفو والعافية، وأراهم ينزلون أنفسهم خلاف ما هم عليه، فإنهم يظنون أنهم أتوا بما لم يأت به الأوائل، وعرفوا ما لم يعرفه فلان وفلان، وكأن هذا الدين قد اندرس، أليس النبي عليه الصلاة والسلام قال: إن الله يبعث لهذه الأمة كل مائة عام من يجدد لها دينها ؟؟ من سنة 800 إلى الآن ما أحد عرف هذا العلم إلا اليوم ؟؟ من بعد ما انقطع الإسناد وتصنيف الكتب ما أحد عرف هذا العلم إلا في زماننا ؟؟ أين تجديد الدين ؟ وإذا كان علم الحديث قد اندرس فأين الدين الذي انجدد، فأنا أحذر الشباب من أن يكونوا أذنا صاغية لكل كلمة، ولكل غريب، لأني أعرف أن كثيرا من الشباب يعجبهم الغريب، وصدق عبد الله بن المبارك " العلم ما جاء من ههنا وههنا وههنا وههنا "، أي من جميع الجهات، العلم هو المشهور، المشهورات هي التي عليها العلم، وهي التي عليها المعلوم من الدين بالضرورة، وواجبات الدين، فأكثر الغرائب ضعاف، ولا يتتبع الغريب إلا الغريب، و يتتبع الشواذ إلا الشاذ، لكن أريد أن أقول: بعد أن بينت حكم المسألة، ما أريد أيضا لطلبة العلم أن يغالوا في الحط على المخالفين لهم هذه المسألة، فمنهم من يقول ليس عندهم علم بالكلية .. لا .. الأمر ليس كذلك .. عندهم علم وعندهم اطلاع، ولكن ما كل من أوتي العلم يوفق في وضعه في موضعه، ورب رجل يكون عنده العلم الكثير وهو ينظر إلى العلماء هذه النظرة فلا يوفق، ويحرم الخير الكثير، فلا نريد أن نرمي المخالف لنا بأنه يريد الظهور ويريد أن يعرف .. خالف تعرف .. ما نريد أن ندخل في النوايا ولا في الضمائر، يهمنا أن نرد على المسألة العلمية، فإذا سقطت المسألة العلمية سقط هذا القول، أما نية القائل .. فنحسن بالناس الظنونا، ونرجو لهم الخير وندعو لهم بالخير ونطلب من الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذه الفئة وهذه الطائفة من أنصار الحق والهدى، فإنهم والله لو نصروا هذا الحق وأدخلوا في قلوب الشباب حب العلماء وتوقيرهم وإجلالهم وإكبارهم، سواء المتقدم منهم أو المتأخر، فإنهم بذلك والله قوة لدعوتنا وعضد وساعد لنا في هذه الدعوة، وإنا لنتحسر والله – ولا نحب أن نتكلم – عندما نرى هذه الطاقات وهذا الفهم وهذا الإقبال وهذا الجد وهذا الاجتهاد تتجه هذا الاتجاه، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا جميعا للحق ردا جميلا، وأن لا يجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا وأن يوفقنا لقول الحق، وجزاكم الله خيرا.


سؤال: هل القائلون بهذا القول هم جميعا على قول سواء ؟؟


جواب: ليسوا في ذلك سواء، هناك من ادعى على المتقدمين والمتأخرين قولا، وهناك من ينفي هذا القول، وما أحد يقلد أحدا، إنما نحن نتفق معهم – على جميع أصنافهم – بأن كلام المتقدمين له وجاهته وله مكانته ولا يسهل على النفس تجاوزه أو عدم المبالاة به، لكن المسائل التي تكلمنا عليها من قبل لا نقرهم عليها .. هناك أيضا بعض المسائل حول المجهول .. بعض طلبة العلم يرى أن هذا المجهول ينظر في حديثه ويحكم عليه بما يستحق، فإذا سئل عن رجل مجهول قد روى حديثا يقول: هاتوا ننظر هذا المتن، هل هو يوافق الأصول والمنقول أم يخالف، فإن وافق بقية روايات السنة وظاهر القرآن والسنة فيكون المتن صحيحا، وبذلك يكون الراوي ثقة، وإذا كان هذا المتن يخالف المنقول أو المعقول أو غير ذلك فإنه يكون ضعيفا أو منكرا وبذلك يكون ضعيفا، فعلى ذلك – بهذا القول – يلزمهم أن طبقة المجهول وقسم المجهول يمحى من الوجود، لماذا ؟ لأن أي راوي إذا روى رواية يكون عندنا أحد أمرين، إما خالف المنقول وإما وافقه، فإن خالف فضعيف وإن وافق فثقة، إذن متى يكون المجهول مجهولا ؟؟ لا يوجد مجهول !! وإذا قالوا: نعم، يأتي علينا وقت نكون فيه قد مررنا على جميع من وصف بالجهالة وقد عرفنا حاله مدحا أو قدحا، فإذا وصل بهم الأمر إلى ذلك فنستطيع حينذاك أن نقول " أنتم خالفتم مذهب المتقدمين " ! لأن المتقدمين عندهم قسم اسمه مجهول، فإذا أنتم ألغيتم هذا القسم فأنتم خالفتم مذهب المتقدمين، وليس العلماء.
هناك مسألة التفرد .. يقولون: إن المتقدمين كانوا يردون الروايات إذا تفرد صاحبها، فيأتي المتأخر، الذي لا يفهم كلامهم ولا يعرف مرادهم ولا يدرك غور كلامهم، فإذا به يقول – متعقبا قول أحد الأئمة المتقدمين " تفرد به فلان ": فلان ثقة وتفرده مقبول، فهذه علة عليلة، فيقول: إنه لم يفهم أن التفرد علة عند المتقدمين، فأقول: التفرد ليس دائما علة عند المتقدمين .. المتقدمون أحيانا يعلون بالتفرد، وأحيانا – وهو الغالب – يقبلون رواية الثقة وإن تفرد، لأنه لا يشترط في الثقة أن يتابع، ولا يشترط في الحديث الصحيح أن يأتي من وجهين فثلاثة فأكثر، الأصل أن الثقة وحده يكفي، وقد قامت الأدلة بقبول خبر العدل، ولو قلنا بأن خبر الواحد لا يكفي لذهبنا إلى المعتزلة ... أريد أن أنبه إلى أنك لو تأملت الأحاديث التي قال فيها الأئمة " هذا الحديث تفرد به فلان ولم يتابع عليه " مع أن فلانا هذا ثقة، وقد يكون ثقة ثبتا، بل وقد يكون مالك بن أنس، ومع ذلك ترى بعض الأئمة يقول " هذا الحديث رواه مالك ولم يتابع عليه " ، هل معنى ذلك أننا كلما انفرد مالك بحديث لا نقبله ؟ لا ! متى يقول العلماء هذه الكلمة ؟ متى يقولها العلماء في الثقة أو في الثقة الثبت أو في الإمام الحافظ، ويقولون هذه الكلمة معلِّين بها هذه الرواية ؟ إنما يقولون هذا إذا ظهرت نكارة في السند أو في المتن ! وإلا فلا يقولونها، فإن التفرد مقبول من الثقة ! فيأتي بعض من لا يحسن هذه المسألة فيقول إن الأئمة يضعفون بالتفرد، والمتأخرون يقبلون التفرد !! والحقيقة ليست كذلك .. الأئمة يضعفون بالتفرد ويذكرون التفرد علةً إذا كان لهذه العلة وجاهة، في نكارة سند أو متن، أما إذا لم يكن لها وجاهة فلا، وقد مررت في سؤالات ابن معين على أمثلة كثيرة في هذا، وقد مررت في كتب العلل على أمثلة كثيرة في هذا – حتى أني الآن لا أستحضر مثالا – توضح أنهم أعلوا بالتفرد على سبيل الإعلال لا على سبيل الإخبار، ما أعلوا بالتفرد إلا وهناك نكارة في سند أو في متن، أم مجرد أن يشير العلماء إلى أن هذا الحديث تفرد به فلان أو لم يروه عن فلان إلا فلان كما يفعله البزار والطبراني في معاجمه وأبو نعيم في الحلية وابن أبي شيبة، عندما يقول تفرد به فلان .. مع أنهم لا يسلم لهم في كثير من المواضع، صرحوا بالتفرد وكان هناك من يتابع ويقوي .. يصيب في بعض المواضع بإطلاق التفرد .. لكن في كثير من المواضع يقولون ذلك لا على سبيل الإعلال، فترى البزار أحيانا يقول " تفرد به فلان " ويصحح الحديث، فإذا كان ذكر التفرد على سبيل الإخبار فهذا أمر ليس له صلة بالإعلال، أما إذا كان ذلك على سبيل الإعلال فلذلك علة أخرى ولا يلزم الناقد أن يذكر كل أدلته في العلة .. علة أخرى في السند أو في المتن .. كأن يكون هذا المتفرد - إذا لم يكن بذاك في التفرد - يروي عن شيخ قد اشتهر بكثرة حديثه وكثرة تلامذته، ثم يروي عنه أصلا، فيقال في هذه الحالة: أين تلامذة فلان ؟؟ أين فلان وفلان الذي ما رووا هذه الزيادة، أو هذا الحديث، حتى تفرد به فلان وإن كان صدوقا، وإن كان ثقة ؟؟ إذن هناك قرائن، ليس التفرد دائما دليل على العلة، ولكن إذا كان هناك مسوغ لهذه العلة فإنهم يعرجون على التفرد، هذه مسألة مهمة جدا، وينبغي أن تتنبهوا لها، وهي ما تأتي إلا بالاستقراء والمتابعة لكلام أهل العلم، فإنك تجد لذلك أمثلة، فإذا وفقك الله لسعة الحصيلة وكثرة الاطلاع وإلى ممارسة هذا الفن وإلى مذاكرة أهل العلم .. حذار حذار أن تنصرف عن الأئمة الكبار وعن العلماء وعن المشايخ، الذين لهم أكثر من خمسين أو ستين سنة وهم يبحثون في هذا العلم، ثم تنصرف عنهم وتبدأ بأخذ هذا العلم عن حدثٍ صغير قد لا يحسن ما يتكلم به .. لا بد أن تفهم هذا .. مذاكرة أهل العلم، أهل الممارسة وأهل الخبرة، ولعلكم كنتم تسمعون كثيرا في الأسئلة التي كنت ألقيها على شيخنا محمد ناصر الدين الألباني، فكان كثيرا ما يقول: هناك علم جلي، وهناك علم خفي !! العلم الخفي : الممارسة والخبرة !! وللعجب أننا نقبل كلام المتمرسين في الصناعات الدنيوية، في النجارة، في الحدادة، في ورشة، في مستشفى، أما إذا جئنا عند علماء الحديث قلنا إنهم لا يحسنون الفهم ! فهذا – والعياذ بالله – من سوء الفهم، والله المستعان. انتهى.

