د. محمود عبد الرازق الرضواني
04-16-2005, 12:24 PM
إلى الراغبين في دراسة عقيدة السلف في القضاء والقدر وكيف تكون علاجا
شافيا لكل حائر ، وردا كافيا لكل شبهة .
مجموعة محاضرات
للدكتور محمود عبد الرازق الرضواني
يتابعها بنفسه مع طلاب العلم الرغبين في دراسة عقيدة السلف في القضاء والقدر
أولا : بسم الله الرحمن الرحيم
مراتب القدر - المحاضرة الأولى
المرتبة الأولى العلم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الذِي خَلقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلقَ مِنْهَا زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الذِي تَتَساءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَليْكُمْ رَقِيبًا) (النساء/1) (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (الحشر/18) (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلمُون) (آل عمران/102) ، أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
اليوم نتحدث بإذن الله تعالى عن عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان بالقضاء والقدر ومسؤولية الإنسان عن أفعاله ، فمن آثار الإيمان بتوحيد الربوبية إفراد الله بمراتب القضاء والقدر ، مراتب القضاء والقدر من أهم الموضوعات التي استحوذت على فكر الناس وعقيدتهم ، أسئلة كثيرة تدور بينهم ، هل الإنسان مسير في أفعاله مجبور ، أم أنه حر مخير مسئول ؟ هل أفعال العباد مقدرة مكتوبة قبل خلقهم ووجودهم ؟ وإذا كانت الأعمال مقدرة على العباد سلفا فما الفائدة من الاجتهاد والعمل ؟ وهل العمر يطول أو يقصر عند الأخذ بالأسباب مع كونه مكتوبا في أم الكتاب ؟ وهل المقتول مات بأجله ؟ وغير ذلك من التساؤلات التي كثر فيها النقاش ؟ واليوم نبدأ معكم الحديث في هذه المحاضرة عن مراتب القضاء والقدر .
الإيمان بالقدر هو الركن السادس من أركان الإيمان ، فأركان الإيمان حصرها رسول الله صلي الله عليه وسلم في ستة أركان ، روى الإمام مسلم من حديث عبد الله بن عمر أنه قَال: حَدَّثَنِي أَبِي عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ قَال بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُول اللهِ صَلى اللهم عَليْهِ وَسَلمَ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلعَ عَليْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لا يُرَى عَليْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ حَتَّى جَلسَ إِلى النَّبِيِّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلى فَخِذَيْهِ وَقَال يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلامِ فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ الإِسْلامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صَلى اللهم عَليْهِ وَسَلمَ وَتُقِيمَ الصَّلاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ البَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِليْهِ سَبِيلا قَال صَدَقْتَ قَال فَعَجِبْنَا لهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ قَال فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ قَال أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ قَال صَدَقْتَ قَال فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ قَال أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ قَال فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ قَال مَا المَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلمَ مِنَ السَّائِل قَال فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا قَال أَنْ تَلدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا وَأَنْ تَرَى الحُفَاةَ العُرَاةَ العَالةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي البُنْيَانِ قَال ثُمَّ انْطَلقَ فَلبِثْتُ مَليًّا ثُمَّ قَال لي يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ قُلتُ اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلمُ قَال فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلمُكُمْ دِينَكُمْ) .
فأركان الإِيمَانِ التي ذكرها رسول الله لجبريل وهو في صورة الأعرابي أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ، وقد صدقه جبريل على ذلك ، وهذه الأركان حملت في ترتيبها معنا مقصودا ، يراه أصحاب البصيرة مشهودا ، وبين الكلمات موجودا ، فتأخير الركن السادس كان أمرا مقصودا ، فالمعنى الموضوع بين أركان الإيمان ، أن تؤمن بالله الذي أنزل ملائكته بكتبه على رسله ليحذروا العباد من اليوم الآخر ، فإذا انتهى الناس بعد العرض والحساب ، واستقروا في الآخرة للثواب والعقاب ، عندها يتم قدر الله كما ورد في أم الكتاب ، قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وهذه حقيقة الإيمان بالقدر خيره وشره ، فمن حديث عمرو بن العاص رضى الله عنه الذي رواه الإمام مسلم في كتاب القدر أنه قَال: (سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صلي الله عليه وسلم يَقُولُ:كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الخَلائِقِ قَبْل أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِخَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ) .
وروى الإمام مسلم من حديث جابر بن عبد الله أن سُرَاقَة بْنَ مَالكٍ قَال: يَا رَسُول اللهِ بَيِّنْ لنَا دِينَنَا كَأَنَّا خُلقْنَا الآنَ فِيمَا العَمَلُ اليَوْمَ أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلامُ وَجَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ أَمْ فِيمَا نَسْتَقْبِلُ قَال لا بَل فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلامُ وَجَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ قَال فَفِيمَ العَمَلُ ؟ قَال: (فَقَال اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لعَمَلهِ) .
وقبل أن نبد في تفصيل الموضوع لا بد من التنبيه على أن توحيد الربوبية هو أساس الفهم الصحيح لقضية الإيمان بالقضاء والقدر ، فالسلف يؤسسون فهمهم للقضاء والقدر على توحيد الربوبية ، وإفراد الله بالخلقية ، وما يلزم ذلك من صفات الله كالعلم والإدارة والقدرة ، فيستحيل عندهم حدوث شيء أو فعل بدون علمه أو قدرته سبحانه وتعالى ، فلا يخرج عن قدرته مقدور ، ولا ينفك عن حكمه مفطور ، ولا يعذب عن علمه معلوم ، يفعل ما يريد ، ويخضع لحكمه العبيد ، ولا يجرى في سلطانه إلا ما يشاء ، ولا يحصل في ملكه إلا ما سبق به القضاء ، ما علم أنه يكون من المخلوقات أراد أن يكون ، وما علم أنه لا يكون أراد ألا يكون ، فهو سبحانه وتعالى عالم بما كان وما هو كائن وما سيكون وما لو كان كيف يكون .
فمن شروط صحة إيمان العبد أن يصدق بجميع أقدار الله تعالى خيرها وشرها ، أنها من الله تعالى ، سابقة في علمه جارية في خلقه بحكمه ، فلا حول لهم عن معصيته إلا بعصمته ، ولا قوة لهم على طاعته إلا برحمته ، ولا يستطعيون لأنفسهم ضرا ولا نفعا إلا بمشيئته .
فتوحيد الربوبية هو إفراد الله بأفعاله ؟ أو إفراد الله بالخلق والتدبير ، فلا لا خالق إلا الله ، ولا مدبر للكون سواه ، فالرب في اللغة هو من أنشأ الشيء شيئا فشيئا إلى حد التمام ، وهو مبنى على التربية أو إصلاح شئون الآخرين ورعاية أمورهم ، وأول ركن في توحيد الربوبية إفراد الله بالخلق والتقدير والتكوين وإنشاء الشيء من العدم ، ومن ثم إفراده بلوازم ذلك من العلم والمشيئة والقدرة ، والملك والغنى والقوة والإحياء والإبقاء والهداية ، والرزق والإمداد والرعاية ، والإفناء والإماتة والإعادة ، والهيمنة والعزة والإحاطة ، وكل ما يلزم من صفات الذات وصفات الأفعال لتخليق الشيء وتصنيعه ، فالخالق هو الذي يستغنى بنفسه فلا يحتاج إلى غيره ، وأن يحتاج إليه كل من سواه .
ومن اللوازم المترتبة على إفراد الله بالخلق ، إفراده بمراتب القضاء والقدر ، ما المقصود بمراتب القدر ؟ من المعلوم أن المُصَنِّعَ الذي يشيد البنيان لا بد أن يبدأ مشروعه أولا بفكرة في الأذهان ومعلومات مقننة بدقة وإتقان ، درسها جيدا وقام فيها بتقدير حساباته وضبط أموره وإمكانياته ، ثم يقوم بكتابة هذه المعلومات ويخط لها في بضع ورقات أنواعا من الرسومات التي يمكن أن يخاطب من خلالها مختلف الجهات ، ثم يتوقف الأمر بعد ذلك على مشيئته وإرادته في التفيذ وتوقيت الفعل إن توفرت لديه القدرة والإمكانيات ، ثم يبدأ في التنفيذ إلى أن ينتهي البنيان كما قدر له في الأذهان ، فهذه مراحل تصنيع الأشياء بين المخلوقات بحكم العقل والفطرة ، فلا بد لصناعة الشيء من العلم والكتابة والمشيئة ومباشرة التصنيع والفعل ، فالله سبحانه وله المثل الأعلى منفرد بمراتب القضاء والقدر ، وهى عند السلف المراحل التي يمر بها المخلوق من كونه معلومة في علم الله في الأزل إلى أن يصبح واقعا مخلوقا مشهودا ، وهى عندهم أربع مراتب تشمل كل صغيرة وكبيرة في الوجود ، قال ابن قيم الجوزية رحمه الله : مراتب القضاء والقدر التي من لم يؤمن بها لم يؤمن بالقضاء والقدر أربع مراتب: المرتبة الأولى علم الرب سبحانه بالأشياء قبل كونها ، المرتبة الثانية كتابته لها قبل كونها ، المرتبة الثالثة مشيئته لها ، والرابعة خلقه لها .
وسوف نتناول هذه المراتب بشيء من التفصيل لما لها من دور كبير في بيان حقيقة القضاء والقدر ، فالمرتبة الأولى من مراتب القدر هي العلم السابق علم التقدير وحساب المقادير ، تقدير كل شيء قبل تصنيعة وتكوينه ، وتنظيم أمور المخلوقات قبل إيجادها وإمدادها ، فهذا العلم هو التقدير الجامع التام وحساب النظام العام ، الذي يسير عليه الكون من بدايته إلى نهايته ، وهذا العلم اتفق عليه الرسل من أولهم إلى خاتمهم واتفق عليه جميع الصحابة ومن تبعهم من الأمة ، وخالفهم مجوس الأمة القدرية المعتزلة وكتابته السابقة تدل على علمه بها قبل كونها ، وقد قال تعالى:
(وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ وَهُوَ الذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِالليْل وَيَعْلمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ليُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِليْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الأنعام:60) وفيها مراتب العلم .
روى البخاري من حديث 1039 ابْنِ عُمَرَ قَال رَسُولُ اللهِ صَلى اللهم عَليْهِ وَسَلمَ مِفْتَاحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلمُهَا إِلا اللهُ لا يَعْلمُ أَحَدٌ مَا يَكُونُ فِي غَدٍ وَلا يَعْلمُ أَحَدٌ مَا يَكُونُ فِي الأَرْحَامِ وَلا تَعْلمُ نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ وَمَا يَدْرِي أَحَدٌ مَتَى يَجِيءُ المَطَرُ) .
وقال تعالى: (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَليمٌ خَبِيرٌ) (لقمان:34) .
وعند الإمام أحمد 15773 من حديث لقِيطِ بْنِ عَامِرٍ أنه خَرَجَ وَافِدًا إِلى رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ فقال: يَا رَسُول اللهِ مَا عِنْدَكَ مِنْ عِلمِ الغَيْبِ ؟ فَضَحِكَ وَقَال: ضَنَّ رَبُّكَ عَزَّ وَجَل بِمَفَاتِيحِ خَمْسٍ مِنَ الغَيْبِ لا يَعْلمُهَا إِلا اللهُ وَأَشَارَ بِيَدِهِ قُلتُ وَمَا هِيَ قَال عِلمُ المَنِيَّةِ قَدْ عَلمَ مَنِيَّةَ أَحَدِكُمْ وَلا تَعْلمُونَهُ وَعِلمُ المَنِيِّ حِينَ يَكُونُ فِي الرَّحِمِ قَدْ عَلمَهُ وَلا تَعْلمُونَ وَعَلمَ مَا فِي غَدٍ وَمَا أَنْتَ طَاعِمٌ غَدًا وَلا تَعْلمُهُ وَعَلمَ اليَوْمَ الغَيْثَ يُشْرِفُ عَليْكُمْ آزِلينَ آدِلين - متعبين مثقلين بالذنوب - مُشْفِقِينَ فَيَظَلُّ يَضْحَكُ قَال لقِيطٌ لنْ نَعْدَمَ مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ خَيْرًا وَعَلمَ يَوْمَ السَّاعَةِ .
(وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلمُهَا إِلا هُوَ) مفاتح في اللغة الفصيحة جمع مفتح ، ويقال مفتاح ويجمع مفاتيح ، والمفتح عبارة عن كل ما يحل غلقا محسوسا كالقفل الموضوع على البيت أو يحل غلقا معقولا كالفهم والنظر .
و مَفَاتِحُ الغَيْبِ في الآية هي الأسرار التي بها يتم تكوين المخلوقات ، كما يتوصل بالمفتاح إلى خزانة متينة تحتوى أسرار المشرعات الكبرى والمقتنيات العظمى ، ولذلك قال بعضهم المفتاح مأخوذ من قول الناس افتح على كذا أي أعطني أو أعلمني ما أتوصل إليه به ، فالله تعالى عنده علم الغيب وبيده الطرق الموصلة إليه لا يملكها إلا هو ، فمن شاء إطلاعه عليها أطلعه ، ومن شاء حجبه عنها حجبه ، ولا يكون ذلك إلا لأنبيائه ورسله ، بدليل قوله تعالى:
(وَمَا كَانَ اللهُ ليُطْلعَكُمْ عَلى الغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (آل عمران:179) .
ومن هنا نعلم أن الكهان والعرافين والمنجمين كاذبون على رب العالمين ، في إدعائهم علم الغيب وإخبارهم عما يحدث للإنسان ، وذلك لأنهم لا يخلقون شيئا في الملك ، وليس لهم شركة مع الله في إنشاء الخلق ، وليس لهم شيء في تدبير الأمر .
وفي صحيح مسلم عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلهُ عَنْ شَيْءٍ لمْ تُقْبَل لهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ ليْلةً) ، والعراف هو الحازر الذي يرجم بالغيب ، والمنجم الذي يدعى علم الغيب ، وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها ، والكهانة ادعاء علم الغيب .
فالله عز وجل عنده مفاتح الغيب يَعْلمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلمُهَا ، فذكر سقوط الورقة ولم يذكر إنشاءها ، لأن ذلك أبلغ في الدلالة على علم الله ، فالعلم الله له مراتب:
1- علمه بالشيء قبل كونه وهو سر الله في خلقة ، ضن به ربنا سبحانه وتعالى ، لا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل وهو المقصود بالمرتبة الأولى من مراتب القدر ، وهو علم مفاتح الغيب وتقدير الأمور ، كما قال تعالى: (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَليمٌ خَبِيرٌ) (يعلم مابين أيديهم) (اللهُ يَعْلمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) (الرعد:8) (قُل لا يَعْلمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) (النمل:65) (قُل أَنْزَلهُ الذِي يَعْلمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً) (الفرقان:6) .
ومن حديث عَليٍّ بن أبى طالب رَضِي الله تعالى عَنْه الذي وراوه البخاري ومسلم أنه قَال: (كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الغَرْقَدِ فَأَتَانَا النَّبِيُّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلهُ وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ - العود الصغير - فَنَكَّسَ -أطرق برأسه إلى الأرض - فَجَعَل يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ - يعنى يضرب بها في الأرض ضربا خفيفا - ثُمَّ قَال: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلا كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ وَإِلا قَدْ كُتِبَ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً فَقَال رَجُلٌ يَا رَسُول اللهِ أَفَلا نَتَّكِلُ عَلى كِتَابِنَا وَنَدَعُ العَمَل ، فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْل السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلى عَمَل أَهْل السَّعَادَةِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْل الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إِلى عَمَل أَهْل الشَّقَاوَةِ ، قَال رسول الله ص: أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لعَمَل السَّعَادَةِ وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لعَمَل الشَّقَاوَةِ ثُمَّ قَرَأَ: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لليُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِل وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ للعُسْرَى) .
2- علمه بالشيء وهو في اللوح بعد كتابته وقبل إنفاذ مشيئته ، فالله عز وجل كتب مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم ، فالمخلوقات في اللوح عبارة عن كلمات ، وتنفيذ ما في اللوح من معلومات تضمنتها الكلمات ، مرهون بمشيئته في تحديد الأوقات المناسبة لأنواع الابتلاءات ، وكل ذلك عن علمه بما في اللوح من حسابات وتقديرات ، يقول تعالى: (أَلمْ تَعْلمْ أَنَّ اللهَ يَعْلمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلكَ عَلى اللهِ يَسِيرٌ) (الحج:70) ، وقال تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْل أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلكَ عَلى اللهِ يَسِيرٌ ، لكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُل مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (الحديد:23) يقول ابن كثير في تفسيره: (يخبر سبحانه وتعالى عن قدره السابق في خلقه قبل أن يبرأ البرية أنه ما من مصيبة تحدث في الآفاق أو في النفوس إلا كتبها في اللوح المحفوظ ، وقوله: (مِنْ قَبْل أَنْ نَبْرَأَهَا) أي من قبل أن نخلق الخليقة ، وفي حديث مسلم: (قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء) وعند أبى داود وصححه الشيخ الألباني: (أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب قال: رب وماذا أكتب ؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة) ، فعلمه بالمكتوب في اللوح أحد مراتب العلم .
3- علمه بالشيء حال كونه وتنفيذه ، وخلقه وتصنيعه ، كما قال تعالى: (اللهُ يَعْلمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَار ٍ عَالمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَال) (وَإِذْ قَال رَبُّكَ للمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَليفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لكَ قَال إِنِّي أَعْلمُ مَا لا تَعْلمُونَ) (البقرة:30) (أَلمْ تَعْلمْ أَنَّ اللهَ يَعْلمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلكَ عَلى اللهِ يَسِيرٌ) (الحج:70) (يَعْلمُ مَا يَلجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الغَفُورُ) (سبأ:2) (هُوَ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ يَعْلمُ مَا يَلجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الحديد:4) (هُوَ أَعْلمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلمُ بِمَنِ اتَّقَى) (لنجم:32) .
4- علمه بالشيء بعد كونه وتخليقه وإحاطته الشاملة والكاملة بعد تمامه وفنائه: فالله عز وجل لما قال: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ - للدلالة على الإحاطة بكل شيء من بدايته إلى نهايته - إِلا يَعْلمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ، وَهُوَ الذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِالليْل وَيَعْلمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ليُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِليْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الأنعام:60) ولما قال (يَعْلمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) قال: (وَمَا خَلفَهُمْ) (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلماً) .
(قَدْ عَلمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ) (قّ:4) (أَوَلا يَعْلمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلنُونَ) (البقرة:77) (وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلمُ مَا تَكْسِبُونَ) (الأنعام:3) (أَلمْ يَعْلمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلامُ الغُيُوبِ) (التوبة:78) (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ليَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلنُونَ إِنَّهُ عَليمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (هود:5) (أَلا إِنَّ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قَدْ يَعْلمُ مَا أَنْتُمْ عَليْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِليْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللهُ بِكُل شَيْءٍ عَليمٌ) (النور:64) (وَرَبُّكَ يَعْلمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلنُونَ) (القصص:69) (فَاعْلمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لذَنْبِكَ وَللمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ يَعْلمُ مُتَقَلبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) (محمد:19) (أَلمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُل شَيْءٍ عَليمٌ) (المجادلة:7) (قُل إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلمْهُ اللهُ وَيَعْلمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران:29) (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (هود:6) ، فالله عز وجل علم ما كان وما هو كائن وما سيكون وما لو كان كيف يكون ، فهذه مراتب علم الله ، المرتبة الأولى من العلم هى المرتبة الأولى من مراتب القدر ، فعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه فقدر ذلك تقديرا محكما مبرما ليس فيه ناقض ولا معقب ولا مزيل ولا مغير .
فالله عز وجل قد علم أن الأشياء تصير موجودة لأوقاتها على ما اقتضته حكمته البالغة ، فكانت كما علم فإن حصول المخلوقات على ما فيها من غرائب الحكم ، لا يتصور إلا من عالم قد سبق علمه على ايجادها ، كما قال تعالى: (أَلا يَعْلمُ مَنْ خَلقَ وَهُوَ اللطِيفُ الخَبِيرُ) (الملك:14) ، ربنا أمرت فعصينا ، ونهيت فلما انتهينا ، وما كان ذلك جزاء إحسانك إلينا ، أنت العليم بما أعلنا وما أخفينا ، والمحيط بما لم نأت وما أتينا ، (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَليْهِ وَسَلمُوا تَسْليما ً) (الأحزاب:56) فاللهم صلي وسلم وبارك علي سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
بسم الله الرحمن الرحيم
مراتب القدر - المحاضرة الثانية
المرتبة الثانية الكتابة
الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علما ، من غير إغفال ولا نسيان ، من ذا يكيف ذاته أوصافه أفعاله ، وهو العظيم مكون الأكوان ، سبحانه ملكا على العرش استوى ، وحوى جميع الملك والسلطان ، وكلامه القرآن أنزل آيه ، وحيا على المبعوث من عدنان ، صلى عليه الله خير صلاته ، ما لاح في فلكيهما القمران ، هو جاء بالقرآن من عند الذي ، لا تعتريه نوائب الثقلان ، تنزيل رب العالمين ووحيه ، بشهادة الأحبار والرهبان .
عبد الله إذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان ، فاستحي من نظر الإله وقل لها ، إن الذي خلق الظلام يراني ، كن طالبا للعلم واعمل صالحا ، فكلاهما في الحق مقترنان ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من أقر بأن الله منفرد بالقضاء وتقدير المقادير ، وتصريف الأحكام بأنواع التدبير ، هي المقادير تجري في أعنتها فاصبر فليس لها صبر على حال ، يوما تريك خسيس الأصل ترفعه إلى العلاء ويوما تخفض العالي ، أما بعد . .
فقد تحدثنا في المحاضرة الماضية عن عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان بمراتب القدر وعلمنا أن المقصود بمراتب القدر المراحل التي يمر بها المخلوق من كونه معلومة قدرت في علم الله في الأزل إلى أن يصبح واقعا مخلوقا مشهودا ، وهى عندهم أربع مراتب تشمل كل صغيرة وكبيرة في الوجود ، وقد ضربنا لمراتب القدر مثلا بأن أي مشروع من المشروعات العملاقة ، لا بد أن تبدأ بدراسة جدوى ، وترتيب الأفكار في الأذهان ، معلومات مدروسة بدقة وإتقان تقدر فيها الحسابات والإمكانيات ، ثم بعد ذلك تكتب هذه المعلومات في بضع ورقات ، وتوضع مختلف الرسومات التي يخاطب بها أصحاب المشرع مختلف الجهات ، ثم يتوقف الأمر بعد ذلك على مشيئة من تتوفر لديه الإمكانيات ، ثم يبدأ في التنفيذ إلى أن ينتهي المشرع وفق ما قدر له من حسابات .
هذه مراحل تصنيع الأشياء بحكم العقل والبديهيات ، فلا بد لصناعة الشيء وتكوينه من العلم والكتابة والمشيئة ومباشرة التصنيع والفعل ، فالله سبحانه وله المثل الأعلى منفرد بمراتب القضاء والقدر ، وهى عند السلف كما ذكرنا المراحل التي يمر بها المخلوق من كونه معلومة مقدرة في علم الله في الأزل إلى أن يصبح واقعا مخلوقا مشهودا ، وهى عندهم أربع مراتب تشمل كل صغيرة وكبيرة في الوجود ، وقد تحدثنا في المحاضرة الماضية عن المرتبة الأولى من مراتب القدر ، وهى علم الله السابق ، علم التقدير وحساب المقادير ، تقدير كل شيء قبل تصنيعة وتكوينه ، وتنظيم أمور الخلق قبل إيجاده وإمداده ، واليوم نستكمل الموضوع ونتحدث عن المرتبة الثانية من مراتب القدر ، المرتبة المتعلقة باللوح المحفوظ ، مرتبة كتابة المعلومات ، وتدوينها بالقلم في كلمات ، فكل مخلوق مهما عظم شأنه أو دق حجمه ، كتب الله ما يخصه في اللوح المحفوظ ، كتب تفصيل خلقه وإيجاده ، وما يلزم لنشأته وإعداده وإمداده ، وجميع ما يرتبط بتكوينه وترتيب حياته ، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة ، كما قال الإمام الطحاوى رحمه الله: (ونؤمن باللوح والقلم ، وبجميع ما فيه قد رقم) .
