LEADERS
06-20-2008, 10:18 PM
يقول الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا) [سورة النساء].
يخبر الله تعالى في هذه الآية عما يعاقب به في نار جنهم من كفر بآياته، وصد عن رسله، بأنه يسدخلهم ناراً دخولاً يحيط بجميع أجرامهم وأجزائهم، ثم أخبر عن دوام عقوبتهم ونكالهم، وأنه كلما احترقت جلودهم، بدلوا جلوداً غيرها، وفي رواية مائة وعشرين مرة، وكلتا الروايتين عن عمر يرفعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقول صاحب (الأساس في التفسير) : يختم الله عز وجل الآية بوصف ذاته بالعزة والحكمة، وهما يفيدان في هذا المقام غلبة الله بالانتقام، وأنه لا يمتنع عليه شيء مما يريده بالمجرمين، وعقوبته لهم هي الحكمة عينها. ويقول صاحب (روح المعاني) : (كلما نضجت جلودهم) أي : احترقت عند احتراقه جلداً جديداً مغايراً للمحترق صورة وإن كان مادته الأصلية موجودة. ويقول ابن عجيبة في (البحر المديد) : وإنما بدلت جلودهم (ليذوقوا) ألم " العذاب" أي : يدوم لهم ذلك بخلق جلد آخر مكانه والعذاب في الحقيقة للنفس العاصية لا لآلة إدراكها، فلا محذور، (إن الله كان عزيزاً) لا يمتنع عليه ما يريده، (حكيماً) يعاقب على قدر حكمته.
وفي تبديل الجلود أثناء العذاب أسئلة يعرضها صاحب (مفاتيح الغيب)، ويجيب عنها، ونوجز كلامه فيما يلي:
السؤال الأول :لما كان الله تعالى قادراً على إبقائهم (أي الكفار)أحياء في النار أبد الآباد، فلم لم يبق أبدانهم في النار مصونة عن النضج والاحتراق مع أنه يوصل إليها الآلام الشديدة، حتى لا يحتاج إلى تبديل جلودهم بجلود أخرى؟ والجواب : أنه تعالى لا يسأل عما يفعل، بل نقول : إنه تعالى قادر على أن يوصل إلى أبدانهم آلاماً عظيمة من غير إدخال النار مع أنه تعالى أدخلهم النار.
السؤال الثاني:الجلود العاصية إذا احترقت، فلو خلق الله مكانها جلوداً أخرى وعذبها كان هذا تعذيباً لمن لم يعص وهو غير جائز؟ والجواب: هنا وجوه، منها : أن يجعل النضج غير النضيج، فالذات واحدة والمتبدل هو الصفة، فإذا كانت الذات واحدة كان العذاب لم يصل إلا إلى العاصي، وعلى هذا التقدير المراد بالغيرية التغاير في الصفة .. المعذب هو الإنسان، وذلك لأن الجلد ما كان جزءً من ماهية الإنسان، فإذا جدد الله الجلد وصار ذلك الجلد الجديد سبباً لوصول العذاب إليه لم يكن ذلك تعذيباً إلا للعاصي.. وكلما ظنوا أنهم احترقوا ونضجوا وانتهوا إلى الهلاك أعطاهم الله قوة جديدة من الحياة بحيث ظنوا أنهم يحدثوا ويجددوا فيكون المقصود من (بدلناهم جلوداً غيرها) بيان دوام العذاب وعدم انقطاعه .. وبنحو هذا كان فهم النيسابوري في تفسيره المسمى( غرائب القرآن ورغائب الفرقان) .
ونعود إلى شهاب الدين الألوسي في تفسيره (روح المعاني)، لنجد يشرح (ليذوقوا العذاب) فيقول: ..
والتعبير عن إدراك العذاب بالذوق من حيث أنه لا يدخله نقصان بدوام الملابسة، أو للإشعار بمرارة العذاب مع إيلامه، أو للتنبيه على شدة تأثيره من حيث أن القوة الذائقة أشد الحواس تأثيراً، أو على سرايته للباطن .
ولعل السر في تبديل الجلود مع قدرته تعالى على إبقاء إدراك العذاب وذوقه بحال مع الاحتراق، أو مع بقاء أبدانهم على حالها مصونة عنه أن النفس ربما تتوهم زوال الإدراك بالاحتراق ولا تستبعد كل الاستبعاد أن تكون مصونة عن التألم والعذاب صيانة بدنها عن الاحتراق .
وقيل : السر في ذلك أن النضج والتبديل نوع إياس لهم وتجديد حزن على حزن.
الشبكة العصبية في الجلد:
الجلد أكبر أعضاء جسم الإنسان، من حيث المساحة، فمتوسط مساحته هو 1.8 متر مربع، وهو يحيط بالجسم كله فيحميه ويكسبه مظهر جميلاً، كما أنه يتلقى المؤثرات الواقعة على الجسم من خارجه، وتظهر عليه انفعالات الجسم.
يتركب الجلد، كما توصلت إليه البحوث الحديثة ـ من ثلاثة طبقات، الخارجية (السطحية) الرقيقة، تسمى البشرة[ Epidermis] والوسطى(المتوسطة)، وتسمى الأدمة [ Dermis]، وهي الجلد الحقيقي، والداخلية (السفلى ) وتسمى النسيج تحت الجلد[ Subcutaneus tissue] وأما البشرة فهي طبقة خالية من الأوعية الدموية،وتقوم بحماية الجسم من التأثيرات الخارجية والصدمات. وهي أرق طبقات الجلد، وإن كانت تتألف من أربع طبقات ثانوية، بالإضافة إلى طبقة خامسة في مناطق مثل راحة اليد وباطن القدم، وتسمى "الطبقة الصافية" أي : " الطبقة الرائقة" .
