المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قضية إبليس والملائكة وابتلائهم بالإنسان لكل سائل عن حكمة الله



د. محمود عبد الرازق الرضواني
04-16-2005, 06:33 PM
الإنسان وبداية الكون – المحاضرة الأولي
هل تميز الإنسان عن غيره بالكلام؟

إن الحمد لله نحمده ونستعينه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلي الله عليه وسلم :  يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا يُصْلحْ لكُمْ أَعْمَالكُمْ وَيَغْفرْ لكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَرَسُولهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا  ،  يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ  الحشر/18 .أما بعد ..
فحديثنا بإذن الله تعالى في محاضرة اليوم يدور حول موضوع عظيم يتعلق ببداية الكون ونشأة الإنسان ، ووسوف نتناول هذا الموضوع في سلسة من المحاضرات نظرا لأهميته في تكوين العقيدة الصحيحة التي بنيت على القرآن في فهم علاقة الكون بالإنسان ، وكيف أبان الخالق حجته في خلقه أكمل بيان ، فمن أكبر الحقائق وأعظمها في حياة الإنسان هي حقيقة وجود الإنسان ، فلو سألت نفسك ما الذي يتميز به الإنسان عمن حوله من الكائنات ؟ ولماذا كان هو الوحيد المستفيد من سائر الأشياء ؟ ولماذا وجد في الحياة على هذا الحال ؟ فهل تجد إجابة مقنعة تعتقدها وتعيد بها النظر في صفحة الحياة ؟!
أحيانا تتردد على النفس أفكار عديدة ، ويسبح معها المرء إلي مسافات بعيدة حتى إذا أحس بالغرق في متاهة شديدة عاد ، عاد مستيقظا إلي دوامة الحياة ، يُعرض ويبتعد عن خطرات النفس ووسواس الشيطان ، لكنها في الحقيقة كانت جولة من الأفكار انهزم فيها وولي مدبرا ، وسوف تتكرر مرارا إلي أن ينتصر على نفسه بسلاح العلم ، أو يعيش مهزوما في ظلمات الجهل ، وستبقي الأفكار تناديه ، والموت قريبا يأتيه ، فلا بد من علم يديم به البحث والنظر ، حتى تهدأ النفس أو يزول الخطر ، ألم تسأل نفسك يوما عن حقيقة الشيطان ؟ وعن عدائه الدائم للإنسان ؟ لماذا يوسوس لنا بالعصيان ؟ وما هي الحكمة من ذلك ؟ وكيف يمكن للإنسان أن يحمي نفسه من كيد الشيطان ؟ !
ألم تسأل نفسك عن تفسير مقنع لنشأة الخلق ، أو ماذا يحدث للإنسان بعد الموت ؟ لا شك عند العقلاء في وجود من صنع الأشياء ، وأوجدها على النظام البديع الذي نراه ، فلا يمكن أن توجد بغير إله عظيم في حكمته ، أو تستمر في وجودها بغير إرادته !! لكن العقلاء يعجبون ويتساءلون : ما هي الحكمة في وجود المخلوقات على هذا الوضع وبهذا القدر والاتساع ؟! كيف نشأت واستقرت واستمرت على هذا الإبداع ؟ هل صحيح ما ذكره علماء الفزياء عن بداية الكون وإن فيه انفجار العظيم هو الذي أحدث هذا الإبداع الكوني والتميز الإنساني ؟
العقلاء عندما ينظرون إلي الكون وما فيه من أشياء يؤمنون بوجود حكمة بالغة في صناعة هذه الأشياء ، وقد صدق الله عز وجل فيما قال :  وَما خَلقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُما لاعِبِينَ ، مَا خَلقْنَاهُمَا إِلا بِالحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلمُونَ  الدخان/39:38 ، فكيف نتعرف على تلك الحكمة ، وما هو التفسير المقبول الذي يملأ القلوب ويقنع العقول ؟
ألم ترغب يوما من الأيام أن تري مجتمعا طاهرا من الآثام ، يسوده الإخلاص والحب والسلام ؟ لمَ يتكالب الناس على الشهوات ، ويجعلون الغاية من حياتهم تحصيل الملذات ؟ ما الحكمة في أن نري الناس مختلفين آجالا وأرزاقا ، ألوانا وأخلاقا ، منهم الغني والفقير ، والأعمي البصير ، الجاهل والخبير ، منهم الظالم والمظلوم ، والحاكم والمحكوم ، لم لا يكون الناس سواسية في الملبس والمطعم ، والمسكن والمغنم ؟ هل يمكن للإنسان مهما بلغت درجته العلمية ، أن يتصدي لهذه الخواطر النفسية ، دون هداية حقيقية ، وتوجيهات إلهية ، تأخذ بيده من ظلمات الحيرة إلي نور الحياة ؟ لا شك أن الأمر يحتاج إلي التوقف والانتباه ..
وهذا الموضوع الذي نتحدث عنه اليوم نحاول فيه التعرف على حقيقة الإنسان وبداية الكون وصلتهما برب العزة والجلال ، وذلك من خلال ما جاء في الوحي من أوجه الكمال ، وبيان وجهة النظر الإسلامية المبنية على النقل الصحيح والأدلة الصافية في الإسلام ، ودلالة العقل الصريح وما يوجبه عند العقلاء من أحكام .
ولا بد من وقفة صدق مع النفس ، فالحياة مهما طالت قصيرة ، والنفس مهما بغت فقيرة ، والجهل بهذه الحقائق كبيرة ، فلا قيمة لإنسان يجهل الغاية من وجوده ، يقول تعالى :  اعْلمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لعِبٌ وَلهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَال وَالأوْلادِ كَمَثَل غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الغُرُورِ  ، ولنبدأ الآن بأعظم سؤال يتردد على الأذهان ، ما الذي يتميز به الإنسان عن الحيوان ، أو ما هي الميزة التي تجعل الإنسان منفردا غيره من الكائنات على الأرض ؟ أو ما هي قيمة الإنسان بين سائر المخلوقات ؟ تلك القيمة التي جعلته أعلى منزلة من غيره ، يستفيد ممن حوله ولا يستفاد منه ؟
لقد اختلف الناس في ذلك ولا زالوا مختلفين ، وقالوا أقوالا كثيرة كاجتهاد بلا يقين ، آراؤهم تكاد تنحصر في بعض الآراء العقلية التي تمثل أهم ما ورد في المسألة من جهود فكرية قدمها الإنسان ، فمنهم من قال تميز الإنسان عن سائر الكائنات بأنه حيوان ناطق يتكلم بأجود الكلمات وأبلغ العبارات ويحسن التعبير عما يجول في صدره من نوازع وخطرات ولا نسمع ذلك من بقية الكائنات ؟!
في الحقيقة هذا الكلام من الناحية العقلية عليه تعقيب واعتراضات ، لأننا نعلم أن مختلف المخلوقات تعيش في جماعات متوافقات متفاهمات ، ولا يمكن أن تكون على هذا الحال إلا إذا كانت متخاطبات متكلمات على طريقة ما أو كيفية يعلمها خالقها ومن دبر أمرها ، غير أننا لا نفهم مفردات الكلام بينهم .
فهم بالنسبة إلينا كالأجانب من البشر ، الذين يسمعون كلامنا ولا يستوعبون مرادنا ، ويستطيع المتخصصون الدارسون للعلوم المختلفة كعلم الحيوان والنباتات ، أو علم الطبيعة والجمادات ، أن يؤكدوا بيقين صدق هذه الحقيقة ، فانظر على سبيل المثال إلي مجموعات الطير والنحل أو الحيتان والنمل ، أو انظر إلي طبيعة الذرات الفلزات واللافلزات في تكوين العلاقات لإنشاء الجزيئيات ، كلها متوافقات متفاهمات ، وإن كنا لا ندري كيف يتم ذلك ؟
فإذا تساءل العقلاء : هل ورد في الإسلام ما يؤيد انفراد الإنسان بالنطق والبيان ؟ إذا طالعنا القرآن الذي يمثل عمدة الوحي في الإسلام وجدنا أنه ينفي انفراد الإنسان بصفة الكلام ، فكل شيء في المخلوقات له أيضا لغة وكلام ، ويتفاهم مع إخوانه في انسجام ، شأنهم في ذلك شأن البشر ، يتنوعون في اللغات والأجناس والصور .
فكما أن الإنسان يفهم لغة الإنسان الذي يتكلم بنفس اللسان كذلك موقفه من اللغة التي تتحدث بها هذه المخلوقات ، وما يراه بينها من رموز وإشارات ، فالقرآن يؤكد أن لها قولا ، ورموزا وشفرة وكلاما فيه عبرة ، ولهم قانون ونظام ، ومنهج وأحكام ، يتكاتفون في إظهاره ، ويتعاملون بينهم من خلاله ، والله سبحانه وتعالي يسمع قولهم وكلامهم ، ويعلم تسبيحهم ونظامهم ، فقال تعالى :  أَلمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَليمٌ بِمَا يَفْعَلُون  النور/41 .
وقال أيضا عن السماوات والأرض ومن فيهن :  تُسَبِّحُ لهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَليمًا غَفُورًا  الإسراء/44 ، وقال سبحانه وتعالي في إثبات منطق الجبال ، وتسبيحها لله بالغدو والآصال :  إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَال مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ  فكانت تسبح مع داود عليه السلام ، حيث ناداها ربها ، وهو عليم بحالها ، وبنطقها وكلامها ، فكلفها وأمرها ، وناداها فقال لها :  يَا جِبَالُ أَوِّبِي معَهُ وَالطَّيْرَ  فتسبيح الجبال حقيقية لا خيال ، وقد بين الله أيضا في غير موضع من القرآن أنها مسبحات ناطقات ، ذاكرات عابدات ، على كيفية لا نعلمها .
وقد كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يقرأ القرآن ، والجن يستمعون له بإمعان ، دون أن يشعر بوجودهم ، فتكلمت شجرة مجاورة لهم ، وأخبرت رسول الله صلي الله عليه وسلم عن سماعهم للقرآن ، فقد روي مسلم من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قَال : ( سَأَلتُ مَسْرُوقًا ، منْ آذَنَ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم بِالجِنِّ ليْلةَ استمَعُوا القُرْآنَ ؟ فَقَال : حَدَّثَنِي أَبُوكَ ، يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ أَنَّهُ آذَنَتْهُ بِهِمْ شَجَرَةٌ ) وعند البخاري قال : ( سَأَلتُ مَسْرُوقًا : مَنْ آذَنَ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم بِالجِنِّ ليْلةَ اسْتَمَعُوا القُرْآنَ ؟ فَقَال : حَدَّثَنِي أَبُوكَ يَعْنِي ، عَبْدَ اللهِ ، أَنَّهُ آذَنَتْ بِهِمْ شَجَرَةٌ ) .
ومن عجائب ما جاء في القرآن ، في شأن داود وسليمان عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ، أن الله استخلف سليمان في ملك أبيه داود ، وأعطاه من النعم ما يفوق الحدود ، فعلمه منطق الطيور بأنواعها ، وسمع النملة تقدم النصح لإخوانها ، وكلم الهدهد عن بلقيس وشأنها ، لما جاءه من سبأ بأخبارها ، وكان له مع هذه الكائنات وغيرها ، شأن عجيب يطيب له قلب الإنسان ، فقال تعالى عن داود وسليمان :  وَلقدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُليْمَانَ عِلمًا وَقالا الحَمْدُ للهِ الذِي فَضَّلنَا على كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ وَوَرِثَ سُليْمَانُ دَاوُدَ وَقَال يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُل شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لهُوَ الفَضْلُ المُبِينُ  النمل/16:15 ، قال المفسرون : ( أي آتيناهما علما بالقضاء وبكلام الطير والدواب وتسبيح الجبال ) فما كان لسليمان عليه السلام أن يكلم هذه المخلوقات ، لولا أن علمه الله لغتها ومنطقها ، ولذا قال الله بعدها :  وَحُشِرَ لسُليْمَانَ جُنُودُهُ مِنْ الجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ، حتى إِذَا أَتَوْا على وَادِي النَّمْل قَالتْ نَمْلةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُليْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ، فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلهَا وَقَال رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التِي أَنْعَمْتَ على وَعلى وَالدَيَّ وَأَنْ أَعْمَل صَالحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالحِينَ  .
ابن قيم الجوزية يقول : ( تكلمت النملة بعشرة أنواع من الخطاب في هذه النصيحة ، النداء والتنبيه والتسمية والأمر والنص والتحذير والتخصيص والتفهيم والتعميم والاعتذار ) ، وهو يستدل بكلام النملة على علمها بالله أكثر من الإنسان ، فالله عز وجل أخبرنا عن النمل أنه ركب فيه الشعور والنطق ولا سيما هذه النملة التي جمعت في خطابها بين النداء والتعيين ، والتنبيه والتخصيص والأمر لإخوانها ، وإضافة المساكن إلي أربابها ، والتجائهم إلي مساكنهم ، فلا يدخلون على غيرهم من الحيوانات مساكنهم ، والتعذير والاعتذار بأوجز خطاب ، وأعذب لفظ ولذلك فإن سليمان عليه السلام دعاه العجب من قولها إلي التبسم ، فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلهَا وأحري بهذه النملة وأخواتها ، أن يكونوا أعرف بالله من الجهمية ، والجهمية طائفة كلامية تنكر صفات الله عز وجل وتنفي عنه صفة الكلام .
وقد كان في منطق الهدهد الذي كلم سليمان عليه السلام ، ما يدل على فصاحة القول من خلال دقة كلماته ، وظهور الحكمة في عباراته ، وحسن التعبير عن مراداته ، فقال الله تعالى :  وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَال مَا لي لا أَرَي الهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنْ الغَائِبِينَ ، لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَيدًا أَوْ لأذْبَحَنَّهُ أَوْ ليَأْتِيَنِي بِسُلطَانٍ مُبِينٍ ، فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَال أَحَطتُ بِمَا لمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ، إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلكُهُمْ ، وَأُوتِيَتْ مِنْ كُل شَيْءٍ وَلهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ، وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ للشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ ، وَزَيَّنَ لهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيل فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ ، أَلا يَسْجُدُوا للهِ الذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلنُونَ ، اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ  النمل/26:20 .
فالهدهد توعده سليمان فأعمل ذكاءه ، لما جاءه بادره بالعذر قبل أن ينذره سليمان بالعقوبة ، وخاطبه خطابا هيجه به على الإصغاء للخطاب ، ليصرفه عن وعيده بالذبح أو العذاب ، فقال : أحطت بما لم تحط به ، والإحاطة أكمل من العلم والرؤية ، أتيتك بأمر قد عرفته حق المعرفة ، وهو خبر عظيم له شأن عظيم ، وجئتك من سبأ بنبأ يقين ، والنبأ هو الخبر الذي له شأن عظيم ، تتطلع النفوس إلي معرفته ، ثم وصفه خبره بأنه نبأ يقين لا شك فيه ولا ريب ، فهذه مقدمة لكلامه بين يدي نبي الله سليمان ، ليعظم الأمر ولا يبقي عليه عضبان ، وهذا نوع من براعة الاستهلال وخطاب التهييج والاستنفار ، ثم كشف عن حقيقة ما لديه من أخبار ، كشفا مؤكدا بأنواع التأكيد والاستدلال ، فقال : إني وجدت امرأة تملكهم ، ثم أخبر عن شأن تلك الملكة ، وأنها من أجل الملوك ، وأنها أوتيت من كل شيء يلزم سائر الملوك ، ثم زاد في تعظيم شأنها ، بذكر جلوسها على عرشها ، ووصف عرشها بأنه عرش عظيم ، ثم أخبره بما يدعوهم إلي غزوهم في عقر دارهم بعد دعوتهم إلي ربهم ، فقال :
وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله ، ثم أخبر عن الشيطان وتزينه الشرك للإنسان ، حتى صدهم بأعمالهم وشركهم عن السبيل المستقيم وهو السجود لله العلى العظيم ، ثم أخبر أن صدهم حال بينهم وبين الهداية والسجود لله ، ثم بين أنه لا ينبغي السجود إلا لله ، ثم ذكر من أفعال الله إخراج الخبء في السماوات والأرض ، وفي قوله هذا أعظم دلالة على عقيدته في القضاء والقدر ، وأن الرزق مكتوب ومقضي في السماء قبل أن يخلق الله في الأرض ما يشاء ، ثم أثبت لله تعالى صفة الاستواء ، وأن الله بذاته على عرشه في السماء ، فنفي مذهب الجهمية والمعتزلة والأشعرية وسائر الحلولية في تفسيرهم الاستواء بالقهر والاستيلاء ، فالهدهد هدهد موحد ، عقيدته سلفية في باب الأسماء والصفات ، توحيد بلا تمثيل وإثبات بلا تعطيل .
فكلمه سليمان كما يكلم صاحب العقل الرزين ، ولم يعجل في حكمه حتى يتبين أنه من الصادقين ، كما قال سبحانه وتعالي وهو أحكم الحاكمين :  قَال سَنَنظرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الكَاذِبِينَ ، اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلقِهِ إِليْهِمْ ثُمَّ تَوَل عَنْهُمْ فَانظرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ قَالتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلقيَ إلي كِتَابٌ كَرِيمٌ ، إِنَّهُ مِنْ سُليْمَانَ وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلا تَعْلُوا على وَأْتُونِي مُسْلمِينَ  النمل/31:27.
وعلى هذه نصل إلي أن الكائنات تتكلم بنص القرآن ، ولو أدركنا منطقها كما أدركه سليمان ، لعلمنا أنها لا تقل عن الإنسان شيئا في إمكانية النطق والبيان ولكن بالكيفية التي تناسبها ، وعلى الوضع الذي أراده خالقها ، وقد يعترض معترض ويقول : كيف تتكلم الحجارة والمعادن ، وهي صماء بكماء ، ولا نسمع لها قولا ولا كلاما ؟ وقد ذكر الله في شأن إبراهيم عليه السلام ، لما قال له قومه بعد أن حطم الأصنام :
 قَالُوا أَأَنْتَ فَعلتَ هَذَا بِآلهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ، قَال بَل فَعَلهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ ، فَرَجَعُوا إلي أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالمُونَ ، ثُمَّ نُكِسُوا على رُءوسِهِمْ لقَدْ عَلمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ  الأنبياء/65:62 ، وقال الله منكرا على بني إسرائيل أنهم عبدوا العجل من دون الله :  وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَي مِنْ بَعدِهِ مِنْ حُليِّهِمْ عِجْلا جَسَدًا لهُ خُوَارٌ أَلمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالمِينَ  الأعراف/148 .
فكيف يكون للحجارة بعد هذا قول ولغة وكلام ؟ وجواب ذلك أن يقال : نفي الكلام مطلقا عن أي مخلوق من المخلوقات يعارض عقل الإنسان ويخالف ما جاء في القرآن ، فكل نوع من الكائنات وردت فيه الأدلة المنصوصة على أنه متكلم ناطق بهيئة مخصوصة وكيفية مخصوصة ، ربما نجهلها لكن الله يعلمها فيصح السؤال لو قيده المعترض فقال : كيف تتكلم الحجارة والمعادن بلغة الإنسان أو الحيوان ؟ أما التعميم في النفي فهو مخالف لصريح القرآن كما قال سبحانه وتعالي :
 وَقَالُوا لجُلُودِهِمْ لمَ شَهِدْتُمْ عَليْنَا قَالُوا أَنطَقنَا اللهُ الذِي أَنطَقَ كُل شَيْءٍ وَهُوَ خَلقَكُمْ أَوَّل مَرَّةٍ وَإِليْه تُرْجَعُون  فصلت/21 َ، فتأمل الشاهد في الآية وفكر بإمعان ، ستجد الدليل بنص القرآن على أن كل شيء ناطق بحول الله ، فلو أدرك الإنسان كلام مخلوق ما سماه ناطقا ، وسماه أصما أبكما على اعتبار عدم الفهم والاستجابة ، وكذلك ينعكس الأمر على الإنسان ، على اعتبار عدم الفهم والاستجابة منه للغة ما أو دعوة ما ، كقول القائل العربي عن الأعجمي : هذا لا يتكلم أي لا يتكلم العربية ، وكوصف الله للمنافقين والكافرين بالصمم والبكم في قوله تعالى :  صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعونَ  ، مع أنهم يتكلمون اللغة العربية بطلاقة ، أو كقوله :  إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ البُكْمُ الذِينَ لا يَعْقِلُونَ  ، وقوله :  وَالذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأْ اللهُ يُضْللهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلهُ على صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ  .
وهذه الحجارة التي عبدوها من دون الله ، خلقها الله بكيفية مخصوصة لا تسمح بمخاطبة الإنسان ، فلن تتأثر بندائه ، ولن تستجيب لدعائه ، وعلى الرغم من ذلك جعلها الله في بعض المواطن عونا لأوليائه ، حربا على أعدائه تتكلم بما يفهمه الإنسان من منطق وبيان ، إما في نهاية الزمان عند محاربة اليهود ، أو عند الحساب في اليوم الموعود ، روي البخاري من حديث عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة الأنصارى  أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ  قَال لهُ :
( إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الغَنَمَ وَالبَادِيَةَ فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ بِالصَّلاةِ ، فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ ، فَإِنَّهُ لا يَسْمَعُ مَدَي صَوْتِ المُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلا إِنْسٌ وَلا شَيْءٌ إِلا شَهِدَ لهُ يَوْمَ القِيَامَةِ ، قَال أَبُو سَعِيدٍ : سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُول اللهِ صلي الله عليه وسلم ) والشاهد في الحديث أن المخلوقات تسمع صوت المؤذن وتشهد له بذلك يوم القيامة ، وقد ورد الحديث عند ابن ماجة وصححه الشيخ الألباني بلفظ آخر : ( إِذَا كُنْتَ فِي البَوَادِي فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالأذَانِ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صلي الله عليه وسلم يَقُولُ لا يَسْمَعُهُ جِنٌّ وَلا إِنْسٌ وَلا شَجَرٌ وَلا حجر إِلا شَهِدَ له ) ، قال أبو عمر بن عبد البر : ( والحديث يشهد بفضل رفع الصوت في الأذان ولا أدري كيفية فهم الموات والجماد ؟ ، كما لا أدري كيفية تسبيحها ؟ ،  وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ  .
وقد روي البخاري ومسلم من حديث عبد الله بْنَ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهمَا قَال : ( سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صلي الله عليه وسلم يَقُولُ : تُقَاتِلُكُمُ اليَهُودُ فَتُسَلطُونَ عَليْهِمْ ثُمَّ يَقُولُ الحَجَرُ يَا مُسْلمُ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُله ) ، وعقب ابن حجر بقوله : ( وفي الحديث ظهور الآيات قرب قيام الساعة من كلام الجماد من شجر وحجر ، وظاهره أن ذلك ينطق حقيقة ) .
وقال تعالى :  إِذَا زُلزِلتْ الأرْضُ زِلزَالهَا ، وَأَخْرَجَتْ الأرْضُ أَثْقَالهَا ، وَقَال الإِنسَانُ مَا لهَا ، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَي لهَا  تخبر الأرض بما عمل عليها الإنسان من خير وشر ، حيث أمرها الله بالكلام وأذن لها فيه ، وهذه الأصنام التي تعجز عن الكلام ، لو تكلمت بلغة الإنسان لعابت على عُبَّادِها ما يصنعون ، كيف يشركون ولا يوحدون ؟ كما قال تعالى في شأنهم وشأن الكائنات :  وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ  الإسراء/44 ، وإذا نظرنا بنظرة عصرية ، يفهمها أصحاب العلوم المادية ، وجدنا بالأبحاث العلمية أن المادة تتكون من مجموعة من العناصر والمرَكَّبات وكل عنصر مكون من مجموعة من الجزيئيات ، وكل جزيئ مكون من مجموعة من الذرات ، وكل ذرة لها نظام في تركيبها ، وجميع الذرات لها قانون في مداراتها ، ينظم التكافؤ لكل ذرة في علاقتها بأختها ، سواء كانت الذرةُ سالبةً أو موجبةً .
ولولا معرفةُ الإنسان لتركيب الذرة منذ حين ، وبعد جهل به دام آلاف السنين ، ما استطعنا أن نعلم أن المادة في عناصرها عبارة عن أخوات من الذرات ، متفاهمات متخاطبات ، ولولا أنها متكاتفات متماسكات ، وفق رموز وشفرات ، ما ظهرت لنا المواد في صورتها التي نراها ، وإلا فاسئل المتخصصين من العلماء في علم الطبيعة والفزياء كيف سيتكون جزئُ الماء ، إذا لم تتحد ذرتان من الهيدروجين مع ذرة واحدة من الأكسجين ؟ ولولا أنهم علموا بوجود الطاقة الهائلة المدفونة في باطن النواة المتعادلة ، وخصوصا الذرات المشعات القابلة للتمزق والشتات ، لولا أنهم علموا لهجة خطابها والقوانين التي تعمل من خلالها ، لما عكفوا على البحث لتحويلها إلي ما نراه من القنابل الذرية والرؤوس النووية التي لا تبقي ولا تذر ، وعلى ذلك فالحجارة والمعادن يراها الجاهل بحقيقتها صماء ، ويراها عالم الفزياء والكمياء ، الكْتُرُونَاتٍ متحركةً سالبةً ، وبُرُوتُونَاتٍ جاذبةً موجبةً ونِيُوتْرُونَاتٍ متعادلةً ساكنةً ، لها دستور ونظام ، وقانون وأحكام ، والذرات في ذلك متماسكة ، لا تمل ولا تعتل ، ولا تختل ولا تنحل ، إلا إذا شاء الله لها الفناء وتحولت إلي صورة من صور الطاقة .
فالكل متكلم ناطق بكيفية تليق به ، سواء تحركت شفتاه ، أو كان بغير فاه ، وسواء أدركنا قوله أو جهلناه ، أو اعتبره البعض متكلما أو لم يعتبره ، فالحقيقة التي يصدقها العقل ، وورد ذكرها في النقل أن الله الذي خلق جميع الكائنات ، يعلم منطقهم جميعا ، ويسمع تسبيحهم جميعا ، ويري صلاتهم جميعا ، كما قال :  كُلٌّ قَدْ عَلمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَليمٌ بِمَا يَفْعَلُون  النور/41 ، وقال :  إِنَّ اللهَ لا يَخْفي عَليْهِ شَيْءٌ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ  آل عمران/ 6:5 ، فهو سبحانه الذي أحاط بكل شيء علما وأحصي كل شيء عدداً ، ولا شك أن الذي خلق الإنسان أو الحيوان ، أو غيره من المخلوقات في الأرض أو في السماوات ، قادر على تكوين الكائنات على أي وضع شاء ، إن شاء ختم على فم الإنسان فما استطاع الكلام :  اليَوْمَ نَختِمُ على أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون  يس/65 وإن شاء أنطق الحيوان بالحكمة وروعة البيان ، فقد ثبت عند البخاري من حديث أبي هريرة  أن رَسُول الله صلي الله عليه وسلم :
( صَلي صَلاةَ الصُّبْحِ ثُمَّ أَقْبَل على النَّاسِ فَقَال : بَيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إِذْ رَكِبَهَا فَضَرَبَهَا ، فَقَالتْ : إِنَّا لمْ نُخْلقْ لهَذَا ، إِنَّمَا خُلقْنَا للحَرْثِ ، فَقَال النَّاسُ : سُبْحَانَ اللهِ بَقَرَةٌ تتَكَلمُ ؟ فَقَال : فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ، وَمَا هُمَا ثَمَّ ، ثم قال صلي الله عليه وسلم: وَبَيْنمَا رَجُلٌ فِي غَنَمِهِ إِذْ عَدَا الذِّئْبُ ، فَذَهَبَ مِنْهَا بِشَاةٍ فَطَلبَ حتى كَأَنَّهُ اسْتَنْقَذَهَا مِنْهُ ، فَقَال لهُ الذِّئْبُ : هَذَا اسْتَنْقَذْتَها مِنِّي ، فَمَنْ لهَا يَوْمَ السَّبُعِ يَوْمَ لا رَاعِيَ لهَا غَيْرِي ؟ فَقَال النَّاسُ : سُبْحَانَ اللهِ ذِئْبٌ يَتَكَلمُ ؟ قَال : فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمرُ ، وَمَا هُمَا ثَمَّ )
وعند أبي داود وصححه الشيخ الألباني من حديث عبد الله بن جعفر  قال : ( دَخَل رسول الله صلي الله عليه وسلم حائِطًا لرَجُلٍ مِنَ الأنْصَارِ - الحائط هو البستان ، أو الأرض المحاطة بسور - ، فَإِذَا جَمَلٌ ، فَلمَّا رَأي النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ - يعني لمَّا رَأي الجملُ رسول الله صلي الله عليه وسلم بكي ، وشكا له ظلم صاحبه حيث يتركه بلا طعام ، ولا يعطيه حقه في الراحة أو المنام - ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ - الذفر أصل الأذن وطرفها - ، فَسَكَتَ ، فَقَال : مَنْ رَبُّ هَذَا الجَمَل - يعني مالكه والقائم على أمره - ؟ لمَنْ هَذَا الجَمَلُ ؟ فَجَاءَ فتي مِنَ الأنْصَارِ فَقَال : لي يَا رَسُول اللهِ ! فَقَال : أَفَلا تَتَّقِي اللهَ فِي هَذِهِ البَهِيمَةِ التِي مَلكَكَ اللهُ إِيَّاهَا فَإِنَّهُ شَكَا إلي أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُه ) .
فإذا كان الحيوان لا يتكلم بقولنا ولا ينطق بكلامنا ، فنحن أيضا نعجز عن الكلام مع هذه المخلوقات ، والمتخصصون من العلماء يعلمون أن لغة الحيوان أشد تعقيدا من لغة الإنسان ، وتحتاج منا لو أردنا التعرف على شفرة الخطاب بينها وفك رموزها وألغازها إلي دراسة علمية شاقة يقدرها علماء الحيوان على وجه الخصوص ، فمن بداهة العقل إذا ألا نقبل القول بأن الإنسان تميز عن غيره بأنه حيوان ناطق ؟
سؤال : إذا لم يكن الإنسان متميزا عن غيره بالنطق والكلام ، فهل يتميز بأنه عاقل حكيم يحرص على نفعه ودفعه ما يضره ؟ من وجهة النظر العقلية نجد أن الإنسان لا ينفرد عن هذه المخلوقات بوصف العقل ، بل يمكن القول إنه عند القياس أقل من غيره نصيبا وأكثر معيبا ، وقبل إقامة البرهان على ذلك لا بد من معرفة المقصود بالعقل ؟
فالعقل آلة غيبية تابعة للروح ، مغروزة في الجانب الغيبي من قلب الإنسان لا نعرف كيفيتها ولكن نتعرف على وجودها ووجود أوصافها من خلال أفعال الإنسان في ظاهر البدن ، فيقال : هذا عاقل إذا فعل أفعال العقلاء وهذا مجنون إذا لم يتصف بها ، قال تعالى :  أَفَلمْ يسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا  الحج/46 ، فدل ذلك على أن العقل موجود في القلب وأن القلب يرجع إليه ويهيمن عليه ، وهو المسئول عن شحنه بالمعلومات أو تركه أجوفا فارغا ، يقول الثعالبي في تفسيره : ( هذه الآية تقتضي أن العقل في القلب ، وذلك هو الحق ولا ينكر أن للدماغ اتصالا بالقلب يوجب فساد العقل متي اختل الدماغ ) ويقول القرطبي : ( أضاف العقل إلي القلب لأنه محله كما أن السمع محل الأذن ، وقد قيل : إن العقل محله الدماغ ، وروي عن أبي حنيفة وما أراها عنه صحيحا ) .
والعقل يقوم بتحصيل المعلومات وجمعها ، والحواس وسيلة الإنسان لإدراكها ، فهي المسئولة عن إدخال المعلومات وإخراجها ، ثم يقوم العقل بعد ذلك بتحليلها ، وتصنيف الحدث المرافق لها ، ثم يخزنها في الذاكرة لاستدعائها حسبما يشاء الإنسان .
والغاية الرئيسية من وجود العقل ، معرفة الإنسان بما ينفعه أو يضره وكيف يحصِّل الخير الأعلى والأفضل دائما ، فالعقل شأنه شأن الكمبيوتر أو العقل الألكتروني ، غير أن هذا من صنع البشر ، وهذا من صنع خالق البشر ، وشتان بين هذا وذاك ، ولما كان عظم المنفعة من أجهزة الكمبيوتر يرتبط طرديا مع البرامج العلمية عالية التقنية ، كان عِظَمُ المنفعة من العقل البشري يرتبط أيضا مع التزام الإنسان بالمناهج الدقيقة التي وضعها خالقه سبحانه وتعالي ، والتي لن نجد لها مثيلا من صنع البشر ، فلو وضع الله للإنسان منهجا ونظاما ، ودستورا وأحكاما ، كان الكمال كله فيه ، وكان صلاح العقل في اتباعة ، فَعِلمُ البشر لا يقارن بعلم الله ، والحكم بغير شرعه ونظامه لا يرقي أبدا إلي الحكم بما أنزل الله ، ومما لا شك فيه أننا نري جميع الكائنات في حياتها ، حريصة كل الحرص على نفعها ودفع الشر عن نفسها ، ولذا تطبق منهج الله أكثر من غيرها ، فهي أعقل عند المقارنة من الإنسان ، نقف عند هذا الحد ، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أن أستغفرك وأتوب إليك .














