المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : لمسات لغوية وبلاغية وبيانية في القرآن الكريم للشيخ الشعراوي



ناصر التوحيد
06-08-2008, 03:44 PM
لمسات لغوية وبلاغية وبيانية في القرآن الكريم للشيخ الشعراوي رحمه الله

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ

سورة البقرة 62



بعد أن تحدث الحق سبحانه وتعالى عن بني إسرائيل وكيف كفروا بنعمه .. أراد أن يعرض لنا حساب الأمم التي سبقت أمم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، ولقد وردت هذه الآية في سورة المائدة ولكن بخلاف يسير من التقديم والتأخير .. ففي سورة المائدة:
{إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى } (من الآية 69 سورة المائدة)

أي أنه في سورة المائدة تقدمت الصابئون على النصارى .. واختلف الإعراب ,فبينما في البقرة و"الصابئين" .. وفي المائدة و"الصابئون" .. وردت آية أخرى في سورة الحج:
{إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيداً "17"} (سورة الحج)

الآيات الثلاث تبدو متشابهة .. إلا أن هناك خلافات كثيرة .. ما هو سبب التكرار الموجود في الآيات .. وتقديم الصابئين مرة وتأخيرها .. ومع تقديمها رفعت وتغير الإعراب .. وفي الآيتين الأوليين (البقرة والمائدة) تأتي: "من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" .. أما في الآية التي في سورة الحج فقد زاد فيها: "المجوس والذين أشركوا" .. واختلف فيها الخبر .. فقال الله سبحانه وتعالى: "إن الله يفصل بينهم يوم القيامة". عندما خلق الله وأنزله ليعمر الأرض أنزل معه الهدى .. واقرأ قوله تعالى:

{فإما يأتينكم مني هدىً فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } (من الآية 123 سورة طه)

مفروض أن آدم أبلغ المنهج لأولاده .. وهؤلاء أبلغوه لأولادهم وهكذا وتشغل الناس الحياة وتطرأ عليهم الغفلة .. ويصيبهم طمع الدنيا وجشعها ويتبعون شهواتهم .. فكان لابد من رحمة الله لخلقه أن يأتي الرسل ليذكروا وينذروا ويبشروا .. الآية الكريمة تقول: "إن الذين آمنوا" .. أي إيمان الفطرة الذي نزل مع آدم إلي الأرض .. وبعد ذلك جاءت أديان كفر الناس بها فأبيدوا من على الأرض .. كقوم نوح ولوط وفرعون وغيرهم .. وجاءت أديان لها اتباع حتى الآن كاليهودية والنصرانية والصابئية، والله سبحانه وتعالى يريد أن يجمع كل ما سبق في رسالة محمد عليه الصلاة والسلام .. ورسول الله صلى الله عليه وسلم جاء لتصفية الوضع الإيماني في الأرض..

إذن الذين آمنوا أولا مع آدم أو مع الرسل .. الذين جاءوا بعده لمعالجة الداءات التي وقعت .. ثم الذين تسموا باليهود والذين تسموا بالنصارى والذين تسموا بالصابئة .. فالله تبارك وتعالى يريد أن يبلغهم لقد انتهى كل هذا .. فمن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون .. فكأن رسالته عليه الصلاة والسلام جاءت لتصفية كل الأديان السابقة .. وكل إنسان في الكون مطالب بأن يؤمن بمحمد عليه الصلاة والسلام .. فقد دعي الناس كلهم إلي الإيمان برسالته .. ولو بقى إنسان من عهد آدم أو من عهد إدريس أو من عهد نوح أو إبراهيم أو هود .. أولئك الذين نسبوا إلي اليهودية وإلى النصرانية وإلى الصابئية .. كل هؤلاء مطالبون بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والتصديق بدين الإسلام .. فالإسلام يمسح العقائد السابقة في الأرض .. ويجعلها مركزة في دين واحد .. الذين آمنوا بهذا الدين: "ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" .. والذين لم يؤمنوا لهم خوف وعليهم حزن .. وهذا إعلان بوحدة دين جديد .. ينتظم فيه كل من في الأرض إلي أن تقوم الساعة .. أما أولئك الذين ظلوا على ما هم عليه .. ولم يؤمنوا بالدين الجديد .. لا يفصل الله بينهم إلا يوم القيامة .. ولذلك فإن الآية التي تضمنت الحساب والفصل يوم القيامة .. جاء فيها كل من لم يؤمن بدين محمد عليه الصلاة والسلام .. بما فيهم المجوس والذين أشركوا.
والحق تبارك وتعالى أراد أن يرفع الظن .. عمن تبع دينا سبق الإسلام وبقي عليه بعد السلام .. وهو يظن أن هذا الدين نافعه .. نقول له أن الحق سبحانه وتعالى قد حسم هذه القضية في قوله تعالى:
{ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه } (من الآية 85 سورة آل عمران)