وأما الأدمة فتحتوي أوعية دموية، وغدد عرقية، وبصيلات الشعر، والنهايات العصبية المستقبلة للألم والشعور بالحرارة والبرودة واللمس وخلافه، كما أنها هي التي تحدد " تخانة" الجلد في مناطق مثل: راحة اليد وباطن القدم. وتتراوح تخانة الجلد بين 2/1 ـ 5 ملليميترات، حسب مناطق الجسم.
وهكذا يتضح بالتشريح الدقيق للجلد وجود شبكة من الألياف العصبية، توجد بها نهايات عصبية حرة، في طبقات الجلد، وتقوم هذه النهايات باستقبال جميع المؤثرات الواقعة على الجلد من البيئة الخارجية المحيطة به، من درجة حرارة، إلى رطوبة، إلى ضغط، إلى لمس، إلى ألم .. الخ ..
كما تتحمل هذه الشبكة العصبية المسؤولية في تنظيم عمل المكونات الأخرى الموجودة بالجلد، مثل : الغدد الجلدية وأجربة [ Follicles] الشعر والأوعية الدموية [ Blood vessels] .
ومما يذكر في هذا المقام أن الطبقة السفلى " تحت الأدمة " غنية بالنهايات العصبية المسئولة عن الإحساس بالضغط لكنها ـ أي : أن الطبقة السفلى ـ فقيرة في مستقبلات الألم واللمس وتتبادل هذه النهايات العصبية [ المستقبلات ـ Receptors]الألم والشعور به، وفيها المسئول عن اللمس " الاحتكاك " والضغط .. الخ .
وخلاصة القول : إن الجلد عضو إحساس من الطراز الأول، وجه خريطة مدهشة من الأعصاب، لم يتم الكشف عنها إلا في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، بعد تقدم وسائل البحوث الحديثة في كل من علم التشريح[ Anatomy]، وعلم الأنسجة [ Histology] وغيرها من العلوم.
إننا لن نفصل القول في الآلية (الميكانيكية) التي تعمل بها الأعصاب في جسم الإنسان، فمن يريد هذا التفصيل عليه مطالعة الكتب الطبية، ولسوف نوجز فنقول : إن هذه المستقبلات الحسية المنتشرة في طبقات الجلد تستقبل المؤثرات البيئية الواقعة عليها طوال اليوم، ويتحول كل مؤثر (حرارة أو لمس أو ضغط أو كي أوغيرها) إلى نبضات كهربائية [ Electric impulses] بداخل الأعصاب التي توجد هذه المستقبلات بأطرافها، وتنتشر وتنتقل هذه النبضات على امتداد هذه الأعصاب إلى الدماغ (المخ ) ـ وهو المركز الرئيسي في الجهاز العصبي للإنسان ـ فتتم ترجمة المؤثر المستقبل [ Received stimulus] وبيان نوعه، وتحديد الاستجابة [ Response] المناسب تجاهه، إن كانت بالسلب أم بالإيجاب. أما في الأولى فتنفعل عضلات الإنسان لإبعاده عن موقع المؤثر السيئ، وأما في الثانية فتنفعل عضلاته نحو هذا المؤثر وتقترب منه أكثر.
ويستطيع الإنسان أن يشعر بالمؤثر الواقع على الجلد طالما يقع هذا المؤثر داخل حدود معينة من الشدة [ التردد ـ Frequency] ، فإذا انخفضت شدته عن الحد الأدنى لم يشعر به الجلد، وإذا ارتفعت شدته عن الحد الأقصى شعر الجلد بألم، وقد ترتفع شدة المؤثر بدرجات كبيرة فتكون استجابة الجلد عنيفة وتؤدي إلى حدوث صدمة أو هبوط في الدورة الدموية وفقدان للوعي.
وبالطبع، فإن هناك أجهزة أخرى غير الجلد يصيبها الإعياء والهبوط الوظيفي والتوقف عن العمل نتيجة تألم الجلد، أي : استجابته للمؤثر الواقع عليه، ولكن يبقى الجلد هو العضو الوحيد في جسم الإنسان المسئول عن الشعور بالألم .
عندما يتعرض الجلد للإحراق فإنه يتألم، أي : ينقل الإحراق (كمؤثر) إلى الدماغ فيترجمه، وتكون النتيجة هي شعور الجسم بالألم وإذا كان الحرق من الدرجة الأولى (سطحي) تلتهب الطبقة الخارجية للجلد وتحمر ويتورم الجلد، ويصحب هذا آلام موضعية شديدة نتيجة لتأثير الحرق في الألياف العصبية، وتحدث هذه الحروق ـ مثلاًـ نتيجة التعرض فترة طويلة للشمس المباشرة ساعات الظهيرة.
وإذا كان الحرق من الدرجة الثانية(أدمي) يشتد الألم لدرجة أن الجسم يفقد من السوائل ويتأثر ضغط الدم الشرياني وتتضرر الدورة الدموية، وقد يصاب الجسم بصدمة عنيفة. ويلاحظ في هذه الدرجة تكون أكياس مائية مختلفة الأحجام على البشرة، وقد تتمزق بسهولة، لتخرج سائلاً ملحياً، أو تنزف دماً.
