شاذلى عبد الله
05-21-2008, 06:33 PM
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد
قال الله تعالى عن قول الله تعالى وَاللَّـهُ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ والله غَفُورٌ رَحِيمٌ آل عمران
والحب والمحبة ميل النفس إلى الشيء لكمال أدركته فيه، يُقال أحبه فهو محب، وَحَبَّهُ يَحِبُّهُ بالكسر فهو محبوب، قال ابن الدهان في حَبَّ لغتان حَبَّ،وأَحَبَّ وقد فسرت المحبة لله سبحانه بإرادة طاعته، قال الأزهري محبة العبد لله ولرسوله طاعته لهما واتباعه أمرهما، ومحبة الله للعباد إنعامه عليهم بالغفران
وهذه الآية يسميها بعض السلف آية المحنة، يعني آية الاختبار والامتحان، وذلك أن قومًا ادعوا أنهم يحبون الله، فأمر الله نبيه أن يتحداهم بهذا الميزان، وهو إن كانوا صادقين فليتبعوا الرسول سواء كانوا من اليهود أم من النصارى أم من المنافقين وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّـهِ وَأَحِبَّاؤُهُ المائدة ، إذا كانوا صادقين فليتبعوا الرسول
كل يدعي أنه يحب الله، لأن الدعوى سهلة، فإذا كانوا يحبون الله حقًا فليتبعوا النبي ، لينالوا ما هو أعظم من دعواهم، وهو محبة الله لهم، ولهذا قال إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ ، فالشأن ليس أن تُحِب بل الشأن أن تُحَب، أما أن تُحب ولا تُحَب، فهذا عذاب انظروا إلى بريرة ومغيث بريرة تبغض مغيثًا، ومغيث يحبها، فعُذب بحبها لما عتقت، خيرها النبي ، قال «اختاري لنفسك» قالت لا أريد الرجل، تعني زوجها، فطلبت الخيار لنفسها والشرع يمكنها من ذلك، فكان زوجها يبكي وراءها في السوق في أروقة المدينة، يطلب ألا تختار نفسها، فجاء إلى النبي وقال له اشفع لي يا رسول الله عندها فكلمها النبي قال لها «ارجعي إلى مغيث» قالت يا رسول الله، إن كنت تأمرني، فسمعًا وطاعة، وإن كنت تشير عليَّ فلا حاجة لي فيه قال «بل أشير» قالت لا حاجة لي فيه رواه البخاري
يعني أنها لم تقبل شفاعة النبي ولم ترحم الرجل قال الحافظ ابن كثير الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله عز وجل ولم يتبع محمدًا في شرعه وطريقه وسنته، فإنه كاذب في دعواه ولتكون دعواه صحيحة يجب عليه اتباع الشرع المحمدي، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله قال «مَن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» ولهذا قال تعالى إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ أي يحصل لكم ما طلبتم من محبتكم إياه وهو محبته إياكم وهو أعظم وأجل من الأول
وقال الحسن البصري وغيره من السلف زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية، فقال قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ
وقوله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي بسبب اتباعكم الرسول تحصل لكم هذه المغفرة والرحمة من بركة الاقتداء به
والله تعالى قد جعل محبته موجبة لاتباع رسوله، قال تعالى قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ ، وهذا لأن الرسول هو الذي يدعو إلى ما يحبه الله، وليس شيء يحبه الله إلا والرسول يدعو إليه، وليس شيء يدعو إليه الرسول إلا والله يحبه، فصار محبوب الرب ومدعو الرسول متلازمين، بل هذا هو هذا في ذاته، وإن تنوعت الصفات
فكل من ادعى أنه يحب الله ولم يتبع الرسول فقد كذب، وليست محبته لله وحده، بل إن كان يحبه فهي محبة شرك، فإنما يتبع ما يهواه كدعوى اليهود والنصارى محبة الله، فإنهم لو أخلصوا له المحبة لم يحبوا إلا ما أحب، فكانوا يتبعون الرسول، فلما أحبوا ما أبغض الله مع دعواهم حبه كانت محبتهم من جنس محبة المشركين