بداية الكون والإنسان – المحاضرة الثانية
هل تميز الإنسان بالعقل والاجتماعية ؟
الحمد لله الكبير المتعال ، ذي القدرة والجلال ، والكمال والجمال ، والنعم والأفضال ، سبحانه هو العلى الكبير ، هو العليم القدير ، هو اللطيف الخبير ، تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير ، أحمده حمد المعترف بالعجز والتقصير ، وأشكره على ما أولانا من نعم وفضل كبير ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة من يؤمن بأنه لا معين له ولا ظهير ، ولا وزير له ولا مشير ، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله ، البشير النذير ، والسراج المنير ، المبعوث إلي كافة الخلق من غني وفقير ، ومأمور وأمير ، صلي الله عليه وعلى آله الطاهرين ، وسائر أصحابه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلي يوم الدين :  يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا يُصْلحْ لكُمْ أَعْمَالكُمْ وَيَغْفرْ لكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَرَسُولهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا  الأحزاب/71:70 ،  يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلمُون  (آل عمران/102) أما بعد ..
فحديثنا بإذن الله تعالى في محاضرة اليوم يدور حول الجزء الثاني من الموضوع الذي بدأنا فيه بالأمس ، وتناولنا فيه الحديث عن بداية الكون ونشأة الإنسان ، وقد بدأنا في المحاضرة الماضية بأعظم سؤال يتردد على الأذهان ، ما الذي يتميز به الإنسان عن الحيوان ، أو ما هي الميزة التي تجعل الإنسان منفردا عن غيره من الكائنات ؟ أو ما هي قيمة الإنسان بين سائر المخلوقات ؟ تلك القيمة التي جعلته أعلى منزلة من غيره ، يستفيد ممن حوله ولا يستفاد منه ؟ وبينا أن الناس في ذلك مختلفون ، فمنهم من قال تميز الإنسان عن سائر الكائنات بأنه حيوان ناطق يتكلم بأجود الكلمات وأبلغ العبارات ويحسن التعبير عما يجول في صدره من نوازع وخطرات ولا نسمع ذلك من بقية الكائنات ؟
وعلمنا أنه من بداهة العقل ألا نقبل القول بأن الإنسان تميز عن غيره بأنه حيوان ناطق ، لأن ذلك يخالف العقل الصريح ويعارض النقل الصحيح ، فالقرآن يثبت بلا لبث أو غموض أن الإنسان لا يتميز عن الحيوان في إمكانية النطق والبيان ؟ فالله تعالى يقول :  تُسَبِّحُ لهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَليمًا غَفُورًا  الإسراء/44 .
وقد علمنا كيف أبدعت النملة في خطابها ، ولماذا أدرك سليمان كلامها وتبسم ضاحكا من قولها ، وكيف أخبر الهدهد عن بلقيس وشركها ، وكيف تكلمت البقرة وأنكرت على راكبها ؟
وقد تساءلنا وقلنا : إذا لم يكن الإنسان متميزا عن غيره بالنطق والكلام ، فهل يتميز بأنه عاقل حكيم يحرص على نفعه ويدفع عن نفسه ما يضره ؟ وعلمنا أنه من جهة العقل نجد أن الإنسان لا ينفرد عن هذه المخلوقات بوصف العقل ، بل يمكن القول إنه عند القياس أقل من غيره نصيبا وأكثر معيبا ، وعرفنا المقصود بالعقل ؟ وأنه آلة غيبية مغروزة في الجانب الغيبي من قلب الإنسان لا نعرف كيفيتها ولكن نتعرف على وجودها ووجود أوصافها من خلال أفعال الإنسان في ظاهر البدن ، واليوم نستكمل الحديث في إثبات العقل لدي كثير من المخلوقات فهي أيضا لها آلة غيبية مجهولة الكيفية مغروزة فيها ، تميز بها بين ما ينفعها وما يضرها ، ولديها قدرات عجيبة في التمييز والإحساس ، لا فرق بينها وبين أغلب الناس ، فالنملة مثلا لو وضعتها في إناء ، فيه قطرة من ماء ، ونظرت إلي حركتها ، وتأملت طريقتها في الخلاص من الهلاك ، لرأيتها تدبر أمرها بطريقة لا تقل عن سائر العقلاء ، كيف تتمكن النملة في حساباتها من الابتعاد عن قطرة الماء ؟ ولماذا تبتعد عن الهلاك كالإنسان سواء بسواء ؟ كيف علمت أن الماء يغرقها ويهلكها ؟ .
هذه النملة الضعيفة لديها من الفطنة والحيلة في جمع قوتها وادخاره وحفظه ودفع الآفة عنه ما يعجز عن تدبيره عقل الإنسان ، فإنك تري في ذلك عبرا وآيات ، فتري جماعة النمل إذا أرادت تحصيل قوتها ، خرجت بأسرابها ورسمت لنفسها طريقين ، طريق للنمل الذي يحمل الطعام إلي مساكنها ، وطريق لعودة النمل إلي الحبوب في أماكنها ، يسيرون في طريقين باتجاهين مختلفين ، يراهما الإنسان خطين مرسومين ليس فيهما تجاوز أو اختلاط ، كأنه طريق مزدوج تسير فيه السيارات ، كثير من البشر اعتاد على قطع الإشارات وعكس الاتجاهات ، وتعمد ارتكاب المخالفات ، ولا تجد ذلك في أمة النمل ، ولو حدث حادث لنملة ولم تقو على حمل الحبة لثقلها عليها اجتمعت عليها جماعة من النمل وقمن بالواجب المطلوب ، كما يتعاون الإنسان مع أخيه الإنسان في حمل الشيء الثقيل .
يذكر ابن القيم أنه من عجيب ما ورد في عقل النمل وفطنته ، أنها إذا نقلت الحب إلي مساكنها كسرته لئلا ينبت ، فإن كانت الحبة فيها فلقتان ، كل فلقة تنبت بذاتها كسرته أربعا ، فإذا أصابه ندا أو بلل وخافت عليه الفساد ، أخرجته للشمس ثم ترده إلي بيوتها ، ولهذا تري في بعض الأحيان حبوبا كثيرة مكسورة على أبواب مساكن النمل ، ثم تعود عن قريب فلا تري شيئا من ذلك .
يروي ابن القيم عن بعض الصالحين أنه كان جالس على الأرض يتأمل سلوك النمل وقدرة الخالق في تكونه ، فشاهد منهن عجبا ، يقول : رأيت نملة جاءت إلي جرادة صغيرة فحاولت حمله فلم تستطع ، فذهبت غير بعيد ثم جاءت معها بجماعة من النمل ، يقول : فرفعت الجرادة من الأرض ، فلما وصلت النملة مع أخواتها إلي مكان الجرادة دارت حوله فلم تجده ، ودرن معها يبحثن عن الجرادة فلم يجدن شيئا ، فتركنها وانصرفن كأنهن اتهمنها بالكذب والعبث واللعب وتضيع الأوقات ، يقول : فوضعت الجرادة على الأرض ، فوجدته النملة فحاولت حمله فلم تستطع ، فذهبت غير بعيد ثم جاءت معها بجماعة من النمل ، قال : فرفعت الجرادة من الأرض ، فلما وصلت النملة مع أخواتها إلي مكان الجرادة دارت حوله فلم تجده ، ودرن معها يبحثن عن الجرادة فلم يجدن شيئا ، فتركنها وانصرفن يقول : فوضعت الجرادة على الأرض مرة أخرى ، فوجدته النملة فحاولت حمله فلم تستطع ، فذهبت غير بعيد ثم جاءت معها بجماعة من النمل ، فرفعت الجرادة من الأرض ، فلما وصلت النملة مع أخواتها إلي مكان الجرادة دارت حوله فلم تجده ، ودرن معها يبحثن عن الجرادة فلم يجدن شيئا ، فلما لم يجدن شيئا تحلقن حلقة ، وجعلن تلك النملة في وسطها ، ثم تحاملن عليها ، فقطعنها عضوا عضوا حتى ماتت وأنا انظر .
سبحان الله المخلوقات لديها وعي وعقل وإدراك وتمييز حتى النبات ، اسأل نفسك : ما الذي يجعل النبات يميل إلي ضوء الشمس دائما ؟ وكيف يقوم بحساب حساسية الضوء في مكانه وكيف أدرك ضرورته لإتمام عملية البناء الضوئي ؟ وكيف يحسب الطائر عوامل الاتزان في الهواء أثناء الطيران ؟ أليست لديه تكنولوجيا أرقي وأعلى من عقل الإنسان ؟ هل تري أنه درس في معاهد الطيران ؟ أم تري أنه يجهل قوانين الحركة لنيوتن ، ولا يعلم أن لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار ومضاد له في الاتجاه ؟
اسأل نفسك من هذا القبيل عن جميع الأشياء من حولك حتى تتأكد أن الإنسان ليس وحده العاقل ؟ بل يمكن القول إن الإنسان أقل من غيره عقلا ، وأردأ في حساباته العقلية ، ويمكن لحيوان صغير أن يخدع الرجل الكبير ، وروي من هذا القبيل الكثير والكثير في تاريخ الحيوان ، يذكر ابن القيم في ذكاء الثعلب أن رجلا كان معه دجاجتان ، فاختبأ الثعلب له ، وخطف إحداهما وفر ، ثم أعمل الثعلب فكره في أخذ الأخرى ، فظهر لصاحبها من بعيد ، وفي فمه شيء شبيه بالدجاجة ، وأطمع الرجل في استعادة الدجاجة ، بأن ترك ما في فمه وفر ، فظن الرجل أنها الدجاجة فأسرع نحوها وترك الأخرى وخالفه الثعلب في خفية فأخذها وذهب .
يقول ابن القيم : ( وكثير من العقلاء يتعلم من الحيوانات البهم أمورا تنفعه في معاشه وأخلاقه وصناعته وحربه وحزمه وصبره ، وهداية الحيوان فوق هداية أكثر الناس قال تعالى :  أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأنْعَامِ بَل هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا  .
ولا يمكن لمن يعلم أسس الحساب من أصحاب العقول ، أن يجعل محصول جمع الدرهمين أو الثلاثة درهما واحدا ، لكن العجب أنه مقبول عند كثير من المنتسبين إلي العقول ، فيشركون بالله ويجعلون الإله اثنين أو ثلاثة ، إن العقل السليم لا يقبل الشرك ولا يرضاه ، فمن المحال عند العقلاء أن يكون الخالق إلهين اثنين متعادلين في وصف القدرة ، لأنه إذا أراد أحدهما شيئا ولم يرده الآخر ، فلا بد عند التنازع من غالب وخاسر ، وسيعود الأمر إلي قوي قادر ، والآخر مربوب مقهور عاجز ، قال الله تعالى :  مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذًا لذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِمَا خَلقَ وَلعَلا بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ  ، وقال أيضا :  أَمْ اتَّخَذُوا آلهَةً مِنْ الأرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ ، لوْ كَانَ فِيهِمَا آلهَةٌ إِلا اللهُ لفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ  .
وقد ذكر الله في القرآن رأي من خالف الإنسان ، وأنكر عليه اتخاذ الولد للرحمن ، وبين أن هذه المخلوقات يرفضن ذلك بشدة ، فقال سبحانه وتعالي :  وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلدًا ، لقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَدًّا ، أَنْ دَعَوْا للرَّحْمَنِ وَلدًا ، وَمَا يَنْبَغِي للرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلدًا ، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ، لقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْدً ا  .
أليست هذه هي المخلوقان التي خيرها الله في حمل الأمانة فقال :  إِنا عَرَضْنَا الأمانَةَ على السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالجِبَال فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا  .
روي ابن جرير الطبري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال : ( إن الشرك فزعت منه السماوات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين ، وكادت أن تزول منه لعظمة الله وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك كذلك نرجو أن يغفر الله ذنوب الموحدين ) وفي رواية أخرى ( اقشعرت الجبال وما فيها من الأشجار ، والبحار وما فيها من الحيتان ، وفزعت السماوات والأرض والجبال وجميع المخلوقات إلا الثقلين وكادت أن تزول ) .
ويروي عن عبد الله بن مسعود  أنه قال : ( إن الجبل يقول للجبل : يا فلان هل مر بك اليوم ذاكر لله عز وجل ، فإن قال : نعم سر به ، ثم قرأ عبد الله ابن مسعود :  وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلدًا ، لقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَدًّا ، أَنْ دَعَوْا للرَّحْمَنِ وَلدً ا  قال : أفتراهن يسمعن الزور ولا يسمعن الخير ) ، ويروي أيضا عن أنس بن مالك  قال : ( ما من صباح ولا رواح إلا تنادي بقاع الأرض بعضها بعضا : يا جاره ، هل مر بك اليوم عبد فصلي لله أو ذكر الله عليك ؟ فمن قائلة : لا ، ومن قائلة : نعم ، فإذا قالت : نعم ، رأت لها بذلك فضلا عليها ) .
ومن المعلوم في الفطرة السليمة أن العاقل هو الحريص على جلب المنفعة وتحصيلها وحب الخيرات وتفضيلها ، ولا نجد عاقلا يفضل الخير الأدنى على الخير الأعلى ، والعاقل أيضا حريص على دفع المضرة وإبعادها ، كما أنه يتحمل ضرراً أدني ليحصِّل منفعة أعلى ، ويضحي بالقليل ليحصِّل الكثير ، ويحرص بفطرته على الباقي ويزهد بسليقته في الفاني ، فالمريض يتحمل مرارة الدواء من أجل إدراك الشفاء .
هذه أوصاف العقلاء النابعة من الفطرة السليمة ، ومن هنا كانت دعوة الإسلام دعوة عظيمة ، لأنها بنيت على إيثار ما عند الله وطلب الجنان ، والبعد عن كل ما يقرب من النيران ، فليس بعد نعيم الجنة من خير ، وليس بعد عذاب النار من شر ، روي مسلم من حديث أَنَسِ بْنِ مَالكٍ  ، قَال رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم : ( يُؤْتَي بِأَنْعَمِ أَهْل الدُّنْيَا مِنْ أَهْل النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً ثُمَّ يُقَالُ : يَا ابْنَ آدَمَ هَل رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ ؟ هَل مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ ؟ فَيَقُولُ : لا وَاللهِ يَا رَبِّ وَيُؤْتَي بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْل الجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَة فِي الجَنَّةِ ، فَيُقَالُ لهُ : يَا ابْنَ آدَمَ هَل رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ ؟ هَل مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ ؟ ، فَيَقُولُ : لا وَاللهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ وَلا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ ) ، وقال تعالى :  بَل تُؤْثِرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا ، وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَي إِنَّ هَذَا لفِي الصُّحُفِ الأُولي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَي  .
والقرآن يخبرنا أن المعرض عن ربه يعترف بذنبه ويقر على نفسه بأن الله منحه غريزة العقل لكنه لم ينتفع بها ، وأنه لم يكن عاقلا حين فضل دنياه على أخراه ، وتجاهل العذاب الذي أعده الله للعصاة ، فقال تعالى :  إِذَا أُلقُوا فِيهَا سَمِعُوا لهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ ، تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الغَيْظِ كُلمَا أُلقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلهُمْ خَزَنَتُهَا أَلمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلي قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلنَا مَا نَزَّل اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ ، وَقَالُوا لوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ، فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ  .
وعلى ذلك نصل إلي أن الإنسان على العموم ، لم يتميز عمن حوله بالعقل والحكمة إذ يشتركون معه في ذلك على الأقل ، وإن كانت الحقائق تؤكد أن كثيرا من الكائنات أفضل منطقا وعقلا وأحكم قولاً وفعلا في موازين النفع والضرر ، فالإنسان إذا لا يتميز عن غيره بالكلام أو النطق أو الحكمة والعقل ، فهل ما يميز الإنسان عن غيره أنه اجتماعي ؟ لأن الاجتماعية هي صفة الإنسان عند علماء الاجتماع ، يقولون الإنسان يمكنه أن يقيم الأمم والحضارات ويضع المجالس والوزارات ، وله دستور ومؤسسات وبقية المخلوقات همجية عشوائية لا تتصف بصفة الاجتماعية ؟ !
إن الواقع يشهد بغير ذلك ، فأبحاث علم الحيوان تؤكد أنها أممية حضارية ، فالنحل مثلاً يقيم دولة متكاملة في كل خلية كاملة ، وله دستور ثابت ونظام محكم ، لا يحتال عليه أحد بالتزوير والتبديل كما هو شأن الإنسان الذي يبحث عن ثغرة في القوانين ليجد مخرجا لأطماعه وطغيانه وجرمه وعصيانه ، والقانون عاجز عن ضبطه وردعه ، ووقفه ومنعه ، هذا شأن البشر مع البشر ، ولا نجد ذلك في الكائنات الأخرى قال تعالى :  وَأَوْحَي رَبُّكَ إلي النَّحْل أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الجِبَال بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ، ثُمَّ كُلي مِنْ كُل الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُل رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلفٌ أَلوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ للنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلكَ لآيَةً لقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ  النحل/69:68.
فالنحل مثلا لديه من الاجتماعية ما لا يوجد لدي الإنسان ، إذا كان وقت رجوع النحل إلي الخلية وقف على باب الخلية بواب منها ، ومعه أعوان فكل نحلة تريد الدخول يشمها البواب ويتفقدها ، فإن وجد منها رائحة منكرة ، أو رأي بها تلطخ بوساخة منعها من الدخول ، وعزلها في ناحية بعيدة إلي أن يدخل الجميع ، فيرجع إلي المعزولات الممنوعات من الدخول ، فيتفقدهن ويكشف أحوالهن مرة ثانيه ، فمن وجده قد وقع في شيء منتن أو نجس عاقبه عقابا شديدا ومن كانت جنايته خفيفة تركه خارج الخلية ، هذا دأب البواب كل عشية .
وملكة النحل لا تكثر الخروج من الخلية إلا نادرا ، فإذا اشتهت التنزه خرجت ومعها أمراء النحل والخدم ، فتطوف في المروج والرياض والبساتين ساعة من النهار ثم تعود إلي مكانها ، ومن عجيب أمرها أنها ربما لحقها أذي من النحل أو من صاحب الخلية ، فتغضب الملكة وتخرج من الخلية وتبتعد عنها ، فيتبعها جميع النحل يسترضينها وتبقي الخلية خالية ، فإذا رأي صاحبها خرابها ، وخاف أن الملكة ستأخذ النحل وتذهب به إلي مكان آخر ، احتال لاسترجاعها وإرضائها ، فيتعرف على موضعها الذي صار إليه النحل ، ويعرفها باجتماع النحل عليها ، فإنه لا يفارقها بل يجتمع عليها حتى يصير النحل عليها كالعنقود أو الكرة ، والملكة إذا خرجت غضبانة وقفت على مكان مرتفع من الشجرة ، وطاف بها النحل وانضمت إليها حتى يصير النحل فوقها كالكرة ، فيأخذ صاحب النحل رمحا أو عودا طويلا ويربط على رأسه حزمة من النبات الطيب الرائحة أو يعطر النبات بعطر نظيف ، ويدنيه إلي محل الملكة إلي أن ترضي ، فإذا رضيت وزال غضبها ، نزلت الملكة على العود أو الرمح أو النبات الطيب الرائحة ، وتبعه الخدم وسائر النحل ، فيحمله صاحبه إلي الخلية ، سبحان الله ، الذي خلق فسوي والذي قدر فهدي ، صنع الذي أتقن كل شيء .
ومن عجائب القدرة في هذه المخلوقات ، أن الله جعل بعض الدواب كسوبا محتالا ، وبعضها متوكلا غير محتال ، وبعض الحشرات يدخر لنفسه قوت سنته ، وبعضها يتكل على الثقة بأن له في كل يوم قدر كفايته ، رزقا مضمونا وأمر مقطوعا ، وبعضها يدخر ، وبعضها لا تكسب له ، وبعض الذكورة يعول ولده ، وبعضها لا يعرف ولده البتة ، وبعض الإناث تكفل ولدها لا تفارقه ، وبعضها تضع ولدها وتكفل ولد غيرها ، وبعضها لا تعرف ولدها إذا استغني عنها ، وبعضها لا تزال تعرفه وتعطف عليه ، وجعل الله يتم بعض الحيوانات من قبل أمهاتها ، وبعضها يتمها من قل آبائها ، وبعضها لا يلتمس الولد ، وبعضها يستفرغ الهم في طلبه وبعضها يعرف الإحسان ويشكر ، وبعضها ليس ذلك عنده شيئا ، وبعضها يؤثر غيره على نفسه .
وبعضها إذا ظفر بما يكفي أمة من جنسه ، لم يدع أحدا يدنو منه ، وبعضها يحب الجماع ويكثر منه ، وبعضها لا يفعله في السنة مرة ، وبعضها يقتصر على أنثاه ، وبعضها يفعل بأي أنثي ولو كانت أمه أو أخته ، وبعضها لا تمكن غير زوجها من نفسها ، وبعضها لا ترد يد لامس ، وبعضها يألف بني آدم ويأنس بهم ، وبعضها يستوحش منهم وينفر غاية النفار ، وبعضها لا يأكل إلا الطيب ، وبعضها لا يأكل إلا الخبائث ، وبعضها يجمع بين الأمرين ، وبعضها لا يؤذي إلا من بالغ في أذاها ، وبعضها يؤذي من لا يؤذيها ، وبعضها حقود لا ينسي الإساءة ، وبعضها لا يذكرها البتة ، وبعضها لا يغضب ، وبعضها يشتد غضبه فلا يزال يُسْترضي حتى يرضي ، وبعضها عنده علم ومعرفة بأمور دقيقة لا يهتدي إليها أكثر الناس ، وبعضها لا معرفة له بشيء من ذلك البتة ، وبعضها يستقبح القبيح وينفر منه ، وبعضها الحَسَنُ والقبيح سواء عنده .
وبعضها يقبل التعليم بسرعة وبعضها لا يقبله إلا بصعوبة ، وبعضها لا يقبل ذلك بحال ، وهذا كله من أدلة الدلائل على الخالق لها سبحانه وعلى إتقان صنعه وعجيب تدبيره ولطيف حكمته ، فإن فيما أودعه في هذه المخلوقات من غرائب المعارف ، وغوامض الحيل ، وحسن التدبير والتأني لما تريده ما يستنطق الأفواه بالتسبيح ، ويملأ القلوب من معرفته ومعرفة حكمته وقدرته ، وما يعلم به كل عاقل أنه لم يخلق الخلق عبثا ، ولم يتركه سدي ، وإن له سبحانه في كل مخلوق حكمة باهرة ، وآية ظاهرة ، وبرهانا قاطعا يدل على أنه رب كل شيء ومليكه ، وأنه المنفرد بكل كمال دون خلقه وأنه على كل شيء قدير وبكل شيء عليم . انظر بتصرف ، شفاء العليل لابن قيم الجوزية .
إن المخلوقات لهن قانون حازم ، ينفذن أمره بشكل صارم ، لا مكان للمخالف منهن بينهن ، وربما مصيره عندهن الموت ، نري ذلك باديا واضحا وظاهرا جليا في مجتمعات النمل والحيتان والطير والحيوان ، وفي كثير من الأحيان يتشابه سلوكهن مع الإنسان ، وهذا ما يذكره القرآن في كل وضوح وبيان ، فقال تعالى :  وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلأ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلأ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إلي رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ  الأنعام/38 .
وقد أورد البخاري في صحيحة عن أمة القرود ، قصة توافق المعهود في إقامة الحدود ، فهم وإن كانوا غير مكلفين بشرعنا إلا أنهم يستقبحون الزنا مثلنا ، فعن عمرو بن ميمون الأودي قال : ( رَأَيْتُ فِي الجَاهِليَّةِ قِرْدَةً اجْتَمَعَ عَليْهَا قِرَدَةٌ قَدْ زَنَتْ فَرَجَمُوهَا فَرَجَمْتُهَا مَعَهُمْ ) ، و عمرو بن ميمون الأودي ، تابعي ثقة كوفي مخضرم أدرك الجاهلية وأسلم في حياة النبي صلي الله عليه وسلم لكنه لم يره ، كان أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم يرضون به ، سمع معاذ بن جبل باليمن وبالشام ، وعبد الله ابن مسعود وعمربن الخطاب رضي الله تعالى عنهم ، قال له رجل وهو في مسجد الكوفة حدثنا بأعجب شيء رأيته في الجاهلية ؟ قال : كنت في حرث لأهل اليمن فرأيت قرودا كثيرة قد اجتمعن ، وفي رواية أخرى :
( قال رأيت الرجم في غير بني آدم ، إن أهلي أرسلوني في نخل لهم أحفظها ، فيها كثير من القرود ، فبينما أنا في البستان إذ جاءت القرود فصعدت نخلة أختبئ منهم ، فرأيت قردا وقردة اضطجعا ثم أدخلت القردة يدها تحت عنق القرد واعتنقتها وناما ، فجاء قرد فغمزها من تحت رأسها ، فاستلت يدها من تحت رأس القرد ، ثم انطلقت معه غير بعيد فنكحها وعاشرها أنا أنظر ، ثم رجعت إلي مضجعها وأدخلت يدها تحت عنق القرد كما كانت ، فانتبه القرد فقام إليها فشم دبرها ، فصاح صيحة قوية ، فاجتمعت القردة على الفور ، فقام واحد منهم كهيئة الخطيب ، فجعل يسير إليها ويشير عليها ، فوجههم في طلب القرد الذي وقع في الجريمة ، فانطلقت القردة وتفرقت حتى جاءت بذلك القرد بعينه أعرفه ، فانطلقوا بها وبالقرد إلي موضع كثير الرمل ، فحفروا لهما حفيرة فجعلهوهما فيها ، ثم رجموهما حتى قتلوهما ، والله لقد رأيت الرجم قبل أن يبعث الله محمدا صلي الله عليه وسلم ، وهذه الرواية موجودة باختصار في فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني وبالتفصيل والإجمال في تهذيب الكمال ، فكيف ينفرد الإنسان بعد ذلك بأنه اجتماعي ؟!
علمنا أن الإنسان لا يتميز عن غيره من المخلوقات بالنطق والكلام فجميع الكائنات تتكلم بهيئات وكيفيات تخصها ، ولا يتميز أيضا بالعقل والحكمة فكل المخلوقات حريصة على تحصيل الخيرات والابتعاد عن المهلكات كما أنها تعيش في مجموعات متوافقات متفاهمات وهذا يعني أنه لا ينفرد بصفة الاجتماعية ، والسؤال الآن : هل يتميز الإنسان بأنه عابد ؟ والجواب : أنه لا ينفرد عن غيره بالعبادة ، وقبل إقامة البرهان على ذلك ، لا بد من معرفة معني العبادة ، فالعبادة هي الخضوع التام المقترن بالإرادة وتعظيم المحبوب ، فإن كان الخضوع والطاعة بغير إرادة فلا تسمي عبادة .
قال ابن القيم في مدارج السالكين : ( العبادة تجمع أصلين ، غاية الحب بغاية الذل والخضوع ، والعرب تقول : طريق معبد أي مذلل والتعبد التذلل والخضوع ، فمن أحببته ولم تكن خاضعا له لم تكن عابدا له ، ومن خضعت له بلا محبة لم تكن عابدا له حتى تكون محبا خاضعا ) وقال في الجواب الكافي : ( الإله هو الذي تألهه القلوب بالمحبة والإجلال والتعظيم والذل والخضوع وتعبده ، والعبادة لا تصح إلا له وحده ، والعبادة هي كمال الحب مع كمال الخضوع والذل ) .
ولا شك أننا نري في سائر المخلوقات كمال الخضوع والانضباط ، كما نري دقتها في تنفيذ التوجيهات التي حددها الله لها ، ولا يمكن أن تكون المخلوقات على هذه الكفاءة في حياتها بغير محبتها وإرادتها ، فإنها تقوم بواجبها بصورة تفوق إخلاص الإنسان ، ومعلوم أن المكره على الشيء لا يفعله بإتقان .
وإذا كان السجود للمعبود يجعل العابد في أعلى درجات المحبين المقربين ، كما ثبت عند مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ  عن سيد المرسلين صلي الله عليه وسلم أنه قَال : ( أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ منْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجدٌ ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ ) ، إذا كان السجود للمعبود هو أعلى أنواع العبادات ، فإن السجود أيضا كائن في بقية المخلوقات ، إذ نصت الآيات في حقها على لفظ السجود الذي يدل على كمال طاعتها وامتثالها لتوجيه خالقها ، وانضباطها في تنفيذ منهجها ، وإن كنا لا نعلم كيفية أدائها لذلك ، بل إن المقارنة بين الإنسان وغيره من المخلوقات في السجود وأداء الطاعات ، تُظهر تفوقها عليه في هذه الصفات ، فقال تعالى :  أَلمْ تَرَي أَنَّ اللهَ يسْجُدُ لهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ منْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَليْهِ العَذَابُ وَمَنْ يُهِنْ اللهُ فَمَا لهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء  الحج/18 ، فالله عبر عن سجودهن جميعا بالعموم ، فكلهن ساجدات بلا استثناء ولا تتخلف واحدة منهن عن السجود ، ولما عبر عن سجود الإنسان عبر بالخصوص فالبعض يسجد لله ، والبعض لا يسجد مطلقا ، كما أشار إلي ذلك قوله :  وَإِذَا قِيل لهُمْ اسْجُدُوا للرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ، تَبَارَكَ الذِي جَعَل فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَل فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا  .
يقول البغوي : ( ومذهب أهل السنة أن لله علما في الجمادات وسائر الحيوانات سوي العقلاء لا يقف عليه غيره ، ولها صلاة وتسبيح وخشية ، فيجب على المرء الإيمان به ويكل علمه إلي الله تعالى ) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته قنوت الأشياء كلها لله تعالى ضمن جامع الرسائل : ( وأما تفسير سجودها وتسبيحها بنفوذ مشيئة الرب وقدرته فيهما ودلالتها على الصانع فقط ، فالاقتصار على هذا باطل ، فإن هذا وصف لازم دائم لها لا يكون في وقت دون وقت ، وهو مثل كونها مخلوقة محتاجة فقيرة إلي الله تعالى ) .
وقال الشوكاني في فتح القدير عن سجود المخلوقات وتسبيحها لله : ( التسبيح على حقيقته والعموم على ظاهره ، والمراد أن كل المخلوقات تسبح لله سبحانه ، هذا التسبيح الذي معناه التنزيه ، وإن كان البشر لا يسمعون ذلك ولا يفهمونه ، فإنه لو كان المراد تسبيح الدلالة لكان أمرا مفهوما لكل أحد .. ومدافعه عموم هذه الآية بمجرد الاستبعادات ليس دأب من يؤمن بالله سبحانه ويؤمن بما جاء من عنده ) .
كما أخبرنا الله تعالى عن الهدهد أنه أنكر على قوم سبأ في عصر سليمان ، أنهم أشركوا بالله واتبعوا الشيطان ، ولو أراد الإنسان أن يعبر عن العصيان الذي وقع فيه هؤلاء الناس ، ما استطاع أن يبدي نفس الإحساس الذي أبداه هذا الهدهد الموحد ، قال تعالى :  فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَال أَحَطتُ بِمَا لمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ، إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُل شَيْءٍ وَلهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ، وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ للشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيل فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ ، أَلا يَسْجُدُوا للهِ الذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلنُونَ اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ  .
روي البخاري من حديث أبي هُرَيْرَةَ  أن رَسُول الله صلي الله عليه وسلم قَال : قَرَصَتْ نَمْلةٌ نَبِيًّا مِنَ الأنْبِياءِ ، فَأَمرَ بِقَرْيَةِ النَّمل فَأُحْرِقَتْ فَأَوْحي الله إِليْهِ أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلةٌ أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ تُسَبِّحُ ) فالحيوان يسبح الله تعالى حقيقة لا مجاز ، وعند البخاري من حديث عبد الله بن مسعود  أنه قال : ( كُنَّا نَعُدُّ الآيَاتِ بَرَكَةً وَأَنْتُمْ تَعُدُّونَهَا تَخْوِيفًا ، كُنَّا مَعَ رَسُول اللهِ صلي الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَقَل المَاءُ ، فَقَال : اطْلُبُوا فَضْلةً مِنْ مَاءٍ ، فَجَاءُوا بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ قَليلٌ ، فَأَدْخَل يَدَهُ فِي الإِنَاءِ ثُمَّ قَال : حَيَّ على الطَّهُورِ المُبَارَكِ ، وَالبَرَكَةُ مِنَ اللهِ ، فَلقَدْ رَأَيْتُ المَاءَ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُول اللهِ صلي الله عليه وسلم ، وَلقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ ) .
صحيح أنه ورد في القرآن أن الله خلق الإنسان للعبادة فقال :  وَمَا خَلقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا ليَعْبُدُونِ  ، لكن العبادة ليست وصفه الذي يميزه عن غيره ، لأن الخضوع للمعبود ومحبته وتعظيمه عام في جميع المخلوقات ، هذا فضلا عن التصريح في شأنها بأنها عابدات مسبحات ، كما جاء في قوله تعالى :  تُسَبِّحُ لهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَليمًا غَفُورًا  وقوله :  أَلمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَليمٌ بِمَا يَفْعَلُون  ، وآيات أخرى كثيرة ترد على من قال بأن المراد من سجودها وتسبيحها كونها مخلوقة دالة على الخالق ، وأن المراد شهادتها بلسان الحال ، فإن هذا عام لجميع الناس .
فالإنسان ليس وحده العابد الساجد فالمخلوقات أيضا عابدات ساجدات وإن كنا لا ندري كيف يتم ذلك ؟ إذ نصت الآيات في حقها على لفظ السجود الذي يدل على كمال طاعتها وامتثالها لتوجيه خالقها ، وانضباطها في تنفيذ منهجها ، كما قال قال تعالى :  أَلمْ تَرَي أَنَّ اللهَ يسْجُدُ لهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ منْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَليْهِ العَذَابُ وَمَنْ يُهِنْ اللهُ فَمَا لهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء  الحج/18 ، نكتفي بهذا القدر
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .

د. محمود عبد الرازق الرضواني
04-16-2005, 06:36 PM
بداية الكون والإنسان – المحاضرة الثالثة
هل تميز الإنسان بالعبادة والحرية ؟

الحمد لله الذي تفرد بوحدانية الألوهية ، وتعزز بعظمة الربوبية ، القائم على نفوس العالم بآجالها ، والعالم بتقلبها وأحوالها ، المان عليهم بتواتر آلائه ، والمتفضل عليهم بسوابغ نعمائه ، الذي أنشأ الخلق حين أراد بلا وزير ولا مشير ، وخلق البشر كما أراد بلا شبيه ولا نظير ، فمضت فيهم بقدرته مشيئته ، ونفذت فيهم بعزته إرادته ، فألهمهم حسن الإطلاق ، وركب فيهم تشعب الأخلاق ، فهم على طبقات أقدارهم يمشون ، وعلى تشعب أخلاقهم يدورون وفيما قضي وقدر عليهم يهيمون ، وكل حزب بما لديهم فرحون ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، فاطر السماوات العلا ، ومنشيء الأرضين والثري ، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، وأشهد أن محمدا عبده المجتبي ، ورسوله المرتضي ، بعثه على حين فترة من الرسل ودروس من السبل ، فدمغ به الطغيان ، وأكمل به الإيمان ، وأظهره على كل الأديان ، وقمع به أهل الأوثان ، فصلي الله عليه وسلم ما دار في السماء فلك ، وما سبح في الملكوت ملك وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه إلي يوم الدين ، أما بعد ..
فحديثنا بإذن الله تعالى في محاضرة اليوم يدور حول بداية الكون ونشأة الإنسان ، وهذه هي المحاضرة الثالثة في هذه السلسلة ، وقد علمنا فيما سبق أن الإنسان لا يتميز عن غيره من المخلوقات بالنطق والكلام فجميع الكائنات تتكلم بهيئات وكيفيات تخصها ، ولا يتميز أيضا بالعقل والحكمة فكل المخلوقات حريصة على تحصيل الخيرات والابتعاد عن المهلكات ، كما أنها تعيش في مجموعات متوافقات متفاهمات ، وهذا يعني أنه لا ينفرد بصفة الاجتماعية وكذلك لايتميز عن غيره بصفة العبودية ، والسؤال الآن : هل ما يميز الإنسان أنه حر مكلف مسئول ؟ لأن البعض ربما يقول إن هذا الوصف ليس للكائنات الأخرى على الأرض ؟!