وإذا كان الحرق من الدرجة الثالثة (تحت الجلدي) فإن الحرارة الشديدة للحرق تؤدي إلى حدوث تلف شديد للطبقات العميقة بالجلد والأنسجة المجاورة، وتؤدي أيضاً إلى التفحم الجلدي، واضطراب وظائف العظام والعضلات، كما تؤدي إلى تجلط بروتينات الألياف العصبية، وتكون النتيجة هي توقف هذه الألياف عن العمل، أي : لا تكون قادرة على الإحساس بالمؤثر (الحرق)، وبالتالي يتوقف شعور الإنسان بالألم..!!
http://www.55a.net/images/skin/skin-burn.gif
صورة تبين طبقات الجلد ونوع الحرق بحسب الطبقة التي يتلفها درجة (4،3،2،1)
تذكر الآيات القرآنية التي مرت معنا في الصفحات الأولى من لقائنا الحالي بصيغة الجمع دائماً، وليس بصيغة المفرد، وفي هذه إشارة علمية عظيمة كشف العلم الحديث عنها وخلاصتها:
[1] خلايا الجلد أسرع انقساماً من غيرها من الجلد .
[2] خلايا الجلد أسرع تغيراً وتبدلاً من غيرها من الخلايا، وقد يتغير الجلد في مساحة معينة منه تغيراً كاملاً في فترة وجيزة.
[3] يتغير تركيب الجلد من مكان لآخر على سطح الجسم الواحد، فجلد جفون العيون يختلف عن جلد قناة الأذن الخارجية، ويختلف عن جلد باطن اليد، ويختلف عن جلد باطن القدم .. الخ .
[4] وهكذا تكسو الإنسان مجموعة من الجلد وليس جلد واحد، سواء من حيث المكان (على سطح الجسم)، أم الزمان (التبدل والتغير)، وهكذا، تظهر الإشارة العلمية بجلاء.
لقد عبر القرآن العظيم عن فقدان الجلد لتوصيل المؤثرات الواقعية عليه بلفظة (النضج)، والنضج علمياً هو(تجلط) أو (تخثر) بروتينات الألياف العصبية (في حالة حروق الدرجة الثالثة) نتيجة تعمق المؤثر وتغلغله إلى الطبقة تحت الجلدية، وذلك لشدته العنيفة.
http://www.55a.net/images/skin/im-37.gif
صورة لطبقة جلد تعرضت لحرق وتم تجلط بروتينات الألياف العصبية فتعطل الحس
ولما كان المقصود هو إذاقة العذاب للكافرين في جهنم، استلزم هذا تجديد طبقات الجلد مرة أخرى ليشعر الإنسان بالألم، فإذا ازداد الإحراق، وتعمق أثره وتجلطت بروتينات الألياف العصبية السفلية، وفقد الإنسان القدرة على الإحساس بالألم، تكرر تجديد الجلد بكافة طبقاته، ليتكرر شعور الإنسان بالألم.. وهكذا، وكما عبرت عنه الآية الخامسة والستين في سورة النساء بالضبط: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ) .
والحكمة المقصودة هي : (ليذوقوا العذاب) .
وهكذا يشير القرآن في هذه الآية إلى حقيقة علمية لم يتوصل العلماء إلى معرفتها إلا حديثاً، بعدما تقدمت علوم التشريح والأنسجة، واخترعت أجهزة التكبير والقياس، فالآية تشير إلى مراكز الإحساس في الجلد، وتشير إلى وجود البروتينات التي تتجلط بحرارة النار الشديدة.
نتناول الآن نصاً قرآنياً ورد في سورة الحج، يتحدث عن عذاب الكفار في نار جنهم أيضاً، وفيه إشارة إلى (نضج) الجلود، وإن لم يصرح بها، ذلك النص القرآني هو قول الله تعالى : (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ) [سورة الحج:19].
وخلاصة ما شرح به جمهور من المفسرين، كابن كثير والنيسابوري والنسفي والألوسي والبيضاوي وابن عجيبة والفخر الرازي، هذا النص القرآني الكريم، هو أن هناك فريقان، أن فوجان، أو طائفتان، اختلفوا في دين الله وصفاته، هما طائفة الكفار( ويشملهم جميعاً) وطائفة المؤمنين، فكان الفصل هو إنزال العقاب وشديد العذاب بالكفار هكذا: (قطعت لهم ثياب) يعني أن الله يقدر لهم نيراناً على مقادير جثثهم تشتمل عليهم كما تقطع " وتفصل " الثياب الملبوسة. وفي الكلام استعارة تمثيلية تهكمية وليس هناك تقطيع ولا تفصيل ولا ثياب. والمراد بالثياب هنا إحاطة النار بهم. وجاء الكلام بلفظ الماضي لأن ما كان من أمر الآخرة فهو كالواقع .
و(يُصهَر)، أي : يذاب، والمعنى أن الحميم (وهو الماء الحار العنيف الحرارة) تنزل فوق رؤوسهم فيخترقها ويسقط في أجوافهم فيهلك أمعاءهم وأحشاءهم كما يتلف جلودهم، وقرئت " يصهر " بفتح الصاد وتشديد الهاء المفتوحة للمبالغة، وقيل إن " يصهر" بمعنى " ينضج "، وقيل : التقدير هنا هو( ويحرق الجلود)، لأن الجلود لا تذوب .
والحميم ـ على النحو المذكور في هذه الآية ـ يذيب جميع المحتوى الداخلي للأجسام، وهذا أشد مما ذكر في آية قرآنية أخرى يقول الله سبحانه وتعالى فيها : (وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ) [سورة محمد "15] فلا بد إذن من تقطيع الأمعاء أو تثقيبها، لأن الحميم لا يؤلمها إلا إذا ثقبت من تقطيع الأمعاء أو تثقيبها، لأن الحميم لا يؤلمها إلا إذا ثقبت فيخرج منها ويؤثر في مراكز الإحساس بالحرارة الزائدة، كما أن الحميم لا يؤلم إلا بوجود جلد، لأن فيه توجد مراكز ومستقبلات الإحساس بالحرارة الشديدة، ولذلك جاءت (من وجهة النظر العلمية) لفظة "والجلود" في نهاية الآية [20] من سورة الحج، عُقيب " بطونهم" .