وهكذا أهل البدع، فمن قال إنه من المريدين لله المحبين له، وهو لا يقصد اتباع الرسول، والعمل بما أمر به، وترك ما نهى عنه، فمحبته فيها شوب خلط من محبة المشركين واليهود والنصارى، بحسب ما فيه من البدعة، فإن البدع التي ليست مشروعة وليست مما دعا إليه الرسول لا يحبها الله، فإن الرسول دعا إلى كل ما يحبه الله، فأمر بكل معروف ونهى عن كل منكر
وقال الشيخ الألباني تعليقًا على هذه الآية واعلم أيها الأخ المسلم أنه لا يمكن لأحد أن يرقى إلى هذه المنزلة من الحب لله ورسوله إلا بتوحيد الله تعالى في عبادته دون سواه، وبإفراد النبي بالاتباع دون غيره من عباد الله، لقوله تعالى مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّـهَ وقال عليه الصلاة والسلام «لا والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيًا ما وسعه إلا أن يتبعني» قلت فإذا كان مثل موسى كليم الله لا يسعه أن يتبع غير النبي ، فهل يسع ذلك غيره ؟ فهذا من الأدلة القاطعة على وجوب إفراد النبي في الاتباع، وهو من لوازم شهادة «أن محمدًا رسول الله»، ولذلك جعل الله تبارك وتعالى في الآية المتقدمة اتباعه دون سواه دليلاً على حب الله إياه ومما لا شك فيه أن من أحبه الله كان الله معه كما في الحديث القدسي الصحيح «وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه» وإذ كانت هذه العناية الإلهية إنما هي بعبده المحبوب من الله، كان واجبًا على كل مسلم أن يتخذ السبب الذي يجعله محبوبًا عند الله ؛ ألا وهو اتباع رسول الله دون سواه، ألست ترى أنه لا سبيل إلى معرفة الفرائض وتمييزها عن النوافل إلا باتباعه وحده ؟ وأن مما لا شك فيه أن المسلم كلما كان بسيرة رسول الله أعلم، وبمحاسنه وفضائله أعرف، كان حبه إياه أكثر، واتباعه إياه أوسع وأشمل، ثم قال إذا عرفت ما سبق بيانه أن حب الله لا يُنال إلا باتباع نبيه فاحرصْ إذًا على اتباع سُنته كلَّ الحرص، وأنفق في سبيل ذلك كل جهاد ونفس، ولا تغتر بما عليه بعض الضالين المغرورين إلى أن قال والخلاصة إنني أنصح كل من قرأ هذه الرسالة أن لا يقف عند العلم بما فيها وإنما يتبع ذلك بالثمرة المرجوة، ألا وهي إخلاص الاتباع لهذا الرسول العظيم المستلزم لحب الله إياه، ومغفرته لذنوبه وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم اهـ
وقال العلامة الشنقيطي في أضواء البيان ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أن علامة المحبة الصادقة لله ورسوله هي اتباعه، فالذي يخالفه ويَدّعي أنه يحبه فهو كاذب مفترٍ، إذ لو كان محبًا له لأطاعه، ومن المعلوم عند العامة أن المحبة تستجلب الطاعة، ومنه قول الشاعر
لو كان حبك صادقًا لأطعته
إن المحب لمن يحب مطيع
والخطاب في الآية للرسول إذا وجه إليه بـ «قل» في القرآن فهو دليل على العناية بهذا القول الذي أمر أن يقوله، لأن هذا أمر بالتبليغ الخاص لهذا القول، أما القرآن كله فقد أمر أن يقوله كله، لكن بعض الأشياء يُخص بـ «قل» مثل قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ النور ، وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ النور ، قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّـهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الأعراف ، وما أشبه ذلك، فهذا أمرٌ بتبليغ هذا الشيء الخاص بعينه فيكون في ذلك توكيدًا ودليلاً على العناية به، وهذه لا شك يجب الاعتناء بها
وقوله إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ أي قل لمن ادعى أنه يحب الله، والجملة هنا شرطية، وفعل الشرط «كنتم»، وجوابه «فاتبعوني»، وجاءت الفاء في الجواب لأنه جملة طلبية، وإذا كانت جملة الجواب طلبيةً وجب اقترانها بالفاء، وقوله فَاتَّبِعُونِي أي على ما أنا عليه من الشريعة، عقيدةً وقولاً وفعلاً وتركًا