وقوله جل جلاله:
{إن الدين عند الله الإسلام } (من الآية 19 سورة آل عمران)

إذن التصفية النهائية لموكب الإيمان والرسالات في الوجود حسمت .. فالذي آمن بمحمد عليه الصلاة والسلام .. لا يخاف ولا يحزن يوم القيامة .. والذي لم يؤمن يقول الله تبارك وتعالى له "إن الله يفصل بينهم يوم القيامة" .. إذن الذين آمنوا هم الذين ورثوا الإيمان من عهد آدم .. والذين هادوا هم أتباع موسى عليه السلام .. وجاء الاسم من قولهم: "إنا هدنا إليك" ـ أي عدنا إليك .. والنصارى جمع نصراني وهم منسوبون إلي الناصرة البلدة التي ولد فيها عيسى عليه السلام .. أو من قول الحواريين نحن أنصار الله في قوله تعالى:

{فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلي الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون "52" }
(سورة آل عمران)

أما الصابئة فقد اختلف العلماء فيهم .. قال بعضهم هم أتباع نوح ولكنهم غيروا بعده وعبدوا من دون الله الوسائط في الكون كالشمس والقمر والكواكب .. أو الصابئة هم الذين انتقلوا من الدين الذي كان يعاصرهم إلي الدين الجديد .. أو هم جماعة من العقلاء قالوا ما عليه قومنا لا يقنع العقل .. كيف نعبد هذه الأصنام ونحن نصنعها ونصلحها؟ .. فامتنعوا عن عبادة أصنام العرب .. فقالوا عنهم إنهم صبئوا عن دين آبائهم .. أي تركوه وآمنوا بالدين الجديد .. وأيا كان المراد بالصابئين فهم كل من مال عن دينه إلي دين آخر.

أننا نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى .. جاء بالصابئين في سورة البقرة متأخرة ومنصوبة .. وفي سورة المائدة متقدمة ومرفوعة .. نقول هذا الكلام يدخل في قواعد النحو .. الآية تقول: "إن الذين آمنوا" .. نحن نعرف أن (إن) تنصب الاسم وترفع الخبر .. فالذين مبني لأنه اسم موصول في محل منصوباً أيضاً .. والنصارى معطوف أيضا على اسم إن .. والصابئين معطوف أيضا ومنصوب بالياء لأنه جمع مذكر سالم .. نأتي إلي قوله تعالى: "من آمن بالله واليوم الآخر". هذه مستقيمة في سورة البقرة إعرابا وترتيبا .. والصابئين تأخرت عن النصارى لأنهم فرقة قليلة لا تمثل جمهرة كثيرة كالنصارى .. ولكن في آية المائدة تقدمت الصابئون وبالرفع في قوله تعالى: "إن الذين آمنوا والذين هادوا" .. الذين آمنوا اسم إن والذين هادوا معطوف .. و"الصابئون" كان القياس إعرابيا أن يقال والصابئين .. وبعدها النصارى معطوفة .. ولكن كلمة (الصابئون) توسطت بين اليهود وبين النصارى .. وكسر إعرابها بشكل لا يقتضيه الظاهر .. وللعرب إذن مرهفة لغويا .. فمتى سمع الصابئين التي جاءت معطوفة على اسم إن تأتي بالرفع يلتفت لفتة قسرية ليعرف السبب ..

حين تولى أبا جعفر المنصور الخلافة .. وقف على المنبر ولحن لحنة أي أخطأ في نطق كلمة .. وكان هناك إعرابي يجلس فآذت أذنيه .. وأخطأ المنصور للمرة الثانية فحرك الإعرابي أذنيه باستغراب .. وعندما أخطأ للمرة الثالثة قام الإعرابي وقال .. أشهد أنك وليت هذا الأمر بقضاء وقدر .. أي أنك لا تستحق هذا .. هذا هو إذا سمعه العربي هز أذنيه .. فإذا جاء لفظ مرفوعا والمفروض أن يكون منصوبا .. فإن ذلك يجعله يتنبه أن الله له حكمة وعلة .. فما هي العلة؟ ..
الذين آمنوا أمرهم مفهوم والذين هادوا أمرهم مفهوم والنصارى أمرهم مفهوم .. أما الصابئون فهؤلاء لم يكونوا تابعين لدين .. ولكنهم سلكوا طريقا مخالفا .. فجاءت هذه الآية لتلفتنا أن هذه التصفية تشمل الصابئين أيضا فقدمتها ورفعتها لتلفت إليها الآذان بقوة .. فالله سبحانه وتعالى يعطف الإيمان على العمل لذلك يقول دائما: "آمن وعمل صالحا" .. لأن الإيمان إن لم يقترن بعمل فلا فائدة منه .. والله يريد الإيمان أن يسيطر على حركة الحياة بالعمل الصالح .. فيأمر كل مؤمن بصالح العمل وهؤلاء لا خوف عليهم في الدنيا ولا هم يحزنون في الآخرة.