وهناك علاقة بين حروق الجلود وتلف الأحشاء، ونلاحظ هذا في الآيتين القرآنيتين : (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ)[سورة الحج:19].
مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ فمع صب الحميم فوق الرؤوس وإغراقه لجلد الجسم العام، وإتلافه للجلد، فإن هذا التلف الذي هو في شكل حروق مدمرة تؤدي إلى حدوث اضطرابات وظيفية عنيفة في الجهاز الهضمي، يتبعها حدوث شلل للأمعاء وتمدد حاد لجدار المعدة، ثم ظهور تقرحات عنيفة فيها وفي الإثني عشر، ثم حدوث ثقوب في القناة الهضمية ونزيف داخلي كالذي يحدث عند ابتلاع مادة كاوية، وكذلك حدوث انتفاخ ضبابي للكبد نتيجة تراكم المواد السامة المتخلفة عن احتراق الأنسجة، وكذلك نقص الأكسجين والدم الواصلين إليه.
وإضافة إلى هذا، فهناك تأثير لإحراق الجلود في التنفس ونلاحظ هذا في الآية القرآنية : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ)[سورة هود:106] .
وهذا ما توصل إليه العلم الحديث، فلقد اكتشف العلماء تغيرات وظيفية (فسيولوجية) تطرأ على الجهاز التنفسي نتيجة لحروق الجلد العنيفة، مما يؤدي إلى اختلاف المعادلة الوظيفية التي تحكم نسبة التهوية /التروية [ Ventilation – perfusion ratio].
وكذلك، فإن احتراق الجلد يسبب تلف القلب، ونلاحظ هذا في قول الله تعالى : (كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ {4}وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ {5} نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ {6} الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ {7} إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ)[سورة الهمزة].
..) وفيه يقول الفخر الرازي (في تفسير الكبير) : " نار الله " الإضافة (أي : إضافة النار إلى الله، أي نسبتها إليه)، للتفخيم، أي : هي نار لا كسائر النيران. " الموقدة " : التي لا تخمد أبداً، أو " الموقد" بأمره أو بقدرته. ومنه قول الصحابي الجليل علي عليه السلام : عجباً ممن يعصي الله على وجه الأرض والنار تسعر من تحته.. وفي الحديث النبوي: (أوقد عليها ألف سنة حتى احمرت، ثم ألف سنة حتى أبيضت، ثم ألف سنة حتى أسودت، فهي الآن سوداء مظلمة )، وإن كان فيه هذا النص النبوي إعجاز علمي فهو في باب " الفيزياء " وليس مجاله هنا.
ويقول الفخر الرازي : أما قوله تعالى : (التي تطلع على الأفئدة)، فأعلم أنه يقال : طلع الجبل، واطلع عليه، إذا علاه. وفي تفسير الآية يقول : إن النار تدخل في أجوافهم، حتى تصل إلى صدورهم وتطلع على أفئدتهم، ولا شيء في بدن الإنسان ألطف من الفؤاد (والفخر الرازي يقصد به القلب العضلي)، ولا أشد تألماً منه بأدنى أذى يماسه، فكيف إذا اطلعت نار جهنم واستولت عليه !! ثم إن الفؤاد مع استيلاء النار عليه لا يحترق، إذ لو احترق لمات، وهذا هو المراد (يقصد المعنى ) من قوله: (لا يموت فيها ولا يحيى )، ومعنى الإطلاع هو أن النار تنزل من اللحم إلى الفؤاد.. وأعلم أنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن النار تأكل أهلها حتى إذا اطلعت على أفئدتهم انتهت، ثم إن الله تعالى يعيد لحمهم وعظمهم مرة أخرى .
ويضيف العلم الحديث توضيحاً إلى هذا التفسير وما شابهه من تفسيرات للآية القرآنية، فلقد اكتشف العلماء حدوث تغيرات كبيرة في الفؤاد (القلب) والجهاز الدوراني بجسم المحروق، منها : هبوط انقباضية الفؤاد، هبوط في جانبه الأيسر، أو في جانبه الأيمن، أو في كليهما معاً، كما تحدث تغيرات ضارة جداً في سوائل الدم وخلاياه.
وبعد، فلنعد إلى الآية الأساسية لموضوعنا الحالي، تؤكد أن اللفظة القرآنية المعجزة " نضجت " [في الآية 56من سورة النساء ] ستظل باقية على مر الزمان، وشاهد بالإشارة إلى حقيقة علمية لم يتوصل العلماء إليها سوى في العصر الحديث فقط، ألا وهي تجلط (تخثر) بروتينات النهايات العصبية في الطبقة الجلدية السفلى بفعل الحرارة الشديدة.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن قارئاً ولا كاتباً، فكيف جاء بهذه الحقيقة العلمية، كيف به يتحدث عن خصائص الأعصاب الحسية ووظائف مراكز الحس بالألم الموجود في الجلد، إنه بلا شك رسول يتلقى الوحي من الله الخالق العظيم، وما تلقاه بلا شك كتاب عظيم هو القرآن، وحي الله الذي ختم به حلقات اتصال السماء بالأرض، ولذلك أودع فيه أسرار لن تنتهي إلى يوم القيامة .
