المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تنبيه في ضوء القرأن المجيد



خالد عكام
08-13-2008, 12:22 AM
تطور الحياة الإنسانية والتاريخية
مقدمة وتمهيد :
إن قضايا التطور الإنساني والتاريخي ، قد استوت الآن واستكملت أهدافها جميعاً .. وقد أطبقت على عالم اليوم ، فبدا كأنه بيت واحد ، أو قرية صغيرة ، وانصبت الجهود والخطط والاستراتيجيات ، على حرب الصراع والصدام: حضارياً وثقافياً واقتصادياً ، وهيمنة على القارات ، وصناعة للأردإ والأسوإ في واقع الحياة ..
وغابت عن الساحة قيم العدل والتوازن والانضباط ، والخير والجمال ، والأمن الحقيقي ، وبرزت صور مشوهة وممسوخة ، للممارسات السياسة العالمية المفضوحة ..
فاستحال التطور على أيدي رواده وصانعيه ، إلى عبء رهيب تنوء به كواهل البشر ، وتسحقهم ضغوطه وإخفاقاته وتحدياته ، ومظالمه وظلماته وموبقاته ..
وهذه قراءة متأنية ، ورؤية متعمقة ، في كتاب الله تعالى ، تبشر بما هو مغيب ومفقود ، من التطور والتحرر ، والرقي الأمثل ، والهداية الحقة ، والعدل المطلق ، وتعميم الكفاية والغنى ، على عباد الله أجمعين ..
ولايخفى ما في ذلك: من الصيانة والتصفية والصقل ، لما قد تم إبداعه وصنعه واصطناعه واختراعه ، ليكون أقوم وأعدل وأرحم
وأهدى سبيلا..
والله ولي الهداية التوفيق.


تطور الحياة الإنسانية:
يقول الله تبارك وتعالى:(( ما لكم لا ترجون لله وقاراً . وقد خلقكم أطواراً)). ويقول عز وجل:(( يزيد في الخلق ما يشاء )). ويقول أيضاً: (( من الله ذي المعارج )).
فالحياة بصيغتها الدنيوية المعروفة والمألوفة ، عرضة للمضي في أطوار التطور ، والصعود في معارج الأكمل والأفضل: بحثاً عنهما ، ووصولاً إليهما ، ولكن بالكد وبالكدح ، وبالإبداع المستمر والمتكامل ، وبالسعي الإنساني الملح والدؤوب ، والمتنوع والمتكاثر والمتواتر ..
ويقول سبحانه:(( إن سعيكم لشتى )).
إن تطور الحياة الإنسانية ، مؤكد ومستمر ومستدام ، وذلك من خلال الإنسان الكادح كدحاً ، الذي لا يعرف الكلل والملل ، في سَبْر الكون ، واستيعاب الأسرار والحقائق ، واكتشاف المجهول ، ومن ثَمَّ تسخير الطاقات المكتشفة ، وتنمية الثروات المتاحة ، وتفعيل الأسباب والوسائل الممكنة ..
وهذا هو واقع الحياة والبشر ، في هذه الآونات والمآلات ، من عمر الزمن ، مع فارق الحرب المدمرة والمسعورة ، التي تُشن بلا إنسانية ولا رحمة ، على كل ما أبدعه الله ، وما أبدعه الإنسان ..
وما دام أن القرآن المجيد ، هو كتاب الوجود ، الناظم له ، والمتقدم به ، فإن مكتشفات البشر ومكتسباتهم ، إن هي إلا بعض ثمار القرآن ، وبعض مقتطفاته الدانية ، في مجال الكوكب والكواكب ، والذرات والمجرات ، والعلم والفكر والحياة ..
وظهر ذلك وتبلور بعد نزول القرآن طبعاً ، حيت انطلقت شعلة النور والتطور ، من ثنايا النص القرآني الأول ..
يقول الله المعلم الأول: (( إقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . إقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان مالم يعلم )).
فالإنسان الذي خُلق من علق ، تطور ليصبح إنساناً سوياً ، متكامل الخلق والتكوين والتأهيل ، في أعدل صورة ، وأجمل هيئة، وأكمل عقل ، وأحسن تقويم..