من تفسير الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله

ناصر التوحيد
06-09-2008, 02:48 AM
نعم

فقد ذكر القرآن الكريم الصابئين في ثلاثة مواضع منه
فأولها في قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} البقرة/62
والثاني في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } الحج/17
والثالث قول الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } المائدة/69.
والصابئة جمع صابئ، اسم فاعل من صَبَأ يصبَأ، إذا خرج من دين إلى آخر.
قال الطبري: ( والصابئون، جمع صابئ، وهو المستحدث سوى دينه دينا، كالمرتد من أهل الإسلام عن دينه، وكل خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره، تسميه العرب: صابئا ... يقال صبأت النجوم: إذا طلعت ..) انظر تفسير الطبري 2/145، لسان العرب صبأ.
وأما مذهبهم، فقال ابن القيم، رحمه الله: فقال الشافعي رحمه الله تعالى: هم صنف من النصارى، وقال في موضع: ينظر في أمرهم ؛ فإن كانوا يوافقون النصارى في أصل الدين، ولكنهم يخالفونهم في الفروع، فتؤخذ منهم الجزية، وإن كانوا يخالفونهم في أصل الدين لم يقروا على دينهم ببذل الجزية .... وأما أقوال السلف فيهم فذكر سفيان عن ليث عن مجاهد قال: هم قوم بين اليهود والمجوس ليس لهم دين، وفي تفسير شيبان عن قتادة قال: الصابئة قوم يعبدون الملائكة ...
وقال ابن القيم: ( قلت: الصابئة أمة كبيرة، فيهم السعيد والشقي، وهي إحدى الأمم المنقسمة إلى مؤمن وكافر، فإن الأمم قبل مبعث النبي، صلى الله عليه وسلم، نوعان: نوع كفار أشقياء كلهم، ليس فيهم سعيد، كعبدة الأوثان والمجوس، ونوع منقسمون إلى سعيد وشقي، وهم اليهود والنصارى والصابئة، وقد ذكر الله سبحانه النوعين في كتابه، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون } البقرة/62، وكذلك قال في المائدة، وقال في سورة الحج {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } فلم يقل هاهنا: من آمن منهم بالله واليوم الآخر، لأنه ذكر معهم المجوس والذين أشركوا ؛ فذكر ست أمم، منهم اثنتان شقيتان، وأربع منهم منقسمة إلى شقي وسعيد، وحيث وعد أهل الإيمان والعمل الصالح منهم بالأجر ذكرهم أربع أمم ليس إلا، ففي آية الفصل بين الأمم أدخل معهم الأمتين، وفي آية الوعد بالجزاء لم يدخلها معهم، فعلم أن الصابئين فيهم المؤمن والكافر، والشقي والسعيد.
وهذه أمة قديمة قبل اليهود والنصارى، وهم أنواع: صابئة حنفاء، وصابئة مشركون. وكانت حران دار مملكة هؤلاء قبل المسيح، ولهم كتب وتآليف وعلوم، وكان في بغداد منهم طائفة كبيرة، منهم إبراهيم بن هلال الصابئ صاحب الرسائل، وكان على دينهم ويصوم رمضان مع المسلمين، وأكثرهم فلاسفة ولهم مقالات مشهورة ذكرها أصحاب المقالات. وجملة أمرهم أنهم لا يكذبون الأنبياء ولا يوجبون اتباعهم، وعندهم أن من اتبعهم [ يعني اتبع الأنبياء] فهو سعيد ناج وأن من أدرك بعقله ما دعوا إليه، فوافقهم فيه وعمل بوصاياهم، فهو سعيد، فعندهم دعوة الأنبياء حق، ولا تتعين طريقا للنجاة، وهم يقرون أن للعالم صانعا مدبرا حكيما منزها عن مماثلة المصنوعات، ولكن كثيرا منهم، أو أكثرهم، قالوا: نحن عاجزون عن الوصول إلى جلاله بدون الوسائط ؛ والواجب التقرب إليه بتوسط الروحانيين المقدسين المطهرين عن المواد الجسمانية، المبرئين عن القوى الجسدية، المنزهين عن الحركات المكانية والتغييرات الزمانية، بل قد جبلوا على الطهارة، وفطروا على التقديس.
ثم ذكر أنهم يعبدون هذه الوسائط ويتقربون إليها، ويقولون: ( هم آلهتنا وشفعاؤنا عند رب الأرباب، وإله الآلهة )
ثم قال، رحمه الله: ( فهذا بعض ما نقله أرباب المقالات عن دين الصابئة وهو بحسب ما وصل إليهم، وإلا فهذه الأمة فيهم المؤمن بالله وأسمائه وصفاته وملائكته ورسله واليوم الآخر وفيهم الكافر، وفيهم الآخذ من دين الرسل بما وافق عقولهم واستحسنوه، فدانوا به ورضوه لأنفسهم. وعقد أمرهم أنهم يأخذون بمحاسن ما عند أهل الشرائع بزعمهم، ولا يوالون أهل ملة ويعادون أخرى، ولا يتعصبون لملة على ملة. والملل عندهم نواميس لمصالح العالم، فلا معنى لمحاربة بعضها بعضا بل يؤخذ بمحاسنها وما تكمل به النفوس، وتتهذب به الأخلاق، ولذلك سموا صابئين كأنهم، صبؤوا عن التعبد بكل ملة من الملل، والانتساب إليها، ولهذا قال غير واحد من السلف: ليسوا يهودا ولا نصارى ولا مجوسا.
وهم نوعان صابئة حنفاء وصابئة مشركون ؛ فالحنفاء هم الناجون منهم وبينهم مناظرات ورد من بعضهم على بعض، وهم قوم إبراهيم كما أن اليهود قوم موسى ،والحنفاء منهم أتباعه ) أحكام أهل الذمة 1/92-98
وما ذكره من انقسام الصابئة إلى موحدين ومشركين قرره شيخ الإسلام أيضا في غير موضع. انظر الرد على المنطقيين [ 287-290،454-458]، منهاج السنة، تعليق المحقق [1/5]. وانظر أيضا بحث الشيخ ابن عاشور للمسألة عند تفسيره لآية البقرة.