http://www.55a.net/firas/arabic/?page=show_det&id=515&select_page=2
بقلم الدكتور كارم غنيم
رئيس جمعية الإعجاز العلمي للقرآن في القاهرة
يخبر الله تعالى في هذه الآية عما يعاقب به في نار جنهم من كفر بآياته، وصد عن رسله، بأنه يسدخلهم ناراً دخولاً يحيط بجميع أجرامهم وأجزائهم، ثم أخبر عن دوام عقوبتهم ونكالهم، وأنه كلما احترقت جلودهم، بدلوا جلوداً غيرها، وفي رواية مائة وعشرين مرة، وكلتا الروايتين عن عمر يرفعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقول صاحب (الأساس في التفسير) : يختم الله عز وجل الآية بوصف ذاته بالعزة والحكمة، وهما يفيدان في هذا المقام غلبة الله بالانتقام، وأنه لا يمتنع عليه شيء مما يريده بالمجرمين، وعقوبته لهم هي الحكمة عينها. ويقول صاحب (روح المعاني) : (كلما نضجت جلودهم) أي : احترقت عند احتراقه جلداً جديداً مغايراً للمحترق صورة وإن كان مادته الأصلية موجودة. ويقول ابن عجيبة في (البحر المديد) : وإنما بدلت جلودهم (ليذوقوا) ألم " العذاب" أي : يدوم لهم ذلك بخلق جلد آخر مكانه والعذاب في الحقيقة للنفس العاصية لا لآلة إدراكها، فلا محذور، (إن الله كان عزيزاً) لا يمتنع عليه ما يريده، (حكيماً) يعاقب على قدر حكمته.
وفي تبديل الجلود أثناء العذاب أسئلة يعرضها صاحب (مفاتيح الغيب)، ويجيب عنها، ونوجز كلامه فيما يلي:
السؤال الأول :لما كان الله تعالى قادراً على إبقائهم (أي الكفار)أحياء في النار أبد الآباد، فلم لم يبق أبدانهم في النار مصونة عن النضج والاحتراق مع أنه يوصل إليها الآلام الشديدة، حتى لا يحتاج إلى تبديل جلودهم بجلود أخرى؟ والجواب : أنه تعالى لا يسأل عما يفعل، بل نقول : إنه تعالى قادر على أن يوصل إلى أبدانهم آلاماً عظيمة من غير إدخال النار مع أنه تعالى أدخلهم النار.
السؤال الثاني:الجلود العاصية إذا احترقت، فلو خلق الله مكانها جلوداً أخرى وعذبها كان هذا تعذيباً لمن لم يعص وهو غير جائز؟ والجواب: هنا وجوه، منها : أن يجعل النضج غير النضيج، فالذات واحدة والمتبدل هو الصفة، فإذا كانت الذات واحدة كان العذاب لم يصل إلا إلى العاصي، وعلى هذا التقدير المراد بالغيرية التغاير في الصفة .. المعذب هو الإنسان، وذلك لأن الجلد ما كان جزءً من ماهية الإنسان، فإذا جدد الله الجلد وصار ذلك الجلد الجديد سبباً لوصول العذاب إليه لم يكن ذلك تعذيباً إلا للعاصي.. وكلما ظنوا أنهم احترقوا ونضجوا وانتهوا إلى الهلاك أعطاهم الله قوة جديدة من الحياة بحيث ظنوا أنهم يحدثوا ويجددوا فيكون المقصود من (بدلناهم جلوداً غيرها) بيان دوام العذاب وعدم انقطاعه .. وبنحو هذا كان فهم النيسابوري في تفسيره المسمى( غرائب القرآن ورغائب الفرقان) .
ونعود إلى شهاب الدين الألوسي في تفسيره (روح المعاني)، لنجد يشرح (ليذوقوا العذاب) فيقول: ..
والتعبير عن إدراك العذاب بالذوق من حيث أنه لا يدخله نقصان بدوام الملابسة، أو للإشعار بمرارة العذاب مع إيلامه، أو للتنبيه على شدة تأثيره من حيث أن القوة الذائقة أشد الحواس تأثيراً، أو على سرايته للباطن .
ولعل السر في تبديل الجلود مع قدرته تعالى على إبقاء إدراك العذاب وذوقه بحال مع الاحتراق، أو مع بقاء أبدانهم على حالها مصونة عنه أن النفس ربما تتوهم زوال الإدراك بالاحتراق ولا تستبعد كل الاستبعاد أن تكون مصونة عن التألم والعذاب صيانة بدنها عن الاحتراق .
وقيل : السر في ذلك أن النضج والتبديل نوع إياس لهم وتجديد حزن على حزن.
الشبكة العصبية في الجلد:
الجلد أكبر أعضاء جسم الإنسان، من حيث المساحة، فمتوسط مساحته هو 1.8 متر مربع، وهو يحيط بالجسم كله فيحميه ويكسبه مظهر جميلاً، كما أنه يتلقى المؤثرات الواقعة على الجسم من خارجه، وتظهر عليه انفعالات الجسم.
يتركب الجلد، كما توصلت إليه البحوث الحديثة ـ من ثلاثة طبقات، الخارجية (السطحية) الرقيقة، تسمى البشرة[ Epidermis] والوسطى(المتوسطة)، وتسمى الأدمة [ Dermis]، وهي الجلد الحقيقي، والداخلية (السفلى ) وتسمى النسيج تحت الجلد[ Subcutaneus tissue] وأما البشرة فهي طبقة خالية من الأوعية الدموية،وتقوم بحماية الجسم من التأثيرات الخارجية والصدمات. وهي أرق طبقات الجلد، وإن كانت تتألف من أربع طبقات ثانوية، بالإضافة إلى طبقة خامسة في مناطق مثل راحة اليد وباطن القدم، وتسمى "الطبقة الصافية" أي : " الطبقة الرائقة" .