وروى أبو داود في سننه وصححه الشيخ الألباني من حديث (4692) عُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ أنه قال لابْنِهِ: (يَا بُنَيَّ إنَّكَ لنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الإيْمَانِ حَتَّى تَعْلمَ أنَّ مَا أصَابَكَ لمْ يَكُنْ ليُخْطِئَك َ ، وَما أخْطَأَكَ لمْ يَكُنْ ليُصِيبَكَ ، سَمِعْتُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إنَّ أوَّل مَا خَلقَ الله تَعَالى القَلمَ فقال له: اْكْتُبْ ، فقَال: رَبِّ وَمَاذَا أكْتُب ؟ قال: اْكْتُبْ مَقَادِيرَ كُل شَيْء حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ، يَا بُنَيَّ إنِّي سَمِعْتُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ مَاتَ عَلى غَيْرِ هذَا فَليْسَ مِنِّي) .
وروى الترمذي (2181) من حديث عبد الوَاحِدِ بن سُليمٍ ، قال: قَدِمْتُ مَكَّةَ فَلقِيتُ عَطَاءَ بنَ أبي رَبَاحٍ فَقُلتُ لهُ: يَا أَبَا محمدٍ ، إِنَّ أَهْل البَصْرَةِ يَقُولُونَ في القَدَرِ ، قال: يَا بُنَيَّ ، أَتَقْرَأ القُرْآنَ ؟ قُلتُ: نَعَمْ ، قال: فَاقْرَأْ الزُّخْرُفَ قال: فَقَرَأْتُ: (حم وَالكِتَابِ المُبِينِ إِنَّا جَعَلنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لعَلكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ في أُمِّ الكِتَابِ لدَيْنَا لعَليٌّ حَكِيمٌ) .
قال: أَتَدْرِي مَا أُمُّ الكِتَاب ِ ؟ قُلتُ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلمُ ، قال: فَإِنَّهُ كِتَابٌ كَتَبَهُ الله قَبْل أَنْ يَخْلُقَ السَّماءَ وَقَبْل أَنْ يَخْلُقَ الأَرْضَ ، فِيهِ أَنَّ فِرْعَوْنَ مِنْ أَهْل النَّارِ ، وَفِيهِ (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لهَبٍ وَتَبَّ) .
قال عَطَاءٌ: فَلقِيتُ الوَليدَ بنَ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ صَاحِبَ رسول الله ، فَسَأَلتُهُ: مَا كَانَتْ وَصِيَّةُ أَبِيكَ عِنْدَ المَوْتِ ؟ قال: دَعَانِي فَقَال: يَا بُنَيَّ اتَّقِ الله ، وَاعْلمْ أَنَّكَ لنْ تَتَّقِىَ الله حَتَّى تُؤْمِنَ بِالله وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ كُلهِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ، فَإِنْ مُتَّ عَلى غَيْرِ هَذَا دَخَلتَ النَّارَ ، إِنِّي سَمِعْتُ رسول الله يقولُ: (إِنَّ أَوَّل مَا خَلقَ الله القَلمَ . فقال: اكْتُبْ ، قال: مَا أَكْتُبُ ؟ قال: اكْتُبْ القَدَرَ مَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلى الأَبَد) .
وعند أحمد في المسند (22327) أن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: (أَوْصَانِي أَبِي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى فَقَال: يَا بُنَيَّ أُوصِيكَ أَنْ تُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ فَإِنَّكَ إِنْ لمْ تُؤْمِنْ أَدْخَلكَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالى النَّارَ ، قَال: وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ يَقُولُ أَوَّلُ مَا خَلقَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالى القَلمُ ثُمَّ قَال لهُ اكْتُبْ قَال وَمَا أَكْتُبُ قَال فَاكْتُبْ مَا يَكُونُ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ) .
أخبرنا الله عز وجل أنه قبل وجود السماوات والأرض كان العرش والماء ، فقال تعالى: (وَهُوَ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلى المَاءِ) ، وعند البخاري من حديث عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه قَال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (كَانَ اللهُ وَلمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلى المَاءِ ثُمَّ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْض وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُل شَيْءٍ) .
ومن باب الفضول ربما يسأل سائل ويقول: وماذا قبل العرش والماء ؟ والجواب ، أن الله قد شاء أن يوقف علمنا بالمخلوقات عند معرفة العرش والماء ، فقال تعالى: (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ) ، وقال أيضا:
(ومَا أُوتِيتُمْ مِنْ العِلمِ إِلا قَليلا) ، فالله أعلم بوجود مخلوقات قبل العرش والماء أم لا ، لكننا نعتقد أن وجودها أمر ممكن في قدرة الله تعالى ، لأنه أخبرنا أنه يخلق ما يشاء ويفعل ما يشاء ، (قال كَذَلكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، وقال: (ذُو العَرْشِ المَجِيدُ فَعَّالٌ لمَا يُرِيدُ) ، فالله متصف بصفات الأفعال ، ومن لوازم الكمال أنه فعال لما يريد على الدوام أزلا وأبدا ، سواء كان ذلك قبل العرش والماء أو بعد العرش والماء ، لكن الله أوقف علمنا عند هذا الحد ، فقال تعالى: (وَلا يُحِيطُونَ بِه عِلما) .
ثم خلق الله عز وجل بعد العرش والماء القلم واللوح ، روى الحاكم في المستدرك ، والطبراني في الكبير بسند صحيح (81611) من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: (إن مما خلق الله لوحا محفوظا من درة بيضاء ، دفتاه من ياقوتة حمراء قلمه نور وكتابه نور ينظر فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة ، ففي كل مرة منها يخلق ويرزق ، ويحيى ويميت ، ويعز ويذل ، ويفعل ما يشاء فذلك قوله تعالى: (كل يوم هو في شأن) .
وقد اختلف العلماء هل القلم أول المخلوقات أو العرش ؟ والصحيح أن العرش قبل القلم ، لما ثبت في صحيح مسلم من عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ أنه قَال: (سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ يَقُولُ كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الخَلائِقِ قَبْل أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ ، وَعَرْشُهُ عَلى المَاءِ) وفي رواية الترمذي 2156 (قَدَّرَ اللهُ المَقَادِيرَ قَبْل أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ) .
فهذا الحديث صريح في أن التقدير وقع بعد خلق العرش ، أما ما جاء في حديث عُبَادَة بنُ الصَّامِتِ رضي الله عنه: (إن أوَّل مَا خَلقَ الله تَعَالى القَلمَ فقال له: اْكْتُبْ ، فقَال: رَبِّ وَمَاذَا أكْتُب ؟ قال: اْكْتُبْ مَقَادِيرَ كُل شَيْء حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ) فعلى معنيين عند العلماء:
الأول: أنه عند أول ما خلق القلم قال له اكتب ؟ فقَال: رَبِّ وَمَاذَا أكْتُب ؟ قال: اْكْتُبْ مَقَادِيرَ كُل شَيْء .
المعنى الثاني: هو أول المخلوقات من هذا العالم بعد العرش والماء ، إذ أن الحديث صريح في أن العرش سابق على التقدير ، وأن التقدير مقارن لخلق القلم .
والأقلام التي وردت في كتاب الله وفي سنة رسوله أنواع سوف نتحدث عنها بالتفصيل في أنواع التقدير والتدبير ، وعند البخاري من حديث 3342 ابْن عَبَّاسٍ وَأَبى حَيَّةَ الأَنْصَارِيَّ أنهما كَانَا يَقُولانِ إن النَّبِي صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قال ليلة المعراج: (ثُمَّ عُرِجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ لمُسْتَوًى أَسْمَعُ صَرِيفَ الأَقْلامِ) حيث فَرَضَ اللهُ عَلي نبيه خَمْسِينَ صَلاةً ثم صارت خَمْسا في الفعل وخَمْسين في الأجر .
وما دون في أم الكتاب لا يقبل المحو والتبديل أو التعديل والتغيير ، فكل ما كتب فيه واقع لا محالة ، كما قال تعالى: (قُل لنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللهُ لنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلى اللهِ فَليَتَوَكَّل المُؤْمِنُون َ) (التوبة:51) .
ما السر في عدم التغيير والتبديل ؟ السر في عدم التغيير والتبديل ، أن الخلق والتصنيع والتكوين قائم علي ما دون فيه ، فالمخلوقات وسائر المصنوعات إلى قيام الساعة ، أحكم الله غاياتها وقضى في اللوح أسبابها ومعلولاتها ، فلا يتغير بنيان الخلق الذي حكم به الحق إلا بعد استكماله وتمامه ، ولا يتبدل سابق الحكم في سائر الملك إلا بقيامه وكماله ، وهذه مشيئة الله في خلقه ، وما قضاه وقدره في ملكه ، فالله عز وجل على عرشه في السماء يفعل ما يشاء ، وبيده أحكام التدبير والقضاء ، حكم بعدله أن يقوم الخلق على الابتلاء ، ثم يتحول العالم إلى دار الجزاء ، فالله عز وجل يخلق ما يشاء ، ولكن حكمة سبقت فيما تم به القضاء ، ولذلك ينبهنا الله في بعض المواطن إلى هذه الحقيقة ، وأنه سبحانه وتعالى قادر على أن يفعل ما يشاء ، لولا ما دون في الكتاب من أحكام القضاء:
(لوْلا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) (لأنفال:68) (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلفُوا وَلوْلا كَلمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلفُونَ) (يونس:19) (وَلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ فَاخْتُلفَ فِيهِ وَلوْلا كَلمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (هود:110) (وَلوْلا كَلمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لكَانَ لزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً) (طه:129) (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلوْلا كَلمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمّىً لقُضِيَ بَيْنَهُمْ) (الشورى:14) (أَمْ لهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلوْلا كَلمَةُ الفَصْل لقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالمِينَ لهُمْ عَذَابٌ أَليمٌ) (الشورى:21) .
والعقلاء يعلمون أن العلماء من البشر ، لو اجتمعوا على وضع خطة محكمة لبناء مشروع عملاق أو أي مشروع من المشروعات ، درسوا فيها جميع الجوانب بمختلف المقاييس والدراسات ، وراعوا في خطتهم الموازنة بين السلبيات والإيجابيات ، ثم وضعوا تخطيطا محكما لا مجال فيه للإضافات ، ثم انتهوا إلى تقرير شامل دونوه في كتاب كامل أو مجموعة من الملفات ، ثم قدموا هذا المكتوب لإدرارة التنفيذ والمشروعات ، هل يصح بعد ذلك لعامل جاهل ينقصه العلم والفهم أن يعترض أو يغير أو يبدل في هذا المشروع الضخم ؟
هل يصح أن يعبث فيه حسب هواه ، أو يغير في تخطيطه على وفق ما يراه ؟ فالله وله المثل الأعلى كتب مقادير كل شيء ورفعت الأقلام وجفت الصحف حتى يتم الخلق على ما قضى به الحق ، روى الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث 2516 ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: (كُنْتُ خَلفَ رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ يَوْمًا فَقَال يَا غُلامُ إِنِّي أُعَلمُكَ كَلمَاتٍ احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلتَ فَاسْأَل اللهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَاعْلمْ أَنَّ الأُمَّةَ لوِ اجْتَمَعَتْ عَلى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لكَ وَلوِ اجْتَمَعُوا عَلى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَليْكَ رُفِعَتِ الأَقْلامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ) .
وفي المسند 2800 (يَا غُلامُ أَوْ يَا غُليِّمُ أَلا أُعَلمُكَ كَلمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهِنَّ فَقُلتُ بَلى فَقَال احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ تَعَرَّفْ إِليْهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ وَإِذَا سَأَلتَ فَاسْأَل اللهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ قَدْ جَفَّ القَلمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ فَلوْ أَنَّ الخَلقَ كُلهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَليْكَ لمْ يَقْدِرُوا عَليْهِ وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَليْكَ لمْ يَقْدِرُوا عَليْهِ وَاعْلمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ وَأَنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا) .
فالمخلوقات ولله المثل الأعلى كمشروع عملاق كامل ، موضوع على تخطيط محكم شامل ، لا يصح العبث فيه من قبل أحمق جاهل ، روى الإمام مسلم من حديث جابر بن عبد الله أن سُرَاقَة بْنَ مَالكٍ قَال: يَا رَسُول اللهِ بَيِّنْ لنَا دِينَنَا كَأَنَّا خُلقْنَا الآنَ فِيمَا العَمَلُ اليَوْمَ أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلامُ وَجَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ أَمْ فِيمَا نَسْتَقْبِلُ قَال لا بَل فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلامُ وَجَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ قَال فَفِيمَ العَمَلُ ؟ قَال: (فَقَال اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لعَمَلهِ) .
روى البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال التَقَى آدَمُ وَمُوسَى فَقَال مُوسَى لآدَمَ آنْتَ الذِي أَشْقَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الجَنَّةِ قَال آدَمُ أَنْتَ مُوسَى الذِي اصْطَفَاكَ اللهُ بِرِسَالتِهِ وَاصْطَفَاكَ لنَفْسِهِ وَأَنْزَل عَليْكَ التَّوْرَاةَ قَال نَعَمْ قَال: أَتَلُومُنِي عَلى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللهُ عَليَّ قَبْل أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً) .
ولا تعارض بين ذكر الأربعين وبين ما ثبت في صحيح مسلم من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ أن رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال: (كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الخَلائِقِ قَبْل أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ ، وَعَرْشُهُ عَلى المَاءِ) .
وذلك كما ذكر العلماء أن ابتداء المدة وقت الكتابة في الألواح خَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ ، وآخرها ابتداء خلق آدم ، وقال ابن الجوزي: المعلومات كلها قد أحاط بها علم الله القديم قبل وجود المخلوقات كلها ، ولكن كتابتها وقعت في أوقات متفاوتة ، وكذلك ما رواه الترمذي وصححه الشيخ الألباني 2882 من حديث النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال إِنَّ اللهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْل أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِأَلفَيْ عَامٍ أَنْزَل مِنْهُ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ البَقَرَةِ وَلا يُقْرَأَانِ فِي دَارٍ ثَلاثَ ليَالٍ فَيَقْرَبُهَا شَيْطَانٌ .
فالزمان السابق يختلف في مقداره عن الزمان اللاحق ، فضلا عن الزمان الذي يسبق خلق السماوات والأرض ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
(فالذي جاء به القرآن والتوراة واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها مع أئمة أهل الكتاب ، أن هذا العالم خلقه الله وأحدثه من مادة كانت مخلوقة قبله كما أخبر في القرآن أنه استوى إلى السماء وهي دخان أي بخار فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها ، وقد كان قبل ذلك مخلوق غيره كالعرش والماء ، كما قال تعالى: (وَهُوَ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلى المَاءِ) (هود/7) وخلق ذلك في مدة غير مقدار حركة الشمس والقمر ، كما أخبر أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، والشمس والقمر هما من السموات والأرض وحركتهما بعد خلقهما والزمان المقدر بحركتهما وهو الليل والنهار التابعان لحركتهما إنما حدث بعد خلقهما ، وقد أخبر الله أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، فتلك الأيام مدة وزمان مقدر بحركة أخرى غير حركة الشمس والقمر) .
واللوح فوق العرش عند رب العرش لما ثبت عند البخاري 7554 من حديث أبى هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنْهم أن رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قال: (إِنَّ اللهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْل أَنْ يَخْلُقَ الخَلقَ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ) ، ويقول تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُل شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) (يّس:12) فجمع الله في الآية بين كتابين اثنين ، اللوح المحفوظ وهو الكتاب السابق لأعمالهم قبل وجودهم وخلقهم ، والكتاب الحافظ لأعمالهم المقارن لأفعالهم ، وأخبر قبل ذلك أنه يحييهم بعد ما أماتهم ، يحييهم للبعث ويجازيهم بأعمالهم (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُل شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) .
وقال أنس وابن عباس: نزلت هذه الآية في بني سلمة أرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد النبوي وكانت منازلهم بعيدة فلما نزلت قالوا بل نمكث مكاننا ، وروى مسلم من حديث (1469) جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ ، قَال: خَلتِ البِقَاعُ حَوْل المَسْجِدِ . فَأَرَادَ بَنُو سَلمَةَ أَنْ يَنْتَقِلُوا إِلى قُرْبِ المَسْجِدِ . فَبَلغَ ذلكَ رَسُول اللّهِ . فَقَال لهُمْ: (إِنَّهُ بَلغَنِي أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَنْتَقِلُوا قُرْبَ المَسْجِدِ) قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُول اللّهِ قَدْ أَرَدْنَا ذلك ، فَقَال: (يَا بَنِي سَلمَةَ دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ ، دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ)
فقوله تعالى في سورة يس: (وَكُل شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) يعنى اللوح المحفوظ أو أم الكتاب أو الذكر الذي كتب فيه كل شيء ، وقوله أَحْصَيْنَاهُ يتضمن كتابة أعمال العباد قبل أن يعملوها ، والإحصاء في الكتاب يتضمن علمه بها ، وحفظه لها ، والإحاطة بعددها ، واثباتها في اللوح .
ويقول تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (الأنعام:38) وقد قيل إن الكتاب في قوله مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ هو اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه كل شيء ، فإنه قال وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ، وهذا يدل على أنها أمم أمثالنا في الخلق والرزق والتدبير والتقدير ، وأنها لم تخلق سدى بل لها حكم وعلل مدونة فيما قضى ، قدر خلقها وأجلها واستوفي لها رزقها ، وما تصير إليه ، ثم ذكر عاقبتها ومصيرها بعد فنائها ، فقال: (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) فذكر مبدأها ونهايتها ، وذكر بين المبدأ والنهاية قوله: (مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) أي كلها قد كتبت وقدرت وأحصيت قبل أن توجد .
وقال تعالى: (حم وَالكِتَابِ المُبِينِ إِنَّا جَعَلنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لعَلكُمْ تَعْقِلُون وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الكِتَابِ لدَيْنَا لعَليٌّ حَكِيمٌ) (الزخرف:4) أُمِّ الكِتَابِ هو اللوح المحفوظ كما قال ابن عباس ، وأم الكتاب أصل الكتاب وأم كل شيء أصله والقرآن كتبه الله في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض كما قال تعالى: (بَل هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لوْحٍ مَحْفُوظٍ) (البروج:22) يقول ابن القيم: (أجمع الصحابة والتابعون وجميع أهل السنة والحديث أن كل كائن إلى يوم القيامة فهو مكتوب في أم الكتاب) .
فكتابة العلم هي المرتبة الثانية من مراتب القدر ، ولك أن تتصور لو أن البشر ، اجتمعوا على كتابة ما يخص إنسانا واحدا أو مخلوقا واحد ، من أمور العلم والتقدير التي تخص عدد خلاياه ، وعدد نبضات القلب على مدار الوقت الذي يعيشه في هذه الحياة ، وعدد ذرات الهواء في كل نفس أخرجته رئتاه ، وما عدد ذرات الدم الذي سيره الله في مجراه ، وما مقدار طعامه وشرابه ، ورزقه الذي سيناله في دنياه ، ثم عمله ومقدار الحسنات والسيئات التي قدمها لأخراه ، أو اسأل المتخصصين عن عدد الكلمات التي كتبوا بها تنوع الشفرة الوراثية في الأحماض النووية في كل خلية بشرية ، أو حيوانية أو نباتية ؟
ستعلم أن البحر لو كان مِدَاداً لكَلمَاتِ رَبِّي لنَفِدَ البَحْرُ قَبْل أَنْ تَنْفَدَ كَلمَاتُ رَبِّي وَلوْ جِئْنَا بِمِثْلهِ مَدَداً ، (قُل لوْ كَانَ البَحْرُ مِدَاداً لكَلمَاتِ رَبِّي لنَفِدَ البَحْرُ قَبْل أَنْ تَنْفَدَ كَلمَاتُ رَبِّي وَلوْ جِئْنَا بِمِثْلهِ مَدَداً) (الكهف:109) (وَلوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (لقمان:27) فالكتاب الذي فوق العرش احتوى على الكلمات ، والكلمات احتوت على المعلومات ، وكل ذل ذلك مكتوب في اللوح قبل أن يخلق الله المخلوقات ، أو قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة .
لكن هنا سؤال هام ؟ نحن علمنا أن المرتبة الأولى من مراتب القدر هي العلم والمرتبة الثانية هي الكتابة في اللوح ، والمرتبة الثالثة التي سنتحدث عنها هي المشيئة ، ثم المرتبة الرابعة وهي الخلق والتنفيذ ؟ السؤال لما ذا كتب الله المقادير ؟ ألا يكفي علم الله وتقديره السابق ؟ وهل الله ينسي حتى يتذكر بالكتابة في اللوح ؟
والإجابة على ذلك أن الكتابة من لوازم كمال الحكمة ، ومن الأمور الضرورية لقيام الحجة ، وإذا كان الصانع الحكيم ، لا يصنع إلا ومخطط الصناعة بين يديه ، والمهندسون ينفذون ويشرفون عليه ، ثم بعد ذلك يطابقون المصنوع علي دليل التصنيع وقياس الرسومات ، ومراقبة الجودة تدقق في المواصفات وتطبيق القياسات ، ولا يمكن أبدا الاستغناء عن الكتابة في مثل هذه الضروريات ، أليست للخالق من باب أولي ، فكتابة مقادير المخلوقات من لوازم الحكمة والكمال ، ولا يحتاج إليها رب العزة والجلال ، كما أنه لا يحتاج إلي خلقه ولا يفتقر إليهم بأي حال ، وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر عن النبي عن رب العزة: (يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي ، وَلنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي ، يَا عِبَادِي لوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ ، كَانُوا عَلى? أَتْقَى? قَلبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ ، مَا زَادَ ذ?لكَ فِي مُلكِي شَيْئاً ، يَا عِبَادِي لوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ ، كَانُوا عَلى? أَفْجَرِ قَلبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، مَا نَقَصَ ذَلكَ مِنْ مُلكِي شَيْئاً ، يَا عِبَادِي لوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي ، فَأَعْطَيْتُ كُل إِنْسَانٍ مَسْأَلتَهُ ، مَا نَقَصَ ذ?لكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إِذَا أُدْخِل البَحْرَ ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لكُمْ ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَليَحْمَدِ اللّهَ ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذ?لكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ) .
كما أن كتابة الأعمال والمقادير فيها قيام الحجة على الخلق ، فربما يوجد أحمق كفرعون أو غيره يشكك في حكمة ربه (قَال فَمَا بَالُ القُرُونِ الأُولى قَال عِلمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى الذِي جَعَل لكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلكَ لكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَل مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلكَ لآياتٍ لأُولي النُّهَى مِنْهَا خَلقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) (طه:55) ، والعبد يكون بين يدي الحق ويكذب ربه ويقسم علي أنه يقول الصدق: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلفُونَ لهُ كَمَا يَحْلفُونَ لكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الكَاذِبُونَ) (المجادلة:18) (ثُمَّ لمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَل عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) (الأنعام:24) ، (هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَليْكُمْ بِالحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الجاثـية:29) (وَكُل إِنْسَانٍ أَلزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لهُ يَوْمَ القِيَامَةِ كِتَاباً يَلقَاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفي بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَليْكَ حَسِيباً) (الإسراء:14) (وَوُضِعَ الكِتَابُ فَتَرَى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلتَنَا مَال هَذَا الكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلمُ رَبُّكَ أَحَداً) (الكهف:49) (اليَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (يّس:65)
فالكتابة هي المرتبة الثانية من مراتب القدر ، ومراتب القدر العلم والكتابة والمشيئة والخلق ، وقفنا عند الكتابة ونلتقي في المحاضرة القادمة بإذن الله مع المرتبة الثالثة مرتبة المشيئة وصلى الله على نبينا محمد وعلي آله وصحبه وسلم .
بسم الله الرحمن الرحيم
مراتب القدر - المحاضرة الثالثة
المرتبة الثالثة المشيئة
الحمد لله الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى ، والذي أمات وأحيا ، والذي حكم على خلقه في هذه الدار بالموت والفنا ، والبعث إلي دار الجزاء والفصل والقضا ، لتجزى كل نفس بما تسعي ، كما قال في كتابه جل وعلا: (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِل الصَّالحَاتِ فَأُوْلئِكَ لهُمْ الدَّرَجَاتُ العُلا جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالدِينَ فِيهَا وَذَلكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّي) ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لم تزل على ألسنة الرسل ، شهادة تضيء لنا أقوم السبل ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أظهر الله دينه على سائر الملل ، وأصلي وأسلم على سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله ، صاحب المقام المحمود والحوض المورود ، واللواء المعقود ، فأكرم بمقامه وحوضه ولوائه ، وارضي اللهم عن آله وصحبه وأوليائه ، (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلئِكَ هُمْ الفَاسِقُونَ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ الفَائِزُونَ لوْ أَنْزَلنَا هَذَا القُرْآنَ على جَبَلٍ لرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا للنَّاسِ لعَلهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أما بعد .
