أبو عبد الرحمن الشهري
10-01-2004, 10:23 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيسرني أن أتقدم إليكم أيها الحاضرون الكرام بمحاضرة عنوانها (آيات الأنبياء وأثرها في المجتمع).
تمهيد
خلق الله تعالى آدم عليه الصلاة والسلام بيده من تراب، ثم سواه ونفخ فيه من روحه، وعلمه الأسماء كلها، وأسجد له ملائكته، وركب فيه العقل، وخلق له زوجته حواء، فبث منهما رجالاً كثيراً ونساء، ومن هنا ابتدأ خلق البشر، وانتشروا في الأرض، وكانوا يتعبدون بما أوحاه الله إلى أبيهم من الوحي والتشريع المناسب في ذلك الوقت، ولم يكن هناك شيء يفتنهم عما كان يعبد به أبوهم ويقتدون به فيه، ولما طال الزمن، وتباعد النسل، وانتشر العمران في الأرض، وتنافس الناس في الدنيا حصل الاختلاف بينهم والانحراف عن طريقة أبيهم فبعث الله الرسل، وكان أول رسول إلى أهل الأرض نوحاً عليه الصلاة والسلام قال الله تعالى: ]كان الناس أمة واحدة ـ أي على دين واحد فاختلفوا ـ فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس في ما اختلفوا فيه[(1) قال ابن عباس ـ رضي الله عنهماـ: كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق واختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.
حكمة إرسال الرسل
لما كان العقل البشري لا يتمكن من عبادة الله تعالى على الوجه الذي يرضاه ويحبه، وكذلك لا يستطيع التنظيم والتشريع المناسب للأمة على اختلاف طبقاتها إذ لا يحيط بذلك إلا الله وحده، كان من حكمة الله ورحمته أن أرسل الرسل، وأنزل الكتب لإصلاح الخلق، وإقامة الحجة عليهم قال الله تعالى: ]رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل[(1) فحكمة إرسال الرسل تتلخص في:
الأول: إقامة الحجة على الخلق حتى لا يحتج أحد على الله فيقول : ]لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى[(2) لقد قطع الله هذه الحجة من أساسها بإرسال الرسل وتأييدهم بالآيات البينات الدالة على صدقهم، وصحة نبوتهم، وسلامة طريقتهم.
الثاني: توجيه الناس وإرشادهم لما فيه الخير والصلاح لهم في دينهم ودنياهم، فإن الناس مهما أوتوا من الفهم، والعقل، والذكاء لا يمكنهم أن تستقل عقولهم بالتنظيم العام المصلح للأمة بأكملها كأمة متماسكة متكافئة متساوية في إعطاء ذي الحق حقه قال النبي، صلى الله عليه وسلم: "مثلي كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش ـ وهي الدواب التي تقع في النار ـ يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيها فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنت تقتحمون فيها". رواه البخاري، فالرسل يذودون الناس عما يضرهم ويدعونهم إلى ما ينفعهم.
الثالث: جمع الأمة على دين واحد ورجل واحد فإن انقياد الناس لما يشاهدونه من الآيات المؤيدة للأنبياء أسرع وأقوى وأشد تماسكاً فإنهم يجتمعون عليه عن عقيدة راسخة وإيمان ثابت فيحصل الصلاح والإصلاح.
تأييد الرسل بالآيات وكونها من جنس ما شاع في عصرهم
لو جاءنا رجل من بيننا وقال: إنه نبي يوحى إليه، وإن طاعته فرض، وإن من عصاه فله النار، ومن أطاعه فله الجنة، ثم نظم قوانين، وسن سنناً وقال: امشوا على هذه النظم وإلا فلكم النار ما كان أحد ليقبل منه مهما بلغ في الصدق، والأمانة حتى يأتي ببرهان يدل على صدقه فلو رد أحد دعوة هذا المدعي الذي لم يأت ببرهان على صدقه ما كان ملوماً، فالقضية التي تسلم بها العقول: أن المدعي عليه البينة، وإلا فلا يجب قبول ما ادعاه.