وأما الأدمة فتحتوي أوعية دموية، وغدد عرقية، وبصيلات الشعر، والنهايات العصبية المستقبلة للألم والشعور بالحرارة والبرودة واللمس وخلافه، كما أنها هي التي تحدد " تخانة" الجلد في مناطق مثل: راحة اليد وباطن القدم. وتتراوح تخانة الجلد بين 2/1 ـ 5 ملليميترات، حسب مناطق الجسم.
وهكذا يتضح بالتشريح الدقيق للجلد وجود شبكة من الألياف العصبية، توجد بها نهايات عصبية حرة، في طبقات الجلد، وتقوم هذه النهايات باستقبال جميع المؤثرات الواقعة على الجلد من البيئة الخارجية المحيطة به، من درجة حرارة، إلى رطوبة، إلى ضغط، إلى لمس، إلى ألم .. الخ ..
كما تتحمل هذه الشبكة العصبية المسؤولية في تنظيم عمل المكونات الأخرى الموجودة بالجلد، مثل : الغدد الجلدية وأجربة [ Follicles] الشعر والأوعية الدموية [ Blood vessels] .
ومما يذكر في هذا المقام أن الطبقة السفلى " تحت الأدمة " غنية بالنهايات العصبية المسئولة عن الإحساس بالضغط لكنها ـ أي : أن الطبقة السفلى ـ فقيرة في مستقبلات الألم واللمس وتتبادل هذه النهايات العصبية [ المستقبلات ـ Receptors]الألم والشعور به، وفيها المسئول عن اللمس " الاحتكاك " والضغط .. الخ .
وخلاصة القول : إن الجلد عضو إحساس من الطراز الأول، وجه خريطة مدهشة من الأعصاب، لم يتم الكشف عنها إلا في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، بعد تقدم وسائل البحوث الحديثة في كل من علم التشريح[ Anatomy]، وعلم الأنسجة [ Histology] وغيرها من العلوم.
إننا لن نفصل القول في الآلية (الميكانيكية) التي تعمل بها الأعصاب في جسم الإنسان، فمن يريد هذا التفصيل عليه مطالعة الكتب الطبية، ولسوف نوجز فنقول : إن هذه المستقبلات الحسية المنتشرة في طبقات الجلد تستقبل المؤثرات البيئية الواقعة عليها طوال اليوم، ويتحول كل مؤثر (حرارة أو لمس أو ضغط أو كي أوغيرها) إلى نبضات كهربائية [ Electric impulses] بداخل الأعصاب التي توجد هذه المستقبلات بأطرافها، وتنتشر وتنتقل هذه النبضات على امتداد هذه الأعصاب إلى الدماغ (المخ ) ـ وهو المركز الرئيسي في الجهاز العصبي للإنسان ـ فتتم ترجمة المؤثر المستقبل [ Received stimulus] وبيان نوعه، وتحديد الاستجابة [ Response] المناسب تجاهه، إن كانت بالسلب أم بالإيجاب. أما في الأولى فتنفعل عضلات الإنسان لإبعاده عن موقع المؤثر السيئ، وأما في الثانية فتنفعل عضلاته نحو هذا المؤثر وتقترب منه أكثر.
ويستطيع الإنسان أن يشعر بالمؤثر الواقع على الجلد طالما يقع هذا المؤثر داخل حدود معينة من الشدة [ التردد ـ Frequency] ، فإذا انخفضت شدته عن الحد الأدنى لم يشعر به الجلد، وإذا ارتفعت شدته عن الحد الأقصى شعر الجلد بألم، وقد ترتفع شدة المؤثر بدرجات كبيرة فتكون استجابة الجلد عنيفة وتؤدي إلى حدوث صدمة أو هبوط في الدورة الدموية وفقدان للوعي.
وبالطبع، فإن هناك أجهزة أخرى غير الجلد يصيبها الإعياء والهبوط الوظيفي والتوقف عن العمل نتيجة تألم الجلد، أي : استجابته للمؤثر الواقع عليه، ولكن يبقى الجلد هو العضو الوحيد في جسم الإنسان المسئول عن الشعور بالألم .
عندما يتعرض الجلد للإحراق فإنه يتألم، أي : ينقل الإحراق (كمؤثر) إلى الدماغ فيترجمه، وتكون النتيجة هي شعور الجسم بالألم وإذا كان الحرق من الدرجة الأولى (سطحي) تلتهب الطبقة الخارجية للجلد وتحمر ويتورم الجلد، ويصحب هذا آلام موضعية شديدة نتيجة لتأثير الحرق في الألياف العصبية، وتحدث هذه الحروق ـ مثلاًـ نتيجة التعرض فترة طويلة للشمس المباشرة ساعات الظهيرة.
وإذا كان الحرق من الدرجة الثانية(أدمي) يشتد الألم لدرجة أن الجسم يفقد من السوائل ويتأثر ضغط الدم الشرياني وتتضرر الدورة الدموية، وقد يصاب الجسم بصدمة عنيفة. ويلاحظ في هذه الدرجة تكون أكياس مائية مختلفة الأحجام على البشرة، وقد تتمزق بسهولة، لتخرج سائلاً ملحياً، أو تنزف دماً.
