أبو المثنى
04-06-2005, 01:18 PM
أحفاد ابن الراوندى
من أعجب الشخصيات فى التاريخ العربى الإسلامى ، بل فى التاريخ الإنسانى كله ، شخصية ابن الراوندى الملحد (أو بالحسين أحمد بن يحيى بن إسحاق ، المتوفى فى حدود سنة 301 هجرية ) فقد عاش هذا الرجل حياة غربية ، تنقَّل فيها بين الديانات والمذاهب على نحو عجيب .
كان ابن الراوندى فى أول الأمر يهودياً ، وسرعان ما أعلن إسلامه ليدخل فى نطاق عزة الإسلام -آنذاك- ويستظل فى ظل الدولة العباسية التى كانت -آنذاك- فى أوج مجدها .. ووجد ابن الراوندى أن فرقة المعتزلة هى أكثر الفرق الإسلامية اقتراباً من الخفاء العباسيين ، فصار معتزليا ! وألَّف مجموعة من الكتب على مذهب المعتزلة .. لكن المعتزلة لم يفسحوا له مكانا لائقا بينهم ، ولم ينل ابن الراوندى ما كان يطمح إليه ، فانقلب على المعتزلة وهاجمهم فى كتاب مشهور له ، عنوانه : فضيحة المعتزلة (نقض فيه كتاب الجاحظ : فضيلة المعتزلة!)
وقام المعتزلة بالهجوم على ابن الراوندى ، ويبدو أنهم أوغروا صدر الخليفة ضده، فهرب والتجأ لأعداء الدولة - آنذاك- من الشيعة الباطنية ، وألف لهم كتابا ضد مذهب أهل السُّنة ، نظير مبلغ 33 ديناراً ! وكان عنوان الكتاب : فى الإمامة .. وبعد فترة ، شعر ابن الراوندى أن الشيعة لن يحموه من السُّنة ، وأنه من الممكن أن يتقرب للسنة مرة أخرى ، فكتب كتابه : فى التوحيد .
ثم اكتشف ابن الراوندى أنه لم يحقق مأربه عند أهل السنة ، وانقلب عليه الشيعة أيضاً .. فخرج عن نطاق الإسلام بما فيه من سُنة وشيعة ، ولجأ إلى اليهود. ومرة أخرى يستخدم ابن الراوندى فكره وقلمه لتحقيق أغراضه الدنيوية التافهة ، فيؤلف لليهود كتاب (البصيرة) ينتصر فيه لليهودية ويرد على الإسلام ، وتقاضى ابن الراوندى مبلغ 400 درهم من اليهود نظير تأليفه لهذا الكتاب .. ثم أراد بعد فترة أن ينقضه ويرد على ما ذكره فيه من آراء ضد المسلمين والإسلام ، فأعطاه اليهود 100 درهم أخرى ، فعدل عن الرد على الكتاب ! .
وفى نهاية الأمر ، يقف ابن الراوندى ضد كل الديانات وجميع الأنبياء ، فيضع كتاب الفرند ليطعن فيه على الأنبياء والنبوة ، ثم يضع كتابه المشهور الزمردة فيطعن فيه ضد الرسالات السماوية كلها ، ويشكك فى الألوهية ذاتها ..
وهكذا عاش ابن الراوندى حياته متنقلاً بين المذاهب والديانات ، وقضى أيامه (الدرامية) البائسة ساعيا وراء المجد الدنيوى ، وهو المجد الذى ما ناله ابن الراوندى قط ، وإنما نال لقب : الملحد الأكبر فى تاريخ الإسلام .
ويبدو أن نسل ابن الراوندى لم ينقطع من بعده - مع أنه لم يترك أولادا - ففى كل زمن نجد زمرة من هؤلاء الذين يتوسلون بالكلمة المكتوبة لتحقيق المآرب الدنيوية .. وقد كان لابن الراوندى بالأمس أحفاد ساروا على نهجه، ولابن الراوندى اليوم أحفاد أكثر .. هم أولئك الذين يبيعون أقلامهم لكل من يدفع ، وكثيراً ما ينقلبون من الضد إلى الضد .
وأحفاد ابن الراوندى تجمع بينهم أمور .. أولها أنهم لايؤمنون أبداً بشئ، ففى زمن الماركسية والاشتراكية هم الماركسيون الاشتراكيون ، فإذا جاءت دولة الانفتاح صاروا - هم أنفسهم- الانفتاحيين ! وثانيها أن غرضهم الأول والأخير هو المال ، والمنصب الذى يتحول بشكل ما إلى أموال .. وثالثها أنهم يعرفون كيف يكتبون .