عقيدة بحيث تكون عقيدته على ما كان عليه الرسول وأصحابه لا تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، ولا شك ولا تردد، بل إيمان كامل خال من جميع الشوائب، وقولاً لا يزيد ولا ينقص عما جاءت به الشريعة من الأقوال
وفعلاً كذلك لا يزيد ولا ينقص
وتركًا بحيث يترك ما لم يعمله الرسول عليه الصلاة والسلام، فكل ما لم يتعبد به الرسول يجب أن لا يتعبد به، فإن تعبد به ثم يقول إنه يحب الرسول فإن دعواه كاذبة، لو كنت تحبه حقًا لاتبعته حقًا
فمن اتبع الرسول بهذه الأربعة صدق في اتباعه، ومن خالف فهو غير صادق ولذا نجد الإنسان من بني آدم إذا أحب شخصًا غير الرسول، تجده يترسم خطاه، يعجب به وينظر ماذا يفعل ليفعله
قال تعالى يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ هذه الثمرة الأولى والنتيجة التي يسعى إليها كل إنسان أن يكون محبوبًا لدى الله سبحانه وتعالى، والثانية وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
فهما فائدتان عظيمتان محبة الله لك ومغفرة ذنوبك
وقوله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أي كل ما عملتم من الذنوب يغفرها لكم، ولكن هل نقول إنه يغفر وإن لم يستغفر الإنسان منه ؛ لأن حسنة الاتباع تمحو هذا الذنب، ومحبة الله للإنسان توجب عدم عقوبته، أو نقول «ويغفر لكم ذنوبكم» بأن ييسر لكم أسباب المغفرة إن لم يغفر لكم بدون سبب، يحتمل أنه سبحانه وتعالى أراد أنه يغفر الذنوب بسبب هذا الاتباع والمحبة، أو أنه وإن فعل الإنسان ما فعل فإنه ييسر له أسباب المغفرة بأن يعود من معصية الله إلى طاعته، والله أعلم
لكن على كل حال الوعد هنا محقق، وهو مغفرة الذنوب إما بسبب من العبد أو بمحض فضل الله
وقوله «ذنوبكم» الذنب هو المعصية، وهو كما ترون جمع مضاف لمعرفة، والجمع المضاف إلى معرفة يفيد العموم
قال تعالى وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ الجملة اسمية اشتملت على ثلاثة أسماء من أسماء الله الله، الغفور، والرحيم، وأما معنى لفظ الجلالة «الله» فقد سبق أنه المألوه المعبود حبًا وتعظيمًا، وأن أصل الله الإله، فحذفت الهمزة تخفيفًا لكثرة الاستعمال، وأما الغفور فالغفور هنا يحتمل أن يكون صيغة مبالغة، ويحتمل أن يكون صفة مشبهة، لأن الله لم يزل ولا يزال غفورًا، وصيغة مبالغة لكثرة من يغفر له من الخلق وكثرة ما يغفره من الذنوب
والمغفرة ستر الذنب والتجاوز عنه، وليست مجرد الستر لوجهين لغوي وسمعي
أما اللغوي فلأن المغفرة مأخوذة من المِغْفَر الذي يستر به المقاتل رأسه ويتقي به السهام، والمغفر جامع للستر والوقاية
وأما السمعي فلما ورد في كيفية محاسبة الله لعبده المؤمن أن يخلو به ويقرره بذنوبه، فيقول «قد سترتها عليك في الدنيا وأنا اغفرها لك اليوم»
رواه البخاري
وأما الرحيم فهو ذو الرحمة، وهو صالح أيضًا لأن يكون صفة مشبهة أو صيغة مبالغة، والرحمة صفة تقتضي العطف والإحسان على المرحوم، والجمع بينهما بين الغفور والرحيم، لفائدة عظيمة وهي الجمع بين الوقاية والعناية، بين الوقاية بالمغفرة يقيه الله سبحانه وتعالى شر الذنوب، والعناية بالرحمة، يعتني الله بك فييسرك لليسرى ويجنبك العسرى
من فوائد الآية الكريمة
أن الله أمر نبيه محمدًا أن يتحدى هؤلاء المدعين لمحبته بهذا الميزان القسط وهو اتباعهم للرسول
جواز مخاطبة المدعي بالتحدي لأن هذا هو الحق، لأنه لو كان يعرف نفسه ما ادعى اتصافه بشيء لم يتصف به، فهو الذي أذل نفسه في الواقع فلا تخش من تحديه ليقيم الدليل والبرهان على دعواه