وإذا كان الحرق من الدرجة الثالثة (تحت الجلدي) فإن الحرارة الشديدة للحرق تؤدي إلى حدوث تلف شديد للطبقات العميقة بالجلد والأنسجة المجاورة، وتؤدي أيضاً إلى التفحم الجلدي، واضطراب وظائف العظام والعضلات، كما تؤدي إلى تجلط بروتينات الألياف العصبية، وتكون النتيجة هي توقف هذه الألياف عن العمل، أي : لا تكون قادرة على الإحساس بالمؤثر (الحرق)، وبالتالي يتوقف شعور الإنسان بالألم..!!
http://www.55a.net/images/skin/skin-burn.gif
صورة تبين طبقات الجلد ونوع الحرق بحسب الطبقة التي يتلفها درجة (4،3،2،1)
تذكر الآيات القرآنية التي مرت معنا في الصفحات الأولى من لقائنا الحالي بصيغة الجمع دائماً، وليس بصيغة المفرد، وفي هذه إشارة علمية عظيمة كشف العلم الحديث عنها وخلاصتها:
[1] خلايا الجلد أسرع انقساماً من غيرها من الجلد .
[2] خلايا الجلد أسرع تغيراً وتبدلاً من غيرها من الخلايا، وقد يتغير الجلد في مساحة معينة منه تغيراً كاملاً في فترة وجيزة.
[3] يتغير تركيب الجلد من مكان لآخر على سطح الجسم الواحد، فجلد جفون العيون يختلف عن جلد قناة الأذن الخارجية، ويختلف عن جلد باطن اليد، ويختلف عن جلد باطن القدم .. الخ .
[4] وهكذا تكسو الإنسان مجموعة من الجلد وليس جلد واحد، سواء من حيث المكان (على سطح الجسم)، أم الزمان (التبدل والتغير)، وهكذا، تظهر الإشارة العلمية بجلاء.
لقد عبر القرآن العظيم عن فقدان الجلد لتوصيل المؤثرات الواقعية عليه بلفظة (النضج)، والنضج علمياً هو(تجلط) أو (تخثر) بروتينات الألياف العصبية (في حالة حروق الدرجة الثالثة) نتيجة تعمق المؤثر وتغلغله إلى الطبقة تحت الجلدية، وذلك لشدته العنيفة.
http://www.55a.net/images/skin/im-37.gif
صورة لطبقة جلد تعرضت لحرق وتم تجلط بروتينات الألياف العصبية فتعطل الحس
ولما كان المقصود هو إذاقة العذاب للكافرين في جهنم، استلزم هذا تجديد طبقات الجلد مرة أخرى ليشعر الإنسان بالألم، فإذا ازداد الإحراق، وتعمق أثره وتجلطت بروتينات الألياف العصبية السفلية، وفقد الإنسان القدرة على الإحساس بالألم، تكرر تجديد الجلد بكافة طبقاته، ليتكرر شعور الإنسان بالألم.. وهكذا، وكما عبرت عنه الآية الخامسة والستين في سورة النساء بالضبط: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ) .
والحكمة المقصودة هي : (ليذوقوا العذاب) .
وهكذا يشير القرآن في هذه الآية إلى حقيقة علمية لم يتوصل العلماء إلى معرفتها إلا حديثاً، بعدما تقدمت علوم التشريح والأنسجة، واخترعت أجهزة التكبير والقياس، فالآية تشير إلى مراكز الإحساس في الجلد، وتشير إلى وجود البروتينات التي تتجلط بحرارة النار الشديدة.
نتناول الآن نصاً قرآنياً ورد في سورة الحج، يتحدث عن عذاب الكفار في نار جنهم أيضاً، وفيه إشارة إلى (نضج) الجلود، وإن لم يصرح بها، ذلك النص القرآني هو قول الله تعالى : (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ) [سورة الحج:19].
وخلاصة ما شرح به جمهور من المفسرين، كابن كثير والنيسابوري والنسفي والألوسي والبيضاوي وابن عجيبة والفخر الرازي، هذا النص القرآني الكريم، هو أن هناك فريقان، أن فوجان، أو طائفتان، اختلفوا في دين الله وصفاته، هما طائفة الكفار( ويشملهم جميعاً) وطائفة المؤمنين، فكان الفصل هو إنزال العقاب وشديد العذاب بالكفار هكذا: (قطعت لهم ثياب) يعني أن الله يقدر لهم نيراناً على مقادير جثثهم تشتمل عليهم كما تقطع " وتفصل " الثياب الملبوسة. وفي الكلام استعارة تمثيلية تهكمية وليس هناك تقطيع ولا تفصيل ولا ثياب. والمراد بالثياب هنا إحاطة النار بهم. وجاء الكلام بلفظ الماضي لأن ما كان من أمر الآخرة فهو كالواقع .
و(يُصهَر)، أي : يذاب، والمعنى أن الحميم (وهو الماء الحار العنيف الحرارة) تنزل فوق رؤوسهم فيخترقها ويسقط في أجوافهم فيهلك أمعاءهم وأحشاءهم كما يتلف جلودهم، وقرئت " يصهر " بفتح الصاد وتشديد الهاء المفتوحة للمبالغة، وقيل إن " يصهر" بمعنى " ينضج "، وقيل : التقدير هنا هو( ويحرق الجلود)، لأن الجلود لا تذوب .
والحميم ـ على النحو المذكور في هذه الآية ـ يذيب جميع المحتوى الداخلي للأجسام، وهذا أشد مما ذكر في آية قرآنية أخرى يقول الله سبحانه وتعالى فيها : (وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ) [سورة محمد "15] فلا بد إذن من تقطيع الأمعاء أو تثقيبها، لأن الحميم لا يؤلمها إلا إذا ثقبت من تقطيع الأمعاء أو تثقيبها، لأن الحميم لا يؤلمها إلا إذا ثقبت فيخرج منها ويؤثر في مراكز الإحساس بالحرارة الزائدة، كما أن الحميم لا يؤلم إلا بوجود جلد، لأن فيه توجد مراكز ومستقبلات الإحساس بالحرارة الشديدة، ولذلك جاءت (من وجهة النظر العلمية) لفظة "والجلود" في نهاية الآية [20] من سورة الحج، عُقيب " بطونهم" .