والجواب أن الحرية والمسئولية لا تخص الإنسان وحده ، فمن ناحية الحرية والاختيار ، الحرية في الاختيار بين ضدين من الأفعال ، كالحرية في اختيار الطعام والشراب والملبس والمسكن ، فكثير من المخلوقات يتصف بذلك ، فما الذي يمنع الطير والحيوان أن يبحث عن طعامه وشرابه حيث يشاء ، كما يفعل الإنسان ذلك سواء بسواء ، بل هذه الكائنات أكثر حرية من الإنسان ؟ والواقع يشهد بذلك ويؤكده ، والقرآن أيضا يصرح به ويقرره ، فالله أوحي إلي النحل أن تبحث عن رزقها حيث تشاء وتأكل من الثمرات ما تشاء ، فقال تعالى :  وَأَوْحَي رَبُّكَ إلي النَّحْل أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الجِبَال بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ، ثُمَّ كُلي مِنْ كُل الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُل رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلفٌ أَلوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ للنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلكَ لآيَةً لقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ  النحل/69:68 .
ومن جهة الجزاء والمسئولية فقد ثبت أن الخلق يقتص بعضهم من بعض ، وأن الله يأخذ للمظلوم الحق من الظالم ، حتى يتحقق العدل بين سائر الخلق ، فعند مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ  أَنَّ رَسُول اللهِ صلي الله عليه وسلم قَال :
( لتُؤَدُّنَّ الحُقُوقَ إلي أَهْلهَا يَوْمَ القِيَامَةِ حتى يُقَادَ للشَّاةِ الجَلحَاءِ مِنَ الشَّاةِ القَرْنَاءِ ، ومعني القود هو القصاص ، وهو مجازاة الجاني بمثل صنيعه ، وفي رواية أحمد : ( يَقْتَصُّ الخَلقُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ حتى الجَمَّاءُ مِنَ القَرْنَاءِ وَحتى الذَّرَّةُ مِنَ الذَّرَّةِ ) الذرة النملة ، ومعني الجلحاء أو الجماء هي التي لا قرون لها عكس القرناء .
كما أخبرنا الله عن مخلوقات غيبية حية تعيش مع الإنسان وتشاركه وصف الحرية والمسئولية ، كما أنها تراه ولا يراها ، وهؤلاء هم الجن والشياطين قال تعالى في وصف حالهم :  إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ  ، وهم أيضا مكلفون بشرعنا ، ولهم مقومات التكليف التي وهبها الله لنا فقال تعالى :  وَإِذْ صَرَفْنَا إِليْكَ نَفَرًا مِنْ الجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ فَلمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلمَّا قُضِيَ وَلوْا إلي قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِل مِنْ بَعْدِ مُوسَي مُصَدِّقًا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إلي الحَقِّ وَإلي طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ، يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَليمٍ ، وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِي اللهِ فَليْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضِ وَليْسَ لهُ مِنْ دُونِهِ أَوليَاءُ أُوْلئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ  ، وقال تعالى في إثبات الحرية لهم :  وَأَنَّا مِنَّا الصَّالحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا  ، وقال سبحانه وتعالي في محاسبتهم عن أفعالهم :  وَأَنَّا مِنَّا المُسْلمُونَ وَمِنَّا القَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلمَ فَأُوْلئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ، وَأَمَّا القَاسِطُونَ فَكَانُوا لجَهَنَّمَ حَطَبًا  .
وعند البخاري ومسلم من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهُ أنه قَال : ( انْطَلقَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، عَامِدِينَ إلي سُوقِ عُكَاظٍ وَقَدْ حِيل بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلتْ عَليْهِمُ الشُّهُبُ ، فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ إلي قَوْمِهِمْ ، فَقَالُوا : مَا لكُمْ فَقَالُوا : حِيل بَيْننَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ ، وَأُرْسِلتْ عَليْنَا الشُّهُبُ قَالُوا : مَا حَال بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إِلا شَيْءٌ حَدَثَ ، فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا ، فَانْظُرُوا مَا هَذَا الذِي حَال بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ ؟ فَانْصَرَفَ أُولئِكَ الذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ ، إلي النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم وَهُوَ بِنَخْلةَ عَامِدِينَ إلي سُوقِ عُكَاظٍ ، وَهُوَ يُصلي بِأَصْحَابِهِ صَلاةَ الفَجْرِ فَلمَّا سَمِعُوا القُرْآنَ ، اسْتَمَعُوا لهُ فَقَالُوا : هَذَا وَالله الذِي حَال بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ فَهُنَالكَ حِينَ رَجَعُوا إلي قَوْمِهِمْ ، وَقَالُوا : يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهدِي إلي الرُّشْدِ فَآمَنَّا بهِ وَلنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا فَأَنْزَل الله على نَبِيِّهِ صلي الله عليه وسلم :
 قُل أُوحِيَ إلي أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إلي الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلدًا وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا على اللهِ شَطَطًا  ، وقد خاطب الله الجن والإنس كسائر العقلاء ، وجعلهم في التكليف والحساب سواء ، فقال تعالى :  يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالإِنسِ أَلمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَليْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا على أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمْ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا على أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ  ، وقال سبحانه :  يَامَعْشَرَ الجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلا بِسُلطَانٍ  .
وروي مسلم من حديث أبي السَّائِبِ مَوْلي هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ أَنَّهُ دَخَل على أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ فِي بَيْتِهِ ، يقول أبو السائب : فَوَجَدْتُهُ يُصَلي فَجَلسْتُ أَنْتَظِرُهُ حتى يَقْضِيَ صَلاتَهُ فَسَمِعْتُ تَحْرِيكًا فِي عَرَاجِينَ فِي نَاحِيَةِ البَيْتِ – والعراجين هي أعواد النخل اليابسة- فَالتَفَتُّ فَإِذَا حَيَّةٌ فَوَثَبْتُ لأَقْتُلهَا فَأَشَارَ إلي - وهو في الصلاة - أَنِ اجْلسْ فَجَلسْتُ فَلمَّا انْصَرَفَ أَشَارَ إلي بَيْتٍ فِي الدَّارِ فَقَال : أَتَرَي هَذَا البَيْتَ فَقُلتُ نَعَمْ قَال كَانَ فِيهِ فَتًي مِنَّا حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ ، فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ إلي الخَنْدَقِ فَكَانَ ذَلكَ الفَتَي يَسْتَأْذِنُ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ بِأَنْصَافِ النَّهَارِ فَيَرْجِعُ إلي أَهْلهِ فَاسْتَأْذَنَهُ يَوْمًا فَقَال لهُ رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ خُذْ عَليْكَ سِلاحَكَ فَإِنِّي أَخْشَي عَليْكَ قُرَيْظَةَ فَأَخَذَ الرَّجُلُ سِلاحَهُ ثُمَّ رَجَعَ فَإِذَا امْرَأَتُهُ بَيْنَ البَابَيْنِ قَائِمَةً فَأَهوى إِليْهَا الرُّمْحَ ليَطْعُنَهَا بِهِ وَأَصَابَتْهُ غَيْرَةٌ فَقَالتْ لهُ اكْفُفْ عَليْكَ رُمْحَكَ وَادْخُل البَيْتَ حتى تَنْظُرَ مَا الذِي أَخْرَجَنِي فَدَخَل فَإِذَا بِحَيَّةٍ عَظِيمَةٍ مُنْطَوِيَةٍ على الفِرَاشِ فَأَهوى إِليْهَا بِالرُّمْحِ فَانْتَظَمَهَا بِهِ – رماها فأصابها - فَاضْطَرَبَتْ عَليْهِ الحية وقتلته فَمَا يُدْرَي أَيُّهُمَا كَانَ أَسْرَعَ مَوْتًا الحَيَّةُ أَمِ الفَتَي قَال أبو سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ فَجِئْنَا إلي رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَذَكَرْنَا ذَلكَ لهُ وَقُلنَا ادْعُ اللهَ يُحْيِيهِ لنَا فَقَال اسْتَغْفِرُوا لصَاحِبِكُمْ ثُمَّ قَال إِنَّ بِالمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلمُوا فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيْئًا فَآذِنُوهُ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ – أن يخرج - فَإِنْ بَدَا لكُمْ بَعْدَ ذَلكَ فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ .
كل ذلك يدل على أن الإنسان يشترك مع الجان في وصف الحرية والمسئولية ، وحد يقول حريتنا يا دكتور ، إذا كان الإنسان لا يتميز عن غيره من الكائنات بأنه حيوان ناطق يتكلم بأجود الكلمات وأبلغ العبارات ولا يتميز عن غيره بالعقل والاجتماعية أو العبادة والحرية ، أو المحاسبة والمسئولية ، وعلمنا أن الآراء الفكرية التي قدمتها العقول البشرية عليها تعقيبات منطقية واعتراضات نقلية ، فما هو الوصف المقنع الذي يتميز به الإنسان عن غيره من المخلوقات ؟
اعلم يا أخي الكريم أن كل العقول لو اجتمعت للإجابة عن هذا السؤال دون هداية من خالقها فلن تتمكن بمفردها من تقديم الإجابة المقنعة التي تشبع العقول السليمة أو الفطرة القويمة ، والسبب في ذلك أن الإنسان له امتداد سابق على وجوده في هذا الزمان ، ولكي يوفق أي فيلسوف مفكر في الإجابة والبرهان ، لا بد من إلمامه بتفاصيل النشأة التي لم تشهدها العينان ، ولن نجد من يخبرنا عن بداية الكون والإنسان ، إلا الله الذي خلق جميع الكائنات وأوجد فيهما الإنس والجان ، ومن ثم وردت الإشارة إلي ذلك في القرآن ، فقال سبحانه وتعالي في سورة الفرقان :
 الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَي على العَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَل بِهِ خَبِيرًا  الفرقان /59 ، فربنا هو الوحيد الذي يعطينا تفصيل الجواب الذي يتعلق بنشأة الإنسان ، كما وردت العبارة بصريح البيان في قوله تعالى :  مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلا خَلقَ أَنفُسِهِمْ ومَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلينَ عَضُدًا  الكهف/51 ، ولذا سوف يتحتم علينا أن نلجأ إلي طريقة أخرى أعلى من عقولنا وأرقي من مداركنا لنتعرف على الوصف الذي يتميزنا عمن حولنا من الكائنات ؟
فإذا كان العقلاء يقرون ويعلمون علم اليقين ، أن المصنع الذي ينتج آلة من الآلات ، يضع دليلا مرفقا لشرح الخصائص المميزة ، وتوضيح التعليمات الموجزة ، التي تمكن الإنسان من تشغيل الأجهزة ، ولو حدث عطب أو تلف نتيجة الالتزام بالنظام ، أو وجود الخلل في بعض عوامل الأمان ، فالمصنع هو الوحيد المسئول عن الضمان ، وإعادة الثقة والاطمئنان لكل العملاء .
ولما كان أولي من يبين خصائص الأشياء ، ويشرح للجميع نظام المصنوعات والمنتجات هو صانعها ومنتجها ، فإن من العقل والحكمة أن نرجع في البحث عن الوصف الذي يمزينا عن غيرنا إلي من صانعنا وخالقنا ، فهو الوحيد الذي يمكن أن يفسر لنا السبب في وجودنا ووجود المخلوقات ، ويوضح لنا لماذا ترابطت العلل والمعلولات ، في النظام العام لجميع الكائنات ، وصاحب العقل السليم سيوافقنا على هذا الأساس ، ويشاركنا مع سائر الناس في التحرىبإخلاص عن إجابة مقنعة .
ومعلوم لدي كل العقلاء أن الكلام المباشر مع خالق الأشياء ممتنع ، لأن الوحي قد انقطع بموت الأنبياء ، فلم يبق لدينا إلا رسالة السماء للتعرف على كلام الله ، سواء الرسالة التي أنزلت على موسي أو عيسي أو محمد عليهم جميعا أفضل الصلاة والسلام ، وذلك حتى نظفر من خطاب الله بالعلم ، الذي يرشدنا إلي بداية الكون والإنسان وما يتميز به عن الحيوان أو غيره من الكائنات الأخرى .
غير أن السؤال الذي يطرح نفسه على العقلاء ، هو السؤال عن توثيق المصادر السماوية ومدي ثبوتها ، والتأكد بالفعل أن هذه الرسالة التي بين أيدينا والمنسوبة إلي نبي من الأنبياء ، هي بعينها ما جاءت عن الله حقا ، وأن ما فيها هو كلام الله صدقا ، ولذلك وجب قبل التعرف على الوصف الذي يتميز به الإنسان ، التثبت من نسبة الكتب السماوية الموجودة الآن إلي أصحابها .
فهل التوراة الموجودة بأيدي اليهود حاليا هي التي نزلت على موسي  ؟ وهل تصح مرجعا لكلام الله يعتمد عليه ؟ من المعلوم أن التوراة التي نزلت على موسي  كتبت في ألواح نزلت من السماء وأن الله كتبها بيده وهذه ميزة فضل الله بها التوراة على غيرها من الكتب السماوية ، وقد ورد النص بذكر هذه الألواح في القرآن والسنة ، فمن القرآن قوله تعالى :  وَكَتَبْنَا لهُ فِي الأَلوَاحِ مِنْ كُل شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لكُل شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الفَاسِقِينَ  الأعراف:145 ، وقوله :  وَلمَّا رَجَعَ مُوسَي إلي قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَال بِئْسَمَا خَلفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلقَي الأَلوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِليْهِ  الأعراف:150 ، وقوله :  وَلمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَي الغَضَبُ أَخَذَ الأَلوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًي وَرَحْمَةٌ للذِينَ هُمْ لرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ  الأعراف:154 ، ومن السنة ما أخرجه مسلم في القدر من حديث أبي هُرَيْرَةَ  أن رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم قَال : ( احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَي ، فَقَال مُوسَي : يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الجَنَّةِ ، فَقَال لهُ آدَمُ : أَنْتَ مُوسَي اصْطَفَاكَ اللهُ بِكَلامِهِ وكَتَبَ لكَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ ، أَتَلُومُنِي على أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللهُ على قَبْل أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً ؟ فَقَال النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم : فَحَجَّ آدَمُ مُوسَي ، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَي ) .
وكذلك ورد ذكر الألواح والنص على وجودها في العهد القديم في عدة مواضع ، كقول كاتب التوراة في سفر الخروج : ( وَقَال الرَّبُّ لمُوسَي : اصْعَدْ إلي الجَبَل وَامْكُثْ هُنَاكَ لأُعْطِيَكَ الوَصَايَا وَالشَّرَائِعَ التِي كَتَبْتُهَا على لوْحَيِ الحَجَرِ لتُلقِّنَهَا لهُمْ ) ، وكما ورد أيضا في قول موسي  سفر الخروج : ( وَسَلمَنِي الرَّبُّ لوْحَيِ الحَجَرِ المَكْتُوبَيْنِ بِأَصْبَعِ اللهِ ، حَيْثُ خَطَّ عَليْهِمَا جَمِيعَ الوَصَايَا التِي كَلمَكُمْ بِهَا الرَّبُّ فِي الجَبَل مِنْ وَسَطِ النَّارِ فِي يَوْمِ الاجْتِمَاعِ ، وَحِينَ أَعْطَانِي الرَّبُّ لوْحَيْ حَجَرِ العَهْدِ فِي نِهَايَةِ الأَرْبَعِينَ نَهَاراً وَالأَرْبَعِينَ ليْلةً ، قَال لي الرَّبُّ : قُمْ وَأَسْرِعْ بِالنُّزُول مِنْ هُنَا ) .
وقد بينت التوراة الموجودة بأيدي اليهود والنصارى الآن أن موسي  كسر اللوحين عندما وجد قومه قد عبدوا العجل : ( وَمَا إِنِ اقْتَرَبَ مُوسَي مِنَ المُخَيَّمِ وَشَاهَدَ العِجْل وَالرَّقْصَ حتى احْتَدَمَ غَضَبُهُ وَأَلقَي بِاللوْحَيْنِ مِنْ يَدِهِ وَكَسَّرَهُمَا عِنْدَ سَفْحِ الجَبَل ) ، وتذكر التوراة أيضا أن الرب أمر موسي  أن ينحت لوحين من حجر مثل الأولين حتى يكتب الرب عليهما الكلمات التي كانت على اللوحين الأولين :
( ثُمَّ قَال الرَّبُّ لمُوسَي انْحَتْ لكَ لوْحَينِ مِنْ حَجَرٍ مِثْل اللوْحَينِ الأَوَّليْنِ ، فَأَكْتُبَ أَنَا عَليْهِمَا الكَلمَاتِ التِي دَوَّنْتُهَا على اللوْحَينِ الأَوَّليْنِ اللذَيْنِ كَسَرْتَهُمَا ، وَتَأَهَّبْ فِي الصَّبَاحِ ثُمَّ اصْعَدْ إلي جَبَل سِينَاءَ وَامْثُل أَمَامِي هُنَاكَ على قِمَّةِ الجَبَل وَلاَ يَصْعَدْ مَعْكَ أَحَدٌ وَلاَ يُشَاهَدْ على الجَبَل إِنْسَانٌ وَلاَ تَرْعَ الغَنَمُ أَيْضاً وَالبَقَرُ بِاتِّجَاهِ هَذَا الجَبَل ، فَنَحَتَ مُوسَي لوْحَيْنِ مِنْ حَجَرٍ مُمَاثِليْنِ للأَوَّليْنِ ، وَبَكَّرَ فِي الصَّبَاحِ ، وَصَعِدَ إلي جَبَل سِينَاءَ حَسَبَ أَمْرِ الرَّب ) ، وكثير من النصوص الأخرى التي تدل جملة وتفصيلا على وجود ألواح كتبت بيد الله عز وجل .
والسؤال الآن أين هذه الألواح التي نزلت من السماء وتسلمها موسي  عند جبل الطور بسيناء ؟ ما يؤكده علماء الأديان أن التوراة الموجودة الآن باعتراف اليهود ليست هي ألواح موسي  ، وأنها كتبت بعد موته بقرون طويله على مراحل متعددة ، والأدلة قائمة على أن التوراة التي كتبها أحبار بني إسرائيل عبر تاريخهم الطويل تعرضت للتغيير والتبديل ، كما قال تعالى :  مِنْ الذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا ليًّا بِأَلسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ  ، غير أنها تحوي من الآثار الصحيحة والأحكام الصريحة ما يتوافق مع الفطرة السليمة والشريعة المستقيمة وقد بقيت تلك الأثار إلي عهد النبي صلي الله عليه وسلم ، فقد ثبت في السنة عند البخاري المطهرة أَنَّ اليَهُودَ جَاءُوا إلي النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم بِرَجُلٍ مِنْهُمْ وَامْرَأَةٍ قَدْ زَنَيَا ، فَقَال لهُمْ : كَيْفَ تَفْعَلُونَ بِمَنْ زَنَي مِنْكُمْ ؟ قَالُوا : نُحَمِّمُهُمَا وَنَضْرِبُهُمَا ، فَقَال : لا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ الرَّجْمَ ؟ فَقَالُوا : لا نَجِدُ فِيهَا شَيْئًا ، فَقَال لهُمْ عَبْد ُاللهِ بْنُ سَلامٍ : كَذَبْتُمْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ، فَوَضَعَ مِدْرَاسُهَا الذِي يُدَرِّسُهَا مِنْهُمْ كَفَّهُ على آيَةِ الرَّجْمِ ، فَطَفِقَ يَقْرَأُ مَا دُونَ يَدِهِ وَمَا وَرَاءَهَا وَلا يَقْرَأُ آيَةَ الرَّجْمِ ، فَنَزَعَ يَدَهُ عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ فَقَال : مَا هَذِهِ ؟ فَلمَّا رَأَوْا ذَلكَ قَالُوا : هِيَ آيَةُ الرَّجْمِ ، فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا قَرِيبًا مِنْ حَيْثُ مَوْضِعُ الجَنَائِزِ عِنْدَ المَسْجِدِ ، فَرَأَيْتُ صَاحِبَهَا يَحْنِي عَليْهَا يَقِيهَا الحِجَارَةَ ) .
أما الأناجيل الموجودة اليوم إنجيل متي ومرقس ولوقا ويوحنا ، فهل هذه الأناجيل هي كلام الله الذي أوحاه إلي رسوله عيسي  ؟ أم هي حكاية عن حياته وسرد لقصة وفاته من وجهة نظر النصارى ؟ وأين نسخة الإنجيل الأصلية التي نزلت على عيسي  أو أملاها للحواريين ؟ وهل سمع أصحاب الأناجيل متي ومرقس ولوقا ويوحنا هذه الأناجيل من عيسي  سماعا مباشرا ؟ أم وصل إليهم الإنجيل كسند متصل بنقل العدل الضابط عن مثله إلي منتهاه من غير شذوذ ولا علة ؟
ورد في مقدمة إنجيل لوقا عن السبب في كتابته هذا الإنجيل حيث قال : ( لمَّا كَانَ كَثِيرُونَ قَدْ أَقْدَمُوا على تَدْوِينِ قِصَّةٍ فِي الأَحْدَاثِ التِي تَمَّتْ بَيْنَنَا كَمَا سَلمَهَا إِليْنَا أُولئِكَ الذِينَ كَانُوا مِنَ البَدَايَةِ شُهُودَ عِيَانٍ ثُمَّ صَارُوا خُدَّاماً للكَلمَةِ ، رَأَيْتُ أَنَا أَيْضاً بَعْدَمَا تَفَحَّصْتُ كُل شَيْءٍ مِنْ أَوَّل الأَمْرِ تَفَحُّصاً دَقِيقاً أَنْ أَكْتُبَهَا إِليْكَ مُرَتَّبَةً أَيُّهَا العَزِيزُ ثَاوُفِيلُسَ لتَتَأَكَّدَ لكَ صِحَّةُ الكَلاَمِ الذِي تَلقَّيْتَه ) ، فالنص يشعر القارئ بأن صاحبه يكتب قصة عن المسيح  سوف يبعث بها كرسالة إلي عزيز لديه ، وفي مقدمة إنجيل متي : ( هَذَا سِجِلُّ نَسَبِ يَسُوعَ المَسِيحِ ابْنِ دَاوُدَ ابْنِ إِبْرَاهِيمَ ، إِبْرَاهِيمُ أَنْجَبَ إِسْحقَ وَإِسْحقُ أَنْجَبَ يَعْقُوبَ وَيَعْقُوبُ أَنْجَبَ يَهُوذَا ... إلي قوله : وَمَتَّانُ أَنْجَبَ يَعْقُوبَ وَيَعْقُوبُ أَنْجَبَ يُوسُفَ رَجُل مَرْيَمَ التِي وُلدَ مِنْهَا يَسُوعُ الذِي يُدْعَي المَسِيحَ ، فَجُمْلةُ الأَجْيَال مِنْ إِبْرَاهِيمَ إلي دَاوُدَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جِيلاً ) ، ويستحيل من سياق هذا النص أن يكون عيسي  هو من نطق بهذا الكلام وسرد للناس نسبه بمثل هذه الصياغة !
وهذه النصوص تدل على صدق ما ذكره القرطبي في أن هذ الكتاب الذي بأيدي النصارى اليوم ليس هو الإنجيل الذي قال الله فيه على لسان رسوله صلي الله عليه وسلم :  وَأَنْزَل التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيل مِنْ قَبْلُ هُدًي للنَّاسِ  ، لأن هذا الكتاب قد توافق النصارى على أنه إنما تلقي عن اثنين من الحواريين وهما متاؤوش ويوحنا ، وعن اثنين من تلاميذ الحواريين وهما ماركش ولوقا ، وأن عيسي  لم يشافههم بكتاب مكتوب عن الله كما فعل موسي  ، ولكن لما رفع الله عيسي  إليه تفرق الحواريون في البلاد والأقاليم كما أمرهم عيسي  ، فكان منهم من كتب بعض سيرة عيسي ، وبعض معجزاته وبعض أحواله ، حسب ما تذكر أو ما يسر الله عليه فيه ، فربما توارد الأربعة على شيء واحد فحدثوا به وربما انفرد بعضهم بزيادة معني ، وكذلك كثيرا ما يوجد بينهم من اختلاف مساق وتناقض بين قولين وزيادة ونقصان وهذا واضح من المقارنة بينها .
وعلى الرغم من ذلك فإن الأناجيل التي بأيدي النصارى اليوم نقل كتابها فيها من النصوص ما يدل على صدق ما جاء في القرآن والسنة ، وأن النصارى اليوم يعرفون محمدا كما يعرفون أبناءهم ، وسوف نعرض عليكم بإذن الله تعالى في عدة محاضرات قادمة الدليل من الأناجيل على أن النصارى في عصرنا اليوم يعرفون محمدا صلي الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ، يعرفونه بأسلوبه ونظامه وطريقة كلامه ، تماما كما ورد في قول الله عز وجل :  الذِينَ آتَيْنَاهُمْ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ ليَكْتُمُونَ الحَقَّ وَهُمْ يَعْلمُونَ  .
أما القرآن الكريم فهو آخر الكتب السماوية التي ما زالت بوضعها الأول ، يقول المستشرق الفرنسي موريس بوكأي : ( صحة النص القرآني المنزل على محمد لا تقبل الجدل وتعطي النص مكانة خاصة بين كتب التنزيل ، ولا يشترك مع نص القرآن في هذه الصحة لا العهد القديم ولا العهد الجديد ، وسبب ذلك أن القرآن قد دون في عصر النبي ، ولم يتعرض النص القرآني لأي تحريف من يوم أن أنزل على الرسول حتى يومنا هذا ) .
لقد اتخذ الرسول صلي الله عليه وسلم كتَّابا للوحي كان يملي عليهم ما جاءه من كلام الله ويأمرهم بكتابة ما ينزل من القرآن أولا بأول ، وهؤلاء الكتاب معروفون بالإسم فردا فردا ، ويمكن للقارئ أن ينظر تفصيل ذلك في علوم القرآن عند المسلمين ، هذا بالإضافة إلي حفظ أعداد كبيرة من أصحاب الرسول صلي الله عليه وسلم للقرآن كله كلمة كلمة ، وهم أيضا معروفون بالإسم فردا فردا ، ثم بعد وفاة الرسول صلي الله عليه وسلم منذ أربعة عشر قرنا أمر أمير المؤمنين عثمان بن عفان  ، وهو من خيار الصحابة وصهر رسول الله صلي الله عليه وسلم وخليفة المسلمين ، أن تكتب عدة نسخ من القرآن فكتبت وهي بذاتها موجودة إلي الآن ، ويمكن لكل فرد أن يطلع على بعضها في المدينة المنورة وفي مكة المكرمة وبعض البلاد الإسلامية الأخرى ، وعليها طبع القرآن وانتشرت نسخه في كل مكان .
وقد ميز الله القرآن عن سائر ما سبق من الرسالات بأنه النص الوحيد في العالم حتى عصرنا الحاضر الذي يقرأ بنفس أسلوب الوحي الأول بإعجاز تركيبه وبلاغة كلماته كنظم معجز يتحدى العالم أجمع أن يأتوا بمثله ، كما قال الله تعالى :  قُل لئِنْ اجْتَمعَتْ الإِنسُ وَالجِنُّ على أَنْ يَأْتُوا بِمِثْل هَذَا القُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثلهِ وَلوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لبَعْضٍ ظَهِيرًا  ، وقال أيضا :  أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُل فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ 
كما ميز الله القرآن أيضا بأن تكفل بحفظه وبقائه إلي يوم القيامة دون تحريف أو تبديل وذلك من خلال أمرين اثنين :
الأمر الأول : أن الله عز وجل حفظه قرآنا يتلى ومنهجا ثابتا لا يتغير فهيأ الأسباب لحفظ القرآن والسنة على الدوام ، فقال في حفظ منهجه :  إِنَّا نَحْنُ نَزَّلنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لهُ لحَافِظُونَ  ، فالمسلمون يكتشفون مواقع التغيير في القرآن إذا حدثت سهوا أو عمدا بتلقائية عجيبة ، فلا يستطيع أحد في العالم أن يدرج فيه حرف واحدا أو كلمة واحدة أو تشكيل مخالف لما هو عليه الآن وإلا قامت الدنيا ولم تقعد .
وفي حفظ السنة تميزت الأمة الإسلامية في براعة نادرة بالأسانيد ووضع قواعدها التي تميز بين المقبول والمردود والصحيح والضعيف مما نسب إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم ، وهو ما عرف بعلم مصطلح الحديث وعلم الجرح والتعديل الذي يعد من خصائص الفكر الإسلامي ، ويكفي للتدليل على مكانة علم الحديث وخدمة القرآن عند المسلمين أن ينظر القارئ نظرة عابرة إلي تراثهم في المكتبة الإسلامية من علوم قائمة على خدمة القرآن والسنة وخصوصا ما ظهر من البرامج الحديثة والمتطورة التي يستخدم فيها الكمبيوتر .
الأمر الثاني : أن الله حفظ الإسلام واقعا مرئيا بوجود من يطبقه على نفسه على مر السنين وهؤلاء هم حجة الله على غيرهم من المنحرفين ، فقد يدعي أحدهم أن منهج القرآن منهج مثالي لا يصلح في هذا الزمان ، أو يمكن أن يطبق في مكان دون آخر ، ومن ثم تكفل الله بوجود من يطبق منهج الحق على نفسه في واقعية مستمرة إلي يوم القيامة ، ففي صحيح مسلم من حديث ثوبان قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : ( لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ على الحَقِّ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلهُمْ حتى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلكَ ) .
إذا تبين للمسلم ولسائر الناس أن القرآن محفوظ إلي الآن ، وأنه كلام الله دون زيادة أو نقصان ، فالسؤال الآن : هل ورد في القرآن وصف يتميز به الإنسان عمن حوله من الكائنات ؟
والجواب : نعم فالقرآن ينفرد بحل التناقض في حياة الإنسان ، ويفسر نشأته في قديم الزمان ، ويضع الحقائق العظمي واضحة للعيان ، وقد ورد فيه الوصف الذي يتميز به الإنسان عمن حوله من الكائنات ، فقال تعالى بعد خلقه للأرض والسماوات ، يخاطب ملائكته عن حكمته في وجود المخلوقات :  وَإِذْ قَال رَبُّكَ للمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَليفَةً  فاستخلفه في الأرض وخوله ، وابتلاه فيها واستأمنه ، فترة معلومة إلي يوم موعود .
فالله سبحانه وتعالي قال عند بداية حياة الإنسان :  إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَليفَةً  ، وقال عند نهايته في آخر الزمان :  وَلقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَي كَمَا خَلقْنَاكُمْ أَوَّل مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ  ، وعند الإمام مسلم قال رسول الله صلي الله عليه وسلم عن مجمل الحياة بطولها ولماذا أو جدنا الله خلالها : ( إِنَّ الدُّنْيَا حُلوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ؟ ) قال الإمام النووي في شرحه للحديث : ( ومعني مستخلفكم فيها جاعلكم خلفاء من القرون الذين قبلكم ، فينظر هل تعملون بطاعته أم بمعصيته وشهواتكم ) .
وفي شرح سنن ابن ماجة قوله : ( مستخلفكم أي جاعلكم خليفة أي وكيلا ، ففيه أن أموالكم ليست لكم بل الله سبحانه جعلكم في التصرف فيها بمنزلة وكلاء ، أو جاعلكم خلفاء للأرض ممن كان قبلكم وأعطاكم ما كان في أيديهم ) ،
أما أقوال المفسرين في معني قوله تعالى :  إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَليفَةً  (البقرة/30) فتكاد تنحصر في قولين :
الأول : إني جاعل في الأرض خليفة مني يخلفني في الحكم بين خلقي ، وذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه ، وهذا قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وطائفة أخرى من المفسرين .
الثاني : أن معني الخلافة التي ذكرها الله إنما هي خلافة قرن منهم قرنا يخلف بعضهم بعضا ، كما في قوله تعالى :
 ثُمَّ جَعَلنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ  (يونس/14) ، وهذا قول عبد الله بن عباس  وطائفة أخرى من المفسرين .
يقول ابن الجوزي أيضا : ( وفي معني خلافة آدم قولان : أحدهما أنه خليفة عن الله تعالى في إقامة شرعه ودلائل توحيده والحكم في خلقه ، وهذا قول ابن مسعود و مجاهد والثاني أنه خلف من سلف في الأرض قبله ، وهذا قول ابن عباس والحسن ) .
ولكن الرأي الأول وإن قال به ابن مسعود ومجاهد وبعض المفسرين إلا أن أغلبهم يميلون إلي الرأي الثاني رغبة في تنزيه الله عن معاني النقص ، فما غاب الله حتى يستخلف عنه نائبا في ملكه ، وسنري في المحاضرات القادمة إن شاء الله أنه لا خلاف مطلقا بين الرأيين ، وأن ما ورد في القرآن يدل بوضوح على المعنيين ، وأنهما لازمان لاستخلاف الإنسان ، وسوف تظهر بإذن الله هذه المسألة عند إتمام النظرة الشاملة لما يتعلق بالإنسان وبداية الكون ، وعند اكتمال أركان الموضوع ، غير أن ما يعنينا الآن أنه ليس فيما تقدم من آراء سلفية أي اعتراض على أن اللوازم الضرورية ، لمعني الاستخلاف ، وجود مستخلف ومستخلف ومستخلف عليه ، الله والإنسان والعالم :
أ - فالمستخلف للإنسان في الأرض هو الله إما على المعني الأول الذي ذكره عبد الله بن مسعود في قوله تعالى :
 إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَليفَةً  (البقرة/30) أي خليفة مني يخلفني في الحكم بين خلقي أو كما قال عبد الله بن عباس خليفة لمن سبق من الجن يخلف بعضهم بعضا ، فالذي استخلفه هو الله .
ب - والمستخلف في ملك الله حقيقة هو الإنسان ، لأنه طالما أنه مستخلف في الأرض ، فالملك الذي يحيا فيه ليس له ، بل لخالقه ومالكه ، فإن كان الملك لله والإنسان مستخلف فيه بأمره وشرعه ، فهذا هو ما أشار إليه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في أن الإنسان خليفة عن الله تعالى في إقامة شرعه ودلائل توحيده والحكم في خلقه ، وإن كان الإنسان خليفة لمن سبق ، فالملك أيضا ليس ملك من سبق إلا على سبيل الاستخلاف في الأرض وحمل الأمانة لا على سبيل التملك والأصالة ، وسيلزم هنا بالضرورة لا محالة أن الإنسان الأول سيكون خلفا لمن سبق من الجن ، وسيقال بالضرورة مباشرة والجن خلف لمن ؟
فليس عند ذلك إلا القول بأن الجن كانوا فيما سبق خلفاء لقوم آخرين الله أعلم بهم ، ويلزم من هذا التسلسل وهو باطل ، أو يلزم القول بأن الجن خلفاء لله في الأرض والإنس يخلفونهم من بعدهم ، لكن سنقع فيما احترز منه القائلون بأن الإنسان خليفة لمن سبق رغبة منهم في تنزيه الله عن معاني النقص ، فما غاب الله حتى يستخلف الجن في أرضه ، أو ينيبهم عنه في ملكه .
كما أن الجن مازالوا في الأرض يشتركون مع الإنس في الأحكام الشرعية ويتحملون عند الحساب نفس المسئولية ، وإن جاز بالضرورة أن يكون الجن خلفاء عن الله في الأرض ، ألا يجوز ذلك في حق الإنس ، وقد فضل الله آدم وبنيه على كثير من خلقه ، كما قال تعالى :  وَلقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلنَاهُمْ على كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلقْنَا تَفْضِيلا  (الإسراء/70) ؟
بل وصل أمر التفضيل إلي أن الله أمر الملائكة بالسجود للإنسان الأول فقال تعالى :  وَإِذْ قَال رَبُّكَ للمَلائِكَةِ إِنِّي خَالقٌ بَشَرًا مِنْ صَلصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لهُ سَاجِدِينَ ، فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلا إِبْليسَ أبي أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ  (الحجر/31:28) .
هذه المسألة في الحقيقة معضلة وسنشرح كيفية الخروج من هذه المشكلة ، بإذن الله في المحاضرات القادمة ، غير أن النتيجة الملزمة التي نقررها الآن ، أنه لا اعتراض على أن الإنسان ، مستخلف في أرض الله مخول فيها كما قال :  آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلكُمْ مُسْتَخْلفِينَ فِيهِ فَالذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ  (الحديد/7) .
ح – أما المستخلف عليه فهي الأرض وهي موضوع الابتلاء والاستخلاف ، قد هيأها الله لأداء هذه المهمة التي سيقوم بها الإنسان ، كما أن العالم مهيأ أيضا لتبقي الأرض على هذا الحال إلي وقت محدود ويوم موعود .
فاستخلاف الإنسان في الأرض وتخويله فيها هو الوصف الذي تميز به عمن حوله من الكائنات ، كما أنه يوضح الرؤية الصحيحة للعلاقة بين الله والإنسان وسائر المخلوقات ، تلك العلاقة التي حارت فيها العقول بمختلف الفلسفات ولم تنجح في تفسيرها نظرية من النظريات ، فالله مستخلفٌ استخلف الإنسان في الحياة ، والإنسان مستخلفٌ يعيش في ملك الله ، والأرض مستخلف عليها في العالم الذي هيأه الله لتحقيق ذلك ، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .







بداية الكون والإنسان – المحاضرة الرابعة
ما الذي يتميز به الإنسان ؟

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
أما بعد : فقد أعظم الله تعالى المنة على هذه الأمة بأن بعث فيها أفضل رسول وأنزل إليها أكمل دين وأقوم شريعة ، دين ( يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المائدة:16) ، بين الله في كتابه وفي سنة رسوله صلي الله عليه وسلم ، كل ما يتعلق بنشأة الكون وبداية الإنسان ، في انسجام وتوافق تام ، يقبله العقل وتركن إليه الفطرة ، وهذه هي المحاضرة الرابعة في هذه السلسلة التي تتعلق بنشأة الإنسان وبداية الكون ، وقد وقفنا في المحاضرة الماضية عند استخلاف الإنسان في الأرض وتخويله فيها ، وأن هذا الوصف هو الذي يتميز به عمن حوله من الكائنات ، كما أن الاستخلاف يوضح الرؤية الصحيحة للعلاقة بين الله والإنسان وسائر المخلوقات ، تلك العلاقة التي حارت فيها العقول بمختلف الفلسفات ، ولم تنجح في تفسيرها نظرية من النظريات ، فالله مستخلفٌ استخلف الإنسان في الحياة ، والإنسان مستخلفٌ يعيش في ملك الله ، والأرض مستخلف عليها في العالم الذي هيأه الله لتحقيق ذلك .
لكن السؤال الآن ، الذي يطرح نفسه على الأذهان والذي يتطلب الإجابة والبرهان ، لماذا استخلف الله الإنسان في الأرض على وجه الخصوص ولم يستخلف غيره ؟ أو لماذا اختار الله الإنسان بالذات ليخوله في الأرض ويكرمه بهذه المنزلة الرفيعة التي قال عنها :  وَلقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَات وَفَضَّلنَاهُمْ على كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلقْنَا تَفْضِيلا  ، وهل الإنسان في ذلك مجبور مقهور ؟ أم أنه مخير مسئول وله دور معقول ؟ لأنه ربما يحتج إنسان على ربه ، ويحاول التملص من ذنبه بأنه لم يكن يرغب من الأساس أن يكون مستخلفا في الأرض ؟ فالأمر يفتقر إلي إجابة مقنعة تشفي العليل وتروي الغليل وتتوافق مع الفطرة السليمة ، ونحن إذا حاولنا بمفردنا التفكير في هذه المسألة ، والبحث عن إجابة لهذه المشكلة ، فلن نصل إلا إلي الحيرة واختلاف الرأي والنظر ، فالإجابة عن هذا السؤال لا يستطيعها البشر ، لأنها أعلى من عقولنا وأوسع من مداركنا .
ومن رحمة الله عز وجل بنا وعلمه بضعفنا وقلة علمنا وأن فهم ذلك لازم لنا ، أنزل في القرآن البيان والبرهان ، فيبين أن السبب في استخلاف الإنسان أنه المخلوق الوحيد الذي قبل الأمانة حين عرضها على الكائنات فأبين أن يحملنها وأشفقن منها :  إِنا عَرَضْنَا الأمانَةَ على السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالجِبَال فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا  .
ما هي حقيقة الأمانة التي ورد ذكرها في القرآن ، والتي عرضت على السماوات والأرض والجبال والإنسان ؟ يجيبنا القرآن عن ذلك بذكر تفاصيل نشأة الكون قبل وجود الزمن المعروف لدينا ، حيث أخبرنا الله عز وجل أنه قبل وجود السماوات والأرض كان العرش والماء ، فقال تعالى :  وَهُوَ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ على المَاءِ  ، وعند البخاري من حديث عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ  قَال رسول الله صلي الله عليه وسلم : ( كَانَ اللهُ وَلمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلهُ وَكَانَ عَرْشُهُ على المَاءِ ثُمَّ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْض وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُل شَيْءٍ ) .
ومن باب الفضول ربما يسأل سائل ويقول : وماذا قبل العرش والماء ؟ والجواب ، أن الله قد شاء أن يوقف علمنا بالمخلوقات عند معرفة العرش والماء ، فقال تعالى :  وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ  ، وقال أيضا :  ومَا أُوتِيتُمْ مِنْ العِلمِ إِلا قَليلا  ، فالله أعلم بوجود مخلوقات قبل العرش والماء أم لا ، لكننا نعتقد أن وجودها أمر ممكن في قدرة الله تعالى ، لأنه أخبرنا أنه يخلق ما يشاء ويفعل ما يشاء ،  قال كَذَلكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَي أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لهُ كُنْ فَيَكُونُ  ، وقال :  ذُو العَرْشِ المَجِيدُ فَعَّالٌ لمَا يُرِيدُ  ، فالله متصف بصفات الأفعال ، ومن لوازم الكمال أنه فعال لما يريد على الدوام أزلا وأبدا ، سواء كان ذلك قبل العرش والماء أو بعد العرش والماء ، لكن الله أوقف علمنا عند هذا الحد ، فقال تعالى :  وَلا يُحِيطُونَ بِه عِلما  ، كما أن جهلنا بذلك لا يؤثر فيما يخصنا من المعلومات الضرورية التي وردت في القرآن ، والتي لا بد منها لتفسير الحقائق العظمي في حياة الإنسان .
ثم خلق الله الأرض والسماء بعد العرش والماء ، خلقهما على مرحلتين ، لتتحقق حكمته في الوضعين ، الوضع الأول هو وضع الرتق والدخان ، والوضع الثاني بعد خلق آدم كما نراه الآن ، فالوضع الأول كانت السماء دخانا ملتصقا بالأرض على هيئة يعلمها الله ، ربما تسمح بالحياة لغيرنا ، لكنها بالنسبة لنا أو ما يشبه وضعنا غير ممكنة ، فالجبال لم تكن مستقرة كما هو الحال ، والأرض كانت تميد بسطحها بين بركان وزلزال ، والسماء من حولها دخان كما بين ذلك فقال :  أَوَلمْ يَرَي الذِينَ كَفرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا  ، ومعني الرتق الالتحام والالتصاق ، وقال أيضا :  ثُمَّ اسْتَوَي إلي السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ  ، يقول ابن كثير : ( كانتا رتقا أي كان الجميع متصلا بعضه ببعض متلاصق متراكم بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر ) .
وظل أمر السماوات والأرض على ذلك مدة من الزمان الله أعلم بمقدارها ، فلا يمكن لأي مقياس لدينا أن يتمكن من حسابها ، وإن كان بعض الباحثين العلميين يقدرون ذلك بمئات الملايين ، بناء على نظريات وافتراضات ، وتصورات وتخيلات ، لوجود ما يسمي بعصر الدينصورات ، وهذه كلها أمور تتطلب الدليل والتثبت حتى يقوم في القلب اليقين ، وقد أخبرنا الله أيضا عن بعض سكان السماوات والأرض من الملائكة الذين خلقوا من نور ، والجن الذين خلقوا من النار ، روي مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال :
( خُلقَتْ المَلائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلقَ الجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وَخُلقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لكُمْ ) ، وقال تعالى :  وَلقَدْ خَلقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ، وَالجَانَّ خَلقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ ، وَإِذْ قَال رَبُّكَ للمَلائِكَةِ إِنِّي خَالقٌ بَشَرًا مِنْ صَلصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ  وروي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما : ( إن الله تبارك وتعالي كان عرشه على الماء ، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا ، فارتفع فوق الماء فسما عليه ، فسماه سماء ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة .. ثم استوي إلي السماء وهي دخان ، وذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس ، فجعلها سماء واحدة ثم فتقها فجعلها سبع سماوات في يومين .. وأوحي في كل سماء أمرها ، ثم خلق الله في كل سماء خلقها من الملائكة ) .
ثم خلق الله الإنسان من تراب اختلط بالماء حتى صار طينا ، ثم تجفف الطين فصار صلصالا وبعد ذلك حمأ مسنونا ، ورد ذلك في قوله تعالى عن خلق الإنسان من تراب :  وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ  وقال عن خلقه من الماء :  وَهُوَ الذِي خَلقَ مِنْ المَاءِ بَشَرًا فَجَعَلهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا  أما خلقه من الطين فقد ورد في قوله تعالى :  الذِي أَحْسَنَ كُل شَيْءٍ خَلقَهُ وَبَدَأَ خَلقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ  وأما خلقه من صلصال وحمأ مسنون فقد ورد في قوله :  خلقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلصَالٍ كَالفَخَّارِ  وقوله :  وَإِذْ قَال رَبُّكَ للمَلائِكَةِ إِنِّي خَالقٌ بَشَرًا مِنْ صَلصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ  ثم سواه الله على هيئة معتدلة قويمة ، كما قال تعالى :  يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ ، الذِي خَلقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلكَ ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَك  .
ثم بعد ذلك عرض على السماوات والأرض والجبال والإنسان قبول الأمانة أو رفضها ، فقال الله تعالى :  إِنا عَرَضْنَا الأمانَةَ على السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالجِبَال فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا  .
قال ابن الجوزى في زاد المسير : ( والمراد بعرض الأمانة على السماوات والأرض أن الله تعالى ركب العقل في هذه الأعيان وأفهمهن خطابه وأنطقهن بالجواب حين عرضها عليهن ، ولم يرد بقوله أبين المخالفة ، ولكن أبين للخشية والمخافة ، لأن العرض كان تخييرا لا إلزاما وأشفقن بمعني خفن منها أن لا يؤدينها فيلحقن العقاب ، وهذا أكثر المفسرين )
فالله يخبرنا أنه ابتلي هذه المخلوقات وخيرها في حمل أمانة معينة سوف يكلف من يقبل حملها بالحفاظ عليها ومراعاتها على الطريقة التي يشرعها مالكها ؟ هذا العرض خيرت فيه السماوات والأرض والجبال والإنسان بنص القرآن ، والعقلاء يفهمون من خطاب الله عز وجل اللوازم الآتية :
أولا : أن المخلوقات التي خيرت في حمل الأمانة أو رفضها ، وهي السماوات والأرض والجبال والإنسان ، كانت على درجة واحدة في إمكانية القبول أو الرفض ، فلهن إرادة حرة ، مخيرة فيها وليست مجبرة فعلم العقلاء أنه لولا أن لهن اختيارا حرا ما عرض عليهن قبول الأمانة أو رفضها ، ولما عبر عن رأيهن بقوله عنهن :  فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلهَا الإِنْسَانُ  ، فالإباء والرفض والإشفاق عكسه القبول والرغبة والموافقة ، وهذا دليل على أن الله خيرهن دون جبر منه عليهن في قولهن أو فعلهن .
ثانيا : أن هذه المخلوقات التي عرضت عليها الأمانة لهن عقل ووعي ويتصفن بإدراك وفهم ، لأنه لا معني لتخييرهن في أمر لا يعرفن عنه شيئا ، فهذا نوع من العبث لا يقبله العاقل على نفسه فضلا عن ربه فهل يعقل أن تخير أميا جاهلا بالكتابة مطلقا في أن يكتب العربية أو الانجليزية ؟
ثالثا : دلت آية الأمانة على أن الإنسان له وجود غيبي سابق على الزمان اللاحق ، أعني الزمان الناشىء عن دوران الأرض حول نفسها مرة كل يوم وحول الشمس مرة كل عام ، وهذا يؤيده أيضا آيات أخرى كثيرة وردت في شأن آدم وحواء عليهما السلام وهما في السماء قبل نزولهما إلي الأرض وكذلك أحاديث متعددة تدل على خلق الله لجميع الذرية وإيجاد أفراد النوعية الإنسانية لفترة وقتية معينة ، عند أخذ الميثاق عليهم لتعريف الحقوق وإظهار الحكمة في تدبير أمر المخلوقات ، أعني الميثاق الذي ورد في قوله تعالى :
 وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلي شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّاكُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلينَ ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلكُنَا بِمَا فَعَل المُبْطِلُونَ ، وَكَذَلكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلعَلهُمْ يَرْجِعُونَ  (الأعراف/174:172) .
وأحسن ما قيل في معني الآية كما قال النحاس في معاني القرآن الكريم هو ما تواترت به الأخبار عن النبي صلي الله عليه وسلم ، أن الله جل وعز مسح ظهر آدم ، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها ، أخرج منه ذريته أمثال الذر ، فنثرهم بين يديه ثم كلمهم وقال : ألست بربكم ؟ قالوا : بلي شهدنا ، أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ، فأخذ عليهم الميثاق ليفهمهم ما أراد جل وعز ) وقَال أُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه فِي معني هذه الآيَةَ : ( جَمَعَهُمْ فَجَعَلهُمْ أَرْوَاحًا ثُمَّ صَوَّرَهُمْ فَاسْتَنْطَقَهُمْ فَتَكَلمُوا ، ثُمَّ أَخَذَ عَليْهِمُ العَهدَ وَالمِيثَاقَ ) .
فالأمانة عرضت على السماوات والأرض والجبال والإنسان عرضا تخييريا لا إلزام فيه ، وهذا فهم السلف الصالح روي أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عرض العمل على محمد بن كعب فأبي فقال له عمر : أتعصي ؟ فقال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن الله تعالى حين عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ، هل كان ذلك منها معصية ؟ قال : لا ، فتركه ) .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ( يعني بالأمانة الطاعة عرضها عليهم قبل أن يعرضها على آدم فلم يطقنها ، فقال لآدم : إني قد عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فلم يطقنها ، فهل أنت آخذ بما فيها ، قال يا رب : وما فيها ؟ قال : إن أحسن جزيت وإن أسأت عوقبت ، فأخذها آدم فتحملها فذلك قوله تعالى : وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ) وعنه أيضا قال : ( قيل لآدم أتأخذها بما فيها ، فإن أطعت غفرت وإن عصيت حذرتك ؟ قال : قبلت ) أخرجه الحاكم في المستدرك ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه 2/458 وروي أيضا عنه : ( الأمانة الفرائض ، عرضها الله على السماوات والأرض والجبال إن أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم ، فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية ولكن تعظيما لدين الله أن لا يقوموا بها ، ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها وهو قوله تعالى : وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ) .
وقال قتادة : ( الأمانة الدين والفرائض والحدود ) ، وقال الواحدي في تفسيره : ( إنا عرضنا الأمانة ، الفرائض التي افترض الله سبحانه على العباد وشرط عليهم أن من أداها جوزي بالإحسان ومن خان فيها عوقب ، على السماوات والأرض والجبال ، أفهمهن الله سبحانه خطابه وأنطقهن فأبين أن يحملنها مخافة وخشية لا معصية ومخالفة ، وهو قوله : وأشفقن منها ، أي خشين منها ، وحملها الإنسان ) ويذكر ابن جرير الطبري إن أولي الأقوال في ذلك بالصواب ، أن بالأمانة في هذا الموضع جميع معاني الأمانات في الدين وأمانات الناس ، وذلك أن الله لم يخص بقوله عرضنا الأمانة بعض معاني الأمانات ) وقال ابن كثير : ( وكل هذه الأقوال لا تنافي بينها بل هي متفقة وراجعة إلي أنها التكليف وقبول الأوامر والنواهي بشرطها وهو أنه إن قام بذلك أثيب وإن تركها عوقب فقبلها الإنسان على ضعفه وجهله وظلمه إلا من وفق الله وبالله المستعان ) .
وقال الحسن البصري : ( عرضها على السبع الطباق الطرائق التي زينت بالنجوم ، وحملة العرش العظيم فقيل لها هل تحملين الأمانة ، وما فيها قالت : وما فيها ؟ قال : قيل لها : إن أحسنت جزيت ، وإن أسأت عوقبت ، قالت : لا ، ثم عرضها على الأرضين السبع الشداد التي شدت بالأوتاد وذلك بالمهاد ، قال فقيل لها : هل تحملين الأمانة وما فيها ؟ قالت : وما فيها ؟ قال قيل لها : إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت ، قالت : لا ، ثم عرضها على الجبال الشم الشوامخ الصعاب الصلاب ، قال قيل لها : هل تحملين الأمانة وما فيها ؟ قالت : وما فيها ؟ قال لها : إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت قالت : لا ) .
وقال مقاتل بن حيان : ( إن الله تعالى بدأ بالسماوات فعرض عليهن الأمانة ، وهي الطاعة ، فقال لهن : أتحملن هذه الأمانة ولكن على الفضل والكرامة والثواب في الجنة ؟ فقلن : يا رب إنا لا نستطيع هذا الأمر وليس بنا قوة ولكنا لك مطيعين ، ثم عرض الأمانة على الأرضين ، فقال لهن : أتحملن هذه الأمانة وتقبلنها مني وأعطيكن الفضل والكرامة في الدنيا ؟ فقلن : لا صبر لنا على هذا يا رب ولا نطيق ولكنا لك سامعين مطيعين لا نعصيك في شيء أمرتنا به ، ثم قرب آدم فقال له : أتحمل هذه الأمانة وترعاها حق رعايتها فقال عند ذلك آدم : مإلي عندك ؟ قال : يا آدم إن أحسنت وأطعت ورعيت الأمانة ، فلك عندي الكرامة والفضل وحسن الثواب في الجنة ، وإن عصيت ولم ترعها حق رعايتها وأسأت ، فإني معذبك ومعاقبك وأنزلك النار ، قال : رضيت يا رب ، وتحملها فقال الله عز وجل عند ذلك قد حملتكها )
ويقول الثعالبي في جواهر الحسان : ( وقوله سبحانه إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض .. الآية ، ذهب الجمهور إلي أن الأمانة كل شىء يؤتمن الإنسان عليه من أمر ونهي ، وشأن دين ودنيا ، فالشرع كله أمانة ، ومعني الآية إنا عرضنا على هذه المخلوقات العظام أن تحمل الأوامر والنواهي ، ولها الثواب إن أحسنت والعقاب إن أساءت ، فأبت هذه المخلوقات وأشفقت ، فيحتمل أن يكون هذا بإدراك يخلقه الله لها ، ويحتمل أن يكون هذا العرض على من فيها من الملائكة ) ، ومن ثم علمنا من خلال آية الأمانة أن هذه المخلوقات يعقلن ويدركن ويفهمن ويسمعن كلام الله لهن ، وهن أحرار أخيار في قولهن وفعلهن ، وإلا كان تخييرهن لهوا ولعبا ، وقد نفي الله العبث عن نفسه نفيا قاطعا ، فقال سبحانه وتعالي :  وَما خَلقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ ، مَا خَلقْنَاهمَا إِلا بِالحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلمُونَ  .
والسؤال الذي يتردد على الأذهان والذي يطرح نفسه على الآن لماذا عرض الله الأمانة على المخلوقات ؟ فقد علمنا أن الوصف الذي يتميز به الإنسان عمن حوله من الكائنات أنه المخلوق الوحيد الذي استخلفه الله في الأرض ؟ وتساءلنا لماذا استخلفه الله في الأرض ؟ فعلمنا أنه المخلوق الوحيد الذي قبل الأمانة في حين رفضتها السماوات والأرض والجبال ، والسؤال الآن : لماذا عرض الله الأمانة على الإنسان أو السماوات والأرض والجبال ، وخيرهن جميعا في قبولها أو رفضها ؟ ! والجواب بينه القرآن بيانا واضحا ، فالأمانة عرضت على المخلوقات ليتحقق عدل الله في الكون ، فمن عدله أنه لا يجبر مخلوقا على فعل شيء وهو له كاره ، فقال الله تعالى :  إِنَّ الله لا يَظْلمُ مِثْقَال ذَرَّةٍ  وقال :  وَلا يَظْلمُ رَبُّكَ أَحَدًا  فنفي الظلم مطلقا يدل على كمال العدل ، ولكمال عدله سبحانه وتعالي قامت السماء والأرض بأمره على الحق والميزان ، كما نص على ذلك القرآن فقال تعالى في سورة الرحمن :  وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ المِيزَانَ  وقال أيضا في سورة الدخان :  وَما خَلقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ ، مَا خَلقْنَاهُمَا إِلا بِالحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلمُونَ  .
ويذكر أبو السعود في تفسيره : ( معني وضع الميزان أي شرع العدل وأمر به بأن وفر كل مستحق ما استحقه ووفي كل ذي حق حقه حتى انتظم به أمر العالم واستقام كما قال عليه الصلاة والسلام بالعدل قامت السماوات والأرض ) ، ولأن الله أقام الكون على العدل ونفي الظلم وإحقاق الحق ، قال المؤمنون لما نظروا إلي تركيب الخلق :  رَبَّنَا مَا خَلقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ  ، ولذا كانت الدعوة قبلها ، إلي النظر في المخلوقات وشأنها ، كيف خلقها الله ودبر أمرها ؟ وكيف تتجلي الحكمة من خلالها ؟ فكلها شواهد لكمال العدل ، وكلها آيات وأسباب يعتبر بها أولو الألباب :  إِنَّ فِي خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ الليْل وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولي الألبَابِ الذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ  وقال تعالى :  سَنُرِيهمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُل شَيْءٍ شَهِيدٌ  ، ومن لوازم العدل أنه كان من الممكن لجميع من ورد ذكره في آية الأحزاب رفض الأمانة أو قبولها ؟ وكان من الممكن أيضا رفض الإنسان لحملها ، أو استجابة السماوات لقبولها ؟ وكذلك سيكون المقال في حال الأرض والجبال .
وربما يسأل سائل : ماذا لو فرضنا أن الكل رفض الأمانة ؟ أو اختارتها السماوات أو الأرض أو الجبال ؟
والجواب : أن العالم في تركيبه لن يكون على هذا الحال ، بل ستتغير معالمه على وضع جديد يعلمه الله حتى يصل العدل في ملكه منتهاه وتظهر حكمته في سائر المخلوقات كما قال سبحانه وتعالي :  أَلمْ تَرَي أَنَّ اللهَ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلقٍ جَدِيدٍ ، وَمَا ذَلكَ على اللهِ بِعَزِيزٍ  .
وإذا كان الحق تبارك وتعالي يفعل ما يشاء في ملكه والخلق قائم على قضائه وقدره ، وكل شيء مفتقر إلي حكمه وأمره ، إن شاء استخلف الإنسان بغير إرادته ، وإن شاء أجبر السماء على حمل أمانته ، وإن شاء أكره الأرض والجبال بقدرته ، إلا أن عدله من لوازم حكمته ، وتخيير المخلوقات في حمل الأمانة من كمال حجته ، وإن بدت الأمور للعيان أن النتيجة قسمان ، قسم رفض الأمانة وقسم يتمثل في موافقة الإنسان وصدق الله لما قال في القرآن :  وَلقَدْ جَاءهُمْ مِن الأنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ  .
لكن ما الذي ترتب على قبول الإنسان لحمل الأمانة ورفض المخلوقات لها ؟ ماذا حدث لمن رفض الأمانة من المخلوقات ؟
بعد تخيير الله للسماوات والأرض والجبال في قبول الأمانة أو رفضها ، وبعد ممارسة حقهن في الاختيار ورفضهن لها ، كان من كمال عدل الله أنه خيرهن مرة أخرى ولكن التخيير هذه المرة كان لإظهار الرضا في الطاعة التامة لله تعالى والاستجابة لأمره إذا كلفهن بعمل ما أو سخرهن لوظيفة ما ، حتى وإن كانت لصالح الإنسان الذي قبل الأمانة ، فاخترن جميعا الطاعة والخضوع لله عز وجل يكلفهن بما شاء وسوف يلتزمن بأحكام القضاء تمام الالتزام ، وبهذا التخيير الثاني قامت جميع المخلوقات في الأرض والسماوات على محبة الله والرضا بأمره في العمل لخدمة الإنسان .
وقد علمنا مما سبق أن السماوات والأرض كانت متلاصقات متراكمات السماوات دخان ملتصق بالأرض والأرض عليها الجبال لكنها ليست مثبتة كهيأتها اليوم ، فقال الله عز وجل :  أَوَلمْ يَرَي الذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا  وقال أيضا عن التخيير الثاني الذي اقتصر على السماء والأرض وكل من رفض الأمانة من الخلق :  ثُمَّ اسْتَوَي إلي السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَال لهَا وَللأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ  .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( فالذي جاء به القرآن والتوراة واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها مع أئمة أهل الكتاب ، أن هذا العالم خلقه الله وأحدثه من مادة كانت مخلوقة قبله كما أخبر في القرآن أنه استوي إلي السماء وهي دخان أي بخار فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها ، وقد كان قبل ذلك مخلوق غيره كالعرش والماء ، كما قال تعالى :  وَهُوَ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ على المَاءِ  (هود/7) وخلق ذلك في مدة غير مقدار حركة الشمس والقمر ، كما أخبر أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، والشمس والقمر هما من السماوات والأرض وحركتهما بعد خلقهما والزمان المقدر بحركتهما وهو الليل والنهار التابعان لحركتهما إنما حدث بعد خلقهما ، وقد أخبر الله أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، فتلك الأيام مدة وزمان مقدر بحركة أخرى غير حركة الشمس والقمر )
والمعني في قوله :  ثُمَّ اسْتَوَي إلي السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَال لهَا وَللأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ  مع ما سبق من المعاني ، أي استجيبا لأمر الله وتهيأن على الوضع الذي يسمح للإنسان أن يكون مستفيدا منكن مستخلفا في الأرض بينكن بحيث يتحقق فيكن الوضع الأمثل لكي يكون أمينا في ملك الله مخولا فيما منحه وأعطاه على وجه الاختبار والابتلاء ، ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين .
ومعني قوله تعالى : قالتا أتينا طائعين ، أي استجابت السماوات والأرض وقالتا أتينا مذللين مسخرين ، تنفيذا لمراد رب العالمين ، قال عبد الله بن عباس  في قوله تعالى :  اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ  قال الله تبارك وتعالي للسماوات : اطلعي شمسي وقمري ونجومي ، وقال للأرض : شققي أنهارك وأخرجي ثمارك ، قالتا : أتينا طائعين ) ، قال ابن جرير الطبري : ( قال الله للسماء والأرض جيئا بما خلقت فيكما أما أنت يا سماء فأطلعي ما خلقت فيك من الشمس والقمر والنجوم وأما أنت يا أرض فأخرجي ما خلقت فيك من الأشجار والثمار والنبات وتشققي عن الأنهار قالتا أتينا طائعين جئنا بما أحدثت فينا من خلقك مستجيبين لأمرك لا نعصي أمرك ) .
ويقول القرطبي : ( قالتا أتينا طائعين فيه أيضا وجهان : أحدهما : أنه ظهور الطاعة منهما حيث انقادا وأجابا فقام مقام قولهما وقال أكثر أهل العلم : بل خلق الله فيهما الكلام فتكلمتا كما أراد تعالى ) ، وقال الحسن البصري في قوله تعالى قالتا أتينا طائعين : ( لو أبيا عليه أمره لعذبهما عذابا يجدان ألمه ) ، وبعد استجابة السماء والأرض للمبدأ التسخير والطاعة والانصياع ، والعمل الدائم بلا انقطاع فصل الله السماء عن الأرض وجعل السماء سبعا طباقا ، وزين السماء الدنيا بالنجوم والكواكب وثبت الأرض بالجبال حتى تسكن ولا تضطرب ، كل ذلك ليتمكن الإنسان من الحياة فيها على طول الأيام ، فقال الله عز وجل يصف الوضع النهائي الأمثل الذي سيظل عليه العالم إلي يوم القيامة :
 قل أَئِنَّكُمْ لتكْفُرُونَ بِالذِي خَلقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لهُ أَندَادًا ذَلكَ رَبُّ العَالمِينَ ، وَجَعَل فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً للسَّائِلينَ ، ثُمَّ اسْتَوَي إلي السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَال لهَا وَللأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ، فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَي فِي كُل سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَليمِ  .
كل ذلك تم عن طواعية من هذه المخلوقات حتى يجعل من رفض الأمانة مسخرا طائعا لمن قبلها ، فكيَّفها ربها وفق سنن معلومات ، وأجراها على علل ومعلولات تسير بأسباب محكمات ، وتسمح بقبول فعل الإنسان وتأثيره فيها ، وتعطيه معني التملك والسلطنة والقوة والهيمنة ما دام يأخذ بهذه الأسباب .
ومن ثم لا علة لوجود هذه المخلوقات في الأرض أو في السماوات إلا هذا بجوار أنها مسبحة موحدة عابدة ساجدة على كيفية يعلمها الله ، تظل على هذا الحال إلي يوم القيامة ، ثم يبدلها بعد ذلك إلي وضع جديد ، لانتهاء دورها وما قامت من أجله ، يبدلها إلي وضع يتناسب مع محاسبة الإنسان على الأمانة ، فقال الله تعالى مبينا هذه الحقيقة :  يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ  ، نقف عند هذا الحد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