فكيف لنا : اليوم ، أن نتعامل مع أحفاد ابن الراوندى ؟
لابدَّ لنا أولاً أن نعى درس الماضى ونستخرج منه العبرة ، فنرى كيف تعامل القدماء مع ابن الراوندى ، فنستفيد من ذلك فى تعاملنا مع أحفاده الحاليين. وأول ما يستوقفنا من درس الماضى ، هو أن ابن الراوندى لم يقتل ولم يسع أحد لأغتياله ، وإنما مات ميتة طبيعية فى منزل رجل يهودى كان يأويه .
والدرس الثانى أن ابن الراوندى قدم أفكاراً ولم يحمل السلاح ، وبالتالى رد عليه القدماء بالقلم لا بالسيف ، فكتب الخياط المعتزلى كتابا بعنوان (الانتصار فى الرد على ابن الراوندى الملحد) فجاء الرد على الأفكار بالأفكار ، دون أن يسرف القدماء فىتأليف الكتب ردا على ابن الراوندى .. وذلك هو الدرس الثالث ، فكثرة الرد من شأنها أن تعطى قيمة للمردود ! فالقدماء عرفوا أن (التهميش) وغض النظر عن أمثال ابن الراوندى ، هو أفضل تعامل معه . ولذلك ، لم تذكر كتب التاريخ عن ابن الراوندى إلا شذرات قليلة ، ولم يبق الزمان من مؤلَّفاته التى بلغت 114 كتاباً ورقةً واحدة ولولا أن الخياط قد أورد بعض فقرات من كتاب الزمردة لابن الراوندى فى كتابه (الانتصار) ، لما كان اليوم نعرف عن الألحاد ابن الراوندى شيئاً ..
وهناك درس رابع نتعلمه من التاريخ ، فقد روت الكتب أن ابن الراوندى اجتمع يوماً مع أبى على الجبائى شيخ المعتزلة ، على جسر بغداد ، فقال له : يا أبا على ، ألا أسمعك شيئاً من معارضتى للقرآن ونقضى له ؟ فقال الجبائى: أنا أعلم بمخازى علومك وعلوم أهل دهرك ، ولكنى أحاكمك إلى نفسك، فهل تجد فى معارضتك للقرآن عذوبة وهشاشة ونظما كنظمه وحلاوة كحلاوته ؟ قال ابن الراوندى : لا والله ! قال أبو على الجبائى : قد كفيتنى فانصرف حيث شئت .
من هذه الدروس نتعلَّم ، ونستهدى فى إيجاد أفضل السبل للتعامل مع أحفاد ابن الراوندى مع معاصرينا الذين يشوشون العقول بأقلامهم ، ويتعالون بالقول ثم ينقضونه بعد فترة ، كلما قبضوا المال أو لاحت المناصب .. أولئك الزمرة لاحل معهم إلا الرد -بالكلمات لا بالطلقات- على تناقضاتهم ، كما فعل الخياط مع جدهم ابن الراوندى دون أن نسرف فى تتبع أقوالهم كلها بالرد، حتى لانعطى لأقوالهم قيمة ليست لها .. علينا -إذن- الانصراف عن تشويش هؤلاء، والاهتمام بما هو حقيقى من الفكر والكتابات ، وأعنى بالحقيقى : ما ليس مدفوع الأجر !
ولعلنا بانصرافنا عن الاهتمام بما يكتبه أحفاد ابن الراوندى ، نغض من قيمتهم، فلا يجدوا من يدفع لهم ، ويكفون فى النهاية عن الكتابة البهلوانية الحربائية .. وهذا -بالطبع- يقتضى أن يكون للقارئ حسُّ نقدى يتعرف به على صحيح الأقوال من فاسدها ، ويقتضى أيضاً ، أن تكون لنا ذاكرة تحفظ تاريخ الكاتب من هؤلاء ، وترصد تقلباته العابثة بعقل الأمة .
وأخيراً ، فعلينا أن نكتشف التناقضات الكامنة فى أفكار أحفاد ابن الراوندى كما اكتشف الجبائى تناقضات جدهم الأكبر .. ولنتركهم من بعد ذلك يتوحلون فى تناقضاتهم الذاتية .
ولاشك فى أن أحفاد ابن الراوندى قد طوروا منهجه الانتهازى المتلون، وجاءوا بما لم يعرفه الأوائل من حيل والتفافات .. ولذلك ، فلابد لنا -أيضاً- من تطوير آليات القراءة وتعميق النزعة النقدية الفاحصة فيما نطالعه ؛ وبهذا نردهم ونتقى شرَّهم .
من مجلة أكتوبـــر(27/3/1994- 17/4/1994)
من أعجب الشخصيات فى التاريخ العربى الإسلامى ، بل فى التاريخ الإنسانى كله ، شخصية ابن الراوندى الملحد (أو بالحسين أحمد بن يحيى بن إسحاق ، المتوفى فى حدود سنة 301 هجرية ) فقد عاش هذا الرجل حياة غربية ، تنقَّل فيها بين الديانات والمذاهب على نحو عجيب .
كان ابن الراوندى فى أول الأمر يهودياً ، وسرعان ما أعلن إسلامه ليدخل فى نطاق عزة الإسلام -آنذاك- ويستظل فى ظل الدولة العباسية التى كانت -آنذاك- فى أوج مجدها .. ووجد ابن الراوندى أن فرقة المعتزلة هى أكثر الفرق الإسلامية اقتراباً من الخفاء العباسيين ، فصار معتزليا ! وألَّف مجموعة من الكتب على مذهب المعتزلة .. لكن المعتزلة لم يفسحوا له مكانا لائقا بينهم ، ولم ينل ابن الراوندى ما كان يطمح إليه ، فانقلب على المعتزلة وهاجمهم فى كتاب مشهور له ، عنوانه : فضيحة المعتزلة (نقض فيه كتاب الجاحظ : فضيلة المعتزلة!)
وقام المعتزلة بالهجوم على ابن الراوندى ، ويبدو أنهم أوغروا صدر الخليفة ضده، فهرب والتجأ لأعداء الدولة - آنذاك- من الشيعة الباطنية ، وألف لهم كتابا ضد مذهب أهل السُّنة ، نظير مبلغ 33 ديناراً ! وكان عنوان الكتاب : فى الإمامة .. وبعد فترة ، شعر ابن الراوندى أن الشيعة لن يحموه من السُّنة ، وأنه من الممكن أن يتقرب للسنة مرة أخرى ، فكتب كتابه : فى التوحيد .
ثم اكتشف ابن الراوندى أنه لم يحقق مأربه عند أهل السنة ، وانقلب عليه الشيعة أيضاً .. فخرج عن نطاق الإسلام بما فيه من سُنة وشيعة ، ولجأ إلى اليهود. ومرة أخرى يستخدم ابن الراوندى فكره وقلمه لتحقيق أغراضه الدنيوية التافهة ، فيؤلف لليهود كتاب (البصيرة) ينتصر فيه لليهودية ويرد على الإسلام ، وتقاضى ابن الراوندى مبلغ 400 درهم من اليهود نظير تأليفه لهذا الكتاب .. ثم أراد بعد فترة أن ينقضه ويرد على ما ذكره فيه من آراء ضد المسلمين والإسلام ، فأعطاه اليهود 100 درهم أخرى ، فعدل عن الرد على الكتاب ! .
وفى نهاية الأمر ، يقف ابن الراوندى ضد كل الديانات وجميع الأنبياء ، فيضع كتاب الفرند ليطعن فيه على الأنبياء والنبوة ، ثم يضع كتابه المشهور الزمردة فيطعن فيه ضد الرسالات السماوية كلها ، ويشكك فى الألوهية ذاتها ..
وهكذا عاش ابن الراوندى حياته متنقلاً بين المذاهب والديانات ، وقضى أيامه (الدرامية) البائسة ساعيا وراء المجد الدنيوى ، وهو المجد الذى ما ناله ابن الراوندى قط ، وإنما نال لقب : الملحد الأكبر فى تاريخ الإسلام .
ويبدو أن نسل ابن الراوندى لم ينقطع من بعده - مع أنه لم يترك أولادا - ففى كل زمن نجد زمرة من هؤلاء الذين يتوسلون بالكلمة المكتوبة لتحقيق المآرب الدنيوية .. وقد كان لابن الراوندى بالأمس أحفاد ساروا على نهجه، ولابن الراوندى اليوم أحفاد أكثر .. هم أولئك الذين يبيعون أقلامهم لكل من يدفع ، وكثيراً ما ينقلبون من الضد إلى الضد .
وأحفاد ابن الراوندى تجمع بينهم أمور .. أولها أنهم لايؤمنون أبداً بشئ، ففى زمن الماركسية والاشتراكية هم الماركسيون الاشتراكيون ، فإذا جاءت دولة الانفتاح صاروا - هم أنفسهم- الانفتاحيين ! وثانيها أن غرضهم الأول والأخير هو المال ، والمنصب الذى يتحول بشكل ما إلى أموال .. وثالثها أنهم يعرفون كيف يكتبون .
فكيف لنا : اليوم ، أن نتعامل مع أحفاد ابن الراوندى ؟
لابدَّ لنا أولاً أن نعى درس الماضى ونستخرج منه العبرة ، فنرى كيف تعامل القدماء مع ابن الراوندى ، فنستفيد من ذلك فى تعاملنا مع أحفاده الحاليين. وأول ما يستوقفنا من درس الماضى ، هو أن ابن الراوندى لم يقتل ولم يسع أحد لأغتياله ، وإنما مات ميتة طبيعية فى منزل رجل يهودى كان يأويه .
والدرس الثانى أن ابن الراوندى قدم أفكاراً ولم يحمل السلاح ، وبالتالى رد عليه القدماء بالقلم لا بالسيف ، فكتب الخياط المعتزلى كتابا بعنوان (الانتصار فى الرد على ابن الراوندى الملحد) فجاء الرد على الأفكار بالأفكار ، دون أن يسرف القدماء فىتأليف الكتب ردا على ابن الراوندى .. وذلك هو الدرس الثالث ، فكثرة الرد من شأنها أن تعطى قيمة للمردود ! فالقدماء عرفوا أن (التهميش) وغض النظر عن أمثال ابن الراوندى ، هو أفضل تعامل معه . ولذلك ، لم تذكر كتب التاريخ عن ابن الراوندى إلا شذرات قليلة ، ولم يبق الزمان من مؤلَّفاته التى بلغت 114 كتاباً ورقةً واحدة ولولا أن الخياط قد أورد بعض فقرات من كتاب الزمردة لابن الراوندى فى كتابه (الانتصار) ، لما كان اليوم نعرف عن الألحاد ابن الراوندى شيئاً ..
وهناك درس رابع نتعلمه من التاريخ ، فقد روت الكتب أن ابن الراوندى اجتمع يوماً مع أبى على الجبائى شيخ المعتزلة ، على جسر بغداد ، فقال له : يا أبا على ، ألا أسمعك شيئاً من معارضتى للقرآن ونقضى له ؟ فقال الجبائى: أنا أعلم بمخازى علومك وعلوم أهل دهرك ، ولكنى أحاكمك إلى نفسك، فهل تجد فى معارضتك للقرآن عذوبة وهشاشة ونظما كنظمه وحلاوة كحلاوته ؟ قال ابن الراوندى : لا والله ! قال أبو على الجبائى : قد كفيتنى فانصرف حيث شئت .
من هذه الدروس نتعلَّم ، ونستهدى فى إيجاد أفضل السبل للتعامل مع أحفاد ابن الراوندى مع معاصرينا الذين يشوشون العقول بأقلامهم ، ويتعالون بالقول ثم ينقضونه بعد فترة ، كلما قبضوا المال أو لاحت المناصب .. أولئك الزمرة لاحل معهم إلا الرد -بالكلمات لا بالطلقات- على تناقضاتهم ، كما فعل الخياط مع جدهم ابن الراوندى دون أن نسرف فى تتبع أقوالهم كلها بالرد، حتى لانعطى لأقوالهم قيمة ليست لها .. علينا -إذن- الانصراف عن تشويش هؤلاء، والاهتمام بما هو حقيقى من الفكر والكتابات ، وأعنى بالحقيقى : ما ليس مدفوع الأجر !
ولعلنا بانصرافنا عن الاهتمام بما يكتبه أحفاد ابن الراوندى ، نغض من قيمتهم، فلا يجدوا من يدفع لهم ، ويكفون فى النهاية عن الكتابة البهلوانية الحربائية .. وهذا -بالطبع- يقتضى أن يكون للقارئ حسُّ نقدى يتعرف به على صحيح الأقوال من فاسدها ، ويقتضى أيضاً ، أن تكون لنا ذاكرة تحفظ تاريخ الكاتب من هؤلاء ، وترصد تقلباته العابثة بعقل الأمة .
وأخيراً ، فعلينا أن نكتشف التناقضات الكامنة فى أفكار أحفاد ابن الراوندى كما اكتشف الجبائى تناقضات جدهم الأكبر .. ولنتركهم من بعد ذلك يتوحلون فى تناقضاتهم الذاتية .
ولاشك فى أن أحفاد ابن الراوندى قد طوروا منهجه الانتهازى المتلون، وجاءوا بما لم يعرفه الأوائل من حيل والتفافات .. ولذلك ، فلابد لنا -أيضاً- من تطوير آليات القراءة وتعميق النزعة النقدية الفاحصة فيما نطالعه ؛ وبهذا نردهم ونتقى شرَّهم .
من مجلة أكتوبـــر(27/3/1994- 17/4/1994)