وفيما يلي روابط لكتب أخرى عن هذا الموضوع:

اضغط هنا. (http://www.rabee.net/show_des.aspx?pid=1&id=18)

اضغط هنا. (http://alkinani.net/index.php?action=mktabah.show&id=17&sid=1)

اضغط هنا. (http://alkinani.net/index.php?action=mktabah.show&id=18&sid=1)

يتبع

أبو عمير
04-25-2008, 01:30 PM
هذه مشاركة لأحد الأخوان، سماها " القول المبين في براءة الشيخ مقبل من التفريق بين قواعد المتقدمين والمتأخرين " :


كان قد غاب عن ذهني مدة من الزمان كلام الشيخ مقبل في مقدمة كتاب " القول الحسن في كشف شبهات حول الاحتجاج بالحديث الحسن " للشيخ أبي العينين ،[ هذا رابط له : اضغط هنا. ] التي ذكر فيها صراحة ما يدين الله به في مسألة المتقدمين و المتأخرين، و أكد على ما في الكتاب، و هذا منه إقرار على ما سأنقله من الكتاب من نسف منهج أولئك، و الشيخ قدم للكتاب مقراً بما فيه، بل قال كما سيأتي (( و قد كفانا أخونا في الله الشيخ أحمد أبو العينين الرد على هؤلاء و أولئك, فجزاه الله خير)).
فأرجو من سيقرأ أن يضع هذا الكلام أمام عينيه، و هو إقرار الشيخ مقبل رحمه الله لما سيأتي، و الله المستعان، ومنها خلاصة أجوبة الشيخ الألباني على أسئلة ابي العينين وفقه الله.
قال الشيخ رحمه الله في معرض تقدمته للكتاب:
((أما الكتاب الذي بين أيدينا, فقد تناول مواضيع, منها أن بعض طلبة العلم لا يقبل من المتأخرين تصحيحا و لا تحسينا, و يقول أنهم متساهلون, و الناس في المسألة طرفان و وسط.
أ*- الطرف الأول: يرفض جهود العلماء المتأخرين, و هذا خطأ, فالرسول صلى الله عليه و على آله و سلم يقول: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم و لا من خذلهم حتى يأتيهم أمر الله و هم على ذلك)).
ب- الثاني: لا يفرق بين المتقدمين و المتأخرين إذا اختلفوا, مثلا يجزم أبوحاتم الرازي و الإمام البخاري أو الإمام أحمد بأن الحديث لا يصح بحال من الأحوال, فيأتي الباحث المعاصر, و يجمع له طرقا بين شاذة و منكرة و ضعيفة جداً, فيقول: و الحديث حسن لغيره. (فبين مراده بأنها ليست طرقا صالحة للإستشهاد).
ب*- القسم الثالث: هم الذي ينزلون الناس منازلهم, فلا يساوون المتأخرين بالمتقدمين, ولا يرفضون علوم المتأخرين, لكنهم لا يعارضون كلام البخاري بكلام ابن حجر, و لا كلام الإمام أحمد بن حنبل بكلام شيخ الإسلام بن تيمية,و لا بين الذهب و أبي زرعة و أبي حاتم الرازيين, لأن العلماء المتقدمين مثل يحي بن سعيد القطان, و يحي بن معين, و الإمام أحمد, و على بن المديني, و الإمام البخاري, و إبي حاتم, أبي زرعة يحفظون حديث المحدث و كم روى عن كل شيخ, و كم روى عنه كل طالب, و من ثم تجدهم يقولون: هذا الحديث ليس في أصول فلان, و تارة يقولون: هذا الحديث لم يسمعه فلان من فلان, فقد حفظ الله بهم الدين, و خدموا السنة خدمة ليس لها نظير, فجزاهم الله عن الإسلام خيراً.
و ليس معنى هذا أنا لا نقبل تصحيح المتأخرين و لا تحسينهم, فإن النبي صلى الله عليه و على أله وسلم يقول: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين, لا يضرهم من خالفهم و لا من خذلهم, حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)).
ولم يقبل العلماء من ابن الصلاح قوله بانقطاع التصحيح و التحسين, بل ردوه و دفعوه و عملوا بخلافه, و كثيرا ما نسمع المقلدة و ذوي الأهواء يدندنون بهذا, و يقولون: تكفينا كتب المتقدمين, و هو يخشون من تعليق على حديث أو ترجمة لباب تهدم بدعهم, و هكذا قال بعض المبتدعة للحاكم أبي عبدالله صاحب المستدرك فما أشبه الليلة بالبارحة.... إلى أن قال (( و قد كفانا أخونا في الله الشيخ أحمد أبو العينين الرد على هؤلاء و أولئك, فجزاه الله خير)) ...الخ كلامه رحمه الله.
و يقصد بهؤلاء الذين يفرقون بين منهج المتقدمين و المتأخرين في الحديث الحسن لغيره وغيره.
و الآن مقتطفات من كلام أبي العينين الذي ذكره في الرد عليه بإقرار الشيخ مقبل فهل من مريد للحق:
1- ذكره أنواع المنحرفين في مسألة المتقدمين و المتأخرين :
قال في المقدمة الأولى التي كانت في زمن الشيخ: و آخرون ممن قسموا علماء الأمة إلى متقدمين و متأخرين, و جعلوا للمتقدمين منهجا و للمتأخرين أخرا , و جعلوا أنفسهم من أنصار مذهب الأئمة المتقدمين, و كلما رأوا رأياً نسبوه للمتقدمين, و جعلوا الأئمة المتأخرين خصومهم, و أقحموا أنفسهم في مسائل عظيمة يحجم عنها كبار الحفاظ و الأئمة, فوجدنا من يضعف أحاديث الصحيحين أو أحداهما, و هو يدعي أن ذلك مذهب المتقدمين,و هؤلاء لم يفهموا كلام علمائنا المتقدمين و المتأخرين.
فقد ذكر بعض اخواننا لأحد هؤلاء الطلبة حديثا رواه مسلم في صحيحه....(ذكر السند) عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما رأيت رسول الله صلى الله عليه على آله و سلم صائما في العشر قط)).
فقال ذلك الطالب : إنه حديث معلول ذكره ابن أبي حاتم في العلل.
نعم ذكر ابن أبي حاتم في العلل : فقال بعد ذكر طريق مسلم:
((و رواه أبو الأحوص, فقال عن منصور عن إبراهيم عن عائشة, فقال: هذا خطأ, و رواه الثوري عن الأعمش و منصور عن إبراهيم: قال حديث عن النبي صلى الله عليه و سلم))ا.هـ
فحكم أبو حاتم على طريق أبي الأحوص بالخطأ, و سكت عن الآخرين, و كذلك ذكره الدارفطني في الأحاديث المنتقدة على الشيخين و قد بين شيخنا مقبل رحمه الله أن طريق مسلم الموصولة هي الراجحة, و هو الذي رجحه الترمذي أيضا. (الطبعة الثانية كانت بعد موت الشيخ فقال رحمه الله و لكن هذه مقدمة الطبعة الأولى فلا مدخل لكم يا أهل الأهواء).
فهذا يدل على العجلة و الجرأة في تضعيف الأحاديث, مع ذلك ينسبون أنفسهم لمذهب الأئمة المتقدمين في ذلك.
و كل هؤلاء سواء الذين يغلون في التكفير, و يردون أقوال العلماء كلها, و لا يقيمون لها وزنا, أو الذين يتهمون بعض أئمة الإسلام و يبدعونهم بأشياء أخطؤوا فيها, أو الذين يتهمون أئمة الحديث: كابن تيمية, و ابن القيم, والذهبي, والعراقي, و ابن حجر, و غيرهم يتهمونهم بمخالفة منهج الأئمة المتقدمين, سواء في إعلال الأحاديث أو تصحيحها و تقويتها, كل هؤلاء, إنما أتوا من عدم فهمهم لكلام الإئمة المتقدمين و المتأخرين, و مع عدم فهمهم ابتلوا بالغرور و الإعجاب بالنفس, و إلا فكيف يطمئن جماعة من الطلاب في القرن الخامس عشر إلى أن يخالفوا مذهب أئمة الحديث في شيء من تخصصهم توافقوا عليه من بداية القرن الرابع إلى بداية القرن الخامس عشر, يعني ما يزيد على أحد عشر قرنا.
(في الهامش هذا على حسب قولهم و إلا فنحن لا نوافقهم على هذا التقسيم).
... ثم قال بعدها بأسطر:
لهذا فكان لزاما على أهل العلم أن يبينوا هذه الأمور, و أن يذبوا عن أهل العلم المتقدمين منهم و المتأخرين, و كنت أود أن يكتب في هذه الأمور نظرا لخطورتها و وعورة الكتابة فيها, أكابر العلماء, كشيخنا محمد ناصر الدين الألباني, أو شيخنا مقبل رحمهما الله, فانتظرنا حتى يكون شيء من ذلك, فلما لم نجد شيئا من ذلك, و الأمر يتفاقم و التشكيك في علماء المسلمين يتزايد عزمت على الكتابة في هذا الأمر, مع علمي بصعوبة هذا البحث....الخ.
(في الهامش: قال شيخنا الألباني رحمه الله : إنني لا أنكر على طويلب علم أن يخالف الإمام أحمد أو غيره من الإئمة في تصحيح حديث أو تضعيفه إذا كان ذلك بحجة, فضلا عن مخالفة الألباني, لكننا في المقابل لا نقبل من أحد مهما كان علمه أن يعارض أو يطعن في القواعد الثابتة التي مشى عليها الأئمة و أثبتوها جيلا بعد جيل..ألخ).