أنها مصداق لقول النبي «البينة على المدعي» رواه الترمذي
وهذه وإن كانت في دعوى الناس بعضهم مع بعض لكنها في الحقيقة قاعدة عامةً، فكل مدَّع لا بد أن يقيم بينة على دعواه
أن محبة الله تعالى غاية لكل الناس حتى من غير المؤمن لقوله إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي
أنه كلما قوي اتباع الإنسان للرسول كان أقوى برهانًا على صدق محبته له، فهذه من علامة محبة الإنسان لربه، فإذا رأيت الإنسان شديد الاتباع لرسول الله فاعلم أنه شديد المحبة لله
أن اتباع النبي سبب لمحبة الله للعبد لقوله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ
الثمرة الجليلة باتباع رسول الله وذلك بمحبة الله للعبد
أن الجزاء من جنس العمل، لقوله «فاتبعوني» حيث جعل الاتباع برهانًا على صدق دعوى المحبة، وجعل الجزاء من جنسها، أن الله يحب العبد
أن اتباع الرسول سبب لمغفرة الله للذنب، لقوله تعالى وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
كما أن إحسان الله سبحانه وتعالى لجزائه على العمل أكثر منه، لأن الذي يتبع الرسول يحصل له محبة الله ومغفرة الذنوب
إثبات هذين الاسمين وما تضمناه من صفة في قوله وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، ففيهما إثبات الاسمية لله في هذين الاسمين، والثاني إثبات الصفة التي تضمناها، ومن المعلوم أن كل اسم من أسماء الله يدل على معناه الخاص به، لكن اجتماع الاسمين يدل على معنى ثالث، وهو الجمع بين مغفرة الغائب من الذنوب والرحمة بالعناية بالفضائل، لأن المغفرة مقابل الذنوب، والرحمة مقابل العناية بالإنسان، إن الله تعالى يرحم الإنسان، فيحصل من اجتماع هذين الاسمين صفة ثالثة، وهي جمع الرب سبحانه وتعالى بين الإحسان والوقاية من الذنوب وآثارها بالمغفرة
والحمد لله رب العالمين مجلة التوحيد
قال الله تعالى عن قول الله تعالى وَاللَّـهُ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ والله غَفُورٌ رَحِيمٌ آل عمران
والحب والمحبة ميل النفس إلى الشيء لكمال أدركته فيه، يُقال أحبه فهو محب، وَحَبَّهُ يَحِبُّهُ بالكسر فهو محبوب، قال ابن الدهان في حَبَّ لغتان حَبَّ،وأَحَبَّ وقد فسرت المحبة لله سبحانه بإرادة طاعته، قال الأزهري محبة العبد لله ولرسوله طاعته لهما واتباعه أمرهما، ومحبة الله للعباد إنعامه عليهم بالغفران
وهذه الآية يسميها بعض السلف آية المحنة، يعني آية الاختبار والامتحان، وذلك أن قومًا ادعوا أنهم يحبون الله، فأمر الله نبيه أن يتحداهم بهذا الميزان، وهو إن كانوا صادقين فليتبعوا الرسول سواء كانوا من اليهود أم من النصارى أم من المنافقين وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّـهِ وَأَحِبَّاؤُهُ المائدة ، إذا كانوا صادقين فليتبعوا الرسول
كل يدعي أنه يحب الله، لأن الدعوى سهلة، فإذا كانوا يحبون الله حقًا فليتبعوا النبي ، لينالوا ما هو أعظم من دعواهم، وهو محبة الله لهم، ولهذا قال إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ ، فالشأن ليس أن تُحِب بل الشأن أن تُحَب، أما أن تُحب ولا تُحَب، فهذا عذاب انظروا إلى بريرة ومغيث بريرة تبغض مغيثًا، ومغيث يحبها، فعُذب بحبها لما عتقت، خيرها النبي ، قال «اختاري لنفسك» قالت لا أريد الرجل، تعني زوجها، فطلبت الخيار لنفسها والشرع يمكنها من ذلك، فكان زوجها يبكي وراءها في السوق في أروقة المدينة، يطلب ألا تختار نفسها، فجاء إلى النبي وقال له اشفع لي يا رسول الله عندها فكلمها النبي قال لها «ارجعي إلى مغيث» قالت يا رسول الله، إن كنت تأمرني، فسمعًا وطاعة، وإن كنت تشير عليَّ فلا حاجة لي فيه قال «بل أشير» قالت لا حاجة لي فيه رواه البخاري