ويقول الخالق العظيم:(( يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم . الذي خلقك فسواك فعدلك . في أي صورة ما شاء ركبك )).
وهذا العلم الفاعل والمطوِّر ، هو العلم الذي أفاضه الله: وحياً وإلهاماً ، وفتحاً متصاعداً ، بالسبب الأعظم الذي هو القلم: رمزُ الحكمة الإلهية ، وترجمان فيضها الدافق ، وبالتعليم الخفي والعلني ، الذي ينير الطريق للإنسان ، ويفتح له المغاليق المؤصدة ، ليتابع مسيرة التطور والتطوير ، والزيادة والإفادة، والمساهمة في صنع التقدم والعمران والحضارة ..
ويقول مبدع الكدح الإنساني العريق: (( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه ))..
إن الكدح الذي هو التفكير والعمل بكدٍّ وجِدّ ، بحثاً عن السر والحقيقة ، هو الدليل والعنوان ، من أجل تطور الحياة والإنسان ..
وهكذا ليس سوى كتاب الله الخالد: القرآن المجيد ، بقادر على إثارة العقول والأفهام والمدارك والملكات ، وتحريضها على المزيد من العلم والعمل والإبداع العظيم ، واستدراك ما هو أعمق وأسمى وأسرع: منهجاً وارتقاء ، وهندسة وتنمية ، ووعياً مهيمناً ومقتدراً ..
ويقول العلي العليم: (( وقل ربي زدني علماً )).
فعملية التطور الإنساني ، الزاهر والباهر ، مربوطة ومرهونة بالعلم الرباني: زيادة منه ، وإقبالاً عليه ، وتبحراً فيه ، وإمساكاً بإمكاناته الخارقة ، وأسراره الفائقة ..
ولا يتأتى هذا العلم ، إلا بصدق الدعاء والاستدعاء ، وبطول التجربة وعُمقها ، وبقوة الملاحظة والمشاهدة ، وكثرة الترداد والتأمل والمعاناة ، وبالتفكر والتفكير المتتبع خيوطَ هذا العالَم ، وامتداداته المترامية ، وكائناته المتطورة ، وكيف بدأ الله الخلق ؟!
وإن نبينا عليه الصلاة والسلام ، هو أصدق تبيان ومثال وتعبير، لفحوى هذا الكون ، المتزايد والمتنامي ، والمتسع إحاطة وشمولاً ، وعمقاً وتعمقاً ، وتحققاً في أغوار الحياة ، وأطوار الخلق، ومستويات الأمر ، ومقتضيات السلوك والسير ، والحكمة والحُكم ..
وإن قوله تعالى: (( واصبر حتى يحكم الله )). برهان على أن الحياة لا تمضي على طور واحد ، ولا تتجمد عند مستوى معين ، فهي دائماً في تقلب وتغير وتداول ، وإن عقارب الزمن ، وحركة التاريخ ، لا تتوقفان لصالح الذين قد يأبوْن ويرفضون ، ويريدون أن يقف الدهر عندهم ، ويتشبثون بما قد عفَّى عليه الزمن ، وتجاوزته الأحداث ، وصار من المخلفات: استهلاكاًً واستنفاداً ، واجتراراً مملاً وقاتلاً ..
ويقول سبحانه: (( ولولا دفعٌ اللهِ الناسَ بعضَهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين )).
ومن دلائل فضله على خلقه ، إصلاحه الأرض بعد فسادها ، حيث يقول سبحانه: (( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها )).
إن استمرارية منهج التطور الصارم ، إيذان بنسخ الفساد ، الذي لا تحتمله الكرة الأرضية ، وتأباه حكمة الله ورحمة الله ، وهو -أي هذا الفساد- صِنْو الجهل والرجعية والجمود ، والعدمية المحضة ، وتوقف عجلة التاريخ والتنافس المشروع ، ونهاية هذا التاريخ ، كما يبشر أعداء الله ، من الفلاسفة الكافرين ..