قال فصل: دعوى التفريق بين المتقدمين و المتأخرين في تقوية الحديث الضعيف إذا جاء من غير وجه:


دعوى التفريق بين المتقدمين و المتأرخين في هذه المسألة دعوى ليس لها أساس من الصحة, و هي مردودة من أوجه كثيرة فمن ذلك: ذكر الوجه الأول و الثاني و خلاصته أنه أورد نصوص على تقوية الحديث الضعيف بمثله من كلام المتقدمين, و الثاني عدم وجود نص صريح على كلامهم و الثالث هو موضع الشاهد:
ثالثا: أين الحد الفاصل بين المتقدمين و المتأخرين, فإن تمسك بعضهم بقول الذهبي في مقدمة الميزان: ((فالحد الفاصل بين المتقدم و المتأخر هو رأس سنة ثلاثمائة)).
فنقول: إن الذهبي من المتأخرين فلا يسوغ لهم قبول قوله هنا, و رده حيث يخالفهم, و أيضا فإن كلام الذهبي لا صلة له بما نحن بصدده, ( و ذكر سياق كلام الذهبي من الميزان) ثم قال
قلت: فظهر بهذا مقصود الذهبي رحمه الله من هذا الحد الفاصل, و هو للتفريق بين الرواة في الأسانيد المتأخرة, فيتساهلون في رجال الإسناد المتأخرين, لأن الاعتماد في ذلك ليس على رجال الإسناد, و إنما على النسخ الثابتة للكتب المصنفة, و إنما يهتمون بالأسانيد حفاظاً على بقائها, و حرصا على شرف الإسناد الذي اختصت به هذه الأمةالخ كلامه.
ثم قال في الصفحة التي تليها:
فإذا كان كذلك فلا يوجد حد فاصل صحيح بين المتقدمين و المتأخرين, و هذا هو الذي تؤكده بديهة العقل...الخ كلامه.
وقال بعدها في ص 176:
فمما سبق يظهر أنه لا خلاف بين متقدمين و متأخرين سوى أن المتأخرين صاغوا كلام المتقدمين بعبارات و مصطلحات يسهل فهمها على من بعدهم فمن ادعى للمتقدمين منهجاً, و للمتأخرين آخر فقد أخطأ خطأ بيناً.


قال فصل: اعتمادهم فيما ادعوه على تضعيف بعض الأئمة المتقدمين لبعض الأحاديث الضعففة التي تعددت طرقها:


فرد بكلام طيب جميل و أتى بأمثلة اختلف فيها السلف تصحيحا و تضيفا منها حديث البسملة و حديث أفطر الحاجم و المحجوم و حديث لا نكاح إلا بولي قلت: ((و ثلاثتها يقبلها الشيخ مقبل رحمه الله فالثاني و الثالث في الصحيح المسند, و الأول قال في إجابة السائل ثابت عن النبي صلى الله عليه و سلم.... رغم قول يحي بن معين في حديث الحجامة: ليس يثبت فيها خبر؟.))
ثم قال: فهذه الأمثلة تبين أن المتقدمين يختلفون في أحاديث ضعيفة بعينها لها طرق, فبعضهم يرى أنها بمجموعها تفيد قوة, و بعضهم لا يرى ذلك, و هذا أمر اجتهادي بحدث بين المتقدمين, كما يحدث بين المتأخرين, و أن لهؤلاء منهجا و لهؤلاء آخر, فهم يزعمون أن المتقدمين متفقون على قول واحد و مسلك واحد, و هذا ما ظهر بطلانه من الأمثلة السابقة, و ظهر أنهم لا يمشون على قاعدة في ذلك عى قاعدة, و إنما لكل إمام منهم في كل حديث اجتهاد, ومن ثم اختلفوا و بالله التوفيق.
رابعا: فإن قالوا هناك أحاديث: لها طرق ضعيفة صححها بعض المتأخرين, وضعفها بعض الأئمة من المتقدمين من غير أن نعلم لهم مخالفا من المتقدمين, فنقول: هذه أشياد قليلة لا يستنبط منها قاعدة, و عدم علمنا بوجود مخالف لا ينفيه, و يقابل ذلك أننا نجد تصحيح بعض الأئمة المتقدمين لأحاديث طرقها ضعيفة و لا نعلم لهم مخالفا, فمن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
1- حديث الوضوء بماء البحر, ذكر كلام الترمذي في العلل أنه سأل البخاري عنه فقال: هو حديث صحيح مع أن طرقه لا تخلو من مقال.
2- حديث بضاعة صححه أحمد بن حنبل و يحي بن معين كما في التلخيص. و طرقه كلها ضعيفة كما في الإرواء.
..الخ كلامه في إثبات تصحيح السلف لأحاديث بتعدد الطرق زدته هنا للفائدة رغم بعده قليلا على موضوعنا.
هذا كله و الشيخ مقبل رحمه الله مقراً بل مادحا للكتاب يقول قد كفانا الرد فهل يصح أن ينسب الشيخ مقبل رحمه الله لمن يفرقون بين منهج المتقدمين و المتأخرين.
إنما قصد بهذا الفضل و العلم و الحفظ, لا أن هناك فرق في المنهج على ما يدعيه هؤلاء أو ما يقع من بعض طلبة العلم ممن لم يتعبوا أنفسهم لمعرفة مراد الشيخ و تتبع رأيه في المسألة أو الإتصال بكبار طلبة كالشيخ يحي و الشيخ محمد الإمام و الشيخ عبدالعزيز و الشيخ عبدالرحمن أو طلبة العلم الكبار في دماج من المتخصيين في الحديث مثل الباحث الفاضل حسن المروعي و الباحث الفاضل حسن الريمي لكن وقفوا صامتين يسمعون ما ينشر حتى دخل بعض الشك إلى قلوبهم, و قد قيدت كلامي بالبعض فلا أتهم طلبة العلم عموما و إنما قلت البعض و قد تقدم البيان فأسأل الله أن يكتب الأجر و يخلص النية و يظهر الحق لا إله إلا هو و الله المستعان على ما يصفون.