يعني أنها لم تقبل شفاعة النبي ولم ترحم الرجل قال الحافظ ابن كثير الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله عز وجل ولم يتبع محمدًا في شرعه وطريقه وسنته، فإنه كاذب في دعواه ولتكون دعواه صحيحة يجب عليه اتباع الشرع المحمدي، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله قال «مَن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» ولهذا قال تعالى إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ أي يحصل لكم ما طلبتم من محبتكم إياه وهو محبته إياكم وهو أعظم وأجل من الأول
وقال الحسن البصري وغيره من السلف زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية، فقال قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ
وقوله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي بسبب اتباعكم الرسول تحصل لكم هذه المغفرة والرحمة من بركة الاقتداء به
والله تعالى قد جعل محبته موجبة لاتباع رسوله، قال تعالى قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ ، وهذا لأن الرسول هو الذي يدعو إلى ما يحبه الله، وليس شيء يحبه الله إلا والرسول يدعو إليه، وليس شيء يدعو إليه الرسول إلا والله يحبه، فصار محبوب الرب ومدعو الرسول متلازمين، بل هذا هو هذا في ذاته، وإن تنوعت الصفات
فكل من ادعى أنه يحب الله ولم يتبع الرسول فقد كذب، وليست محبته لله وحده، بل إن كان يحبه فهي محبة شرك، فإنما يتبع ما يهواه كدعوى اليهود والنصارى محبة الله، فإنهم لو أخلصوا له المحبة لم يحبوا إلا ما أحب، فكانوا يتبعون الرسول، فلما أحبوا ما أبغض الله مع دعواهم حبه كانت محبتهم من جنس محبة المشركين
وهكذا أهل البدع، فمن قال إنه من المريدين لله المحبين له، وهو لا يقصد اتباع الرسول، والعمل بما أمر به، وترك ما نهى عنه، فمحبته فيها شوب خلط من محبة المشركين واليهود والنصارى، بحسب ما فيه من البدعة، فإن البدع التي ليست مشروعة وليست مما دعا إليه الرسول لا يحبها الله، فإن الرسول دعا إلى كل ما يحبه الله، فأمر بكل معروف ونهى عن كل منكر
وقال الشيخ الألباني تعليقًا على هذه الآية واعلم أيها الأخ المسلم أنه لا يمكن لأحد أن يرقى إلى هذه المنزلة من الحب لله ورسوله إلا بتوحيد الله تعالى في عبادته دون سواه، وبإفراد النبي بالاتباع دون غيره من عباد الله، لقوله تعالى مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّـهَ وقال عليه الصلاة والسلام «لا والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيًا ما وسعه إلا أن يتبعني» قلت فإذا كان مثل موسى كليم الله لا يسعه أن يتبع غير النبي ، فهل يسع ذلك غيره ؟ فهذا من الأدلة القاطعة على وجوب إفراد النبي في الاتباع، وهو من لوازم شهادة «أن محمدًا رسول الله»، ولذلك جعل الله تبارك وتعالى في الآية المتقدمة اتباعه دون سواه دليلاً على حب الله إياه ومما لا شك فيه أن من أحبه الله كان الله معه كما في الحديث القدسي الصحيح «وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه» وإذ كانت هذه العناية الإلهية إنما هي بعبده المحبوب من الله، كان واجبًا على كل مسلم أن يتخذ السبب الذي يجعله محبوبًا عند الله ؛ ألا وهو اتباع رسول الله دون سواه، ألست ترى أنه لا سبيل إلى معرفة الفرائض وتمييزها عن النوافل إلا باتباعه وحده ؟ وأن مما لا شك فيه أن المسلم كلما كان بسيرة رسول الله أعلم، وبمحاسنه وفضائله أعرف، كان حبه إياه أكثر، واتباعه إياه أوسع وأشمل، ثم قال إذا عرفت ما سبق بيانه أن حب الله لا يُنال إلا باتباع نبيه فاحرصْ إذًا على اتباع سُنته كلَّ الحرص، وأنفق في سبيل ذلك كل جهاد ونفس، ولا تغتر بما عليه بعض الضالين المغرورين إلى أن قال والخلاصة إنني أنصح كل من قرأ هذه الرسالة أن لا يقف عند العلم بما فيها وإنما يتبع ذلك بالثمرة المرجوة، ألا وهي إخلاص الاتباع لهذا الرسول العظيم المستلزم لحب الله إياه، ومغفرته لذنوبه وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم اهـ
