muslimah
04-02-2005, 07:22 PM
أدب الاختلاف
بكر أبوبكر
لم نقم منذ فترة قصيرة بتوجيه النقد لأداء أحدى المؤسسات إلا وجوبهنا بسيل من التهجمات الخارجة عن منطق الأدب، أدب الحوار والاختلاف، ورمينا بما ليس فينا من خصال..هكذا قال لي صديق تعرض بالنقد-الذي أظنه-كان بناء بعد قراءتي له- لأحد المؤسسات ولحقها بنقد هام لتنظيم سياسي فلسطيني صاعد. فكان أن وافقت معه على أن أدب الحوار والاختلاف مفاهيم قائمة قلما يدركها متحيز أو كاره أو حاقد أو مدسوس.
إن أدب الاختلاف ذو قيمة عالية في حضارتنا العربية الإسلامية، فلقد كان المخالف العقائدي (الزنديق) يقف مناظرا علماء الأمة ، ويقول مايقول في العقائد والقيم والفكر ويتصدى له المجتهدون. كما كان العلامة ابن حنبل رجلا مدافعا عن حرية رأيه وحقه في الاختلاف عندما رسمت الدولة العباسية منذ عهد المأمون على مذهب المعتزلة.
إن أدب الحوار يؤسس لاحترام الاختلاف، واحترام الرأي والرأي الآخر، فلا حوار دون وجهات نظر ، ولا خلاف يظهر دون تحاور يجعل من احتكاك الآراء مدخلا للتفكير ، وبروز الخيوط واتجاهات الرأي. وعليه سنحاول أن نقدم لأدب الاختلاف ما قد يفيد صاحبنا الموجوع فنقول أن لأدب الاختلاف أسس ثمانية رئيسة كالتالي:
أولا: الاعتزاز بالرأي مع مساحة تغيير:
حيث أن الإيمان بالفكرة يجعل من حاملها مشعل إنارة لها، ودرب وصول لتحقيقها فلا تكون مجرد عبث وكلام في الهواء، لذا يعد الثقة والاعتزاز بالرأي من عوامل الاحترام للذات من جهة وللعقل، واحترام لمستوى الحوار.
ثانيا: اعتماد الشك مدخلا للتثبت:
إن الأفكار تأتي وتذهب وتستقر أحيانا ثم يفد عليها من الجديد ما يزلزل أسسها أو يحركها عن موضعها، لذلك فالفكرة في العقل المحاور قابلة للنقض ومدى استقرارها المرهون بالحجة قابل للتزحزح حال ظهور عوامل جديدة أو آراء أخرى أو حال الحوار بعقل منفتح. والشك هنا مدخل للتثبيت أو التشذيب أو التغيير للفكرة. لم يتناقض مذهب الشك عند علماء الأمة مع استقرار العقيدة على سبيل المثال بل اعتبروا أن طرح المشكوك به أو السؤال الكبير حول كل المسكوت عنه ضرورة لاستقرار الرأي وضرورة للتجاوب مع العقول بمختلف اتجاهاتها ، والتعامل مع الإيمان بمنطق العقل لتثبيته، مع عدم إغفال القضايا الروحانية والنفسية .
ثالثا: الانفتاح الذهني ونقض القوالب الجامدة:
حيث تشكل المفاهيم المسبقة أو القوالب الجامدة عائقا خطرا في وجه تفهم الآخر، فما بالك بشخص يذهب لحضور ندوة أو يقرأ كتابا ولديه اتجاه أي رأي مسبق مناهض للمحاضر أو صاحب المقال... إنه بالضرورة سيتعامل مع الموضوع بشكل دفاعي أو اتهامي ضمن مرجعيته المسبقة لذا يعتبر الانفتاح الذهني مدخلا لأدب الحوار.
رابعا:احترام الرأي المخالف:
إن ثقة الشخص برأيه لا تتناقض البتة مع حضور الذهن حين الاستماع للرأي الآخر، استماعا ملهما بمعنى محاولة تكشف عناصر الجدة في حديث المخالف من جهة وعناصر الرد عليه فيما هو حجة ضعيفة....إن أدب المناظرة مختلف عن أدب الحوار والاختلاف فالأول يسعى فيه المتناظرون للتفوق والبروز والتشكيك بالآخر وإبراز مثالب حجته وبالتالي إفحامه أو تعريته أمام ذاته والجمهور ، أما المتحاورين فهما وإن اختلفا يبحثان –ضمن منطق أدب الاختلاف-عن العناصر الجديدة والمفيدة والضرورية للتطوير لكل في فكرته. وحتى إن بقي الاختلاف يظل الاحترام متبادلا، ولا يتجه للتسفيه الشخصي حيث الأعراض والشتم كما هو حال عدد من الكتبة، أو من المواقع ذات الطابع التهجمي المسف على الشبكة البينية (الانترنت).