الله المستعان.

dfkjdsfkdfsk
06-13-2008, 03:57 AM
تشكر على هذا المجهود الطيب

أبو عمير
09-08-2008, 02:52 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

هذا كلام ذهبي للشيخ العلامة المحقق محمد بن عمر بن سالم بازمول حول الموضوع، من كتابه " روافد حديثية "، من صفحة 34 الطبعة الأولى سنة 1427 هـ :

قال حفظه الله :

.. وقضية الاصطلاح في علم الحديث بُني عليها بعض المفاهيم، وجعلت منطلقا لقضايا فيها نظر، ومن ذلك:
1- منهج المتقدمين ومنهج المتأخرين.
2- تطوير المصطلحات.
والقضيتان متداخلتان ! فأقول مستعينا بالله:

قضية منهج المتقدمين والمتأخرين:
لفظة المتقدمين والمتأخرين ليست خاصة بعلم الحديث، ففي كل علم هناك علماء وأئمة متقدمون ومتأخرون، هذه واحدة !
وهي كلمة نسبية تذكر لكل من تقدم بالنسبة لغيره ممن تأخر عنه، وإن لم يكن في عصر الأئمة الكبار، فابن حجر ( ت 852 هـ ) والسخاوي ( ت 902 هـ ) والسيوطي ( ت 911 هـ ) – رحمهم الله – من المتقدمين بالنسبة لنا، وهم متأخرون بالنسبة لمن قبلهم (1)، وهذه الثانية. [ 1: وقد رأيت العراقي ( 806 هـ ) رحمه الله في كتابه التقييد والإيضاح ( ص 183)، يتعقب قول ابن الصلاح ( ت 643 هـ ) رحمه الله، عن الإجازة لغير المعين بوصف العموم، فيقول العراقي: وإن المصنف ذكر أنه لم يَرَ ولم يسمع أن أحداً ممن يقتدى به روى بها، وقد أحسن من وقف عند ما انتهى إليه، ومع هذا فقد روى بها بعض الأئمة المتقدمين على ابن الصلاح كالحافظ أبي بكر محمد بن خير بن عمر الأموي – بفتح الهمزة - ، الإشبيلي خال أبي القاسم السهيلي ... " اه .
قلت: فانظر كيف ذكر أن ابن الخير من المتقدمين بالنسبة لابن الصلاح ! ]
والمقصود بهذه اللفظة هنا أئمة علم الحديث كمالك ( ت 179 هـ ) وابن مهدي ( ت 198 هـ ) وابن معين ( ت 233 هـ ) وعلي بن المديني ( 234 هـ ) والشافعي ( ت 204 هـ ) وأحمد بن حنبل ( 241 هـ )، وغيرهم ممن هو من بابتهم !