مآلات التطور الإنساني:
والآن وصل تطور الحياة المادي ، والحضاري الصناعي ، والاتصالات والمعلومات ، أوجه وقمة صعوده وارتقائه ، وسرعته التي فاقت كل سرعة ، وذلك بفضل الآيات الإلهية المكتشَفة ، والعلم اللدني الرباني ، وبفعل تأثير العوامل التاريخية ، والسنن الكونية ، والجهود الإنسانية ، وسلطان العلم المهيمن والرائد والمحيط نسبياً ، والمتغلغل كلياً ..
وهذه إيجابيات تطورية عملاقة ، فاقت المدى والطاقة ، تحصل لأول مرة في تاريخ الوجود الطويل ..
ولكن الخطير في الأمر ، أنه يقابل ذلك: كفر فظيع بالله ، وتعتيم مريع على نور الله ، ونسيان للذكرى من الله، ونشر وإشاعة لأنماط وسلوكيات وسياسات ، لم يأذن بها الله ، ولم ينزل بها سلطاناًَ مبيناً ، حيث البشر في الأرض ، يعكفون في أعتاب ما صنعته يد الإنسان ، من عقول ووسائط ، وأشعة ومخترعات ، وأسلحة تحرق الأخضر واليابس ، وتهلك الزرع والضرع ، وإباحية جارفة ، لم تُبق حداً ولا عُرفاً ..
ولكن النتيجة الأكبر والأهم ، صحوة المؤمنين والعالَم على هذا الهول الأكبر ، المجافي لقيم الله ، وعدالة الله ، في مضمار السياسات والعلاقات ، وانهيار كل التوازنات والشعارات ..
وانحسار أكبر الاستراتيجيات ، وأشدها كفراً ومكراً ..
وأخيراً صحا البشر في الأرض ، على الإسلام العظيم: حضارة ورسالة ، على أنه الملاذ والأمل ، والمرجع الحق ، في كل هذه العواقب والنهايات ، والنتائج السلبية الضخمة ..
إذ يأتي في النتيجة والتناهي ، حكم الله الذي يُعقِّب بالفصل والحسم ، وبالحساب السريع ، على كل ما كان وتكوَّن ، من تراكمات التناقض والاختلال والظلم ، وإشكالات الصراع والأحقاد، وطغيان الامبراطوريات الهائجة هيجان الذئب الجريح ، والثعبان المجنون ..
وذلك قوله تعالى (( والله يحكم لا معقِّب لحكمه وهو سريع الحساب )).
فينهي هذا الحكم ، وهذا الحساب ، من الأوضاع والأحكام والمفاهيم ، مالا يحتمله ولا يطيقه هذا الكوكب، ولا يصبر عليه البشر ، ولا يجد له مساغاً ولا مسوِّغاً في رحمة الله وعناية الله ..
ويقول سبحانه في إنهاء وتناهي هذا النمط من التطور والأسوإ والأردإ:(( فلما نسوا ما ذُكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون . فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمدلله رب العالمين )).
وهذا هو القرآن المجيد ، يعان انقطاع دابر الذين كفروا وفجروا وسيطروا ، ليبدأ سير جديد ، وطوْر أجد ، وتطور أصلح ، وأحمد عاقبة ، وأصدق وسيلة وهدفاً وغاية .
وهذا هو تطور النور ، بعد تطور عهود الظلم والظلام ..
ويأبى الله إلا أن بتم نوره ولو كره الكافرون ..
مقدمة في ماهية التطور التاريخي:
إن التطور التاريخي ، ملحمة الزمان ، وكدح الإنسان ، ومسيرة الحياة الإنسانية ، من خلال توارد الأفكار والمفاهيم ، وتوالي الليل والنهار ، وحُسبان الشمس والقمر ، وتعاقب العهود والدول ، وتنوع الحكم والأمر ، وتلون الدهر ..
فيحصل من جراء ذلك كله ، أوضاع وأنماط وأنواع ، تعيشها الأقوام والأمم ، وتتأثر بها ، وتتفاعل معها :سلباً وإيجاباً ، وِفاقاً وشقاقاً ، هدماً وبناء ، تسامياً وتدنياً ..
بحيث ينشأ كمٌّ هائل وكبير ، من التاريخ المفعم بالتطور والتغير والتحول ، الذي لا تتوقف عجلته ، ولا تكف عن الهيجان والدوران، وتفعيل دور العقل والنفس والإنسان ، ودفعه في طريق السعي الدؤوب ، والبحث عن الأفضل والأكمل والأمتع ، حسب تصوره ومزاجه ، وبفعل القوى المحيطة به ، والموجهة له ..
وفي القرآن المجيد ، يوجد التطور التاريخي ، من ثنايا الآيات البينات ، التي تتحدث عن الأحداث الكبرى ، والتحولات العظمى ، وانهيار قرون برمتها ، وإنشاء قرون أخرى ..
يقول عزمن قائل:(( ثم أنشانا من بعدهم قروناً آخرين )). وفيما بين القرون الخوالي ، والقرون التوالي ، يتم تجديد الحياة ، وتصعيد البشر: فكراً وتجربة ، وعبرة آمرة ناهية ، وانعطافاً كبيراً وحاسماً ، وحساباً سريعاً ..(( والله سريع الحساب )) ..
الإسلام والتطور التاريخي:
لقد كان يُخيل إلى الأكثرين ، من سكان هذا العالَم ، أن التطور سِمة الحياة الأوروبية ، ومن صنع الأوروبيين أنفسهم ..وأنه وقف عليهم ومستورد منهم ، وأنهم الذين اختلقوه وابتدعوه ، وأن العالَم الإنساني لم يكن فيه تطور قبلهم ..فالتطور بُدء بهم ..
في حين أن الأمر ليس كذلك ، ولن يعدو أن يكون نَوْبة من نوبات التطور ، جاء دور الأوروبيين فيه ، آخر هذه القرون الأخيرة.. ولكنه تطور أعرج وأهوج ، وعدواني أيضاً ..
وفي هذا البحث: رصد للتطور التاريخي ، بالمنظار الإسلامي القرآني .. وبالطاقة الفكرية: الفاحصة والمنقِّبة ..
ومما لا شك فيه ابتداء ، أن تاريخ الأديان السماوية ، قد تكوَّن وتحصَّل ، نتيجة لتطور الوحي والنبوات ، وتطور البيئات والمناخات ، التي انبعثت فيها تلك النبوات ..
ومن ثَمَّ جاء تطور الحياة الإنسانية وتقدمُها ، ونمو القدرات العقلية ، والملَكات الفكرية فيها ، والمفاهيم الحضارية ، على النحو الذي بشر به الأنبياء ، ودعا إليه المرسلون ، من تصحيح المعتقد والمسار ، والإصلاح الخلقي والنفسي ، والوعي الحضاري ، بعيداً عن الجاهلية والوثنية ، فسرت في العالم القديم ، روح التعارف والتآلف ، وحياة الجماعة الصالحة والواعدة ..وكان ذلك ترقِّياً ، وما للترقي انتهاء ..
وحتى الوثنية المناقضة لمنهج الوحي والنبوة ، عبر التاريخ ، كانت تطوراً سلبياً نحو التجسيد والأسطورة ، والمشاركة المزعومة للذات الإلهية المقدسة ، الأمر الذي استدعى تصحيحاً وتطوراً بالرسالات الإلهية ، المقومة لاعوجاج الفكر والسلوك ، والمنبهةِ على ضرورة التحول والتطور ..
وأخيراً انجلى صراع التطور ، وحربه التاريخية المريرة ، عن نضج إنساني جديد ، ورفيع المستوى والمضمون ، استدعاه الإسلام العظيم ، ومنطق وحيه الأعلى ، واقتضته ظروف بعثة نبوية خالدة وخاتمة ، لسيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ..
ولننتقل من هذه المقدمة التمهيدية ، إلى حقيقة تاريخية تقول: إن التطور في المحصلة والنتيجة ، هو في خدمة الإسلام حقاً ، من حيث أن الإسلام يظهر وينهض ، لدى التدهور التي تؤول إليه
قضايا التطور ، وهو -أي الإسلام- قمة التطور الإيجابي الناجح ، في كدح الإنسانية نحو الأفضل والأكمل ، في الحياة العادلة والمعتدلة ، وفي ميادين التعايش والعلاقات المتكافئة ، والتنمية وتنظيم أمور المجتمعات ، وإسعاد العباد ، وعمارة البلاد ..