ناصر التوحيد
06-09-2008, 03:01 AM
التوكيد بحرف ( إِنَّ )

والتوكيد لا يكون إلا لمن يستحق التوكيد، فإذا كنت تخاطب إثنين أو ثلاثة من أصدقائك وتريد أن تخبرهم بشيء يخصهم فهؤلاء فقط هم الذين يحتاجون أن ( تؤكد) لهم الخبر أما من لم يكن حاضرا فلا يحتاج خبره لتوكيد .
إذن فالمخاطب هو الذي يحتاج للتوكيد، وبالرجوع إلى ما قبل الآية 69 من سورة المائدة نجد ما قبلها من آيات تخاطب الذين آمنوا وتخاطب أهل الكتاب وتتكلم عن الذين آمنوا وعن أهل الكتاب
فكم مرة وردت (يا أيها الذين آمنوا) وكلام كثير عن اليهود والنصارى إلى أن قال تعالى في الآية 68 ( قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل).
إذن فالكلام والخطاب قبل الآية 69 موجه فقط للذين آمنوا ولأهل الكتاب = الذين هادوا والنصارى ، فهؤلاء فقط هم الذين يحتاجون للتوكيد ،
أما الصابئون فلم يكن الكلام عنهم ولا الخطاب كان موجها إليهم، فهؤلاء (الصابئون) لا يحتاجون للتوكيد بإن ، إذن فمن الصواب أن يأكد ل( الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى) ومن الصواب أن ترفع ( الصابئون) بالواو لأنها لا يشملها التوكيد بحرف التوكيد والنصب ( إن).