وقد اختلف المغالون في منهج المتقدمين ما هو الحد الزمني للمتقدمين !
فقيل: الحد الفاصل بين المتقدمين والمتأخرين هو القرن الثالث، بناءً على كلمة أطلقها الذهبي ( ت 748 هـ ) رحمه الله في مقدمة كتابه " ميزان الاعتدال " ! ولا متمسك لهؤلاء في هذه الكلمة، إذ مراد الذهبي تحديد الحد الفاصل بين الرواة الذين عليهم تدور الأسانيد التي في الكتب الحديثية، مادة كتابه، ويُحتاج إلى بيان حالهم جرحا وتعديلا، وتوظيف هذه العبارة في قضية المتقدمين والمتأخرين توظيف لها في غير محلها.
وقيل: الحد الفاصل بين المتقد والمتأخر هو الزمن الذي كانت تورد فيه الأسانيد في الكتب، وآخر هذا زمن الخطيب، ( ت 463 هـ ) رحمه الله.
وقد تجد في قوة كلام من يتبنى منهج المتقدمين والمتأخرين أنه يعني بالمتقدمين العلماء الذين يستقلون في الكلام على الحديث وعلله مع سعة دائرتهم في معرفة الطرق والأسانيد والعلل.
وعلى كل حال، فإن هذه القضية – أعني: قضية المتقدمين والمتأخرين – يقررها الواقع، إذ كل ممارس لعلم الحديث يلحظ أن بعض كلام المتقدمين لا ينطبق تماما مع ما هو مشهور مقرر في كتب علوم الحديث التي استقر فيها العلم على قواعد وأصول معروفة متداولة ! بل ويجد من أهل العلم من يصرح أن هذا الاصطلاح خلاف ما جرى عند بعض أئمة الحديث المتقدمين، خذ مثلاً:
قال العراقي ( ت 806 هـ )رحمه الله ذاكراً اعتراض بعضهم على ابن الصلاح، بأنه لم يشر إلى الخلاف في الاصطلاح في مسألة، فقال حاكيا الاعتراض: ثم أجاب عليه، قال: " إن ما نقله – يعني ابن الصلاح – عن أهل الحديث من كون الحديث ينقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة ليس بجيد، فإن بعضهم يقسمه إلى قسمين فقط: صحيح وضعيف. وقد ذكر المصنف هذا الخلاف في النوع الثاني في التاسع من التفريعات المذكورة فيه فقال: من أهل الحديث من لا يفرد نوع الحسن ويجعله مندرجا في أنواع الصحيح لاندراجه في نوع ما يحتج به، قال: وهو الظاهر من كلام أبي عبد الله الحاكم ( ت 405 هـ ) في تصرفاته إلى آخر كلامه، فكان ينبغي الاحتراز عن الخلاف هنا !
والجواب: أن ما نقله المصنف عن أهل الحديث قد نقله الخطابي عنهم في خطبة معالم السنن، فقال: اعلموا أن الحديث عند أهله على ثلاثة أقسام: حديث صحيح، وحديث حسن، وحديث سقيم، ولم أر من سبق الخطابي إلى تقسيمه ذلك، وإن كان في كلام المتقدمين من ذكر الحسن، وهو موجود في كلام الشافعي ( ت 204 هـ ) رضي الله عنه، والبخاري ( ت 256 هـ ) وجماعة، ولكن الخطابي ( ت 388 هـ ) نقل التقسيم عن أهل الحديث وهو إمام ثقة فتبعه المصنف على ذلك هنا، ثم حكى الخلاف في الموضع الذي ذكره فلم يهمل حكاية الخلاف، والله أعلم " اهـ [ التقييد والإيضاح، ص 19].
وقال ابن حجر ( ت 852 هـ ): والظاهر أن قوله – يعني ابن الصلاح في تعريفه للحديث الصحيح - : " عند أهل الحديث "، من العام الذي أريد به الخصوص، أي: الأكثر أو الذي استقر اتفاقهم عليه بعد الاختلاف. [ نقله في تدريب الراوي، 1/63].
واعترض ابن كثير ( ت 773 هـ ) رحمه الله على تقسيم ابن الصلاح الأحاديث إلى صحيح وحسن وضعيف، فقال: هذا التقسيم إن كان بالنسبة إلى ما في نفس الأمر فليس إلا صحيح وضعيف، وإن كان بالنسبة إلى اصطلاح المحدثين فالحديث ينقسم عندهم إلى أكثر من ذلك، كما قد ذكره آنفاً هو وغيره أيضاً. [ اختصار علوم الحديث ص 31 ].
فتعقبه السيوطي ( ت 911 هـ ) بقوله: وجوابه أن المراد الثاني والكل راجع إلى هذه الثلاثة. [ تدريب الراوي 1/63 ].
قلت: فنظر – رحمك الله – إلى هذا التحرير حول مصطلح الصحيح، والحسن، وتقسيم الحديث إلى الأقسام الثلاثة، كيف حرروا هل هو من تقسيم علماء الحديث أو لا ؟ وهل الحسن من اصطلاحهم أو لا ؟ وهل تحكم ابن الصلاح في ذلك أو لا .
وهذا الواقع هو في حقيقته اختلاف في الاصطلاح بين المتقدمين والمتأخرين، ولا يحتاج إلى أكثر من التنبيه على ذلك عند تطبيق مسائل الحديث والجرح والتعديل، وعند التعامل مع عبارات الأئمة من أجل الوقوف على مرادهم وفهمه.
وقد يغلو بعض الناس في فهم هذا الواقع، فيبني على ما يلحظه من خلاف بين المتقدمين والمتأخرين: وجوب طرح كلام المتأخرين، وقد يمعن في تقرير ذلك فيقول: بما أن المتقدمين هم أئمة الفن فالرجوع إلى عباراتهم والوقوف على تقريراتهم هو الأصل، إذ هم طريق هذا العلم وعلى ألفاظهم وعباراتهم يقوم هذا العلم ومنه يستمد أغلب قواعده وأصوله !
وقد يزيد بعضهم الأمر فينادي بإعادة كتابة قواعد المصطلح بناء على كلام المتقدمين !
وقد يزيد بعضهم غلوّاً فيقول: لا يحق لنا إذا صحح أحد من المتقدمين حديثاً أن نخالفه فنضعفه، وكذا إذا ضعف أحد من المتقدمين حديثاً أن نخالفه فنصححه، بل غاية ما نستطيعه الترجيح بين كلامهم عند الاختلاف، بل قد تجد من يقول: يسوغ عند اختلافهم الأخذ بالقولين، فيجوِّز الأخذ بالقول ونقيضه !!
والواقع هو ما قدمته لك من أن المتأخرين حاولوا التقعيد للاصطلاح العام، ولم يخرجوا في ذلك عما قرره المتقدمون، مع تنبيههم على المصطلح الخاص إن وجد !
وعلى هذا فإن ما يبنيه بعضهم على التفريق بين منهج المتقدمين والمتأخرين من إهدار لكلام المتأخرين، أو غلق لباب الكلام على الأحاديث التي تكلموا عليها، هذا البناء غلو وأمر غير مرغوب فيه، وهو في حقيقته كلمة حق أريد بها باطل، إذ الدعوة إلى دراسة منهج المتقدمين في علوم الحديث دعوة صحيحة في أصلها، وينبغي أن تأخذ محلها من الاعتبار لدى الباحثين بلا إفراط أو تفريط.
فلا محل لتوظيف هذه الدعوة لاطراح علم الحديث جملة وتفصيلاً بحسب تقعيدات المتأخرين ! أو طرح كلام ابن الصلاح أو كلام ابن حجر ! فإن هذا لا يرضاه من أنصف ! كما أنه لإنكار فائدة بل وأهمية دراسة مناهج المتقدمين في مسائل العلم عموماً، وفي مسائل الحديث خصوصاً!
ولا ينكر هذا إلا من أشرب قلبه التعصب والتقليد المحض الذي قد يصل عند بعضهم إلى ما يشبه اعتقاد العصمة فيمن يقلده ! ولست أشك أن التوسط في القضية أن تكون قواعد علوم الحديث المقررة محل اعتماد، وأن يفتح الباب على مصراعيه للدرس والاستنباط والنظر المبني على الاستقراء التام، وآلة علمية صحيحة والاستفادة مما ينتج من ذلك في تقييد قواعد العلم وإيضاحها بل وإبطال ما قام الدليل على بطلانه من فُهومِنا غير المستقيمة على نتائج هذا الدرس والنظر !
وقد سبقت كلمة الذهبي رحمه الله حيث قال: نحن نفتقر إلى تحرير عبارات التعديل والجرح وما بين ذلك من العبارات المتجاذبة. ثم أهم من ذلك أن نعلم بالاستقراء التام: عُرْف ذلك الإمام الجهبذ، واصطلاحه ومقاصده بعباراته الكثيرة. [ الموقظة ص 83 ].
فالموقف الوسط بلا إفراط أو تفريط – وهو منهج البحث في علوم الحديث – يقوم على أساس:
- اعتماد ما جاء في كتب علم الحديث مما قرره العلماء، والبناء عليه والاستفادة منه في فهم كلام الأئمة المتقدمين في علم الحديث !
- تشجيع الدراسات المبنية على الاستقراء التام أو الأغلبي، مع صحة الآلة العلمية للاستنباط !
دون أن نفصل إحداهما عن الأخرى ! فنبدأ من حيث انتهوا، ونبني على ما أصلوا، متممين في بنائهم ما يحتاج إلى تتميم !
ولا أجدني قادراً على تجاوز هذا الموضع قبل تقرير وبيان أن الدعوة إلى منهج المتقدمين بمعنى عدم اعتماد تقريرات ابن الصلاح ومن بعده من العلماء في علوم الحديث، وإهمالها، بدعوى أنها لا تمثل ما عليه أئمة الحديث، وأنها مليئة بتحكم وتطوير في مصطلح الأئمة، وأن علينا تقعيد علوم الحديث بناء على الاستقراء التام لعباراتهم، أقول: لا أجدني قادراً على تجاوز ذلك قبل التدليل على بطلانه.
ومن الأدلة على بطلانه أن هذا الأمر يخالف المسلمات التالية:

المسلمة الأولى: أن الاشتغال بالحاصل تحصيل حاصل !

وتوضيح ذلك: أن العمل الذي قال به ابن الصلاح والعلماء من بعده، هو خلاصة استقرائهم وتتبعهم، وتقعيدهم مبني على أصول علمية صحيحة، فالدعوة إلى الاستقراء وتقعيد القواعد، هي عودة إلى تحصيل حاصل، وتحصيل الحاصل لا فائدة فيه ! بل هو إهدار للجهد، وإضاعة للوقت بما لا ينفع !
فإن قيل: وماذا يمنع من أن نستقرئ كلام المتقدمين ونقعد القواعد من كلامهم مباشرة ؟
فالجواب: يمنع من ذلك الأمور التالية:
1- أنه تحصيل حاصل كما تقدم ! ودخول من باب لا تنتهي قضيته، فأنت تزعم أنك تستقرئ وتقعد، يأتي آخر لا يرضى ما قعدته ولا استقراءك فيعيد العملية لأنك متأخر، وهكذا بعد، وهذا كله جهد ضائع، لا مبرر له !
2- أن استقراءنا مهما زعمنا ناقص، إذا هناك كتب ومصادر علمية يذكرها ابن الصلاح في كتابه ولم نقف عليها إلى اليوم ! فمن أين لنا الاستقراء التام المزعوم أو حتى الأغلبي !
3- أننا لو خيرنا أدنى طلبة العلم بين قواعد يقعدها ناس في عصرنا هذا وبين قواعد قعدها العلماء وجروا عليها أجيالاً كثيرة مع التحرير والتدقيق، فإنهم بلا شك سيختارون الجري على القواعد المقررة ولا القواعد المحدثة !
نعم، استقرئ وتتبع بحسب ما بين يديك، وابدأ من حيث انتهى غيرك، فعسى أن تكمل نقصاً وقع في كلامه، أو توضح مبهماً جاء في عباراته، أو تقيد مطلقاً جاء بيانه!