وهذا ما شهده التاريخ ، وشهد به التاريخ ، وفي الحقيقة والواقع التاريخي ، فإن الحروب العدوانية ، السافرة والخافية ، التي شنها أرباب المصالح الوثنية والكهنوتية ، على الإسلام ورواده وأتباعه ، إنما كانت لوقف عجلة التاريخ ، ومنع حركة التطور ، وللإبقاء على صيغة الحياة كما هي: جموداً ورجعية ، وجاهلية عقلية، وتأخراً مشيناً في الفكر والتصور ، والسلوك الأرعن ، والعيش الردئ والوبيئ ..
ومن هنا عد المؤرخون الغربيون ، معركة (( بَلاط الشهداء )) مثلاً ، ضربة قاصمة لأوروبة ، حيث أوقفت مدَّ النور والحضارة ، والتطور الزاهر والمزدهر ، وفرضت على الأوروبيين ، أن يعيشوا في الظلام والتوحش والهمجية والجهل ، قروناً آخرين .
وأصبح في حكم الحقيقة التاريخية الدامغة ، أن العالم المسيحي الغربي ، قد تأخر تطوره كثيراً ، بسبب حالة التمنع والمقاومة ، وضراوة الحرب الضروس ، التي جوبه بها الإسلام ، في حركته المباركة ، ودعوته المغيثة والهادية ، لإنقاذ العالَم ..
ولكن سنن التطور ، وقوانينه الدؤوبة ، غالبة في النهاية ، مهما طال الأمد ، وتطاول الزمن ، ومهما كان عليه حال الرافضين والكافرين ، والجاهلين: أعداء أنفسهم ، وأعداء الحقيقة معاً ..
وهكذا بعد لأي شديد ، وتمنع عنيد ، وبعد صبر وإصرار وكفاح من الإسلام غير قليل ولا بعيد ، دب إلى أقطار أوروبة وشعوبها ، دبيب العلم والتطور ، والتفتح للحياة والأسباب والعوامل المفجرة لذلك كله ، أي للعلم والتطور ..
وكانت الحروب الصليبية خلال قرنين من الزمان ، والحضارة الإسلامية في الأندلس خلال ثمانية قرون ، هما المؤشران التاريخيان ، والسببان الرئيسيان ، على بدء عمليات الاستجابة والاستيقاظ والتفاعل ، والتطور المتطور الهائل ، في أوروبة وبقية أرجاء المعمورة ، حيث كان التنوّر والاقتباس ، من أضواء الحضارة الإسـلامـيـة الـقـرآنـيـة ..
والآن فإن ما هي عليه القارات في أمريكة وأوروبة ، وفي الصين واليابان ، وروسية الاتحادية ، من تدهور وركود وتعقيدات ، في العلاقات والاقتصاديات , والتجارات والصراعات ، من أجل الأسواق والطاقات والخامات ، ليس إلا تراكمات وترسبات تطورية لا حل لها ، ولا إفلات منها ، وتهدد وتنذر بالخطر الأكبر،وأصبحت سدوداً وخنادق أمام مسيرة التطور الإنساني الصاعد ،
وعادت بالسلبيات المدمرة ، والسياسات الفاضحة ، على الوضع الإنساني العام ، ومسألة التوازن فيه ، وصار الحكم للأقوى: حديداً وناراً ودماراً ..
وانتهى التطور بالتكنولوجيا والكمبيوتر ، وسرعة الصوت والضوء ، وأشعة الليزر ، والأقمار الهائمة ، والصواريخ العابرة ، إلى ضغوط وركامات ، تسحق الأدمغة والأعصاب ، لم تشهد الدنيا لها مثيلاً: انحرافاً وانجرافاً ، وظلماً فادحاً ، وحرباً عدوانية رهيبة ، وسوء تقدير وتفكير ، وعنصرية شرسة ، وإباحية جارفة ، وجنوناً ليس إلا ، وهجوماً على الإنسان لتفريغه وتمزيقه ..
فبماذا نفسر ما يجري الآن ، من بناء هيكلية الشيطان ، وتدمير الإنسانية والإنسان ، وتطوير أساليب التوحش والشراسة والطغيان ، وإبادة كل ما له علاقة بالحياة المقدسة ، وبالتاريخ المشرق ، ليبقى البشر شرازم ممزقة ، وكيانات فارغة ، وهياكل عظمية مهترئة ، بدون تاريخ ولا تراث ..
إن أخطر شئ في الحياة اليوم: هو استنفاد معطيات التطور والتطوير ، والتجمُد عند حدود الاجترار والتكرار ، والبغي والاستكبار ، والغطرسة الملعونة ، والمكابرة الفظة ، واستخدامُ تطور الحديد والنار ، للحيلولة دون أن يتنفس هذا العالم الصعداء،ويستريح من التخبط والتآمر ، والولوغ في مستنقع الجرائم والمظالم ، وكبائر الإثم والموبقات والمآتم ، وتجمعات العزاء ..
فمتى يتوقف نهر الدمع والدم ، عن الدفق والجريان ، على أيدي جلادين وجزارين ومجرمين ، ليس في نفوسهم ذرة من رحمة، ولا في عقولهم مَسْكة من أناة ، ولا في تدبيرهم وإدارتهم ، شئ قد ينفع ويفيد ، وليس فيهم من رجل رشيد ..
إن الحياة والتاريخ في تطور ، هذا أمر مؤكد ، ولكن يختلف الأمر ، حسب المرجعيات والدوائر السياسية الحاكمة في الأرض ، فإذا كانوا هداة ، كان التطور رحمة ونعمة ، أما إذا كانوا جناة وعتاة، عاد التطور لعنة ونقمة ، وبلاء يفجر المعاناة والآلام ..
إن التطور الذي فجر الغنى والثروات ، واستخرج كنوز هذه الأرض ، واستصنع مناجم الذهب ، واستنبط النفط من آبارها الكثيرة والمتكاثرة ، واصطنع أقوى الأجهزة والأسلحة والمعدات والاتصالات ، وسيطر على السحاب والسماء .. هذا التطور غدا عاراً وناراً ، ووبالاً ونكالاً على النوع الإنساني برمته ، وأحال الكرة الأرضية ، إلى حمامات دماء ، ومزق البشر إلى إِرب وأشلاء، وصار هذا الكوكب ساحة لِلمصحَّات العقلية ، والعيادات النفسية والعصبية ، والمشافي الجسدية ، والسجون التي تضيق بسكانها ، وظهرت أمراض وأوبئة ولعنات ، تصرع الإنسان ، وتفجر كبده ، وفؤاده ، وتطفئ جذوة الحياة والأمل في أوصاله ، فيُحمل ويٌقبر ، ويهال عليه التراب ، كأتفه مايكون من الآلات والـجـيـفـات والأسـبـاب
ولكن إلى أين يسير هذا العالم اليوم ، وما هي المآلات المحتملة والراجحة ، وهل هي النهاية لهذا الكوكب ، ولم تبق فرصة متاحة للتدارك والتلافي ؟ والإغاثة الإسعافية العاجلة ..
الجواب على كل هذا التساؤل ، يكمن في كتاب الله: القرآن المجيد .. يتبادر إليَّ الآن قوله تعالى:(( وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون )).
فهذا العالم ليس متروكاً ولا مهملاً ولا مَنسياً ، حتى في أشد حالات التهالك والتداعي ، وتصاعدُ المد الإلهي الرباني ، لا يمكن وقف دوراته وآياته ، وكلامه الفصيح والـمـبـين ..
يقول عز وجهه وسلطانه:(( هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتيَ ربك أو يأتيَ بعض آيات ربك )).
وفي هذا الإتيان الإلهي المتنوع ، لجماعة المفسدين في الأرض، والضالعين في صنع طوفان الإجرام والإعدام ، دليل وبرهان على التدارك المؤكد ، والإغاثة العاجلة ، من خالق الكون إلى خلقه وعياله المضطهدين والمستضعفين ، والمعذبين في الأرض ، والمصلًّبين على جذوع النخل ، والممزقين أشلاء على فرشهم آمـنـيـن ..
إن استدارة الزمان ، واستئناف التاريخ ، ومداولة الله للأيام بين الناس ، ومؤشرات الصحوة من السكر والذهول ، والعذاب الشديد ، كل ذلك يحدو بنا إلى الأمل الكبير ، والتفاؤل المقتدر والجدير ، بآن سنن التطور الإلهي والتغيير ، في الحياة والتاريخ والإنسان , لن تتراجع ولن تتعطل أمام هذا الطوفان والإعصار ، وفوادح النار والعار والدمار ، بل سينحسر كل ذلك ، ويتراجع متلاشياً كالموج على صخور الشواطئ الصامدة ، ويعيش البشر من جديد ، أطواراً من خلق الله ، وتطورات من آيات الله ، وقول الله ، ووعد الله ، ورحمة الله ، وما النصر إلا من عند الله ..
والحمد لله رب العالمين ..
أما بعد :
فإن القرآن المجيد ، الذي قرأه الله تبارك وتعالى قبل خلق السموات والأرض ، هو الذي تمت هندسة الأكوان والعوالم ، على ضوئه وهداه ، وجاء آدم وذريته أخيراً ، ليكملوا مسيرة الخلق والتكوين ، متواكبة ومواكبة لعمليات التحديث والتطوير ، والمضي صُعداً في معارج ذي المعارج ..
فكان نبأ ابني آدم ، ونوح والطوفان ، وإبراهيم ونمرود ، وموسى وفرعون ، وعادٍ وثمود ، وأصحاب الأخدود ، وعيسى والحواريين ، والاسكندر وذو القرنين ، وزمزم والبيت ، وقُصَيٍّ وقريش ، وأصحاب الكهف ، وأصحاب الفيل ، ثم البعثة النبوية المحمدية ، الصاعدة ، وما نجم عنها من سُمّوٍ وعُلُوٍّ ، وفتح رائع وعريق ومبين ، في العقول والقلوب والمفاهيم والمضامين ..
كل هذه المحطات ، كانت تحولات ، وتطويراً لأنظمة البيئة والحياة ، وانعطافاً بالبشر ، إلى آفاق جديدة ، من التفكير والتدبير ، وحياة جديدة متجددة ، ومعايشَ متطورة ، وعلاقات متنامية ..
فكان ما بعدها استكمالاً لما قبلها .. خلقاتٌ يُتمم بعضها بعضاً:مؤلفةً سلسلة التطور الإنساني والتاريخي ، الذي عاشته البشرية , منذ آدم وحتى اليوم ..
ويقول سبحانه ، عن سنة التحديث والتطوير:(( ما يأتيهم من ذِكرٍ من ربهم مُحْدث إلا استمعوه وهم يلعبون . لاهية قلوبهم .. )).
ولا تسل بعد ذلك ، عن التطور الفالح والصالح والعجيب ، الذي طرأ على العالم الإنساني ، وتاريخه الدائب ، بعد نزول القرآن المجيد ، وانطلاقة الإسلام العظيم ، حيث آل الأمر أخيراً ، إلى أمم الغرب ، فقامت بهذه القفزات الهائلة والعملاقة ، من التطور الجامع والمهيمن ، والممتد إلى كل الفنون والزوايا والمآخذ والاتجاهات ، كما قرأنا ورأينا وسمعنا وعشنا ..
والله سبحانه وتعالى أجل وأعلم ..
تنبيه وتذكرة :
لقد كانت حضارة الغرب ، وتطوراتها المتلاحقة ، هي حضارةَ المسيح الأعور الدجال ، الذي لا يرى العالَم إلا بعين واحدة، وهي العين: التي يرى فيها مصالحه الجهنمية الرهيبة ، وما يريد أن يُحدثه في العالَم ، وأن يجر البشر إليه ، صارفاً الوجوه والوجهات ، عن حضرة الخالق العظيم ، رب السموات والأرض ، ورابطاً مصير هذا الكوكب ، في عجلة فتنته ورهبوته ، وخطفه للأبصار والنفوس ، وهجومه الصاعق والمدمر ، على المؤمنين والمؤمنات ، وتحطيم ما تبقى لهذه الأمة ، من وجود ، في هذا الوجود ..
ولذلك ارتبطت حضارة الغرب ، وتطوره الكبير ، في مجال العلوم والطاقات والسرعات والاتصالات ، باستعمار هذه الأمة ، وتقطيع أوصالها ، وتدمير كيانها السياسي الإسلامي ، وإحالتها إلى كيانات مصطنعة ، لا تشكل خطراً على طغيانه وعدوانه ..
قبل أن يكون المسيح الدجال ، شخصاً منظوراً ، في عالم السياسة والواقع والعقيدة ، كانت حضارته وثقافته ، وفتنته
التي ما مر مثلها في التاريخ ، قد غزت الدنيا بأسرها ، وصادرت كل ما لدى الأمم والشعوب ، من حقوق وخصوصيات ، لا سيما هذه الأمة، التي اكتوت بنار فتنة الدجال ، وحضارة الدجال المادية الإباحية الوجودية ، المتجردة من كل عهد ووعد وميثاق ، وحرمة محرمة ، قد حرمها الله ورسوله ، وكان ذلك في هذه الأمة ، أكثر من آية أمة أخرى ..
لا يحق ولا ينبغي للغرب ، أن يمن علينا بما حصل لنا ، من تقدم وتطور ، في بعض مظاهر حياتنا المادية ، ونُظُمنا الاقتصادية والاجتماعية ، ووسائط نقلنا في البر والبحر والجو ، وأخذنا بقسط لا بأس به من العلوم والمعارف ، والفنون المباحة والمحرمة ، لأن ما هو خير ومفيد من هذا الإرث الحضاري ، هو بعض ما رُدَّ إلينا من بضاعتنا ، ولكن بصورة مجتزأة ومنقوصة ، ومصحوبة بما صدروه إلينا وإلى مجتمعاتنا ، من أدبيات وعادات وشذوذيات وتجاوزات ، هم ليسوا منها في شيء ، إلا أن تكون علينا ناراً وعاراً، وانحلالاً واختلالاً ، وفرقة مدمرة ، وضعفاً مستمراً ..
وبقي الغرب يمسك بتلابيب أمتنا الغالية والمنكوبة ، ويهزها هزاً عنيفاً ، ويحول دونها من أن تستعيد شيئاً من خصوصيتها الحضارية ، وشخصيتها الاعتبارية ، وهويتها المتميزة والأصيلة ، وفكرها القومي الخالص ..
ولا تكاد تستطيع أن تحتفظ بقدر ولو يسير ، من عقيدتها الربانية النبوية ، التي هي سر عزتها ، ورمز كرامتها ، وعنوان استقلالها وتحررها ونصرها ..
وعلى أيدي الغرب والغربيين ، تمت زحزحة هذه الأمة ، عن كونها خير أمة أخرجت للناس ، تأمر بالمعروف ، وتنهى عن المنكر ، وتؤمن بالله ، وترعى بالعدل والمرحمة عباد الله ..
إن المخدوعين والجاهلين ، يتصورون ويظنون ، أن للغرب حقاً علينا ، وأن لهم الفضل فيما ترامى إلينا من حضارتهم ومخترعاتهم وعلومهم ..
وكأننا قبائل متوحشة ، جئنا من وراء التاريخ ، وجاؤا هم فأسدوا إلينا ذلك المعروف العظيم ، هكذا محبة ولوجه الله تعالى ، وجعلونا متحضرين ومتنورين ، لا نعيش مع الدواب ، ولا نسف التراب ..
في حين أنهم هم أنفسهم ، لا يملكون إلا أن يعترفوا ويُقروا لنا بالسبق والفضل ، في حلْبة السبق والفضل ، وأن علماءنا هم رواد علمائهم وأساتذتُهم ، وأنهم جاءوا بعدهم ..
وإنني لا أعترف بأنني أتيت بشيء جديد ، حينما أعرض هذه الحقائق والثوابت ، فإنها من المسلمات المنسِيَّات ..
ولـذلـك ذكّـَرت بـهـا نـفـسـي و قـومـي و أمـتـي ..
وياليت قومي يعلمون . ويعلمون بأن الذكرى تنفع المؤمنين ..
بقلم الشيخ عبد الرحمن العيسى