سبق ذكر الصابئين في سورة البقرة في آية مشابهة لآية سورة المائدة وتكاد تكون كأنها نفس الآية مكررة إلا أن في آية سورة البقرة جاءت كلمة ( الصابئين) منصوبة بياء جمع المذكر السالم لأنها منصوبة بحرف التوكيد والنصب ( إن) ، وجاءت معطوفة على كلمة النصارى ، بينما في آية سورة المائدة جاءت كلمة ( الصابئون ) مرفوعة بالواو وعطفت عليها ( النصارى).
لماذا تم توكيد كلمة (الصابئين) في سورة البقرة ب (إن) ولم تؤكد في المائدة؟
لأن سورة البقرة تعتبر ملخصا للقرآن ، والخطاب موجه لكل الناس في قوله تعالى : يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) ، وسورة البقرة بينت للناس القصة التي تهم كل الناس ألا وهي قصة خلق الإنسان واستخلافه في الأرض من بعد أن مر بتجربة إغواء الشيطان، إذن فهي سورة تبين الهدى لكل الناس الذين يبحثون عن التقوى ( هدى للمتقين) فكان من الحكمة أن تتناول سورة البقرة كل سبل التقوى.
نعود إلى آية سورة البقرة لنعلم من هم الصابئون ،
قال تعالى : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) الآية 62 البقرة.
لو كان الصابئون هم الذين كانوا يعبدون الكواكب والنجوم كما قال بعض المفسرين فكيف نقول في البوذيين من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحا؟ وماذا عن الهندوس والبراهمانيين والهنود الحمر وغيرهم من أمم الأرض؟ أليس هؤلاء ناس؟ ألا يكون جزاء كل إنسان آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا هو : أجره عند ربه ولا خوف عليه ولا هو يحزن مهما كان هذا الإنسان!!
إذن فالناس قسمان :
منهم من ينتسبون إلى دين سماوي لهم كتب سماوية وهؤلاء هم:
الذين آمنوا ( أهل الكتاب : القرآن)
والذين هادوا والنصارى ( أهل الكتاب: التوراة والإنجيل.)
والقسم الثاني من الناس لا ينتسبون لأي دين سماوي ليسوا أهل كتاب، وهؤلاء هم المعبر عنهم بكلمة ( الصابئين) ، فالبوذيون والهندوس والوثنيون وكل شعوب العالم التي لا تنتسب إلى الإسلام ولا إلى اليهود ولا إلى النصارى تعتبر صابئة.

في كلام كل الناس وليس فقط في كلام العرب لا يخص الذكر والتوكيد إلا الأولى به . مثلا:
المعلم يتوجه إلى تلاميذه قبل الامتحان قائلا: إن الطالب المجتهد الذي يذاكر دروسه هو الذي سينجح في الاختبار.
لا شك أن المعني بتوكيد الكلام هو الطالب المجتهد وليس الطالب الكسول، مع العلم أن الطالب الكسول إذا اجتهد وذاكر دروسه ينجح هو الآخر. فإذا أراد الأستاذ أن يتكلم عن التلميذ الكسول بعد ذلك فإنه يقول : والتلميذ الكسول إذا ذاكر دروسه جيدا ينجح,
مثل آخر:
رئيس الدولة أو الملك إذا أصدر أمرا بأنه سيعاقب كل من يخالف دستور البلاد، من هم الذين أولى بعدم مخالفة الدستور؟
لا شك أنهم الوزراء والمقربون والذين هم على رأس الدولة هم أولى بعدم مخالفة الدستور ، وهؤلاء هم أولى بالتوكيد.

لنعد إلى الآية : إن الذين آمنوا والذين هادوا) التوكيد هنا للذين أوتوا الكتاب( القرآن) وللذين أوتوا الكتاب( التوراة) ، هؤلاء وهؤلاء كتبهم تأمرهم بالإيمان بالله واليوم الآخر وعمل الصالحات، وهو تذكير بإيمان الفطرة، والإنسان بفطرته السليمة حتى ولو كان ليس من أهل كتاب ( صابئ) إذا استعمل عقله استعمالا سليما فإنه يهتدي إلى أن هذا الكون له خالق وأن الموت ليس هو نهاية كل شيء بل لا بد أن بعده يوم آخر يحاسب فيه الإنسان على ما قدم في حياته الدنيا.
أما النصارى فإنهم خالفوا إيمان الفطرة وخالفوا التوراة التي هي كتابهم مثل ما هو كتاب اليهود والله في زعمهم هو المسيح. إذن فالإيمان بالله واليوم الآخر أقرب إلى الصابئ من النصراني لأن الصابئ مازالت فطرته سليمة إن هو استعملها أما النصراني فاعتقاده في المسيح ناقض به ما فطره الله عليه، ولذلك جاءت كلمة ( الصابؤون) قبل كلمة ( النصارى) في آية سورة المائدة.
نستخلص من آية سورة المائدة أن التوكيد (للذين آمنوا وللذين هادوا),
وأما (الصابؤون والنصارى) فهما معطوفان عطف جملة على جملة وليس عطفا في التوكيد، فكأن المعنى هو كالتالي:
إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
لكن الآية تجنبت هذا التكرار وجاءت كما هي في سورة المائدة
وكلمة ( النصارى) لو جاءت معطوفة على ( الذين هادوا) قبل ( الصابؤون) .. لما عرفنا إن هي شملها التوكيد ب ( إن) أم لم يشملها لأنها من الجمع الذي لا يتأثر بحركات الإعراب (الرفع والنصب والجر).


" الصابئون " مبتدأ ، والنصارى معطوف عليه ، وجملة من آمن بالله ... خبر "الصابئون"

وقد تلمس ابن عاشور الفائدة البلاغية من الإتيان بلفظ " الصابئون " موفوعاً ، فقال ما معناه :

إن الرفع في هذا السياق غريب ، فيستوقف القارئ عنده : لماذا رفع هذا الاسم بالذات ، مع أن المألوف في مثل هذا أن ينصب ؟

فيقال : إن هذه الغرابة في رفع الصابئون تناسب غرابة دخول الصابئين في الوعد بالمغفرة ، لأنهم يعبدون الكواكب ، فهم أبعد عن الهدى من اليهود والنصارى ، حتى إنهم يكادون ييأسون من الوعد بالمغفرة والنجاة فنبه بذلك على أن عفو الله عظيم . يشمل كل من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً وإن كان من الصابئين . [انظر تفسير آية المائدة من تفسير ابن عاشور ]


يقول الله سبحانه و تعالى في الآية 69 من سورة المائدة :
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّابِئُونَ وَٱلنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }

"موقع الآية دقيق و معناها أدق و إعرابها تابع لدقة الأمرين " ... هكذا بدأ ابن عاشور رحمه الله تفسيره لهذه الآية .

تفسير محمد الطاهر بن عاشور :

جاء في التحرير والتنوير:

يبدأ بالتذكير بدقة موقع الآية و معناها وإعرابها فيقول :

موقع هذه الآية دقيق، ومعناها أدقّ، وإعرابها تابع لدقّة الأمرين. فموقعها أدقّ من موقع نظيرتها المتقدّمة في سورة البقرة (62) . ومعناها يزيد دقّة على معنى نظيرتها تبعاً لدقّة موقع هذه. وإعرابها يتعقّد إشكاله بوقوع قوله: { والصابئون } بحالة رفع بالواو في حين أنّه معطوف على اسم { إنّ } في ظاهر الكلام.

فحقّ علينا أن نخصّها من البيان بما لم يسبق لنا مثله في نظيرتها.

أولا : موقع الآية :

لموقع الآية وجهان :
الوجه الأول أن تكون استئنافاً بيانياً ناشئاً على تقدير سؤال يخطر في نفس السامع لِقوله: { قل يأهل الكتاب لستم على شيء حتّى تقيموا التّوراة والإنجيل }[المائدة: 68] فيسأل سائل عن حال من انقرضوا من أهل الكتاب قبل مجيء الإسلام: هل هم على شيء أو ليسوا على شيء، وهل نفعهم اتّباع دينهم أيّامئذٍ؛ فوقع قوله: { إنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا } الآية جواباً لهذا السؤال المقدّر. والمراد بالّذين آمنوا المؤمنون بالله وبمحمّد صلى الله عليه وسلم أي المسلمون. وإنّما المقصود من الإخبار الّذين هَادوا والصابئون والنّصارى .

الوجه الثاني أن تكون هذه الجملة مؤكِّدة لجملة { ولو أنّ أهل الكتاب آمنوا واتّقوا } [المائدة: 65] ، فبعد أن أُتبعت تلك الجملة بما أُتبعت به من الجُمل عاد الكلام بما يفيد معنى تلك الجملة تأكيداً للوعد، ووصلاً لربط الكلام، وليُلحق بأهل الكتاب الصابئون، وليظهر الاهتمام بذكر حال المسلمين في جنّات النّعيم.

أما سبب التصدير بذكر الذين آمنوا في طليعة المعدودين فيرجعه الشيخ محمد الطاهر إلى إدماج التنويه بالمسلمين في هذه المناسبة، لأنّ المسلمين هم المثال الصّالح في كمال الإيمان والتحرّز عن الغرور وعن تسرّب مسارب الشرك إلى عقائدهم (كما بشّر بذلك النّبيء صلى الله عليه وسلم في خطبة حجّة الوداع بقوله: " إنّ الشيطان قد يَئس أن يُعبد من دون الله في أرضكم هذه " ) فكان المسلمون، لأنّهم الأوحدون في الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصّالح، أوّلين في هذا الفضل.


ثانيا معنى الآية:

1 - يستهل تفسير الآية بشرح موقع "إن " في الآية : فافتتاحها بحرف { إنّ } هنا للاهتمام بالخبر لعروّ ( خلوّ ) المقام عن إرادة ردّ إنكار أو تردّد في الحكم أو تنزيل غير المتردّد منزلة المتردّد

2- من هم المعنيون في قوله : " مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ " ؟ يجيب قائلا: تحيّر النّاظرون في الإخبار عن جميع المذكورين بقوله: { من آمن بالله واليوم الآخر } ، إذ من جملة المذكورين المؤمنون، وهل الإيمان إلاّ بالله واليوم الآخر؟ وذهب النّاظرون في تأويله مذاهب: .... والوجه عندي أنّ المراد بالَّذين آمنوا أصحاب الوصف المعروف بالإيمان واشتهر به المسلمون، ولا يكون إلاّ بالقلب واللّسان لأنّ هذا الكلام وعد بجزاء الله تعالى، فهو راجع إلى علم الله، والله يعلم المؤمن الحقّ والمتظاهر بالإيمان نِفاقاً.

3 – الصابئة
والأظهر عندي أن أصل كلمة الصابي أو الصابئة أوما تفرع منها هو لفظ قديم من لغة عربية أو سامية قديمة هي لغة عرب ما بين النهرين من العراق , وفي «دائرة المعارف الإسلامية» أن اسم الصابئة مأخوذ من أصل عبري هو (ص ب ع) أي غطس عرفت به طائفة (المنديا) وهي طائفة يهودية نصرانية في العراق يقومون بالتعميد كالنصارى....
وجامع أصل هذا الدين هو عبادة الكواكب السيارة والقمر وبعض النجوم مثل نجم القطب الشمالي وهم يؤمنون بخالق العالم وأنه واحد حكيم مقدس عن سمات الحوادث غير أنهم قالوا: إن البشر عاجزون عن الوصول إلى جلال الخالق فلزم التقرب إليه بواسطة مخلوقات مقربين لديه وهي الأرواح المجردات الطاهرة المقدسة وزعموا أن هذه الأرواح ساكنة في الكواكب وأنها تنزل إلى النفوس الإنسانية وتتصل بها بمقدار ما تقترب نفوس البشر من طبيعة الروحانيات فعبدوا الكواكب بقصد الاتجاه إلى رُوحانياتها .

4- و كعادة الشيخ ابن عاشور تناول الآية بالتشريح فكتب:
خبر (إنّ) محذوف... وحذفُ خبر (إنّ) وارد في الكلام الفصيح غير قليل، كما ذكر سيبويه في «كتابه». وقد دلّ على الخبر ما ذكر بعده من قوله: { فلا خوف عليهم } إلخ. ويكون قوله: { والّذين هادوا } عطفَ جملة على جملة، فيجعل { الّذين هادوا } مبتدأ، ولذلك حقّ رفع ما عُطف عليه، وهو { والصابؤون }. ويكون قوله: { من آمن بالله } مبتدأ ثانياً، وتكون (من) موصولة، والرّابط للجملة بالّتي قبلها محذوفاً، أي من آمن منهم، وجملة { فلا خوف عليهم } خبراً عن (مَن) الموصولة، واقترانها بالفاء لأنّ الموصول شبيه بالشرط. وذلك كثير في الكلام، كقوله تعالى:{ إنّ الّذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثمّ لم يتوبوا فلهم عذاب جهنّم }[البروج: 10] الآية، ووجود الفاء فيه يعيّن كونه خبراً عن (مَن) الموصولة وليس خبر ـ إنّ ـ .

ومعنى { من آمن بالله واليوم الآخر } من آمن ودَام، وهم الّذين لم يغيّروا أديانهم بالإشراك وإنكارِ البعث؛ فإنّ كثيراً من اليهود خلطوا أمور الشرك بأديانهم وعبدوا الآلهة كما تقول التّوراة. ومنهم من جعل عُزيراً ابناً لله، وإنّ النّصارى ألَّهوا عيسى وعبدوه، والصابئة عبدوا الكواكب بعد أن كانوا على دين له كتاب. ثمّ إنّ اليهود والنّصارى قد أحْدثوا في عقيدتهم من الغرور في نجاتهم من عذاب الآخرة بقولهم: { نحن أبناء الله وأحِبَّاؤه }[المائدة: 18] وقولِهم{ لن تمسّنا النّار إلاّ أيَّاماً معدودة } [البقرة: 80]، وقول النّصارى: إنّ عيسى قد كفَّر خطايا البشر بما تحمّله من عذاب الطّعن والإهانة والصّلب والقتل، فصاروا بمنزلة من لا يؤمن باليوم الآخر، لأنّهم عطّلوا الجزاء وهو الحكمة الّتي قُدّر البعث لتحقيقها.