المسلمة الثانية: ما كان لازمه باطل فهو باطل !

ويوضح هذا هنا: أن هذه الدعوة إلى طرح ما قرره العلماء من ابن الصلاح إلى اليوم، جملة وتفصيلاً، والعودة إلى استقراء لكلام أئمة الحديث والتقعيد مرة ثانية، تستلزم إلغاء جميع أحكام العلماء على الأحاديث تصحيحاً وتضعيفاً، من بعد ابن الصلاح إلى يومنا، وهذا هدم للدين، وإضاعة للسنة ! [ وقد نقل لي أحد الفضلاء أنه قرأ على الشيخ حماد الأنصاري رحمه الله شيئا مما قرره بعضهم حول هذا المعنى يدعو فيه إلى صياغة علوم الحديث، وتقعيدها على أساس كلام المتقدمين، فلما سمع الشيخ هذا قال: هذا هدم للسنة ! أو قال كلمة نحوها، وقد اشتهرت هذه الكلمة عن الشيخ حماد رحمه الله في حق هؤلاء ].

المسلمة الثالثة: العبرة بالمآل، وعواقب الأمور وخواتيمها !

وذلك أن هذا القول سيؤول إلى خلل كبير، إذ لا يعود أصحابه قادرين على الحكم على حديث ما بالتصحيح أو التضعيف، خاصة عندما يختلف كلام الأئمة المتقدمين في حديث ما، أو لم يضبط مصطلحا ما لهم، فما صححه فلان ضعيف عند فلان، وهذه العبارة من فلان بهذا المعنى عند فلان وبهذا المعنى عند الآخر ! فالذي عنده غير الذي عندك !
ومعلوم أن شعب السفطسة، هي: العندية، والعنادية، واللا أدرية، ومآل هذا القول: إما إلى العناد في إثبات ما يظنونه من الحقائق، على سبيل " عنزة ولو طارت " ! وإما إلى العندية، فكل واحد منهم عنده من فهم الحقائق والمراد منها ما لي عند الآخر، وكلٌّ راضٍ بما عنده، فهذا الحق عندك وهذا الحق عندنا في المسألة الواحدة !
وأما اللا أدرية فجواب كل شيء عندها: " لا أدري ممكن كذا وممكن كذا "! وكفى بهذا سفسطة ونفياً للحقائق!

المسلمة الخامسة: أن الأمة لا تجتمع على ضلالة !

وتوضيح ذلك: أن الحكم باختلال قواعد علم الحديث التي قعدها ابن الصلاح رحمه الله، مستقرئاً لها من كلام أئمة الحديث، متبعاً تقريراتهم وكلامهم على الرواة والأحاديث، مقتدياً بمن سبقه إلى هذا كأبي عبد الله الحاكم والخطيب البغدادي، وسار عليها العلماء إلى يومنا هذا، حكم باجتماع الأمة على ضلالة، واتّهام للعلماء بالقصور والتقصير، وكفى بهذا جهلاً !

المسلمة السادسة: أن لا قدح فيما تبرئ منه !

وذلك أنك لو نظرت في الحجج التي يوردها من زعم أن ابن الصلاح ومن بعده من العلماء لم يحسنوا تقعيد العلم على أصول وقواعد علم الحديث التي تبنى على كلام المتقدمين لوجدت منها:
- تهمتهم بإدخال مسائل في علم الحديث هي ليست منه! كإدخالهم مبحث المتواتر في علوم الحديث، وهو ليس منها، لأن المتواتر لا يبحث عن رجاله!
والواقع أنه لا محل للاعتراض أو القدح هنا، لأن ابن الصلاح ومن تبعه من العلماء تبرءوا من ذلك، ونبهوا إلى إدراكهم هذه الأمور.
فبالنسبة إلى المتواتر نبَّه ابن الصلاح إلى أنه ليس مما تشمله صناعة الحديث، وذلك في كتابه علوم الحديث في النوع الموفي الثلاثين، حيث قال رحمه الله: ومن المشهور: المتواتر الذي يذكره أهل الفقه وأصوله، وأهل الحديث لا يذكرونه باسمه الخاص المشعر بمعناه الخاص، وإن كان الحافظ الخطيب قد ذكره، ففي كلامه ما يُشعر بأنه اتبع فيه غير أهل الحديث، ولعل ذلك لكونه لا تشمله صناعتهم ولا يكاد يوجد رواياتهم، فإنه عبارة عن الخبر الذي ينقله من يحصل العلم بصدقه ضرورة، ولا بد في إسناده من استمرار هذا الشرط في رواته من أوله إلى منتهاه. [ علوم الحديث ص 267 ].
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله : وإنما أبهمت شروط المتواتر في الأصل – يعني: في متن نخبة الفكر – لأنه على هذه الكيفية ليس من مباحث علم الإسناد، إذ علم الإسناد يبحث فيه عن صحة الحديث أو ضعفه ليعمل به أو يُترك من حيث صفات الرجال وصيغ الأداء، والمتواتر لا يبحث عن رجاله بل يجب العمل به من غير بحث. [ نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر / العتر ( ص 41 - 42 ) ].
قلت: فكيف يُجعل ذكر المتواتر في كتب علوم الحديث دليلاً على أنهم لم يلتزموا بكلام المتقدمين، والحال أنهم تبرءوا من عهدة نسبته إلى علوم الحديث، وإنما ذكروه من أجل بيان القسمة والصورة التي يقع عليها النقل، وتحرير النقل الذي هو موضوع علم الحديث.

المسلمة السابعة: ما بني على باطل فهو باطل.