خامسا: الاختلاف والاستفادة:
إن الفكرة انتزاع لها من جملة أفكار، والفكرة تراوح في مساحات متقاطعة مع أفكار أخرى ولا تستقر بسهولة ، لذا فإن منطق الاختلاف في الفكرة منطق السعي للإفادة ما يدعم ويقوي ، أو يهدم ويقوض للفكرة. بمعنى أن العالم الذي يقنع بعلمه ويتوقف ولا يجعل من الأفكار الوافدة محلا في عقله سيتأخر عن ركب العلم حيث العلم مرتبط بالتطور والتقدم، والمفكر الذي يظن أنه صاحب النظرية الأوفى سيقع في منزلق الجمود متى ما اعتقد الثبات لا التغيير في الفكر، والمتعلم الذي يكتفى بقسطه من العلم في أي مجال ستهبط كفاءته وتتناقص قدرته إن لم يضف إليها الجديد بالقراءة والدرس والمران والحوار والاستفادة من المختلف.
سادسا: التوجه نحو الموقف أو الفكرة لا الشخص:
حيث أن الحوار قد يكون بين الشخص وذاته أو بين شخصين أو أكثر في ندوة أو مؤتمر أو ورشة أو في سياق مناقشة عادية منظمة أو عابرة، وفي كل هذه الحوارات فإن الاختلاف أو التعدد أمر طبيعي ، وبمعنى أن في ذات الشخص قد يكون أكثر من رأي أو فكرة في الموضوع أو المشكلة فيفكر باتجاهات تعدد الحل أو الرأي ، ومن البديهي أن العقلية المرنة المنفتحة تتقبل الآخر وتسعى فيما هو عنده للاستفادة وربما الاستزادة، ولكن كل هذا لا يمنع أن الرأي المخالف يعبر عن نفسه وهنا يصبح الدفاع عن الرأي أو توضيحه أو عرضه من المتوجب أن يتم ضمن شروط التدرج وحسن العرض والإقناع ، وفي مواجهة فكرة الآخر المختلف معها فإن النقد أو التعبير عن الاختلاف يتم بالتعرض لذات الفكرة أو الموقف أو الموضوع لا للشخص نفسه، ما يفعله عدد من الكتاب حين يتعرضون للأشخاص في ذواتهم وأشكالهم وأعراضهم ما لا يقبل ولا يتفق مع أدب الاختلاف، وإنما الممكن تصنيفه ضمن مفهوم (الشرشحة والردح).
سابعا:حسن الإنصات والفهم:
هل من الممكن أن نتصور عقلية مرنة منفتحة متقبلة للاختلاف لا تستمع وتصغي بأناة وتتبع للآخر؟ وهل نتصور صاحب فكرة أو مذهب أو رأي يسعى لإقناع الآخرين ينطلق متكلما كالحافلة دون توقف، لملاحظة مدى استجابة وتفاعل الآخرين؟ وللتدقيق في ردود الفعل الكلامية والجسدية؟ إن حسن الإنصات للآخرين سواء فيما يقولونه أو لا يقولونه مدخل للشخص لإثراء فكره، ومدخل للتأثير في الآخرين وفي ذات الوقت فإن حسن الإنصات من أدب المحاور الراغب بإيصال فكرته من جهة أو الرد على أفكار الآخرين. وإلا كيف ترد الحافلة على متطلبات إشارات المرور إذا لم يكن مقودها بيد منصت حكيم؟
حاولنا في هذه العجالة أن نتعرض لبعض أسس أدب الاختلاف مقررين قاعدة ذهبية تقول أن الأصل بالأشياء والمخلوقات هو الاختلاف في الشكل والظروف والتكوينات والتربية أو مستوى ونسبة وشكل التعلم وما يوقعه على الشخصية من قدرات تجعل من الناس مختلفين في التلقي وفي المشاركة ، ما يستدعي فهم ضرورة وضع الأسس والمسارات والقواعد التي تحكم كثيراً من أفعالهم وأقوالهم ومنها في الاختلاف والحوار. ولا ننكر أن قدرة تطويع النفس على تقبل الآخر قدرة غير بسيطة لأن الأسهل منها تركه والابتعاد عنه ، أو الاحتفاظ بالفكرة وصونها من الآخرين ما دامت تدغدغ المشاعر أو الحقائق الإيمانية أو أنها مجلبة للمتعة. ولكن الشخصية المحاورة والمفكرة والمرنة والمنفتحة والحكيمة هي الشخصية التي تقرر الاختلاف وتقر به وتتفهم ذلك وتتعامل معه وتتعايش وتجعل منه محيطا تسبح فيه وتنتقل عبره لشط السلامة.
بكر أبوبكر
لم نقم منذ فترة قصيرة بتوجيه النقد لأداء أحدى المؤسسات إلا وجوبهنا بسيل من التهجمات الخارجة عن منطق الأدب، أدب الحوار والاختلاف، ورمينا بما ليس فينا من خصال..هكذا قال لي صديق تعرض بالنقد-الذي أظنه-كان بناء بعد قراءتي له- لأحد المؤسسات ولحقها بنقد هام لتنظيم سياسي فلسطيني صاعد. فكان أن وافقت معه على أن أدب الحوار والاختلاف مفاهيم قائمة قلما يدركها متحيز أو كاره أو حاقد أو مدسوس.
إن أدب الاختلاف ذو قيمة عالية في حضارتنا العربية الإسلامية، فلقد كان المخالف العقائدي (الزنديق) يقف مناظرا علماء الأمة ، ويقول مايقول في العقائد والقيم والفكر ويتصدى له المجتهدون. كما كان العلامة ابن حنبل رجلا مدافعا عن حرية رأيه وحقه في الاختلاف عندما رسمت الدولة العباسية منذ عهد المأمون على مذهب المعتزلة.
إن أدب الحوار يؤسس لاحترام الاختلاف، واحترام الرأي والرأي الآخر، فلا حوار دون وجهات نظر ، ولا خلاف يظهر دون تحاور يجعل من احتكاك الآراء مدخلا للتفكير ، وبروز الخيوط واتجاهات الرأي. وعليه سنحاول أن نقدم لأدب الاختلاف ما قد يفيد صاحبنا الموجوع فنقول أن لأدب الاختلاف أسس ثمانية رئيسة كالتالي:
أولا: الاعتزاز بالرأي مع مساحة تغيير:
حيث أن الإيمان بالفكرة يجعل من حاملها مشعل إنارة لها، ودرب وصول لتحقيقها فلا تكون مجرد عبث وكلام في الهواء، لذا يعد الثقة والاعتزاز بالرأي من عوامل الاحترام للذات من جهة وللعقل، واحترام لمستوى الحوار.
ثانيا: اعتماد الشك مدخلا للتثبت:
إن الأفكار تأتي وتذهب وتستقر أحيانا ثم يفد عليها من الجديد ما يزلزل أسسها أو يحركها عن موضعها، لذلك فالفكرة في العقل المحاور قابلة للنقض ومدى استقرارها المرهون بالحجة قابل للتزحزح حال ظهور عوامل جديدة أو آراء أخرى أو حال الحوار بعقل منفتح. والشك هنا مدخل للتثبيت أو التشذيب أو التغيير للفكرة. لم يتناقض مذهب الشك عند علماء الأمة مع استقرار العقيدة على سبيل المثال بل اعتبروا أن طرح المشكوك به أو السؤال الكبير حول كل المسكوت عنه ضرورة لاستقرار الرأي وضرورة للتجاوب مع العقول بمختلف اتجاهاتها ، والتعامل مع الإيمان بمنطق العقل لتثبيته، مع عدم إغفال القضايا الروحانية والنفسية .
ثالثا: الانفتاح الذهني ونقض القوالب الجامدة:
حيث تشكل المفاهيم المسبقة أو القوالب الجامدة عائقا خطرا في وجه تفهم الآخر، فما بالك بشخص يذهب لحضور ندوة أو يقرأ كتابا ولديه اتجاه أي رأي مسبق مناهض للمحاضر أو صاحب المقال... إنه بالضرورة سيتعامل مع الموضوع بشكل دفاعي أو اتهامي ضمن مرجعيته المسبقة لذا يعتبر الانفتاح الذهني مدخلا لأدب الحوار.
رابعا:احترام الرأي المخالف:
إن ثقة الشخص برأيه لا تتناقض البتة مع حضور الذهن حين الاستماع للرأي الآخر، استماعا ملهما بمعنى محاولة تكشف عناصر الجدة في حديث المخالف من جهة وعناصر الرد عليه فيما هو حجة ضعيفة....إن أدب المناظرة مختلف عن أدب الحوار والاختلاف فالأول يسعى فيه المتناظرون للتفوق والبروز والتشكيك بالآخر وإبراز مثالب حجته وبالتالي إفحامه أو تعريته أمام ذاته والجمهور ، أما المتحاورين فهما وإن اختلفا يبحثان –ضمن منطق أدب الاختلاف-عن العناصر الجديدة والمفيدة والضرورية للتطوير لكل في فكرته. وحتى إن بقي الاختلاف يظل الاحترام متبادلا، ولا يتجه للتسفيه الشخصي حيث الأعراض والشتم كما هو حال عدد من الكتبة، أو من المواقع ذات الطابع التهجمي المسف على الشبكة البينية (الانترنت).
خامسا: الاختلاف والاستفادة:
إن الفكرة انتزاع لها من جملة أفكار، والفكرة تراوح في مساحات متقاطعة مع أفكار أخرى ولا تستقر بسهولة ، لذا فإن منطق الاختلاف في الفكرة منطق السعي للإفادة ما يدعم ويقوي ، أو يهدم ويقوض للفكرة. بمعنى أن العالم الذي يقنع بعلمه ويتوقف ولا يجعل من الأفكار الوافدة محلا في عقله سيتأخر عن ركب العلم حيث العلم مرتبط بالتطور والتقدم، والمفكر الذي يظن أنه صاحب النظرية الأوفى سيقع في منزلق الجمود متى ما اعتقد الثبات لا التغيير في الفكر، والمتعلم الذي يكتفى بقسطه من العلم في أي مجال ستهبط كفاءته وتتناقص قدرته إن لم يضف إليها الجديد بالقراءة والدرس والمران والحوار والاستفادة من المختلف.
سادسا: التوجه نحو الموقف أو الفكرة لا الشخص:
حيث أن الحوار قد يكون بين الشخص وذاته أو بين شخصين أو أكثر في ندوة أو مؤتمر أو ورشة أو في سياق مناقشة عادية منظمة أو عابرة، وفي كل هذه الحوارات فإن الاختلاف أو التعدد أمر طبيعي ، وبمعنى أن في ذات الشخص قد يكون أكثر من رأي أو فكرة في الموضوع أو المشكلة فيفكر باتجاهات تعدد الحل أو الرأي ، ومن البديهي أن العقلية المرنة المنفتحة تتقبل الآخر وتسعى فيما هو عنده للاستفادة وربما الاستزادة، ولكن كل هذا لا يمنع أن الرأي المخالف يعبر عن نفسه وهنا يصبح الدفاع عن الرأي أو توضيحه أو عرضه من المتوجب أن يتم ضمن شروط التدرج وحسن العرض والإقناع ، وفي مواجهة فكرة الآخر المختلف معها فإن النقد أو التعبير عن الاختلاف يتم بالتعرض لذات الفكرة أو الموقف أو الموضوع لا للشخص نفسه، ما يفعله عدد من الكتاب حين يتعرضون للأشخاص في ذواتهم وأشكالهم وأعراضهم ما لا يقبل ولا يتفق مع أدب الاختلاف، وإنما الممكن تصنيفه ضمن مفهوم (الشرشحة والردح).
سابعا:حسن الإنصات والفهم:
هل من الممكن أن نتصور عقلية مرنة منفتحة متقبلة للاختلاف لا تستمع وتصغي بأناة وتتبع للآخر؟ وهل نتصور صاحب فكرة أو مذهب أو رأي يسعى لإقناع الآخرين ينطلق متكلما كالحافلة دون توقف، لملاحظة مدى استجابة وتفاعل الآخرين؟ وللتدقيق في ردود الفعل الكلامية والجسدية؟ إن حسن الإنصات للآخرين سواء فيما يقولونه أو لا يقولونه مدخل للشخص لإثراء فكره، ومدخل للتأثير في الآخرين وفي ذات الوقت فإن حسن الإنصات من أدب المحاور الراغب بإيصال فكرته من جهة أو الرد على أفكار الآخرين. وإلا كيف ترد الحافلة على متطلبات إشارات المرور إذا لم يكن مقودها بيد منصت حكيم؟
حاولنا في هذه العجالة أن نتعرض لبعض أسس أدب الاختلاف مقررين قاعدة ذهبية تقول أن الأصل بالأشياء والمخلوقات هو الاختلاف في الشكل والظروف والتكوينات والتربية أو مستوى ونسبة وشكل التعلم وما يوقعه على الشخصية من قدرات تجعل من الناس مختلفين في التلقي وفي المشاركة ، ما يستدعي فهم ضرورة وضع الأسس والمسارات والقواعد التي تحكم كثيراً من أفعالهم وأقوالهم ومنها في الاختلاف والحوار. ولا ننكر أن قدرة تطويع النفس على تقبل الآخر قدرة غير بسيطة لأن الأسهل منها تركه والابتعاد عنه ، أو الاحتفاظ بالفكرة وصونها من الآخرين ما دامت تدغدغ المشاعر أو الحقائق الإيمانية أو أنها مجلبة للمتعة. ولكن الشخصية المحاورة والمفكرة والمرنة والمنفتحة والحكيمة هي الشخصية التي تقرر الاختلاف وتقر به وتتفهم ذلك وتتعامل معه وتتعايش وتجعل منه محيطا تسبح فيه وتنتقل عبره لشط السلامة.