وإتماماً لإقامة الحجة بالرسل على الخلق أيد الله رسله بالآيات المبينات الدالة على صدقهم، وأنهم رسل الله حقاً، فاصطفى للرسالة من الناس من يعلم أنه أهل للرسالة، وكفؤ لها، ويستطيع القيام بأعبائها والصبر على مكايد أعدائها ]الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس إن الله سميع بصير[(1) ]الله أعلم حيث يجعل رسالته[(2). فاصطفى الرجال الكمل الأقوياء أهل الحضارة، واللين، والفهم ]وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى[(3)، أي: أهل المدن، فإن القرية هي المدينة كما سمى الله مكة قرية ]وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك[(4) وسماها أم القرى ]لتنذر أم القرى ومن حولها[(5).
وما بعث الله رسولاً إلا أيده بالآيات الدالة على صدق رسالته وصحة دعواه قال الله تعالى: ]لقد أرسلنا رسلنا بالبينات[(6) أي: بالآيات البينات الواضحات، التي لا تدع مجالاً للشك في صدق ما جاء به الرسول المرسل. قال النبي، صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر". رواه البخاري ومسلم.
وهذا من حكمة الله العليا، ورحمته بعباده أن أيد الرسل بالآيات لئلا يبقى أمرهم مشكلاً، فيقع الناس في الحيرة، والشك، ولا يطمئنون إلى ما جاؤوا به.
وهذه الآيات التي جاءت بها الرسل لابد أن تكون خارجة عن طوق البشر، إذ لو كانت في استطاعتهم ما صح أن تكون آية لإمكان البشر أن يدعي الرسالة ويأتي بها إذا كانت تحت قدرته، ولكن آيات الرسل لا يمكن للبشر أن يأتوا بمثلها، وقد جاءت كبريات الآيات من جنس ما برز به أهل العصر الذي بعث فيه ذلك الرسول كما قرر ذلك أهل العلم واستشهدوا على ذلك بآيات موسى، وعيسى، ومحمد عليهم الصلاة والسلام، فإن عهد موسى، صلى الله عليه وسلم ، ترقى فيه السحر، حتى بلغ السحرة الغاية في المهارة، والحذق فكان من أكبر الآيات التي جاء بها موسى ما يربو على فعل السحرة وهو يشبه في ظاهره السحر وإن كان يختلف اختلافاً كبيراً لأن ما جاء به موسى حقيقة ما يراه الناظر بخلاف السحر فإنه يخيل للناظر وليست حقيقته كما يراه ، فكان من الآيات التي جاء بها موسى عصاه التي يلقيها فتكون حية ـ ثعباناً ـ ويأخذها فتعود في يده عصاه الأولى، وقد ألقاها عند فرعون حين دعاه إلى الإيمان بالله، وكذلك كان موسى يدخل يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء، أي: من غير عيب، وبرص، وقد أخرجها كذلك عند فرعون حين دعاه إلى الإيمان بالله، فلما رأى فرعون هاتين الآيتين كابر وقال للملأ حوله: ]إن هذا لساحر عليم . يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون[(7) وقد ألقى موسى عصاه كذلك عندما ألقى السحرة حبالهم، وعصيهم في المجتمع العظيم الذي قرره موسى حين طلب فرعون أن يجعل بينه وبينه موعداً ليغالبه في سحره كما زعم فلما اجتمع العالم والسحرة وألقوا حبالهم وعصيهم، وقالوا: بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون فجاؤوا بسحر عظيم، حتى كانت تلك الحبال، والعصي يخيل إلى رائيها أنها تسعى، فألقى موسى عصاه بأمر الله تعالى فإذا هي تلقف ما يأفكون فتلتهم هذه الحبال والعصي عن آخرها، فعلم السحرة وهم أهل السحر وأعلم الناس به أن ما جاء به موسى ليس بسحر، وإنما هو من الأمور التي لا يمكن للبشر معارضتها فألقي السحرة ساجدين قالوا : آمنا برب العالمين رب موسى وهارون.
وكذلك كان لهذه العصا مجال آخر حينما كان موسى يستسقي لقومه فيضرب بها الحجر فيتفجر منه اثنتا عشرة عيناً بقدر قبائل بني إسرائيل.