وذلك أنك لو نظرت في الحجج التي يوردها من زعم أن ابن الصلاح ومن بعده من العلماء لم يحسنوا تقعيد العلم على أصول وقواعد علم الحديث التي تبنى على كلام المتقدمين لوجدت منها:
- تحكمهم في تعريف النوع الحديثي، باختيار معنى له، دون مراعاة ما عليه بعض الأئمة المتقدمين ! كما تراهـم
في تعريف الشاذ حيث اعتمدوا تعريف الشافعي رحمه الله وأهملوا تعريف غيره ! ولو جئت إلى تعريف الشاذ، فهل سنرى هذه التهمة قائمة ؟ هل تحكم ابن الصلاح في تعريفه وأهمل تعريف غير الشافعي ؟
قال ابن الصلاح رحمه الله: " النوع الثالث عشر: معرفة الشاذ: روينا عن يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي الشافعي رضي الله عنه: ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يروى غيره إنما الشاذ أن يروي الثقة حديثاً يخالف ما روى الناس.
وحكى الحافظ أبو يعلى الخليلي القزويني نحو هذا عن الشافعي وجماعة من أهل الحجاز: ثم قال: الذي عليه حفاظ الحديث أن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد يشذ بذلك شيخ ثقة كان أو غير ثقة، فما كان عن غير ثقة فمتروك لا يقبل، وما كان عن ثقة يتوقف فيه ولا يحتج به.
وذكر الحاكم أبو عبد الله الحافظ أن الشاذ هو الحديث الذي ينفرد به ثقة عن الثقات، وليس له أصل بمتابع لذلك الثقة، وذكر أنه يغاير المعلل من حيث إن المعلل وقف على علته الدالة على جهة الوهم فيه، والشاذ لم يوقف فيه على علة ذلك.
قلت: أما ما حكم به الشافعي عليه بالشذوذ فلا إشكال في أنه شاذ غير مقبول ! وأما ما حكيناه عن غيره فيشكل بما ينفرد به العدل الحافظ الضابط، كحديث " إنما الأعمال بالنيات " فإنه حديث تفرد به عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم تفرد به عن عمر علقمة بن وقاص، ثم عن علقمة محمد بن إبراهيم، ثم عنه يحيى بن سعيد على ما هو الصحيح عند أهل الحديث.
وأوضح من ذلك في ذلك: حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر: " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع الولاء وهبته " ، تفرد به عبد الله بن دينار.
وحديث مالك عن الزهري عن أنس: " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل مكة وعلى رأسه المغفر " تفرد به مالك عن الزهري.
فكل هذه مخرّجة في الصحيحين مع أنه ليس لها إلا إسناد واحد، تفر به ثقة، وفي غرائب الصحيح أشباه لذلك غير قليلة، وقد قال مسلم بن الحجاج: للزهري نحو تسعين حرفا يرويه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يشاركه في أحد بأسانيد جياد. والله أعلم.
فهذا الذي ذكرناه وغيره من مذاهب أئمة الحديث يبين لك أنه ليس الأمر في ذلك على الإطلاق الذي أتى به الخليلي والحاكم، بل الأمر في ذلك على تفصيل نُبَيّنُه، فنقول: إذا انفرد الراوي بشي نُظر فيه، فإذا انفرد به مخالفاً لما رواه من هو أولى منه بالحفظ لذلك وأضبط كان ما انفرد به شاذّاً مردوداً. وإن لم يكن فيه مخالفة لما رواه غيره، وإنما هو أمر رواه هو ولم يروه غيره، فينظر في هذا الراوي المنفرد، فإن كان عدلاً حافظاً موثقا ً بإتقانه وضبطه قبل ما انفرد به ولم يقدح الانفراد فيه كما فيما سبق من الأمثلة. وإن لم يكن ممن يوثق بحفظه وإتقانه لذلك الذي انفرد به كان انفراده به خارماً له مزحزحاً له عن حيّز الصحيح.
ثم هو بعد ذلك دائر بين مراتب متفاوتة بحسب الحال فيه، فإن كان المنفرد به غير بعيد من درجة الضابط المقبول تفرده استحسنا حديثه ذلك، ولم نحطه إلى قبيل الحديث الضعيف، وإن كان بعيدا من ذلك رددنا ما انفرد به، وكان من قبيل الشاذ المنكر.
فخرج من ذلك أن الشاذ المردود قسمان:
أحدهما: الحديث الفرد المخالف.
والثاني: الفرد الذي ليس له في راويه من الثقة والضبط ما يقع جابراً لِما يوجبه التفرد والشذوذ من النكارة والضعف، والله أعلم. [ علوم الحديث / العتر ( 76 - 79 ) ].
قلت: انتبه معي للأمور التالية:
1- أن ابن الصلاح رحمه الله ذكر تعريف الشافعي والحاكم وأبي يعلى الخليلي رحمهم الله.
2- أن تعريف الحاكم رحمه الله للشاذ فيه أن الشاذ هو الحديث الذي ينفرد به الثقة وليس له أصل بمتابع لذلك الثقة. وتمام كلام الحاكم أبي عبد الله يفيد أنه يريد الحديث الذي ينفرد به الثقة، ولا يوقف له على علة من جهة السند أو المتن، إنما يكون ما يكشف عن ضعفه أمر خارج، وقوة كلام الحاكم تفيد أنه يحكم عليه بالضعف !
3- أن تعريف الخليلي رحمه الله للشاذ فيه أن الحديث الغريب إذا كان عن غير ثقة متروك غير مقبول، وإذا كان عن ثقة يتوقف فيه ولا يحتج به، والتطبيق العملي لهذا أن الحديث الغريب ضعيف !
4- أن ابن الصلاح لم ير تعريف الحاكم والخليلي مطابقا للواقع، إذ لا يلزم من كون الحديث غريبا لم يروه إلا راوٍ واحد عن واحد أن يكون ضعيفاً ! بدليل تصحيح البخاري ومسلم وغيرهما من أئمة الحديث لأحاديث هي من هذا القبيل، ومثل لذلك بالأحاديث الغرائب في الصحيحين، وأمام هذا الواقع فإن التعريف الذي ذكره الشافعي هو المعتمد، وهو المطابق لاشتراط عدمه في تعريف الحديث الصحيح ! وحرر أن الفرد الذي يحكم بضعفه هو الحديث الغريب السند الذي ليس في راويه من الثقة والضبط ما يقع جابراً لما يوجبه التفرد والشذوذ من النكارة والضعف.
5- أن ابن الصلاح لم يتحكم في التعريف، بل ناقش التعاريف، واستدل لما يراه مطابقاً لما عليه تصرف أئمة الحديث.
فهذه المسلمات تدل على بطلان الدعوة إلى عدم اعتماد المتأخرين – ابن الصلاح ومن بعده – في تقريراتهم وتقعيداتهم لعلوم الحديث، بدعوى أنها لا تمثل ما عليه أئمة الحديث ( المتقدمين )، وأن علينا إعادة تقعيد علوم الحديث بناء على الاستقراء التام لكلام المتقدمين، لأن كلام المتأخرين – بزعم أصحاب هذه الدعوة – مليء بالتحكم وفكرة تطوير مصطلح الأئمة !!
فإن قيل: هل يسوغ لنا مخالفة الأئمة المتقدمين على الأحاديث ؟
فالجواب:
أحكام الأئمة المتقدمين على الأحاديث هي مثل كلامهم على رواته سواء بسواء، وتوضيح ذلك من خلال تطبيقه على الحديث، فأقول:
إن كلام أئمة الحديث على الأحاديث لا يخلو من أن يكون تصحيحاً منهم للحديث، أو تضعيفاً منهم للحديث، أو اختلافاً منهم في حكم درجة الحديث، فينتج من ذلك الأقسام التالية:
القسم الأول: أحاديث اتفقوا على تصحيحها.
القسم الثاني: أحاديث اتفقوا على تضعيفها.
القسم الثالث: أحاديث اختلفوا فيها.
القسم الرابع: أحاديث لم نقف إلا على كلام بعضهم فيها.
القسم الخامس: أحاديث لم نقف لهم على كلام فيها.
فالقسم الأول والثاني لا تسعنا مخالفتهم، إذ هذا إجماع منهم !
وأما القسم الثالث فينظر ويرجح فيه بحسب القرائن !
وأما القسم الرابع فإن انفرد إمام منهم بحكم على حديث، فلم نجد من يخالفه أو يوافقه، فلا يخلو الحال من أن يكون كلامه على طريق بعينه للحديث، أو مطلقاً ! ففي الحالة الأولى لا مخالفة بين كلامه وبين ما يسفر عنه الدرس لطرق ومخارج الحديث الأخرى، التي يشملها بكلامه ! وفي الحالة الثانية ينظر في القرائن، فإذا قوّت القرائن قبول كلامه قُبِل وإلا حكم على الحديث بحسب ما تدل عليه القرائن، وإلا فإن إعمال كلام الإمام والأخذ به أولى، وهذا مثل قضية الجرح المجمل في حق من لم يوثق.
وأما القسم الخامس فإن البحث عن درجة الحديث عن طريق درس الطرق والمخارج هو الأصل، وذلك بحب ما تقرر في قواعد هذا العلم الشريف، والله الموفق.
قال البيهقي رحمه الله: إن الأخبار الخاصة المروية على ثلاثة أنواع: نوع اتفق أهل العلم بالحديث على صحته ... وأمّا النوع الثاني من الأخبار، فهي أحاديث اتفق أهل العلم بالحديث على ضعف مخرجها ... وأمّا النوع الثالث من الأحاديث فهو حديث قد اختلف أهل العلم بالحديث في ثبوته، فمنهم من يضعفه بجرح ظهر له من بعض رواته، خفي ذلك عن غيره، أو لم يقف من حاله على ما يوجب قبول خبره، وقد وقف عليه غيره، أو المعنى الذي يجرحه به لا يراه غيره جرحاً، أو وقف على انقطاعه أو انقطاع بعض ألفاظه، أو إدراج بعض رواته قول رواته في متنه، أو دخول إسناد حديث في حديث خفي ذلك على غيره.
فهذا الذي يجب على أهل العلم بالحديث بعدهم أن ينظروا في اختلافهم، ويجتهدوا في معرفة معانيهم في القبول والرد، ثم يختاروا من أقاويلهم أصحها، وبالله التوفيق. [ دلائل النبوة للبيهقي ( 1/32-38 ) باختصار ].
قال ابن تيمية رحمه الله: إن إجماع الفقهاء على الأحكام معصوم من الخطأ، ولو أجمع الفقهاء على حكم كان إجماعهم حجة، وإن كان مستند أحدهم خبر واحد أو قياس أو عموم، فكذلك، أهل العلم بالحديث إذا أجمعوا على صحة خبر أفاد العلم وإن كان الواحد منهم يجوز عليه الخطأ لكن إجماعهم معصوم من الخطأ. [ مجموع الفتاوى ( 18/49 ) ].
قال ابن حجر رحمه الله: متى وجدنا حديثاً قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم بتعليله فالأولى اتباعه في ذلك كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا صححه. وهذا الشافعي مع إمامته يحيل القول على أئمة الحديث في كتبه فيقول: وفيه حديث لا يثبته أهل العلم بالحديث.
وهذا حيث لا يوجد مخالف منهم لذلك المعلل، وحيث يصرح بإثبات العلة، فأمّا إن وجد غيره صححه فينبغي حينئذ توجه النظر إلى الترجيح بين كلاميهما. وكذلك إذا أشار المعلل إلى العلة إشارة ولم يتبين منه ترجيح لإحدى الروايتين، فإن ذلك يحتاج إلى الترجيح، والله أعلم. [ النكت على كتاب ابن الصلاح ( 2/711 ) ].