يقول ابن القيم رحمه الله: مراتب القضاء والقدر التي من لم يؤمن بها ، لم يؤمن بالقضاء والقدر أربع مراتب المرتبة الأولى علم الرب سبحانه بالأشياء قبل كونها ، المرتبة الثانية كتابته لها قبل كونها ، المرتبة الثالثة مشيئته لها ، والرابعة خلقه لها ، والمقصود بمراتب القدر عند السلف المراحل التي يمر بها المخلوق من كونه معلومة في علم الله في الأزل إلى أن يصبح واقعا مخلوقا مشهودا ، وهذه المراتب تشمل كل صغيرة وكبيرة في الوجود ، كل مخلوق مهما كبر حجمه أو دق وزنه أو زاد قدره أو قل شأنه ، وقد ضربنا مثلا لذلك بأن أي مشروع أو بنيان تراه في أي مكان لا يأتي في لحظة أو ثوان ، بلا لا بد أن يمر بعدة مراحل ، فيبدأ المشروع أولا بفكرة في الأذهان ودراسة جدوى بدقة وإتقان ، قام فيها المهندسون بتقدير الحسابات وتحديد الإمكانيات ، ثم أعدوا تقريرا كتبوا فيه هذه المعلومات ، وجعلوا لها مجموعة من الملفات ، ثم يتوقف الأمر بعد ذلك على مشيئة صاحب المشروع ، وإرادته لتفيذ الموضوع ، فإن وافق تأتى المرحلة الأخيرة وهي مرحلة التنفيذ الفعلي للمشروع فينموا تحت إشراف المهندسين المختصين إلى أن يحين وقت كماله وتمام بنيانه ، فهذه مراحل تصنيع الأشياء بحكم العقل والفطرة ، فلا بد لصناعة الشيء من العلم والكتابة والمشيئة ثم مباشرة التصنيع والفعل ، فالله سبحانه وله المثل الأعلى منفرد بمراتب القضاء والقدر ، وهى العلم والكتابة والمشيئة ثم الخلق والتكوين .
وقد تحدثنا فيما سبق عن مرتبة العلم ومرتبة الكتابة ، واليوم نتحدث عن المرتبة الثالثة وهى مشيئة الله وإرادته الكونية ، فالمرتبة الثالثة من مراتب القضاء والقدر هي مرتبة المشيئة ، وهذه المرتبة قد دل عليها إجماع الرسل من أولهم إلى آخرهم وجميع الكتب المنزلة من عند الله ، والفطرة التي فطر الله عليها خلقه ، وجميع أدلة المعقول والمنقول ، وليس في الوجود أمر إلا بمشيئة الله وحده ، فما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وهذا أصل عقيدة التوحيد ، وأساس بنيانها الذي لا يقوم إلا به ، والمسلمون من أولهم إلى آخرهم مجمعون على أنه ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن .
التوحيد الحق أن يعلق العبد أفعاله علي مشيئة الله عز وجل في جميع الأوقات ، سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل فكل يجري بتقديره ومشيئته ، ومشيئته تنفذ ، لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم ، فما شاء لهم كان ، وما لم يشأ لم يكن يهدي من يشاء ، ويعصم ويعافي فضلاً ، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً ، وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله .
التوحيد الحق أن يعلق الموحد أفعاله بمشيئة الله عز وجل في جميع الأوقات ، سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل ، فقد علمنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن المسلم يقول فيما وقع من الأحداث ومضى انتهى: قدر الله وما شاء فعل ، ولا يقول: لو كان كذا وكذا ، لكان كذا وكذا ، فلا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ، لاسيما بعد نفاذ أمره ووقوعه ، وإنما يجوز أن يقول ذلك فيما يستقبل ، فقد روى مسلم في صحيحه (6725) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، أن رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قال: (المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلى اللّهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُل خَيْرٌ ، احْرِصْ عَلى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللّهِ وَلاَ تَعْجِزْ ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُل: لوْ أَنِّي فَعَلتُ كان كذا وكذا ، لم يُصبني كذا ، وَلكِنْ قُل: قَدَرُ اللّهِ وَمَا شَاءَ فَعَل ، فَإِنَّ لوْ تَفْتَحُ عَمَل الشَّيْطَانِ) .
وهنا تأتي المحاجة التي حدثت بين آدم وموسي عليهما وعلي نبينا أفضل الصلاة والسلام ، وموقف المسلم من الاحتجاج بالقدر ومشيئة الله علي معصيته فعند البخاري عن أبي هريرةَ رضيَ الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: حاجَّ موسى آدَمَ فقال له: أنتَ الذي أخرجتَ الناسَ من الجنةِ بذَنبكَ وأشقَيتَهم ، قال آدمُ: يا موسى أنتَ الذي اصطَفَاكَ اللهُ برسالاتِهِ وبكلامِهِ ، أتلومُني على أمر كتبهُ اللهُ عليّ قبل أن يَخلُقَني ، أو قَدَّرَهُ عليَّ قبل أن يَخلُقني ؟ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: فحج آدمُ موسى ، والاحتجاج بمشيئة الله وقضائه وقدره على المعصية له نوعان:
النوع الأول: وهو باطل عند السلف وهو الاحتجاج بمشيئة الله وقضائه وقدره علي المعصية التي وقعت ولم يتب منها العبد أو ما زال قائما عليها وهذا هو مذهب الجبرية ، يفعلون المنكر ويحتجون بقدر الله وأن ذلك فعله بهم ومشيئته التي لا يستطيعون دفعها كقولهم: (سَيَقُولُ الذِينَ أَشْرَكُوا لوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلكَ كَذَّبَ الذِينَ مِنْ قَبْلهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُل هَل عِنْدَكُمْ مِنْ عِلمٍ فَتُخْرِجُوهُ لنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ) (الأنعام:148) (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَليْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُل إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلى اللهِ مَا لا تَعْلمُونَ) (لأعراف:28) يقول ابن الجوزي : (ومن جملة ما لبس عليهم إبليس أنهم قالوا لو شاء الله ما أشركنا ، أي لو لم يرض شركنا لحال بيننا وبينه ، فتعلقوا بالمشيئة وتركوا الأمر ، ومشيئة الله تعم الكائنات) وقد احتج سارق على عمر رضي الله عنه بالقدر فقال وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره .
فالذين يعتقدون أن العبد مجبور على أفعاله قسرا ، ولا فعل له أصلا كالريشة تحركها الريح في اتجاه الهواء ، رفعوا اللوم عن كل كافر وفاسق وعاص وأن الله يعذبهم على فعله لا على فعلهم وأعمالهم القبيحة ، ثم اعتقدوا أن المعاصي التي نهى الله عنها في كتبه وعلى ألسنة رسله إذا عملوها صارت طاعات لأنهم يقولون أطعنا مشيئة الله الكونية فينا ، وهذا كفر لم يسبقهم إليه إلا إمامهم إبليس اللعين ، إذ يحتج على الله تعالى بحجتهم هذه فقال: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (الحجر:39) (قَال فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ) (لأعراف:16) .
وقد جاء واحد من أهل الكتاب إلي شيخ الإسلام ابن تيمية يسأله عن القدر ويحتج به على معصيته فقال: أيا علماء الدين ذمي دينكم تحير دلوه بأوضح حجة ، إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم ولم يرضه منى فما وجه حيلتي ، دعاني وسد الباب عنى فهل إلى دخولي سبيل بينوا لي قضيتي ، قضى بضلالي ثم قال ارض بالقضا فما أنا راض بالذي فيه شقوتي ، فإن كنت بالمقضي يا قوم راضيا فربى لا يرضى بشؤم بليتي ، فهل لي رضا ما ليس يرضاه سيدي فقد حرت دلوني على كشف حيرتي ، إذا شاء ربى الكفر منى مشيئة فهل أنا عاص في إتباع المشيئة ، وهل لي اختيار أن أخالف حكمه فبالله فاشفوا بالبراهين غلتي ، فأجاب شيخ الإسلام الشيخ ابن تيمية مرتجلا الحمد الله رب العالمين سؤالك يا هذا سؤال معاند مخاصم رب العرش بارى البرية ، فهذا سؤال خاصم الملأ العلا قديما به إبليس أصل البلية .
النوع الثاني: من الاحتجاج بمشيئة الله وقضائه وقدره على المعصية ، هو الاحتجاج بمشيئة الله وقضائه وقدره علي المعصية التي وقعت ، وتاب منها العبد ، وندم علي فعلها ، وهذا جائز مشروع ، فعند البخاري من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: احتجَ آدمُ وموسى ، فقال له موسى: يا آدمُ أنتَ أبونا ، خيَّبتنا وأخرجتَنا من الجنَّة ، قال له آدم: يا موسى اصطفاكَ اللّهُ بكلامه وخطَّ لكَ بيده ، أتلومني على أمر قدَّرَهُ اللّه عليَّ قبل أن يخلُقَني بأربعين سنة ؟ فحجَّ آدمُ موسى ، فحجَّ آدمُ موسى ، ثلاثاً .
احتج علي موسي بالقدر وصح احتجاجه لأنه يجوز الاحتجاج بمشيئة الله وقضائه وقدره علي المعصية التي وقعت ، وتاب منها العبد ، وندم علي فعلها ، كالعاصي بعد توبته عندما يتذكر العصيان ، فيحمد الله على نعمة الإسلام ، ويقول قدر الله وما شاء فعل .
هذا بالنسبة لرد الأمر وفعل العبد إلى مشيئة الله فيما مضي من أفعال وأحداث أما رد الأمر إلي المشيئة في الحاضر فهو كقول الله تعالي: (وَلوْلا إِذْ دَخَلتَ جَنَّتَكَ قُلتَ مَا شَاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَل مِنْكَ مَالاً وَوَلداً) (الكهف:39) وهنا ينسب الموحد النعمة إلي المنعم ويرد الأمر فيها إلى مشيئة الله ، فالعبد الصادق الموحد مؤمن بأن الله قائم بالقسط والتدبير ، ومنفرد بالمشيئة والتقدير ، يتولى تدبير شئون العالمين ، وهو أحكم الحاكمين ، وخير الرازقين ، لا يطمع في سواه ، ولا يرجو إلا إياه ، ولا يشهد في العطاء إلا مشيئته ، ولا يرى في المنع إلا حكمته ، ولا يعاين في القبض والبسط إلا قدرته ، فعند ذلك يقول عندما يرى نعم الله ، ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، وقال شعيب: (قَال يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالفَكُمْ إِلى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصلاح مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللهِ عَليْهِ تَوَكَّلتُ وَإِليْهِ أُنِيبُ) (هود:88) .
روى النسائي 3773 وصححه الشيخ الألباني أَنَّ يَهُودِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ فَقَال إِنَّكُمْ تُنَدِّدُونَ ، وَإِنَّكُمْ تُشْرِكُونَ تَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللهُ وشئت وَتَقُولُونَ وَالكَعْبَةِ ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَحْلفُوا أَنْ يَقُولُوا وَرَبِّ الكَعْبَةِ وَيَقُولُونَ مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شئت ، وعند أحمد في المسند 2557 من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلا قَال يَا رَسُول اللهِ مَا شَاءَ اللهُ وشئت فَقَال جَعَلتَنِي للهِ عَدْلا بَل مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ .
روى الإمام مسلم (5816) وفي إثبات المشيئة المطلقة لرب العزة والجلال من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أن رَسُول اللّهِ قال: (قَال اللّهُ عَزَّ وَجَل: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ ، يَقُولُ: يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ فَلاَ يَقُولنَّ أَحَدُكُمْ: يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ فَإِنِّي أَنَا الدَّهْرُ أُقَلبُ ليْلهُ وَنَهَارَهُ ، فَإِذَا شئتُ قَبَضْتُهُمَا) .
وقوله: فَإِنِّي أَنَا الدَّهْرُ أي صاحبه ومقلبه بدليل قوله بعدها: أُقَلبُ ليْلهُ وَنَهَارَهُ ، لأن بعض من لا تحقيق له في العلم زعم أن الدهر من أسماء الله ، وهو غلط فإن الدهر مدة زمان الدنيا ، وعرفه بعضهم بأنه أمد مفعولات الله في الدنيا ، ولا يخفي أن من سب الصنعة فقد سب صانعها ، فمن سب نفس الليل والنهار أقدم على أمر عظيم بغير معنى ، ومن سب ما يجري فيهما من الحوادث ، وذلك هو أغلب ما يقع من الناس ، يقول بعضهم لعنة الله على الأيام أو غير ذلك ، فالدهر أو الليل والنهار لا فعل لهم ولا تأثير ، بل كل شيء بمشيئة الله ومراده الكوني .
ويذكر الإمام الشافعي أن العرب كان شأنها أن تذم الدهر وتسببه عند المصائب التي تنزل بهم من موت أو هرم أو تلف أو غير ذلك ، فيقولون إنما يهلكنا الدهر ، وهو تعاقب الليل والنهار ، ويقولون أصابتهم قوارع الدهر وأبادهم الدهر فيجعلون الليل والنهار يفعلان الأشياء ، فيذمون الدهر بأنه الذي يفنيهم ويفعل بهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا الدهر على أنه الذي يفنيكم ، والذي يفعل بكم هذه الأشياء ، فإنكم إذا سببتم فاعل هذه الأشياء فإنما تسبون الله تبارك وتعالى ، فإنه فاعل هذه الأشياء .
أما رد الأمر إلي المشيئة في المستقبل: فهو كقول الله تعالى: (وَلا تَقُولنَّ لشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلكَ غَداً إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُل عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدا ً) (الكهف:24) ، روى البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال سليمانُ بن داودَ عليهما السلام: لأطُوفنَّ الليلةَ بمائةِ امرأةٍ ، تَلدُ كلُّ امرأةٍ غلاماً يُقاتلُ في سبيل الله ، فقال له المَلكُ: قُل إن شاء الله ، فلم يقُل وَنَسيَ ، فأطافَ بِهِنَّ ، ولم تَلدْ منهُن إلا امرأةٌ نِصفَ إنسان ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: لو قال إن شاء اللهُ لم يَحنَثْ ، وكان أرجَى لحاجَتِهِ ، وفي رواية أخرى: (فلم تَحمل منهنَّ إلا امرأةٌ واحدةٌ جاءت بشقِّ رجل ، وأيمُ الذي نفسُ محمدٍ بيده ، لو قال إن شاء اللّه لجاهَدوا في سبيل اللّه فرساناً أجمعون) .
وروى البخاري (5528) من حديث ابن عبّاس رضيَ الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دخل على أعرابيّ يَعودُه ، يقول ابن عباس: وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا دخل على مريض يَعوده قال له: لا بأس ، طَهورٌ إن شاء الله ، فقال الأعرابي للنبي: قلتَ طهور ؟ كلا ، بل هي حُمى تَفور ، أو هي حُمى تثور على شيخ كبير ، تُزيره القبور ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فَنَعم إِذاً .
فالرسول يقول للأعرابي: لا بأس طهور إن شاء الله ، أي أن المرض يكفر الخطايا وهو طهور لك من ذنوبك إن شاء الله ، فإن حصلت العافية وتحقق الشفاء فقد حصلت الفائدتان ، وإلا حصل ربح التكفير ، فرد الأعرابي على النبي منكرا وقائلا أي طهور بل هي حمى تفور أي حرارة الجسم تغلي وتثور ، على شيخ كبير تزيره القبور ، وكان الواجب على الأعرابي أن لا يرد دعاء النبي ويسأل الله العافية ، فقال له رسول الله: (فنعم إذا) إذا أبيت طلب الشفاء فنعم يأتيك الموت والبلاء ، فيحتمل أن يكون قوله (فنعم إذا) دعاء عليه ، ويحتمل أن يكون خبرا عما يؤول مصيره إليه ، وهناك من قال احتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه سيموت في هذا المرض فدعا له بأن تكون الحمى مطهرةً لذنوبه وخطاياه ، وهناك من قال احتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الأعرابي بأنه سيموت أجابه وردا على أجابته ، ولذلك ورد أن الأعرابي أصبح ميتا ، فينبغي على المسلم حتى ولو كان مريضا أن يتلقى الموعظة بالقبول ، ويحسن الجواب فيما يقول ، طمعا في عفو الله وعافيته .
روى الإمام أحمد في مسنده (6398) من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ حَلف فاسْتَثْنَى ، فَإن شاء مَضَى ، وإِن شَاءَ رَجَع غَيْرَ حَنِثٍ) .
أجمع المسلمون على أن الحالف إذا استثنى في يمينه متصلا بها فقال لأفعلن كذا أو لا أفعله إن شاء الله ، أجمعوا أنه لا يحنث إذا خالف ما حلف عليه ، لأن من أصل أهل الإسلام أنه لا يكون شيء إلا بمشيئة الله ، فإذا علق الحالف الفعل أو الترك بالمشيئة لم يحنث عند عدم المشيئة ولا تجب عليه الكفارة ، أما إذا استثنى في الطلاق والعتق وغير ذلك سوى اليمين بالله تعالى فقال: أنت طالق إن شاء الله تعالى ، أو أنت حر إن شاء الله تعالى ، أو أنت علي كظهر أمي إن شاء الله تعالى ، أو لزيد في ذمتي ألف درهم إن شاء الله ، أو إن شفي مريضي فلله علي صوم شهر إن شاء الله ، أو ما أشبه ذلك ، فالمسألة فيها خلاف: مذهب الشافعي والكوفيين وأبي ثور وغيرهم صحة الاستثناء في جميع الأشياء كما أجمعوا عليها في اليمين بالله تعالى ، فلا يحنث في طلاق ولا عتق ، ولا ينعقد ظهاره ولا نذره ولا إقراره ولا غير ذلك مما يتصل به قوله إن شاء الله ، وقال مالك والأوزاعي: لا يصح الاستثناء في شيء من ذلك إلا اليمين بالله تعالى ، وقو الشافعي هو الأقرب إذا تحقق في الاستثناء شرطان:
أحدهما: أن يقوله متصلاً باليمين ، والثاني: أن يكون نوى قبل فراغ اليمين أن يقول إن شاء الله تعالى .
أما اللو المستقبلية التي تكون في القتال وإعداد الخطط أو عدم الاعتراض على القدر فلا تدخل تحت النهي في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه الذي رواه مسلم (6725) (فَإِنَّ لوْ تَفْتَحُ عَمَل الشَّيْطَانِ) لأن النهي مقرون بوقوع الفعل وعدم تغيير شيء من القدر والرسول صلى الله عليه وسلم يقول قبلها: (وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُل: لوْ أَنِّي فَعَلتُ كذا وكذا ، لم يُصبني كذا ، وَلكِنْ قُل: قَدَرُ اللّهِ وَمَا شَاءَ فَعَل) .
أما ما كان من أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الغار كما روى البخاري من حديث أنس أن أبا بكرٍ رضيَ اللهُ عنه قال: (قلت للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار ِ: لو أنَّ أحدَهم نظرَ تحت قَدَمَيهِ لأبصَرَنا . فقال: ما ظنُّكَ يا أبا بكرٍ باثنينِ اللهُ ثالثُهما) لو أن أحدهم رفع رأسه لرآنا ، وكذلك ما ورد عند البخاري من حديث عائشةَ رضيَ الله عنهم زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألم تَرَيْ أنَّ قومَكِ لما بَنُوا الكعبة اقتصَروا عن قواعِدِ إِبراهيمَ . فقلتُ: يا رسول الله ألا تَرُدُّها على قواعدِ إبراهيم ؟ فقال: لولا حِدْثانُ قومِكِ بالكفر)
وعند البخاري عن أنَسٍ رضيَ الله عنه قال: (مرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بتمرةٍ مَسْقوطةٍ فقال: لولا أن تكونَ صَدَقةً لأكَلتُها) وعنده أيضا قال أبو هريرةَ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أَشُقَّ على أُمَّتي لأمرتُهمْ بالسِّواكِ عندَ كل وُضوء) ، وما شابه ذلك ، فكله يدخل تحت لو المستقبلية ولا اعتراض فيه على قدر فلا كراهة فيه ، لأنه إنما أخبر عن اعتقاده فيما كان يفعل لولا المانع وعما هو في قدرته ، فأما ما ذهب فليس في قدرته ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (فإن لو تفتح عمل الشيطان) أي يلقى في القلب معارضة القدر ويوسوس به الشيطان ، فالذي يتعين بعد وقوع المقدور التسليم لأمر الله ، والرضي بما قدر ، والإعراض عما فات ، أو عدم الالتفات لما فات ، فإنه إذا ذكر فيما فاته من ذلك فقال لو أني فعلت كذا لكان كذا ، جاءته وساوس الشيطان فلا تزال به حتى يفضي إلى الخسران ، فيعارض بتوهم التدبير سابق المقادير ، وهذا هو عمل الشيطان المنهي عن تعاطي أسبابه بقوله: (فلا تقل لو فإن لو تفتح عمل الشيطان) .
وإخبار الله عن مطلق المشيئة يتنوع في القرآن ، فتارة يخبرنا أن كل ما في الكون إنما هو بمشيئته ؟ (قُل اللهُمَّ مَالكَ المُلكِ تُؤْتِي المُلكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولجُ الليْل فِي النَّهَارِ وَتُولجُ النَّهَارَ فِي الليْل وَتُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَتُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (آل عمران:27) (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْل العَظِيمِ) (البقرة:105) ، (يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلبَابِ) (البقرة:269) ، (يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ) (النور:45) (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لهُمُ الخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (القصص:68) ، (اللهُ الذِي خَلقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَل مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَل مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ العَليمُ القَدِيرُ) (الروم:54) (لهُ مَقَاليدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُل شَيْءٍ عَليمٌ) (الشورى:12) .
في كل هذه الآيات يخبرنا الله أن كل ما في الكون إنما هو بمشيئته ؟ وتارة يخبرنا أن ما لم يشأ لم يكن ، وأنه لو شاء لخلق الخلق على خلاف الواقع المشهود وأنه لو شاء لكان خلاف القدر الموجود ، وأنه لو شاء ما عصاه أحد من خلقه ، وأنه لو شاء لجمعهم على ذكره ، وجعلهم أمة واحدة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللهُ عَلى ذَلكَ قَدِيراً) (النساء:133) (وَرَبُّكَ الغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) (الأنعام:133) (أَلمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلقٍ جَدِيدٍ) (ابراهيم:19) (رَبُّكُمْ أَعْلمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلنَاكَ عَليْهِمْ وَكِيلاً) (الإسراء:54) (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَأِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلبِكَ وَيَمْحُ اللهُ البَاطِل وَيُحِقُّ الحَقَّ بِكَلمَاتِهِ إِنَّهُ عَليمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (الشورى:24) (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْللنَ رَوَاكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلكَ لآياتٍ لكُل صَبَّارٍ شَكُورٍ) (الشورى:33) (وَلئِنْ شِئْنَا لنَذْهَبَنَّ بِالذِي أَوْحَيْنَا إِليْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لكَ بِهِ عَليْنَا وَكِيلاً) (الإسراء:86) (وَلوْ شِئْنَا لبَعَثْنَا فِي كُل قَرْيَةٍ نَذِيراً) (الفرقان:51) (وَلوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُل نَفْسٍ هُدَاهَا وَلكِنْ حَقَّ القَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (السجدة:13) (نَحْنُ خَلقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلنَا أَمْثَالهُمْ تَبْدِيلاً) (الإنسان:28) (وَكَذَلكَ جَعَلنَا لكُل نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْل غُرُوراً وَلوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) (الأنعام:112) (وَلوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس:99) (وَلوْ شَاءَ رَبُّكَ لجَعَل النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلذَلكَ خَلقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (هود:119) .