وكان لها مجال آخر أيضاً حينما وصل موسى وقومه إلى البحر وخلفهم فرعون بجنوده، فأوحى الله إليه أن أضرب بعصاك البحر، فضربه فانفلق اثني عشر طريقاً فسلكه موسى وقومه فنجوا.
وفي زمن عيسى عليه الصلاة والسلام كان علم الطب مترقياً إلى حد كبير، فجاءت آياته بشكل ما كان مترقياً في عهده من الطب إلا أنه أتى بأمر لا يستطيع الطب مثله، فكان يخلق من الطين صورة كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيراً يطير بإذاً الله والناس يشاهدون ذلك، وكان أيضاً يبرئ الأكمه وهو الذي خلق أعمى، ويبرئ الأبرص بإذاً الله تعالى وهذان المرضان من الأمراض التي لا يستطيع الأطباء في ذلك الوقت وإلى هذا الوقت فيما أعلم أن يبرئوهما، بل قال بعض العلماء: إنه إنما سمي المسيح لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ، وذكر في القرآن أن عيسى يحيي الموتى بإذاً الله، وفي آية أخرى يخرج الموتى وهذان عملان مختلفان العمل الأول إحياء الموتى قبل دفنهم والثاني إحياؤهم وإخراجهم من قبورهم بعد الدفن، ولا ريب أن هذه الآيات التي أعطيها عيسى عليه الصلاة والسلام يعجز عن مثلها البشر فتأييده بها دليل وبرهان على أنه رسول من الله الخالق القادر عليها.
وقد يؤيد الله الرسل بآيات أخرى، ولكن أبرز الآيات وأعظمها يكون من جنس ما شاع في عصر الرسول، ولذا أيد الله رسوله محمداً، صلى الله عليه وسلم ، بآيات كثيرة أبرزها وأعظمها هذا القرآن الكريم هو كلام رب العالمين، لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، لأنه شاع في عصر النبي، صلى الله عليه وسلم ، فن البلاغة، والفصاحة، وصار البيان والفصاحة معترك الفخر والسيادة كما يعلم ذلك من تتبع التاريخ.
منقول من فتاوى الشيخ ابن عثيمين المجلد الخامس
متابعة إشرافية
المشرف 1
الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيسرني أن أتقدم إليكم أيها الحاضرون الكرام بمحاضرة عنوانها (آيات الأنبياء وأثرها في المجتمع).
تمهيد
خلق الله تعالى آدم عليه الصلاة والسلام بيده من تراب، ثم سواه ونفخ فيه من روحه، وعلمه الأسماء كلها، وأسجد له ملائكته، وركب فيه العقل، وخلق له زوجته حواء، فبث منهما رجالاً كثيراً ونساء، ومن هنا ابتدأ خلق البشر، وانتشروا في الأرض، وكانوا يتعبدون بما أوحاه الله إلى أبيهم من الوحي والتشريع المناسب في ذلك الوقت، ولم يكن هناك شيء يفتنهم عما كان يعبد به أبوهم ويقتدون به فيه، ولما طال الزمن، وتباعد النسل، وانتشر العمران في الأرض، وتنافس الناس في الدنيا حصل الاختلاف بينهم والانحراف عن طريقة أبيهم فبعث الله الرسل، وكان أول رسول إلى أهل الأرض نوحاً عليه الصلاة والسلام قال الله تعالى: ]كان الناس أمة واحدة ـ أي على دين واحد فاختلفوا ـ فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس في ما اختلفوا فيه[(1) قال ابن عباس ـ رضي الله عنهماـ: كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق واختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.
حكمة إرسال الرسل
لما كان العقل البشري لا يتمكن من عبادة الله تعالى على الوجه الذي يرضاه ويحبه، وكذلك لا يستطيع التنظيم والتشريع المناسب للأمة على اختلاف طبقاتها إذ لا يحيط بذلك إلا الله وحده، كان من حكمة الله ورحمته أن أرسل الرسل، وأنزل الكتب لإصلاح الخلق، وإقامة الحجة عليهم قال الله تعالى: ]رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل[(1) فحكمة إرسال الرسل تتلخص في:
الأول: إقامة الحجة على الخلق حتى لا يحتج أحد على الله فيقول : ]لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى[(2) لقد قطع الله هذه الحجة من أساسها بإرسال الرسل وتأييدهم بالآيات البينات الدالة على صدقهم، وصحة نبوتهم، وسلامة طريقتهم.
الثاني: توجيه الناس وإرشادهم لما فيه الخير والصلاح لهم في دينهم ودنياهم، فإن الناس مهما أوتوا من الفهم، والعقل، والذكاء لا يمكنهم أن تستقل عقولهم بالتنظيم العام المصلح للأمة بأكملها كأمة متماسكة متكافئة متساوية في إعطاء ذي الحق حقه قال النبي، صلى الله عليه وسلم: "مثلي كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش ـ وهي الدواب التي تقع في النار ـ يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيها فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنت تقتحمون فيها". رواه البخاري، فالرسل يذودون الناس عما يضرهم ويدعونهم إلى ما ينفعهم.
الثالث: جمع الأمة على دين واحد ورجل واحد فإن انقياد الناس لما يشاهدونه من الآيات المؤيدة للأنبياء أسرع وأقوى وأشد تماسكاً فإنهم يجتمعون عليه عن عقيدة راسخة وإيمان ثابت فيحصل الصلاح والإصلاح.
تأييد الرسل بالآيات وكونها من جنس ما شاع في عصرهم
لو جاءنا رجل من بيننا وقال: إنه نبي يوحى إليه، وإن طاعته فرض، وإن من عصاه فله النار، ومن أطاعه فله الجنة، ثم نظم قوانين، وسن سنناً وقال: امشوا على هذه النظم وإلا فلكم النار ما كان أحد ليقبل منه مهما بلغ في الصدق، والأمانة حتى يأتي ببرهان يدل على صدقه فلو رد أحد دعوة هذا المدعي الذي لم يأت ببرهان على صدقه ما كان ملوماً، فالقضية التي تسلم بها العقول: أن المدعي عليه البينة، وإلا فلا يجب قبول ما ادعاه.
وإتماماً لإقامة الحجة بالرسل على الخلق أيد الله رسله بالآيات المبينات الدالة على صدقهم، وأنهم رسل الله حقاً، فاصطفى للرسالة من الناس من يعلم أنه أهل للرسالة، وكفؤ لها، ويستطيع القيام بأعبائها والصبر على مكايد أعدائها ]الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس إن الله سميع بصير[(1) ]الله أعلم حيث يجعل رسالته[(2). فاصطفى الرجال الكمل الأقوياء أهل الحضارة، واللين، والفهم ]وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى[(3)، أي: أهل المدن، فإن القرية هي المدينة كما سمى الله مكة قرية ]وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك[(4) وسماها أم القرى ]لتنذر أم القرى ومن حولها[(5).
وما بعث الله رسولاً إلا أيده بالآيات الدالة على صدق رسالته وصحة دعواه قال الله تعالى: ]لقد أرسلنا رسلنا بالبينات[(6) أي: بالآيات البينات الواضحات، التي لا تدع مجالاً للشك في صدق ما جاء به الرسول المرسل. قال النبي، صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر". رواه البخاري ومسلم.
وهذا من حكمة الله العليا، ورحمته بعباده أن أيد الرسل بالآيات لئلا يبقى أمرهم مشكلاً، فيقع الناس في الحيرة، والشك، ولا يطمئنون إلى ما جاؤوا به.