د. محمود عبد الرازق الرضواني
04-16-2005, 06:40 PM
انتبهوا للحقائق التالية في نشأة الكون فقد زرت د/ زغلول النجار وعرضت عليه الموضوع منذ سنتين ووعدني بالرد وإلى الآن لكم يصلني منه شيء
بداية الكون والإنسان – المحاضرة الخامسة
الأمانة ونشأة الكون
الحمد لله الذي خلق ما في الأرض جميعا للإنسان ، وركبه في أبهي صورة على أكمل وضع بأجمل إتقان ، وجعل له في صدره قلبا صغيرا وجعل في فمه اللسان ، فالقلب ملك الجوارح واللسان له سفير وترجمان ، فإذا انصلح قلبه انصلحت في بدنه سائر الأركان ، وكان ذلك فوزا بنعيم الدنيا وخيرات الجنان ، وإذا فسد القلب فسد الجسد واستحق الشقاوة في النيران ، حكمة بالغة تحتار فيها عقول ذوي الأذهان .
أحمده حمد معترف بالعجز والتقصير ، حمد من أقر بأن الله إليه المصير ، وأشكره شكر من أقر بنعمه وآلائه ، وعجز عن إحصاء فضله وعطائه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إله أمات وأحيا ، وخلق الزوجين الذكر والأنثي ، وألهم النفس نازع الفجور والتقوى ، قد أفلح من زكاها ، وقد خاب من دساها ، جعل بني الإنسان بين وعد ووعيد ، وقسمهم كما أخبر إلي شقي وسعيد ، وهو أقرب إليهم من حبل الوريد ، إذ يتلقي المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله خير نبي أرسله ، ففتح به آذانا صما وأعينا عمياء وقلوبا مقفلة ، أرسله على حين فترة من الرسل ودروس من السبل ، فكانت بعثته أنفع للخليقة من الماء الزلال ، تتضاءل بجوار حبه الأنفس والأهل والصحب والمال ، إذ تمت به للناس مصالح الدارين ، فطوبي لمن أمسي باتباعه قرير العين ، وويل لمن نبذ ما جاء به في بيان النجدين ، افللهم صل وسلم عليه ، أفضل صلاة وأكمل سلام ، وآته الوسيلة والفضيلة ، وابعثه المقام المحمود في أشرف مقام ، وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه إلي يوم الدين ، أما بعد .
فهذه هي المحاضرة الخامسة في السلسلة التي تتعلق بنشأة الإنسان وبداية الكون ، وقد ذكرنا في المحاضرة الماضية أن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام على مرحلتين ، وذلك لتتحقق حكمته في المخلوقات من خلال هذين الوضعين ، الوضع الأول هو وضع الرتق والدخان ، حيث كانت الأرض والسماوات على غير هيئتها الآن ، ثم لما خلق الله الإنسان ابتلاه بجميع الكائنات ، لتتحقق حكمته في تمييزه على بقية المخلوقات ، ويكتمل الوضع الثاني لخلق السماوات ، وكذلك الأرض والجبال كما نراها على هذا الحال ، فلما خلق الله الإنسان بعد الوضع الأول ابتلاه بجميع المخلوقات وقتها ، فكانت منه على نوعين ، النوع الأول من ابتلاه الله مع الإنسان في عرض الأمانة وحملها ، وتخييرهم في رفضها أو قبولها وهم السماوات والأرض والجبال .
والنوع الثاني من المخلوقات هي التي سبقت وجود الإنسان وهم الملائكة والجان حيث لم تعرض عليه الأمانة ولكن الله ابتلاهم مع الإنسان في أمور أخرى سيأتي تفصيلها في المحاضرات القادمة ، وقد علمنا أنه بعد تخيير الله للسماوات والأرض والجبال في قبول الأمانة أو رفضها ، وبعد ممارسة حقهن في الاختيار ورفضهن لها ، كان من كمال عدل الله أنه خيرهن مرة أخرى ، وذلك لإظهار الرضا في الطاعة لله تعالى والاستجابة لأمره ، إذا كلفهن بعمل ما أو سخرهن لوظيفة ما ، حتى وإن كانت لصالح الإنسان الذي قبل الأمانة ، فاخترن جميعا الطاعة والخضوع لله عز وجل يكلفهن بما شاء وسوف يلتزمن بأحكام القضاء تمام الالتزام ، فقال تعالى :  ثُمَّ اسْتَوَي إلي السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَال لهَا وَللأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ  ، أي استجيبا لأمر الله وتهيأن على الوضع الذي يسمح للإنسان أن يكون مستفيدا منكن مستخلفا في الأرض بينكن بحيث يتحقق فيكن الوضع الأمثل لكي يكون أمينا في ملك الله مخولا فيما منحه وأعطاه ، على وجه الاختبار والابتلاء ، ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ، كل ذلك تم عن طواعية من هذه المخلوقات ، حيث أبدت الرضا في بقاء الإنسان بين الكائنات ، محققا لحكمة الله في ظهور مقتضي الأسماء والصفات ، وحتى يجعل الله من رفض الأمانة مسخرا طائعا لمن قبلها ، ثم يستخلفه عليها ، فكيَّفها ربها وفق سنن معلومات ، وأجراها على علل ومعلولات ، تسير بأسباب محكمات ، وتسمح بقبول فعل الإنسان وتأثيره فيها ، وتعطيه معني التملك والسلطنة والقوة والهيمنة ما دام يأخذ بهذه الأسباب ، فرفع الله الإنسان لقبوله الأمانة وكرمه ، ومكنه في الأرض واستخلفه وفضله ، وقد علمنا أن الاستخلاف هو الوصف الذي يتميز به الإنسان عمن حوله من الكائنات وعلمنا أن ذلك لكونه المخلوق الوحيد الذي قبل الأمانة في حين رفضتها السماوات والأرض والجبال .
وعلى ذلك فإن الوحيد الذي يستفيد من كل ما على الأرض هو الإنسان ، وكل ما في الأرض مخلوق لأجله بنص القرآن ، ومن أجل استخلافه الذي كرمه الله به وميزه عن غيره ، قال تعالى في سورة البقرة واصفا في آيتين متتاليتين كيف ابتلي المخلوقات بالإنسان :  هُوَ الذِي خَلقَ لكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَي إلي السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُل شَيْءٍ عَليمٌ  ، فلما بين الله في هذه الآية أن كل من في الأرض مخلوق من أجل الإنسان بين في الآية التي التالية السبب المباشر لذلك فقال :  وَإِذْ قَال رَبُّكَ للمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَليفَةً  .
فأعطاه الله في معيشته على الأرض مقومات الخلافة من العلم الحرية والاستطاعة وخوله في ملكه وكلفه بأمره في فيما أعطاه ، هل سيكون أمينا في دينه ودنياه ؟ مُسْلما مُسَلما لشرع الله ؟ حاكما بما أنزل فيما استرعاه ؟ كما قال جل في علاه :  إِنْ الحُكْمُ إِلا للهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلمُونَ  وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : ( إِنَّ الدُّنْيَا حُلوَةٌ خَضِرَةٌ ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ؟ ) وقال تعالى :  وَلقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرْضِ وَجَعَلنَا لكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَليلا مَا تَشْكُرُون َ  .
وانظر إلي ما ورد في القرآن من تنبيه دائم لهذه المعاني ، حيث يذكِّر الله كل إنسان بهذه النعم التي لا تحصي ولا تعد ، والتي توجب الشكر بغير حد ، فقال تعالى :  اللهُ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزَل مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لكُمْ وَسَخَّرَ لكُمْ الفُلكَ لتَجْرِيَ فِي البَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لكُمْ الأنهَارَ ، وَسَخَّرَ لكُمْ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لكُمْ الليْل وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُل مَا سَأَلتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لظَلُومٌ كَفَّارٌ  .
وقال سبحانه وتعالي :  أَلمْ نَجْعَل الأرْضَ مِهَادًا ، وَالجِبَال أَوْتَادًا ، وَخَلقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ، وَجَعَلنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ، وَجَعَلنَا الليْل لبَاسًا ، وَجَعَلنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ، وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ، وَجَعَلنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ، وَأَنزَلنَا مِنْ المُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا لنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا ، وَجَنَّاتٍ أَلفَافًا ، إِنَّ يَوْمَ الفَصْل كَانَ مِيقَاتًا  وتلاحظ في الآيات أن الله بعد أن عدد نعمه وفضله على الإنسان ، فهيأ له الأرض ومهدها وأرسي الجبال وثبتها وهداه إلي معاشه بأنواع الأسباب ، ذكر بعدها يوم الفصل والحساب لأن هذه المخلوقات سخرها وطوعها كأمانة استخلفه فيها على سبيل الاختبار في هذه الدار وسوف يسأل عنها بالضرورة .
وقال سبحانه في تسخير الأرض ومن عليها وتهيئة السماء بنجومها وكواكبها من أجل الإنسان :  وَالأنْعَامَ خَلقَهَا لكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ، وَلكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالكُمْ إلي بَلدٍ لمْ تَكُونُوا بَالغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لرَءُوفٌ رَحِيمٌ ، وَالخَيْل وَالبِغَال وَالحَمِيرَ لتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلمُونَ وَعلى اللهِ قَصْدُ السَّبِيل وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلوْ شَاءَ لهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ  .
فهذه الأنعام لما كانت مسخرة للإنسان تكريما له إذ قبل الأمانة واستخلفه الله في الأرض ، شرع لنا ربنا أن نتذكر خالقها ومالكها ، ونذكره بالعلو والتنزيه عند ركوبها والاستواء على ظهرها فقال تعالى :
 وَجَعَل لكُمْ مِنْ الفُلكِ وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ، لتَسْتَوُوا على ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَليْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الذِي سَخَّرَ لنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إلي رَبِّنَا لمُنقَلبُونَ  .
وقال تعالى يذكر الإنسان بعلة وجود المخلوقات على هذا الحال والنظر في نعمه التي توجب التفكر والتعقل ، والشكر والتذكر ، والرجوع إلي الله بدوام الافتقار :  هُوَ الذِي أَنزَل مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ، يُنْبِتُ لكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيل وَالأعْنَابَ وَمِنْ كُل الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلكَ لآيَةً لقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَسَخَّرَ لكُمْ الليْل وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلكَ لآيَاتٍ لقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ، وَمَا ذَرَأَ لكُمْ فِي الأرْضِ مُخْتَلفًا أَلوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلكَ لآيَةً لقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ، وَهُوَ الذِي سَخَّرَ البَحْرَ لتَأْكُلُوا مِنْهُ لحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِليَةً تَلبَسُونَهَا وَتَرَي الفُلكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلهِ وَلعَلكُمْ تَشْكُرُونَ ، وَأَلقَي فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلا لعَلكُمْ تَهْتَدُونَ ، وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ، أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لغَفُورٌ رَحِيمٌ  .
وسوف تجد في القرآن من هذا القبيل الكثير والكثير ، وفهم تلك الحقاق من آيات القرآن يسير ، فكل هذه المخلوقات مسخرات بأمر الله ، قائمات على خدمة الإنسان ، باقيات على هذا الحال مدام الإنسان باق للاختبار في هذه الدار ، إضافة إلي أنها عابدات طائعات لربها استجابت لحكمته في تدبير أمرها ، فبقاؤها على هذا الحال يرتبط ببقاء الإنسان إلي يوم القيامة مستخلفا في الأرض .
فإذا انتهت دار الابتلاء والاختبار ، هيأ الله دار الجزاء والقرار ، فتكورت الشمس وتبعثرت النجوم وسيرت الجبال وعطلت العشار وسجرت البحار والأنهار وزلزلت الأرض زلزالها ، فقال تعالى :  إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ، وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ ، وَإِذَا الجِبَالُ سُيِّرَتْ ، وَإِذَا العِشَارُ عُطِّلتْ ، وَإِذَا الوُحُوشُ حُشِرَتْ ، وَإِذَا البِحَارُ سُجِّرَتْ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ، وَإِذَا المَوْءُودَةُ سُئِلتْ ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلتْ ، وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ، وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ ، وَإِذَا الجَحِيمُ سُعِّرَتْ ، وَإِذَا الجَنَّةُ أُزْلفَتْ عَلمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ  .
وقال تعالى أيضا :  إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ ، وَإِذَا الكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ ، وَإِذَا البِحَارُ فُجِّرَتْ ، وَإِذَا القُبُورُ بُعْثِرَتْ ، عَلمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ  وقال في موضع آخر من القرآن :  إِذَا زُلزِلتْ الأرْضُ زِلزَالهَا ، وَأَخْرَجَتْ الأرْضُ أَثْقَالهَا ، وَقَال الإِنسَانُ مَا لهَا ، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَي لهَا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا ليُرَوْا أَعْمَالهُمْ ، فَمَنْ يَعْمَل مِثْقَال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه ، وَمَنْ يَعْمَل مِثْقَال ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه  .
فالسماوات التي رفعها الله وفصلها عن الأرض من أجل الإنسان سوف تتغير بعد انتهاء دورها وأداء وظيفتها في انقلاب كوني شامل للحياه ، قال تعالى :  وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالغَمَامِ وَنُزِّل المَلائِكَةُ تَنزِيلا المُلكُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ للرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا على الكَافِرِينَ عَسِيرًا  .
كما أن الله أخفي على الناس وقت قيام الساعة لتظهر حكمته في ابتلاء الإنسان ويري سعيه في العبادة والإيمان فقال تعالى :  إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيهَا لتُجْزَي كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَي فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هوَاهُ فَتَرْدَي  لكنه سبحانه وتعالي جعل للساعة علامات بينات تدل على ظهورها واقتراب موعدها ، فمنها ما روي عن حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الغِفَارِيِّ  قَال : اطَّلعَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم عَليْنَا وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ فَقَال : مَا تَذَاكَرُونَ ؟ قَالُوا : نَذْكُرُ السَّاعَةَ ، قَال : إِنَّهَا لنْ تَقُومَ حتى تَرَوْنَ قَبْلهَا عَشْرَ آيَاتٍ فَذَكَرَ الدُّخَانَ وَالدَّجَّال وَالدَّابَّةَ وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَنُزُول عِيسَي ابْنِ مَرْيَمَ صلي الله عليه وسلم وَيَأَجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَثَلاثَةَ خُسُوفٍ خَسْفٌ بِالمشرِقِ وَخَسْفٌ بِالمَغْرِبِ وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ العَرَبِ وَآخِرُ ذَلكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنْ اليَمَنِ تَطْرُدُ النَّاسَ إلي مَحْشَرِهِمْ ) .
فأنت أخي العاقل تري الكون كما هيأه الله في كمال الانضباط ، كل يسير خاضعا لأمر الله لا الشمس تتأخر لحظة ، ولا القمر يتخلف عن موعده ليلة ، ولا النجوم تترك مواقعها ، كما قال تعالى :  لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لهَا أَنْ تُدْرِكَ القَمَرَ وَلا الليْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلكٍ يَسْبَحُونَ 
وعلى ذلك يمكن لكل عاقل أن يدرك : لماذا خلق العالم على هذا الوضع الذي نراه ؟ وهل سيبقي على ذلك أبد الآبدين ، أم ليوم معلوم وأجل محتوم قدره الله لانتهاء الحياة ؟ وهل هذا العالم الذي نعيش فيه على الأرض يحقق فعلا تميزا مخصوصا للإنسان ينفرد به عن غيره ؟ وكثير من الأسئلة التي تتردد على الأذهان حول هذا الموضوع ، يمكن لأي إنسان بسهولة ويسر بعد العلم بهذه الحقائق أن يجيب عليها وهو على يقين من أمره .
ماذا حدث للإنسان الذي حمل الأمانة ؟ بعد أن ذكر القرآن ما حدث لمن رفض الأمانة من المخلوقات وأن الله خيرهن مرة أخرى فقال لهن :  ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ  سخرهن بعدله وقدرته وهيئهن بأمره وحكمته ، استعدادا لاستخلاف الإنسان الذي قبل الأمانة ، فقال سبحانه وتعالي في وصف ذلك :  هُوَ الذِي خَلقَ لكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَي إلي السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُل شَيْءٍ عَليمٌ  .
وقوله : وهو بكل شيء عليم يعني أنه الوحيد الذي يعلم سر تهيئة السماء والأرض ومن عليها على الوضع الجديد الذي نراه الآن ، لا يعلم ذلك غيره ، ولذا ذكر الله بعدها مباشرة استخلافه للإنسان ، فرفع منزلته وفضَّله وكرمه في ملكه وخوله وأنابه في أرضه للابتلاء والامتحان ، فأصبحت الأرض أمانة وما فوقها يساهم في بقائها أيضا أمانة للإنسان ، لأنه الوحيد الذي وافق على حملها ، ولن يتحقق هذا الوضع إلا باستخلافه في الأرض كما بين القرآن ، فقال سبحانه وتعالي يخاطب ملائكته :  إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَليفَةً  فأظهر لهم بذلك سر وجود الإنسان ، ووصفه الذي سيبقي به على طول الزمان ، وكيف سيهيأ له الأرض والجبال لتحقيق هذه الغاية ، وكيف ستبقي السماء بنجومها وكواكبها ثابتة لاستخلاف الإنسان في الحياة الدنيا .
وهنا قضية هامة نشير إليها وقد أثبت العلم صدقها ، فالأرض مع كونها كوكبا صغيرا في مجموعة نجمية هي المجموعة الشمسية ، وهي مجموعة صغيرة في مجرة متوسطة بين مائة ألف مليون من مختلف المجرات ، إلا أنهم اكتشفوا أن هذا الكون إنما جعل لثبات الأرض واستقرارها الزمني من خلال الدقة المتناهية في مدار الأرض حول الشمس ومدار الشمس حول مركز المجرة ، بل يمكن القول إن هذا الكون هو أساس الاستقرار لجميع الكائنات التي على الأرض ، والتي هيئت بالطبع من أجل استخلاف الإنسان ، كيف ذلك ؟ يذكر العالم الفزيائي النووي أُميد شمشك في كتابه الانفجار الكبير أو مولد الكون يذكر أن الكون الذي يحتوي على 100 مليار من المجرات وكل منها يحتوي على 100 مليار نجم ، وهو كون هائل جدا ، ويبدو أكثر من اللازم إذا خطر ببال البعض أن الغرض هو بقاء الأرض للإنسان ، يقول : من ثم سيخطر على البال سؤال :
( ألم تكن المجموعة الشمسية كافية للإنسان ؟ أو لنقل مجرة واحدة على الأكثر كمجرتنا درب التبانة ؟ ) يقول : والجواب هنا : كلا وألف كلا ، ذلك لأن الفضاء والزمان مفهومان يشكلان توازنا متكاملا في الكون ، لا يمكن فصل إحداهما عن الآخر ، فتقليص إحداهما يؤدي إلي تقليص الآخر وبنفس النسبة ، فلو كان الكون عبارة عن مجرة درب التبانة فقط لتقلص بقاء الكون إلي شهرين فقط ، وفي هذه الفترة القصيرة من الزمن لا يمكن وجود الإنسان وبقية الكائنات على الأرض وبهذا الحال ، فالكون ومن ضمنه مجموعتنا الشمسية وجدت بعناية خاصة لتهيئة كرتنا الأرضية ، وجعلها صالحة لظهور مختلف أنواع الأحياء وأخيرا لكي تكون صالحة لسكن الضيف العزيز المدعو بالإنسان .
وقد ذكرنا ذلك لأن العلوم الكونية التي تتكشف بالتلسكوبات الفضائية لأصحاب العلوم المادية ، سوف تؤكد الحقائق القرآنيه التي أظهرت حكمة الله في خلق الإنسان ، كما قال تعالى : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُل شَيْءٍ شَهِيدٌ أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُل شَيْءٍ مُحِيطٌ ) فصلت . فالله عز وجل جعل الآيات الكونية المرئية في الآفاق وفي النفس البشرية ، جعلها دليلا على صدق الآيات القرآنية والنبوية .
نعود إلي موضوعنا لما قال الله سبحانه وتعالي في شأن المخلوقات التي رفضت الأمانة والتي سخرها بأمره وقدرته ، وعدله وحكمته لمن قبلها :  هُوَ الذِي خَلقَ لكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَي إلي السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُل شَيْءٍ عَليمٌ  قال بعدها مباشرة يخاطب ملائكته في شأن الإنسان مبتليا موقفهم وموقف الجان :  إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَليفَةً  ، فأظهر لهم بذلك سر وجود الإنسان وتهيئة الكون بهذا الإتقان ، ولذلك كان التعجب والاستفسار من الملائكة ، وكان الحقد والاستنكار من الجان ، فقال تعالى في وصف حالهم وذِكْر قولهم ، وكمال علمه وقلة علمهم ، لما قالوا في مخاطبة ربهم :  أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لكَ قَال إِنِّي أَعْلمُ مَا لا تَعْلمُونَ  .
وقال أيضا في شأنهم وانفراد إبليس من بينهم ، بعد إعلامهم باستخلاف بني الإنسان وتمكينهم :  وَلقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرْضِ وَجَعَلنَا لكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَليلا مَا تَشْكُرُونَ ، وَلقَدْ خَلقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلنَا للمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْليسَ لمْ يَكُنْ مِنْ السَّاجِدِين ، َقَال فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأقعدن لهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ ، ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ، قَال اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأمْلانَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ قَال مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَال أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلقْتَهُ مِنْ طِينٍ ، قَال فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ ، قَال أَنظِرْنِى إلي يَوْمِ يُبْعَثُونَ ، قَال إِنَّكَ مِنْ المُنظَرِين قَال فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنَّ لهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ ، ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ، قَال اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأمْلانَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ َ .
والسؤال الذي يحتاج الآن إلي تحقيق الإجابة والبيان ، ما معني أن يكون الإنسان خليفة لله في الأرض ؟ وهل الإنسان خليفة يخلف الله في أرضه أم يخلف من سبق بعد موته ؟ وهل غاب الله حتى يستخلف غيره ؟!
والجواب أن الخلافة في اللغة : تعني النيابة عن الغير ، ولا بد فيها من استخلاف المستخلف بكسر اللام للمستخلف بفتحها وإذنه له بها ، ولا تصح في اللغة بغير هذا ، قال ابن حزم : ( ومعني الخليفة في اللغة هو الذي يستخلفُه ، لا الذي يخْلُفُه دون أن يستخلفَه هو ، لا يجوز غير هذا البتة في اللغة بلا خلاف ، تقول استخْلفَ فلانٌ فلانا يستخلفُه فهو خليفَتُه ومستخلفُه ، فإن قام مكانه دون أن يستخْلفُه هو ، لم يُقَل إلا خلف فلان فلانا يخلفه فهو خالف ) .
وإذا كانت الخلافة بمعني التخويل والإنابة ، فهل الإنسان خليفة ينوب عن الله في أرضه أم يخلف من سبق بعد موته ؟ لأن المفسرين من السلف والخلف دارت أقوالهم حول هذين الرأيين ، فمنهم من يري أن الإنسان خليفة ينوب عن الله في تنفيذ الأحكام والعمل بشريعة الإسلام ، وهذا قول عبد الله بن مسعود  وبعض المفسرين ، ومنهم من يري أن الخلافة التي ذكرها الله إنما هي خلافة قرن لقرن يخلف بعضهم بعضا ، كما في قوله تعالى :  ثُمَّ جَعَلنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ  ، وهذا قول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وطائفة أخرى من المفسرين .
والجواب عن ذلك أن استخلاف الإنسان في الأرض فعل من أفعال الله تعالى وأفعاله سبحانه فيها الكمال والجمال ، وتشهد لحكمته بالعظمة والجلال ، فالله لا يتصف إلا بالكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه ، كالحياة والعلم والقدرة ، والسمع والبصر والرحمة ، والعزة والحكمة والعظمة ، وغير ذلك من أوصاف الكمال في كل حال ، أما ضد ذلك من أوصاف النقص ، كالموت والعجز والظلم ، والغفلة والسنة والنوم ، فقد تنزه ربنا وتعالي عن ذلك فسبحه الموحدون ، وقال المؤمنون في وصفه كما قال المرسلون :  سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ، وَسَلامٌ على المُرْسَلينَ وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ  أما إذا كان الوصف عند تجرده عن الإضافة في موضع احتمال ، فكان كمالا في حال ونقصا في حال ، فالمسلم العاقل يقف مدققا ، لا يثبته لله إثباتا مطلقا ، ولا ينفيه عنه نفيا مطلقا ، بل لا بد في ذلك من البيان والتفصيل ، والتقيد بما ورد ذكره في التنزيل .
فقد ورد من الألفاظ في القرآن ما ينسب مرة إلي الإنسان ، وينسب إلي الله لا على وجه النقصان ، كالمكر والخداع والنسيان ، والاستهزاء والكيد والخذلان ، وغير ذلك من الأوصاف ، وما يقال فيها سوف يقال في الاستخلاف ، فالمكر مثلا هو التدبير في الخفاء بقصد الإساءة أو الابتلاء أو المعاقبة والجزاء ، وقد يكون عيبا مذموما إذا كان بالسوء في الابتداء ، وقد يكون محمودا إذا كان لتدمير مكر الكافرين والسفهاء ، فإذا كان المكر عند الإطلاق كمالا في موضع ونقصا في آخر فلا يصح إطلاقه في حق الله دون تخصيص ، كقول القائل : المكر صفة الله ، فهذا باطل ، لأن الإطلاق فيه احتمال اتصافه بالنقص أو الكمال ، لكن يصح قول القائل : مَكْرُ الله يكون للابتلاء والمعاقبة والجزاء ، فهو مكر مقيد لا يحتمل إلا الكمال ، فجاز أن يتصف به رب العزة والجلال ، كما أثبت ذلك لنفسه فقال :  أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ ، أَوَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًي وَهُمْ يَلعَبُونَ ، أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلا القَوْم الخَاسِرُونَ  ، وقال :  وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِين  وقال :  وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذِينَ كَفَرُوا ليُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ  ، وقال :  وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُل اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ  ، وقال :  وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ  .
قال المناوى في التعريفات : ( المكر من جانب الحق ترادف النعم مع المخالفة وإبقاء الحال مع سوء الأدب وإظهار الكرامات من غير حد ، ومن جانب العبد إيصال المكروه إلي الإنسان من حيث لا يشعر ، وعرفه بعضهم بأنه صرف الغير عما يقصده بحيلة ، وذلك ضربان ، محمود وهو أن يتحرى به فعل جميل ، ومذموم وهو أن يتحرى به فعل قبيح  ولا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلهِ  (فاطر/43) ) .
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين : ( المكر إيصال الشيء إلي الغير بطريق خفي وكذلك الكيد والمخادعة ، ولكنه نوعان قبيح وهو إيصال ذلك لمن لا يستحقه ، وحسن وهو إيصاله إلي مستحقه عقوبة له ، فالاول مذموم والثاني ممدوح ، والرب تعالى إنما يفعل من ذلك ما يحمد عليه عدلا منه وحكمة ، وهو تعالى يأخذ الظالم والفاجر من حيث لا يحتسب لا كما يفعل الظلمة بعباده ) .
وقال أيضا : ( لفظ الخداع : ينقسم إلي محمود ومذموم ، فإن كان بحق فهو محمود ، وإن كان بباطل فهو مذموم .. وكذلك المكر ينقسم إلي محمود ومذموم فإن حقيقته إظهار أمر وإخفاء خلافه ليتوصل به إلي مراده ، فمن المحمود : مكره تعالى بأهل المكر مقابلة لهم بفعلهم ، وجزاء لهم بجنس عملهم ، قال تعالى :  وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِين َ (الأنفال/30) وقال تعالى :  وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ  (النمل/50) ، وكذلك الكيد ، ينقسم إلي نوعين ، قال تعالى :  وَأُمْلي لهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ  (القلم/45) ، وقال تعالى :  كَذَلكَ كِدْنَا ليُوسُفَ مَا كَانَ ليَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ المَلكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ  (يوسف/76) ، وقال تعالى :  إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا (الطارق/16:15) .
وما يقال في المكر يقال أيضا في الاستهزاء ، فالاستهزاء على الإطلاق يكون كمالا في موضع ونقصا في آخر ، فلا يصح إطلاقه في حق الله دون تقيد كقول القائل : الله يستهزئ ، فهذا باطل ، ولكن يصح أن يقول الله يستهزئ بالمنافقين في مقابلة استهزائهم بالمؤمنين ، فالاستهزاء في موضع النقص هو شأن المنافقين والاستهزاء في موضع الكمال ، ورد في قول رب العزة والجلال :  وَإِذَا لقُوا الذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلوْا إلي شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ، اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ  .
وكذلك يقال في الخداع والسخرية والكيد ، فإن ذلك يكون كمالا في موضع ونقصا في آخر ، فلا يتصف به إلا في موضع الكمال كما قال :  إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلي الصَّلاةِ قَامُوا كسالي يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلا قَليلا  وفي السخرية بالمنافقين قال :  الذِينَ يَلمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنْ المُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلهُمْ عَذَابٌ أَليمٌ  .
وقال في الكيد بالكافرين :  وَأُمْلي لهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ  وكذلك أيضا ما أخرجه البخاري في صفة التردد عن أبي هريرة عن رسول الله صلي الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل: ( وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءتَه ) ، فالتردد يكون كمالا في موضع ونقصا في آخر ، فلو كان التردد عن جهل وقلة علم وعدم إحكام للأمر كان التردد نقصا وعيبا ، وإن كان التردد لإظهار الفضل والمحبة في مقابل إنفاذ الأمر وتحقيقة الحكمة كان التردد كمالا ولطفا وعظمة وهو المقصود في الحديث .
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى : ( هذا حديث شريف قد رواه البخاري من حديث أبي هريرة  ، وهو أشرف حديث روي في صفة الأولياء ، وقد رد هذا الكلام طائفة وقالوا : إن الله لا يوصف بالتردد وإنما يتردد من لا يعلم عواقب الأمور والله أعلم بالعواقب ، وربما قال بعضهم إن الله يعامل معاملة المتردد ، والتحقيق أن كلام رسوله حق وليس أحد أعلم بالله من رسوله ولا أنصح للأمة منه ولا أفصح ولا أحسن بيانا منه ، فإذا كان كذلك كان المتحذلق والمنكر عليه من أضل الناس وأجهلهم وأسوئهم أدبا ، بل يجب تأديبه وتعزيزه ويجب أن يصان كلام رسول الله صلي الله عليه وسلم عن الظنون الباطلة والاعتقادات الفاسدة ، ولكن المتردد منا ، وإن كان تردده في الأمر لأجل كونه ما يعلم عاقبة الأمور ، لا يكون ما وصف الله به نفسه بمنزلة ما يوصف به الواحد منا ، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ، ثم هذا باطل فإن الواحد منا يترد تارة لعدم العلم بالعواقب ، وتارة لما في الفعلين من المصالح والمفاسد ، فيريد الفعل لما فيه من المصلحة ويكرهه لما فيه من المفسدة ، لا لجهله منه بالشيء الواحد الذي يحب من وجه ويكره من وجه ، كما قيل :
الشيب كره وكره أن أفارقه : فأعجب لشيء على البغضاء محبوب .
وهذا مثل إرادة المريض لدوائه الكريه ، بل جميع ما يريده العبد من الأعمال الصالحة التي تكرهها النفس هو من هذا الباب ، وفي الصحيح ، حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره ، وقال تعالى :
 كُتِبَ عَليْكُمْ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لكُمْ وَعَسي أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لكُمْ وَعَسَي أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لكُمْ وَاللهُ يَعْلمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلمُونَ  (البقرة/216) .
ومن هذا الباب يظهر معني التردد المذكور في هذا الحديث : ( وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءتَه ) ، فإنه قال قبلها ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإن العبد الذي هذا حاله ، صار محبوبا للحق محبا له يتقرب إليه أولا بالفرائض وهو يحبها ، ثم اجتهد في النوافل التي يحبها ويحب فاعلها ، فأتي بكل ما يقدر عليه من أمور محبوبة للحق ، والله سبحانه وتعالي قد قضي بالموت ، فكل ما قضي به فهو يريده ولا بد منه ، فالرب مريد لموته لما سبق به قضاؤه ، وهو مع ذلك كاره لمساءة عبده وهي المساءة التي تحصل له بالموت ، فصار الموت مرادا للحق من وجه ، مكروها له من وجه ، وهذا حقيقة التردد وهو أن يكون الشيء الواحد مرادا من وجه مكروها من وجه ، وإن كان لا بد من ترجح أحد الجانبين كما ترجحت إرادة الموت )
وهكذا القول في سائر أفعال الله التي تدخل تحت هذه النوعية من الأوصاف وهكذا أيضا يقال في معني الاستخلاف الذي ورد في قوله تعالى :  وَإِذْ قَال رَبُّكَ للمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَليفَةً  ، وفي قوله صلي الله عليه وسلم : ( إِنَّ الدُّنْيَا حُلوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ؟ ) ، نقف معكم عند هذا الحد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
بداية الكون والإنسان – المحاضرة السادسة
المرحلة الأولي من بداية الكون
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ، ونؤمن به ونتوكل عليه ، ونستهدي الله بالهدي ، ونعوذ به من الضلالة والردى ، من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدي ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، أرسله إلي الناس كافة ، رحمة لهم ورأفة بهم ، والناس يومها على شر حال ، في ظلمات الجاهلية يتقلبون ، وفي الشرك والوثنية غارقون ، دينهم بدعة ، ودعوتهم فرية ، فأعز الله الدين بمحمد صلي الله عليه وسلم : ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ) (النساء:80) ،  يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ  الحشر/18 .
ألا يا من قد قيد بالهوى فما يستطيع فكاكا - أفق قبل يوم أليم قد أتاكا أتاكا
بليت وما تبلي ثياب صباكا - كفاك نذير الشيب فيك كفاكا
ألم تر أن الشيب قد قام ناعيا - مقام الشباب الغض ثم نعاكا
ولم تر يوما مر إلا كأنه - بإهلاكه للهالكين عناكا
ألا أيها الفاني وقد حان حينه - أتطمع أن تبقي فلست هناكا
تسمع ودع من أفسد الغي سمعَه - كأني بداع قد أتي فدعاكا
ورب أمانٍ للفتي نَصَبَتْ له - المنيةُ فيما بينهن شراكا
أراك وما تنفك تهدي جنازة - ويوشك أن تُهدي هُديت كذاكا
ستمضي ويبقي ما تراه كما تري - وينساك من خلفته هو ذاكا
ألا ليت شعري كيف أنت إذا القوي - وهنت وإذا الكرب الشديد علاكا
تموت كما مات الذين نسيتهم - وتنسي ويهوى الحي بعد هواكا
كأن خطوب الدهر لم تجر ساعة - عليك إذا الخطب الجليل آتاكا .
أما بعد ، إخوتي الكرام هذه هي المحاضرة السادسة في السلسلة التي تتعلق بنشأة الكون وبداية الإنسان ، وقد ذكرنا في المحاضرة الماضية أنه إذا كانت الخلافة التي ميز الله بها الإنسان عن غيره من المخلوقات هي بمعني التخويل والإنابة ، فهل الإنسان خليفة ينوب عن الله في أرضه أم يخلف من سبق بعد موته ؟ وبينا أن المفسرين من السلف والخلف دارت أقوالهم حول هذين الرأيين ، فمنهم من يري أن الإنسان خليفة ينوب عن الله في تنفيذ الأحكام والعمل بشريعة الإسلام ، ومنهم من يري أن الخلافة التي ذكرها الله إنما هي خلافة قرن لقرن يخلف بعضهم بعضا ، كما في قوله تعالى :  ثُمَّ جَعَلنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ  .
وعلمنا أن استخلاف الإنسان في الأرض فعل من أفعال الله تعالى وأفعاله سبحانه فيها الكمال والجمال ، وتشهد لحكمته بالعظمة والجلال ، فالله لا يتصف إلا بالكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه ، كالحياة والعلم والقدرة ، والسمع والبصر والرحمة ، والعزة والحكمة والعظمة ، وغير ذلك من أوصاف الكمال ، أما ضد ذلك من أوصاف النقص ، كالموت والعجز والظلم ، والغفلة والسنة والنوم ، فقد تنزه ربنا وتعالي عن ذلك فسبحه الموحدون ، وقال المؤمنون في وصفه كما قال المرسلون :  سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ، وَسَلامٌ على المُرْسَلينَ وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ  .
أما إذا كان الوصف عند تجرده عن الإضافة في موضع احتمال ، فكان كمالا في حال ونقصا في حال ، فالمسلم العاقل يقف مدققا ، لا يثبته لله إثباتا مطلقا ، ولا ينفيه عنه نفيا مطلقا ، بل لا بد في ذلك من البيان والتفصيل ، والتقيد بما ورد ذكره في التنزيل ، فقد ورد من الألفاظ في القرآن ما ينسب مرة إلي الإنسان ، وينسب إلي الله لا على وجه النقصان ، كالمكر والخداع والنسيان ، والاستهزاء والكيد والخذلان ، وغير ذلك من الأوصاف ، وما يقال فيها سوف يقال في الاستخلاف .
يقول الراغب الأصفهانى في مفرداته : ( الخلافة هي النيابة عن الغير إما لغيبة المنوب عنه وإما لموته وإما لعجزه وإما لتشريف المستخلف ، وعلى هذا الوجه الأخير استخلف الله أولياءه في الأرض ) ، فاستخلاف الإنسان الوارد في القرآن له في الحقيقة معنيان :
الأول : استخلاف عن نقص الأوصاف بحكم طبيعة الإنسان ، ويكون عند عجز المستخلف عن القيام بملكه أو انعدام قدرته تدبير أمره ، إما لغيابه أو قلة علمه ، وإما لمرضه أو موته ، كاستخلاف القائد نائبا على جنده أو قومه ، كما ورد في قوله تعالى عن موسي عليه السلام :  وَقَال مُوسَي لأخِيهِ هَارُونَ اخْلُفنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيل المُفْسِدِين  ، وفي الحديث الذي رواه البخاري بسنده عن سعد بن أبي وقاص  أنَّ رَسُول اللهِ صلي الله عليه وسلم خَرَجَ إلي تَبُوكَ وَاسْتَخْلفَ عَليًّا ، فَقَال : أَتُخَلفُنِي فِي الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ ؟ قَال : أَلا تَرضي أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَي إِلا أَنَّهُ ليْسَ نَبِيٌّ بَعْدِي ؟ ) .
ومن ذلك أيضا استخلاف ولي الأمر نائبا عنه قبل موته ، كما روي عَنِ عبد الله بْنِ عُمَرَ  قَال : حَضَرْتُ أَبِي حِينَ أُصِيبَ ، فَأَثْنَوْا عَليْهِ وَقَالُوا : جَزَاكَ اللهُ خَيْرًا فَقَال : رَاغِبٌ وَرَاهِبٌ ، قَالُوا : اسْتَخْلفْ ، فَقال : أَتَحَمَّلُ أَمْرَكُمْ حَيّا وَمَيِّتًا لوَدِدْتُ أَنَّ حَظِّي مِنْهَا الكَفَافُ لا على وَلا لي ، فَإِنْ أَسْتخلفْ فَقَدِ اسْتَخْلفَ منْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي ، وَإِنْ أَتْرُكْكُمْ ، فَقَدْ تَرَكَكُمْ مَنْ هوَ خَيْرٌ مِنِّي ، رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم ، قَال عَبْدُ اللهِ بن عمر  : فَعرَفْتُ أَنَّهُ حِينَ ذَكَرَ رَسُول اللهِ صلي الله عليه وسلم غَيْرُ مُسْتَخْلفٍ ) فالاستخلاف هنا عن قصر الأوصاف بحكم طبيعة الإنسان ، وذلك لعجز المستخلف عن القيام بملكه أو انعدام قدرته تدبير أمره ، إما لغيابه أو قلة علمه كما تقدم ، وإما لمرضه أو موته ، هذا هو المعني الأول لاستخلاف الإنسان الذي ورد في القرآن والسنة .
أما المعني الثاني : فهو الاستخلاف عن كمال الأوصاف ، وذلك إذا كان لتشريف الإنسان وإكرامه أو اختباره وامتحانه ، وليس لعجز المستخلف عن القيام بشؤونه ، كالطبيب في سنة الامتياز ، إذا فحص مريضا في حضرة الأستاذ ، فإن اجتاز الامتحان فقد فاز ، ونال الشرف بشهادة عظيمة ، وهذا معلوم في كل فطرة سليمة ، وإن لم يؤد الواجب على الوجه المطلوب ، عاقبه الأستاذ بالرسوب ، ونصحه بالاجتهاد وتصحيح العيوب ، وإن تكرر منه الفشل والنسيان ، عاقبوه بالمنع والحرمان من أي شرف أو فضل ، وحق لهم أن يفعلوا به ذلك ، وأن يفصلوه من دراسته كذلك .
فلما قال الله عز وجل للملائكة في شأن الإنسان :  إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَليفَةً  تحقق في الخلافة المعنيان ، الأول : أن يخلف بعضهم بعضا على وجه النقصان ، والثاني : أنه خليفة لله في الأرض على وجه الامتحان ، وبهذا يزول الإشكال ويتآلف الرأيان ، فقوله تعالى :  آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلكُمْ مُسْتَخْلفِينَ فِيهِ فَالذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ  ، يعني مستخلفين عمن سبق على وجه النقص وتعاقب الأجيال ، ومستخلفين في أرض الله أيضا على وجه الكمال ، وكذلك يقال في استخلافه داود لما خاطبه الله فقال :  يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلنَاكَ خَليفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الهَوَى فَيُضِلكَ عَنْ سَبِيل اللهِ إِنَّ الذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيل اللهِ لهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ  .
جعله خليفة عن الملك طالوت لما قتل عدو الله جالوت ، وجعله خليفة في أرض الله ليحكم بين الناس بما أنزل الله ، وهكذا ابتلي الله سائر الناس في الحياة ، واستخلف الإنسان واسترعاه ، كما جاء أيضا في قول الله :  أَمَّنْ يُجِيبُ المُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلفَاءَ الأرْضِ أَءلهٌ مَعَ اللهِ قَليلا مَا تَذَكَّرُونَ  ، وقوله :  هُوَ الذِي جَعَلكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَليْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ الكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا ، وقوله أيضا :  وعَدَ اللهُ الذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ ليسْتَخْلفَنَّهُم فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلفَ الذِينَ مِنْ قَبْلهِمْ وَليُمَكِّنَنَّ لهُمْ دِينَهُمْ الذِي ارْتَضَي لهُمْ وَليُبَدِّلنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلكَ فَأُوْلئِكَ هُمْ الفَاسِقُونَ  ، وقوله :  قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْل أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَال عَسَي رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ  .
هذه الآيات تدل على المعنيين معا ، أن الإنسان خليفة لمن سبق من الذرية عن نقص في الأوصاف البشرية ، وخليفة لله على وجه الكمال ، استخلفه رب العزة والجلال لإظهار المعاني الشرعية ، غير أنه لا حول له ولا قوة في معاني الربوبية ، ويقول تعالى :  وَهُوَ الذِي جَعَلكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ليَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإِنَّهُ لغَفُورٌ رَحِيمٌ  وقوله :  وَرَبُّكَ الغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ  وقوله :  فَإِنْ تَوَلوْا فَقَدْ أَبْلغْتُكُمْ مَا أُرْسِلتُ بِهِ إِليْكُمْ وَيَسْتَخْلفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي على كُل شَيْءٍ حَفِيظٌ  .
فالله استخلف الإنسان في الأرض وهو معه يتابعه ، ومن فوق العرش يراه ويسمعه ولكنه بين أن استخلافه في هذه الدار ، على وجه الابتلاء والاختبار ، وعلى وجه الأمانة والانتظار ، وأن يكون مصيره إما إلي جنة وإما إلي نار ، فقال رب العزة والجلال :  هَل أتي على الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ، إِنَّا خَلقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَليهِ فَجَعَلنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ، إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيل إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ، إِنَّا أَعْتَدْنَا للكَافِرِينَ سَلاسِل وَأَغْلالا وَسَعِيرًا  ، وقال أيضا :  تَبَارَكَ الذِي بِيَدِهِ المُلكُ وَهُوَ على كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ ، الذِي خَلقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ ليَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ  .
فهو استخلاف ليس عن غيبة المستخلف ، كما يتوهم من لم يفهم ما ورد في كتاب الله على الوجه الصحيح ، فإن الاستخلاف وإن اقتضي الغياب بين الناس في العادة ، إلا أنه هنا كان السبب المباشر في ظهور عالم الغيب والشهادة ، فالغيب والشهادة أمران نسبيان يرتبطان باستخلاف الإنسان ، فالله غيب بالنسبة للإنسان لأن الله جعل مداركه محدودة ، فهما غيب وشهادة ليس بالنسبة لعلم الله بخلقه ، ولكن بالنسبة لعلم الإنسان بفعل ربه ، وعلمه بذاته وأسمائه وأوصافه ، فقال سبحانه تعالى في شمولية علمه لكل صغيرة وكبيرة في خلقه :
 اللهُ يَعْلمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثي وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ، عَالمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَال ، سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ القَوْل وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالليْل وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ  فهو من فوق العرش يرانا ويسمعنا وهو الذي يتولي شئون خلقنا ، ولا يخفي عليه شيء من أمرنا ، وقال تعالى أيضا في إحاطته بعالم الغيب والشهادة :  ذَلكَ عَالمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ العَزِيزُ الرَّحِيمُ  ، وقال :  هُوَ اللهُ الذِي لا إِلهَ إِلا هُوَ عَالمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ  .
وأما علمنا بالله الذي استخلفنا في أرضه فقد قال في المقابل عن حدود علم المستخلف :  وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ العِلمِ إِلا قَليلا  ، وقال :  قُل لا يَعْلمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الغَيْبَ إِلا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ  .
فعلم الإنسان مهما بلغ محدود ، وحواسه لها حدود وقيود ، وهو محاسب عليها في يوم موعود ، ولذا كان النطق بشهادة الحق أمرا وتكليفا ، وترك الزور وقول الصدق مدحا وتشريفا ، كما قال سيد الخلق تحذيرا وتخويفا : ( أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ ؟ قُلنَا : بَلي يَا رَسُول اللهِ ، قَال : الإِشْرَاكُ بِاللهِ وَعُقُوقُ الوَالدَيْنِ ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلسَ فَقَال : أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ ، فَمَا زَال يَقُولُهَا حتى قُلتُ : لا يَسْكُتُ ) .
وهذا حديث صحيح رواه البخاري من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه ، وقال الحق سبحانه :  وَالذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللغْوِ مَرُّوا كِرَامًا  ، فمن الجهل والعيب ادعاء الإنسان لعلم الغيب أو القول على الله بلا علم ، يقول الحق تبار وتعالي :  وَلا تَقْفُ مَا ليْسَ لكَ بِهِ عِلمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُوْلئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا  ، ومن أجل ذلك أيضا كلف الله الإنسان بالتصديق الجازم لأركان الإيمان ، وكل خبر ورد ذكره في القرآن ، فقال تعالى في توضيح هذه المعان :  الم ، ذَلكَ الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًي للمُتَّقِينَ ، الذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ، وَالذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِل إِليْكَ وَمَا أُنْزِل مِنْ قَبْلكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ، أُوْلئِكَ على هُدًي مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلئِكَ هُمْ المُفْلحُونَ ، إِنَّ الذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَليْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ  .
فأركان الإيمان التي وردت في دين الله ، وظهر من خلالها سر الحياة ، حصرها رسول الله صلي الله عليه وسلم في أن تؤمن بالله وملا ئكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ، روي الإمام مسلم من حديث عبد الله بن عمر أنه قَال : حَدَّثَنِي أَبِي عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ قَال بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلعَ عَليْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لا يُرَي عَليْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ حتى جَلسَ إلي النَّبِيِّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إلي رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ على فَخِذَيْهِ وَقَال يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلامِ فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ الإِسْلامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ وَتُقِيمَ الصَّلاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ البَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِليْهِ سَبِيلا قَال صَدَقْتَ قَال فَعَجِبْنَا لهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ قَال فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإيمان قَال أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ قَال صَدَقْتَ قَال فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ قَال أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ قَال فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ قَال مَا المَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلمَ مِنَ السَّائِل قَال فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا قَال أَنْ تَلدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا وَأَنْ تَرَي الحُفَاةَ العُرَاةَ العَالةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي البُنْيَانِ قَال ثُمَّ انْطَلقَ فَلبِثْتُ مَليًّا ثُمَّ قَال لي يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ قُلتُ اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلمُ قَال فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلمُكُمْ دِينَكُمْ ) .
فأركان الإيمان التي ذكرها رسول الله لجبريل وهو في صورة الأعرابي أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ، وقد صدقه جبريل على ذلك ، وهذه الأركان تضمنت في ترتيبها سرَّ الحياة ، وبيان سر الحياة في هذه الأركان ، وتفسيرها للحقائق العظمي في حياة الإنسان ، على النحو المقصود في ترتيب الرسول للأركان ، يراه أصحاب البصيرة مشهودا وبين الكلمات موجودا ، فالمعني الموضوع بين أركان الإيمان ، أن تؤمن بالله الذي أنزل ملائكته بكتبه على رسله ليحذروا المستخلفين من يوم يقوم فيه الناس لرب العالمين ، فإذا انتهي الناس بعد العرض والحساب ، واستقروا في الآخرة للثواب والعقاب ، عندها يتم قدر الله كما ورد في أم الكتاب ، قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وهذه حقيقة الإيمان بالقدر خيره وشره ، وينبغي أن تفهم أحاديث الإيمان بالقدر على ضوء حقيقة الابتلاء واستخلاف الإنسان في الأرض ، فمن حديث عمرو بن العاص  الذي رواه الإمام مسلم في كتاب القدر أنه قَال : ( سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صلي الله عليه وسلم يَقُولُ :كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الخَلائِقِ قَبْل أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِخَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ ) .
ومن حديث على بن أبي طالب رَضِي الله تعالى عَنْه الذي وراوه البخاري ومسلم أنه قَال : ( كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الغَرْقَدِ فَأَتَانَا النَّبِيُّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلهُ وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ – العود الصغير - فَنَكَّسَ –أطرق برأسه إلي الأرض - فَجَعَل يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ – يعني يضرب بها في الأرض ضربا خفيفا - ثُمَّ قَال : مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلا كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ وَإِلا قَدْ كُتِبَ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً فَقَال رَجُلٌ يَا رَسُول اللهِ أَفَلا نَتَّكِلُ على كِتَابِنَا وَنَدَعُ العَمَل ، فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْل السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إلي عَمَل أَهْل السَّعَادَةِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْل الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إلي عَمَل أَهْل الشَّقَاوَةِ ، قَال رسول اللله ص : أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لعَمَل السَّعَادَةِ وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لعَمَل الشَّقَاوَةِ ثُمَّ قَرَأَ : ( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَي وَاتَّقَي وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لليُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِل وَاسْتَغْنَي وَكَذَّبَ بِالحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ للعُسْرَى )
وروي الإمام مسلم من حديث جابر بن عبد الله أن سُرَاقَة بْنَ مَالكٍ قَال : يَا رَسُول اللهِ بَيِّنْ لنَا دِينَنَا كَأَنَّا خُلقْنَا الآنَ فِيمَا العَمَلُ اليَوْمَ أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلامُ وَجَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ أَمْ فِيمَا نَسْتَقْبِلُ قَال لا بَل فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلامُ وَجَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ قَال فَفِيمَ العَمَلُ ؟ قَال فَقَال اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لعَمَلهِ ، وستأتي معنا بإذن الله سلسلة كاملة نبين فيها حقيقة الإيمان بالقضاء والقدر وأنها أساس التوحيد ومبعث التقوى في قلوب العبيد .
نعود إلي موضوع الاستخلاف ونقول إن استخلاف الإنسان في الأرض استخلاف مقيد غير مطلق ، استخلاف مقيد بالخضوع للتكليف وإظهار العبودية ، والعمل في أرض الله بالإرادة الشرعية ، والحكم في الرعية بالشريعة الإسلامية ، كما ورد عن خير البرية أنه قال : (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا ، وَالخَادِمُ رَاعٍ فِي مَال سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِه ) وهذا الحديث حديث صحيح رواه البخاري بسنده عن عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنه .
وليس استخلاف الإنسان في الأرض نيابة عن الله في معاني الربوبية ، أو تخويلا لغيره في إرادته الكونية ، سبحانه وتعالي أن يتخذ شريكا له في ملكه ، أو يتخذ وليا من الذل وينعزل عن خلقه ،  وقُل الحَمْدُ للهِ الذِي لمْ يَتَّخِذْ وَلدًا وَلمْ يَكُنْ لهُ شَرِيكٌ فِي المُلكِ وَلمْ يَكُنْ لهُ وَليٌّ مِنْ الذُّل وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا  وقال :  قُل مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُل اللهُ قُل أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْليَاءَ لا يَمْلكُونَ لأنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا قُل هَل يَسْتَوِي الأعْمَي وَالبَصِيرُ أَمْ هَل تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ خَلقُوا كَخَلقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلقُ عَليْهِمْ قُل اللهُ خَالقُ كُل شَيْءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ  وقال :  اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَنْ ذَا الذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العلى العَظِيمُ  وقال :  إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا وَلئِنْ زَالتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَليمًا غَفُورًا  وقال :  أَلمْ تَرَي أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لكُمْ مَا فِي الأرْضِ وَالفُلكَ تَجْرِي فِي البَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ على الأرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لرَءُوفٌ رَحِيمٌ  .
فإذا ظلم الإنسان نفسه وخلع رداء العبودية ، لينازع ربه في وصف الربوبية أو يشاركه في العلو والكبرياء ، وعظمة الأوصاف والأسماء ، كما فعل أكابر السفهاء فرعون وهامان ومن قبلهما النمرود بن كنعان ، فليس للظالم إلا الشقاء والحرمان ودوام العذاب في النيران ، وليس بعد طرده من الجنان خسران ، كما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : ( يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَل الكِبْرِيَاءُ رِدَائِي ، وَالعَظَمَةُ إِزَارِي ، فَمَنْ نَازَعَنِي شَيْئًا مِنْهُمَا أَلقَيْتُهُ فِي جَهَنَّمَ ) وفي صحيح مسلم من حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِى أن رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم قال : ( العِزُّ إِزَارُهُ وَالكِبْرِيَاءُ رِدَاؤُهُ فَمَنْ يُنَازِعُنِي عَذَّبْتُه ) ، وروي أيضا من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ  أن النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم قَال : ( لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ) .
وإذا كانت طبيعة العاقل الأمين في علاقته بمن استأمنه أنه يرجع إليه في طلب الهداية والعون والاستبصار ، وأن يعينه في الحفاظ على الأمانة من شر الخيانة أو جميع الأخطار ، ليبقي بوصفه أمينا صادقا صورته نقية في جميع الأنظار ، فلما كانت هذه صفة الأمناء في هذه الدار ، فإن القرآن جاء بإحياء فطرة التوحيد في نفوس المستخلفين ، ورد الملك إلي رب العالمين والخضوع لله ، أن يكون الإنسان مع ربه دائم الصلة ، ويرجع دائما إلي الذي خوله ، ويعتمد عليه في كل مسأله فيطلب منه ، ، وأن يرجع الإنسان دائما إلي ربه يستعين به ويتوكل عليه ، ويستهديه ويستغفره :  هُوَ الحَيُّ لا إِلهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلصِينَ لهُ الدِّينَ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ  وقال أيضا :  وَقَال رَبُّكُمْ ادْعونِي أَسْتَجِبْ لكُمْ إِنَّ الذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ  وقال أيضا :  إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللهُ فَلا غَالبَ لكُمْ وَإِنْ يَخْذُلكُمْ فَمَنْ ذَا الذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعلى اللهِ فَليَتَوَكَّل المُؤْمِنُونَ  وقال أيضا :  إِنِّي تَوَكَّلتُ على اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ  وقال أيضا :  وَللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِليْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّل عَليْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ  ، وفي الحديث الذي رواه الإمام مسلم أن رسول الله صلي الله عليه وسلم كان يقول في سفره :
 سُبْحَانَ الذِي سَخَّرَ لنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إلي رَبِّنَا لمنْقَلبُونَ  ، اللهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا البِرَّ وَالتقوى ، وَمِنَ العَمَل مَا تَرضي اللهُمَّ هَوِّنْ عَليْنَا سَفَرَنَا هَذَا ، وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ ، اللهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ ، وَالخَليفَةُ فِي الأهْل ، اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ ، وَكَآبَةِ المَنْظَرِ ، وَسُوءِ المُنْقَلبِ فِي المَال وَالأهْل ، وَإِذَا رَجَعَ قَالهنَّ ، وَزَادَ فِيهِنَّ آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ ، لرَبِّنَا حَامِدُونَ ) .
فانظر إلي قوله : وَالخَليفَةُ فِي الأهْل : فيه كمال التواضع والافتقار إلي الله ، فالله استخلف الرسول في أهله وجعلهم أمانة بين يديه ، والرسول يعلن لربه عجزه عند سفره ويستودع ربه أمنانته ، كأنه يعيد الأمانة إلي صاحبها ويطلب معونته في المحافظة عليها .
وكذلك جاز أن يستخلف رسول الله صلي الله عليه وسلم ربه على أمته عند ظهور الدجال ، على اعتبار أنه يرد الأمر إلي من استخلفه في الأرض افتقارا ، وإظهارا لعجزه وإقرارا ، أنه لا نجاة لأمته إلا إذا استعانوا بربهم على الدجال ، فقد روي الإمام مسلم من حديث النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ  أنه قَال ، ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم الدجال ذَاتَ غدَاةٍ ، فَخَفَّضَ فِيهِ وَرَفَّعَ ، حتى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْل ، فَلمَّا رُحْنَا إِليْهِ ، عَرَفَ ذَلكَ فِينَا فَقَال مَا شَأْنُكُمْ ؟ ، قُلنَا يَا رَسُول اللهِ ، ذَكَرْتَ الدجال غَدَاةً فَخَفَّضْتَ فِيهِ وَرَفَّعْتَ ، حتى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْل ، فَقَال غَيْرُ بَنَي حَارِثَةَ أَخْوَفُنِي عَليْكُمْ ، إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ ، وَإِنْ يَخْرُجْ وَلسْتُ فِيكُمْ ، فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ ، وَاللهُ خَليفَتِي على كُل مُسْلمٍ ) .
فهذا الاستخلاف الذي ورد في الحديث سببه عجز المستخلف عن مواصلة الحياة ، ولما كان الموت مكتوبا على الجميع حتى على رسول لله ، وكان لا بد للأمانة من الصيانة حتى ترد إلي مالكها يوم الحساب ، كان ردها إلي صاحبها في الدنيا هو الكمال ، وكانت الاستعانة برب العزة والجلال ، شأن الموحدين الصادقين في كل حال ، وعلى هذا نخلص إلي القول بأن الله لما قال لملائكته : تضمن استخلاف الإنسان في الأرض عدة أمور مجتمعة :
الأمر الأول : أن الإنسان خليفة لله في الأرض على معني الكمال ، وهو الاستخلاف الذي يقصد به الاختبار والابتلاء ، فالإنسان لما حمل الأمانة ورفضتها المخلوقات ، هيأ الله الكون ليحقق استخلاف الإنسان في الأرض بما يسمح بوجود أمين وأمانة ومالك لها ، فالإنسان أمين في ملك الله وجاز أن ينسب إليه الملك على سبيل الاستخلاف والابتلاء والأمانة فقط ، والله مالك للأمانة بالأصالة ، وهو المنفرد بالخلق والأمر والملك فله مطلق التدبير الكوني والشرعي ، والأرض هي محل الابتلاء والأمانة التي سيسأل عنها الإنسان ، والله يعطي من خيراتها لمن يشاء على سبيل الأمانة والابتلاء وعلى هذا فالإنسان خليفة الله في الأرض لإظهار معاني العبودية فقط ، من القيام بشرعه وتنفيذ أمره سواء كان على المعني الخاص الذي يراد به إمام الناس أو المعني العام الذي يتناول سائر الناس .
كما إن الإنسان إن أطاع الله وأدي الأمانة والحقوق لأهلها وكان خاضعا لله موجها لها في دنياه على وفق ما أراده الله ، أبقاه في دار الجزاء على هذا الشرف الذي ناله في الابتلاء عند عرض الأمانة ، وإن كان كافرا بالله مشركا ، كان ظلوما جهولا خاسرا في الابتداء والانتهاء .
الأمر الثاني : أن الخلافة التي جعلها الله للإنسان هي خلافة ينوب فيها بعضهم عن بعض ، ويخلف كل جيل منهم جيلا سابقا ، وذلك لما لهم من معاني النقص وقصر الحياة ، فالموت يؤدي بالضرورة إلي تعاقب الأجيال على وراثة الأرض وخلافتها .
الأمر الثالث : أن الاستخلاف أدي إلي ظهور عالم الغيب والشهادة بالنسبة للإنسان لا بالنسبة لربه ، فالله غيب لا يراه الإنسان في الدنيا من أجل الابتلاء ، لكن الله يعلم ما توسوس به نفسه وهو أقرب إليه من حبل الوريد ، وعلى ذلك أصبح الإيمان بالغيب بالنسبة للإنسان هو أساس البنيان الذي يعيش به في الحياة .
وهنا رواية يحتج بها من أنكر أن الإنسان خليفة عن الله في أرضه على وجه الابتلاء ، وذلك لأنه فهم أن الاستخلاف يقتضي غياب الله عن كونه ، فيقولون : ما غاب الله حتى يستخلف الإنسان ، وقد بينا أن الاستخلاف أدي إلي ظهور عالم الغيب والشهادة بالنسبة للإنسان لا بالنسبة لربه ، وأن الاستخلاف في ما يتعلق بتوحيد العبودية فقط ، ولا مجال فيه لمعاني الربوبية ، لكن الرواية التي رويت عبد الله بن أبي مليكة جاء فيها : ( قيل لأبي بكر  : يا خليفة الله فقال : بل خليفة محمد وأنا أرضي بهـ) قال الهيثمى : ( ابن أبي مليكة لم يدرك أبا بكر ) وروي الخلال مثل ذلك عن عمر بن الخطاب  بإسناده لا يصح لأن فيه مجهول .
لكن على فرض صحة الرواية فإن أبا بكر أجاب القائل بما يجب أن يقال في مثل هذا الحال ، لأن تعميم القول بأن الإنسان خليفة الله ، وإطلاق ذلك دون تقييد أمر باطل كما تقدم ، فالخليفة يكون عن كمال وعن نقص ، فإذا كان الاستخلاف لعجز المستخلف فهو نقص ، وإذا كان لابتلاء المستخلف فهو كمال ، أما الإطلاق فيقتضي الاحتمال وهو باطل ، ولذا أنكر أبو بكر التعميم ، وذكر الاستخلاف الذي يدل على التواضع والتسليم ، فالقائل له يا خليفة الله أراد له التعظيم ، فأراد له أبو بكر له الأدب والتعليم ، فنفي أن يكون خليفة عن الله ، ليثبت لله معاني الكمال ، وينفي النقائص عن رب العزة والجلال ، فأراد بقوله بل خليفة رسول الله التواضع في المنزلة ، والافتقار إلي الله في الخلافة المعضلة ، وأنه يتابع النبي متابعة كاملة ، لذلك قال منبها على هذه المسألة : وأنا راض به ، أي راض بأن أسير على نهج رسول الله عبدا لله في ملكه ، خادما لشرعه في أرضه ، متبعا كتابه وسنة نبيه ، وهذا يدل على أن أبا بكر  كان رجلا مدققا ، لم يثبت الخلافة إثباتا مطلقا ، ولكنه كان لكلام الله مصدقا ، حيث قال لملائكته :  إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَليفَةً  ، فالعاقل لن يتوقع من أبي بكر  لو قال له قائل : يا خليفة الله ، أن يقول له أحسنت إن ممتاز .
كما أن عبارة : ( خليفة الله في الأرض ) ، ترددت بين السلف الصالح ولم يكن بينهم من يمنعها إلا على وجه المبالغة في الوصف وإطلاقه ، والله عز وجل استخلف الإنسان في أرضه على وجه الابتلاء بناء على حمله الأمانة ، فإن أداها كما ينبغي أكرمه الله في الدنيا وزاد من إكرامه في الآخرة ، وإن كفر فعليه الكفر والعصيان واستوجب المقت والخسران وهو الذي ضيع نفسه بعد هذا التكريم ، وحق أن يلوم نفسه في العذاب الأليم ، كما قال تعالى في كتابه الكريم :  هُوَ الذِي جَعَلكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَليْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ الكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا  .
ذكر أبو سعيد الخراز في شأن الأنبياء والعلماء والصالحين كيف ملكوا الدنيا وكانوا أزهد الناس فيها ؟ أنهم كانوا أمناء لله تعالى في أرضه على سره وعلى أمره ونهيه وعلمه وموضع وديعته والنصحاء له في خلقه وبريته ، وهم الذين عقلوا عن الله تعالى أمره ونهيه وفهموا لماذا خلقهم وما أراد منهم وإلي ما ندبهم ؟ فسمعوا الله تعالى يقول :  آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلكُمْ مُسْتَخْلفِينَ فِيهِ  ، ثم قال :  ثُمَّ جَعَلنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ  ، فأيقن القوم أنهم وأنفسهم لله تعالى ، وكذلك ما خولهم وملكهم فإنما هو له ، غير أنهم في دار اختبار وبلوى وخلقوا للاختبار والبلوى في هذه الدار ، فمن ملك شيئا من الدنيا فهو معتقد أن الشيء لله تعالى لا له إلا من طريق حق ما خوله الله واستخلفه ، وهو مبلي به حتى يقوم بالحق فيه ، فكانوا خزانا لله جل ذكره خارجين من ملكهم في ملكهم ناعمين بذكر الله وعبادته ، غير ساكنين إلي ما ملكوا ، لا يستوحشون من فقده إن فقدوه ، ولا يفرحون به إن وجدوه ، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وللحديث بقية بإذن الله تعالى والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

د. محمود عبد الرازق الرضواني
04-16-2005, 06:47 PM
بداية الكون والإنسان – المحاضرة السابعة
المرحلة الثانية من بداية الكون

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمد عبده ورسوله ،  يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الذِي خَلقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلقَ مِنْهَا زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الذِي تَتَساءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَليْكُمْ رَقِيبًا  (النساء/1)  يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ  (الحشر/18)  يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلمُون  (آل عمران/102) أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلي الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ، أما بعد ..
فهذه هي المحاضرة السابعة في السلسلة التي تتعلق بنشأة الكون وبداية الإنسان ، وقد تحدثنا عن معني الخلافة التي ذكرها الله في القرآن ، وأن تفسير السلف لقوله تعالى :  إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَليفَةً  يدور على رأين متآلفين غير متضادين ، أحدهما لابن مسعود  حيث قال في معني الآية : إني جاعل في الأرض خليفة مني يخلفني في الحكم بين خلقي وذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه ، والثاني لابن عباس رضي الله عنهما أن الإنسان خليفة لمن سبق من قولك : خلف فلان فلانا في هذا لأمر إذا قام مقامه بعده ، وعلى الرغم من هذين القولين إلا أن أغلب المفسرين مالوا إلي الرأي الثاني خشية وصف الله بالنقص ، من خلال اقتضاء الاستخلاف للغياب ، يقولون : ما غاب الله حتى يستخلف غيره .
وقد بينت أن الاستخلاف لم يقتض غياب الحق عن متابعة الخلق ، ولكن اقتضي وجود عالم الغيب والشهادة بالنسبة للإنسان ، لأن الله لا يخفي عليه شيء في عالم الغيب أو في عالم الشهادة ، فكلاهما سيان بالنسبة لله لكنهما متغايران في الأحكام بالنسبة للإنسان ، فما يراه ويدركه بحواسه يدخل تحت عالم الشهادة ، وما لا يراه فهو غيب ، فالله غيب بالنسبة للإنسان لأنه لا يراه في الدنيا وإن كان من الممكن أن يراه في الآخرة ، كما قال تعالى (وجوه يومئذ ناضرة إلي ربها )
كما أن الاستخلاف ليس في شيء من معاني الربوبية ، فالإنسان مسير في هذا الجانب لأن إرادة الله الكونية واقعة لا محالة ، والله تعالى لا شريك له في ملكه ، ولم يتخذ وليا من الذل في تدبير خلقه ، إنما القصد من قضية الاستخلاف تحقيق معاني العبودية ، ومدي خضوع الإنسان للإرادة الشرعية ، والإنسان في هذا الجانب مخير بحرية وسوف تقع على عاتقه المسؤولية يوم القيامة ، وبهذا يزول التعارض ويرفع الإشكال .
لكن العجب من موقف شيخ الإسلام ابن تيمية ، ففي جميع مؤلفاته التي ظهرت حتى الآن لو بحثت عن موقفه من قضية الاستخلاف ، لوجدت أنه يمنع القول تماما بأن الإنسان خليفة لله في الأرض ، وإنما هو خليفة لمن سبق فقط ، ولم يبين موقفه من كون الإنسان خليفة الله على وجه الابتلاء ، أو الخلافة المقيد بالابتلاء دون المطلقة العامة ، وكأنه لم يبلغه قول عبد الله ابن مسعود  وطائفة كبيرة من المفسرين ، حيث قالوا في معني الآية : إني جاعل في الأرض خليفة أي خليفة مني يخلفني في الحكم بين خلقي ، وذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله ، والحكم بالعدل بين خلقه ، وإن كان موقف تلميذه ابن قيم الجوزية مخالفا له إذ يقول بالرأيين معا .
وأنتم تعلمون مكانه شيخ الإسلام ابن تيمية ومنزلته العظيمة في نفوسنا ، ولذلك حيرني هذا الموضوع ودعاني أن أشير إليه في هذه المحاضرة لتعلموا ما الذي دعا شيخ الإسلام ابن تيمية إلي ذلك ؟ .
يقول شيخ الإسلام في مجموع فتاوى : ( والمراد بالخليفة أنه خلف من كان قبله من الخلق ، كما كان أبو بكر الصديق خليفةَ رسول الله صلي الله عليه وسلم ، لأنه خلفه على أمته بعد موته ، وكما كان النبي إذا سافر لحج أو عمرة ، أو غزوة يستخلف على المدينة ، من يكون خليفة له مدة معينة ، فيستخلف تارة ابن أم مكتوم وتارة غيره ، واستخلف على بن أبى طالب في غزوة تبوك ... ومنه قوله تعالى :  وَهُوَ الذِي جَعَلكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ليَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ  الأنعام /165 ) .
وقد ظهر لي أن السبب في ذلك أن شيخ الإسلام ابن تيمية في خضم حملته على غلاة الصوفية كابن عربي وأتباعه القائلين بوحدة الوجود بالغ في نفي أن الإنسان خليفة لله في الأرض خشية الوقوع في ضلالاتهم حتى ظن الكثيرون أن هذا النفي ينسحب على أن الإنسان خليفة لله على معني الابتلاء والكمال ، فالصوفية يقولون إن الإنسان خليفة لله بمعني أن ذات الله أو الذات الإلهية تظهر متجلية في صورة الخليفة الذي هو الإنسان ، كظهور الصورة في المرآة ، فالصوفية يفسرون المخلوقات على أنها صورة الذات الإلهية التي تخرج للناس في هيئات كثيرة متعددة ، فيفتن بها من لا يعرف التصوف ويراها كثرة ، أما الصوفية فيرونها وحده ، هذه الوحدة هي ذات الله ، ولكن تجلت عندهم في صورة عديدة ، فمرة يظهر ربنا تعالى عن قولهم يظهر للناس في صورة شجرة ومرة يظهر لهم في صورة كلب أو بقرة ، ومرة حجرا ومرة صنما ووثنا ، يقول ابن عربي : ( سبحان من خلق الأشياء وهو عينها ) ويقول أيضا :
فإنا أعبدٌ حقا : وإن الله مولانا - وإنا عينه فاعلم : إذا ما قلت إنسانا - فلا تحجب بإنسان : فقد أعطاك برهانا فكن حقا وكن خلقا : تكن بالله رحمانا ، ويقول أيضا في زندقته مبينا أنه إذا عبد ربه فقد عبد نفسه لأنه الله يظهر في صورته : فيحمدني وأحمده : ويعبدني وأعبده - ففي حال أقربه : وفي الأعيان أجحده - فيعرفني وأنكره : وأعرفه فأشهده ويقول : فأنت عبد وأنت رب : لمن له فيه أنت عبد - وأنت رب وأنت عبد : لمن له في الخطاب عهد .
ولذا يري ابن عربي أن الأديان كلها حق ، وأن المجوس عبدة النار والمشركين عابدي الأوثان ليسوا كفار وضلالا ، بل مذاهبهم هي عين الهدي والإيمان ، لأنهم حين عبدوا النار والحجارة والصلبان ، ما عبدوا إلا الله عز وجل الذي تنكر وظهر في صور معبوداتهم ، وأفضل صورة تتنكر فيها ذات الله هي صورة الإنسان ، والصوفية احتجوا بآيات الاستخلاف على أن الله قد يغيب ويظهر في صورة الإنسان أو في صورة الخليفة .
ومن هنا فإن شيخ الإسلام ابن تيمية في خضم حملته على غلاة الصوفية بالغ في نفي كون الإنسان خليفة لله في الأرض خشية الوقوع في ضلالات ابن عربي وأتباعه ، ولذلك نص على أن نفي الخلافة عن الله يتناول هو رد على ابن عربي والغالطين القائلين إن الخليفة هو الخليفة عن الله ، مثل نائب الله وزعموا أن الله خلق آدم على صورته بهذا المعني ، وقد أخذوا من الفلاسفة قولهم إن الإنسان هو العالم الصغير ، وضموا إليه أن الله هو العالم الكبير بناء على أصلهم الكفرى في وحدة الوجود ، وأن الله هو عين وجود المخلوقات ، فالإنسان من بين المظاهر التي يظهر فيها الله هو الخليفة الجامع للأسماء والصفات ، ويتفرع على هذا ما يصيرون إليه من دعوي الربوبية والألوهية ) هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية .
فالذي نفاه شيخ الإسلام أن يكون الإنسان خليفة عن الله في معاني الربوبية ، أما الخلافة عن الله لإقامة الشرع وإظهار توحيد العبودية على سبيل الابتلاء للإنسان ، فلا يمكن لأحد أيا كان أن ينفي هذه المعاني ، لأن نفيها هدم لصريح القرآن والسنة ، وعلى هذا يحمل قول شيخ الإسلام في نفي الخلافة عن الله ، قال :
( والله لا يجوز له خليفة - أي لا يجوز له خليفة في معاني الربوبية يقول ، ولهذا لما قالوا لأبي بكر : يا خليفة الله ، قال لست خليفة الله ولكن خليفة رسول الله حسبي ذلك ، بل هو سبحانه يكون خليفة لغيره ، كما قال النبي صلي الله عليه وسلم: اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل ، اللهم اصحبنا في سفرنا واخلفنا في أهلنا ، وذلك لأن الله حي شهيد مهيمن قيوم رقيب حفيظ غني عن العالمين ، ليس له شريك ولا ظهير ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه ، والخليفة إنما يكون عند عدم المستخلف بموت أو غيبة ، ويكون لحاجة المستخلف إلي الاستخلاف ، وسمي خليفة لأنه خلفه عند الغزو وهو قائم خلفه ، وكل هذه المعاني منتفية في حق الله تعالى وهو منزه عنها ، فإنه حي قيوم شهيد لا يموت ولا يغيب وهو غني يرزق ولا يرزق ، يرزق عباده وينصرهم ، فالله هو الغنى الحميد له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن ، وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ، ولا يجوز أن يكون أحد خلفا منه ولا يقوم مقامه لأنه لا سمي ولا كفء له فمن جعل له خليفة فهو مشرك به ) وهذا كلامه في مجموع الفتاوى 25/45 .
فتأمل قول شيخ الإسلام : ( فمن جعل له خليفة فهو مشرك به ) وهو يعلم أن جميع المفسرين نقلوا عن السلف الرأيين ، ونسبوا إلي عبد الله بن مسعود بأوجه صحيحة ، قوله في معني إني جاعل في الأرض خليفة ( أي خليفة مني يخلفني في الحكم بين خلقي ) ، فهل يعقل أن شيخ الإسلام يحكم على ابن مسعود بالشرك لأنه جعل الإنسان خليفة عن الله على وجه الابتلاء وإقامة الشرائع في أرضه ؟
لكن الذي يثير الدهشة والعجب أن ابن تيمية معهود عنه التحري والتدقيق وسعة الأفق ، وقول الحق حتى ولو كان على لسان الخصوم ، وكان ينبغي أن تكون هذه المسألة واضحة في كلامه إلي حد كبير ، لكني أعتقد أن شيخ الإسلام ربما آثر عدم الخوض في التفصيل حتى لا يأخذ عنه الصوفية حجة بسوء فهمهم ، أو ربما بينها لكنها لم تصل إلينا ، غير أن شيخ الإسلام ابن تيمية لو كان حيا بيننا الآن وقيل له : الخلافة عن الله لم تقتض غياب الحق عن الخلق ولكن اقتضت وجود عالم الغيب والشهادة ، وأن يكون الله غيبا بالنسبة للإنسان ، وأن الإنسان مستخلف في الأرض على وجه الابتلاء وإظهار العبودية ، لا على معني المشاركة لله في الربوبية أو في شيء من أوصافه ، وأن الإنسان خليفة لله على وجه الكمال لا على وجه النقص ، لا نظن أن شيخ الإسلام ينكر ذلك .
وإذا كان غلاة الصوفية على ضلال مبين كابن عربي وتلاميذ مدرسته ، إلا أن الله أوجب علينا تحرى الصواب واتباع الكتاب والسنة ، وقول الحق حتى ولو كان على لسان من نكرهه :
 يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ  ( المائدة /8) .
فالخليفة في اصطلاح أوائل الصوفية قد يتوافق معناه مع ما ورد في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، وقد يكون معناه معني كفريا باطل كما أشار إلي ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ، فالأوائل منهم يعنون بالخليفة آدم وذريته حيث استخلفهم الله في الأرض وابتلاهم فيها واستأمنهم على ملكه ، كما ذكرنا ذلك عن أبي سعيد الخراز (ت:279هـ) عندما ذكر في شأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والعلماء والصالحين من بعدهم رضي الله عنهم ، كيف ملكوا الدنيا وكانوا أزهد الناس فيها ؟ وكيف كانوا أمناء لله تعالى في أرضه ، وهم الذين عقلوا عن الله تعالى أمره ونهيه ، وفهموا لماذا خلقهم وماذا أراد منهم فسمعوا الله عز وجل يقول :
 آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلكُمْ مُسْتَخْلفِينَ فِيهِ  ( الحديد/7) ويقول :  ثُمَّ جَعَلنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ  ( يونس /14) فأيقن القول أنهم وأنفسهم لله تعالى ، وكذلك ما خولهم وملكهم فإنما هو لله ، غير أنهم في دار اختبار وبلوى وخلقوا للاختبار والبلوى في هذه الدار ، فمن ملك منهم شيئا من الدنيا فهو معتقد أن الشيء لله تعالى لا له إلا من طريق حق ما خوله الله تعالى واستخلفه ، وهو مبتلي به حتى يقوم بالحق فيه فكانوا خزانا لله جل ذكره خارجين من ملكهم في ملكهم ، ناعمين بذكر الله وعبادته غير ساكنين إلي ما ملكوا ، لا يستوحشون من فقده إن فقدوه ولا يفرحون به إن وجدوه ، وهذا كلام أبي سعيد الخراز في كتابه الصدق ص39:32 ، ولا شك أن هذا معني لا غبار عليه تشهد له الأدلة القرآنية والنبوية .
نعود إلي موضوعنا ونقول : لماذا قال الله لملائكته إني جاعل في الأرض خليفة ؟ والجواب أن الله تعالى أراد أن يبتلي الملائكة والجان في قضية استخلاف الإنسان .
فقد ورد في القرآن والسنة ما يدل على أن الله خلق الملائكة والجن قبل الإنسان ، وأن الملائكة خلقت من نور ، والجن خلق من نار ، ولم يذكر القرآن تفاصيل نشأة هذه المخلوقات ، غير أن الملائكة كانت عابدات مسبحات ، وكان الجن ذرية من نسل الجان ، فهو أصلهم كما أن آدم أصل الإنسان ، وكانوا أيضا في موضع ابتلاء وامتحان ، على وجه مخصوص يعلمه الله ، فهو سبحانه وحده الذي يعلم تفاصيل نشأة الجن ، وكيف تحققت حكمته عند خلقهم ، وإن كان قد ذكر لنا أنه خلقنا وخلقهم لعبادته فقال :  وَمَا خَلقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلا ليَعْبُدُونِ  ، لكن الإنسان سيؤدي العبادة لله من خلال ابتلائه بالاستخلاف في الأرض ، أما الجن فسيؤدي العبادة من خلال دائرة أوسع من الأرض تتناسب مع قدراتهم في الوصول إلي مختلف المجرات تحت السماء الدنيا ، فمدارك الجن تختلف عن مداركنا وطبيعتهم تختلف عن طبيعتنا .
فإذا كانت الأرض محلا لوجودنا ، وأساسا في استخلافنا وابتلائنا ولا يمكننا أن نحيا بعيدا عنها إلا بخصائصنا كما قال تعالى في وصفها ووصفنا  مِنْهَا خَلقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى  فإن الجن يختلفون عنا بسعة قدراتهم ، وسرعة حركاتهم ، وصلاح إمكانياتهم في الانتقال بين السماء والأرض ، غير أن مجال ابتلائهم محصور في دائرة أوسع من دائرة الأرض التي ابتلي فيها الإنسان ، ولذا قال تعالى في سورة الرحمن :  يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلا بِسُلطَانٍ  فقدم الجن على الإنس ، ثم قدم مجال ابتلائهم على مجالنا ، غير أن ما يعنينا من العلم بهم ، ويكفينا نحن في علاقتنا بهم ، قد ذكره الله في القرآن وبينه الرسول في السنة بلا بقصان .
وقد كان بين الملائكة شخص من بني الجان يسمي إبليس أو ما يسمي الآن بالشيطان ، رفعه الله إلي منزلة الملائكة ، وإن كنا لا ندري التفاصيل التي تبين السبب في وجوده بينهم ، وكيف حدث هذا عندهم ، لكنه كان يشاركهم في التسبيح والتقديس والطاعة والعبادة .
ولما خلق الله الإنسان أبقاه حينا من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ، ولا تعرف الكائنات له قدرا ولا شرفا ، كما قال سبحانه وتعالي :  هَل أتي على الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا إِنَّا خَلقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَليهِ فَجَعَلنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيل إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا  ، قال ابن حجر : ( المراد بالذكر هنا في قوله لمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ، القدر والشرف أي كان موجودا ولكن لم يكن له قدر يذكر به ) ، وقال القرطبي : ( الذكر بمعني الشرف والقدر تقول فلان مذكور أي له شرف وقدر ، أي قد أتي على الإنسان حين لم يكن له قدر عند الخليقة ثم لما عرف الله الملائكة أنه جعل آدم خليفة وحمله الأمانة التي عجزت عنها السماوات والأرض والجبال ، ظهر فضله على الكل فصار مذكورا ) وقال الطبري : ( أتي عليه وهو جسم مصور لم تنفخ فيه الروح أربعون عاما فكان شيئا غير أنه لم يكن شيئا مذكورا ، ومعني قوله لم يكن شيئا مذكورا ، أي لم يكن شيئا له نباهة ولا رفعة ولا شرف ، إنما كان طينا لازبا وحمأ مسنونا ) .
ولما كانت الملائكة والجن من المخلوقات التي وجدت في السماوات والأرض على وضعها في سالف الزمان ، أيام الرتق والدخان ، فإن الله لما خلق الإنسان ابتلي به جميع الكائنات ، فكان موقف المخلوقات منه على نوعين :
الأول : نوع شارك الإنسان في قبول الأمانة أو رفضها ، ابتلي الله جميعهم بها ، وهي السماوات والأرض والجبال ، كما قال رب العزة والجلال :  إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ على السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالجِبَال فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا  فابتلي الله الإنسان أولا بالسماوات والأرض والجبال ، فعرض الأمانة بعدله على هذه المخلوقات ، فرفضتها وقبلها الإنسان ، ثم خير الله من رفضها في الإتيان بلا عصيان ، طوعا أوكرها لخدمة الإنسان :  ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين  ، فسخرها بعدله وقدرته ، وهيأها بأمره وحكمته ، استعدادا لبداية رحلتها مع الإنسان ، وتمكينه من أدائه الأمانة على طول الزمان ، فقال تعالى :  هُوَ الذِي خَلقَ لكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَي إلي السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُل شَيْءٍ عَليم ٌ وهذه الآية كما هو ظاهر اشتملت على علاقة الإنسان بمن رفض الأمانة من المخلوقات فقط .
وقوله وهو بكل شيء عليم يعني كما تقدم أنه الوحيد الذي يعلم سر تهيئة السماوات والأرض على الوضع الجديد لا يعلم ذلك غيره ، ولذا ذكر الله بعدها مباشرة استخلافه للإنسان فقال :  وَإِذْ قَال رَبُّكَ للمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَليفَةً  فأصبح الإنسان شيئا مذكور مميزا عن غيره بعد أن كان شيئا مجهول .
الموقف الثاني : موقف بقية المخلوقات التي وجدت قبل الإنسان ونالت أعلى درجات القرب والإيمان ولم تشاركه مع المخلوقات في حمل الأمانة والامتحان وهؤلاء هم الملائكة ومعهم إبليس الذي يمثل جنسه من الجن في الطاعة بلا عصيان ، فإبليس على رأي جمهور المفسرين هو الجان ، أبو الجن وأصلهم ، قال الشوكاني في قوله تعالى :  وَالجَانَّ خَلقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُوم ِ ( الجان أبو الجن عند جمهور المفسرين وقال عطاء والحسن وقتادة ومقاتل : هو إبليس ، ومعني من قبل من قبل خلق آدم ) ، وقال ابن جرير : ( عني بالجان ههنا إبليس أبا الجن ).
فابتلي الله بقية المخلوقات التي وجدت قبل الإنسان ونالت أعلى درجات القرب والإيمان ولم تشاركه مع المخلوقات في حمل الأمانة والامتحان ، ابتلاهم بالإنسان ليري موقفهم ممن استحلفه دونهم ، وما يقولون فيما قضي به ربهم ، فقال الله تعالى مخاطبا لهم :  إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَليفَةً  انظر كيف تتحقق حكمة الله في خلقه ، فقد رتب الله على رد فعلهم تجاه استخلاف الله للإنسان حكمته في تحقيق عدل الله بهم ، كما تحققت حكمته من قبلهم حين كرم الإنسان وقضي بتسخير من رفض الأمانة لمن قبلها ، فالحمد لله رب العالمين أن ظهرت حكمته في الخلق أجمعين .
لكن السؤال الآن ، هل الملائكة في ردها على ربها كانت مستنكرة أم مستفسرة ؟ علمنا أن الله تعالى لما قال لملائكته :  إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَليفَةً  أراد بذلك أن يبتلي الملائكة بالإنسان ، ويبتلي إبليس على وجه الخصوص قبل أن يتحول إلي شيطان ، فكان رد فعلهم أن قالوا :  أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لكَ  .
الرد المتوقع من الملائكة ومعهم إبليس أن يكون بخلاف ما صدر منهم ، كأن يقولوا مثلا : أنت ربنا والكل عبيدك افعل بنا أو بغيرنا ما تشاء إنك أنت العليم الحكيم ، أما قولهم : أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ؟ عليه تعقيب بسؤال : ومن أين علموا أنه سوف يفسد في الأرض ويسفك الدماء ؟ وهل كل مفسدون حتى الرسل والأنبياء ؟ ، ولذلك رد الله عليهم قولهم فقال لهم بعد ذلك :  إِنِّي أَعْلمُ مَا لا تَعْلمُونَ  وقال أيضا بعد أن أثبت لهم أن آدم في أوصافه مناسب لاستخلافه لاسيما لو علمه الأسماء :  قَال أَلمْ أَقُل لكُمْ إِنِّي أَعْلمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ  .
وقول الملائكة :  أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لكَ  فيه ذكر لأنفسهم بالفضل والإمكان ، لتولي الخلافة التي سينالها الإنسان ، وتقليل من شأنه بإمكانية العصيان ، ومعلوم أن الراسخين من العابدين إذا بلغ خضوعهم منتهاه ، كشأن النبي صلي الله عليه وسلم عندما تورمت قدماه ، لا يذكرون عبادتهم لله إلا على وجه الذل والانكسار ، والتقصير والافتقار ، فعن المغيرة بن شعبة  أنه قال :
( قَامَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم حتى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ فَقِيل لهُ غَفَرَ اللهُ لكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ قَال أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا ) وهو حديث صحيح رواه البخاري .
فلم يكن رد الملائكة على النحو المطلوب ، وليس هذا شأن المحب في سلوكه مع المحبوب ، فسبحانه وتعالي علامُ الغيوب ومقلبُ القلوب ، يتدارك بفضله من شاء من خلقه ، ويذل من شاء بعدله في ملكه ، وحكمته في خلقه تفوق التصور والحدود ، لهذا ابتلاهم جميعا بالسجود ، فلما قالوا :  أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لكَ  ، قال الله آمرا لهم مختبرا لمدي صدقهم في قولهم :  وَإِذْ قُلنَا للمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْليسَ  وفي موضع آخر قال :  فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ، إِلا إِبْليسَ أبي أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ  .
روي عن ابن عباس قال : إياكم والرأي فإن الله تعالى رد الرأي على الملائكة ، وذلك أن الله قال :  إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَليفَةً  ، قالت الملائكة أتجعل فيها من يفسد فيه ، قال : إني أعلم ما لا تعلمون ) ، وسياق الآيات يقتضي أنهم أجابوا بالرأي كما ذكر ابن عباس ،
أما القول القائل بأن الملائكة خاطبت ربها بخطاب مضمر مفاده أنه قال للملائكة : إني جاعل في الأرض خليفة ، قالوا : ربنا وما يكون ذاك الخليفة ؟ قال : يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا ، فقالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ... الآية ، فلو كان اعتماد القائلين ذلك على ظاهر الآية ، فهو بعيد لا يدل عليه ظاهر النص ولا حتى لوازمه ، وهو من قبيل التأويل بغير دليل ، فلا يقبل مثل هذا الكلام إلا بدليل مرفوع .
وقد قال بعضهم أيضا : إن الملائكة الذين قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء خلقوا من نار السموم ، وكانوا من قبيلة إبليس وليسوا من الملائكة الذين في السماوات ، أو الذين خلقوا من نور ، فلما علمت الملائكة الذين خلقوا من نور مؤاخذة الله على الذين خلقوا من نار السموم فيما تكلموا به من رجمهم بعلم الغيب الذي لا يعلمه غيره ، والذي ليس لهم به علم ، قالوا سبحانك تنزيها لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره ، تبنا إليك لا علم لنا إلا ما علمتنا ، كما علمت آدم ، فقال : يا آدم أنبئهم بأسمائهم ، يقول : أخبرهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال : ألم أقل لكم أيها الملائكة الذين خلقوا من نار السموم ، إني أعلم غيب السماوات والأرض ولا يعلمه غيري ، وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ، يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار .
وقد نسب ابن جرير الطبري هذه الرواية إلي ابن عباس  وقال : ( هذه الرواية عن ابن عباس تنبئ عن أن قوله تعأي ، وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة خطاب من الله جل ثناؤه لطائفة خاصة من الملائكة دون الجميع ، وأن الذين قيل لهم ذلك من الملائكة كانوا قبيلة إبليس خاصة ، وأن الله إنما خصهم بذلك امتحانا منه لهم وابتلاء ، ليعرفهم قصور علمهم ، وأن كرامته لا تنال بقوي الأبدان وشدة الأجسام ، كما ظنه إبليس عدو الله ، ويصرح ابن الطبري بأن قولهم لربهم أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء كانت هفوة منهم ورجما بالغيب .
لكن هذا الكلام يحتاج إلي دليل ثابت واضح تطمئن إليه النفس ، ولم أجد فيما وقع تحت يدي نصا صحيحا مرفوعا في الموضوع ، وكل ما ورد فيه مقال ويحتاج إلي النظر والاستبصار .
مثل ما أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب التوبة عن أنس  قال : ( قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: إن أول من لبي الملائكة ، قال الله : إني جاعل في الأرض خليفة ، قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ، قال : فزادوه ، يعني اعترضوا عليه فأعرض عنهم ، فطافوا بالعرش ست سنين يقولون : لبيك لبيك اعتذارا إليك ، لبيك لبيك نستغفرك ونتوب إليك ) .
لكن هناك سؤالان لا يفارقان الأذهان ويفتقران إلي الممثل د من البيان الأول : كيف علمت الملائكة أن الإنسان يمكن أن يفسد في الأرض أو يسفك الدماء ؟ والثاني : هل هي مستنكرة أم مستفسرة ؟ في الحقيقة لم يرد نص صريح يبين كيف علمت الملائكة أن الإنسان سيفسد في الأرض أو يسفك الدماء ؟ فالإجابة عبارة عن اجتهادات للمفسرين كقول بعضهم : علمت الملائكة ذلك من الجن لأنهم أسبق من الإنس ، فأفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء ، وقيل : علموا ذلك لأن الله هو الذي أخبرهم مسبقا بأنه سيخلق الإنسان ليفسد في الأرض ويسفك الدماء ؟ فهناك إضمار في الكلام إظهاره أنه قال لهم إني جاعل في الأرض خليفة ، قالوا : يا ربنا وما يكون ذاك الخليفة ؟ قال : يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا ، فقالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، وهذا بعيد جدا عن ظاهر الآيات ومفهومها كما تقدم .
وقد قال بعضهم أيضا أن الملائكة الذين قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ليسوا من الملائكة الذين خلقوا من نور ، بل خلقوا من نار السموم ، وكانوا من قبيلة إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السماوات ، وقالوا ما قالوا عن آدم شهادة منها بالظن وقولا على الله بلا علم .
وهناك قول آخر وهو الأقرب من وجهة نظري إلي الصواب ، لأنه مبني على معني ما ورد في الكتاب ، ولا يحتاج إلي المقارنة والنظر فالملائكة علمت ذلك من معني الاستخلاف نفسه ، فالمستخلف في الشيء أمين عليه ، فيمكن أن يؤديه إلي صاحبه ويمكن أن يستحوز عليه ، ويستأثر به لنفسه ، ظلما وكفرا بالحقوق ، ولو أدي ذلك إلي القضاء على الآخرين ، وخصوصا إذا كانوا على ظلمه شاهدين ، أو ذكروه أن يرجع إلي رب العالمين كما لو فرضنا مثلا بقياس الأولي ، وقياس الأولي يجوز في حق الله لقوله تعالى :
( للذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَللهِ المَثَلُ الأعلى وَهُوَ العَزيزُ الحَكِيمُ ) (النحل /60) ، لكن لا يجوز في حقه قياس التمثيل أو قياس الشمول ، لقوله تعالى : ( ليْسَ كَمِثْلهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) (الشورى/11) يقول شيخ الإسلام : ( والقياس نوعان : قياس الشمول ، وقياس التمثيل .. واستعمال القياس في الأمور الإلهية لا يكون إلا على وجه الأولي والأحرى ، وبهذه الطريقة جاء القرآن ، وهي طريقة سلف الأمة وأئمتها فإن الله سبحانه لا يماثله شيء من الموجودات في قياس التمثيل ، ولا يدخل في قياس شمول تتماثل أفراده ، بل ما ثبت لغيره من الكمال الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه فهو أحق به وما تنزه عنه غيره من النقائص ، فهو أحق بالتنزه منه كما قال تعالى :
( للذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَللهِ المَثَلُ الأعلى ) (النحل /60) ) .
نعود إلي موضوعنا : لو فرضنا مثلا أن صاحب مزرعة استخلف في مزرعته بعض العاملين ، استخلفهم فيها فترة معينة على وجه الابتلاء والاختبار ، ليري الولاء من المحبين ، ويظهر العداء المكنون في قلوب المنافقين فخولهم فيها لاستعمارها والاستفادة منها ، ولكن حسب توجيه المالك الحقيقي ، وسوف يراقبهم في كل لحظة من بعيد بحيث يراهم ولا يرونه ، ليري مدي وفائهم ومراقبتهم له ، فإذا طال مكثهم على هذا الحال ، وظنوا أنه لن يحاسبهم في المآل ، وتعددت في نفوسهم الآمال ، فهل كلهم سيتصفون بالوفاء أم أن بعضهم سيفسد في الأرض ويسفك الدماء ، كما هو الواقع من معظم البشر في أرض الله ؟
فالعاقل يعلم أن الاستخلاف يلزم منه أن يكون المستخلف لديه إمكانية الوفاء أو الغدر ، والغدر يترتب عليه الفساد وسفك الدماء ، فالملائكة علمت أن الإنسان يمكن أن يفعل ذلك لو استخلفه الله في الأرض ، وهي عن نفسها تري التعظيم المطلق لله عز وجل ، وهي أقدر على عدم العصيان ، من أجل ذلك قالت :  أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لكَ  وكأنها تقول إن أردت أن تستخلف فاستخلف من لا يعصيك .
أما السؤال الثاني : هل الملائكة مستنكرة أم مستفسرة ؟ لا شك أن الملائكة الذين خاطبهم الله بقوله :  وَإِذْ قَال رَبُّكَ للمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَليفَةً  هم الذين خاطبهم بقوله :  وَإِذْ قُلنَا للمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْليسَ  لأن الله جمع الخطابين في موضع واحد فقال :  وَإِذْ قَال رَبُّكَ للمَلائِكَةِ إِنِّي خَالقٌ بَشَرًا مِنْ صَلصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لهُ سَاجِدِينَ ، فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ، إِلا إِبْليسَ أبي أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ  فإبليس بلا شك كان بين القائلين :  أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لكَ  .
وقد اختلف أهل التفسير في قول الملائكة ، أهو اعتراض أم استعلام واستفسار ؟ فلو قلنا اعتراض ، فكيف ينطبق عليهم قوله تعالى :  وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلدًا سُبْحَانَهُ بَل عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْل وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ  ولو كان استعلاما واستفسارا ، فلماذا رد الله عليهم بقوله لهم :  إِنِّي أَعْلمُ مَا لا تَعْلمُونَ  ؟ مع أن الاستعلام يقتضي البيان من الله لهم ؟ وكيف قالوا :  أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لكَ  التي تحتمل الاعتراض ومدح النفس ؟ ولم لم يقولوا : أنت ربنا فافعل ما تشاء ؟ أو يقولوا ما قالوه بعد أن علم آدم الأسماء ، وأثبت بالدليل عجزهم ؟ أعني أن يقولوا : ( سُبْحَانَكَ لا عِلمَ لنَا إِلا مَا عَلمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَليمُ الحَكِيمُ ) مباشرة بعد قوله لهم :  إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَليفَةً 
ووجه الجمع بين هذه الأقوال أن قولهم :  أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لكَ  قول مشترك ،لم يصدر من الملائكة الذين خلقوا من النور فقط ، ولكن صدر أيضا من إبليس الذي خلق من النار وله حكم الملائكة في الخطاب ، فالاعتراض كان من إبليس لأن الله كشف عن سريرته ، وأبان حقده على آدم وذريته ، وبين غروره واستكباره حيث رأي في نفسه أنه هو والملائكة يعتبرون أفضل لهذه المنزلة الرفيعة التي وصل إليها الإنسان ، أما الملائكة الذين خلقوا من نور فموقفهم كما أشار ابن كثير في التفسير بقوله : ( إنما سؤالهم سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك يقولون : يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء ؟ فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، أي ولا يصدر منا شيء من ذلك ، وهلا وقع الاقتصار علينا ؟ ) .
لكنهم بقولهم هذا كانوا يرغبون أن يكون الخليفة في الأرض على صفة الطاعة المطلقة لا يعصى الله أبد ، ولما كانت هذه صفتهم ، فهم أولي بهذا الوصف من الإنسان الذي يمكن أن يعصى الله عز وجل ، ولذا قالوا ما معناه : لو أردت ان تستخلف استخلف من لا يعصيك ، يعنون أنفسهم أو كما قال ابن كثير : هلا اقتصرت عينا ؟ وذكر عن ابن عباس أنه كان يقول : ( إن الله لما أخذ في خلق آدم عليه السلام قالت الملائكة ما الله خالق خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم منا فابتلوا بخلق آدم ) ، وأيا كان المعني إلا أن الملائكة كانوا يرون الاقتصار عليهم في مسألة الطاعة والاستخلاف ، خشية أن يعصى الإنسان ويسفك الدماء ، والله عظيم لا يعصى ، وكان إبليس يري أنه مع الملائكة أولي بهذه المنزلة الرفيعة التي سيتميز بها الإنسان عمن حوله من الكائنات ؟ فكان جواب الله لهم أنه قال : ( قَال إِنِّي أَعْلمُ مَا لا تَعْلمُون ) ، فالله حكيم في فعله ، والإنسان الذي خلقه الله ليستخلفه في الأرض سوف يعطيه إمكانية العلم بجميع الأشياء التي يتمكن بها من التمييز بين ما ينفعه وما يضره ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
بداية الكون والإنسان – المحاضرة الثامنة
موقف الملائكة من الإنسان
الحمد لله على آلائه وصلوات الله وسلامه على محمد خاتم أنبيائه وعلى آله وأصحابه وأصفيائه ، أما بعد .
فهذه هي المحاضرة الثامنة في السلسلة التي تتعلق ببداية الكون ونشأة الإنسان ، وقد تحدثنا في المحاضرة الماضية عن موقف الملائكة والجان من قضية استخلاف الإنسان ، ولماذا قال الله لملائكته إني جاعل في الأرض خليفة ؟ وعلمنا أن الله تعالى أراد أن يبتلي الملائكة والجان في قضية استخلاف الإنسان ، وعمنا أيضا كيف علمت الملائكة أن الإنسان سيفسد في الأرض ويسفك الدماء ؟ وهل الملائكة في ردها على ربها كانت مستنكرة أم مستفسرة ؟
وعلمنا أن قولهم : ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لك ) ، قول مشترك لم يصدر من الملائكة الذين خلقوا من نور فقط ، ولكن صدر أيضا من إبليس الذي خلق من نار ، وله حكم الملائكة في الخطاب دون الأصل ، فالاعتراض كان من إبليس لأن الله كشف عن سريرته ، وأبان حقده على آدم وذريته ، وبين غروره واستكباره حيث رأي في نفسه أنه هو والملائكة أفضل لقضية الاستخلاف في الأرض من الإنسان ، أما الملائكة الذين خلقوا من نور فقد كانت مستفسرة ولم تكن مستنكرة حيث أطاعت ربها عندما أمرها بالسجود للإنسان .
وقد بين الله عز وجل لهم أن الإنسان فيه قابلية العلم الذي يجعله في أعلى درجات الإيمان وأنه يزداد بمثل ادة العلم خشية من الرحمن ، كما ورد ذلك في غير موضع من القرآن :  إِنَّمَا يَخْشَي اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلمَاءُ  .
ويمكن للعاقل أن يلحظ الترابط بين العلم والقرب من الله ، عندما علم الله آدم الأسماء فكانت سببا للقرب من ربه ، وعندما دعا بني الإنسان إلي النظر في خصائص الأشياء والتعرف على ما لها من الأسماء ، وكيف تدبر العلماء في خلق الله ليزدادوا علما بأسماء خالقهم ، وكيف أن العلم بالأسماء وسيلة العلماء للقرب من الله وباعثا لخشيته وتقواه فقال تعالى :  أَلمْ تَرَي أَنَّ اللهَ أَنْزَل مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلفًا أَلوَانُهَا وَمِنْ الجِبَال جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلفٌ أَلوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلفٌ أَلوَانُهُ كَذَلكَ إِنَّمَا يَخْشَي اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلمَاءُ إِنَّ اللهَ عَمثل زٌ غَفُور ٌ.
فالإنسان أعطاه الله عقلا على مستوي عال من الكمال ، يمكنه التعرف على خصائص الأشياء ، وأن يضع لها ما يشاء من الأسماء ، ثم أثبت لملائكته ذلك من خلال تجربة عملية على أول إنسان ، فعلم آدم عليه السلام أسماء الأشياء من حوله ، وعرفه كيف يزداد بمعرفة خصائصها قربة من ربه ، فيزداد بذلك خشية لله وتعظيما ، وأنه سبحانه وتعالي كان عليما حكيما ، عندما استخلفه في الأرض ، فقال تعالى :  وعلم آدَمَ الأسْمَاءَ كُلهَا ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ على المَلائِكَةِ فَقَال أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ  ، أي صادقين في أنه لا يعرف غير ا القتل وسفك الدماء ، يقول ابن جرير الطبري في جامع البيان :
( معني ذلك أنه قال : أنبئوني بأسماء من عرضته عليكم أيتها الملائكة القائلون : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء من غيرنا ؟ أما إن جعلت الخليفة منا فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، إن كنتم صادقين أي في قولكم إني إن جعلت خليفتي في الأرض من غيركم عصاني وعصتني ذريته وأفسدوا وسفكوا الدماء ، وإن جعلتكم فيها أطعتموني واتبعتم أمري بالتعظيم والتقديس ) .
ثم يتابع ابن جرير شرح الآيات ويبين أن الله قال لهم : فإنكم إن كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء ، الذين عرضتهم عليكم من خلقي ، وهم مخلوقون موجودون ترونهم وتعاينونهم ، وعلمه غيركم بتعليمي إياه ، فأنتم بما هو غير موجود من الأمور الكائنة التي لم توجد بعد ، وبما هو مستتر عن أعينكم من الأمور الموجودة ، أحرى أن تكونوا غير عالمين ، فلا تسألوني ما ليس لكم به علم ، فإني أعلم بما يصلحكم ويصلح خلقي ، وهذا الفعل من الله جل ثناؤه بملائكته الذين قالوا له : أتجعل فيها من يفسد فيها ، هو من جهة عتاب الله لهم ، وهذا نظير قوله تعالى عن نبيه نوح صلوات الله عليه : ( وَنَادَي نُوحٌ رَبَّهُ فَقَال رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ قَال يَا نُوحُ إِنَّهُ ليْسَ مِنْ أَهْلكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالحٍ فَلا تَسْأَلنِي مَا ليْسَ لكَ بِهِ عِلمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الجَاهِلينَ قَال رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلكَ مَا ليْسَ لي بِهِ عِلمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الخَاسِرِينَ ) .
فكذلك الملائكة سألت ربها أن تكون خلفاءه في الأرض ، يسبحوه ويقدسوه فيها ، حيث اعتقدوا أن الإنسان الذي سيجعله الله خليفة في الأرض سوف يفسد في ويسفك الدماء ، فقال لهم الله جل ذكره : إني أعلم ما لا تعلمون ، ويعني بذلك أني أعلم أن بعضكم فاتحُ المعاصي وخاتمُِها ، وهو إبليس ، فالله تعالى أنكر قولهم ، ثم عرفهم موضع هفوتهم في قيلهم ما قالوا ، بتعريفهم قصور علمهم ، عما هم له شاهدون عيانا ، فكيف بما لم يروه .
ويقول ابن جرير : قوله : أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين أي صادقين أنكم إن استخلفتكم في أرضي سبحتموني وقدستموني ، وإن استخلفت فيها غيركم عصاني وذريته ، وأفسدوا وسفكوا الدماء ، فلما اتضح لهم موضع الخطأ في قولهم ، وبدت لهم هفوة زلتهم ، أنابوا إلي الله بالتوبة ، فقالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ، فسارعوا الرجعة من الهفوة ، وبادروا الإنابة من الزلة .
فلما عجزت الملائكة عن معرفة الأسماء التي علمها الله لآدم في السماء قالوا : ( سُبْحَانَكَ لا عِلمَ لنَا إِلا مَا عَلمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَليمُ الحَكِيمُ ) ، وبين الله فضل آدم عليه الصلاة والسلام فقال : ( قَال يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَال أَلمْ أَقُل لكُمْ إِنِّي أَعْلمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُون ) .
قال الله بعد ذلك : ( وَإِذْ قُلنَا للمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ ) فكان التشريف الأعظم لآدم عليه السلام ، وسائر بنيه على مدار الأيام ، وكان أيضا الابتلاء الأعظم للملائكة عندما وقع عليهم هذا التكليف الذي لا يخطر لهم على بال ، والذي يظهر حكمته على وجه الكمال ، ويحقق في الخلق عدل رب العزة والجلال .
والسؤال الآن : هل يصح السجود لغير الله ؟ ولماذا أمر الله الملائكة وإبليس بالسجود لآدم ؟ والجواب عن السؤال الأول : هل يصح السجود لغير الله ؟ أن السجود لغير الله إذا لم يكن بأمر الله فهو شرك أعظم ، أما إذا كان بأمره وشرعه فهو من أعظم علامات المحبين الصادقين ، بل هو برهان الموحدين ، لأن أحكام المحبة تقتضى تنفيذ أمر المحبوب دون استفسار أو سؤال ، والتنفيذ يعطي العبودية معني الكمال ، لما فيه من إذلال النفس لمعبودها وخالقها ، ولذا كانت الأحكام التعبدية ، من علامات الصدق في أداء العبودية ، فتقبيل الحجارة والأعتاب والتمسح بالأضرحة والقباب ، شرك أكبر لا يغفر عند الحساب ، إلا بالتوبة الصادقة ، لكن تقبيل الحجر بأمر الله أو الطواف سبعا ببيت الله ، أو صلاة الظهر والعصر ، أربعا بالتحديد على سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم ، من علامات الموحدين الصادقين في دعوى العبودية ، وإن كانوا يجهلون العلة في ذلك ، كما روي البخاري بسنده عن عمر بن الخطاب  أَنَّهُ جَاءَ إلي الحَجَرِ الأسْوَدِ فَقَبَّلهُ فَقَال إِنِّي أَعْلمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لا تَضُرُّ وَلا تَنْفَعُ وَلوْلا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلتُكَ .
وكما حدث لبني إسرائيل عندما عبدوا العجل وأرادوا التوبة ، فابتلاهم الله بشيء لا يخطر ببالهم ، فأمرهم بقتل أنفسهم ، كشرط لقبول توبتهم ، وإثبات صدقهم وولاءهم ، فنفذوا وقتلوا أنفسهم ، فقال تعالى عن ذلك :  وَإِذْ قَال مُوسَي لقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ العِجْل فَتُوبُوا إلي بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلكُمْ خَيْرٌ لكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَليْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ  ، مع أن قتل النفس بغير أمر الله من أعظم الكبائر كما قال تعالى :  مِنْ أَجْل ذَلكَ كَتَبْنَا على بَنِي إِسْرَائِيل أَنَّهُ مَنْ قَتَل نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَل النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا  .
يقول المرزوى : ( وقد حرم الله علينا أن نقتل أنفسنا فقال :  وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَل ذَلكَ عُدْوَانًا وَظُلمًا فَسَوْفَ نُصْليهِ نَارًا وَكَانَ ذَلكَ على اللهِ يَسِيرًا  (النساء/30:29) ، فحرم علينا أن نقتل أنفسنا وأن يقتل بعضنا بعضا ، ثم أخبرنا أنه جعل توبة بني إسرائيل التي يغفر لهم بها ويقبل بها توبتهم أن يقتل بعضهم بعضا ، فقال :  فَتُوبُوا إلي بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ  (البقرة/54) ثم روي المرزوى بسنده عن على ابن أبي طالب  أنه قال : ( قالوا : يا موسي سل ربك ما توبتنا ؟ فسأل ربه فقال : توبتهم أن يقتل بعضهم بعضا ، فقالوا نريد أمرا أهونَ من هذا ، فقال لا بد من ذلك ، فقتل بعضهم بعضا بالخناجر ما يبالي الرجل من قتل : هل قتل أباه أو ابنه أو أخاه حتى قتل سبعون ألفا وموسي قائم ينظر ، فأوحي الله إليه أن مرهم أن يرفعوا أيديهم فقد غفرت لمن قتل ، وتبت على من بقي منهم فكفوا أيديهم ) .
وقال ابن حزم في المحلي : ( لا يحل لمسلم يدري أن وعد الله حق أن يعترض على ما حكم به رسول الله صلي الله عليه وسلم بأن يقول لا يجوز هذا الحكم .. أتري لو أمرنا رسول الله صلي الله عليه وسلم بقتل أهل مدينة بأسرها ، أو بقتل أمهاتنا وآبائنا وأنفسنا ، كما أمر موسي عليه السلام قومه بقتل أنفسهم ، إذ أخبر الله تعالى بذلك في قوله :  فَتُوبُوا إلي بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلكُمْ خَيْرٌ لكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَليْكُمْ  أكان يكون في الإسلام نصيب لمن يعترض على ذلك ، إن هذا لعظيم جدا ) .
أما لماذا أمر الله الملائكة وإبليس على وجه الخصوص بالسجود لآدم عليه السلام ؟ فذلك لأسباب عديدة أظهرت الحكمة الإلهية في فعله سبحانه وتعالي أبرزها يتجلى الأمور الآتية :
الأمر الأول : أن يعلم الإنسان مكانته عند الله ، وعظم المهمة التي كلفه بها ، والتي من أجلها ، أسجد له ملائكته ، فيدفعه ذلك إلي الطاعة والإيمان ، ليتساءل العقلاء ويفكروا بإمعان ، أبعد هذا الفضل والتكريم يتجرأ الإنسان على الكفر والعصيان ؟ ، فبعد هذه المنزلة التي وصفها الله في القرآن ، لو كفر الإنسان بربه واتبع سبيل الشيطان ، استحق بعدل الله أشد العذاب في النيران ، كما قال سبحانه وتعالي :  إِنَّا أَعْتَدْنَا للظَّالمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالمُهْل يَشْوِي الوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا  ، ولو عصت جميع الإنسانية ربها لكانت الملائكة التي سجدت للإنسان أولي بهذه المنزلة منه ، كما قال سبحانه وتعالي :  وَلوْ نَشَاءُ لجَعَلنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ  .
الأمر الثاني : أن أمر الله بالسجود لآدم ، ابتلاء للملائكة واختبار في إظهار صدقهم لمَّا قالوا في وصف أنفسهم :  وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لكَ  ، فكانت حقيقة الابتلاء في قوله لهم :  اسْجُدُوا لآدَمَ  ، وهو أمر تكليفي وحكم تعبدي ، لينظر مدي تعظيمهم وطاعتهم لله فيما أمر ، حتى ولو كان الأمر بالسجود لآدم عليه السلام ، فمن سجد منهم فقد صدق في قوله ، ومن امتنع كان ادعاؤه للتسبيح والتقديس كذبا وزورا وعلوا واستكبارا وانطبق عليه قوله تعالى :  وَمَنْ يَقُل مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلكَ نَجْزيهِ جَهَنَّمَ كَذَلكَ نَجْزي الظَّالمِينَ  ،  فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ، إِلا إِبْليسَ أبي أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ  .
الأمر الثالث : أن سجود الملائكة لآدم إقرار منهم بمنزلة الإنسان وتعظيما للدور الذي سيقوم به ، وأنه خليفة الله في الأرض على وجه الابتلاء ، وأنه الوحيد الذي ميزه الله عن الكائنات من حوله ، فهو القائم عليها بأمر الله وشرعه ، وهو المستفيد منها إلي قيام الساعة ، فمن سجد لآدم أقر بذلك ، ومن امتنع منهم كان معترضا على فعل الله مشككا في حكمته .
الأمر الرابع والعظيم : أن أمر الله لملائكته بالسجود لآدم عليه السلام ، لا يدل فقط على مطالبتهم بالإقرار والتعظيم للإنسان الذي كرمه الله ، ولكن سجودهم سيتبعه تكليف الله لهم جميعا ، بالقيام على خدمة الإنسان وأموره ، وشئونه اللازمة لتحقيق استخلافه في الأرض ، والقيام أيضا على أمور الكائنات من حوله ، لكي تظل مسخرة للإنسان إلي يوم القيامة ، وأنهم إذا سجدوا لن يعصوا لله أمرا في تدبير شأن الإنسان .
وهم في ذلك كما قال تعالى :  لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ  ولو خالف أحدهم أمر الله فسوف يعذبه في جهنم عذابا شديدا ، كما جاء في سورة الأنبياء عن الملائكة :  وَمَنْ يَقُل مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلكَ نَجْزيهِ جَهَنَّمَ كَذَلكَ نَجْزي الظَّالمِينَ  فوافقت الملائكة بسجودهم وخضعوا ولم يستكبروا ، وأبدوا بذلك الاستعداد التام لأمر الله في تدبير شئون الحياة ، والله سبحانه وتعالي قادر على ألا يجعل الملائكة أسبابا لتدبير الخلق ، وأن يتركهم على وضعهم الأول قبل وجود الإنسان في الملك ، فقدرة الله مطلقة يقول للشيء كن فيكون ، وهو قادر على أن يسير العالم بالأسباب المشهودة التي استخلف فيها الإنسان ، أو يسيره بخوارق العادات كما أجراها على العلل والمعلولات ، لكنه جعل الملائكة أسباب غيبية لتدبير معيشة الإنسان ، كالأسباب المشهودة التي تراها العينان ، وكلاهما عند الله في الابتلاء سيان ، وتلك حكمته أن يبتلي الملائكة بالإنسان ، ويبتليه بهم في الركن الثاني من أركان الإيمان .
فانظر لماذا أرسل جبريل بين الصحابة يسألهم عن الإسلام والإيمان والإحسان ، وانظر كيف قال للرسول صلي الله عليه وسلم فأخبرني عن الإيمان ؟ فقال : أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ قَال جبريل صَدَقْت َ) ، فلما سجدوا لآدم وأقروا بمكانة الإنسان ، قسمهم الله ونوعهم ، وكلفهم ووظفهم في وظائف بالغة التخصص ، فهم بأمر الله قائمون على شئون الإنسان ، يدبرون أمره على نحو ما جاء في القرآن :  لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ  ، وكما قال الله عز وجل :  يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ  .
فجعل الله منهم فريقا يبلغ كلام الله إلي الأنبياء والمرسلين ، وجعل على رأسهم الروح الأمين ، قال تعالى :  يُنَزِّلُ المَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ على مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِي  ، وقال عن جبريل عليه الصلاة والسلام :  نَزَل بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ ، على قَلبِكَ لتَكُونَ مِنْ المُنذِرِينَ ، بِلسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ  ، وقال :  قُل مَنْ كَانَ عَدُوًّا لجِبْرِيل فَإِنَّهُ نَزَّلهُ على قَلبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقًا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًي وَبُشْرَي للمُؤْمِنِينَ  وبهذا الوحي يذكر الله الإنسان بفطرته ، ويشرع لكل مستخلف منهجه في رعيته .
وجعل الله منهم فريقا للعد والإحصاء ، سماهم الكرام الكاتبين ، وجعلهم على عمل الإنسان قائمين ، يسجلون ويمحصون ، ويدونون ويدققون ، كل صغيرة وكبيرة في سعيه وكسبه ، ليحاسبه ربه على ما استرعاه من الأمانة فيشعر المؤمن يوم القيامة بالكرامة ، ويتقلب الكافر في الحسرة والندامة ، فقال تعالى :  أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلي وَرُسُلُنَا لدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ  .
وقال في إدراكهم لأقوالنا :  مَا يَلفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ  وقال في إدراكهم لأفعالنا :  وَإِنَّ عَليْكُمْ لحَافِظِينَ ، كِرَامًا كَاتِبِينَ ، يَعْلمُونَ مَا تَفْعَلُونَ  حتى إذا جاء الكافر يوم القيامة تعجب من دقة حسابهم ، ومدي قدرتهم وكفاءتهم في تسجيل الأعمال :  وَوُضِعَ الكِتَابُ فَتَرَي المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلتَنَا مَال هَذَا الكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلمُ رَبُّكَ أَحَدًا  .
والله جعل منهم فريقا يقوم بقبض الأرواح ، واستدعاء الإنسان من عالم الشهادة إلي عالم الغيب ، وجعل على رأسهم مَلكَ الموت ، فقال تعالى :  قُل يَتَوَفَّاكُمْ مَلكُ المَوْتِ الذِي وُكِّل بِكُمْ ثُمَّ إلي رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ  ، وقال سبحانه :  حتى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لأ يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إلي اللهِ مَوْلأهُمُ الحَقِّ أَلأ لهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ  ، وقال تعالى عن كيفية استقبالهم للمؤمنين عند وفاتهم :  الذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ المَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَليْكُمْ ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ 
وقال أيضا عن كيفية استقبالهم للكافرين عند وفاتهم :  وَلوْ تَرَي إِذْ يَتَوَفي الذِينَ كَفَرُوا المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ   وَلوْ تَرَي إِذْ الظَّالمُونَ فِي غَمَرَاتِ المَوْتِ وَالمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ اليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ على اللهِ غَيْرَ الحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ  .
وجعل منهم خزنة الجنان ، قائمين على أمور المؤمنين من بني الإنسان :  جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَليْهِمْ مِنْ كُل بَابٍ ، سَلامٌ عَليْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَي الدَّارِ  .
وجعل الله من الملائكة أيضا خزنة النيران ، يبكتون الكافرين من بني الإنسان ، ويقومون على متابعة المعذبين بأشد ألوان العذاب ، ليزدادوا حسرة بعد مرارة العرض والحساب ، فقال تعالى :  وَمَا جعَلنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً  وقال أيضا :  يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْليكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ عَليْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ  .
وقال عن مخاطبة أهل النار لمالك :  إِنَّ المُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالدُونَ ، لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلسُونَ ، وَمَا ظَلمْنَاهُمْ وَلكِنْ كَانُوا هُمْ الظَّالمِينَ ، وَنَادَوْا يا مالك ليَقْضِ عَليْنَا رَبُّكَ قَال إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ، لقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ للحَقِّ كَارِهُونَ  ، وقال أيضا عن الحوار بين الملائكة وأهل النار :  وَللذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المَصِيرُ ، إِذَا أُلقُوا فِيهَا سَمِعُوا لهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ ، تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الغَيْظِ كُلمَا أُلقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلهُمْ خَزَنَتُهَا أَلمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ، قَالُوا بَلي قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلنَا مَا نَزَّل اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ ، وَقَالُوا لوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ، فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ  .
وجعل الله من الملائكة أهل الإغاثة والنصر ، يقاتلون مع المؤمنين بإذن الله في كل عصر ، كما قال تعالى :  إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلفٍ مِنْ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ ، وَمَا جَعَلهُ اللهُ إِلا بُشْرَي وَلتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَمثل زٌ حَكِيمٌ  وقال أيضا :  إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إلي المَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الذِينَ آمَنُوا سَأُلقِي فِي قُلُوبِ الذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُل بَنَانٍ  .
وجعل منهم الموكل بالمطر ، والموكل بالجبال ، والموكل بحضور مجالس الذكر ، والموكل بالنطفة في الرحم ، حتى حملة العرش ومن يطوفون حوله لهم صلة وثيقة بكل مؤمن ، فهم بالإضافة إلي تسبيحهم وعبادتهم لله يدعون للتائبين المتبعين لهدي الله ، كما قال تعالى : ( الذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ للذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُل شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلمًا فَاغْفِرْ للذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ ، رَبَّنَا وَأَدْخِلهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العزيز الحَكِيمُ ، وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِي السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ ) .
حتى إن المؤمن ليعجب إذا علم أن الله كلف ملكين كل يوم ، ليس لهم عمل إلا أنها ينزلان من السماء ، أحدهم يدعو لكل منفق ، والآخر يدعو على كل ممسك : فقد روي البخاري ومسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ  أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَال : ( مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ إِلا مَلكَانِ يَنْزِلانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلفًا وَيَقُولُ الآخَرُ اللهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلفًا ) وتفاصيل ما ذكر عن الملائكة في القرآن والسنة يضيق المقام عن ذكره وله مواضعه في تراث الأمة .
يقول ابن القيم رحمه الله : ( كل حركة في السماوات والأرض من حركات الأفلاك والنجوم والشمس والقمر والرياح والسحاب والنبات والحيوان ، فهي ناشئة عن تدبير الملائكة ، كما قال تعالى في الآية الرابعة من سورة الذاريات :  فَالمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا  وكما قال في الآية الخامسة من سورة النازعات :  فالمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا  ، فأقسم بَالمُقَسِّمَاتِ والمدبرات ، وهم الملائكة عند أهل الإيمان وأتباع الرسل ، وأما المكذبون بالرسل المنكرون للصانع فيقولون هي النجوم ) .
ثم ذكر ابن القيم أن ما ورد في الكتاب والسنة يدل على أن الملائكة أصناف وأنها موكلة بأصناف المخلوقات وأنه سبحانه وكل بالجبال ملائكة ، ووكل بالسحاب والمطر ملائكة ، ووكل بالرحم ملائكة ، تدبر أمر النطفة حتى يتم خلقها ، ثم وكل بالعبد ملائكة ، لحفظ ما يعمله وإحصائه وكتابه ، ووكل بالموت ملائكة ، ووكل بالسؤال في القبر ملائكة ، ووكل بالأفلاك ملائكة يحركونها ، ووكل بالشمس والقمر ملائكة ، ووكل بالنار وإيقادها ، وتعذيب أهلها وعمارتها ملائكة ، ووكل بالجنة وعمارتها ، وغرسها وعمل آلاتها ملائكة ، فالملائكة أعظم جنود الله ، ومنهم المرسلات عرفا ، والناشرات نشرا ، والفارقات فرقا ، والملقيات ذكرا ، ومنهم النازعات غرقا ، والناشطات نشطا ، والسابحات سبحا ، فالسبقات سبقا ، ومنهم الصفات صفا ، فالزجرات زجرا ، فالتاليات ذكرا ، ومنهم ملائكة الرحمة ، وملائكة العذاب ، وملائكة قد وكلوا بحمل العرش ، وملائكة قد وكلوا بعمارة السماوات ، بالصلاة والتسبيح والتقديس إلي غير ذلك من أصناف الملائكة التي لا يحصيها إلا الله .
ولفظ المَلك يشعر بأنه رسول منفذ لأمر مرسله ، فليس له من الأمر شيء ، بل الأمر كله للواحد القهار ، وهم ينفذون أمره ، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ، ولا يشفعون إلا لمن ارتضي وهم من خشيته مشفقون ، يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون ، فهم عباد مكرمون منهم الصافون ومنهم المسبحون ليس منهم إلا له مقام معلوم لا يتخطاه ، وهو على عمل قد أمر به لا يقصر عنه ولا يتعداه ، وأعلاهم الذين عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون ، يسبحون الليل والنهار لا يفترون .
ورؤساؤهم الأملاك الثلاثة ، جبرائيل وميكائيل وإسرافيل الموكلون بالحياة ، فجبرائيل موكل بالوحي الذي به حياة القلوب والأرواح ، وميكائيل موكل بالقطر الذي به حياة الأرض والنبات والحيوان ، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور ، الذي به حياة الخلق بعد مماتهم ، فهم رسل الله في خلقه وأمره ، وسفراؤه بينه وبين عباده ، ينزلون بالأمر من عنده في أقطار العالم ، ويصعدون إليه بالأمر ، قد أطت السماوات بهم وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع إلا وملك قائم أو راكع ، أو ساجد لله تعالى ، ويدخل البيت المعمور منهم كل يوم سبعون ألفا لا يعودون إليه آخر ما عليهم ، والقرآن مملوء بذكر الملائكة وأصنافهم ومراتبهم ، فتارة يقرن الله تعالى اسمه باسمهم ، وصلاته بصلاتهم ، ويضيفهم إليه في مواضع التشريف ، وتارة يذكر حفهم بالعرش وحملهم له ، ومراتبهم من الدنو ، وتارة يصفهم بالإكرام والكرم ، والتقريب والعلو ، والطهارة والقوة والإخلاص ، وكذلك الأحاديث النبوية طافحة بذكرهم ، فلهذا كان الإيمان بالملائكة أحد الأصول ... التي هي أركان الإيمان .
كل هذه الملائكة التي سجدت جميعا لآدم عليه السلام ، كما قال تعالى :  فَسَجدَ المَلائِكَةُ كُلهُمْ أَجْمَعُونَ ، إِلا إِبْليسَ أبي أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ  وكلهم قائمون على أمور الإنسان ، يدبرون العالم من أجله تنفيذا لأمر الله ، يقومون بواجبهم ، مقرين بخالقهم ، مسلمين لحكمته سبحانه فيما يدبرون :  لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ  ونظرا لعظمة دورهم ، وعدله في ابتلائهم ، أقسم الله بهم فقال :  وَالنازِعَاتِ غَرْقًا ، وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ، وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا ، فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا ، فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا  .
وهكذا ظهرت حكمة الله في الأشياء من خلال معني الابتلاء ، فكل هذه الملائكة تقوم على تدبير شئون الإنسان بعدل منه سبحانه عندما ابتلاهم بالسجود لآدم عليه السلام ، كذلك استخلف الإنسان في الأرض وكرمه وسخر له من حوله عن حكمته سبحانه عندما ابتلاهم بعرض الأمانة فرفضتها السماوات والأرض والجبال وقبلها .
والله يذكرنا بالملائكة أنه لو شاء استخلفهم في الأرض بدلا منا ، لو أننا عصيناه ، قال تعالى :  وَلوْ نَشَاءُ لجَعَلنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ  قال ابن جرير الطبري : يقول تعالى ذكره : ولو نشاء معشر بني آدم أهلكناكم فأفنينا جميعكم ، وجعلنا بدلا منكم في الأرض ملائكة ، يخلفونكم فيها يعبدونني ) ثم روي عن ابن عباس  قوله :  وَلوْ نَشَاءُ لجَعَلنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ  يقول : يخلف بعضهم بعضا ) وروي عن مجاهد رحمه الله أنه قال :  وَلوْ نَشَاءُ لجَعَلنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ  قال : يعمرون الأرض بدلا منكم ) .
ولولا أن الله قضي باستخلاف الإنسان في الأرض وابتلائه لكان الناس أمة واحدة لا يعصون كأمة الملائكة ، فقال تعالى :  وَلوْ شَاءَ رَبُّكَ لجَعَل النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلفِينَ ، إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلذَلكَ خَلقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ  وقال أيضا :  وَلوْ شَاءَ اللهُ لجَعَلكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِنْ ليبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إلي اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلفُون َ.
تعالوا نتكلم الآن موقف إبليس من الإنسان ، فلما كان أمر الله للملائكة وإبليس بالسجود لا يدل فقط على مطالبتهم بالإقرار لمنزلة الإنسان الذي جعله الله خليفة في الأرض ، بل سوف ينفذون أمر الله إذا كلفهم بتدبير شئون الإنسان والعالم من حوله ، فإن إبليس أبي أن يكون مع الساجدين ، وأن يدخل في جملة المقرين بهذه المنزلة العظمي التي كرم الله بها الإنسان ، فتملكه العلو والاستكبار ، وأظهر الاعتراض والاستنكار على رب العزة والجلال ، حسدا وحقدا على آدم وذريته ، كيف فضلهم الله بمنزلة أعلى من مكانته ؟
قال تعالى :  فَسَجدَ المَلائِكَةُ كُلهُمْ أَجْمَعُونَ ، إِلا إِبْليسَ أبي أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ، قَال يا إبليس مَا لكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ، قَال لمْ أَكُنْ لأسْجُدَ لبَشَرٍ خَلقْتَهُ مِنْ صَلصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ، قَال فَاخْرُجْ منْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَليْكَ اللعْنَةَ إلي يَوْمِ الدِّينِ  وقال أيضا :  قَال مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَال أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلقْتَهُ مِنْ طِينٍ ، قَال فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ  .
فلما لعنه الله وطرده من رحمته ، وأيقن إبليس بهلاكه وشقوته ، وأنه لا محالة ممنوع من جنته ، أراد أن يحقر من شأن الإنسان ، وأن يشكك في حكمة الرحمن ، وكأنه يقول لربه : إن الإنسان الذي استخلفته في الأرض ووضعته في هذه المنزلة أقل وأحقر من ذلك ، وكنت أنا والملائكة أولي بذلك ، فدعني أحيا إلي يوم القيامة ، أوسوس له فقط بالظلم والطغيان ، ومكني من دعوته إلي الكفر والفسوق والعصيان ، وسوف تري صدق كلامي وحقارة الإنسان ، فقال سبحانه وتعالي يحكي قصة الشيطان :
 قَال رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إلي يَوْمِ يُبْعَثُونَ  ،  قَال أَرَأَيْتَكَ هَذَا الذِي كَرَّمْتَ على لئِنْ أَخَّرْتَنِي إلي يَوْمِ القِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَليلا   وَقَال لأتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا، وَلأُضِلنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَليُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَليُغَيِّرُنَّ خَلقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَليًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ، يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا ، أُوْلئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا  .
فكان من عدل الله أنه أمهله ، وجعله ابتلاء للخليفة الذي خوله ، لأنه لو منع إبليس من هذه المسألة ، لصحت دعوته بوجه مقبول ، وكان تفضيل الإنسان بغير معني معقول ، ولكان للشيطان حجة على سائر العقول ، وقد أقام الله السماوات والأرض على الحق والميزان ، كما قال :  وَلا يَظْلمُ رَبُّكَ أَحَدًا  وقال أيضا :  وَخَلقَ اللهُ السَّماوَاتِ وَالأرْضَ بِالحَقِّ وَلتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلمُونَ  .
فظهر من أجل ذلك كمال عدل الله ، عندما أذن للشيطان بالبقاء طول الحياة ، يوسوس للإنسان بالعصيان من غير سلطان ، وتوعد الله أتباعة بالعذاب والخسران :  قَال فَإِنَّكَ مِنْ المُنْظَرِينَ ، إلي يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ  فازداد الشيطان حقدا على حقده السابق عندما استخلف الله الإنسان ، وأكد أنه لن يسأم في إغوائه ودعوته إلي العصيان :  قَال رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُمثل نَنَّ لهُمْ فِي الأرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمْ المُخْلصِينَ ، قَال هَذَا صِرَاطٌ على مُسْتَقِيمٌ ، إِنَّ عِبَادِي ليْسَ لكَ عَليْهِمْ سُلطَانٌ إِلا مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الغَاوِينَ ، وَإِنَّ جَهَنَّمَ لمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ، لهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لكُل بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ  .
يقول القرطبي : ( أراد الملعون ألا يموت فلم يجب إلي ذلك ، وأخر إلي الوقت المعلوم ، وهو يوم يموت الخلق فيه ، فأخر إليه تهاونا به ، قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين ، لما طرده بسبب آدم حلف بعزة الله ، أنه يضل بني آدم بتمثل ين الشهوات ، وإدخال الشبهات عليهم ، فمعني : لأغوينهم لأستدعينهم إلي المعاصي ، وقد علم أنه لا يصل إلا إلي الوسوسة ) .
وقد بين الله في موضع آخر ، أن سلطان الشيطان عن أولياء الله مرفوع ، وأن كيده للعقلاء من بني الإنسان مدفوع ، فأمر الله وكلامه عندهم مسموع فقال رب العزة والجلال :  قَال اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا ، وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلبْ عَليْهِمْ بِخَيْلكَ وَرَجِلكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَال وَالأولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا ، إِنَّ عِبَادِي ليْسَ لكَ عَليْهِمْ سُلطَانٌ وَكَفي بِرَبِّكَ وَكِيلا  .
وقال أيضا :  قَال فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ، وَإِنَّ عَليْكَ لعْنَتِي إلي يَوْمِ الدِّينِ ، قَال رَبِّ فَأَنظِرْنِي إلي يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَال فَإِنَّكَ مِنْ المُنظَرِينَ ، إلي يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ ، قَال فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمْ المُخْلصِينَ ، قَال فَالحَقُّ وَالحَقَّ أَقُولُ ، لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ  .
فلما نزل الخبيث إبليس وضع لنفسه عرشا على الماء يشبه نفسه باستواء الله على عرشه في السماء ، وجعل نفسه إلها لأتباعه من العصاة ، وحبب إلي نفسه من جنسه أسوأ الدعاه ، وجلس على عرشه ليبعث في الأرض سراياه ، كما روي عَنْ جَابِر ٍبن عبد الله  أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم يَقُولُ : ( يَبْعَثُ الشَّيْطَانُ سَرَايَاهُ فَيَفْتِنُونَ النَّاسَ فَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ مَنْزِلةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً ) وهذا حديث صحيح رواه الإمام مسلم وفي رواية أخرى عنده يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم : ( إِنَّ عَرْشَ إِبْليسَ على البَحْرِ فَيَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَيَفْتِنُونَ النَّاسَ فَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً ) .
وفي رواية ثالثة عند الإمام مسلم يقول صلي الله عليه وسلم : ( إِنَّ إِبْليسَ يَضَعُ عَرْشَهُ على المَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ فَعَلتُ كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ مَا صَنَعْتَ شَيْئًا قَال ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ مَا تَرَكْتُهُ حتى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ قَال فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ نِعْمَ أَنْتَ ) وفي رواية رابعة أيضا للإمام مسلم في باب تحريش الشيطان وبعثه سرياه لفتنة الناس وأن مع كل إنسان قرينا قال صلي الله عليه وسلم : إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَه المُصَلُّونَ فِي جزيرةالعَرَبِ وَلكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ ) .
نكتفي بذلك الآن وللحديث بقية حول بداية الكون ونشأة الإنسان ، فاللهم صلي الله على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين ، وسائر أصحابه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلي يوم الدين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
بداية الكون والإنسان – المحاضرة التاسعة
موقف الشيطان من الإنسان
الحمد لله العلى الأعلى الذي خلق فسوي والذي قدر فهدي ، أحمده على ما منح محمدا من الهدي وجعل السنة المطهرة قدوة لمن اقتدي ، الذي خلق فأحيا وحكم على خلقه بالموت والفنا ، والبعث إلي دار الجزاء والفصل والقضا لتجزى كل نفس بما تسعي ، كما قال في كتابه جل وعلا : ( إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِل الصَّالحَاتِ فَأُوْلئِكَ لهُمْ الدَّرَجَاتُ العُلا جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالدِينَ فِيهَا وَذَلكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّي ) ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لم تزل على ألسنة الرسل ، شهادة تضيئ لنا أقوم السبل ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أظهر الله دينه على سائر الملل ، ولم يجعل للشيطان سبيلا على أهل الإيمان مهما بذل من الحيل ، فاللهم صلي وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه إلي يوم الدين ، أما بعد .
فهذه هي المحاضرة التاسعة في سلسلة الحديث عن بداية الكون ونشأة الإنسان ، وقد ذكرنا في المحاضرة الماضية أن عدو الله إبليس أبي أن يكون مع الساجدين ، وأن يدخل في جملة المقرين بالخلافة العظمي التي كرم الله بها الإنسان ، فتملكه العلو والاستكبار ، وأظهر الاعتراض والاستنكار ، وشكك في حكمة رب العزة والجلال ، حسدا وحقدا على آدم وذريته ، كيف فضلهم الله بمنزلة أعلى من مكانته ؟
فلما لعنه الله وطرده من رحمته ، وأيقن اللعين بهلاكه وشَقْوَته وأنه لا محالة ممنوع من جنته ، أراد أن يحقر من شأن الإنسان حقدا وانتقاما ، وأن يشكك في حكمة الرحمن عنادا وإلزاما ، أن الإنسان الذي استخلفه الله في الأرض ، لا يستحق هذه المنزلة ، وأن إبليس والملائكة أنسب منه لهذه المسألة ، فطلب البقاء والإحياء إلي يوم القيامة ، يوسوس للإنسان بالظلم والطغيان ، ويدعوه إلي الكفر والفسوق والعصيان ، ليثبت صدق كلامه وحقارة الإنسان ، فكان من عدل الله كما تقدم أنه أمهله ، وجعله ابتلاء للإنسان الذي استخلفه وخوله ، لأنه لو منع إبليس من هذه المسألة ، لصحت دعوته بأن الإنسان لا يستحق هذه المنزلة وأصبح للشيطان حجة على العقول المبصرة ، فاقتضت حكمة الله أن يبتلي الشيطان بهذه المسألة ، وأن يرفع من شأن الإنسان لو تخطي هذه المشكلة ، ليعطيه ممثل دا من التكريم على تكريمه بأنه استخلفه وخوله .
لكن انظر أيها المسلم العاقل البصير ، وأمعن النظر ورتب التفكير ، في عدل الله وحكمة التدبير ، التي تعجز العقول والقلب أمام لطف العليم الخيبر ، إذا كان الله قد أوجد في كل إنسان منا نازعين نفسيين متقابلين ومتضادين ، ليس لأحدهما غلبة على الآخر ، نازع يدعوه إلي الطاعة وفعل الخير ، وآخر يدعوه إلي المعصية وفعل الشر ، والإنسان حر بينهما في الاختيار ، كما قال رب العزة والجلال :  وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ، فَأَلهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ، قَدْ أَفْلحَ مَنْ زَكَّاهَا ، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا  ، قال أبو السعود في تفسيره : ( أي أنشأها وأبدعها مستعدة لكمالاتها ، فألهمها فجورها وتقواها أي أفهمها إياهما وعرفها حالهما من الحسن والقبح ، وما يؤدي إليه كل منهما ، ومكنها من اختيار أيِّهما شاءت ، قد أفلح من زكاها أي فاز بكل مطلوب ، ونجا من كل مكروه من أنماها ، وأعلاها بالتقوى ، وقد خاب من دساها ، أي خسر من أنقصها وأخفاها بالمعاصي والفجور ) .
والله عز وجل يقول :  إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبِيل إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا  وقال سبحانه وتعالي :  وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ  فكل إنسان مغروز في قلبه مكان للخير وهو نازع الخير وباعث التقوى يدعوه ويحضه ، وَيُحِثُّهُ وَيَشِدُّهُ ، إلي فعل الخيرات والابتعاد عن المهلكات ، ومغروز في قلبه مكان للهوى وهو ناز الشر وباعث الفجور يدعوه ويحضه ، وَيُحِثُّهُ وَيَشِدُّهُ إلي فعل اللذات بأنواع المهلكات ، فإذا سمح الله للشيطان أيضا أن يوسوس للإنسان ، فإن الشيطان سيقوي نازع الهوى والشر في الإنسان ، وكلاهما سيتفقان في دعوته إلي الكفر والعصيان ، وعند ذلك ستكون دواعي الشر في الإنسان أقوي من نازع الخير فيه ؟
أليس للعاصي عند ذلك أن يحتج على الله يوم القيامة بأنه لا يستحق العذاب ، لأن نازع الخير فيه كان وحيدا ، وكانت دواعي الشر في الإنسان لها ركنان ، أحدهما نازع الشر والآخر الشيطان ، فهي بذلك أقوي في الإنسان من باعث التقوى وداعي الخير والإيمان ، من أجل ذلك يطالب ربه بإسقاط العذاب عن الكفر العصيان ؟
ومن هنا ظهرت في الإنسان حكمة الله ، وبلغ كمال العدل في الأشياء منتهاه ، فجعل الله تركيب الإنسان على مستوي الكمال ، ظاهرا وباطنا على قمة الاعتدال ، فقال رب العزة والجلال :  يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ ، الذِي خَلقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلكَ ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ  ، فكلف الله بكل إنسان ملكا قرينا ، وأمره أن يلازمه ملازمة الشيطان للإنسان ، لا يفارقه إلا إذا فارق دار الامتحان ، وأمره أيضا أن يدعوه إلي الخير ويحضه عليه ، كما أن الشيطان يدعوه إلي الشر ويحضه عليه ، فيعتدل بذلك مقدار الدواعي في الإنسان ، وتستوي الكفتان في الميزان ، ولا يكون لأحد من أهل الخسران ، حجة على الله يوم القيامة في تبرير العصيان .
فالله كما هداه النجدين ، وركب فيه نازعين نفسيين متقابلين ومتضادين ، ليس لأحدهما غلبة على الآخر ، وكل أيضا بالإنسان قرينين هاتفين ، مرغبين بلمتين ، ليس لأحدهما سلطان على إرادة الإنسان ، فبات مقدرا لكل منا بحكمة الله وعدل الميزان ، قرينان داعيان ، هاتفان مرغبان ، إما في الخير وإما في الشر ، ولم يستثن الله أحدا من ذلك حتى سيد ولد آدم صلي الله عليه وسلم ، فقد روي الإمام مسلم من حديث عبد الله بن مسعود  أن رَسُول الله صلي الله عليه وسلم قال : ( مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا وَقَدْ وُكِّل بهِ قَرِينُهُ مِنَالجِنِّ وَقَرِينُهُ مِنَ المَلائِكَةِ ، قَالُوا : وَإِيَّاكَ يَا رَسُول الله ، قَال : وَإِيَّايَ وَلكِنَّ الله أَعَانَنِي عَليْهِ فَلا يَأْمُرُنِي إِلا بِحَقٍّ ) ، وروي الترمذي أيضا وحسنه من حديث عبد الله  أن رَسُول الله صلي الله عليه وسلم قال : ( إِنَّ للشَّيْطَانِ لمَّةً بِابْنِ آدَمَ ، وَللمَلكِ لمَّةً ، فَأَمَّا لمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالحَقِّ ، وَأَمَّا لمَّةُ المَلكِ فَإِيعَادٌ بِالخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالحَقِّ ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلكَ فَليَعْلمْ أَنَّهُ مِنَ الله فَليَحْمَدِ الله ، وَمَنْ وَجَدَ الأخرى فَليَتَعَوَّذْ بِالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ، ثُمَّ قَرَأَ :  الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا وَاللهُ وَاسِعٌ عَليمٌ  .
وعن عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُول اللهِ صلي الله عليه وسلم خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا ليْلا : قَالتْ عائشةُ فَغِرْتُ عَليْهِ ، فَجَاءَ فَرَأي مَا أَصْنَعُ ، فَقَال : مَا لكِ يَا عَائِشَةُ أَغِرْتِ ؟ فَقُلتُ : وَمَا لي لا يَغَارُ مِثْلي على مِثْلكَ ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم : أَقَدْ جَاءكِ شَيْطَانُكِ ؟ قَالتْ : يَا رَسُول اللهِ أَوْ مَعِيَ شَيْطَانٌ ؟ قَال نَعَمْ قُلتُ وَمَعَ كُل إِنْسَانٍ قَال نَعَمْ قُلتُ وَمَعَكَ يَا رَسُول اللهِ قَال نَعَمْ وَلكِنْ رَبِّي أَعَانَنِي عَليْهِ حتى أَسْلمَ ) .
وكل قرين يقدم يوم القيامة تقريرا مفصلا عما دار بينه وبين الإنسان ، وقد ذكر الله شأن القرينين في القرآن ، فقال عن الملك الذي اقترن بواحد من الكفار :  وَقَال قَرِينُهُ هَذَا مَا لدَيَّ عَتِيدٌ ، أَلقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُل كَفَّارٍ عَنِيدٍ ، مَنَّاعٍ للخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ ، الذِي جَعَل مَعَ اللهِ إِلهًا آخَرَ فَأَلقِيَاهُ فِي العَذَابِ الشَّدِيدِ  فهذا القرين الذي رافق الكافر طول الحياة ، طالما حثه على الخير ودعاه ، فتمنع وآثر الإعراض عن الله ، وعبد الشيطان واتبع هواه ، فالقرين يطالب السائق والشهيد ، أن يضعوه في العذاب الشديد .
وأما عن موقف الشيطان الذي اقترن بالإنسان للوسواس بالعصيان فيقول متملصا من أفعال الكافر العنيد :  قَال قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ  ، فينفي عن نفسه المشاركة في الطغيان ، وينسب الضلالة إلي الإنسان ، ويقول محقرا لحزبه في النيران :  وَقَال الشَّيْطَانُ لمَّا قُضِيَ الأمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لي عَليْكُمْ مِنْ سُلطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالمِينَ لهُمْ عَذَابٌ أَليمٌ  فقال الله للشيطان وللكفار من بني الإنسان:  قَال لا تَخْتَصِمُوا لدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِليْكُمْ بِالوَعِيدِ ، مَا يُبدَّلُ القَوْلُ لدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلامٍ للعَبِيدِ ، يَوْمَ نَقُولُ لجَهَنَّمَ هَل امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَل مِنْ مزيدٍ  .
يقول القرطبي : ( قال قرينه ربنا ما أطغيته يعني الشيطان الذي قيض لهذا الكافر العنيد ، تبرأ منه وكذبه ، ولكن كان في ضلال بعيد عن الحق وكان طاغيا باختياره ، يقول الشيطان إنما دعوته فاستجاب لي ، ويقول القرطبي : قرينه هنا هو شيطانه بغير خلاف ) ويقول الإمام البخاري أيضا : ( وقال قرينه هو الشيطان الذي قيض له ) .
وليس كل ما جعله الله للإنسان ، ليحميه من كيد الشيطان ، أنه كلف ملكا قرينا يهتف له بالإيمان ، في مقابل هتاف الشيطان بالعصيان ، ولكن الله حفظ الإنسان وعدل له الميزان ، وأمنه نكاية تقابل حقد الشيطان ، بأمور أخرى جاء نصها في القرآن وكذلك وردت في سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم :
الأمر الأول : أن الله فتح باب التوبة للإنسان مهما بلغ به كيد الشيطان ما لم تغرغر النفس ، أو تطلع الشمس من مغربها ، فقد روي الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  أن رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم قَال: ( مَنْ تَابَ قَبْل أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ اللهُ عَليْه ) و روي الإمام مسلم من حديث أَبِي مُوسَي الأشعري  أنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم قَال : ( إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَل يَبْسُطُ يَدَهُ بِالليْل ليَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ ليَتُوبَ مُسِيءُ الليْل حتى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ) .
قال النووي : ( للتوبة ثلاثة شروط : أن يقلع عن المعصية ، وأن يندم على فعلها ، وأن يعزم عزما جازما أن لا يعود إلي مثلها أبدا ، فإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فلها شرط رابع ، وهو رد المظلمة إلي صاحبها أو يحصل البراءة منه ) ولذلك كانت التوبة أهم قواعد الإسلام ، وهي أول مقامات الإيمان .
وروي الترمذي من حديث ابْنِ عُمَرَ أنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم قَال : ( إِنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ مَا لمْ يُغَرْغِرْ ) حتى لو اتبع الإنسان الشيطان وتمادي في الجرم والعصيان ، فقتل مائة نفس وأراد التوبة والغفران تاب الله عليه ، وقبل منه الطاعة والإيمان ، روي البخاري من حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي الله عَنْه أنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم قَال : ( كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيل رَجُلٌ قَتَل تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِنْسَانًا ثُمَّ خَرَجَ يَسْأَلُ فَأتي رَاهِبًا فَسَأَلهُ فَقَال لهُ هَل مِنْ تَوْبَةٍ قَال لا فَقَتَلهُ فَجَعَل يَسْأَلُ فَقَال لهُ رَجُلٌ ائْتِ قَرْيَةَ كَذَا وَكَذَا فَأَدْرَكَهُ المَوْتُ فَنَاءَ بِصَدْرِهِ نَحْوَهَا فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلائِكَةُ العَذَابِ فَأَوْحَي اللهُ إلي هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي وَأَوْحَي اللهُ إلي هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي وَقَال قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا فَوُجِدَ إلي هَذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ له ) .
يقول ابن حجر : ( وفي الحديث مشروعية التوبة من جميع الكبائر حتى من قتل الأنفس ، ويحمل على أن الله تعالى إذا قبل توبة القاتل تكفل بإرضاء خصمه ، وفيه أن الملائكة الموكلين ببني آدم يختلف اجتهادهم في حقهم بالنسبة إلي من يكتبونه مطيعا أو عاصيا ، وأنهم يختصمون في ذلك حتى يقضي الله بينهم وفيه فضل التحول من الأرض التي يصيب الإنسان فيها المعصية ) .
فالله عز وجل يتوب على الإنسان حتى لو تكرر منه العصيان وتكررت التوبة وطلب الغفران ، تاب الله عليه نكاية تقابل كيد الشيطان ، فعند البخاري من حديث أبي هُرَيْرَةَ  أن قَال : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَال : ( إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا وَرُبَّمَا قَال أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَال رَبِّ أَذْنَبْتُ وَرُبَّمَا قَال أَصَبْتُ فَاغْفِرْ لي فَقَال رَبُّهُ أَعَلمَ عَبْدِي أَنَّ لهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لعَبْدِي ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا أَوْ أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَال رَبِّ أَذْنَبْتُ أَوْ أَصَبْتُ آخَرَ فَاغْفِرْهُ فَقَال أَعَلمَ عَبْدِي أَنَّ لهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لعَبْدِي ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا وَرُبَّمَا قَال أَصَابَ ذَنْبًا قَال : قَال رَبِّ أَصَبْتُ أَوْ قَال أَذْنَبْتُ آخَرَ فَاغْفِرْهُ لي فَقَال أَعَلمَ عَبْدِي أَنَّ لهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لعَبْدِي ثَلاثًا فَليَعْمَل مَا شَاءَ ) ، ومعني فليفعل ما شاء أي على هذا المنوال كلما أذنب عاد مسرعا للتوبة لا يبيت النية للعصيان .
الأمر الثاني الذي جعله الله للإنسان حماية من كيد الشيطان : أن الله كما وعد بقبول التوبة عند رجوع الإنسان عن العصيان ، فإنه أيضا سيبدل للتائبين عدد ما فات من السيئات بنفس أعداها حسنات ، دل على ذلك قوله تعالى :  وَالذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ التِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَل ذَلكَ يَلقَ أَثَامًا ، يُضَاعَفْ لهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ، إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِل عَمَلا صَالحًا فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا  .
الأمر الثالث : أنه سيعامل المؤمنين بفضله وسيعامل الكافرين بعدله ، والعدل أن يستوي العمل مع الجزاء والفضل أن يفوق الجزاء العمل ، فعند البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ  أن رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم قَال : ( إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلامَهُ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لهُ بِعَشْرِ أَمْثَالهَا إلي سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لهُ بِمِثْلهَا ) وروي البخاري أيضا من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ  أن رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم قَال :
( الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلا يَرْفُثْ وَلا يَجْهَل وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَليَقُل إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ تعالى مِنْ رِيحِ المِسْكِ يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلي الصِّيَامُ لي وَأَنَا أَجزى بِهِ وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالهَا ) ، وروي البخاري من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهمَا عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَل قَال : ( إِنَّ اللهَ كَتَبَ الحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلكَ فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلمْ يَعْمَلهَا كَتَبَهَا اللهُ لهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلةً فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلهَا كَتَبَهَا اللهُ لهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إلي سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إلي أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلمْ يَعْمَلهَا كَتَبَهَا اللهُ لهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلةً فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلهَا كَتَبَهَا اللهُ لهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً ) وعند البخاري أيضا من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم قَال : ( سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا فَإِنَّهُ لا يُدْخِلُ أَحَدًا الجَنَّةَ عَمَلُهُ ، قَالُوا : وَلا أَنْتَ يَا رَسُول اللهِ ؟ قَال : وَلا أَنَا إِلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ )
الأمر الرابع الذي جعله الله للإنسان حماية من كيد الشيطان: أن الله سيفرح بتوبة عبده فرحا شديدا ترغيبا للإنسان وتبكيتا للشيطان ، فإن المذنب مخطئ في جنب الله ، وعظم الذنب يقاس بعظمة من أخطأت في حقه ، فلو قبل الله توبة المذنب ، فإن مجرد القبول فقط ، كرم بالغ من الله عليه ، فما بالنا وهو يقبل توبة المذنب بعفو جديد وفرح شديد ، كما روي مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ  قَال قَال رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم : ( للهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ أَحَدِكُمْ مِنْ أَحَدِكُمْ بِضَالتِهِ إِذَا وَجَدَهَا ) وفي مقابل توبة الإنسان وسجوده لرب العالمين ، يبكى الشيطان بكاء النادمين ، فعند مسلم أيضا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  قَال : قَال رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم : ( إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ ، اعْتَزَل الشَّيْطَانُ يَبْكِي ، يَقُولُ : يَا وَيْلهُ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ يَا وَيْلي ، أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلهُ الجَنَّةُ وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَليَ النَّارُ ) .
الأمر الخامس الذي جعله الله للإنسان حماية من كيد الشيطان : أن الله تكفل بإيقاف الشيطان وإخناسه ، عند استعاذة الإنسان من وسواسه ، فقال تعالى :  وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَليمُ  وكان يمكن أن يقال إذا نزغك الشيطان فقاومه بما استطعت من أسلحتك الفكرية ودلالاتك العقلية ، لكن فضل الله على الإنسان كان عظيما فقال :  قُل أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ، مَلكِ النَّاسِ ، إِلهِ النَّاسِ ، مِنْ شَرِّ الوَسْوَاسِ الخَنَّاسِ ، الذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ، مِنْ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ  .
الأمر السادس : أن الله وعد الإنسان بألا يعذبه إلا إذا بعث له رسولا يذكره بالشيطان وعداوته للإنسان ، يقول تعالي : كُلمَا أُلقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلهُمْ خَزَنَتُهَا أَلمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلي قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلنَا مَا نَزَّل اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ وَقَالُوا لوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِير ِ ، وقال تعالى :  وَلوْ أَنَّا أَهْلكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلهِ لقَالُوا رَبَّنَا لوْلا أَرْسَلتَ إِليْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْل أَنْ نَذِل وَنخزى قُل كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنْ اهْتَدَي  وقال سبحانه :  رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لألا يَكُونَ للنَّاسِ على اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل وَكَانَ اللهُ عزيزا حَكِيمًا  ، وقال :  تَاللهِ لقَدْ أَرْسَلنَا إلي أُمَمٍ مِنْ قَبْلكَ فَمثل نَ لهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالهُمْ فَهُوَ وَليُّهُمْ اليَوْمَ وَلهُمْ عَذَابٌ أَليمٌ  ، وقال :  وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولا  ، ولو فرض أن إنسانا انقطعت به أسباب العلم بالشيطان وحقيقته ، ولم يعلم بشريعة الله في أرضه وأمانته ، ولم يسمع عن الإنسان ورسالته ، فإنه معذور عند الله بجهالته لاجتماع الأدلة على ذلك .
وكل هذا الفضل الذي منحه للإنسان ليحمي نفسه من كيد الشيطان يضاف إلي الملك القرين الذي يهتف بأمر الله للإنسان ، ويدعو بإذنه إلي الخير والإيمان ، كلما هتف له الشيطان بالكفر والفسوق والعصيان .
فهذا سر العداء بين الإنسان والشيطان ، ظهر فيه حقد الشيطان على الإنسان ، لأن الله استخلفه في الأرض بالحق والميزان ، وظهر عدل الله في الشيطان وفضله سبحانه وتعالي على الإنسان ، حيث لم يجعل للشيطان سلطانا على الإنسان إلا أن يدعوه إلي العصيان بالوسوسة فقط ، والإنسان حر في الاستجابة لندائه أو الاستجابة للملك في دعائه ، فقد وكل الله الملك ليلازم الإنسان ، ويدعوه إلي الخير في مقابل دعوة الشيطان ، كما أن الله يذكر الإنسان على لسان أنبيائه ورسله بمكر الشيطان وتلبيسه وتدليسه على الإنسان ، فأي كمال في تفسير وجود العداوة بين الإنسان والشيطان أفضل من هذا البيان ؟ !!
فلكون الإنسان هو الذي قبل الأمانة ورفضتها السماوات والأرض والجبال رفعه الله على غيره ، وجعل مكانته في الوجود أعلى ممن رفضها ، ثم سخر له كل من في الأرض ، وجعل الأرض أمانة بين يديه في هذا العالم ، فهو الوحيد بين هذه الكائنات الذي لم يرفض أمانة الله عند عرضها ، فاستحق بعدل الله الرفعة بعد قبوله لها ، وظهر هذا التكريم في الوصف الذي تميز به الإنسان عن غيره ، وهو استخلافه في الأرض وتهيئة العالم من حوله لهذه الغاية ، فالله استخلفه وخوله وفوضه أن يتصرف في الأرض على النحو الذي يشرعه صاحب الأمانة ويكلفه به ، من خلال الرسالة السماوية التي سيرسلها له تباعا ، وسيجعل الله كل ملك أو مال أو أرض أو أي نعمة يتملكها الإنسان أمانة بين يدية ، يستمتع بها ويتملكها على أمر الله وتوجيهه له فيها ، فهو مستخلف فيها فقط ، وهي أمانة مسئول عنها أمام ربه يوم القيامة ، فكل إنسان أمين حتى على نفسه وبدنه يتصرف فيه على مراد ربه ، فمالكه الحقيقي هو الله : دل على تكريمه قوله تعالى :  وَلقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلنَاهُمْ على كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلقْنَا تَفْضِيلا  ودل على استخلافه في الأرض آيات كثيرة وردت في القرآن منها قوله :  وَإِذْ قَال رَبُّكَ للمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَليفَةً  .
وبعد أن تم كمال العدل في الملك من خلال ابتلاء الإنسان بسائر الخلق ، أخذ الله العهد والميثاق على الإنسانية في عالم الذر ، سؤال هام : لماذا أخذ الله العهد والميثاق على آدم وذريته ؟ قال تعالى :  وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلي شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلكُنَا بِمَا فَعَل المُبْطِلُونَ وَكَذَلكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلعَلهُمْ يَرْجِعُونَ  .
قَال الصحأبي أُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه فِي معني هذه الآيَةَ : ( جَمَعَهُمْ فَجَعَلهُمْ أَرْوَاحًا ، ثُمَّ صَوَّرَهُمْ فَاسْتَنْطَقَهُمْ فَتَكَلمُوا ، ثُمَّ أَخَذَ عَليْهِمُ العَهدَ وَالمِيثَاقَ ، وَأَشْهَدَهُمْ على أَنْفُسِهِمْ أَلسْتُ بِرَبِّكُمْ ؟ قَال : فَإِنِّي أُشْهِدُ عَليْكُمُ السماوات السَّبْعَ ، وَالأرَضِينَ السَّبْعَ ، وَأُشْهِدُ عَليْكُمْ أَبَاكُمْ آدَمَ عَليْهِ السَّلام ، أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ ، لمْ نَعْلمْ بِهَذَا اعْلمُوا أَنهُ لا إِلهَ غَيرِي ، وَلا رَبَّ غَيْرِي ، فَلا تُشْرِكُوا بِي شَيْئًا ، وَإِنِّي سَأُرْسِلُ إِليْكُمْ رُسُلي ، يُذَكِّرُونَكُمْ عَهدِي وَمِيثَاقِي ، وَأُنْزِلُ عَليْكُمْ كُتُبِي ، قَالُوا شَهدْنَا بِأَنَّكَ رَبُّنَا وَإِلهُنَا ، لا رَبَّ لنَا غَيْرُكَ ، فَأَقَرُّوا بِذَلكَ ) وهذه الرواية ذكرها الحاكم في المستدرك وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
في آية الميثاق يخبرنا الله عز وجل أنه أخذ العهد والميثاق الغليظ على الإنسان قبل بداية حياته ليقرره أنه مستخلف فقط ، أمين في ملك الله للابتلاء والامتحان ، ليعرفوا جميعا حق الله على العباد ، وحق العباد على الله ، فحق الله عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وحقهم عليه ألا يعذبهم إذا فعلوا ذلك ، أشهدهم على أنفسهم وسألهم جميعا ألست بربكم ؟ قالوا بلي ، إظهارا منه لما انفرد به من معاني الربوبية ، وأنه منفرد بالخلق والأمر لا إله إلا هو ولا رب سواه ، وهو وحده مالك الملك لأنه وحده خالق الكل ، منفرد بإنشاء العالم وتركيبه على هذه الهيئة البديعة ، فالله لن يقبل منهم أن يتخذوا شريكا له في خلقه أو منازعا له على ملكه ، ولن يقبل المساس بتوحيده أبدا ، فقال :  إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلكَ لمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ افْتَرَي إِثْمًا عَظِيمًا  ، وأكد ذلك في موضع آخر فقال :
 إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلكَ لمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَل ضَلالا بَعِيدًا  وقال عن عيسي عليه السلام :  وَقَال المَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيل اعْبدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَليْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا للظَّالمِينَ مِنْ أَنصَارٍ  وقال لرسوله محمد صلي الله عليه وسلم :  قُل إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَي إلي أَنَّمَا إِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لقَاءَ رَبِّهِ فَليَعْمَل عَمَلا صَالحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحدًا  .
• قاعدة هامة في بيان حقيقة الشرك ، فأسباب الشرك محصورة في ثلاثة أمور :
الأمر الأول : أن يجعل الإنسان لنفسه شيئا من الربوبية فيتشبه بالخالق ويخرج عن أوصافه البشرية وهذا هو شرك الربوبية : فمن تعاظم وتكبر ودعا الناس إلي إطرائه في المدح والتعظيم والخضوع والرجاء وتعليق القلوب به خوفاً ورجاء اً وإلتجاء واستغاثة فقد تشبه بالله ونازعه في معاني ربوبيته وألوهيته ، فكل من تفرعن على الناس وتعاظم وتكبر ودعا الناس إلي تعظيمه ومدحه وشابه الخصال الفرعون بعضها أو كلها فذلك قد تشبه بالخالق على قدر خصاله الفرعونية ، وكل من جعل نفسه في منزلة أعلى من منزلة العبودية التي وصف الله بها رسوله كمن يزعم أنه مرفوع عنه الحجاب وأن التكليف قد رفع عنه وأنه يفعل ما لا يمكن للبشر فعله وأنه يقول للشىء ( كن فيكون ) إلي غير ذلك التراهات ، وكذلك من تشبه به سبحانه في الأسماء والصفات التي تنبغي إلا لله وحده ، كملك الأملاك وحاكم الحكام وصاحب الجلالة والسمو وغير ذلك من الأوصاف ، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال :
( إن أخنع الأسماء عند الله رجل تسمي بشاهان شاه وملك الملوك ولا ملك إلا اللهـ) وفي لفظ : ( أغيظ رجل على الله رجل يسمي بملك الأملاك ) فهو سبحانه ملك الملوك لاسمي له ولا مثيل ولا شبيه له ولا نظير ، فسمو الإنسان يكون بالعبودية وطاعةِ الله في الأحكام الشرعية .
الأمر الثاني : أن يجعل الإنسان لغيره شيئا من معاني الربوبية ، فيشبه المخلوق بالخالق في الصفات الإلهية ، ويخرجه عن أوصافه البشرية ، وهذا هو شرك العبودية ، تشبيه المخلوق بالخالق في خصائص الألوهية ، فإن من خصائص الألوهية التفرد بملكية النفع والضرر ، والعطاء والمنع ، وذلك يؤدي إلي التعليق به في الدعاء والتوكل والخوف والرجاء وذلك لا يكون إلا لله وحده ، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق ، وجعل من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ، يجعله مشابهاً لمن كانت أزمة الأمور بيده ومرجعها إليه ، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، لا مانع لما أعطي ولا معطي لما منع ، فمن أقبح التشبيه تشبيه المخلوق العاجز الفقير ، بالخلق المالك القوي القدير ، فدعاء الأموات والاستعانة بهم أو طلب المدد منهم من أقبح أنواع الشرك على الإطلاق ، ولذلك قال المشركون وهم في جهنم يختصمون :  قالوا وهم فيها يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين  الشعراء / 97 ولذلك قال تعالى منبها إلي تلك القضية الخطيرة التي بعث الرسل من أجلها :  قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير  سبأ / 22 وقال تعالى : وقال أيضاً :  يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب  الحج / 73 .
فانتبه عبد الله واحذر الشرك فإنه طامة كبري ، أترضي أن يقال في إنسان أيا كان ، ما قاله هذه الجاهل في وصف سيخه الذي يسمي شيخ العرب ، حيث يصفه بأوصاف رب العالمين مع كونه قد مات من مئات السنين يقول هذا الجاهل : يا من هو البحر الخضم إذا جري جاءت لك الزوار من أقصي القرى كل ينادي يستغيث لما جري فلقد حويت الفضل يا غوث الورى ، أيها العاقل ألا تري ؟
هل هذا المخلوق هو غوث الورى ؟  أَمَّنْ يُجِيبُ المُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلفَاءَ الأَرْضِ أَئِلهٌ مَعَ اللهِ قَليلا مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلهٌ مَعَ اللهِ تعالى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدَأُ الخَلقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَئِلهٌ مَعَ اللهِ قُل هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ قُل لا يَعْلمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ  (النمل/65:62) ، فالله عز وجل على الرغم من أنه سبحانه كتب على نفسه الرحمة ، فإنه قال تعالى في كتابه :  إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء  .
الأمر الثالث : أن أن ينزل الإنسان من شأن ربه ليجعله مماثلا لعبده ، فيشبه الخالق بالمخلوق ، وهو شرك الأسماء والصفات ، فالله سبحانه وتعالي أفرد نفسه بذاته وصفاته وأفعاله عن الأقيسة والقواعد والقوانين التي تحكم ذوات المخلوقين وصفاتهم وأفعالهم ، والشرك في باب الصفات عكس ذلك تماما ، قال تعالى :  ليْسَ كَمِثْلهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ  فبين سبحانه انفراده عن كل شيء من أوصاف المخلوقين بجميع ما ثبت له من أوصاف الكمال وعلو شأنه في الجمال والجلال ، وقال تعالى في أول سورة الإخلاص :  قل هُوَ الله أَحَدٌ  ، وقال في نهايتها مبينا معني الأحدية :  وَلمْ يَكُنْ لهُ كُفُوًا أَحَدٌ  أي أن الأحد هو المنفرد بأوصاف الكمال الذي لا مثيل له فنحكم على كيفية أوصافه من خلاله ، ولا يستوي مع سائر الخلق فيسري عليه قانون أو قياس أو قواعد تحكمه كما تحكمهم ، لأنه المتصف بالتوحيد المنفرد عن أحكام العبيد ، وعلى ذلك فلا يمكن بحال من الأحوال أن نخضع أوصاف الله لما يحكم أوصاف البشر من قوانين .
فمن البلاهة العقلية أن نطبق قوانين الجاذبية الأرضية على استواء الله على عرشه أو على حملة العرش أو على نزوله إلي السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل ، لأن ذلك ينطبق على الكائنات الأرضية ولا ينطبق على رب البرية ، فهو منفرد متوحد عن قوانين البشر بذاته وصفاته وأفعاله ، ومعلوم أننا لم نر الله ولم نر له مثيلا أو شبيها أو نظيرا ، والشيء لا يعرف إلا برؤيته أو برؤية نظيره .
فالشرك بالله ظلم عظيم لا يغفره الله إلا بالتوبة الصادقة ، ولما كان الشرك ظلما عظيما ، أخذ الله العهد والميثاق على الإنسان قبل نزوله إلي الأرض ، فإن ادعي أحد بعد ذلك أن الله له شريك في السماوات والأرض أو له معين في إدارة شئون الخلق فقد وقع في الظلم العظيم وتجاوز حدوده ، ولن يفلح وقتها احتجاج بالنسيان ، أو اتباع للآباء في سالف الزمان لأن الله بين لنا في القرآن أنه لن يعذبهم إلا إذا أرسل الرسل مذكرين بالعهد مرارا وتكرارا فقال :
 وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولا  ، وقال أيضا :  وَلوْ أَنَّا أَهْلكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلهِ لقَالُوا رَبَّنَا لوْلا أَرْسَلتَ إِليْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْل أَنْ نَذِل وَنخزى قُل كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنْ اهْتَدَي  ، فوجب على الإنسان أن يراعي في قوله وعمله الخوف من الله وحده لا من سواه ، لأن صاحب الأمانة وولي النعمة هو الله ، وما سواه لا يملك شيئا بل هو مجرد أمين في الحياة ، فقال تعالى :  قُل ادْعُوا الذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلكُونَ مِثْقَال ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا في الأرْضِ وَما لهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لهُ مِنهُمْ مِنْ ظَهِير ٍ وكذلك في قوله تعالى :  يُولجُ الليْل فِي النَّهَارِ وَيُولجُ النَّهَارَ فِي الليْل وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّي ذَلكُمْ اللهُ رَبُّكُمْ لهُ المُلكُ وَالذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ  .
فالله أعلمهم جميعا بأنه منفرد بالملك والربوبية له العلو في الشأن والقهر والفوقيه ، لا يقبل شريكا معه في العبوديه ولا يقبل أن يتشبه به أحد في وصف الربوبيه ، فقد ظلم نفسه وتعدي وصفه من قال بعد ذلك بقول فرعون :  مَا عَلمْتُ لكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي  ،  أَنَا رَبُّكُمْ الأعلى  .
وقد ظلم نفسه من ادعي لنفسه صفة الله كالنمرود بن كنعان حيث قال لإبراهيم عليه السلام :  أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَال إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالمِين َ ، وقد ظلم نفسه من تناسي فضل ربه وتكبر على إخوانه وقومه كما هو حال الظالم قارون ، حيث خسف الله به الأرض فقال :  فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ فَمَا كَانَ لهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ وَأَصْبَحَ الذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لوْلا أَنْ مَنَّ اللهُ عَليْنَا لخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلحُ الكَافِرُونَ تِلكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا للذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلوًّا فِي الأرْضِ وَلا فَسَادًا وَالعَاقِبَةُ للمُتَّقِينَ  وقال تعالى يؤكد على قبح الشرك وظلم المشركين ، في وصية لقمان لابنه ولسائر المؤمنين :  وَإِذْ قَال لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لظُلمٌ عَظِيمٌ  .
فمن قمة الظلم أن يتخذ المستخلفُ في ملك الله ، مستخلفا آخر لا يملك شيئا على الحقيقة ، يسوي بينه وبين ربه في المحبة والتعظيم :  وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّا للهِ  .
فلما أشهدهم الله على أنفسهم بالتوحيد ونبذ الشرك ، أقروا أمام خالقهم بأنه المنفرد بالملك ، وأنه خالقهم ومدبر أمرهم لا حول ولا قوة لهم إلا بربهم ، وأنهم لا ينسبون شيئا من ملكه لهم أو لغيرهم ، إلا على سبيل استخلافهم فيه وابتلائهم ، فالأمر لله في كونه على سبيل الربوبية وتصريف خلقه ، والأمر لله في شرعه على سبيل العبودية وتطبيق حكمه ، الفضل له والملك له ، والحمد له ، والشكر له ، وهم على هذا العهد قائمون ، يوحدون ولا يشركون ويشكرون ولا يكفرون ، صابرون مؤمنون ، إلي أن يعيدهم يوم القيامة إليه ، ويكرمهم بالجنة لديه وهذا حقهم عليه إذا لم يشركوا به شيئا ، وعدا عليه بعدله ، وتكرما منه بفضله ، كما ذكر ذلك في سائر كتبه فقال :
 وَعْدًا عَليْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيل وَالقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفي بِعَهْدِهِ مِنْ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيم ُ ، فبين بعدها أن هذا الوعد سيناله المستخلفون في ملكه المتصفون بما ورد في قوله :  التَّائِبُونَ العَابدُونَ الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ المُنكَرِ وَالحَافِظُونَ لحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرْ المُؤْمِنِينَ  والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .

د. محمود عبد الرازق الرضواني
04-16-2005, 06:50 PM
بداية الكون والإنسان – المحاضرة العاشرة
الإنسان في دار الابتلاء والامتحان
الحمد لله الذي يجيب الداعين ، ويعطي الطالبين ويرضي الراغبين ، ويرشد السالكين ، رحيم بالمؤمنين رحمن بالعالمين ، أحمده سبحانه وتعالي وأشكره ، وأتوب إليه وأستغفره ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة نبلغ بها أحسن المآب وأعظم الثواب ، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المبعوث لتشريع الملة وتوجيه الخطاب ، وإيضاح الأحكام من واجب واستحباب ، وحرام ومكروه ومتروك لذوي الألباب ، صلي الله عليه وعلى آله وصحبة صلاة وسلاما دائمين إلي يوم الحساب .
أتيتك راجيا يا ذا الجلال ففرج ما تري من سوء حالي - عصيتك سيدي ويلي بجهلي وعيب الذنب لم يخطر ببالي - إلي من يشتكي المملوك إلا إلي مولاه يا مولي الموالي - لعمري ليت أمي لم تلدني ولم أغضبك في ظلم الليالي - فها أنا عبدك العاصي فقير إلي رحماك فاقبل لي سؤالي - أما بعد ..
فهذه هي المحاضرة العاشرة والأخيرة في السلسلة التي تناولنا فيها الحديث عن بداية الكون ونشأة الإنسان وقد علمنا مما سبق أن الله ابتلي الإنسان بالمخلوقات عندما عرض الأمانة عليها فرفضتها خوفا وإشفاقا ، وترتب على قبول الإنسان لحملها أن الله كرمه على من رفضها ، وسخر له كل من حوله لأجلها ، ثم استأمنه على الأرض وجعلها محلا لابتلائه واستخلافه فيها ، كما أنه ابتلي الإنسان بالملائكة أيضا وكانت النتيجة تكليفهم بالقيام على خدمته ، وضبط المخلوقات بأمر الله تحقيقا لخلافته ، وقد عارض الشيطان ربه وامتنع عن السجود ، وأمهله الله إلي يوم موعود ، بناء على طلبه في تحدي الإنسان ، ودعوته إلي الكفر والفسوق والعصيان ، فابتلي الله سبحانه بعضهم ببعض ، لتظهر حكمته في سائر الأشياء ، ويتحقق في الخلق بعدله ما يشاء .
ثم أخذ الله العهد والميثاق على الإنسانية تنبيها على لهم على دورهم في الحياة وتحذيرا لهم من الشر بالله ، وأنه لن يغفر لمن تشبه بالله أو شبه غير الله بالله ، أو شبه الله بغير الله ، وعاهدوا الله أنهم لن يشركوا به شيئا ، ثم أعادهم إلي آدم عليه السلام ، وبدأت قصة الخليقة بإسكان آدم وحواء في جنة الابتلاء ، فابتلاه الله عز وجل فيها بما شاء ، فقال سبحانه وتعالي : ( وَقُلنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شئتمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالمِينَ فَأَزَلهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلي حِينٍ فَتَلقَّي آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلمَاتٍ فَتَابَ عَليْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ قُلنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًي فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَليْهِمْ فَلا خَوْفٌ عَليْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالدُونَ ) .
ويقول أيضا : ( فَقُلنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لكَ وَلزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنْ الجَنَّةِ فَتَشْقَي إِنَّ لكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَي وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَي فَوَسْوَسَ إِليْهِ الشَّيْطَانُ قَال يَا آدَمُ هَل أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخُلدِ وَمُلكٍ لا يَبْلي فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَليْهِمَا مِنْ وَرَقِ الجَنَّةِ وَعَصَي آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَي ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَليْهِ وَهَدَي قَال اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًي فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَي وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَي قَال رَبِّ لمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَي وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَال كَذَلكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلكَ اليَوْمَ تُنسَي )
وقول تعالى في سورة الأعراف : ( وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شئتمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالمِينَ فَوَسْوَسَ لهُمَا الشَّيْطَانُ ليُبْدِيَ لهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَال مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الخَالدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لكُمَا لمِنْ النَّاصِحِينَ فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ فَلمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَليْهِمَا مِنْ وَرَقِ الجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ قَالا رَبَّنَا ظَلمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لمْ تَغْفِرْ لنَا وَتَرْحَمْنَا لنَكُونَنَّ مِنْ الخَاسِرِينَ وَقَال مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الخَالدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لكُمَا لمِنْ النَّاصِحِينَ فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ فَلمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَليْهِمَا مِنْ وَرَقِ الجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ قَالا رَبَّنَا ظَلمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لمْ تَغْفِرْ لنَا وَتَرْحَمْنَا لنَكُونَنَّ مِنْ الخَاسِرِينَ إِنَّا جَعَلنَا الشَّيَاطِينَ أَوْليَاءَ للذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) .
وينبغي أن نعلم أن الزمن الذي وجد بقي فيه آدم في الجنة أو الأيام الستة التي تمت نشأة الكون إنما هي أحقاب زمنية كما أشار إليها شيخ الإسلام ابن تيمية ، حيث قال : ( فالذي جاء به القرآن والتوراة واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها مع أئمة أهل الكتاب ، أن هذا العالم خلقه الله وأحدثه من مادة كانت مخلوقة قبله كما أخبر في القرآن أنه استوي إلي السماء وهي دخان أي بخار فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها ، وقد كان قبل ذلك مخلوق غيره كالعرش والماء ، كما قال تعالى :
 وَهُوَ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ على المَاءِ  ، وخلق ذلك في مدة غير مقدار حركة الشمس والقمر – أي قبل الحركة المعهودة لنا - ، كما أخبر أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، فتلك الأيام مدة وزمان مقدر بحركة أخرى )
وعلى ذلك تحمل الأحاديث النبوية التي ورد فيها تسمية الأيام بأيامنا فأيام الأسبوع عندنا قد تطلق على أيامنا وقد تطلق على الحقب الزمنية التي كانت قبل تهيئة الأرض على وضعها الحالي في المجموعة الشمسية ، كما روي عند الإمام مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أنه قَال : ( أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ بِيَدِي فَقَال خَلقَ اللهُ عَزَّ وَجَل التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ وَخَلقَ فِيهَا الجِبَال يَوْمَ الأَحَدِ وَخَلقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَخَلقَ المَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلاثَاءِ وَخَلقَ النُّورَ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الخَمِيسِ وَخَلقَ آدَمَ عَليْهِ السَّلام بَعْدَ العَصْرِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فِي آخِرِ الخَلقِ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الجُمُعَةِ فِيمَا بَيْنَ العَصْرِ إلي الليْل ) .
فهذه كلها حقب زمنية الله أعلم بمقدار الزمن الذي يوازى الساعات فيها ، حتى مفهوم الساعة في العصر النبوي يختلف عن مفهوم الساعة في عصرنا ، وهذا ما يؤكده العلم الحديث حيث أكد العلماء المسلمون المتخصصون في الفزياء الكونية أن المقصود بالأيام الستة التي وردت في قوله تعالى :  وَهُوَ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ  ، هي المراحل أو الحقب الزمنية لخلق الكون وليست بمقاييس الأيام التي نعدها نحن البشر ، فأسماء الأيام واحدة لكن تخلتف دلالتها حسب المطابقة للزمان المقدر .
وكذلك يحمل على ذلك ما رواه الإمام مسلم 854 من حديث أبي هُرَيْرَةَ أن رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ قال : ( خَيْرُ يَوْمٍ طَلعَتْ عَليْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الجُمُعَةِ فِيهِ خُلقَ آدَمُ وَفِيهِ أُدْخِل الجَنَّةَ وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا ) .
فالعلة في وجود آدم في الجنة هي الابتلاء وهي تماثل العلة من وجوده في الدنيا سواء بسواء ، أما الجنة في الآخرة فهي دار نعيم وجزاء ، وشتان بين العلتين في تحقيق حكمة الله في الوضعين ، فالإنسان ابتلاه الله بالشيطان ، فوسوس لآدم وزوجته بالعصيان ، فخرجا من جنة الابتلاء إلي أرض الابتلاء ، وسيعودا بالطاعة إلي جنة القرار والجزاء ، فالابتلاء مظهر الحكمة الإلهية ، وسبب تحقيق العدل في الإنسانية ، ( تَبَارَكَ الذِي بِيَدِهِ المُلكُ وَهُوَ على كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ الذِي خَلقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ ليَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ العزيز الغَفُورُ  وتبارك الذي أبان في القرآن عن كيف تحققت حكمته في خلق الإنسان ،  إِنَّا خَلقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَليهِ فَجَعَلنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيل إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا  والابتلاء له في الحقيقة شقان ، الأول قدر الله وفعله بالإنسان ، والثاني موقفنا منه بالطاعة والإيمان ، أو الكفر والاعتراض والعصيان .
فلو قيل : لماذا جعل الله الناس مختلفين آجالا وأرزاقا ألوانا وأخلاقا ؟ منهم الغني والفقير ، والأعمى والبصير ، والجاهل والخبير ، منهم الظالم والمظلوم والحاكم والمحكوم ، والمالك والمعدوم ، منهم الشقي والسعيد ، والذكي والبليد ، لم لا يكون الناس أمة واحدة ؟ ، مسكنهم كمسكن الآخر ، وملبسهم كملبس الآخر ، ومطعمهم كمطعم الآخر ، لا فوارق بينهم ، كما نادت بذلك الشيوعية وبعض الآراء الوهمية ؟ وكما تصور البعض من قديم الزمان مدينة فاضلة لوجود الإنسان تشبه ما سيكون له في الجنان ؟ والجواب أن الله خلق الدنيا للامتحان ، ولا بد لكي يقوم الابتلاء على قاعدة وأساس أن تحدث الفوارق بين الناس ، ليبلو الله بعضهم ببعض كما قال تعالى :  وَهُوَ الذِي جَعَلكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ليَبْلُوَكُمْ في مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإِنَّهُ لغَفُورٌ رَّحِيمٌ  .
وقال سبحانه :  وَكَذَلكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ ليَقُولُوا أَهَؤُلأءِ مَنَّ اللهُ عَليْهِم مِّن بَيْنِنَا أَليْسَ اللهُ بِأَعْلمَ بِالشَّاكِرِينَ  وقال أيضا :  وَلوْ شَاءَ اللهُ لجَعَلكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِنْ ليَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إلي اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلفُونَ  ، فابتلي الله الرسل بأممهم ، وابتلي الأمم برسلهم ، وابتلي الحكام بشعوبهم ، وبتلي المحكومين بحكامهم ، وابتلي الأزواج بزوجاتهم ، وابتلي الآباء بأبنائهم ، وابتلي القوي بالضعيف ، وابتلي الضعيف بالقوي ، وهكذا في المجتمع الواحد تتنوع المستويات ، وتتعدد للجميع أنواع الابتلاءات ، تحقيقا للحكمة التي أراد الله عز وجل أن يخلقهم من أجلها ، ولن ينجح أي فكر يحاول العبث بها ، لأن الله نظم الكون على إثرها ، وبني على ذلك التفاوت في الدرجات ، والتنوع في القدرات ، ولذلك رأينا الشيوعية توالت عليها النكبات ، وأصبحت المركسية عبرة لسائر المخلوقات ، وأمة من أحط الأمم في تاريخ الحضارات ، فقد فشلت في قيادة البشرية أو تقديم النفع للإنسانية ، لأنها خالفت فطرة الله في جميع الحالات ، وعاكست أوامر الله في بناء المجتمعات .
فأوامر الله توجه الإنسان إلي الأفضل دائماً ، وتقلل من الفوارق بين الناس ما دام الإنسان قائماً ، على تنفيذ مراد الله في أمانته ، محافظا بين الخلق على مكانته ، موفقا فيما يمتحنه من أنواع الابتلاء ، سعيدا بما سيناله في الآخرة عند اللقاء ، فابتلي الله الإنسانية جمعاء ، أن يراعي كل إنسان مكانة أخيه الإنسان ، حتى ينال نصيبَه من التكريم الذي لعن بسببه الشيطان ، ويحيي حياة كريمة تشعره بالأمن والأمان ، وتتناسب مع كونه خليفةَ الله على سبيل الامتحان ، وهذه هي أساس الدعوة إلي حقوق الإنسان ، فلن تتحقق حقوق الإنسان إلا بتطبيق شرع الله تطبيقا شاملا ، وقيام كل راع بما عليه قياما كاملا ، وأن يكون مؤثرا في الحياة لا خاملا ، متوكلا على الله آخذا بالأسباب .
ولما جعل الله الناس مختلفين في الأرزاق ، على اختلاف أنواعها ، كالمال والصحة والذكاء ، والولد والجمال والنساء ، وما أشبه ذلك من ألوان النعيم أو الشقاء ، بين أن ذلك فعله بهم للاختبار والابتلاء ، فقال تعالى :  فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَليْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلا بَل لا تُكْرِمُونَ اليَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ على طَعَامِ المِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لمًّا وَتُحِبُّونَ المَال حُبًّا جَمًّا  ، فظن الجاهلون الغافلون من الأغنياء ، أن سعة الرزق محبة كتبت في القضاء ، حتى لو خالفوا المحجة البيضاء ، وظن الجاهلون الغافلون من الفقراء ، أن ضيق الرزق إهانة لهم في أم الكتاب ، وأن الله قضي لهم بالوقوف على الأبواب ، يسألون الأغنياء وهم أذلاء .
وكل ذلك من قلة العلم وسوء الفهم ، وكل ذلك يعبر عن الجهل بحقيقة الحياة ، فالإهانة تظهر للغني في ماله ، إذا لم يكرم اليتيم ويطعمه ، ولا يعطي المسكين ويحرمه ، ويكنز المال ويحبه ويعظمه ، ولم يعلم أنه فتنة فيقاومه ، كما قال خالقه ومنظمه :  إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيم ٌ  .
وقد ورد في الصحيحين عن رسول الله ص في بيان حقيقة الابتلاء ، وكيف يكشف للمؤمنين حقيقة الدنيا في جلاء ، ورد من حديث أبي هُرَيْرَةَ  أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ص يَقُولُ : ( إِنَّ ثَلاثَةً فِي بِني إسرائيل ، أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَي ، أَرَادَ اللهُ أَنْ يَبْتَليَهُمْ ، فَبَعَثَ إِليْهِمْ مَلكًا فَأتي الأبْرَصَ فَقَال ، أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِليْكَ ؟ ، قَال لوْنٌ حَسَنٌ ، وَجِلدٌ حَسَنٌ ، وَيَذْهَبُ عَنِّي الذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ ، قَال ، فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ ، وَأُعْطِيَ لوْنًا حَسَنًا ، وَجِلدًا حَسَنًا ، قَال ، فَأَيُّ المَال أَحَبُّ إِليْكَ ؟ قَال ، الإِبِلُ ، فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ ، فَقَال ، بَارَكَ اللهُ لكَ فِيهَا ، قَال ، فَأتي الأقْرَعَ فَقَال ، أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِليْكَ ؟ قَال شَعَرٌ حَسَنٌ ، وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا الذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ قَال فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ ، وَأُعْطِيَ شَعَرًا حَسَنًا ، قَال فَأَيُّ المَال أَحَبُّ إِليْكَ ؟ ، قَال ، البَقَرُ ، فَأُعْطِيَ بَقَرَةً حَامِلا فَقَال ، بَارَكَ اللهُ لكَ فِيهَا ، قَال فَأتي الأعْمَى ، فَقَال أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِليْكَ ؟ ، قَال ، أَنْ يَرُدَّ اللهُ إلي بَصَرِي فَأُبْصِرَ بِهِ النَّاسَ ، قَال فَمَسَحَهُ ، فَرَدَّ اللهُ إِليْهِ بَصَرَهُ ، قَال فَأَيُّ المَال أَحَبُّ إِليْكَ؟ ، قَال الغَنَمُ ، فَأُعْطِيَ شَاةً وَالدًا ، فَأُنْتِجَ هَذَانِ ، وَوَلدَ هَذَا ، قَال فَكَانَ لهَذَا وَادٍ مِنَ الإِبِل ، وَلهَذَا وَادٍ مِنَ البَقَرِ ، وَلهَذَا وَادٍ مِنَ الغَنَمِ ، قَال ، ثُمَّ إِنَّهُ أتي الأبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ ، فَقَال رَجُلٌ مِسْكِينٌ ، قَدِ انْقَطَعَتْ بِيَ الحِبَالُ فِي سَفَرِي ، فَلا بَلاغَ ليَ اليَوْمَ ، إِلا بِاللهِ ثُمَّ بِكَ ، أَسْأَلُكَ بِالذِي أَعْطَاكَ اللوْنَ الحَسَنَ ، وَالجِلدَ الحَسَنَ وَالمَال ، بَعِيرًا أَتَبَلغُ عَليْهِ فِي سَفَرِي ، فَقَال الحُقُوقُ كَثِيرَةٌ ، فَقَال لهُ كَأَنِّي أَعْرِفُكَ ، أَلمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ ، فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللهُ ، فَقَال ، إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا المَال ، كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ ، فَقَال ، إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللهُ إلي مَا كُنْتَ ، قَال وَأتي الأقْرَعَ فِي صُورَتِهِ ، فَقَال لهُ مِثْل مَا قَال لهَذَا ، وَرَدَّ عَليْهِ مِثْل مَا رَدَّ على هَذَا ، فَقَال إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللهُ إلي مَا كُنْتَ ، قَال وَأتي الأعْمَي فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ ، فَقَال رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ ، انْقَطَعَتْ بِيَ الحِبَالُ فِي سَفَرِي ، فَلا بَلاغَ ليَ اليَوْمَ ، إِلا بِاللهِ ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ بِالذِي رَدَّ عَليْكَ بَصَرَكَ ، شَاةً أَتَبَلغُ بِهَا فِي سَفَرِي فَقَال ، قَدْ كُنْتُ أَعْمَي فرَدَّ اللهُ إلي بَصَرِي ، فَخُذْ مَا شئت وَدَعْ مَا شئت ، فَوَاللهِ لا أَجْهَدُكَ اليَوْمَ شَيئًا أَخَذْتَهُ للهِ فَقَال أَمْسِكْ مَالكَ ، فَإِنَّمَا ابْتُليتُمْ ، فَقَدْ رُضِيَ عَنْكَ وَسُخِطَ على صَاحِبَيْكَ ) .
فانظر كيف علمنا المصطفي صلي الله عليه وسلم انظر كيف رسول الله أن نفهم حقيقة الحياة ؟ ، وانظر أيضا إلي قارون وما ورد عنه في كتاب الله ، كيف أعطاه الله المال واسترعاه ، ثم وحد الله نفسه بقوله وآتيناه ، فقال قارون : لا ، إنما أوتيته على علم عندي :  إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَي فَبَغَي عَليْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لتَنُوءُ بِالعُصْبَةِ أُولي القُوَّةِ إِذْ قَال لهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الفَرِحِينَ  .
فانظر إلي جناية قارون : رجل أنكر فضل ربه ، وتناسي أنه أمين في ملكه ، ونسب الفضل إلي نفسه ، وتجاهل أنه مستخلف في المال بأمره ، وأنه مبتلي به إلي وقت معلوم ، وبقاؤه على هذا الحال لا يدوم ، فاستكبر هذا الطاغية ولم يعبأ بأمر الله ، وخرج متمثل نا يهزأ بمن نصحه ودعاه ، أن يرجع بماله إلي الله :  وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِليْكَ وَلا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ قَال إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلمٍ عِندِي أَوَلمْ يَعْلمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلكَ مِنْ قَبْلهِ مِنْ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ المُجْرِمُون َ  ، فلم يعلم أن الله استدرجه بسوء نيته ، وخرج على قومه في مثل نته ، مستكبرا على الضعفاء من أمته ، حتى تملكهم الوسواس ، وأصبحت أمنية الناس ، أن يصلوا إلي ما وصل إليه قارون :  فَخَرَجَ على قَوْمِهِ فِي مثل نَتِهِ قَال الذِينَ يُرِيدُونَ الحَيَاةَ الدُّنيَا يَا ليْتَ لنَا مِثْل مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَال الذِينَ أُوتُوا العِلمَ وَيْلكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لمَنْ آمَنَ وَعَمِل صَالحًا وَلا يُلقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ  .
فصدر حكم الله لخائن الأمانة ، وتم استدعاؤه على الفور من مكانه ، ليعود لربه ذليلا راغما حقيرا ، وليعلم الجميع أن الله هو الغني وأن قارون كان عبدا آبقا فقيرا ، وهذا هو عدل الله فيمن تجرأ على ربه وتحداه ، وما ظلمه الله ولكن هذا ما جنته يداه يقول الله عز وجل :  فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ وَأَصْبَحَ الذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لوْلا أَنْ مَنَّ اللهُ عَليْنَا لخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلحُ الكَافِرُونَ تِلكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا للذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالعَاقِبَةُ للمُتَّقِينَ  ، فالغني لا يكرمه الله إلا إذا شكر ربه شكر الزاهدين ، وتحرى الحلال كشأن التائبين الخائفين ، وصبر على إغراء المال ومقاومته صبر الموقنين الموحدين ، وعاد فقيراً بماله إلي رب العالمين ، ينسب الفضل والملك لأحكم الحاكمين ، متبعا في ماله نهج الأنبياء والمرسلين ، فإن الله أعطي المال لإبراهيم ، وأعطي الملك والسلطان لداود وسليمان عليهم السلام أجمعين ، فكانوا في ملكهم أو مالهم من أزهد الزاهدين ، وكانوا أمناء في الأرض مستخلفين ، كما قال عن سليمان عليه السلام :  وَوَهَبْنَا لدَاودَ سُليْمَانَ نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ  ، فأنعم به من عبد على الرغم من كونه قويا غنيا ، لديه الدنيا بأسرها وبهجة الحياة بأنواعها ، ألا أنه نسب الفضل لمن ابتلاه بها ، وكأنه يقول للجميع : الفضل ليس لي ولا لجندي ، وإنما هو فضل ربي ، وقد استرعاني واستخلفني ، فهو المنفرد بالغني والكمال ، وأنا عبده الفقير في كل حال :  هَذَا مِنْ فَضْل رَبِّي ليَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ  ، وإذا ضيق الله الرزق على إنسان ، فلا يعني ذلك أنه مهان ، فالفقير لا يهان إلا باعتراضه على قدره ، وخجله من فقره وحرمانه ، والتبرؤ من أهله وإخوانه ، لكونهم فقراء لا يملكون ، معدومين لا يجدون ، فيحقد الفقير على الأغنياء ، ويعترض على مر القضاء ، ويضمر الحقد والكيد والعداء ، لكل من جعلهم الله ملوكا أو أغنياء ، فالحسد داء ماله دواء ، إلا الرضا بالقضاء ، وإدراكِ حقيقة الابتلاء ، فوجب على المبتلين أن يتمنوا السعادة للآخرين وأن يسألوا رب العالمين ، أن يمنحهم من فضله وعطائه ، ومدده ونعمائه .
وانظر إلي هذا المثل العجيب وما يوجبه على العاقل اللبيب ، فقال تعالى يخاطب نبينا الحبيب : ( وَاضْرِبْ لهُمْ مَثَلا رَجُليْنِ جَعَلنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا كِلتَا الجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلهَا وَلمْ تَظْلمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالهُمَا نَهَرًا ) .
من الذي منحه الجنتين على الرغم من حرثه أرضا ميتة بور ؟ ومن الذي حفهما بالنخل على الرغم من وضعه البذور ؟ ومن الذي أنشأ البئر فيهما وجعل ماءه يفور ؟ ومن الذي أعطاه أسباب الحياة وسهل له الأمور ؟ إن أحسن هذا الإجابة فإنه يقول : ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، لكن صاحب الجنتين نسب الفضل إلي نفسه ، وتناسي فضل ربه ، وتناسي أنه مستخلف من قبله : ( وَكَانَ لهُ ثَمَرٌ فَقَال لصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا وَدَخَل جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالمٌ لنَفْسِهِ قَال مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلئِنْ رُدِدْتُ إلي رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلبًا ) ، فوصفه الله بالظلم لقوله أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ، ووصفه صاحبه بالكفر والشرك ولم يجعل له عذرا : ( قَال لهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالذِي خَلقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا وَلوْلا إِذْ دَخَلتَ جَنَّتَكَ قُلتَ مَا شَاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ إِنْ تُرَنِي أَنَا أَقَل مِنْكَ مَالا وَوَلدًا فَعَسَي رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِل عَليْهَا حُسْبَانًا مِنْ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلقًا أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلنْ تَسْتَطِيعَ لهُ طَلبًا ) .
وحيث أن صاحب الجنتين أمين في أرض الله ، مخلول على سبيل الابتلاء فيما أعطاه ، وكان يجب ألا ينسب الملك لسواه ، ويتواضع لله ويذكره ولا ينساه ، لكنه أصر مستكبرا أن الملك سيدوم له في هذه الحياة ، واستدل بالغني والنعمة على محبتة الله ورضاه ، حتى لو تمادي في الكبر وتعالي على خلق الله ، من أجل ذلك صدر حكم الله فيه وفي مثله من العصاة ، فقال سبحانه وتعالى : ( وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلبُ كَفَّيْهِ على مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا ليْتَنِي لمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا وَلمْ تَكُنْ لهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا هُنَالكَ الوَلايَةُ للهِ الحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا وَاضْرِبْ لهُمْ مَثَل الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ على كُل شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ) .
فمن ابتلاه الله بالفقر ، فلم يصبر على بلواه لم يأخذ من الدنيا إلا ما قدره الله ، وسوف يهان بين الناس لإنكاره وشكواه ، والفقير الصابر له أسوة في رسول اللهصلي الله عليه وسلم ، نشأ يتيما في مرارة اليتم ولوعته ، وربط الحجر على بطنه من الجوع وشدته ، ومات ولده إبراهيم فصبر على بليته ، وأدماه قومه لنصحه ودعوته ، وكان الحصير فراشه في نومته ، كل هذا حدث له وهو شفيع لأمته ، وصاحب المقام المحمود في اليوم الموعود .
وهذا نبي الله أيوب عليه السلام ، ضرب به المثل في الصبر والاعتماد على الله ، أن يرفع عنه البلاء ، ويصرف عنه الضراء : ( وَأَيوبَ إِذْ نَادَي رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلهُ وَمِثْلهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَي للعَابِدِين ) ذكري للعابدين من الفقراء والمبتلين ، الصابرين المحتسبين ، ولذلك قال الله فيه : ( إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) ، فمنزلة الفقراء الصابرين ، توازى منزلة الأغنياء الشاكرين ، كما قال رب العالمين ، عن شكر سليمان لربه وصبر أيوب في مرضه كلاهما وصفهما الله عز وجل بقوله : ( نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّاب ) وربما يسأل بعض الحاضرين أيهما أفضل عند الله ، الغني إذا شكر أم الفقير إذا صبر ؟
والجواب : أن أفضلهما هو الأكثر طاعة لله ، كما قال الله عز وجل : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَي وَجَعَلنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِل لتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَليمٌ خَبِيرٌ ) ، فالأتقي هو الأفضل ، وإن كان غنيا شاكرا ، أو كان فقيراً صابراً ، لأن الله أسقط الغني والفقر من ميزان الكرامة والإهانة ، وجعل الميزان ميزان الإيمان ووفاء الأمانة ، فالفقر والغني فعل الله وابتلاؤه للإنسان ، والحساب عند الله على مدي كسب العبد للإيمان وقد روي الإمام مسلم بسنده عن رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم أنه قال : ( عَجَبًا لأمْرِ المُؤْمِنِ ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلهُ خَيْرٌ ، وَليْسَ ذَاكَ لأحَدٍ إِلا للمُؤْمِنِ ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ ، فَكَانَ خَيْرًا له ) ، فالابتلاء في الحقيقة له علاقة دقيقة ، بحياة الإنسان وما حوله من الكائنات ، ويمكن من خلاله انضباط الفهم في تفسير العلة من وجود المخلوقات فلو سأل سائل : لماذا أخفي الله موعد الموت ، وجعل الله الناس متفاوتين في الآجال كتفاوتهم في المال والملك وسائر الأرزاق ؟ الجواب : أن ذلك ابتلاء واختبار ، ليكون الإنسان دائم الحذر ، فربما يستدعيه مستخلفه في أي لحظة لسؤاله عن الأمانة ، يقول تعالى : ( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَي فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَي ) .
كما أننا نعلم أن الإنسان إذا علم متي أجله ، لم يهنأ له بال ، ولم يسعد في الدنيا بملك أو مال ، وصار حزينا مغموما ، خائفا مهموما ، لا لأنه في دار الابتلاء يتوق الحساب والجزاء في أي لحظة ، كما هو اعتقاد الراسخين في العلم ، ولكن لأنه علم موعده المحتوم ، فأصبحت الدنيا عنده مراراً ، كيف يمارس العبادة فيها حراً مختاراً ؟ ولذا كانت حكمة الله في إخفاء الأجل ، فقال الله تعالى : ( وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَليمٌ خَبِير ) .
ولو سأل سائل أيضا : لماذا حجب الله عنا عالم الغيب فلا نري الله ولا نري ملائكته ولا نري الجنة أو النار ؟ والجواب : أن الله جعل مداركنا محدودة ، لا تصل بمفردها إلي معرفة المغيبات ، تحقيقا لمعني لابتلاء ، فالإنسان يسمع ويري ولكن بحدود معينة ، فإن تجاوزها أصبح قوله رجما بالغيب ، وقد نهانا الله عن ذلك فقال :  وَلا تَقْفُ مَا ليْسَ لكَ بِهِ عِلمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُوْلئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا  ، وقال تعالى أيضا :  قُل إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لمْ يُنَزِّل بِهِ سُلطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا على اللهِ مَا لا تَعْلمُونَ  ، فالله يري يوم القيامة في الآخرة ، ولا يري في الحياة الدنيا تحقيقا للابتلاء ، ففي صحيح الإمام مسلم أن رسول الله ص قال : ( تَعَلمُوا أَنَّهُ لنْ يَرَي أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ عَزَّ وَجَل حتى يَمُوتَ ) .
أما إذا انتقل الإنسان إلي الآخرة مؤمنا موحدا عابدا لله ، خاضعا في ملك الله لله ، محبا له ومتبعا سنة رسول الله أنعم الله عليه بجنته ورؤيته ، فقال سبحانه عن في وصف خاصته :  وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إلي رَبِّهَا نَاظِرَةٌ  ، ومعني ناضرة أي مبتهجة بهية فرحة هنية ، مسرورة لأنها ستنظر إلي الله يوم القيامة ، ففي الصحيحين من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال : (كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَنَظَرَ إلي القَمَرِ ليْلةً يَعْنِي البَدْرَ فَقَال إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا القَمَرَ لا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لا تُغْلبُوا على صَلاةٍ قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْل غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا ثُمَّ قَرَأَ ( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْل الغُرُوبِ ) .
وكذلك يقال فيما لا نراه من الملائكة والجن أو الجنة والنار ، فإن الله حجب عنا ذلك تحقيقا لمعني الابتلاء ، فكيف سنكلف بالإيمان بهذه الأشياء ، ونحن نراها بمداركنا ، فلا معني عند ذلك لوجود الرسل والشرائع ، ولا معني عند ذلك أن يكون المؤمنون بالغيب هم المفلحون ، فلا ميزة لهم عند ذلك عن الكافرين ، فالابتلاء يفسر لنا قصور أجهزة المكلفين ، وتمام الحكمة في خلق المستخلفين ، فالإنسان وإن كان مخلوقا عارفا مدركا ، إلا أن مدركاتِه قاصرةُ على العالم المحسوس فقط ، فليس من المعقول أن يكون على الأرض ابتلاء ، والإنسان المبتلي يمكن أن يري النار وعذابها ، أو يسمع زفيرها ، فإن هذا يناقض الحكمة والكمال ، وليس ذلك وصف رب العزة والجلال .
ومن ثم فإن الله حجبنا تحت غطاء كوني شامل يحجب عالم الشهادة عن عالم الغيب ، ويمنع أيضا عن الإنسان معرفةَ الأمور الغيبية التي تقع على الأرض ، كصراخ المعذبين في قبورهم ، وكرؤية الملائكة المدبرين لأمورهم ، وكرؤية الجن الملتفين من حولهم ، أو الشياطين المتربصين لإضلالهم ، لأنهم لو رأوا ذلك بأعينهم ، لذهبت العلة في امتحانهم ، وضاع معني استئمانهم واستخلافهم ، ولن يكون هناك فضل لاجتهادهم ، أو المسارعة إلي الإيمان بربهم ، إذ الكل في كشف الغطاء والحجاب سواء ، ولذلك ، فإن هذا الغطاء يرفع عن الإنسان بمجرد الانتهاء من فترة الابتلاء ، فيقول تعالى عن الكافر إذا حان اللقاء :  لقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَدِيدٌ  ، وهكذا يمكن للمرء أن يفهم كيف يكون عابدا لله من خلال ابتلائه في الحياة ويستطيع بعد هذا لو فكر بإمعان ، أن يدرك كيف بدأ الكون ونشأ الإنسان ؟ .
وقبل الختام هناك سؤال يتردد على الأذهان ، كيف وصف الله الإنسان بالظلم والجهالة في آية الأمانة ، في حين أنه مارس حقه في الاختيار ، كما مارست السماوات والأرض والجبال ، فالله جعل لهم جميعا إرادة وفهما ، واستطاعة ونطقا ، فقال سبحانه وتعالي :  إِنا عَرَضْنَا الأمَانَةَ على السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالجِبَال فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا  ، فلماذا وصفه الله بالظلم والجهالة ، مع كونه الوحيد الذي انفرد بحمل الأمانة وكرمه الله من أجلها ، وسخر له بسببها جميع المخلوقات ؟
والجواب ، أن الله وصفه بالظلم والجهالة لا لأنه حمل الأمانة ، فقد شرفه بعدها واستخلفه في الأرض ، ولكن السبب في ذلك أن أغلب بني آدم قد ضيع الأمانة أو خانها وعصي ربه وكفر بها ، وكان المفترض من جميع البشر ، أن يكونوا أمناء كما ينبغي ، على قدر المنزلة التي شرفهم الله بها ، ومن هنا يمكن القول أن وصف الإنسان بالظلم والجهالة كان على اعتبارين :
الاعتبار الأول : أن الظلم والجهالة وصف أغلب البشر كما نعلم ، ومعلوم أنه لا يدخل في ذلك الرسل والأنبياء ، أو عامة الصالحين الأتقياء ، فالنسبة بين الموحدين العابدين والمشركين الكافرين ، نسبة ضئيلة جدا عند المقارنة ، دل على ذلك ما ثبت في الصحيحين أن رسول الله ص قال : ( يَقُولُ اللهُ تعالى : يَا آدم ، فَيَقُولُ : لبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالخَيْرُ فِي يَدَيْكَ ، فَيَقُولُ : أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ ، قَال : وَمَا بَعْثُ النَّارِ ؟ ، قَال : مِنْ كُل أَلفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ فَعِنْدَهُ يَشِيبُ الصَّغِيرُ ،  وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلهَا وَتَرَي النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ  (الحج /2) قَالُوا يَا رَسُول اللهِ ، وَأَيُّنَا ذَلكَ الوَاحِدُ قَال أَبْشِرُوا ، فَإِنَّ مِنْكُمْ رَجُلا ، وَمِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلفًا ثُمَّ قَال ، وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، إِنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْل الجَنَّةِ ، فَكَبَّرْنَا فَقَال ، أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْل الجَنَّةِ فَكَبَّرْنَا فَقَال ، أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْل الجَنَّةِ ، فَكَبَّرْنَا فَقَال ، مَا أَنْتُمْ في النَّاسِ إِلا كَالشَّعَرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جِلدِ ثَوْرٍ أَبْيَضَ ، أَوْ كَشَعَرَةٍ بَيْضَاءَ فِي جِلدِ ثَوْرٍ أَسْوَدَ ) ، فإذا كانت النسبة بين من حقق الغاية من خلقه وأدي أمانة ربه ، وبين من تناسي العلة من خلقه ، وتجاهل طاعة الله في ملكه ، هي نسبة الواحد إلي تسع وتسعين كما ورد في الحديث ، فإن الإنسان في أغلب الأحيان على هذا الاعتبار ظلوم جهول .
الاعتبار الثاني في وصف الإنسان بالظلم والجهالة في آية الأمانة : أن وصف الإنسان بالظلم والجهالة ، على اعتبار المنتهي والنتيجة ، لا باعتبار المبتدأ عند عرض الأمانة ، فلو كان ظلوما جهولا عند البداية ما كرمه الله بهذه المنزلة ولا حقد عليه إبليس في هذه المسألة ، ولا ظهرت الحكمة في سجود الملائكة للإنسان ، ولكنه كان ظلوما جهولا باعتبار النتيجه ومحصلة أفعال الإنسان ، فالأمر كما ذكر الله في القرآن :  يَا حَسْرَةً على العِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون  .
اللهُمَّ أَنْتَ المَلكُ لا إِلهَ إِلا أَنْتَ ، أَنْتَ رَبِّنا ونحن عبيدك ظَلمْنا أنَفْسنا وَاعْتَرَفْنا بِذَنْوبنا فَاغْفِرْ لنا فإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ وَاهْدِنِا لأَحْسَنِ الأَخْلاقِ لا يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إِلا أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنّي سَيِّئَهَا لا يَصْرِفُ عَنِّا سَيِّئَهَا إِلا أَنْتَ لبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ وَالشَّرُّ ليْسَ إِليْكَ إَنَا بِكَ وَإِليْكَ تَبَارَكْتَ وَتعاليتَ نَسْتَغْفِرُكَ ونتُوبُ إِليْكَ .
إلي هنا تنتهي سلسلة الحديث عن بداية الكون ونشأة الإنسان ، فإن كان مني خطأ أو زلة في الاستدلال والبرهان فأسأل الله أن يغفر لي ذنبي وتقصيري ، وألا يكلني إلي حولي وتدبيري فإنه سبحانه وتعالي ولي الفضل والنعمة وله علينا بالغ الكرم والمنة ، وقد روي البخاري مرفوعا أن من َاجْتَهَدَ فأَصَابَ فَلهُ أَجْرَانِ ومن َاجْتَهَدَ فأَخْطَأَ فَلهُ أَجْرٌ واحد .
فاللهم صلي على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه إلي يوم الدين سبحانك الله وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .
د/ محمود عبد الرازق الرضواني
وأنبه على أن الموضوع نظرا لأهميته فقد قدم للجنة البحوث في الأزهر لطلب نشره والإفتاء بسلامته من جهة العقيدة وأخذ يبحثه الأزهر فترة طويلة ووافق على كل ما جاء فيه
نفعنا الله وجميع المسلمين بما جاء فيه

د. محمود عبد الرازق الرضواني
04-16-2005, 06:53 PM
http://www.asmaullah.com/lecture3.htm

ATmaCA
04-17-2005, 05:26 AM
شكرا جزيلا على هذا الموضوع

مع انى لم انتهى من القراءة بعد :d:: ــ ولكنة موضوع رائع جدا

تحيتى وتقديرى . .

أسد العقيدة
04-19-2005, 07:22 AM
أخي الدكتور محمد

مع إني قرأت المحاضرة الأولى فقط .. إلا أن ما في طياتها جميل جدا ومفيد .. وأنا في شوق لقراءة المزيد

:emrose:

جزاك الله خيرا

:)::