وهذه إضاءات فيها تأكيد لما تقدم وزيادة بيان إن شاء الله تعالى :

إضاءة:
على كتاب ابن الصلاح دارت كتب المصطلح، مستفيدة من صور التدوين الأخرى – المشمولة في الطورين المكورين سابقا – في شرحه وتفسيره وبيانه، كما تراه في الكتب المختصرة لكتاب ابن الصلاح وشروحها، والكتب التي نكتت على ابن الصلاح مثل كتاب العراقي " التقييد والإيضاح " وكتاب ابن حجر " النكت على ابن الصلاح " رحمهما الله !
وإن شئت فقل: إن كتاب علوم الحديث لابن الصلاح ما هو إلا استقراء وتقعيد لما دون من علوم الحديث في صور التدوين الأخرى، وتوضيح هذا هو التالي:

إضاءة:
كتاب ابن الصلاح استقراء لما دوّن قبله:
اعتمد ابن الصلاح رحمه الله في تدوينه لمسائل المصطلح على كتب الخطيب البغدادي رحمه الله، و ما دوِّن من مسائل المصطلح على الصور الأربع الأخرى، وهذا ما جعل من بعده يعكفون على كتابه، وفي هذا يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: " من أول من صنف في ذلك: القاضي أبو محمد الرامهرمزي في كتابه " المحدث الفاصل " ، لكنه لم يستوعب، والحاكم أبو عبد الله النيسابوري، لكنه لم يهذب ولم يرتب، وتلاه أبو نعيم الأصبهاني فعمل على كتابه مستخرجاً وأبقى أشياء للمتعقب. ثم جاء بعدهم الخطيب أبو بكر البغدادي فصنف في قوانين الرواية كتاباً سماه " الكفاية "، وفي آدابها كتاباً سماه " الجامع لآداب الشيخ والسامع " ، وقلَّ فن من فنون الحديث إلا وقد صنف فيه كتاباً مفرداً، فكان كما قال الحافظ أبو بكر بن نقطة: كل من أنصف علم أن المحدثين بعد الخطيب عيال على كتبه !
ثم جاء بعض من تأخر عن الخطيب فأخذ من هذا العلم بنصيب، فجمع القاضي عياض كتاباً لطيفاً سمّاه " الإلماع "، وأبو حفص الميانجي جزءاً سمّاه " ما لا يع المحدث جهله " ، وأمثال ذلك من التصانيف التي اشتهرت وبسطت ليتوفر علمها، واختصرت ليتيسر فهمها، إلى أن جاء الحافظ الفقيه تقي الدين أبو عمرو عثمان بن الصلاح عبد الرحمن الشهرزوري نزيل دمشق فجمع لما ولي تدريس الحديث بالمدرسة الأشرفية كتابه المشهور، فهذب فنونه، وأملاه شيئاً بعد شيء، فلهذا لم يحصل ترتيبه على الوضع المناسب، واعتنى بتصانيف الخطيب المتفرقة، فجمع شتات مقاصدها، وضم إليها من غيرها خب فوائدها، فاجتمع في كتابه ما تفرق في غيره. فلهذا عكف الناس عليه، وساروا بسيره، فلا يحصى كم من ناظم له ومختصر، ومستدرك عليه ومقتصر، ومعارض له ومنتصر. [ نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر ( ص 34-36 ) وانظر النكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر (1/232) ].
وعكوف العلماء على هذا الكتاب أكسب كتابه من البعد والعمق العلمي في موضوعه ما لا تجده في كتاب آخر، فيكفي أن تراجع ما كتب حوله من اختصار ونظم وشروح ونكت على هذا جميعه في المسألة الواحدة لتقف على حصيلة ما جاء حول المسألة من كلام لأئمة الحديث، مع تنقيدات وتنبيهات وتنقيحات.
وهنا أقول: إن كتاب ابن الصلاح مترابط متكامل، مرتبط تمام الارتباط بالمنهج المعرفي الإسلامي، بل وفيه عرضت قواعد علوم الحديث على هيئة نظرية متكاملة مترابطة، وكل ما في الأمر أن ابن الصلاح كما تقدم قبل قليل لم يتيسر له ترتيب كتابه، إذ أملاه على طلابه في المدرسة المشرفية !
بل إن كتاب ابن الصلاح على ضوء الواقع في تصنيفه من ترابط بين موضوعاته وإن لم تكن على ترتيب متناسب، مع كونه ألقاه إملاء بغير ترتيب، دليل على أن علم الحديث متكامل مترابط له سمات النظرية المتكاملة المترابطة من قبل أن يصنف ابن الصلاح كتابه! وعرض علم الحديث على هيئة النظرية المترابطة المتكاملة هو ما تجده بوضوح عند الحافظ ابن حجر في كتابه " نخبة الفكر في مصطلح الأثر ".
إضاءة:
كتاب علوم الحديث لابن الصلاح راعى فيه ما يناسب تدريس هذا العلم، مما جعل لكتابه سمات خاصة، يحتاج إلى أن يعرفها من يتناول كتابه، من ذلك :
ابن الصلاح في الأمثلة التي يوردها إنما جرى في إيرادها على سبيل المثال لفهم المسألة محل البحث، وليس باللازم أن يكون المثال في حقيقته سالماً من التعقيب ! وقد ذكر بعض المحققين أنه لا يشترط في المثال أن يكون صحيحاً بل يستحسن فقط، [ قضاء الوطر من نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر/ لإبراهيم اللقاني المالكي/ لوحة رقم ( 26 ) بترقيمي ] وذلك لأن مقصود ذكر المثال إيضاح القاعدة لا إثباتها ! بل لقد ألمح ابن الصلاح إلى ذلك في النوع التاسع: معرفة المرسل، حينما ذكر الصورة الثانية من صور المرسل، قال: " قول الزهري وابن حازم ويحيى بن سعيد الأنصاري وأشباههم من أصاغر التابعين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، حكى ابن عبد البر أن قوماً لا يسمونه مرسلاً، بل منقطعاً، لكونهم لم يلقوا من الصحابة إلا الواحد والاثنين وأكثر روايتهم عن التابعين ". اهـ.
أملى ابن الصلاح رحمه الله حاشية على هذا المكان من كتابه منبهاً على المنهج في ضرب المثال، فقال: " قوله: - الواحد والاثنين – كالمثال، وإلا فالزهري قد قيل: إنه رأى عشرة من الصحابة، وسمع منهم: أنساً وسهل بن سعد والسايب بن يزيد ومحمود بن الربيع وسنيناً أبا جميلة وغيرهم، وهو مع ذلك أكثر روايته عن التابعين، والله أعلم" اهـ. [ التقييد والإيضاح ( ص 72 ) ].
وفائدة هذا التنبيه: وذلك في قوله: " كالمثال "، الاهتمام بفهم المراد، وأن الانتقاد والتعقب على المثال، ينبغي ألاّ يبطل ما يريد ابن الصلاح قوله وتوضيحه، إذ المثال يأتي لتوضيح القاعدة، لا لتثبيتها، والله أعلم !

إضاءة:
التعريف الذي يعتمده ابن الصلاح هو ما جرى عليه جمهور أهل الحديث، أو بحسب ما قيد به في محل آخر من كتابه، مع تنبيهه على ذلك في كل موضع: خذ مثلاً: تعريف العلة والشاذ،


يتبع !