المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : وأضلهم السامرى



سليم يوسف على
08-22-2008, 03:00 PM
".... وأضلهم السامري "*

ولد المؤرخ البريطاني المعروف بول جونسون Paul Johnsonفي مدينة مانشستر عام 1928 ، وقد بدأت شهرتـــــــه فــي الخمسينـــــات من القــرن العشرين كصحفي في مجلة New Statesman ثم كمحرر لها .
وهو كاتب غزير الإنتاج إذ كتب ما يزيد على الأربعين كتاباً علاوة على مساهماته الكثيرة في الصحف والمجلات.
وفي بداية مهنته كان جونسون مرتبطاً إلى حد ما باليسار أما الآن فيعتبر كاثوليكياً محافظاً بارزاً بل ويعده البعض وخاصة في البلدان الأوروبية يمينياً متطرفاً بسبب هجومه على الحركة النقابية في بريطانيا وإعجابه بالجنرال فرانكو ونقده للديمقراطية النيابية .
وبعد أن كان في الخمسينات من القرن السابق يسارياً فقيراً أصبح الآن ميسور الحال بفضل كتبه التاريخية ذات الصبغة المحافظة والتي ما زالت تحقق مبيعات هائلة.
ومن أشهر كتبه كتاب ( الأزمنة الحديثة Modem Times ) وهو تاريخ سياسي للقرن العشرين ترجم إلى عشرات اللغات وما زالت تصدر منه طبعات محدثة في لغته الأصلية،وقد تنبى فيه جونسون نظرة محافظة ترى أن النسبية(في الفلسفة والقيم والأخلاق ) هي مرض الحداثة العضال .
وبصفة عامة فإن كتابات جونسون التاريخية تمتاز بحسن العرض وموسوعية المعلومات وقدرة المؤلف النادرة على معالجة موضوع واسع فى مجلد واحد كما فعل بتميز في كتبه " تاريخ اليهود " و " تاريخ المسيحية " و " تاريخ الشعب الأمريكي " .
وقد أثارت آراؤه الكثير من العداء والجدل بسبب حدتها اليمينية المؤسسة على عقيدته الكاثوليكية مثل وصفه للكنيسة الإنجليزية بأنها " كنيسة سدوم " ( إشارة إلى إحدى مدن سيدنا لوط الخاطئة كما سميت فى كتاب العهد القديم ) .
ونحن فيما يلي من السطور سوف نعرض بإيجاز على القارئ الكريم بعض آراءه الواردة في كتابه المشهور مفكرون Intellectuals ، الذي نشر عام 1988 ثم توالت طبعاته وترجم إلى العديد من اللغات .
يتكون هذا الكتاب من حلقات كل منها يشغل فصلاً كاملاً، وتدور حول سيرة حياة أحد المفكرين الذين يجسدون في نظر جونسون مفهومه حول المفكر العلماني . وقد اعتمد في دراسته سير حياة هؤلاء المفكرين على أدق المصادر والمراجع المعتمدة مع إحالة مستمرة دقيقة على مواضع معلوماته في تلك المصادر والمراجع.
يقول جونسون أن المفكر العلماني هو ظاهرة جديدة نسبياً نستطيع تحديد ظهورها في القرن الثامن عشر مما جعلها عاملاً هاماً من عوامل تشكيل العالم الحديث .
قبل ظهور المفكر العلماني ، عرفت المجتمعات الإنسانية مصلحين من فئات عديدة
)والحديث هنا لا يدور بالطبع على الرسل والأنبياء عليهم السلام( أرادوا إصلاح مجتمعاتهم ورأب صدعها الأخلاقي والمادي، ولكنهم كانوا جميعاً يقفون عند حدود مرجعية تملكها سلطة خارجة عنهم تمثل كل ما يملكه المجتمع من تقاليد دينية
أو دنيوية متوارثة .
إن المفكر العلماني يمكن أن يكون مؤمناً بالدين الطبيعي (اى يؤمن بالله مع إنكار الوحي ) أو شاكاً أو ملحداً، ولكنه في جميع أحواله يزعم انه مستعد لقيادة الإنسانية وإرشادها إلى ما يتوجب عليها فعله .