ما هي مراتب القضاء ؟ وما الفرق بين القضاء والقدر ؟ مراتب القضاء العلم والكتابة والمشيئة ومراتب القدر العلم والكتابة والمشيئة والخلق . (ذَلكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْل الحَقِّ الذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ للهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لهُ كُنْ فَيَكُونُ) (مريم:35) ، نلتقي معكم في المحاضرة القادمة للحديث عن المرتبة الرابعة من مراتب القدر ، (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَليْهِ وَسَلمُوا تَسْليماً) (الأحزاب:56) فصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
بسم الله الرحمن الرحيم
مراتب القدر - المحاضرة الرابعة
المرتبة الرابعة الخلق
(الحَمْدُ للهِ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَل الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُون) ، لا يحصى عدد نعمه العادون ، ولا يؤدى حق شكره الحامدون ، ولا يبلغ مدى عظمته الواصفون ، بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ، أحمده سبحانه وتعالى وأشكره ، وأستعينه وأستغفره أوحده سبحانه عند الشدة والرخاء ، وأتوكل عليه فيما حكم به من أنواع القضاء ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، شهادة من يعتقد أنه لا رب سواه ، شهادة من لا يرتاب في شهادته ، واعتقاد من لا يستنكف عن عبادته ، وأشهد أن محمدا عبده الأمين ، وخاتم الأنبياء والمرسلين ، أرسله ربنا إلى الخلق أجمعين ، بلسان عربي مبين ، فبلغ الرسالة وأظهر المقالة ، ونصح الأمة ، وكشف الغمة ، وجاهد في سبيل الله حتى أظهر به الدين ، وأظهره على الكافرين والمشركين ، وعبد ربه حتى أتاه اليقين ، فصلى الله على محمد سيد الأنبياء والمرسلين ، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين ، ونسائه أمهات المؤمنين ، وسائر أصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد . .
مراتب القدر هي انتقال المخلوقات من كونها معلومة في علم الله في الأزل إلى الواقع المشهود ، وقد تحدثنا فيما سبق عن المرتبة الأولى من مراتب القدر ، وهى علم الله السابق ، علم التقدير وحساب المقادير ، تقدير كل شيء قبل تصنيعة وتكوينه ، وتنظيم أمور الخلق قبل إيجاده وإمداده ، وتحدثنا أيضا عن المرتبة الثانية من مراتب القدر ، وهى مرتبة الكتابة ، كتابة المعلومات ، وتدوينها بالقلم في كلمات ، وبينا أن كل مخلوق مهما عظم شأنه أو دق حجمه ، كتب الله ما يخصه في اللوح المحفوظ ، كتب تفصيل خلقه وإيجاده ، وما يلزم لنشأته وإعداده وإمداده ، وجميع ما يرتبط بتكوينه وترتيب حياته ، ثم تحدثنا عن المرتبة الثالثة من مراتب القضاء والقدر وهي مرتبة المشيئة ، فليس في الكون مشيئة عليا إلا مشيئة الله ، فما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وهذا أساس التوحيد الذي لا يقوم بنيانه إلا به ، والمسلمون من أولهم إلى آخرهم مجمعون على ذلك ، واليوم نتحدث عن المرتبة الرابعة من مراتب القدر وهى مرتبة خلق الأشياء وتكوينها ، وتصنيعا وتنفيذها ، على وفق ما قدر لها بمشيئة الله في اللوح المحفوظ .
فالله عز وجل هو خالق كل شيء ، والخالق عند أهل التوحيد واحد ، وما سواه مخلوق ، هذا الأمر متفق عليه بين الرسل ، اتفقت عليه الكتب الإلهية ، والفطرة البشرية ، وجميع الأدلة العقلية ، ولم يخالف في ذلك إلا مجوس الأمة من القدرية ، حيث زعموا أن العبد يخلق فعله من دون الله وقدرته ، فأخرجوا أفعال العباد عن تقدير الله وربوبيته ، ولم يوحدوا الله في مشيئته ، فجعلوا العباد هم الخالقون لأفعالهم ، فعندهم أنه سبحانه لا يقدر أن يهدي ضالا ، ولا يقدر أن يجعل المسلم مسلما ، ولا الكافر كافرا ، ولا المصلي مصليا ، وإنما ذلك يعود إلي قدرة العبد ومشيئته ، وفي المقابل لضلالهم وبدعتهم ، ظهرت طائفة ترد على بدعتهم ببدعة تقابلها ، وقابلوا باطلهم وبدعتهم ببدعة تماثلها ، فقالوا بل العبد في أفعاله مسير مجبور ، ولا تأثير له فيها وإنما هو ملزم مقهور ، وغلا بعضهم فقال أفعال العبد هي عين أفعال الرب ، (إِنَّ اللهَ لا يَظْلمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلمُونَ) (يونس:44) ، ولا ينسب الفعل إلى العبد إلا على سبيل المجاز ، وزعم هؤلاء الجاهلون أن الله سبحانه يلوم العبد ويعاقبه ، ويخلده في النار ويعذبه ، على أمور لم يكتسبها العباد ، فالعباد مسيرون لا مخيرون ، فوصفوا الله بأنه يظلم الكافرين ، وأنه لا يحق له أن يعذب المشركين ، تعالى الله عن قول الظالمين علوا كبيرا ، هذا قول الجبرية في مقابل قول القدرية ، وكلاهما باطل وشر معلوم ، وفيهما من الباطل بدلالة اللزوم ، ما أنكره أهل السنة والجماعة ، فمذهب أهل السنة والجماعة مذهب الحق لأن اعتقادهم وسط وهذا هو شأنهم ، فالوسطية وصفهم كما قال تعالى في مدحهم: (وَكَذَلكَ جَعَلنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَليْكُمْ شَهِيداً) (البقرة:143) فأهل السنة لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء ، لا ينظرون بعين واحدة ، كالأعور الذي يرى من وجهة واحدة ، وإنما ينظرون بعينين سليمتين يرون الأمور فيها باعتدال ، ولا يردون شيئا مما قاله رب العزة والجلال ، كما أنهم يقدمون سنة نبيهم على عقولهم وآرائهم ، فأهل السنة يثبتون قدرة الله على جميع الموجودات ، ويؤمنون بخلقه وتكوينة لجميع الكائنات ، وينزهون الله عز وجل أن يكون في ملكه شيء لا يقدر عليه ، أو أن مشيئته أو إرادته الكونية لا تقع عليه ، ويثبتون العلم والتقدير السابق على الخلق ، وأن العباد يعملون على ما وفق ما قدره الحق ، وأن ما جف به القلم في اللوح عند الله ، واقع محتوم بالمشيئة وقدرة الله ، وأنهم لا يشاءون إلا أن يشاء الله ، ولا يفعلون إلا من بعد علمه وكتابته ومشيئته وتنفيذ صنعته ، وأنه ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وهذا عام لكل ما خلق وما يخلق وما سيخلق ، (أَلا يَعْلمُ مَنْ خَلقَ وَهُوَ اللطِيفُ الخَبِيرُ) (الملك:14) .
فالقدر عند السلف مبنى على أمرين اثنين: التقدير والقدرة ، فبدايته في التقدير ، وهو العلم السابق علم التقدير وحساب المقادير ، تقدير كل شيء قبل تصنيعه وتكوينه ، وتنظيم أمور الخلق قبل إيجاده وإمداده ، فهذا العلم هو التقدير الجامع التام ، وهو حساب النظام العام ، الذي يسير عليه الكون بمنتهى الإتقان من بدايته إلى نهايته ، كما قال تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (الأنعام:59) .
فبداية القدر في التقدير ونهايته في القدرة وتحقيق المقدر ، قدرة الله تعالى على تحقيق ما علمه ، وما كتبه ، وما شاء خلقه وتكوينه ، فلا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بعلمه ، وبعد كتابته ومشيئته وقدرته ، فبداية القدر العلم والتقدير ، والنهاية في القدرة ، ولذلك يقول تعالى: (وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) (الأحزاب:38) .
ويذكر العلامة ابن القيم في كتابه طريق الهجرتين أن القضاء والقدر منشؤه عن علم الرب وقدرته ، ولهذا قال الإمام أحمد القدر قدرة الله واستحسن ابن عقيل هذا الكلام من أحمد غاية الاستحسان ، وقال: إنه شفي بهذه الكلمة وأفصح بها عن حقيقة القدر ، ولهذا كان المنكرون للقدر فرقتين ، فرقة كذبت بالعلم السابق ونفته ، وهم غلاتهم الذين كفرهم السلف والأئمة وتبرأ منهم الصحابة ، وفرقة جحدت كمال القدرة وأنكرت أن تكون أفعال العبادة مقدورة لله تعالى وصرحت بأن الله لا يقدر عليها ، فأنكر هؤلاء كمال قدرة الرب وأنكرت الأخرى كمال علمه ، وقابلتهم الجبرية فجاءت على إثبات القدرة والعلم ، وأنكرت الحكمة والرحمة ، ولهذا كان مصدر الخلق والأمر ، والقضاء والشرع عن علم الرب وعزته وحكمته ، ولهذا يقرن تعالى بين الإسمين من هذه الثلاثة كثيرا - العليم والعزيز والحكيم - كقوله: (وَإِنَّكَ لتُلقَّى القُرْآنَ مِنْ لدُنْ حَكِيمٍ عَليمٍ) (النمل:6) وقال: (تَنْزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ) (الزمر:1) وقال في سورة فصلت (ذَلكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَليمِ) بعد ذكر تخليق العالم وترتيبه لمعاني الحكمة ، فكما لا يخرج مقدور عن علمه وقدرته ومشيئته فهكذا لا يخرج عن حكمته وحمده .
والله عز وجل خلق الدنيا بأسباب تؤدي إلى نتائج ، وعلل تؤدي إلى معلولات ، السبب والنتيجة ، أو العلة والمعلول مخلوقان بمراتب القدر سواء ارتبط المعلول بعلته أو انفصل عن علته ، أو ارتبط السبب بنتيجته أو انفصل عن نتيجته ، فالعلل والأسباب سواء ترابطت أو انفصلت فلا يؤثر ذلك في تعلقها بمراتب القدرة ، ولكن العلل والأسباب ترابطها أو انفصالها ظاهر عن كمال الحكمة ، وبيان ذلك أن الله بنى الحياة على ترابط الأسباب بحيث لا يخلق النتيجة إلا إذا خلق السبب فيها ، ولا يخلق المعلول إلا إذا خلق علته ، فلا يخلق النبتة إلا إذا خلق البذرة أو الحبة ، ولا يخلق الثمرة إلا إذا خلق النبتة ، لا يخلق الإبن إلا إذا أوجد الأب والأم ، ومن هنا ظهرت الأسباب للعقلاء كابتلاء يصح من خلاله العمل بأحكام البديهيات ، وحكم التجارب والأوليات ، فأهل اليقين ينظرون إلى الأسباب ويعلمون أن الله خلقها بمراتب القدر ، فيجدون أن الله عز وجل تارة ينسب الفعل إليه لأنه الخالق بتقدير وقدرة ، وتارة ينسب الفعل إليهم عند دعوتهم إلي العمل بمقتضى الشريعة والعقل والحكمة ، فمرة يقول في بيان التقدير والقدرة: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (الواقعة:64) وقال أيضا: (فَليَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا المَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلا وَحَدَائِقَ غُلبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَتَاعًا لكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ) ، فنفي عن الناس أفعالهم ، وتأثير الأسباب في رزقهم ، وأثبت لنفسه الأفعال وتصريف الأسباب ، لأنه الخالق في الحقيقة ، الذي علم وكتب وشاء وخلق ، قدر كل شيء بعلمه ، وكتبه في أم الكتاب بقلمه ، وأمضاه بمشيئته ، وخلقه بقدرته ، ثم أثبت أمر الناس أن يخذوا بالأسباب التي خلقها ، وأحكم لهم تدبيرها ، عملا بشرع الله كما قال جل في علاه: (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلهِ إِلا قَليلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ) (يوسف:47) ويقول أيضا: (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ليَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ) (الفتح:29) فسماهم زراعا وقال تزعون ، وسماهم كفارا لأنهم يضعون البذرة يغيبون البذرة في الأرض ويغطونها ، وذلك لأننا في دار ابتلاء وامتحان ، والأخذ بالأسباب حتم على بني الإنسان ، فهم مستخلفون في ملكه ، مخولون في أرضه ، فطالبنا بالعمل والإنفاق ، ليصل كل منا إلي ما قدره من الأرزاق: (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلكُمْ مُسْتَخْلفِينَ فِيهِ فَالذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لهُمْ أَجْرٌ كَبِير ٌ) (الحديد:7) فالدنيا دار ابتلاء وامتحان ، ولا بد أن يجتازها الإنسان ، وهو في هذه الدار بالخيار ، حر بين جنة أو نار ، كل ذلك ليؤول الناس إلى مصيرهم بعد الحساب ، ويتم ما قدره الله في أم الكتاب: (فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (الشورى:7) فكل ميسر لما خلق له ، وكل سينال ما قدر له . فاللّه عز وجل قد أظهر الدنيا أسبابا ونسب الفعل إلي أهلها لإظهار حكمته ، ونسب الفعل وأثبته لنفسه في موضع آخر لإظهار قدرته ، فلا يتغافل العبد عن قدرته بدعوى الانشغال في النظر إلى حكمته ، وأن الأسباب حاكمة على مشيئة الله وقدرته ، صارمة لا يمكن أن يتخلف المعلول فيها عن علته ، فالله عز وجل يخلق بأسباب وبغير أسباب إن خلق بأسباب فهي العادات ، وإن خلق بغير أسباب فهي خوارق العادات أو الكرامات والمعجزات .
الثمرة يخلقها الله بعد خلق النبتة ويربط خلق الثمرة بوجود النبتة ، ويمكن أن يخلق الثمرة من غير نبتة ودون وجودها ، فهذه مريم (كُلمَا دَخَل عَليْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَال يَا مَرْيَمُ أَنَّى لكِ هَذَا قَالتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) يقول المفسرون: كانت ترزق بفاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف ، وهى قد علمت أن الذي يخلقها بأسباب يخلق بغير أسباب ، ويرزق بحساب من العبد أو بغير حساب ، ولذلك كان من قوة يقينها أن الله اختارها لأعظم ابتلاء ، ستحمل على غير عادة النساء ، ويخرج منها عيسى كمعلول بغير علة ونتيجة بلا سبب (وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلنَا إِليْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّل لهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا قَال إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لكِ غُلامًا زَكِيًّا قَالتْ أَنَّى يَكُونُ لي غُلامٌ وَلمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلمْ أَكُنْ بَغِيًّا قَال كَذَلكِ قَال رَبُّكِ هُوَ عَليَّ هَيِّنٌ وَلنَجْعَلهُ آيَةً للنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا قَال كَذَلكِ قَال رَبُّكِ هُوَ عَليَّ هَيِّنٌ وَلنَجْعَلهُ آيَةً للنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ) ما المقصود بقوله هين ؟ هل هناك شيء يعز خلقه على الخالق أبدا ، ولكن الأسباب يخلقها الله بمراتب القدر ، ومراتب القدر في الخلق بأسباب ومن خلال العادات أكثر من مراتب القدر في الخلق بغير أسباب ومن خلال خوارق العادات ، الولد في الأسباب يوجد من أب وأم ، فالأب له أربع مراتب والأم كذلك والولد كذلك فجموع المراتب اثنتا عشرة مرتبة ، أما الولد في حالة عيسى فقد وجد من أم بلا أب ، فجموع المراتب ثمان مراتب ، فأيهما أهون العادات أو خوارق العادات ؟ وأهون من ذلك خلق آدم من غير أب ولا أم ، ولذلك قال تعالي في إجمال الخلق: (وَهُوَ الذِي يَبْدأُ الخَلقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَليْهِ وَلهُ المَثَلُ الأَعْلى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) (الروم:27) (أَوَليْسَ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلهُمْ بَلى وَهُوَ الخَلاقُ العَليمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُول لهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الذِي بِيَدِهِ مَلكُوتُ كُل شَيْءٍ وَإِليْهِ تُرْجَعُونَ) (يّس:83) .
فقد يخلق العلة ولا يخلق معلولها ، كما فعل بإبراهيم عليه السلام: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلينَ قُلنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْرَاهِيمَ) (الأنبياء:69) (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلكَ لآياتٍ لقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (العنكبوت:24) أضرموا نارا لا يقوى الطير على المرور من فوقها ، توفرت لهم العلة ولكن الله لم يخلق معلولها .
البخاري عن أنَسِ بنِ مالكٍ رضيَ اللهُ عنه: (أنَّ يَهودِيَّةً أتَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بشاةٍ مَسمومَةٍ فأكَل منها فجيء بها ، فقيل: ألا نقتُلُها ؟ ، وفي رواية مسلم فَجِيءَ بِهَا إِلى رَسُول اللّهِ . فَسَأَلهَا عَنْ ذلكَ ؟ فَقَالتْ: أَرَدْتُ لأَقْتُلكَ . قَال: مَا كَانَ اللّهُ ليُسَلطَكِ عَلى ذَاكِ ، ق أَوْ قَال : عَليَّ قَال قَالُوا: أَلاَ نَقْتُلها ؟ قَال لاَ .
وعند البخاري من حديث عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَال سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا تَقُولُ َلمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ قَال ليْتَ رَجُلا مِنْ أَصْحَابِي صَالحًا يَحْرُسُنِي الليْلةَ إِذْ سَمِعْنَا صَوْتَ سِلاحٍ فَقَال مَنْ هَذَا فَقَال أَنَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ جِئْتُ لأَحْرُسَكَ وَنَامَ النَّبِيُّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ .
أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ فَأَدْرَكَتْهُمْ القَائِلةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ العِضَاهِ فَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي العِضَاهِ - شجرة ذات شوك- يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ فَنَزَل النَّبِيُّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَعَلقَ بِهَا سَيْفَهُ ثُمَّ نَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ وَهُوَ لا يَشْعُرُ بِهِ ، فَقَال النَّبِيُّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ سَيْفِي فَقَال مَنْ يَمْنَعُكَ قُلتُ اللهُ فَشَامَ السَّيْفَ ، قيل فنزلت (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلغْ مَا أُنْزِل إِليْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لمْ تَفْعَل فَمَا بَلغْتَ رِسَالتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ) (المائدة:67) وقد يخلق المعلول بلا علة ، كما فعل بناقة صالح: (وَإِلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالحاً قَال يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُل فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَليمٌ) (لأعراف:73) (هود:64) (قَال هَذِهِ نَاقَةٌ لهَا شِرْبٌ وَلكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (الشعراء:155) (فَقَال لهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا) (فَعَقَرُوهَا فَقَال تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) (هود:65) (فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ) (الشعراء:157) (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَليْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا) (الشمس:14) .
وعند البخاري من حديث عبدِ الرحمنِ بنِ أبي بكرٍ: «أنَّ أصحابِ الصُّفَّةِ كانوا أُناساً فُقراءَ ، وأَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَن كان عندَهُ طعامُ اثنينِ فليَذْهَبْ بثالثٍ ، وإِنْ أَربعٌ فخامسٌ أو سادس» . وإنَّ أَبا بكرٍ جاءَ بثلاثةٍ فانطلقَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعشَرةٍ . قال: فهوَ أَنا وَأَبي وَأُمي ـ فلا أدري قال: وامرأتي ـ وخادِمٌ بينَنا وبينَ بَيتِ أبي بكر . وإِنَّ أَبا بكرٍ تَعشَّى عندَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ثم لبِثَ حيثُ صُليَتِ العِشاءُ ، ثم رجعَ فلبِثَ حتّى تعَشَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، فجاءَ بعدَ ما مضى مِنَ الليل ما شاءَ اللهُ . قالت له امرأَتهُ: وما حبَسكَ عن أضيافِكَ ـ أو قالت ضيفِكَ ـ ؟ قال: أَوَ ما عَشيِتيهم ؟ قالت: أَبَوا حتّى تَجيء ، قد عُرِضوا فأَبَوا . قال: فذهبتُ أَنا فاختبأْتُ . فقال: يا غُنثَرُ ـ الثقيل الوخيم طويل البال ، فجدَّعَ وسَبَّ ، دعا عليه بقطع الأنف وغيره من الأعضاء والسب الشتم ـ وقال: كُلوا لا هَنِيّاً . فقال: وَاللهِ لا أَطعَمُه أبداً . وأَيمُ اللهِ ، ما كنا نأْخُذُ من لُقمةٍ إلاّ رَبا من أَسْفلها أكثرُ منها . قال: يعني حتى شَبِعُوا ، وصارتْ أَكثَرَ مِما كانت قبل ذلك . فنظرَ إِليها أبو بكرٍ فإِذا هيَ كما هيَ أو أكثرُ . فقال لامرأتِه: يا أُختَ بني فِراسٍ ما هذا ؟ قالت: لا وقُرَّةِ عيني ، لهيَ الآنَ أَكثرُ منها قبل ذلكَ بثلاثِ مرّاتٍ . فأَكل منها أبو بكرٍ وقال: إِنما كان ذلكَ منَ الشيطانِ ـ يعني يَمينَهُ ـ ثمَّ أَكل منها لُقمةً ، ثمَّ حَملها إِلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فأصبحتْ عندَه . وكان بينَنا وبينَ قومٍ عَقدٌ ، فمضى الأجلُ ففرَّقَنا اثْنَيْ عشرَ رجُلاً معَ كل رجلٍ منهم أُناسٌ اللهُ أعلم كم مَع كل رجُلٍ ، فأكلوا منها أجمعون ، أَو كما قال .
وعند البخاري من حديث أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَال أُتِيَ النَّبِيُّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ بِإِنَاءٍ وَهُوَ بِالزَّوْرَاءِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ فَجَعَل المَاءُ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ فَتَوَضَّأَ القَوْمُ قَال قَتَادَةُ قُلتُ لأَنَسٍ كَمْ كُنْتُمْ قَال ثَلاثَ مِائَةٍ أو قريبا من ذلك .
علمنا أن مراتب القدر أربع مراتب علم وكتابة ومشيئة وخلق ، ما الفرق بين القضاء والقدر ؟ قد يأتي القضاء بمعنى القدر لاشتراكهما في ثلاث مراتب أما من جهة الفرق بينهما فيمكن حصر ذلك في أربعة أمور:
1- القضاء ثلاث مراتب والقدر أربع: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لهُ كُنْ فَيَكُونُ) (البقرة:117) (قَالتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لي وَلدٌ وَلمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَال كَذَلكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لهُ كُنْ فَيَكُونُ) (آل عمران:47) (هُوَ الذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لهُ كُنْ فَيَكُونُ) (غافر:68) ، القضاء يستصدر منه الأحكام والقدر تنفيذه لأنه من القدرة كما في السلطة القضائية والسلطة التنفيذية ، (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُل سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَليمِ) (فصلت:12) .
2- القضاء غيب ويكون مشهودا بالقدرة ، وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل) ، يقول الغزنوى: (اعلم بأن القدر سر والقضاء ظهور السر على اللوح) .
3- القضاء يسبق القدر ، أو يسبق القدر من جانب القدرة ، ويشترك معه من جانب التقدير ، انظر إلى الفرق بين القضاء والقدر عند الهدهد الموحد: (أَلا يَسْجُدُوا للهِ الذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلنُونَ اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ) (النمل:26) .
4- القضاء أعم من حيث التعلق والقدر أخص ، والقدر أعم من حيث المراتب والقدر أخص ، القضاء يتعلق بما كان وما هو كائن وما سيكون ، أما القدر من جانب القدرة والخلق والتكوين فيتعلق بما كان وما هو كائن ، أما من جهة المراتب فالقدر أعم لأنه أربع مراتب والقضاء أخص لأنه ثلاث .
هذه مراتب القدر قد بيناها ووضحناها فيجب على الموحدين الإيمان بها والعمل بالأسباب من خلالها ، معتقدين أن ما قدره الله سوف يكون وأن حكمته في خلقه أبلغ ما يكون ، يسوق أولى التعذيب بالسبب الذي يقدره نحو العذاب بعزة - ويهدي أولى التنعيم نحو نعيمهم بأعمال صدق في رجاء وخشية - وأمر إله الخلق بين ما به يسوق أولى التنعيم نحو السعادة - فمن كان من أهل السعادة أثرت أوامره فيه بتيسير صنعة - ومن كان من أهل الشقاوة لم ينل بأمر ولا نهى بتقدير شقوة - ولا مخرج للعبد عما به قضى ولكنه مختار حسن وسوأة - فليس بمجبور عديم الإرادة ولكنه شاء بخلق الإرادة - ومن أعجب الأشياء خلق مشيئة بها صار مختار الهدى بالضلالة - ولله رب الخلق أكمل مدحة وصلى إله الخلق جل جلاله على المصطفي المختار خير البرية .
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .
شافيا لكل حائر ، وردا كافيا لكل شبهة .
مجموعة محاضرات
للدكتور محمود عبد الرازق الرضواني
يتابعها بنفسه مع طلاب العلم الرغبين في دراسة عقيدة السلف في القضاء والقدر
أولا : بسم الله الرحمن الرحيم
مراتب القدر - المحاضرة الأولى
المرتبة الأولى العلم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الذِي خَلقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلقَ مِنْهَا زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الذِي تَتَساءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَليْكُمْ رَقِيبًا) (النساء/1) (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (الحشر/18) (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلمُون) (آل عمران/102) ، أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
اليوم نتحدث بإذن الله تعالى عن عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان بالقضاء والقدر ومسؤولية الإنسان عن أفعاله ، فمن آثار الإيمان بتوحيد الربوبية إفراد الله بمراتب القضاء والقدر ، مراتب القضاء والقدر من أهم الموضوعات التي استحوذت على فكر الناس وعقيدتهم ، أسئلة كثيرة تدور بينهم ، هل الإنسان مسير في أفعاله مجبور ، أم أنه حر مخير مسئول ؟ هل أفعال العباد مقدرة مكتوبة قبل خلقهم ووجودهم ؟ وإذا كانت الأعمال مقدرة على العباد سلفا فما الفائدة من الاجتهاد والعمل ؟ وهل العمر يطول أو يقصر عند الأخذ بالأسباب مع كونه مكتوبا في أم الكتاب ؟ وهل المقتول مات بأجله ؟ وغير ذلك من التساؤلات التي كثر فيها النقاش ؟ واليوم نبدأ معكم الحديث في هذه المحاضرة عن مراتب القضاء والقدر .
الإيمان بالقدر هو الركن السادس من أركان الإيمان ، فأركان الإيمان حصرها رسول الله صلي الله عليه وسلم في ستة أركان ، روى الإمام مسلم من حديث عبد الله بن عمر أنه قَال: حَدَّثَنِي أَبِي عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ قَال بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُول اللهِ صَلى اللهم عَليْهِ وَسَلمَ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلعَ عَليْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لا يُرَى عَليْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ حَتَّى جَلسَ إِلى النَّبِيِّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلى فَخِذَيْهِ وَقَال يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلامِ فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ الإِسْلامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صَلى اللهم عَليْهِ وَسَلمَ وَتُقِيمَ الصَّلاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ البَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِليْهِ سَبِيلا قَال صَدَقْتَ قَال فَعَجِبْنَا لهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ قَال فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ قَال أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ قَال صَدَقْتَ قَال فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ قَال أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ قَال فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ قَال مَا المَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلمَ مِنَ السَّائِل قَال فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا قَال أَنْ تَلدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا وَأَنْ تَرَى الحُفَاةَ العُرَاةَ العَالةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي البُنْيَانِ قَال ثُمَّ انْطَلقَ فَلبِثْتُ مَليًّا ثُمَّ قَال لي يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ قُلتُ اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلمُ قَال فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلمُكُمْ دِينَكُمْ) .
فأركان الإِيمَانِ التي ذكرها رسول الله لجبريل وهو في صورة الأعرابي أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ، وقد صدقه جبريل على ذلك ، وهذه الأركان حملت في ترتيبها معنا مقصودا ، يراه أصحاب البصيرة مشهودا ، وبين الكلمات موجودا ، فتأخير الركن السادس كان أمرا مقصودا ، فالمعنى الموضوع بين أركان الإيمان ، أن تؤمن بالله الذي أنزل ملائكته بكتبه على رسله ليحذروا العباد من اليوم الآخر ، فإذا انتهى الناس بعد العرض والحساب ، واستقروا في الآخرة للثواب والعقاب ، عندها يتم قدر الله كما ورد في أم الكتاب ، قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وهذه حقيقة الإيمان بالقدر خيره وشره ، فمن حديث عمرو بن العاص رضى الله عنه الذي رواه الإمام مسلم في كتاب القدر أنه قَال: (سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صلي الله عليه وسلم يَقُولُ:كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الخَلائِقِ قَبْل أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِخَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ) .
وروى الإمام مسلم من حديث جابر بن عبد الله أن سُرَاقَة بْنَ مَالكٍ قَال: يَا رَسُول اللهِ بَيِّنْ لنَا دِينَنَا كَأَنَّا خُلقْنَا الآنَ فِيمَا العَمَلُ اليَوْمَ أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلامُ وَجَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ أَمْ فِيمَا نَسْتَقْبِلُ قَال لا بَل فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلامُ وَجَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ قَال فَفِيمَ العَمَلُ ؟ قَال: (فَقَال اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لعَمَلهِ) .
وقبل أن نبد في تفصيل الموضوع لا بد من التنبيه على أن توحيد الربوبية هو أساس الفهم الصحيح لقضية الإيمان بالقضاء والقدر ، فالسلف يؤسسون فهمهم للقضاء والقدر على توحيد الربوبية ، وإفراد الله بالخلقية ، وما يلزم ذلك من صفات الله كالعلم والإدارة والقدرة ، فيستحيل عندهم حدوث شيء أو فعل بدون علمه أو قدرته سبحانه وتعالى ، فلا يخرج عن قدرته مقدور ، ولا ينفك عن حكمه مفطور ، ولا يعذب عن علمه معلوم ، يفعل ما يريد ، ويخضع لحكمه العبيد ، ولا يجرى في سلطانه إلا ما يشاء ، ولا يحصل في ملكه إلا ما سبق به القضاء ، ما علم أنه يكون من المخلوقات أراد أن يكون ، وما علم أنه لا يكون أراد ألا يكون ، فهو سبحانه وتعالى عالم بما كان وما هو كائن وما سيكون وما لو كان كيف يكون .
فمن شروط صحة إيمان العبد أن يصدق بجميع أقدار الله تعالى خيرها وشرها ، أنها من الله تعالى ، سابقة في علمه جارية في خلقه بحكمه ، فلا حول لهم عن معصيته إلا بعصمته ، ولا قوة لهم على طاعته إلا برحمته ، ولا يستطعيون لأنفسهم ضرا ولا نفعا إلا بمشيئته .
فتوحيد الربوبية هو إفراد الله بأفعاله ؟ أو إفراد الله بالخلق والتدبير ، فلا لا خالق إلا الله ، ولا مدبر للكون سواه ، فالرب في اللغة هو من أنشأ الشيء شيئا فشيئا إلى حد التمام ، وهو مبنى على التربية أو إصلاح شئون الآخرين ورعاية أمورهم ، وأول ركن في توحيد الربوبية إفراد الله بالخلق والتقدير والتكوين وإنشاء الشيء من العدم ، ومن ثم إفراده بلوازم ذلك من العلم والمشيئة والقدرة ، والملك والغنى والقوة والإحياء والإبقاء والهداية ، والرزق والإمداد والرعاية ، والإفناء والإماتة والإعادة ، والهيمنة والعزة والإحاطة ، وكل ما يلزم من صفات الذات وصفات الأفعال لتخليق الشيء وتصنيعه ، فالخالق هو الذي يستغنى بنفسه فلا يحتاج إلى غيره ، وأن يحتاج إليه كل من سواه .
ومن اللوازم المترتبة على إفراد الله بالخلق ، إفراده بمراتب القضاء والقدر ، ما المقصود بمراتب القدر ؟ من المعلوم أن المُصَنِّعَ الذي يشيد البنيان لا بد أن يبدأ مشروعه أولا بفكرة في الأذهان ومعلومات مقننة بدقة وإتقان ، درسها جيدا وقام فيها بتقدير حساباته وضبط أموره وإمكانياته ، ثم يقوم بكتابة هذه المعلومات ويخط لها في بضع ورقات أنواعا من الرسومات التي يمكن أن يخاطب من خلالها مختلف الجهات ، ثم يتوقف الأمر بعد ذلك على مشيئته وإرادته في التفيذ وتوقيت الفعل إن توفرت لديه القدرة والإمكانيات ، ثم يبدأ في التنفيذ إلى أن ينتهي البنيان كما قدر له في الأذهان ، فهذه مراحل تصنيع الأشياء بين المخلوقات بحكم العقل والفطرة ، فلا بد لصناعة الشيء من العلم والكتابة والمشيئة ومباشرة التصنيع والفعل ، فالله سبحانه وله المثل الأعلى منفرد بمراتب القضاء والقدر ، وهى عند السلف المراحل التي يمر بها المخلوق من كونه معلومة في علم الله في الأزل إلى أن يصبح واقعا مخلوقا مشهودا ، وهى عندهم أربع مراتب تشمل كل صغيرة وكبيرة في الوجود ، قال ابن قيم الجوزية رحمه الله : مراتب القضاء والقدر التي من لم يؤمن بها لم يؤمن بالقضاء والقدر أربع مراتب: المرتبة الأولى علم الرب سبحانه بالأشياء قبل كونها ، المرتبة الثانية كتابته لها قبل كونها ، المرتبة الثالثة مشيئته لها ، والرابعة خلقه لها .
وسوف نتناول هذه المراتب بشيء من التفصيل لما لها من دور كبير في بيان حقيقة القضاء والقدر ، فالمرتبة الأولى من مراتب القدر هي العلم السابق علم التقدير وحساب المقادير ، تقدير كل شيء قبل تصنيعة وتكوينه ، وتنظيم أمور المخلوقات قبل إيجادها وإمدادها ، فهذا العلم هو التقدير الجامع التام وحساب النظام العام ، الذي يسير عليه الكون من بدايته إلى نهايته ، وهذا العلم اتفق عليه الرسل من أولهم إلى خاتمهم واتفق عليه جميع الصحابة ومن تبعهم من الأمة ، وخالفهم مجوس الأمة القدرية المعتزلة وكتابته السابقة تدل على علمه بها قبل كونها ، وقد قال تعالى:
(وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ وَهُوَ الذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِالليْل وَيَعْلمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ليُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِليْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الأنعام:60) وفيها مراتب العلم .
روى البخاري من حديث 1039 ابْنِ عُمَرَ قَال رَسُولُ اللهِ صَلى اللهم عَليْهِ وَسَلمَ مِفْتَاحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلمُهَا إِلا اللهُ لا يَعْلمُ أَحَدٌ مَا يَكُونُ فِي غَدٍ وَلا يَعْلمُ أَحَدٌ مَا يَكُونُ فِي الأَرْحَامِ وَلا تَعْلمُ نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ وَمَا يَدْرِي أَحَدٌ مَتَى يَجِيءُ المَطَرُ) .
وقال تعالى: (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَليمٌ خَبِيرٌ) (لقمان:34) .
وعند الإمام أحمد 15773 من حديث لقِيطِ بْنِ عَامِرٍ أنه خَرَجَ وَافِدًا إِلى رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ فقال: يَا رَسُول اللهِ مَا عِنْدَكَ مِنْ عِلمِ الغَيْبِ ؟ فَضَحِكَ وَقَال: ضَنَّ رَبُّكَ عَزَّ وَجَل بِمَفَاتِيحِ خَمْسٍ مِنَ الغَيْبِ لا يَعْلمُهَا إِلا اللهُ وَأَشَارَ بِيَدِهِ قُلتُ وَمَا هِيَ قَال عِلمُ المَنِيَّةِ قَدْ عَلمَ مَنِيَّةَ أَحَدِكُمْ وَلا تَعْلمُونَهُ وَعِلمُ المَنِيِّ حِينَ يَكُونُ فِي الرَّحِمِ قَدْ عَلمَهُ وَلا تَعْلمُونَ وَعَلمَ مَا فِي غَدٍ وَمَا أَنْتَ طَاعِمٌ غَدًا وَلا تَعْلمُهُ وَعَلمَ اليَوْمَ الغَيْثَ يُشْرِفُ عَليْكُمْ آزِلينَ آدِلين - متعبين مثقلين بالذنوب - مُشْفِقِينَ فَيَظَلُّ يَضْحَكُ قَال لقِيطٌ لنْ نَعْدَمَ مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ خَيْرًا وَعَلمَ يَوْمَ السَّاعَةِ .
(وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلمُهَا إِلا هُوَ) مفاتح في اللغة الفصيحة جمع مفتح ، ويقال مفتاح ويجمع مفاتيح ، والمفتح عبارة عن كل ما يحل غلقا محسوسا كالقفل الموضوع على البيت أو يحل غلقا معقولا كالفهم والنظر .
و مَفَاتِحُ الغَيْبِ في الآية هي الأسرار التي بها يتم تكوين المخلوقات ، كما يتوصل بالمفتاح إلى خزانة متينة تحتوى أسرار المشرعات الكبرى والمقتنيات العظمى ، ولذلك قال بعضهم المفتاح مأخوذ من قول الناس افتح على كذا أي أعطني أو أعلمني ما أتوصل إليه به ، فالله تعالى عنده علم الغيب وبيده الطرق الموصلة إليه لا يملكها إلا هو ، فمن شاء إطلاعه عليها أطلعه ، ومن شاء حجبه عنها حجبه ، ولا يكون ذلك إلا لأنبيائه ورسله ، بدليل قوله تعالى:
(وَمَا كَانَ اللهُ ليُطْلعَكُمْ عَلى الغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (آل عمران:179) .
ومن هنا نعلم أن الكهان والعرافين والمنجمين كاذبون على رب العالمين ، في إدعائهم علم الغيب وإخبارهم عما يحدث للإنسان ، وذلك لأنهم لا يخلقون شيئا في الملك ، وليس لهم شركة مع الله في إنشاء الخلق ، وليس لهم شيء في تدبير الأمر .
وفي صحيح مسلم عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلهُ عَنْ شَيْءٍ لمْ تُقْبَل لهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ ليْلةً) ، والعراف هو الحازر الذي يرجم بالغيب ، والمنجم الذي يدعى علم الغيب ، وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها ، والكهانة ادعاء علم الغيب .
فالله عز وجل عنده مفاتح الغيب يَعْلمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلمُهَا ، فذكر سقوط الورقة ولم يذكر إنشاءها ، لأن ذلك أبلغ في الدلالة على علم الله ، فالعلم الله له مراتب:
1- علمه بالشيء قبل كونه وهو سر الله في خلقة ، ضن به ربنا سبحانه وتعالى ، لا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل وهو المقصود بالمرتبة الأولى من مراتب القدر ، وهو علم مفاتح الغيب وتقدير الأمور ، كما قال تعالى: (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَليمٌ خَبِيرٌ) (يعلم مابين أيديهم) (اللهُ يَعْلمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) (الرعد:8) (قُل لا يَعْلمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) (النمل:65) (قُل أَنْزَلهُ الذِي يَعْلمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً) (الفرقان:6) .
ومن حديث عَليٍّ بن أبى طالب رَضِي الله تعالى عَنْه الذي وراوه البخاري ومسلم أنه قَال: (كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الغَرْقَدِ فَأَتَانَا النَّبِيُّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلهُ وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ - العود الصغير - فَنَكَّسَ -أطرق برأسه إلى الأرض - فَجَعَل يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ - يعنى يضرب بها في الأرض ضربا خفيفا - ثُمَّ قَال: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلا كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ وَإِلا قَدْ كُتِبَ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً فَقَال رَجُلٌ يَا رَسُول اللهِ أَفَلا نَتَّكِلُ عَلى كِتَابِنَا وَنَدَعُ العَمَل ، فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْل السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلى عَمَل أَهْل السَّعَادَةِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْل الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إِلى عَمَل أَهْل الشَّقَاوَةِ ، قَال رسول الله ص: أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لعَمَل السَّعَادَةِ وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لعَمَل الشَّقَاوَةِ ثُمَّ قَرَأَ: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لليُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِل وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ للعُسْرَى) .
2- علمه بالشيء وهو في اللوح بعد كتابته وقبل إنفاذ مشيئته ، فالله عز وجل كتب مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم ، فالمخلوقات في اللوح عبارة عن كلمات ، وتنفيذ ما في اللوح من معلومات تضمنتها الكلمات ، مرهون بمشيئته في تحديد الأوقات المناسبة لأنواع الابتلاءات ، وكل ذلك عن علمه بما في اللوح من حسابات وتقديرات ، يقول تعالى: (أَلمْ تَعْلمْ أَنَّ اللهَ يَعْلمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلكَ عَلى اللهِ يَسِيرٌ) (الحج:70) ، وقال تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْل أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلكَ عَلى اللهِ يَسِيرٌ ، لكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُل مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (الحديد:23) يقول ابن كثير في تفسيره: (يخبر سبحانه وتعالى عن قدره السابق في خلقه قبل أن يبرأ البرية أنه ما من مصيبة تحدث في الآفاق أو في النفوس إلا كتبها في اللوح المحفوظ ، وقوله: (مِنْ قَبْل أَنْ نَبْرَأَهَا) أي من قبل أن نخلق الخليقة ، وفي حديث مسلم: (قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء) وعند أبى داود وصححه الشيخ الألباني: (أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب قال: رب وماذا أكتب ؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة) ، فعلمه بالمكتوب في اللوح أحد مراتب العلم .
3- علمه بالشيء حال كونه وتنفيذه ، وخلقه وتصنيعه ، كما قال تعالى: (اللهُ يَعْلمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَار ٍ عَالمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَال) (وَإِذْ قَال رَبُّكَ للمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَليفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لكَ قَال إِنِّي أَعْلمُ مَا لا تَعْلمُونَ) (البقرة:30) (أَلمْ تَعْلمْ أَنَّ اللهَ يَعْلمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلكَ عَلى اللهِ يَسِيرٌ) (الحج:70) (يَعْلمُ مَا يَلجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الغَفُورُ) (سبأ:2) (هُوَ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ يَعْلمُ مَا يَلجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الحديد:4) (هُوَ أَعْلمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلمُ بِمَنِ اتَّقَى) (لنجم:32) .
4- علمه بالشيء بعد كونه وتخليقه وإحاطته الشاملة والكاملة بعد تمامه وفنائه: فالله عز وجل لما قال: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ - للدلالة على الإحاطة بكل شيء من بدايته إلى نهايته - إِلا يَعْلمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ، وَهُوَ الذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِالليْل وَيَعْلمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ليُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِليْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الأنعام:60) ولما قال (يَعْلمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) قال: (وَمَا خَلفَهُمْ) (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلماً) .
(قَدْ عَلمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ) (قّ:4) (أَوَلا يَعْلمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلنُونَ) (البقرة:77) (وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلمُ مَا تَكْسِبُونَ) (الأنعام:3) (أَلمْ يَعْلمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلامُ الغُيُوبِ) (التوبة:78) (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ليَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلنُونَ إِنَّهُ عَليمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (هود:5) (أَلا إِنَّ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قَدْ يَعْلمُ مَا أَنْتُمْ عَليْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِليْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللهُ بِكُل شَيْءٍ عَليمٌ) (النور:64) (وَرَبُّكَ يَعْلمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلنُونَ) (القصص:69) (فَاعْلمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لذَنْبِكَ وَللمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ يَعْلمُ مُتَقَلبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) (محمد:19) (أَلمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُل شَيْءٍ عَليمٌ) (المجادلة:7) (قُل إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلمْهُ اللهُ وَيَعْلمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران:29) (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (هود:6) ، فالله عز وجل علم ما كان وما هو كائن وما سيكون وما لو كان كيف يكون ، فهذه مراتب علم الله ، المرتبة الأولى من العلم هى المرتبة الأولى من مراتب القدر ، فعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه فقدر ذلك تقديرا محكما مبرما ليس فيه ناقض ولا معقب ولا مزيل ولا مغير .
فالله عز وجل قد علم أن الأشياء تصير موجودة لأوقاتها على ما اقتضته حكمته البالغة ، فكانت كما علم فإن حصول المخلوقات على ما فيها من غرائب الحكم ، لا يتصور إلا من عالم قد سبق علمه على ايجادها ، كما قال تعالى: (أَلا يَعْلمُ مَنْ خَلقَ وَهُوَ اللطِيفُ الخَبِيرُ) (الملك:14) ، ربنا أمرت فعصينا ، ونهيت فلما انتهينا ، وما كان ذلك جزاء إحسانك إلينا ، أنت العليم بما أعلنا وما أخفينا ، والمحيط بما لم نأت وما أتينا ، (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَليْهِ وَسَلمُوا تَسْليما ً) (الأحزاب:56) فاللهم صلي وسلم وبارك علي سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
بسم الله الرحمن الرحيم
مراتب القدر - المحاضرة الثانية
المرتبة الثانية الكتابة
الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علما ، من غير إغفال ولا نسيان ، من ذا يكيف ذاته أوصافه أفعاله ، وهو العظيم مكون الأكوان ، سبحانه ملكا على العرش استوى ، وحوى جميع الملك والسلطان ، وكلامه القرآن أنزل آيه ، وحيا على المبعوث من عدنان ، صلى عليه الله خير صلاته ، ما لاح في فلكيهما القمران ، هو جاء بالقرآن من عند الذي ، لا تعتريه نوائب الثقلان ، تنزيل رب العالمين ووحيه ، بشهادة الأحبار والرهبان .
عبد الله إذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان ، فاستحي من نظر الإله وقل لها ، إن الذي خلق الظلام يراني ، كن طالبا للعلم واعمل صالحا ، فكلاهما في الحق مقترنان ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من أقر بأن الله منفرد بالقضاء وتقدير المقادير ، وتصريف الأحكام بأنواع التدبير ، هي المقادير تجري في أعنتها فاصبر فليس لها صبر على حال ، يوما تريك خسيس الأصل ترفعه إلى العلاء ويوما تخفض العالي ، أما بعد . .
فقد تحدثنا في المحاضرة الماضية عن عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان بمراتب القدر وعلمنا أن المقصود بمراتب القدر المراحل التي يمر بها المخلوق من كونه معلومة قدرت في علم الله في الأزل إلى أن يصبح واقعا مخلوقا مشهودا ، وهى عندهم أربع مراتب تشمل كل صغيرة وكبيرة في الوجود ، وقد ضربنا لمراتب القدر مثلا بأن أي مشروع من المشروعات العملاقة ، لا بد أن تبدأ بدراسة جدوى ، وترتيب الأفكار في الأذهان ، معلومات مدروسة بدقة وإتقان تقدر فيها الحسابات والإمكانيات ، ثم بعد ذلك تكتب هذه المعلومات في بضع ورقات ، وتوضع مختلف الرسومات التي يخاطب بها أصحاب المشرع مختلف الجهات ، ثم يتوقف الأمر بعد ذلك على مشيئة من تتوفر لديه الإمكانيات ، ثم يبدأ في التنفيذ إلى أن ينتهي المشرع وفق ما قدر له من حسابات .
هذه مراحل تصنيع الأشياء بحكم العقل والبديهيات ، فلا بد لصناعة الشيء وتكوينه من العلم والكتابة والمشيئة ومباشرة التصنيع والفعل ، فالله سبحانه وله المثل الأعلى منفرد بمراتب القضاء والقدر ، وهى عند السلف كما ذكرنا المراحل التي يمر بها المخلوق من كونه معلومة مقدرة في علم الله في الأزل إلى أن يصبح واقعا مخلوقا مشهودا ، وهى عندهم أربع مراتب تشمل كل صغيرة وكبيرة في الوجود ، وقد تحدثنا في المحاضرة الماضية عن المرتبة الأولى من مراتب القدر ، وهى علم الله السابق ، علم التقدير وحساب المقادير ، تقدير كل شيء قبل تصنيعة وتكوينه ، وتنظيم أمور الخلق قبل إيجاده وإمداده ، واليوم نستكمل الموضوع ونتحدث عن المرتبة الثانية من مراتب القدر ، المرتبة المتعلقة باللوح المحفوظ ، مرتبة كتابة المعلومات ، وتدوينها بالقلم في كلمات ، فكل مخلوق مهما عظم شأنه أو دق حجمه ، كتب الله ما يخصه في اللوح المحفوظ ، كتب تفصيل خلقه وإيجاده ، وما يلزم لنشأته وإعداده وإمداده ، وجميع ما يرتبط بتكوينه وترتيب حياته ، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة ، كما قال الإمام الطحاوى رحمه الله: (ونؤمن باللوح والقلم ، وبجميع ما فيه قد رقم) .
وروى أبو داود في سننه وصححه الشيخ الألباني من حديث (4692) عُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ أنه قال لابْنِهِ: (يَا بُنَيَّ إنَّكَ لنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الإيْمَانِ حَتَّى تَعْلمَ أنَّ مَا أصَابَكَ لمْ يَكُنْ ليُخْطِئَك َ ، وَما أخْطَأَكَ لمْ يَكُنْ ليُصِيبَكَ ، سَمِعْتُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إنَّ أوَّل مَا خَلقَ الله تَعَالى القَلمَ فقال له: اْكْتُبْ ، فقَال: رَبِّ وَمَاذَا أكْتُب ؟ قال: اْكْتُبْ مَقَادِيرَ كُل شَيْء حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ، يَا بُنَيَّ إنِّي سَمِعْتُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ مَاتَ عَلى غَيْرِ هذَا فَليْسَ مِنِّي) .
وروى الترمذي (2181) من حديث عبد الوَاحِدِ بن سُليمٍ ، قال: قَدِمْتُ مَكَّةَ فَلقِيتُ عَطَاءَ بنَ أبي رَبَاحٍ فَقُلتُ لهُ: يَا أَبَا محمدٍ ، إِنَّ أَهْل البَصْرَةِ يَقُولُونَ في القَدَرِ ، قال: يَا بُنَيَّ ، أَتَقْرَأ القُرْآنَ ؟ قُلتُ: نَعَمْ ، قال: فَاقْرَأْ الزُّخْرُفَ قال: فَقَرَأْتُ: (حم وَالكِتَابِ المُبِينِ إِنَّا جَعَلنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لعَلكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ في أُمِّ الكِتَابِ لدَيْنَا لعَليٌّ حَكِيمٌ) .
قال: أَتَدْرِي مَا أُمُّ الكِتَاب ِ ؟ قُلتُ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلمُ ، قال: فَإِنَّهُ كِتَابٌ كَتَبَهُ الله قَبْل أَنْ يَخْلُقَ السَّماءَ وَقَبْل أَنْ يَخْلُقَ الأَرْضَ ، فِيهِ أَنَّ فِرْعَوْنَ مِنْ أَهْل النَّارِ ، وَفِيهِ (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لهَبٍ وَتَبَّ) .
قال عَطَاءٌ: فَلقِيتُ الوَليدَ بنَ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ صَاحِبَ رسول الله ، فَسَأَلتُهُ: مَا كَانَتْ وَصِيَّةُ أَبِيكَ عِنْدَ المَوْتِ ؟ قال: دَعَانِي فَقَال: يَا بُنَيَّ اتَّقِ الله ، وَاعْلمْ أَنَّكَ لنْ تَتَّقِىَ الله حَتَّى تُؤْمِنَ بِالله وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ كُلهِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ، فَإِنْ مُتَّ عَلى غَيْرِ هَذَا دَخَلتَ النَّارَ ، إِنِّي سَمِعْتُ رسول الله يقولُ: (إِنَّ أَوَّل مَا خَلقَ الله القَلمَ . فقال: اكْتُبْ ، قال: مَا أَكْتُبُ ؟ قال: اكْتُبْ القَدَرَ مَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلى الأَبَد) .
وعند أحمد في المسند (22327) أن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: (أَوْصَانِي أَبِي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى فَقَال: يَا بُنَيَّ أُوصِيكَ أَنْ تُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ فَإِنَّكَ إِنْ لمْ تُؤْمِنْ أَدْخَلكَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالى النَّارَ ، قَال: وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ يَقُولُ أَوَّلُ مَا خَلقَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالى القَلمُ ثُمَّ قَال لهُ اكْتُبْ قَال وَمَا أَكْتُبُ قَال فَاكْتُبْ مَا يَكُونُ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ) .
أخبرنا الله عز وجل أنه قبل وجود السماوات والأرض كان العرش والماء ، فقال تعالى: (وَهُوَ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلى المَاءِ) ، وعند البخاري من حديث عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه قَال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (كَانَ اللهُ وَلمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلى المَاءِ ثُمَّ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْض وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُل شَيْءٍ) .
ومن باب الفضول ربما يسأل سائل ويقول: وماذا قبل العرش والماء ؟ والجواب ، أن الله قد شاء أن يوقف علمنا بالمخلوقات عند معرفة العرش والماء ، فقال تعالى: (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ) ، وقال أيضا:
(ومَا أُوتِيتُمْ مِنْ العِلمِ إِلا قَليلا) ، فالله أعلم بوجود مخلوقات قبل العرش والماء أم لا ، لكننا نعتقد أن وجودها أمر ممكن في قدرة الله تعالى ، لأنه أخبرنا أنه يخلق ما يشاء ويفعل ما يشاء ، (قال كَذَلكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، وقال: (ذُو العَرْشِ المَجِيدُ فَعَّالٌ لمَا يُرِيدُ) ، فالله متصف بصفات الأفعال ، ومن لوازم الكمال أنه فعال لما يريد على الدوام أزلا وأبدا ، سواء كان ذلك قبل العرش والماء أو بعد العرش والماء ، لكن الله أوقف علمنا عند هذا الحد ، فقال تعالى: (وَلا يُحِيطُونَ بِه عِلما) .
ثم خلق الله عز وجل بعد العرش والماء القلم واللوح ، روى الحاكم في المستدرك ، والطبراني في الكبير بسند صحيح (81611) من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: (إن مما خلق الله لوحا محفوظا من درة بيضاء ، دفتاه من ياقوتة حمراء قلمه نور وكتابه نور ينظر فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة ، ففي كل مرة منها يخلق ويرزق ، ويحيى ويميت ، ويعز ويذل ، ويفعل ما يشاء فذلك قوله تعالى: (كل يوم هو في شأن) .
وقد اختلف العلماء هل القلم أول المخلوقات أو العرش ؟ والصحيح أن العرش قبل القلم ، لما ثبت في صحيح مسلم من عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ أنه قَال: (سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ يَقُولُ كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الخَلائِقِ قَبْل أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ ، وَعَرْشُهُ عَلى المَاءِ) وفي رواية الترمذي 2156 (قَدَّرَ اللهُ المَقَادِيرَ قَبْل أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ) .
فهذا الحديث صريح في أن التقدير وقع بعد خلق العرش ، أما ما جاء في حديث عُبَادَة بنُ الصَّامِتِ رضي الله عنه: (إن أوَّل مَا خَلقَ الله تَعَالى القَلمَ فقال له: اْكْتُبْ ، فقَال: رَبِّ وَمَاذَا أكْتُب ؟ قال: اْكْتُبْ مَقَادِيرَ كُل شَيْء حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ) فعلى معنيين عند العلماء:
الأول: أنه عند أول ما خلق القلم قال له اكتب ؟ فقَال: رَبِّ وَمَاذَا أكْتُب ؟ قال: اْكْتُبْ مَقَادِيرَ كُل شَيْء .
المعنى الثاني: هو أول المخلوقات من هذا العالم بعد العرش والماء ، إذ أن الحديث صريح في أن العرش سابق على التقدير ، وأن التقدير مقارن لخلق القلم .
والأقلام التي وردت في كتاب الله وفي سنة رسوله أنواع سوف نتحدث عنها بالتفصيل في أنواع التقدير والتدبير ، وعند البخاري من حديث 3342 ابْن عَبَّاسٍ وَأَبى حَيَّةَ الأَنْصَارِيَّ أنهما كَانَا يَقُولانِ إن النَّبِي صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قال ليلة المعراج: (ثُمَّ عُرِجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ لمُسْتَوًى أَسْمَعُ صَرِيفَ الأَقْلامِ) حيث فَرَضَ اللهُ عَلي نبيه خَمْسِينَ صَلاةً ثم صارت خَمْسا في الفعل وخَمْسين في الأجر .
وما دون في أم الكتاب لا يقبل المحو والتبديل أو التعديل والتغيير ، فكل ما كتب فيه واقع لا محالة ، كما قال تعالى: (قُل لنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللهُ لنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلى اللهِ فَليَتَوَكَّل المُؤْمِنُون َ) (التوبة:51) .
ما السر في عدم التغيير والتبديل ؟ السر في عدم التغيير والتبديل ، أن الخلق والتصنيع والتكوين قائم علي ما دون فيه ، فالمخلوقات وسائر المصنوعات إلى قيام الساعة ، أحكم الله غاياتها وقضى في اللوح أسبابها ومعلولاتها ، فلا يتغير بنيان الخلق الذي حكم به الحق إلا بعد استكماله وتمامه ، ولا يتبدل سابق الحكم في سائر الملك إلا بقيامه وكماله ، وهذه مشيئة الله في خلقه ، وما قضاه وقدره في ملكه ، فالله عز وجل على عرشه في السماء يفعل ما يشاء ، وبيده أحكام التدبير والقضاء ، حكم بعدله أن يقوم الخلق على الابتلاء ، ثم يتحول العالم إلى دار الجزاء ، فالله عز وجل يخلق ما يشاء ، ولكن حكمة سبقت فيما تم به القضاء ، ولذلك ينبهنا الله في بعض المواطن إلى هذه الحقيقة ، وأنه سبحانه وتعالى قادر على أن يفعل ما يشاء ، لولا ما دون في الكتاب من أحكام القضاء:
(لوْلا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) (لأنفال:68) (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلفُوا وَلوْلا كَلمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلفُونَ) (يونس:19) (وَلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ فَاخْتُلفَ فِيهِ وَلوْلا كَلمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (هود:110) (وَلوْلا كَلمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لكَانَ لزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً) (طه:129) (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلوْلا كَلمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمّىً لقُضِيَ بَيْنَهُمْ) (الشورى:14) (أَمْ لهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلوْلا كَلمَةُ الفَصْل لقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالمِينَ لهُمْ عَذَابٌ أَليمٌ) (الشورى:21) .
والعقلاء يعلمون أن العلماء من البشر ، لو اجتمعوا على وضع خطة محكمة لبناء مشروع عملاق أو أي مشروع من المشروعات ، درسوا فيها جميع الجوانب بمختلف المقاييس والدراسات ، وراعوا في خطتهم الموازنة بين السلبيات والإيجابيات ، ثم وضعوا تخطيطا محكما لا مجال فيه للإضافات ، ثم انتهوا إلى تقرير شامل دونوه في كتاب كامل أو مجموعة من الملفات ، ثم قدموا هذا المكتوب لإدرارة التنفيذ والمشروعات ، هل يصح بعد ذلك لعامل جاهل ينقصه العلم والفهم أن يعترض أو يغير أو يبدل في هذا المشروع الضخم ؟
هل يصح أن يعبث فيه حسب هواه ، أو يغير في تخطيطه على وفق ما يراه ؟ فالله وله المثل الأعلى كتب مقادير كل شيء ورفعت الأقلام وجفت الصحف حتى يتم الخلق على ما قضى به الحق ، روى الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث 2516 ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: (كُنْتُ خَلفَ رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ يَوْمًا فَقَال يَا غُلامُ إِنِّي أُعَلمُكَ كَلمَاتٍ احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلتَ فَاسْأَل اللهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَاعْلمْ أَنَّ الأُمَّةَ لوِ اجْتَمَعَتْ عَلى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لكَ وَلوِ اجْتَمَعُوا عَلى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَليْكَ رُفِعَتِ الأَقْلامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ) .
وفي المسند 2800 (يَا غُلامُ أَوْ يَا غُليِّمُ أَلا أُعَلمُكَ كَلمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهِنَّ فَقُلتُ بَلى فَقَال احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ تَعَرَّفْ إِليْهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ وَإِذَا سَأَلتَ فَاسْأَل اللهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ قَدْ جَفَّ القَلمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ فَلوْ أَنَّ الخَلقَ كُلهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَليْكَ لمْ يَقْدِرُوا عَليْهِ وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَليْكَ لمْ يَقْدِرُوا عَليْهِ وَاعْلمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ وَأَنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا) .
فالمخلوقات ولله المثل الأعلى كمشروع عملاق كامل ، موضوع على تخطيط محكم شامل ، لا يصح العبث فيه من قبل أحمق جاهل ، روى الإمام مسلم من حديث جابر بن عبد الله أن سُرَاقَة بْنَ مَالكٍ قَال: يَا رَسُول اللهِ بَيِّنْ لنَا دِينَنَا كَأَنَّا خُلقْنَا الآنَ فِيمَا العَمَلُ اليَوْمَ أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلامُ وَجَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ أَمْ فِيمَا نَسْتَقْبِلُ قَال لا بَل فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلامُ وَجَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ قَال فَفِيمَ العَمَلُ ؟ قَال: (فَقَال اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لعَمَلهِ) .
روى البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال التَقَى آدَمُ وَمُوسَى فَقَال مُوسَى لآدَمَ آنْتَ الذِي أَشْقَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الجَنَّةِ قَال آدَمُ أَنْتَ مُوسَى الذِي اصْطَفَاكَ اللهُ بِرِسَالتِهِ وَاصْطَفَاكَ لنَفْسِهِ وَأَنْزَل عَليْكَ التَّوْرَاةَ قَال نَعَمْ قَال: أَتَلُومُنِي عَلى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللهُ عَليَّ قَبْل أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً) .
ولا تعارض بين ذكر الأربعين وبين ما ثبت في صحيح مسلم من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ أن رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال: (كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الخَلائِقِ قَبْل أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ ، وَعَرْشُهُ عَلى المَاءِ) .
وذلك كما ذكر العلماء أن ابتداء المدة وقت الكتابة في الألواح خَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ ، وآخرها ابتداء خلق آدم ، وقال ابن الجوزي: المعلومات كلها قد أحاط بها علم الله القديم قبل وجود المخلوقات كلها ، ولكن كتابتها وقعت في أوقات متفاوتة ، وكذلك ما رواه الترمذي وصححه الشيخ الألباني 2882 من حديث النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال إِنَّ اللهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْل أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِأَلفَيْ عَامٍ أَنْزَل مِنْهُ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ البَقَرَةِ وَلا يُقْرَأَانِ فِي دَارٍ ثَلاثَ ليَالٍ فَيَقْرَبُهَا شَيْطَانٌ .
فالزمان السابق يختلف في مقداره عن الزمان اللاحق ، فضلا عن الزمان الذي يسبق خلق السماوات والأرض ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
(فالذي جاء به القرآن والتوراة واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها مع أئمة أهل الكتاب ، أن هذا العالم خلقه الله وأحدثه من مادة كانت مخلوقة قبله كما أخبر في القرآن أنه استوى إلى السماء وهي دخان أي بخار فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها ، وقد كان قبل ذلك مخلوق غيره كالعرش والماء ، كما قال تعالى: (وَهُوَ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلى المَاءِ) (هود/7) وخلق ذلك في مدة غير مقدار حركة الشمس والقمر ، كما أخبر أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، والشمس والقمر هما من السموات والأرض وحركتهما بعد خلقهما والزمان المقدر بحركتهما وهو الليل والنهار التابعان لحركتهما إنما حدث بعد خلقهما ، وقد أخبر الله أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، فتلك الأيام مدة وزمان مقدر بحركة أخرى غير حركة الشمس والقمر) .
واللوح فوق العرش عند رب العرش لما ثبت عند البخاري 7554 من حديث أبى هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنْهم أن رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قال: (إِنَّ اللهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْل أَنْ يَخْلُقَ الخَلقَ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ) ، ويقول تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُل شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) (يّس:12) فجمع الله في الآية بين كتابين اثنين ، اللوح المحفوظ وهو الكتاب السابق لأعمالهم قبل وجودهم وخلقهم ، والكتاب الحافظ لأعمالهم المقارن لأفعالهم ، وأخبر قبل ذلك أنه يحييهم بعد ما أماتهم ، يحييهم للبعث ويجازيهم بأعمالهم (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُل شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) .
وقال أنس وابن عباس: نزلت هذه الآية في بني سلمة أرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد النبوي وكانت منازلهم بعيدة فلما نزلت قالوا بل نمكث مكاننا ، وروى مسلم من حديث (1469) جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ ، قَال: خَلتِ البِقَاعُ حَوْل المَسْجِدِ . فَأَرَادَ بَنُو سَلمَةَ أَنْ يَنْتَقِلُوا إِلى قُرْبِ المَسْجِدِ . فَبَلغَ ذلكَ رَسُول اللّهِ . فَقَال لهُمْ: (إِنَّهُ بَلغَنِي أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَنْتَقِلُوا قُرْبَ المَسْجِدِ) قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُول اللّهِ قَدْ أَرَدْنَا ذلك ، فَقَال: (يَا بَنِي سَلمَةَ دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ ، دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ)
فقوله تعالى في سورة يس: (وَكُل شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) يعنى اللوح المحفوظ أو أم الكتاب أو الذكر الذي كتب فيه كل شيء ، وقوله أَحْصَيْنَاهُ يتضمن كتابة أعمال العباد قبل أن يعملوها ، والإحصاء في الكتاب يتضمن علمه بها ، وحفظه لها ، والإحاطة بعددها ، واثباتها في اللوح .
ويقول تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (الأنعام:38) وقد قيل إن الكتاب في قوله مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ هو اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه كل شيء ، فإنه قال وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ، وهذا يدل على أنها أمم أمثالنا في الخلق والرزق والتدبير والتقدير ، وأنها لم تخلق سدى بل لها حكم وعلل مدونة فيما قضى ، قدر خلقها وأجلها واستوفي لها رزقها ، وما تصير إليه ، ثم ذكر عاقبتها ومصيرها بعد فنائها ، فقال: (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) فذكر مبدأها ونهايتها ، وذكر بين المبدأ والنهاية قوله: (مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) أي كلها قد كتبت وقدرت وأحصيت قبل أن توجد .
وقال تعالى: (حم وَالكِتَابِ المُبِينِ إِنَّا جَعَلنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لعَلكُمْ تَعْقِلُون وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الكِتَابِ لدَيْنَا لعَليٌّ حَكِيمٌ) (الزخرف:4) أُمِّ الكِتَابِ هو اللوح المحفوظ كما قال ابن عباس ، وأم الكتاب أصل الكتاب وأم كل شيء أصله والقرآن كتبه الله في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض كما قال تعالى: (بَل هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لوْحٍ مَحْفُوظٍ) (البروج:22) يقول ابن القيم: (أجمع الصحابة والتابعون وجميع أهل السنة والحديث أن كل كائن إلى يوم القيامة فهو مكتوب في أم الكتاب) .
فكتابة العلم هي المرتبة الثانية من مراتب القدر ، ولك أن تتصور لو أن البشر ، اجتمعوا على كتابة ما يخص إنسانا واحدا أو مخلوقا واحد ، من أمور العلم والتقدير التي تخص عدد خلاياه ، وعدد نبضات القلب على مدار الوقت الذي يعيشه في هذه الحياة ، وعدد ذرات الهواء في كل نفس أخرجته رئتاه ، وما عدد ذرات الدم الذي سيره الله في مجراه ، وما مقدار طعامه وشرابه ، ورزقه الذي سيناله في دنياه ، ثم عمله ومقدار الحسنات والسيئات التي قدمها لأخراه ، أو اسأل المتخصصين عن عدد الكلمات التي كتبوا بها تنوع الشفرة الوراثية في الأحماض النووية في كل خلية بشرية ، أو حيوانية أو نباتية ؟
ستعلم أن البحر لو كان مِدَاداً لكَلمَاتِ رَبِّي لنَفِدَ البَحْرُ قَبْل أَنْ تَنْفَدَ كَلمَاتُ رَبِّي وَلوْ جِئْنَا بِمِثْلهِ مَدَداً ، (قُل لوْ كَانَ البَحْرُ مِدَاداً لكَلمَاتِ رَبِّي لنَفِدَ البَحْرُ قَبْل أَنْ تَنْفَدَ كَلمَاتُ رَبِّي وَلوْ جِئْنَا بِمِثْلهِ مَدَداً) (الكهف:109) (وَلوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (لقمان:27) فالكتاب الذي فوق العرش احتوى على الكلمات ، والكلمات احتوت على المعلومات ، وكل ذل ذلك مكتوب في اللوح قبل أن يخلق الله المخلوقات ، أو قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة .
لكن هنا سؤال هام ؟ نحن علمنا أن المرتبة الأولى من مراتب القدر هي العلم والمرتبة الثانية هي الكتابة في اللوح ، والمرتبة الثالثة التي سنتحدث عنها هي المشيئة ، ثم المرتبة الرابعة وهي الخلق والتنفيذ ؟ السؤال لما ذا كتب الله المقادير ؟ ألا يكفي علم الله وتقديره السابق ؟ وهل الله ينسي حتى يتذكر بالكتابة في اللوح ؟
والإجابة على ذلك أن الكتابة من لوازم كمال الحكمة ، ومن الأمور الضرورية لقيام الحجة ، وإذا كان الصانع الحكيم ، لا يصنع إلا ومخطط الصناعة بين يديه ، والمهندسون ينفذون ويشرفون عليه ، ثم بعد ذلك يطابقون المصنوع علي دليل التصنيع وقياس الرسومات ، ومراقبة الجودة تدقق في المواصفات وتطبيق القياسات ، ولا يمكن أبدا الاستغناء عن الكتابة في مثل هذه الضروريات ، أليست للخالق من باب أولي ، فكتابة مقادير المخلوقات من لوازم الحكمة والكمال ، ولا يحتاج إليها رب العزة والجلال ، كما أنه لا يحتاج إلي خلقه ولا يفتقر إليهم بأي حال ، وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر عن النبي عن رب العزة: (يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي ، وَلنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي ، يَا عِبَادِي لوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ ، كَانُوا عَلى? أَتْقَى? قَلبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ ، مَا زَادَ ذ?لكَ فِي مُلكِي شَيْئاً ، يَا عِبَادِي لوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ ، كَانُوا عَلى? أَفْجَرِ قَلبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، مَا نَقَصَ ذَلكَ مِنْ مُلكِي شَيْئاً ، يَا عِبَادِي لوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي ، فَأَعْطَيْتُ كُل إِنْسَانٍ مَسْأَلتَهُ ، مَا نَقَصَ ذ?لكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إِذَا أُدْخِل البَحْرَ ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لكُمْ ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَليَحْمَدِ اللّهَ ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذ?لكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ) .
كما أن كتابة الأعمال والمقادير فيها قيام الحجة على الخلق ، فربما يوجد أحمق كفرعون أو غيره يشكك في حكمة ربه (قَال فَمَا بَالُ القُرُونِ الأُولى قَال عِلمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى الذِي جَعَل لكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلكَ لكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَل مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلكَ لآياتٍ لأُولي النُّهَى مِنْهَا خَلقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) (طه:55) ، والعبد يكون بين يدي الحق ويكذب ربه ويقسم علي أنه يقول الصدق: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلفُونَ لهُ كَمَا يَحْلفُونَ لكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الكَاذِبُونَ) (المجادلة:18) (ثُمَّ لمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَل عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) (الأنعام:24) ، (هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَليْكُمْ بِالحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الجاثـية:29) (وَكُل إِنْسَانٍ أَلزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لهُ يَوْمَ القِيَامَةِ كِتَاباً يَلقَاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفي بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَليْكَ حَسِيباً) (الإسراء:14) (وَوُضِعَ الكِتَابُ فَتَرَى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلتَنَا مَال هَذَا الكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلمُ رَبُّكَ أَحَداً) (الكهف:49) (اليَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (يّس:65)
فالكتابة هي المرتبة الثانية من مراتب القدر ، ومراتب القدر العلم والكتابة والمشيئة والخلق ، وقفنا عند الكتابة ونلتقي في المحاضرة القادمة بإذن الله مع المرتبة الثالثة مرتبة المشيئة وصلى الله على نبينا محمد وعلي آله وصحبه وسلم .
بسم الله الرحمن الرحيم
مراتب القدر - المحاضرة الثالثة
المرتبة الثالثة المشيئة
الحمد لله الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى ، والذي أمات وأحيا ، والذي حكم على خلقه في هذه الدار بالموت والفنا ، والبعث إلي دار الجزاء والفصل والقضا ، لتجزى كل نفس بما تسعي ، كما قال في كتابه جل وعلا: (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِل الصَّالحَاتِ فَأُوْلئِكَ لهُمْ الدَّرَجَاتُ العُلا جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالدِينَ فِيهَا وَذَلكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّي) ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لم تزل على ألسنة الرسل ، شهادة تضيء لنا أقوم السبل ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أظهر الله دينه على سائر الملل ، وأصلي وأسلم على سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله ، صاحب المقام المحمود والحوض المورود ، واللواء المعقود ، فأكرم بمقامه وحوضه ولوائه ، وارضي اللهم عن آله وصحبه وأوليائه ، (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلئِكَ هُمْ الفَاسِقُونَ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ الفَائِزُونَ لوْ أَنْزَلنَا هَذَا القُرْآنَ على جَبَلٍ لرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا للنَّاسِ لعَلهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أما بعد .