وقال العلامة الشنقيطي في أضواء البيان ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أن علامة المحبة الصادقة لله ورسوله هي اتباعه، فالذي يخالفه ويَدّعي أنه يحبه فهو كاذب مفترٍ، إذ لو كان محبًا له لأطاعه، ومن المعلوم عند العامة أن المحبة تستجلب الطاعة، ومنه قول الشاعر
لو كان حبك صادقًا لأطعته
إن المحب لمن يحب مطيع
والخطاب في الآية للرسول إذا وجه إليه بـ «قل» في القرآن فهو دليل على العناية بهذا القول الذي أمر أن يقوله، لأن هذا أمر بالتبليغ الخاص لهذا القول، أما القرآن كله فقد أمر أن يقوله كله، لكن بعض الأشياء يُخص بـ «قل» مثل قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ النور ، وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ النور ، قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّـهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الأعراف ، وما أشبه ذلك، فهذا أمرٌ بتبليغ هذا الشيء الخاص بعينه فيكون في ذلك توكيدًا ودليلاً على العناية به، وهذه لا شك يجب الاعتناء بها
وقوله إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ أي قل لمن ادعى أنه يحب الله، والجملة هنا شرطية، وفعل الشرط «كنتم»، وجوابه «فاتبعوني»، وجاءت الفاء في الجواب لأنه جملة طلبية، وإذا كانت جملة الجواب طلبيةً وجب اقترانها بالفاء، وقوله فَاتَّبِعُونِي أي على ما أنا عليه من الشريعة، عقيدةً وقولاً وفعلاً وتركًا
عقيدة بحيث تكون عقيدته على ما كان عليه الرسول وأصحابه لا تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، ولا شك ولا تردد، بل إيمان كامل خال من جميع الشوائب، وقولاً لا يزيد ولا ينقص عما جاءت به الشريعة من الأقوال
وفعلاً كذلك لا يزيد ولا ينقص
وتركًا بحيث يترك ما لم يعمله الرسول عليه الصلاة والسلام، فكل ما لم يتعبد به الرسول يجب أن لا يتعبد به، فإن تعبد به ثم يقول إنه يحب الرسول فإن دعواه كاذبة، لو كنت تحبه حقًا لاتبعته حقًا
فمن اتبع الرسول بهذه الأربعة صدق في اتباعه، ومن خالف فهو غير صادق ولذا نجد الإنسان من بني آدم إذا أحب شخصًا غير الرسول، تجده يترسم خطاه، يعجب به وينظر ماذا يفعل ليفعله
قال تعالى يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ هذه الثمرة الأولى والنتيجة التي يسعى إليها كل إنسان أن يكون محبوبًا لدى الله سبحانه وتعالى، والثانية وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
فهما فائدتان عظيمتان محبة الله لك ومغفرة ذنوبك
وقوله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أي كل ما عملتم من الذنوب يغفرها لكم، ولكن هل نقول إنه يغفر وإن لم يستغفر الإنسان منه ؛ لأن حسنة الاتباع تمحو هذا الذنب، ومحبة الله للإنسان توجب عدم عقوبته، أو نقول «ويغفر لكم ذنوبكم» بأن ييسر لكم أسباب المغفرة إن لم يغفر لكم بدون سبب، يحتمل أنه سبحانه وتعالى أراد أنه يغفر الذنوب بسبب هذا الاتباع والمحبة، أو أنه وإن فعل الإنسان ما فعل فإنه ييسر له أسباب المغفرة بأن يعود من معصية الله إلى طاعته، والله أعلم
لكن على كل حال الوعد هنا محقق، وهو مغفرة الذنوب إما بسبب من العبد أو بمحض فضل الله
وقوله «ذنوبكم» الذنب هو المعصية، وهو كما ترون جمع مضاف لمعرفة، والجمع المضاف إلى معرفة يفيد العموم
قال تعالى وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ الجملة اسمية اشتملت على ثلاثة أسماء من أسماء الله الله، الغفور، والرحيم، وأما معنى لفظ الجلالة «الله» فقد سبق أنه المألوه المعبود حبًا وتعظيمًا، وأن أصل الله الإله، فحذفت الهمزة تخفيفًا لكثرة الاستعمال، وأما الغفور فالغفور هنا يحتمل أن يكون صيغة مبالغة، ويحتمل أن يكون صفة مشبهة، لأن الله لم يزل ولا يزال غفورًا، وصيغة مبالغة لكثرة من يغفر له من الخلق وكثرة ما يغفره من الذنوب
والمغفرة ستر الذنب والتجاوز عنه، وليست مجرد الستر لوجهين لغوي وسمعي
أما اللغوي فلأن المغفرة مأخوذة من المِغْفَر الذي يستر به المقاتل رأسه ويتقي به السهام، والمغفر جامع للستر والوقاية
وأما السمعي فلما ورد في كيفية محاسبة الله لعبده المؤمن أن يخلو به ويقرره بذنوبه، فيقول «قد سترتها عليك في الدنيا وأنا اغفرها لك اليوم»
رواه البخاري
وأما الرحيم فهو ذو الرحمة، وهو صالح أيضًا لأن يكون صفة مشبهة أو صيغة مبالغة، والرحمة صفة تقتضي العطف والإحسان على المرحوم، والجمع بينهما بين الغفور والرحيم، لفائدة عظيمة وهي الجمع بين الوقاية والعناية، بين الوقاية بالمغفرة يقيه الله سبحانه وتعالى شر الذنوب، والعناية بالرحمة، يعتني الله بك فييسرك لليسرى ويجنبك العسرى
من فوائد الآية الكريمة
أن الله أمر نبيه محمدًا أن يتحدى هؤلاء المدعين لمحبته بهذا الميزان القسط وهو اتباعهم للرسول
جواز مخاطبة المدعي بالتحدي لأن هذا هو الحق، لأنه لو كان يعرف نفسه ما ادعى اتصافه بشيء لم يتصف به، فهو الذي أذل نفسه في الواقع فلا تخش من تحديه ليقيم الدليل والبرهان على دعواه
أنها مصداق لقول النبي «البينة على المدعي» رواه الترمذي
وهذه وإن كانت في دعوى الناس بعضهم مع بعض لكنها في الحقيقة قاعدة عامةً، فكل مدَّع لا بد أن يقيم بينة على دعواه
أن محبة الله تعالى غاية لكل الناس حتى من غير المؤمن لقوله إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي
أنه كلما قوي اتباع الإنسان للرسول كان أقوى برهانًا على صدق محبته له، فهذه من علامة محبة الإنسان لربه، فإذا رأيت الإنسان شديد الاتباع لرسول الله فاعلم أنه شديد المحبة لله
أن اتباع النبي سبب لمحبة الله للعبد لقوله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ
الثمرة الجليلة باتباع رسول الله وذلك بمحبة الله للعبد
أن الجزاء من جنس العمل، لقوله «فاتبعوني» حيث جعل الاتباع برهانًا على صدق دعوى المحبة، وجعل الجزاء من جنسها، أن الله يحب العبد
أن اتباع الرسول سبب لمغفرة الله للذنب، لقوله تعالى وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
كما أن إحسان الله سبحانه وتعالى لجزائه على العمل أكثر منه، لأن الذي يتبع الرسول يحصل له محبة الله ومغفرة الذنوب
إثبات هذين الاسمين وما تضمناه من صفة في قوله وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، ففيهما إثبات الاسمية لله في هذين الاسمين، والثاني إثبات الصفة التي تضمناها، ومن المعلوم أن كل اسم من أسماء الله يدل على معناه الخاص به، لكن اجتماع الاسمين يدل على معنى ثالث، وهو الجمع بين مغفرة الغائب من الذنوب والرحمة بالعناية بالفضائل، لأن المغفرة مقابل الذنوب، والرحمة مقابل العناية بالإنسان، إن الله تعالى يرحم الإنسان، فيحصل من اجتماع هذين الاسمين صفة ثالثة، وهي جمع الرب سبحانه وتعالى بين الإحسان والوقاية من الذنوب وآثارها بالمغفرة
والحمد لله رب العالمين مجلة التوحيد