5 – و كأنه رحمه الله علم بما قد يدور في أذهان بعض المشككين أو الطاعنين فانبرى يدافع عن القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين فقال وأبدع :

فممّا يجب أن يُوقن به أنّ هذا اللّفظ كذلك نزل، وكذلك نطق به النّبيء صلى الله عليه وسلم وكذلك تلقّاه المسلمون منه وقرؤوه، وكُتب في المصاحف، وهم عَرب خلّص، فكان لنا أصلاً نتعرّف منه أسلوباً من أساليب استعمال العرب في العطف وإن كان استعمالاً غير شائع لكنّه من الفصاحة والإيجاز بمكان، وذلك أنّ من الشائع في الكلام أنّه إذا أتي بكلام موكّد بحرف (إنّ) وأتي باسم إنّ وخبرها وأريد أن يعطفوا على اسمها معطوفاً هو غريب عن ذلك الحكم جيء بالمعطوف الغريب مرفوعاً ليدلّوا بذلك على أنّهم أرادوا عطف الجمل لا عطف المفردات، فيقدّرَ السامع خبراً يقدّره بحسب سياق الكلام.
ومن ذلك قوله تعالى:{ أنّ الله بريء من المشركين ورسولُه }[التوبة: 3]، أي ورسولُه كذلك ، فإنّ براءته منهم في حال كونه من ذي نسبهم وصهرهم أمر كالغريب ليظهر منه أنّ آصرة الدّين أعظم من جميع تلك الأواصر، وكذلك هذا المعطوف هنا لمّا كان الصابؤون أبعد عن الهدى من اليهود والنّصارى في حال الجاهلية قبل مجيء الإسلام، لأنّهم التزموا عبادة الكواكب، وكانوا مع ذلك تحقّ لهم النّجاة إن آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحاً، كان الإتيان بلفظهم مرفوعاً تنبيهاً على ذلك. لكن كان الجري على الغالب يقتضي أن لا يؤتى بهذا المعطوف مرفوعاً إلاّ بعد أن تستوفي (إنّ) خبرها، إنَّما كان الغالب في كلام العرب أن يؤتى بالاسم المقصود به هذا الحكم مؤخّراً، فأمّا تقديمه كما في هذه الآية فقد يتراءى للنّاظر أنّه ينافي المقصد الّذي لأجله خولف حكم إعرابه، ولكن هذا أيضاً استعمال عزيز، وهو أن يجمع بين مقتضيي حالين، وهما للدّلالة على غرابة المُخبر عنه في هذا الحكم... والتّنبيه على تعجيل الإعلام بهذا الخبر فإنّ الصابئين يكادون ييأسون من هذا الحكم أو ييأس منهم من يسمع الحكم على المسلمين واليهود. فنبّه الكلّ على أنّ عفو الله عظيم لا يضيق عن شمولهم، فهذا موجب التّقديم مع الرّفع، ولو لم يقدّم ما حصل ذلك الاعتبار، كما أنّه لو لم يرفع لصار معطوفاً على اسم (إنّ) فلم يكن عطفه عطف جملة.وقد جاء ذكر الصابين في سورة الحجّ مقدّماً على النّصارى ومنصوباً، فحصل هناك مقتضى حال واحدة وهو المبادرة بتعجيل الإعلام بشمول فصل القضاء بينهم وأنّهم أمام عدل الله يساوون غيرهم.

{وكون (الصابئون) مرفوعة ، وهي معطوفة على منصوبات ، فهذا مذهب للعــرب في كلامها معروف ، على أن ( الصابئون ) ـ مرفوع على الابتداء ،وخبره محذوف ، ويكون المعنى على هذا الاعراب : ان الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كيت وكيت ، والصابئون كذلك ـ }

ثمّ عقّب ذلك كلّه بقوله: { وعمل صالحاً } ، وهو المقصود بالذّات من ربط السلامة من الخوف والحزن، به، فهو قيد في المذكورين كلّهم من المسلمين وغيرهم، وأوّل الأعمال الصّالحة تصديق الرّسول والإيمان بالقرآن، ثم يأتي امتثال الأوامر واجتناب المنهيات كما قال تعالى:{ وما أدراك ما العقبة ..... ثم كان من الّذين آمنوا }[البلد: 12 ـ 17].