وهذه الآيات التي جاءت بها الرسل لابد أن تكون خارجة عن طوق البشر، إذ لو كانت في استطاعتهم ما صح أن تكون آية لإمكان البشر أن يدعي الرسالة ويأتي بها إذا كانت تحت قدرته، ولكن آيات الرسل لا يمكن للبشر أن يأتوا بمثلها، وقد جاءت كبريات الآيات من جنس ما برز به أهل العصر الذي بعث فيه ذلك الرسول كما قرر ذلك أهل العلم واستشهدوا على ذلك بآيات موسى، وعيسى، ومحمد عليهم الصلاة والسلام، فإن عهد موسى، صلى الله عليه وسلم ، ترقى فيه السحر، حتى بلغ السحرة الغاية في المهارة، والحذق فكان من أكبر الآيات التي جاء بها موسى ما يربو على فعل السحرة وهو يشبه في ظاهره السحر وإن كان يختلف اختلافاً كبيراً لأن ما جاء به موسى حقيقة ما يراه الناظر بخلاف السحر فإنه يخيل للناظر وليست حقيقته كما يراه ، فكان من الآيات التي جاء بها موسى عصاه التي يلقيها فتكون حية ـ ثعباناً ـ ويأخذها فتعود في يده عصاه الأولى، وقد ألقاها عند فرعون حين دعاه إلى الإيمان بالله، وكذلك كان موسى يدخل يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء، أي: من غير عيب، وبرص، وقد أخرجها كذلك عند فرعون حين دعاه إلى الإيمان بالله، فلما رأى فرعون هاتين الآيتين كابر وقال للملأ حوله: ]إن هذا لساحر عليم . يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون[(7) وقد ألقى موسى عصاه كذلك عندما ألقى السحرة حبالهم، وعصيهم في المجتمع العظيم الذي قرره موسى حين طلب فرعون أن يجعل بينه وبينه موعداً ليغالبه في سحره كما زعم فلما اجتمع العالم والسحرة وألقوا حبالهم وعصيهم، وقالوا: بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون فجاؤوا بسحر عظيم، حتى كانت تلك الحبال، والعصي يخيل إلى رائيها أنها تسعى، فألقى موسى عصاه بأمر الله تعالى فإذا هي تلقف ما يأفكون فتلتهم هذه الحبال والعصي عن آخرها، فعلم السحرة وهم أهل السحر وأعلم الناس به أن ما جاء به موسى ليس بسحر، وإنما هو من الأمور التي لا يمكن للبشر معارضتها فألقي السحرة ساجدين قالوا : آمنا برب العالمين رب موسى وهارون.
وكذلك كان لهذه العصا مجال آخر حينما كان موسى يستسقي لقومه فيضرب بها الحجر فيتفجر منه اثنتا عشرة عيناً بقدر قبائل بني إسرائيل.
وكان لها مجال آخر أيضاً حينما وصل موسى وقومه إلى البحر وخلفهم فرعون بجنوده، فأوحى الله إليه أن أضرب بعصاك البحر، فضربه فانفلق اثني عشر طريقاً فسلكه موسى وقومه فنجوا.
وفي زمن عيسى عليه الصلاة والسلام كان علم الطب مترقياً إلى حد كبير، فجاءت آياته بشكل ما كان مترقياً في عهده من الطب إلا أنه أتى بأمر لا يستطيع الطب مثله، فكان يخلق من الطين صورة كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيراً يطير بإذاً الله والناس يشاهدون ذلك، وكان أيضاً يبرئ الأكمه وهو الذي خلق أعمى، ويبرئ الأبرص بإذاً الله تعالى وهذان المرضان من الأمراض التي لا يستطيع الأطباء في ذلك الوقت وإلى هذا الوقت فيما أعلم أن يبرئوهما، بل قال بعض العلماء: إنه إنما سمي المسيح لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ، وذكر في القرآن أن عيسى يحيي الموتى بإذاً الله، وفي آية أخرى يخرج الموتى وهذان عملان مختلفان العمل الأول إحياء الموتى قبل دفنهم والثاني إحياؤهم وإخراجهم من قبورهم بعد الدفن، ولا ريب أن هذه الآيات التي أعطيها عيسى عليه الصلاة والسلام يعجز عن مثلها البشر فتأييده بها دليل وبرهان على أنه رسول من الله الخالق القادر عليها.
وقد يؤيد الله الرسل بآيات أخرى، ولكن أبرز الآيات وأعظمها يكون من جنس ما شاع في عصر الرسول، ولذا أيد الله رسوله محمداً، صلى الله عليه وسلم ، بآيات كثيرة أبرزها وأعظمها هذا القرآن الكريم هو كلام رب العالمين، لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، لأنه شاع في عصر النبي، صلى الله عليه وسلم ، فن البلاغة، والفصاحة، وصار البيان والفصاحة معترك الفخر والسيادة كما يعلم ذلك من تتبع التاريخ.
منقول من فتاوى الشيخ ابن عثيمين المجلد الخامس
متابعة إشرافية
المشرف 1