يقول ابن القيم رحمه الله: مراتب القضاء والقدر التي من لم يؤمن بها ، لم يؤمن بالقضاء والقدر أربع مراتب المرتبة الأولى علم الرب سبحانه بالأشياء قبل كونها ، المرتبة الثانية كتابته لها قبل كونها ، المرتبة الثالثة مشيئته لها ، والرابعة خلقه لها ، والمقصود بمراتب القدر عند السلف المراحل التي يمر بها المخلوق من كونه معلومة في علم الله في الأزل إلى أن يصبح واقعا مخلوقا مشهودا ، وهذه المراتب تشمل كل صغيرة وكبيرة في الوجود ، كل مخلوق مهما كبر حجمه أو دق وزنه أو زاد قدره أو قل شأنه ، وقد ضربنا مثلا لذلك بأن أي مشروع أو بنيان تراه في أي مكان لا يأتي في لحظة أو ثوان ، بلا لا بد أن يمر بعدة مراحل ، فيبدأ المشروع أولا بفكرة في الأذهان ودراسة جدوى بدقة وإتقان ، قام فيها المهندسون بتقدير الحسابات وتحديد الإمكانيات ، ثم أعدوا تقريرا كتبوا فيه هذه المعلومات ، وجعلوا لها مجموعة من الملفات ، ثم يتوقف الأمر بعد ذلك على مشيئة صاحب المشروع ، وإرادته لتفيذ الموضوع ، فإن وافق تأتى المرحلة الأخيرة وهي مرحلة التنفيذ الفعلي للمشروع فينموا تحت إشراف المهندسين المختصين إلى أن يحين وقت كماله وتمام بنيانه ، فهذه مراحل تصنيع الأشياء بحكم العقل والفطرة ، فلا بد لصناعة الشيء من العلم والكتابة والمشيئة ثم مباشرة التصنيع والفعل ، فالله سبحانه وله المثل الأعلى منفرد بمراتب القضاء والقدر ، وهى العلم والكتابة والمشيئة ثم الخلق والتكوين .
وقد تحدثنا فيما سبق عن مرتبة العلم ومرتبة الكتابة ، واليوم نتحدث عن المرتبة الثالثة وهى مشيئة الله وإرادته الكونية ، فالمرتبة الثالثة من مراتب القضاء والقدر هي مرتبة المشيئة ، وهذه المرتبة قد دل عليها إجماع الرسل من أولهم إلى آخرهم وجميع الكتب المنزلة من عند الله ، والفطرة التي فطر الله عليها خلقه ، وجميع أدلة المعقول والمنقول ، وليس في الوجود أمر إلا بمشيئة الله وحده ، فما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وهذا أصل عقيدة التوحيد ، وأساس بنيانها الذي لا يقوم إلا به ، والمسلمون من أولهم إلى آخرهم مجمعون على أنه ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن .
التوحيد الحق أن يعلق العبد أفعاله علي مشيئة الله عز وجل في جميع الأوقات ، سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل فكل يجري بتقديره ومشيئته ، ومشيئته تنفذ ، لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم ، فما شاء لهم كان ، وما لم يشأ لم يكن يهدي من يشاء ، ويعصم ويعافي فضلاً ، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً ، وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله .
التوحيد الحق أن يعلق الموحد أفعاله بمشيئة الله عز وجل في جميع الأوقات ، سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل ، فقد علمنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن المسلم يقول فيما وقع من الأحداث ومضى انتهى: قدر الله وما شاء فعل ، ولا يقول: لو كان كذا وكذا ، لكان كذا وكذا ، فلا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ، لاسيما بعد نفاذ أمره ووقوعه ، وإنما يجوز أن يقول ذلك فيما يستقبل ، فقد روى مسلم في صحيحه (6725) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، أن رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قال: (المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلى اللّهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُل خَيْرٌ ، احْرِصْ عَلى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللّهِ وَلاَ تَعْجِزْ ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُل: لوْ أَنِّي فَعَلتُ كان كذا وكذا ، لم يُصبني كذا ، وَلكِنْ قُل: قَدَرُ اللّهِ وَمَا شَاءَ فَعَل ، فَإِنَّ لوْ تَفْتَحُ عَمَل الشَّيْطَانِ) .
وهنا تأتي المحاجة التي حدثت بين آدم وموسي عليهما وعلي نبينا أفضل الصلاة والسلام ، وموقف المسلم من الاحتجاج بالقدر ومشيئة الله علي معصيته فعند البخاري عن أبي هريرةَ رضيَ الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: حاجَّ موسى آدَمَ فقال له: أنتَ الذي أخرجتَ الناسَ من الجنةِ بذَنبكَ وأشقَيتَهم ، قال آدمُ: يا موسى أنتَ الذي اصطَفَاكَ اللهُ برسالاتِهِ وبكلامِهِ ، أتلومُني على أمر كتبهُ اللهُ عليّ قبل أن يَخلُقَني ، أو قَدَّرَهُ عليَّ قبل أن يَخلُقني ؟ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: فحج آدمُ موسى ، والاحتجاج بمشيئة الله وقضائه وقدره على المعصية له نوعان:
النوع الأول: وهو باطل عند السلف وهو الاحتجاج بمشيئة الله وقضائه وقدره علي المعصية التي وقعت ولم يتب منها العبد أو ما زال قائما عليها وهذا هو مذهب الجبرية ، يفعلون المنكر ويحتجون بقدر الله وأن ذلك فعله بهم ومشيئته التي لا يستطيعون دفعها كقولهم: (سَيَقُولُ الذِينَ أَشْرَكُوا لوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلكَ كَذَّبَ الذِينَ مِنْ قَبْلهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُل هَل عِنْدَكُمْ مِنْ عِلمٍ فَتُخْرِجُوهُ لنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ) (الأنعام:148) (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَليْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُل إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلى اللهِ مَا لا تَعْلمُونَ) (لأعراف:28) يقول ابن الجوزي : (ومن جملة ما لبس عليهم إبليس أنهم قالوا لو شاء الله ما أشركنا ، أي لو لم يرض شركنا لحال بيننا وبينه ، فتعلقوا بالمشيئة وتركوا الأمر ، ومشيئة الله تعم الكائنات) وقد احتج سارق على عمر رضي الله عنه بالقدر فقال وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره .
فالذين يعتقدون أن العبد مجبور على أفعاله قسرا ، ولا فعل له أصلا كالريشة تحركها الريح في اتجاه الهواء ، رفعوا اللوم عن كل كافر وفاسق وعاص وأن الله يعذبهم على فعله لا على فعلهم وأعمالهم القبيحة ، ثم اعتقدوا أن المعاصي التي نهى الله عنها في كتبه وعلى ألسنة رسله إذا عملوها صارت طاعات لأنهم يقولون أطعنا مشيئة الله الكونية فينا ، وهذا كفر لم يسبقهم إليه إلا إمامهم إبليس اللعين ، إذ يحتج على الله تعالى بحجتهم هذه فقال: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (الحجر:39) (قَال فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ) (لأعراف:16) .
وقد جاء واحد من أهل الكتاب إلي شيخ الإسلام ابن تيمية يسأله عن القدر ويحتج به على معصيته فقال: أيا علماء الدين ذمي دينكم تحير دلوه بأوضح حجة ، إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم ولم يرضه منى فما وجه حيلتي ، دعاني وسد الباب عنى فهل إلى دخولي سبيل بينوا لي قضيتي ، قضى بضلالي ثم قال ارض بالقضا فما أنا راض بالذي فيه شقوتي ، فإن كنت بالمقضي يا قوم راضيا فربى لا يرضى بشؤم بليتي ، فهل لي رضا ما ليس يرضاه سيدي فقد حرت دلوني على كشف حيرتي ، إذا شاء ربى الكفر منى مشيئة فهل أنا عاص في إتباع المشيئة ، وهل لي اختيار أن أخالف حكمه فبالله فاشفوا بالبراهين غلتي ، فأجاب شيخ الإسلام الشيخ ابن تيمية مرتجلا الحمد الله رب العالمين سؤالك يا هذا سؤال معاند مخاصم رب العرش بارى البرية ، فهذا سؤال خاصم الملأ العلا قديما به إبليس أصل البلية .
النوع الثاني: من الاحتجاج بمشيئة الله وقضائه وقدره على المعصية ، هو الاحتجاج بمشيئة الله وقضائه وقدره علي المعصية التي وقعت ، وتاب منها العبد ، وندم علي فعلها ، وهذا جائز مشروع ، فعند البخاري من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: احتجَ آدمُ وموسى ، فقال له موسى: يا آدمُ أنتَ أبونا ، خيَّبتنا وأخرجتَنا من الجنَّة ، قال له آدم: يا موسى اصطفاكَ اللّهُ بكلامه وخطَّ لكَ بيده ، أتلومني على أمر قدَّرَهُ اللّه عليَّ قبل أن يخلُقَني بأربعين سنة ؟ فحجَّ آدمُ موسى ، فحجَّ آدمُ موسى ، ثلاثاً .
احتج علي موسي بالقدر وصح احتجاجه لأنه يجوز الاحتجاج بمشيئة الله وقضائه وقدره علي المعصية التي وقعت ، وتاب منها العبد ، وندم علي فعلها ، كالعاصي بعد توبته عندما يتذكر العصيان ، فيحمد الله على نعمة الإسلام ، ويقول قدر الله وما شاء فعل .
هذا بالنسبة لرد الأمر وفعل العبد إلى مشيئة الله فيما مضي من أفعال وأحداث أما رد الأمر إلي المشيئة في الحاضر فهو كقول الله تعالي: (وَلوْلا إِذْ دَخَلتَ جَنَّتَكَ قُلتَ مَا شَاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَل مِنْكَ مَالاً وَوَلداً) (الكهف:39) وهنا ينسب الموحد النعمة إلي المنعم ويرد الأمر فيها إلى مشيئة الله ، فالعبد الصادق الموحد مؤمن بأن الله قائم بالقسط والتدبير ، ومنفرد بالمشيئة والتقدير ، يتولى تدبير شئون العالمين ، وهو أحكم الحاكمين ، وخير الرازقين ، لا يطمع في سواه ، ولا يرجو إلا إياه ، ولا يشهد في العطاء إلا مشيئته ، ولا يرى في المنع إلا حكمته ، ولا يعاين في القبض والبسط إلا قدرته ، فعند ذلك يقول عندما يرى نعم الله ، ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، وقال شعيب: (قَال يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالفَكُمْ إِلى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصلاح مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللهِ عَليْهِ تَوَكَّلتُ وَإِليْهِ أُنِيبُ) (هود:88) .
روى النسائي 3773 وصححه الشيخ الألباني أَنَّ يَهُودِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ فَقَال إِنَّكُمْ تُنَدِّدُونَ ، وَإِنَّكُمْ تُشْرِكُونَ تَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللهُ وشئت وَتَقُولُونَ وَالكَعْبَةِ ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَحْلفُوا أَنْ يَقُولُوا وَرَبِّ الكَعْبَةِ وَيَقُولُونَ مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شئت ، وعند أحمد في المسند 2557 من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلا قَال يَا رَسُول اللهِ مَا شَاءَ اللهُ وشئت فَقَال جَعَلتَنِي للهِ عَدْلا بَل مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ .
روى الإمام مسلم (5816) وفي إثبات المشيئة المطلقة لرب العزة والجلال من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أن رَسُول اللّهِ قال: (قَال اللّهُ عَزَّ وَجَل: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ ، يَقُولُ: يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ فَلاَ يَقُولنَّ أَحَدُكُمْ: يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ فَإِنِّي أَنَا الدَّهْرُ أُقَلبُ ليْلهُ وَنَهَارَهُ ، فَإِذَا شئتُ قَبَضْتُهُمَا) .
وقوله: فَإِنِّي أَنَا الدَّهْرُ أي صاحبه ومقلبه بدليل قوله بعدها: أُقَلبُ ليْلهُ وَنَهَارَهُ ، لأن بعض من لا تحقيق له في العلم زعم أن الدهر من أسماء الله ، وهو غلط فإن الدهر مدة زمان الدنيا ، وعرفه بعضهم بأنه أمد مفعولات الله في الدنيا ، ولا يخفي أن من سب الصنعة فقد سب صانعها ، فمن سب نفس الليل والنهار أقدم على أمر عظيم بغير معنى ، ومن سب ما يجري فيهما من الحوادث ، وذلك هو أغلب ما يقع من الناس ، يقول بعضهم لعنة الله على الأيام أو غير ذلك ، فالدهر أو الليل والنهار لا فعل لهم ولا تأثير ، بل كل شيء بمشيئة الله ومراده الكوني .
ويذكر الإمام الشافعي أن العرب كان شأنها أن تذم الدهر وتسببه عند المصائب التي تنزل بهم من موت أو هرم أو تلف أو غير ذلك ، فيقولون إنما يهلكنا الدهر ، وهو تعاقب الليل والنهار ، ويقولون أصابتهم قوارع الدهر وأبادهم الدهر فيجعلون الليل والنهار يفعلان الأشياء ، فيذمون الدهر بأنه الذي يفنيهم ويفعل بهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا الدهر على أنه الذي يفنيكم ، والذي يفعل بكم هذه الأشياء ، فإنكم إذا سببتم فاعل هذه الأشياء فإنما تسبون الله تبارك وتعالى ، فإنه فاعل هذه الأشياء .
أما رد الأمر إلي المشيئة في المستقبل: فهو كقول الله تعالى: (وَلا تَقُولنَّ لشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلكَ غَداً إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُل عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدا ً) (الكهف:24) ، روى البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال سليمانُ بن داودَ عليهما السلام: لأطُوفنَّ الليلةَ بمائةِ امرأةٍ ، تَلدُ كلُّ امرأةٍ غلاماً يُقاتلُ في سبيل الله ، فقال له المَلكُ: قُل إن شاء الله ، فلم يقُل وَنَسيَ ، فأطافَ بِهِنَّ ، ولم تَلدْ منهُن إلا امرأةٌ نِصفَ إنسان ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: لو قال إن شاء اللهُ لم يَحنَثْ ، وكان أرجَى لحاجَتِهِ ، وفي رواية أخرى: (فلم تَحمل منهنَّ إلا امرأةٌ واحدةٌ جاءت بشقِّ رجل ، وأيمُ الذي نفسُ محمدٍ بيده ، لو قال إن شاء اللّه لجاهَدوا في سبيل اللّه فرساناً أجمعون) .
وروى البخاري (5528) من حديث ابن عبّاس رضيَ الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دخل على أعرابيّ يَعودُه ، يقول ابن عباس: وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا دخل على مريض يَعوده قال له: لا بأس ، طَهورٌ إن شاء الله ، فقال الأعرابي للنبي: قلتَ طهور ؟ كلا ، بل هي حُمى تَفور ، أو هي حُمى تثور على شيخ كبير ، تُزيره القبور ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فَنَعم إِذاً .
فالرسول يقول للأعرابي: لا بأس طهور إن شاء الله ، أي أن المرض يكفر الخطايا وهو طهور لك من ذنوبك إن شاء الله ، فإن حصلت العافية وتحقق الشفاء فقد حصلت الفائدتان ، وإلا حصل ربح التكفير ، فرد الأعرابي على النبي منكرا وقائلا أي طهور بل هي حمى تفور أي حرارة الجسم تغلي وتثور ، على شيخ كبير تزيره القبور ، وكان الواجب على الأعرابي أن لا يرد دعاء النبي ويسأل الله العافية ، فقال له رسول الله: (فنعم إذا) إذا أبيت طلب الشفاء فنعم يأتيك الموت والبلاء ، فيحتمل أن يكون قوله (فنعم إذا) دعاء عليه ، ويحتمل أن يكون خبرا عما يؤول مصيره إليه ، وهناك من قال احتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه سيموت في هذا المرض فدعا له بأن تكون الحمى مطهرةً لذنوبه وخطاياه ، وهناك من قال احتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الأعرابي بأنه سيموت أجابه وردا على أجابته ، ولذلك ورد أن الأعرابي أصبح ميتا ، فينبغي على المسلم حتى ولو كان مريضا أن يتلقى الموعظة بالقبول ، ويحسن الجواب فيما يقول ، طمعا في عفو الله وعافيته .
روى الإمام أحمد في مسنده (6398) من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ حَلف فاسْتَثْنَى ، فَإن شاء مَضَى ، وإِن شَاءَ رَجَع غَيْرَ حَنِثٍ) .
أجمع المسلمون على أن الحالف إذا استثنى في يمينه متصلا بها فقال لأفعلن كذا أو لا أفعله إن شاء الله ، أجمعوا أنه لا يحنث إذا خالف ما حلف عليه ، لأن من أصل أهل الإسلام أنه لا يكون شيء إلا بمشيئة الله ، فإذا علق الحالف الفعل أو الترك بالمشيئة لم يحنث عند عدم المشيئة ولا تجب عليه الكفارة ، أما إذا استثنى في الطلاق والعتق وغير ذلك سوى اليمين بالله تعالى فقال: أنت طالق إن شاء الله تعالى ، أو أنت حر إن شاء الله تعالى ، أو أنت علي كظهر أمي إن شاء الله تعالى ، أو لزيد في ذمتي ألف درهم إن شاء الله ، أو إن شفي مريضي فلله علي صوم شهر إن شاء الله ، أو ما أشبه ذلك ، فالمسألة فيها خلاف: مذهب الشافعي والكوفيين وأبي ثور وغيرهم صحة الاستثناء في جميع الأشياء كما أجمعوا عليها في اليمين بالله تعالى ، فلا يحنث في طلاق ولا عتق ، ولا ينعقد ظهاره ولا نذره ولا إقراره ولا غير ذلك مما يتصل به قوله إن شاء الله ، وقال مالك والأوزاعي: لا يصح الاستثناء في شيء من ذلك إلا اليمين بالله تعالى ، وقو الشافعي هو الأقرب إذا تحقق في الاستثناء شرطان:
أحدهما: أن يقوله متصلاً باليمين ، والثاني: أن يكون نوى قبل فراغ اليمين أن يقول إن شاء الله تعالى .
أما اللو المستقبلية التي تكون في القتال وإعداد الخطط أو عدم الاعتراض على القدر فلا تدخل تحت النهي في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه الذي رواه مسلم (6725) (فَإِنَّ لوْ تَفْتَحُ عَمَل الشَّيْطَانِ) لأن النهي مقرون بوقوع الفعل وعدم تغيير شيء من القدر والرسول صلى الله عليه وسلم يقول قبلها: (وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُل: لوْ أَنِّي فَعَلتُ كذا وكذا ، لم يُصبني كذا ، وَلكِنْ قُل: قَدَرُ اللّهِ وَمَا شَاءَ فَعَل) .
أما ما كان من أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الغار كما روى البخاري من حديث أنس أن أبا بكرٍ رضيَ اللهُ عنه قال: (قلت للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار ِ: لو أنَّ أحدَهم نظرَ تحت قَدَمَيهِ لأبصَرَنا . فقال: ما ظنُّكَ يا أبا بكرٍ باثنينِ اللهُ ثالثُهما) لو أن أحدهم رفع رأسه لرآنا ، وكذلك ما ورد عند البخاري من حديث عائشةَ رضيَ الله عنهم زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألم تَرَيْ أنَّ قومَكِ لما بَنُوا الكعبة اقتصَروا عن قواعِدِ إِبراهيمَ . فقلتُ: يا رسول الله ألا تَرُدُّها على قواعدِ إبراهيم ؟ فقال: لولا حِدْثانُ قومِكِ بالكفر)
وعند البخاري عن أنَسٍ رضيَ الله عنه قال: (مرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بتمرةٍ مَسْقوطةٍ فقال: لولا أن تكونَ صَدَقةً لأكَلتُها) وعنده أيضا قال أبو هريرةَ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أَشُقَّ على أُمَّتي لأمرتُهمْ بالسِّواكِ عندَ كل وُضوء) ، وما شابه ذلك ، فكله يدخل تحت لو المستقبلية ولا اعتراض فيه على قدر فلا كراهة فيه ، لأنه إنما أخبر عن اعتقاده فيما كان يفعل لولا المانع وعما هو في قدرته ، فأما ما ذهب فليس في قدرته ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (فإن لو تفتح عمل الشيطان) أي يلقى في القلب معارضة القدر ويوسوس به الشيطان ، فالذي يتعين بعد وقوع المقدور التسليم لأمر الله ، والرضي بما قدر ، والإعراض عما فات ، أو عدم الالتفات لما فات ، فإنه إذا ذكر فيما فاته من ذلك فقال لو أني فعلت كذا لكان كذا ، جاءته وساوس الشيطان فلا تزال به حتى يفضي إلى الخسران ، فيعارض بتوهم التدبير سابق المقادير ، وهذا هو عمل الشيطان المنهي عن تعاطي أسبابه بقوله: (فلا تقل لو فإن لو تفتح عمل الشيطان) .
وإخبار الله عن مطلق المشيئة يتنوع في القرآن ، فتارة يخبرنا أن كل ما في الكون إنما هو بمشيئته ؟ (قُل اللهُمَّ مَالكَ المُلكِ تُؤْتِي المُلكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولجُ الليْل فِي النَّهَارِ وَتُولجُ النَّهَارَ فِي الليْل وَتُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَتُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (آل عمران:27) (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْل العَظِيمِ) (البقرة:105) ، (يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلبَابِ) (البقرة:269) ، (يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ) (النور:45) (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لهُمُ الخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (القصص:68) ، (اللهُ الذِي خَلقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَل مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَل مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ العَليمُ القَدِيرُ) (الروم:54) (لهُ مَقَاليدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُل شَيْءٍ عَليمٌ) (الشورى:12) .
في كل هذه الآيات يخبرنا الله أن كل ما في الكون إنما هو بمشيئته ؟ وتارة يخبرنا أن ما لم يشأ لم يكن ، وأنه لو شاء لخلق الخلق على خلاف الواقع المشهود وأنه لو شاء لكان خلاف القدر الموجود ، وأنه لو شاء ما عصاه أحد من خلقه ، وأنه لو شاء لجمعهم على ذكره ، وجعلهم أمة واحدة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللهُ عَلى ذَلكَ قَدِيراً) (النساء:133) (وَرَبُّكَ الغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) (الأنعام:133) (أَلمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلقٍ جَدِيدٍ) (ابراهيم:19) (رَبُّكُمْ أَعْلمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلنَاكَ عَليْهِمْ وَكِيلاً) (الإسراء:54) (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَأِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلبِكَ وَيَمْحُ اللهُ البَاطِل وَيُحِقُّ الحَقَّ بِكَلمَاتِهِ إِنَّهُ عَليمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (الشورى:24) (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْللنَ رَوَاكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلكَ لآياتٍ لكُل صَبَّارٍ شَكُورٍ) (الشورى:33) (وَلئِنْ شِئْنَا لنَذْهَبَنَّ بِالذِي أَوْحَيْنَا إِليْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لكَ بِهِ عَليْنَا وَكِيلاً) (الإسراء:86) (وَلوْ شِئْنَا لبَعَثْنَا فِي كُل قَرْيَةٍ نَذِيراً) (الفرقان:51) (وَلوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُل نَفْسٍ هُدَاهَا وَلكِنْ حَقَّ القَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (السجدة:13) (نَحْنُ خَلقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلنَا أَمْثَالهُمْ تَبْدِيلاً) (الإنسان:28) (وَكَذَلكَ جَعَلنَا لكُل نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْل غُرُوراً وَلوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) (الأنعام:112) (وَلوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس:99) (وَلوْ شَاءَ رَبُّكَ لجَعَل النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلذَلكَ خَلقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (هود:119) .