وهناك علاقة بين حروق الجلود وتلف الأحشاء، ونلاحظ هذا في الآيتين القرآنيتين : (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ)[سورة الحج:19].
مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ فمع صب الحميم فوق الرؤوس وإغراقه لجلد الجسم العام، وإتلافه للجلد، فإن هذا التلف الذي هو في شكل حروق مدمرة تؤدي إلى حدوث اضطرابات وظيفية عنيفة في الجهاز الهضمي، يتبعها حدوث شلل للأمعاء وتمدد حاد لجدار المعدة، ثم ظهور تقرحات عنيفة فيها وفي الإثني عشر، ثم حدوث ثقوب في القناة الهضمية ونزيف داخلي كالذي يحدث عند ابتلاع مادة كاوية، وكذلك حدوث انتفاخ ضبابي للكبد نتيجة تراكم المواد السامة المتخلفة عن احتراق الأنسجة، وكذلك نقص الأكسجين والدم الواصلين إليه.
وإضافة إلى هذا، فهناك تأثير لإحراق الجلود في التنفس ونلاحظ هذا في الآية القرآنية : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ)[سورة هود:106] .
وهذا ما توصل إليه العلم الحديث، فلقد اكتشف العلماء تغيرات وظيفية (فسيولوجية) تطرأ على الجهاز التنفسي نتيجة لحروق الجلد العنيفة، مما يؤدي إلى اختلاف المعادلة الوظيفية التي تحكم نسبة التهوية /التروية [ Ventilation – perfusion ratio].
وكذلك، فإن احتراق الجلد يسبب تلف القلب، ونلاحظ هذا في قول الله تعالى : (كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ {4}وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ {5} نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ {6} الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ {7} إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ)[سورة الهمزة].
..) وفيه يقول الفخر الرازي (في تفسير الكبير) : " نار الله " الإضافة (أي : إضافة النار إلى الله، أي نسبتها إليه)، للتفخيم، أي : هي نار لا كسائر النيران. " الموقدة " : التي لا تخمد أبداً، أو " الموقد" بأمره أو بقدرته. ومنه قول الصحابي الجليل علي عليه السلام : عجباً ممن يعصي الله على وجه الأرض والنار تسعر من تحته.. وفي الحديث النبوي: (أوقد عليها ألف سنة حتى احمرت، ثم ألف سنة حتى أبيضت، ثم ألف سنة حتى أسودت، فهي الآن سوداء مظلمة )، وإن كان فيه هذا النص النبوي إعجاز علمي فهو في باب " الفيزياء " وليس مجاله هنا.
ويقول الفخر الرازي : أما قوله تعالى : (التي تطلع على الأفئدة)، فأعلم أنه يقال : طلع الجبل، واطلع عليه، إذا علاه. وفي تفسير الآية يقول : إن النار تدخل في أجوافهم، حتى تصل إلى صدورهم وتطلع على أفئدتهم، ولا شيء في بدن الإنسان ألطف من الفؤاد (والفخر الرازي يقصد به القلب العضلي)، ولا أشد تألماً منه بأدنى أذى يماسه، فكيف إذا اطلعت نار جهنم واستولت عليه !! ثم إن الفؤاد مع استيلاء النار عليه لا يحترق، إذ لو احترق لمات، وهذا هو المراد (يقصد المعنى ) من قوله: (لا يموت فيها ولا يحيى )، ومعنى الإطلاع هو أن النار تنزل من اللحم إلى الفؤاد.. وأعلم أنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن النار تأكل أهلها حتى إذا اطلعت على أفئدتهم انتهت، ثم إن الله تعالى يعيد لحمهم وعظمهم مرة أخرى .
ويضيف العلم الحديث توضيحاً إلى هذا التفسير وما شابهه من تفسيرات للآية القرآنية، فلقد اكتشف العلماء حدوث تغيرات كبيرة في الفؤاد (القلب) والجهاز الدوراني بجسم المحروق، منها : هبوط انقباضية الفؤاد، هبوط في جانبه الأيسر، أو في جانبه الأيمن، أو في كليهما معاً، كما تحدث تغيرات ضارة جداً في سوائل الدم وخلاياه.
وبعد، فلنعد إلى الآية الأساسية لموضوعنا الحالي، تؤكد أن اللفظة القرآنية المعجزة " نضجت " [في الآية 56من سورة النساء ] ستظل باقية على مر الزمان، وشاهد بالإشارة إلى حقيقة علمية لم يتوصل العلماء إليها سوى في العصر الحديث فقط، ألا وهي تجلط (تخثر) بروتينات النهايات العصبية في الطبقة الجلدية السفلى بفعل الحرارة الشديدة.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن قارئاً ولا كاتباً، فكيف جاء بهذه الحقيقة العلمية، كيف به يتحدث عن خصائص الأعصاب الحسية ووظائف مراكز الحس بالألم الموجود في الجلد، إنه بلا شك رسول يتلقى الوحي من الله الخالق العظيم، وما تلقاه بلا شك كتاب عظيم هو القرآن، وحي الله الذي ختم به حلقات اتصال السماء بالأرض، ولذلك أودع فيه أسرار لن تنتهي إلى يوم القيامة .
http://www.55a.net/firas/arabic/?page=show_det&id=515&select_page=2
بقلم الدكتور كارم غنيم
رئيس جمعية الإعجاز العلمي للقرآن في القاهرة