إنه منذ البداية يدعى إخلاصاً خاصاً للإنسانية ويأخذ على عاتقه مهمة تعليمها . وعندما ينيط بنفسه هذه المهمة فإنه يحرر نفسه أولاً من سلطان أي دين سماوي .
إنه يشعر بحريته المطلقة تجاه حكمة الماضين وإرث الأجداد والمعايير المتوارثة : إما أن يختار منها ما يشاء أو يرفضها بالكلية .
ويرى جونسون أن أبرز خصائص هذا المفكر العلماني هو اجتهاده في إخضاع الدين ودعاته ورموزه للفحص النقدي ، كأن يتساءل عن مدى اتفاق حياة أولئك الدعاة مع المبادئ الدينية التي يبشرون بها ؟ وكانت الأحكام النهائية قاسية بالطبع .
والآن وبعد مضي حوالي قرنين من ازدياد دور المفكر العلماني في تشكيل العالم الحديث والمعاصر، يرى جونسون أن الوقت قد حان لفحص سجلات حياة أولئك المفكرين العلمانيين في ناحيتها الخاصة والعامة مع التركيز على أهلية وجدارة أولئك المفكرين الأخلاقية لإرشاد الإنسانية للسلوك القويم .
كيف كانت حياتهم الخاصة ؟ بأي مدى من الاستقامة كانوا يتصرفون تجاه عوائلهم وأصدقائهم وشركائهم ؟
هل كانوا عادلين في معاملاتهم المالية ؟ هل كانوا يقولون ويكتبون الحقيقة ؟
ويبدأ جونسون رحلته الفاحصة في حياة كبار المفكرين العلمانيين من جان جاك روسو ( 1712 – 1778 ) وينتهي بعالم اللغة واليساري ناعوم تشومسكي مروراً بشيلي وماركس وتولستوي وابسن وماركس وهمنغواي وبريخت ورسل وسارتر وغيرهم .
وفي فحصه لحياة جان جاك روسو، الذي يعتبره جونسون أول المفكرين العلمانيين ونموذجهم الأعلى، يكشف لنا عن المساوئ والعيوب الخلقية التي سادت سلوكه وحياته حتى نهايتها . فحياة روسو كانت فشلاً مستمراً واعتماداً كلياً على الغير مع جحود ونكران للجميل . فالسيدة التي عاشت في كنفها وأنقذته أربع مرات من العوز والفاقة وأسمها مدام دو وران De Warens ؛هذه السيدة مال عليها الزمان فاستجدت عونه كثيراً ولكن دون طائل ، فماتت عام 1761 من سوء التغذية بعد أن ظلت عامين رهينة الفراش .
أما في كتابه المشهور " الاعترافات " فقد أورد روسو أشياء تصدم الإحساس حول شذوذه الجنسي وأحاسيسه الشائنة وذلك حتى يمرر أكاذيبه الخاصة بأناس عاش معهم وقلب لهم ظهر المجن . وقد أثبت البحث الحديث اختلاق وكذب الكثير مما كتبه حول الآخرين وحول نفسه في ذلك الكتاب.
وهنا نأتي إلى حادثة أساسية في حياة روسو : لقد انجب من عشيقته تيريز لوفاسورTherese Levasseur خمسة أطفال غير شرعيين وكان كل مرة يضع المولود أمام باب ملجأ اللقطاء في باريس . وبالنسبة للأول وضع قصاصة من الورق تحوى عبارة مشفرة ، أما البقية فلم يكلف نفسه عناء وضع تلك القصاصة.
إن فعلته هذه تجاه أبنائه دفعته – ربما من باب التبرير اللاواعي – إلى أن يصوغ نظريته في التربية والتي تقول أن الوالدين يجب أن ينقلا مسئولية تربية الأبناء إلى الدولة .
وهكذا تحول ما بدأ على شكل تبرير ذاتي لفعلة شنيعة وغير طبيعية إلى نظرية في التربية عرضها روسو في كتابه أميل (Emile).
وتقوم هذه النظرية على القول بأن التعليم هو مفتاح التقدم الأخلاقي والاجتماعي وبالتالي فهو مسئولية الدولة، وأن الدولة يجب أن تشكل عقول الجميع، ليس فقط الأطفال
( كما فعلت مع أطفاله هو في ملجأ الأيتام ) وإنما أيضاً البالغين.
وهكذا نشأت علاقة غريبة وعلى أساس منطق أخلاقي مشوه بين تصرف روسو الظالم كأب وبين ما سوف يظهر مستقبلاً على شكل الدولة الشمولية المستبدة .
وعلى هذا المنوال يستمر الفحص الدقيق لحياة أولئك المفكرين الذين ادعوا حب الإنسانية وأخذوا على عاتقهم هدايتها انطلاقاً من عقولهم وحدها مع رفض كامل ومبدئي لأي قيم سابقة سواءً أتت من دين سماوي أو من تقاليد موروثة.
ويثبت جونسون خلال دراسته لتفاصيل حياة أولئك المفكرين عقمهم الروحي والعاطفي وبخلهم المادي ويبين أن كل من يختلط بهم يتأذى مادياً ونفسياً وجسدياً سواء كان زوج أم ابن أم صديق أم شريك . فالكاتب الروسى تولستوى لو وقف عند حدود إبداعه الروائي ، لما دخل فى زمرة المفكرين العلمانيين ولضمنت له رواية"الحرب والسلام " وحدها مكانة فريدة فى تاريخ الأدب العالمي ، ولكنه ادعى قدرته على إصلاح المجتمع بنظريات تخطيط اجتماعي ابتدعها هو وجابه من اجلها الكنيسة الأرثوذكسية .وفى أثناء هذه العملية الإصلاحية برزت عيوبه الأخلاقية وأنانيته الطاغية مما سبب الكثير من الأذى والمعاناة لأهله ولغيرهم ممن جاء به القدر في طريقه. وانتهى به الأمر أن يخرج ذات ليلة ثلجية عاصفة من ضيعته ياسنايا بوليانا Yasnaya Polyana ليموت وحيداً في محطة قطار ريفية. أما عن حياة وموت الكاتب الامريكى همنغواي ، فيقول جونسون أنهما يؤكدان أن الفن وحده لا يكفى ، إذا كان الفنان يزعم خلق منظومة قيم جديدة مديراً ظهره باحتقار وكبر للدين وللحكمة البشرية المتوارثة.
فهل يجرؤ رجل به نقائص وعيوب أخلاقية خطيرة أن يدعي أهليته وجدارته لهداية الإنسانية وأن يريها الحق حقاً والباطل باطلاً ؟ وإذا كان أحدهم عاجزاً عن إسعاد زوجة أو ابن أو صديق بسبب قسوة في الطبع وأنانية طاغية فهل ستجد الإنسانية سعادة في تعاليمه وإرشاده ؟
وبعد أن ينهى جونسون بحثه الشائق في حياة تلك النماذج البارزة من المفكرين العلمانيين ويطلق بعض التحذيرات بخصوص دورهم السلبي في المجتمع الحديث يقول: وقبل كل شئ يتوجب علينا دائماً أن نتذكر ما يتناساه المفكرون العلمانيون عادةً وهو أن البشر هم أكثر أهمية بما لا يقاس من المفاهيم الفكرية وأن مكانتهم يجب أن تكون الأولى دائما. أن أسوأ أنواع الاستبداد هو الطغيان القاسي للأفكار.
وهنا أود أن أشير إلى أن الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد قد تفطن بكل وضوح لهذا الخلل الكبير في حياة أحد أبرز هؤلاء المفكرين العلمانيين وهو كارل ماركس فقال في كتابه " الشيوعية والإنسانية في شريعة الإسلام " ( الذي صدرت طبعته الأولى في مطلع الخمسينات من القرن العشرين ) قال بعد الحديث عن عيوب أمام ومؤسس الماركسية:
(( هل يعتبر كارل ماركس بهذه الأخلاق فرداً صالحاً في مجتمع من المجتمعات الإنسانية كائناًً ما كان ؟ وهل يكون فرداً غير صالح ويجوز مع ذلك أن يكون إماماً صالحاً لتأسيس المجتمعات المثالية من يومه إلى أقصى الآماد المجهولة ؟ )) .


ويقول أيضاً بعد عدة صفحات من نفس الكتاب (( فلم يكن " أي ماركس" في عمل تولاه قط قدوة صالحة أو فرداً صالحاً لمجتمع من المجتمعات كائناً ما كان في حساب الماديين وغير الماديين ، فلا الناشئ الطالب في سلك الدراسة ، ولا الرجل رب الأسرة ، ولا الصديق أو الزميل في الدعوة الاجتماعية ، ولا الداعية العامل على نشر مذهبه ، ولا الإنسان الذي ينتمي إلى ملة أو وطن أو طبقة .. كان في كارل ماركس قدوة يحمدها الماديون التاريخيون ويتمنون الإكثار منها في مجتمعهم الموعود ، أو في بيئة من البيئات على اختلاف المعايير والآداب )) انتهى .
وهكذا استطاع أستاذنا الكبير أن يدرك بثاقب بصيرته ذلك الخطر الكامن في المفكر العلماني ( رغم أن كلامه كان محصوراً في كارل ماركس ) المتمثل في الفصام المتأصل بين القول والفعل ، وهذا ما سيكون بالضبط موضوع دراسة جونسون بعد حوالي أربعة عقود من الزمان .
لست أدري هل سأكون موفقاً إذا قلتُ أن السامري الذي يحدثنا عنه القرآن الكريم في سورة طه ، يصلح أن يكون سلفاً لنموذج المفكر العلماني : لقد رفض ببساطة وعلى نحو نهائي ( كما يرفض المفكر العلمانى الدين بمجرد جرة قلم) ما جاء به موسى عليه السلام جملة وتفصيلاً وتركه وراء ظهره، رغم قرب العهد ونداوة التعاليم بل ومع وجود وحضور نبي وهو هارون عليه السلام ، وصنع من عند نفسه عقيدة مبتدعة دعا بني إسرائيل إليها زاعماً أنها أصلح لهم مما جاءهم به موسى فصاغ لهم عجلاً من ذهب له خوار. وكان قائده في هذا الضلال كما اعترف فيما بعد نفسُه التي ركبها الهوى وعقلُه المحدود الذي ظنه قادراً على هداية البشر دون عون من أحد.
لقد كان السامرى بدون شك ماهراً يدوياً إذ استطاع أن يصوغ من حلي متفرقة جسد عجل كامل ، كما كان ماهراً عقلياً بتفطنه للتفاصيل التي خفيت على من سواه )إذ أبصر دون بقية القوم اثر الرسول( ، وبإدراكه لضعف القوم واستعدادهم للفتنة عند طلبوا من موسى عليه السلام أن يجعل لهم إلهاً مجسداً يعبدوه .وكذلك هي مهارة المفكر العلماني في صياغة الأفكار وتوليدها ،وفى إنشاء الكتابة الشائقة المزخرفة الموجهة إلى مناطق الضعف في الإنسان، فيكون الناتج أيضا فكراً أو مذهباً يبرق ويلمع وليس بذهب بل وليس بشيء . وعندما تكتمل الصياغة الآثمة يبدأ الخوار ويهيج الرقص الوثني حول العجل الفكري مع المكاء والتصدية.
ولكن ما لم يتوقعه السامرى الضال المضل ، هو عودة موسى عليه السلام الوشيكة وقيامه في غضبة حق بتدمير الباطل ونفى السامرى والحكم عليه بالتوحش والانعزال فلا يستطيع أن يمس احدً أو أن يُمس حتى لا تصيبه الحُمى هو ومن يمسه. وهذه هي نهاية المبطل مهما أوتى من مقدرة.
والله اعلم.
---------------------------------------------------------------------------

* العنوان هو نهاية الآية الكريمة رقم 85 من سورة طه.

massoud
08-26-2008, 03:47 AM
موضوع رائع ،

إن أفضل ما يقال للمدعين و للمقتدين بسادة ورواد الفكر المادي و العلماني لهو هذا البيت :


إذا كان الغــراب دليل قوم ****** فلا وصلوا ولا وصل الغراب