ما هي مراتب القضاء ؟ وما الفرق بين القضاء والقدر ؟ مراتب القضاء العلم والكتابة والمشيئة ومراتب القدر العلم والكتابة والمشيئة والخلق . (ذَلكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْل الحَقِّ الذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ للهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لهُ كُنْ فَيَكُونُ) (مريم:35) ، نلتقي معكم في المحاضرة القادمة للحديث عن المرتبة الرابعة من مراتب القدر ، (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَليْهِ وَسَلمُوا تَسْليماً) (الأحزاب:56) فصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
بسم الله الرحمن الرحيم
مراتب القدر - المحاضرة الرابعة
المرتبة الرابعة الخلق
(الحَمْدُ للهِ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَل الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُون) ، لا يحصى عدد نعمه العادون ، ولا يؤدى حق شكره الحامدون ، ولا يبلغ مدى عظمته الواصفون ، بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ، أحمده سبحانه وتعالى وأشكره ، وأستعينه وأستغفره أوحده سبحانه عند الشدة والرخاء ، وأتوكل عليه فيما حكم به من أنواع القضاء ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، شهادة من يعتقد أنه لا رب سواه ، شهادة من لا يرتاب في شهادته ، واعتقاد من لا يستنكف عن عبادته ، وأشهد أن محمدا عبده الأمين ، وخاتم الأنبياء والمرسلين ، أرسله ربنا إلى الخلق أجمعين ، بلسان عربي مبين ، فبلغ الرسالة وأظهر المقالة ، ونصح الأمة ، وكشف الغمة ، وجاهد في سبيل الله حتى أظهر به الدين ، وأظهره على الكافرين والمشركين ، وعبد ربه حتى أتاه اليقين ، فصلى الله على محمد سيد الأنبياء والمرسلين ، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين ، ونسائه أمهات المؤمنين ، وسائر أصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد . .
مراتب القدر هي انتقال المخلوقات من كونها معلومة في علم الله في الأزل إلى الواقع المشهود ، وقد تحدثنا فيما سبق عن المرتبة الأولى من مراتب القدر ، وهى علم الله السابق ، علم التقدير وحساب المقادير ، تقدير كل شيء قبل تصنيعة وتكوينه ، وتنظيم أمور الخلق قبل إيجاده وإمداده ، وتحدثنا أيضا عن المرتبة الثانية من مراتب القدر ، وهى مرتبة الكتابة ، كتابة المعلومات ، وتدوينها بالقلم في كلمات ، وبينا أن كل مخلوق مهما عظم شأنه أو دق حجمه ، كتب الله ما يخصه في اللوح المحفوظ ، كتب تفصيل خلقه وإيجاده ، وما يلزم لنشأته وإعداده وإمداده ، وجميع ما يرتبط بتكوينه وترتيب حياته ، ثم تحدثنا عن المرتبة الثالثة من مراتب القضاء والقدر وهي مرتبة المشيئة ، فليس في الكون مشيئة عليا إلا مشيئة الله ، فما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وهذا أساس التوحيد الذي لا يقوم بنيانه إلا به ، والمسلمون من أولهم إلى آخرهم مجمعون على ذلك ، واليوم نتحدث عن المرتبة الرابعة من مراتب القدر وهى مرتبة خلق الأشياء وتكوينها ، وتصنيعا وتنفيذها ، على وفق ما قدر لها بمشيئة الله في اللوح المحفوظ .
فالله عز وجل هو خالق كل شيء ، والخالق عند أهل التوحيد واحد ، وما سواه مخلوق ، هذا الأمر متفق عليه بين الرسل ، اتفقت عليه الكتب الإلهية ، والفطرة البشرية ، وجميع الأدلة العقلية ، ولم يخالف في ذلك إلا مجوس الأمة من القدرية ، حيث زعموا أن العبد يخلق فعله من دون الله وقدرته ، فأخرجوا أفعال العباد عن تقدير الله وربوبيته ، ولم يوحدوا الله في مشيئته ، فجعلوا العباد هم الخالقون لأفعالهم ، فعندهم أنه سبحانه لا يقدر أن يهدي ضالا ، ولا يقدر أن يجعل المسلم مسلما ، ولا الكافر كافرا ، ولا المصلي مصليا ، وإنما ذلك يعود إلي قدرة العبد ومشيئته ، وفي المقابل لضلالهم وبدعتهم ، ظهرت طائفة ترد على بدعتهم ببدعة تقابلها ، وقابلوا باطلهم وبدعتهم ببدعة تماثلها ، فقالوا بل العبد في أفعاله مسير مجبور ، ولا تأثير له فيها وإنما هو ملزم مقهور ، وغلا بعضهم فقال أفعال العبد هي عين أفعال الرب ، (إِنَّ اللهَ لا يَظْلمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلمُونَ) (يونس:44) ، ولا ينسب الفعل إلى العبد إلا على سبيل المجاز ، وزعم هؤلاء الجاهلون أن الله سبحانه يلوم العبد ويعاقبه ، ويخلده في النار ويعذبه ، على أمور لم يكتسبها العباد ، فالعباد مسيرون لا مخيرون ، فوصفوا الله بأنه يظلم الكافرين ، وأنه لا يحق له أن يعذب المشركين ، تعالى الله عن قول الظالمين علوا كبيرا ، هذا قول الجبرية في مقابل قول القدرية ، وكلاهما باطل وشر معلوم ، وفيهما من الباطل بدلالة اللزوم ، ما أنكره أهل السنة والجماعة ، فمذهب أهل السنة والجماعة مذهب الحق لأن اعتقادهم وسط وهذا هو شأنهم ، فالوسطية وصفهم كما قال تعالى في مدحهم: (وَكَذَلكَ جَعَلنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَليْكُمْ شَهِيداً) (البقرة:143) فأهل السنة لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء ، لا ينظرون بعين واحدة ، كالأعور الذي يرى من وجهة واحدة ، وإنما ينظرون بعينين سليمتين يرون الأمور فيها باعتدال ، ولا يردون شيئا مما قاله رب العزة والجلال ، كما أنهم يقدمون سنة نبيهم على عقولهم وآرائهم ، فأهل السنة يثبتون قدرة الله على جميع الموجودات ، ويؤمنون بخلقه وتكوينة لجميع الكائنات ، وينزهون الله عز وجل أن يكون في ملكه شيء لا يقدر عليه ، أو أن مشيئته أو إرادته الكونية لا تقع عليه ، ويثبتون العلم والتقدير السابق على الخلق ، وأن العباد يعملون على ما وفق ما قدره الحق ، وأن ما جف به القلم في اللوح عند الله ، واقع محتوم بالمشيئة وقدرة الله ، وأنهم لا يشاءون إلا أن يشاء الله ، ولا يفعلون إلا من بعد علمه وكتابته ومشيئته وتنفيذ صنعته ، وأنه ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وهذا عام لكل ما خلق وما يخلق وما سيخلق ، (أَلا يَعْلمُ مَنْ خَلقَ وَهُوَ اللطِيفُ الخَبِيرُ) (الملك:14) .
فالقدر عند السلف مبنى على أمرين اثنين: التقدير والقدرة ، فبدايته في التقدير ، وهو العلم السابق علم التقدير وحساب المقادير ، تقدير كل شيء قبل تصنيعه وتكوينه ، وتنظيم أمور الخلق قبل إيجاده وإمداده ، فهذا العلم هو التقدير الجامع التام ، وهو حساب النظام العام ، الذي يسير عليه الكون بمنتهى الإتقان من بدايته إلى نهايته ، كما قال تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (الأنعام:59) .
فبداية القدر في التقدير ونهايته في القدرة وتحقيق المقدر ، قدرة الله تعالى على تحقيق ما علمه ، وما كتبه ، وما شاء خلقه وتكوينه ، فلا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بعلمه ، وبعد كتابته ومشيئته وقدرته ، فبداية القدر العلم والتقدير ، والنهاية في القدرة ، ولذلك يقول تعالى: (وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) (الأحزاب:38) .
ويذكر العلامة ابن القيم في كتابه طريق الهجرتين أن القضاء والقدر منشؤه عن علم الرب وقدرته ، ولهذا قال الإمام أحمد القدر قدرة الله واستحسن ابن عقيل هذا الكلام من أحمد غاية الاستحسان ، وقال: إنه شفي بهذه الكلمة وأفصح بها عن حقيقة القدر ، ولهذا كان المنكرون للقدر فرقتين ، فرقة كذبت بالعلم السابق ونفته ، وهم غلاتهم الذين كفرهم السلف والأئمة وتبرأ منهم الصحابة ، وفرقة جحدت كمال القدرة وأنكرت أن تكون أفعال العبادة مقدورة لله تعالى وصرحت بأن الله لا يقدر عليها ، فأنكر هؤلاء كمال قدرة الرب وأنكرت الأخرى كمال علمه ، وقابلتهم الجبرية فجاءت على إثبات القدرة والعلم ، وأنكرت الحكمة والرحمة ، ولهذا كان مصدر الخلق والأمر ، والقضاء والشرع عن علم الرب وعزته وحكمته ، ولهذا يقرن تعالى بين الإسمين من هذه الثلاثة كثيرا - العليم والعزيز والحكيم - كقوله: (وَإِنَّكَ لتُلقَّى القُرْآنَ مِنْ لدُنْ حَكِيمٍ عَليمٍ) (النمل:6) وقال: (تَنْزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ) (الزمر:1) وقال في سورة فصلت (ذَلكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَليمِ) بعد ذكر تخليق العالم وترتيبه لمعاني الحكمة ، فكما لا يخرج مقدور عن علمه وقدرته ومشيئته فهكذا لا يخرج عن حكمته وحمده .
والله عز وجل خلق الدنيا بأسباب تؤدي إلى نتائج ، وعلل تؤدي إلى معلولات ، السبب والنتيجة ، أو العلة والمعلول مخلوقان بمراتب القدر سواء ارتبط المعلول بعلته أو انفصل عن علته ، أو ارتبط السبب بنتيجته أو انفصل عن نتيجته ، فالعلل والأسباب سواء ترابطت أو انفصلت فلا يؤثر ذلك في تعلقها بمراتب القدرة ، ولكن العلل والأسباب ترابطها أو انفصالها ظاهر عن كمال الحكمة ، وبيان ذلك أن الله بنى الحياة على ترابط الأسباب بحيث لا يخلق النتيجة إلا إذا خلق السبب فيها ، ولا يخلق المعلول إلا إذا خلق علته ، فلا يخلق النبتة إلا إذا خلق البذرة أو الحبة ، ولا يخلق الثمرة إلا إذا خلق النبتة ، لا يخلق الإبن إلا إذا أوجد الأب والأم ، ومن هنا ظهرت الأسباب للعقلاء كابتلاء يصح من خلاله العمل بأحكام البديهيات ، وحكم التجارب والأوليات ، فأهل اليقين ينظرون إلى الأسباب ويعلمون أن الله خلقها بمراتب القدر ، فيجدون أن الله عز وجل تارة ينسب الفعل إليه لأنه الخالق بتقدير وقدرة ، وتارة ينسب الفعل إليهم عند دعوتهم إلي العمل بمقتضى الشريعة والعقل والحكمة ، فمرة يقول في بيان التقدير والقدرة: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (الواقعة:64) وقال أيضا: (فَليَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا المَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلا وَحَدَائِقَ غُلبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَتَاعًا لكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ) ، فنفي عن الناس أفعالهم ، وتأثير الأسباب في رزقهم ، وأثبت لنفسه الأفعال وتصريف الأسباب ، لأنه الخالق في الحقيقة ، الذي علم وكتب وشاء وخلق ، قدر كل شيء بعلمه ، وكتبه في أم الكتاب بقلمه ، وأمضاه بمشيئته ، وخلقه بقدرته ، ثم أثبت أمر الناس أن يخذوا بالأسباب التي خلقها ، وأحكم لهم تدبيرها ، عملا بشرع الله كما قال جل في علاه: (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلهِ إِلا قَليلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ) (يوسف:47) ويقول أيضا: (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ليَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ) (الفتح:29) فسماهم زراعا وقال تزعون ، وسماهم كفارا لأنهم يضعون البذرة يغيبون البذرة في الأرض ويغطونها ، وذلك لأننا في دار ابتلاء وامتحان ، والأخذ بالأسباب حتم على بني الإنسان ، فهم مستخلفون في ملكه ، مخولون في أرضه ، فطالبنا بالعمل والإنفاق ، ليصل كل منا إلي ما قدره من الأرزاق: (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلكُمْ مُسْتَخْلفِينَ فِيهِ فَالذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لهُمْ أَجْرٌ كَبِير ٌ) (الحديد:7) فالدنيا دار ابتلاء وامتحان ، ولا بد أن يجتازها الإنسان ، وهو في هذه الدار بالخيار ، حر بين جنة أو نار ، كل ذلك ليؤول الناس إلى مصيرهم بعد الحساب ، ويتم ما قدره الله في أم الكتاب: (فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (الشورى:7) فكل ميسر لما خلق له ، وكل سينال ما قدر له . فاللّه عز وجل قد أظهر الدنيا أسبابا ونسب الفعل إلي أهلها لإظهار حكمته ، ونسب الفعل وأثبته لنفسه في موضع آخر لإظهار قدرته ، فلا يتغافل العبد عن قدرته بدعوى الانشغال في النظر إلى حكمته ، وأن الأسباب حاكمة على مشيئة الله وقدرته ، صارمة لا يمكن أن يتخلف المعلول فيها عن علته ، فالله عز وجل يخلق بأسباب وبغير أسباب إن خلق بأسباب فهي العادات ، وإن خلق بغير أسباب فهي خوارق العادات أو الكرامات والمعجزات .
الثمرة يخلقها الله بعد خلق النبتة ويربط خلق الثمرة بوجود النبتة ، ويمكن أن يخلق الثمرة من غير نبتة ودون وجودها ، فهذه مريم (كُلمَا دَخَل عَليْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَال يَا مَرْيَمُ أَنَّى لكِ هَذَا قَالتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) يقول المفسرون: كانت ترزق بفاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف ، وهى قد علمت أن الذي يخلقها بأسباب يخلق بغير أسباب ، ويرزق بحساب من العبد أو بغير حساب ، ولذلك كان من قوة يقينها أن الله اختارها لأعظم ابتلاء ، ستحمل على غير عادة النساء ، ويخرج منها عيسى كمعلول بغير علة ونتيجة بلا سبب (وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلنَا إِليْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّل لهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا قَال إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لكِ غُلامًا زَكِيًّا قَالتْ أَنَّى يَكُونُ لي غُلامٌ وَلمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلمْ أَكُنْ بَغِيًّا قَال كَذَلكِ قَال رَبُّكِ هُوَ عَليَّ هَيِّنٌ وَلنَجْعَلهُ آيَةً للنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا قَال كَذَلكِ قَال رَبُّكِ هُوَ عَليَّ هَيِّنٌ وَلنَجْعَلهُ آيَةً للنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ) ما المقصود بقوله هين ؟ هل هناك شيء يعز خلقه على الخالق أبدا ، ولكن الأسباب يخلقها الله بمراتب القدر ، ومراتب القدر في الخلق بأسباب ومن خلال العادات أكثر من مراتب القدر في الخلق بغير أسباب ومن خلال خوارق العادات ، الولد في الأسباب يوجد من أب وأم ، فالأب له أربع مراتب والأم كذلك والولد كذلك فجموع المراتب اثنتا عشرة مرتبة ، أما الولد في حالة عيسى فقد وجد من أم بلا أب ، فجموع المراتب ثمان مراتب ، فأيهما أهون العادات أو خوارق العادات ؟ وأهون من ذلك خلق آدم من غير أب ولا أم ، ولذلك قال تعالي في إجمال الخلق: (وَهُوَ الذِي يَبْدأُ الخَلقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَليْهِ وَلهُ المَثَلُ الأَعْلى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) (الروم:27) (أَوَليْسَ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلهُمْ بَلى وَهُوَ الخَلاقُ العَليمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُول لهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الذِي بِيَدِهِ مَلكُوتُ كُل شَيْءٍ وَإِليْهِ تُرْجَعُونَ) (يّس:83) .
فقد يخلق العلة ولا يخلق معلولها ، كما فعل بإبراهيم عليه السلام: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلينَ قُلنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْرَاهِيمَ) (الأنبياء:69) (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلكَ لآياتٍ لقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (العنكبوت:24) أضرموا نارا لا يقوى الطير على المرور من فوقها ، توفرت لهم العلة ولكن الله لم يخلق معلولها .
البخاري عن أنَسِ بنِ مالكٍ رضيَ اللهُ عنه: (أنَّ يَهودِيَّةً أتَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بشاةٍ مَسمومَةٍ فأكَل منها فجيء بها ، فقيل: ألا نقتُلُها ؟ ، وفي رواية مسلم فَجِيءَ بِهَا إِلى رَسُول اللّهِ . فَسَأَلهَا عَنْ ذلكَ ؟ فَقَالتْ: أَرَدْتُ لأَقْتُلكَ . قَال: مَا كَانَ اللّهُ ليُسَلطَكِ عَلى ذَاكِ ، ق أَوْ قَال : عَليَّ قَال قَالُوا: أَلاَ نَقْتُلها ؟ قَال لاَ .
وعند البخاري من حديث عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَال سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا تَقُولُ َلمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ قَال ليْتَ رَجُلا مِنْ أَصْحَابِي صَالحًا يَحْرُسُنِي الليْلةَ إِذْ سَمِعْنَا صَوْتَ سِلاحٍ فَقَال مَنْ هَذَا فَقَال أَنَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ جِئْتُ لأَحْرُسَكَ وَنَامَ النَّبِيُّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ .
أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ فَأَدْرَكَتْهُمْ القَائِلةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ العِضَاهِ فَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي العِضَاهِ - شجرة ذات شوك- يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ فَنَزَل النَّبِيُّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَعَلقَ بِهَا سَيْفَهُ ثُمَّ نَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ وَهُوَ لا يَشْعُرُ بِهِ ، فَقَال النَّبِيُّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ سَيْفِي فَقَال مَنْ يَمْنَعُكَ قُلتُ اللهُ فَشَامَ السَّيْفَ ، قيل فنزلت (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلغْ مَا أُنْزِل إِليْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لمْ تَفْعَل فَمَا بَلغْتَ رِسَالتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ) (المائدة:67) وقد يخلق المعلول بلا علة ، كما فعل بناقة صالح: (وَإِلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالحاً قَال يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُل فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَليمٌ) (لأعراف:73) (هود:64) (قَال هَذِهِ نَاقَةٌ لهَا شِرْبٌ وَلكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (الشعراء:155) (فَقَال لهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا) (فَعَقَرُوهَا فَقَال تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) (هود:65) (فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ) (الشعراء:157) (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَليْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا) (الشمس:14) .
وعند البخاري من حديث عبدِ الرحمنِ بنِ أبي بكرٍ: «أنَّ أصحابِ الصُّفَّةِ كانوا أُناساً فُقراءَ ، وأَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَن كان عندَهُ طعامُ اثنينِ فليَذْهَبْ بثالثٍ ، وإِنْ أَربعٌ فخامسٌ أو سادس» . وإنَّ أَبا بكرٍ جاءَ بثلاثةٍ فانطلقَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعشَرةٍ . قال: فهوَ أَنا وَأَبي وَأُمي ـ فلا أدري قال: وامرأتي ـ وخادِمٌ بينَنا وبينَ بَيتِ أبي بكر . وإِنَّ أَبا بكرٍ تَعشَّى عندَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ثم لبِثَ حيثُ صُليَتِ العِشاءُ ، ثم رجعَ فلبِثَ حتّى تعَشَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، فجاءَ بعدَ ما مضى مِنَ الليل ما شاءَ اللهُ . قالت له امرأَتهُ: وما حبَسكَ عن أضيافِكَ ـ أو قالت ضيفِكَ ـ ؟ قال: أَوَ ما عَشيِتيهم ؟ قالت: أَبَوا حتّى تَجيء ، قد عُرِضوا فأَبَوا . قال: فذهبتُ أَنا فاختبأْتُ . فقال: يا غُنثَرُ ـ الثقيل الوخيم طويل البال ، فجدَّعَ وسَبَّ ، دعا عليه بقطع الأنف وغيره من الأعضاء والسب الشتم ـ وقال: كُلوا لا هَنِيّاً . فقال: وَاللهِ لا أَطعَمُه أبداً . وأَيمُ اللهِ ، ما كنا نأْخُذُ من لُقمةٍ إلاّ رَبا من أَسْفلها أكثرُ منها . قال: يعني حتى شَبِعُوا ، وصارتْ أَكثَرَ مِما كانت قبل ذلك . فنظرَ إِليها أبو بكرٍ فإِذا هيَ كما هيَ أو أكثرُ . فقال لامرأتِه: يا أُختَ بني فِراسٍ ما هذا ؟ قالت: لا وقُرَّةِ عيني ، لهيَ الآنَ أَكثرُ منها قبل ذلكَ بثلاثِ مرّاتٍ . فأَكل منها أبو بكرٍ وقال: إِنما كان ذلكَ منَ الشيطانِ ـ يعني يَمينَهُ ـ ثمَّ أَكل منها لُقمةً ، ثمَّ حَملها إِلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فأصبحتْ عندَه . وكان بينَنا وبينَ قومٍ عَقدٌ ، فمضى الأجلُ ففرَّقَنا اثْنَيْ عشرَ رجُلاً معَ كل رجلٍ منهم أُناسٌ اللهُ أعلم كم مَع كل رجُلٍ ، فأكلوا منها أجمعون ، أَو كما قال .
وعند البخاري من حديث أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَال أُتِيَ النَّبِيُّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ بِإِنَاءٍ وَهُوَ بِالزَّوْرَاءِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ فَجَعَل المَاءُ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ فَتَوَضَّأَ القَوْمُ قَال قَتَادَةُ قُلتُ لأَنَسٍ كَمْ كُنْتُمْ قَال ثَلاثَ مِائَةٍ أو قريبا من ذلك .
علمنا أن مراتب القدر أربع مراتب علم وكتابة ومشيئة وخلق ، ما الفرق بين القضاء والقدر ؟ قد يأتي القضاء بمعنى القدر لاشتراكهما في ثلاث مراتب أما من جهة الفرق بينهما فيمكن حصر ذلك في أربعة أمور:
1- القضاء ثلاث مراتب والقدر أربع: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لهُ كُنْ فَيَكُونُ) (البقرة:117) (قَالتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لي وَلدٌ وَلمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَال كَذَلكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لهُ كُنْ فَيَكُونُ) (آل عمران:47) (هُوَ الذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لهُ كُنْ فَيَكُونُ) (غافر:68) ، القضاء يستصدر منه الأحكام والقدر تنفيذه لأنه من القدرة كما في السلطة القضائية والسلطة التنفيذية ، (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُل سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَليمِ) (فصلت:12) .
2- القضاء غيب ويكون مشهودا بالقدرة ، وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل) ، يقول الغزنوى: (اعلم بأن القدر سر والقضاء ظهور السر على اللوح) .
3- القضاء يسبق القدر ، أو يسبق القدر من جانب القدرة ، ويشترك معه من جانب التقدير ، انظر إلى الفرق بين القضاء والقدر عند الهدهد الموحد: (أَلا يَسْجُدُوا للهِ الذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلنُونَ اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ) (النمل:26) .
4- القضاء أعم من حيث التعلق والقدر أخص ، والقدر أعم من حيث المراتب والقدر أخص ، القضاء يتعلق بما كان وما هو كائن وما سيكون ، أما القدر من جانب القدرة والخلق والتكوين فيتعلق بما كان وما هو كائن ، أما من جهة المراتب فالقدر أعم لأنه أربع مراتب والقضاء أخص لأنه ثلاث .
هذه مراتب القدر قد بيناها ووضحناها فيجب على الموحدين الإيمان بها والعمل بالأسباب من خلالها ، معتقدين أن ما قدره الله سوف يكون وأن حكمته في خلقه أبلغ ما يكون ، يسوق أولى التعذيب بالسبب الذي يقدره نحو العذاب بعزة - ويهدي أولى التنعيم نحو نعيمهم بأعمال صدق في رجاء وخشية - وأمر إله الخلق بين ما به يسوق أولى التنعيم نحو السعادة - فمن كان من أهل السعادة أثرت أوامره فيه بتيسير صنعة - ومن كان من أهل الشقاوة لم ينل بأمر ولا نهى بتقدير شقوة - ولا مخرج للعبد عما به قضى ولكنه مختار حسن وسوأة - فليس بمجبور عديم الإرادة ولكنه شاء بخلق الإرادة - ومن أعجب الأشياء خلق مشيئة بها صار مختار الهدى بالضلالة - ولله رب الخلق أكمل مدحة وصلى إله الخلق جل جلاله على المصطفي المختار خير البرية .
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .