المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سحرة فرعون - انمذج انسانى رفيع



سليم يوسف على
08-24-2008, 05:57 PM
إن قصة بعثة سيدنا موسى عليه السلام إلى فرعون لهي من أروع القصص القرآني ، وقد كررت في أكثر من موضع في القرآن الكريم ، حتى قال بعض العلماء كاد موسى أن يذهب بالقرآن ، وذلك حتى ترتسم لوحة كلية لهذا الحديث المهيب .
إن تاريخ مصر الفرعونية ينقسم إلى ثلاثة ممالك وهي : القديمة والمتوسطة والحديثة وذلك على مدى حكم إحدى وثلاثين أسرة ، وينتهي هذا التاريخ عام 332قبل الميلاد .
ويرجح المؤرخون وعلماء الآثار أن سيدنا موسى عليه السلام قد ولد في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد تقريباً وبهذا يكون الفرعون الذي اضطهد بني إسرائيل وتربى سيدنا موسى في قصره هو سيتي الأول ( حكم من 1318 إلى 1304ق.م) ويكون
الفرعون الذي في عهده خرج موسى عليه السلام ببني إسرائيل من مصر هو رمسيس الثاني ( حوالي 1304 إلى حوالي 1237 ق.م) . وكلا هذين الملكين ينتميان إلى الأسرة التاسعة عشر .
اصبح رمسيس الثاني ملكاً وهو في سن المراهقة وحكم لمدة 67عاماً ، ولقد طمح إلى هزيمة الحيثيين الذين كانوا يحكمون سوريا ، ولكنه في السنة الخامسة لحكمه كاد أن يقتل هو شخصياً في معركة قادش بعد وقع في كمين نصبه له الحيثيون ونجا منه بأعجوبة ، ونظراً لأنه كان يعتبر نفسه إلهاً فإن قلب تلك الهزيمة إلى نصر في نقوشه وتصاويره ، كما سعى إلى تعويض هذه الإهانة الشخصية بتشييد الأبنية والمعابد الضخمة .
بدأ سيدنا موسى عليه السلام دعوته لفرعون بالحكمة والقول اللين مخاطباً فيه العقل والإدراك السليم ، فحدثه عن الله سبحانه وتعالى وعن الخليقة وعن الآيات الارضية التي لا يغيب عن فطنة كل إنسان سويّ إدراك كونها آيات على وجود خالقها سبحانه. ولما لج فرعون في العناد ، انتقل به سيدنا موسى إلى مرحلة الآيات المبهرة والخوارق المهولة ، فالقى أمامه عصاه فإذا هي ثعبان ضخم مهول ، وأخرج يده من جيبه فإذا هي كالشمس في بياضها .. فاشتد عناد فرعون وزعم أن تلك الآيات ما هي سحر وأباطيل ، وجمع السحرة المهرة من جميع أنحاء مملكته ليجابهوا سحر موسى على حد زعمه بسحر مثله .
ولـما جمــــع السحـــــرة في مكان واحد ( ويتراوح تقدير عددهم في الروايات المختلفة من العشرات وحتى عشرات الآلاف ) وفي اليوم الذي حدده سيدنا موسى عليه السلام ، اجمعوا كلمتهم واشترطوا على فرعون عطايا وهبات إذ هم غلبوا موسى ، ثم ألقوا حبالهم وعصيهم ((وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ)) ، وفي تلك اللحظة المهيبة والحاسمة ألقى موسى بتثبيت إلهي عصاه فإذا هي تلقف عصيهم وحبالهم وثعابينهم المتخيلة .
وهنا حدث أمر جلل وعظيم يكاد أن يكون في مركز هذا المشهد المهول : لقد ألقى السحرة أنفسهم على الأرض ساجدين لله رب العالمين ..
إن نفس القدرة التي قلبت عصا موسى إلى ثعبان عظيم قلبت قلوب أولئك الرجال فسجدوا لله سبحانه وتعالى بعد أن كانوا منذ وقت قليل يقسمون ( بعزة فرعون ) .
بكتاب العهد القديم أثار دهشتنا واستغرابنا .
وهنا نريد أن نعرض أمراً أثار دهشتنا واستغرابنا ، وهو سكوت ما يعرف بكتاب العهد القديم في سفر الخروج عن ذكر إيمان أولئك السحرة بموسى عليه السلام وتحديهم الشجاع لفرعون ، وذلك رغم ذكر السحرة في عدة مواضع من ذلك السفر .
فقد جاء في الإصحاح السابع : " وكلم الرب موسى وهارون قائلاً : إذا كلمكما فرعون قائلاً هاتيا عجيبة تقول لهارون خذ عصاك وأطرحها أمام فرعون فتصير ثعباناً . فدخل موسى وهارون إلى فرعون وفعلاً كما أمر الرب ، طرح هارون عصاه أمام فرعون وأمام عبيده فصارت ثعباناً . فدعا فرعون أيضاً الحكماء والسحرة ففعل عرافوا مصر بسحرهم كذلك . طرحوا كل واحد منهم عصاه فصارت العصي ثعابين . ولكن عصا هارون ابتلعت عصيهم فاشتد قلب فرعون فلم يسمع لهما كما تكلم الرب " .
وكلما يأتي سيدنا موسى بأمر عجيب يفعل عرافوا مصر كذلك بسحرهم .. فهم في جميع القصة كما يرويها سفر الخروج اتباع مخلصون لفرعون .
هناك فقط إشارة موجزة وغامضة تستحق التوقف عندها ، فعندما " ضرب هارون بعصاه تراب الأرض فصار البعوض على الناس وعلى البهائم . كل تراب الأرض صار بعوضاً في جميع أرض مصر . وفعل كذلك العرافون بسحرهم ليخرجوا اليعوض فلم يستطيعوا.
وكان البعوض على الناس وعلى البهائم . فقال العرافون لفرعون هذا إصبع الله . ولكن اشتد قلب فرعون " .
( جميع الاقتباسات التي نوردها من كتاب العهد القديم هي من ترجمة الآباء اليسوعيين الصادرة عن دار الكتاب المقدس بالعالم العربي ، بدون تاريخ ) .
وبعد هذا الإشارة المبهمة والعابرة لإيمان السحرة ومخالفتهم لفرعون ، يتوقف ذكرهم في بقية السفر . إن المرء يميل إلى الاعتقاد بأن هذه الإشارة الموجزة قد فلتت من أقلام كتبة التوراة الذين أرادوا بوعي وقصد أن يحذفوا ذكر إيمان السحرة بالكامل من قصة موسى مع فرعون .ولكن يبقى السؤال: ما هو السبب فى هذا السكوت المريب ؟
إن أسرع الإجابات وروداً على الذهن ، هى : تعصب اليهود ضد ما سواهم من الشعوب واعتبارهم إياهم ( غوييم ) أي أنجاس وبهائم ..
فكيف والحال هذه يعترفون بهذا الفضل العظيم لأولئك السحرة المصريين ، ويسجلون لهم تلك المأثرة العظيمة والتي عجز (الشعب) نفسه عن الإتيان بمثلها ؟ ومع بقاء المجال مفتوحاً للبحث عن الأسباب الحقيقية وراء هذا السكوت المثير للشك ، يتبدى واضحاً أثر اليد الإنسانية في العبث بالتوراة وتزييف كلمات الله سبحانه وتعالى لتساير أهواء ومصالح طائفة ضالة من البشر .
ولنعد في الختام إلى قصة السحرة كما يرويها القرآن الكريم .
عندما آمن السحرة بموسى عليه السلام ، وهددهم فرعون بالتنكيل ، أخذوا يردون عليه بحقائق دينية عالية يتعجب المرء من معرفتهم إياها في ذلك الفاصل الزمني القصير بين كفرهم وإيمانهم .
فقد قالوا لفرعون . (( وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ )) إن ذكرهم للإسلام دفع الإمام الشيخ الطاهر بن عاشور إلى أن يقول أنهم قد ( ألهموا الإسلام ) .
ثم ذكروا في كلامهم المغفرة والإيمان كما ورد في القرآن الكريم ((إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ )) ، ثم وصفوا الله سبحانه وتعالى بأنه (( خَيْرٌ وَأَبْقَى)) .
فكيف تأتى لهم وهم الذين كانوا أساطين السحر الأسود المتلبس بالشيطنة ، أن ينتقلوا هذه النقلة النوعية الغريبة، وأن يتحدثوا بمعرفة عميقة عن حقائق الدين
العليا ، مع أن موسى عليه السلام لم يجد الوقت الكافي لتعليمهم كل ذلك أو حتى بعضه بعد إيمانهم ؟
إذا تأملنا في الآيات التي تحكي نهاية قصتهم في سورة طه ، فلعلنا نجد ما نستأنس به لفهم تلك المسألة .. تورد تلك الآيات الكريمة رد السحرة على تهديد فرعون لهم بالقتل فتقول ((قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)) .
اذا كانت الواو هنا عاطفة فالمعنى اذاً : لن نؤثرك على ما جاءنا من الآيات ، ولن نؤثرك على خالقنا وربنا ، أما اذا كانت للقسم فالمعنى واضح .وما نستأنس به على كلا الوجهين هو ذكرهم لله سبحانه وتعالى بعنوان فاطريتهم لهم وكأن فى ذلك أشارة -والله اعلم - إلى عودتهم هم إلى حالة الفطرة ، حيث يوجد الإسلام والإيمان والإحسان في الوضع الأصلي الذي خلق الله الإنسان عليه ، وحيث يدرك المرء إدراكاً مباشراً ، وكأنه يقرأ في كتاب مفتوح ، جميع الحقائق الدينية التي جبل على الإيمان والتصديق بها .
وهكذا عملت يد آثمة على غمط أولئك الرجال حقهم وفضلهم وعلى إخفاء مآثرهم الحميدة ، إلا أن الله سبحانه وتعالى،كان يدخر لهم ذكراً أعظم وأبقى في كتابه الخاتم ، فأنزل فيه آيات كريمة تثنى عليهم وتجعل ذكرهم عطراً طيباً على ألسنة التالين له إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .