أبو مريم
09-05-2008, 06:45 AM
لقد اعتمد القدماء فى فهمهم لوظيفة الدماغ على معلومات خاطئة مفادها كما يقول جورج سارتون : أن القلب مقر العقل وأن وظيفة الدماغ هو ترطيب القلب بما يفرزه من البلغم!
ومع ذلك فقد رفضوا النظرة الفيزيائية للعقل :
ولقد استنتج أرسطو من تحليله لأفعال العقل وسموها ومدى تحررها أنه من الضرورى رفض النظر إلى العقل تلك النظرة المادية التى كان الحسيون من السابقين عليه ينظرون إليه من خلالها، يقول أرسطو عن ملكة العقل كجزء من النفس (( يبدو ههنا نوعا من النفس مختلفا وأنها وحدها يمكن أن تفارق الجسم كما يفترق الأزلى عن الفاسد ))(1 )
ويقول فى موضع آخر : (( يجدر بنا ألا نقول إن العقل يمتزج بالجسم إذ ( إنه ) يصبح عندئذ ذا صفة محددة إما باردا أو حارا بل قد يكون له عضو من الأعضاء مثل قوة الحس ولكن فى الواقع ليس شيئا ))( 2)
والعجيب أننا نجد فى هذا العصر الحديث من لا يدرك حقائق كان القدماء ينظرون إليها وكأنها أقرب إلى البديهيات؛ يقول رسل : ((ليس وراء نشأة الإنسان غاية أو تدبير، إن نشأته وحياته و آماله وعواطفه وعقائده، ومخاوفه ، ليست إلا نتيجة لاجتماع ذرات جسمه عن طريق المصادفة)) .
فى القرن التاسع عشر وفى ذروة الموجة الإلحادية العارمة التى اجتاحت العالم على إثر الثورة على الكنيسة والتى مثلت فى أذهان السطحيين منهم سلطة الدين بل وجود الله تعالى- ترددت فى أوساط الماديين عبارات من قبيل إن ((علم وظائف الأعضاء سيوسع فى المستقبل شيئا من عالم المادة وقوانينها إلى أن يصبح مساويا فى امتداده نطاق المعرفة والشعور والعمل ))(3 ) لقد تصور عباد العلم فى ذلك العصر أن بإمكان العلم أن يبرر لهم العقل ماديا لينضم بذلك إلى نظرياتهم فى النشوء والارتقاء، وتكتمل صورتها، ويصح لهم ساعتها أن يقولوا وبكل ثقة: إن المادة هى كل شىء وأن الإنسان مادى نشأ من انفعالات تحكمها الصدفة والانتروبى فى نظام مغلق .
لقد انتظر هؤلاء من القرن العشرين أن يجيب على تلك التساؤلات حول علاقة العقل بالمادة ، انتظروا أن يفسر لهم العقل كيميائيا كما تفسر الوظائف الفسيولوجية ، وقد كان هذا القرن بلا شك حافلا بكثير من الاكتشافات لكنها لم تكن فى صالح تلك النظرة الإلحادية بل كانت فى اتجاه آخر معاكس تماما بدأه السير تشارلز شرنجتون مؤسس فسيولوجيا الأعصاب الحديثة، ونتيجة بحوثه المكثفة فى مجال الدماغ والجهاز العصبى والدماغ خلص إلى ما يلى :
(( هكذا ظهر فرق جذرى بين الحياة والعقل؛ فالحياة هى مسألة كيميائية وفيزيائية أما العقل فهو يستعصى على الكيمياء والفيزياء)) ويقصد بالحياة الإشارة إلى التغذية الذاتية والأيض والنمو فهو يقول عن هذه الظواهر إنها تتم بواسطة قوانين الفيزياء والكيمياء، ويمكن تفسيرها بلغة هذين العلمين أما أنشطة العقل فهى تتجاوز آليات الفيزياء والكيمياء .
ويوافق على ذلك السير جون أليكس المتخصص فى مجال الأعصاب فيقول: (( التجارب التى تتم على الوعى تختلف فى نوعها كل الاختلاف عما يحدث فى آلية الأعصاب ومع ذلك فإن ما يحدث فى آلية الأعصاب شرط ضرورى للتجربة وإن كان هذا شرطا غير كاف ))( ) و من التجارب البارزة في هذا المجال ما قام به عالم الأعصاب ( بنفليد ) من أبحاث نشرها في كتابه the mystery of mind حيث سجل ملاحظاته من خلال تجربته على دماغ الإنسان بواسطة التنبيه الكهربائي، فقرر أنه ((ليس في قشرة الدماغ أي مكان يستطيع التنبه الكهربائي فيه أن يجعل المريض يعتقد، أو يقرر شيئا.
فالتيار الكهربائي يستطيع أن يجعل جزءا من الجسم يتحرك لكنه لا يستطيع أن يجعل الإنسان يريد أن يحرك هذا الجزء من جسمـه )).
إننا لو نظرنا إلى عملية الرؤية أو السمع لوجدنا أن منها شقا يمكن تحليله فيزيائيا وكيميائيا، فالصوت موجات تصطدم بطبلة الأذن فتحدث اهتزازات تصل عن طريق العصب السمعى فى صورة كهرباء إلى الدماغ، والصورة عبارة عن انعكاس لأشعة الضوء من الجسم المرئى إلى الشبكية تتحول إلى موجات يتم نقلها للدماغ عن طريق العصب البصرى.. إلى هنا يمكن أن يعبر عنها بلغة الكيمياء والفيزياء لكن هل هذا هو السمع والبصر؟
إن هناك فرقا جوهريا لا يمكن التعبير عنه بواسطة الكيمياء والفيزياء بين السمع والبصر والمدركات عموما وبين تلك الآلية التى ندرسها بقوانين الكيمياء والفيزياء .
ليس عجيبا أن يرفض أرسطو الذى كان لا يعرف عن وظائف الأعضاء أكثر مما يثير السخرية فى عصرنا الحاضر ما بدا للعقل بطلانه لأنه ببساطة كان يبحث بحثا علميا متجردا إلى أقصى ما يستطيع، ولا يريد مطلقا لى أعناق الحقائق لتتفق مع أيدلوجية يريد فرضها أو يسعى ضمن اتجاه ما لفرضها ، وليس هذا من شأن العلم ولا من شأن العلماء.
إن المشكلة لا تكمن فقط فى الروح العلمية السائدة واعتمادها على التجربة وتطبيقها بطريقة حرفية وما ينتج عن ذلك من نتائج قد تكون قاصرة فى بعض جوانبها عن مثيلاتها إثر سيادة روح علمية أخرى تعتمد على النظر العقلى المجرد، لكن المشكلة تكمن فى الأخلاق العلمية التى انتهكت على مرأى ومسمع من الجميع وعلى نطاق لم يسبق له مثيل حتى فى عصور سيادة الخرافة حين كان العلم حكرا على الكهنة .
إننا لم نسمع فى التاريخ عن علماء كذبة ولا نظريات توضع قبل أن يستدل على صحتها بل ويروج لها على أنها حقائق علمية كما حدث فى عصرنا الحديث ولأسباب أيدلوجية لا تمت للعلم بصلة .(4 )
فالعقل إذن كما ثبت علميا ليس شيئا ماديا تنطبق عليه قوانين المادة ، وهذا لا يمنع من ارتباطه بعضو ما فى البدن .. وهو ما يجرنا للحديث عما يسمى بمحل العقل، وليس المقصود بالمحل المعنى الذى يوجد بين الأجسام وإنما هو معنى يعبر به عن علاقة ما كالعلاقة بين النفس والبدن .
وقد ذهب أرسطو إلى أن محل العقل هو القلب وليس الدماغ وإنما وظيفة الدماغ هى خدمة القلب الذى هو محل العقل ، هذا لا يعنى أن العقل جسم لكنه يعنى أن له تعلقا بعضو ما فى الجسم أكثر من غيره .
وقد اختلف الأصوليون فى مسألة محل العقل اعتمادا على فهمهم للأدلة الشرعية ومنها كقوله تعالى ﴿فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾(5 )وقوله تعالى﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾(6)وهو مما يشير إلى أن العقل محله القلب.
والجدير بالذكر أن لفظ "العقل" لم يرد فى القرآن الكريم بل ورد فعله واستعداده فى عشرات المواضع .
وقد ورد العقل فى السنة النبوية المطهرة مضافا للقلب كما فى حديث جابر بن عبد الله الأنصارى رضى الله عنه قال خرج رسول الله > فقال : ((إنى رأيت فى المنام كأن جبريل عند رأسى وميكائيل عند رجلى يقول أحدهما لصاحبه اضرب له مثلا، فقال اسمع سمعت أذنك واعقل عقل قلبك ..)) الحديث(7)
فذهب أبو الحسن التميمى والقاضى أبو يعلى إلى أن محل العقل هو القلب، وقال أبو الحسن ما نقول به أن العقل فى القلب يعلو نوره إلى الدماغ فيفيض منه إلى الحواس .
ومنهم من قال هو فى الدماغ وهو قول قوم من أصحاب أبى حنيفة وقد نص عليه أحمد فيما ذكره أبو حفص بن شاهين بإسناده عن الفضل بن زياد وقد سأله رجل عن العقل أين منتهاه من البدن؟ فقال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: العقل فى الرأس، أما سمعت إلى قولهم ( وافر الدماغ والعقل )(8)
لكن ما هو العمل الذى يمكن أن يبنى على مسألة محل العقل؟ إننا نعلم جيدا أن الأصوليين يتبعون المنهج العملى ويتبنون قاعدة (( كل علم لا ينبنى عليه عمل فالخوض فيه لم يأت على استحسانه دليل شرعى )) فما الفائدة التى يمكن أن تبنى على علم كهذا ؟
الواقع أن ما ينقله الأئمة من أمثال ابن تيمية عن الإمام أبى حنيفة والإمام أحمد لا بد وأن تكون له علاقة بالفقه ولا بد وأنه مما ينبنى عليه عمل، ومن تلك المسائل العملية التى تنبنى على الخوض فى محل العقل وهل هو الدماغ الذى فى الرأس أم غيره مسألة دية العقل:
فلو سلمنا بأن العقل فى الرأس فشج رجل رجلا فأوضح رأسه فترتب على ذلك فقدان عقله أو اختلاله فلا شك أنه تلزمه دية العقل وأرش الموضحة ؛ لأنه إنما أتلف عليه منفعة ليست في عضو الشجة، وهو ما ذهب إليه مالك والشافعى وهو مبنى على أن محل العقل ليس هو الدماغ .
أما أبو حنيفة فقد ذهب إلى أن عليه دية العقل فقط ؛ لأنه إنما شج رأسه وأتلف عليه العقل الذي هو منفعة في العضو المشجوج، ودخل أرش الشجة فى الدية .. وهو مبنى على أن محل العقل إنما هو الدماغ .(9)
-----
(1) انظر الدكتور مصطفى النشار : نظرية المعرفة عند أرسطو ص 89
(2)أرسطو : كتاب النفس ص 109
(3) روبرت م.أغروس ، جورج ن.ستانسيو : العلم فى منظوره الجديد، ترجمة الدكتور جمال خلايلى ، عالم المعرفة فبراير 1989 ص 26
(4) روبرت م.أغروس ، جورج ن.ستانسيو : العلم فى منظوره الجديد ص 27
المشكلة لا تكمن فقط فى بطلان منهجهم عمليا بل وفى الجانب النظرى أيضا فليس معنى وجود تفسير مادى لكل شىء أنه يغنى عن وجود العلة الفاعلة وهذا ما لا يدركه كثير من التجريبيين وهو وللأسف الشديد مما يسبب وقوع الكثير منهم فى الإلحاد وهذا مما يميز الباحث فى مجال الفلسفة عن الباحث التجريبى ، فضلا عن كون الصدفة فى حد ذاتها ليست فاعلا بل هى صفة للفعل؛ فنحن عندما نقول إن هذا الحدث وقع صدفة إنما نعنى به أن فاعله قد أوقعه من غير قصد، ولا نعنى بقولنا إنه وقع صدفة أنه وقع بغير فاعل، إننا لو سلمنا بطائرة البوينج التى نشات إثر هبوب عاصفة على مقلب للخردة،وبديوان الشعر الذى ألفه قرد يجلس على آلة كاتبة، وبتكون البروتين والخلية الحية عن طريق هبوب الرياح وظواهر البرق والرعد واختلاف درجات الحرارة .. فإنه لا يمكن تفسير أن كل ذلك قد نشا من غير فاعل وأن الصدفة بديلا عن وجود الله تعالى .
ومن ذلك ما حدث لنظرية دارون التى اعتمدت قبل أن يتم إيجاد شواهد لها ومنذ أن كانت مجرد فرض علمى يقول دارون (( إذا صحت نظريتى فيحب أن تكون هناك حفريات لمراحل وسطى )) ودارون نفسه لم ير شيئا من ذلك، والعجيب أنهم قاموا بتلفيق تلك الحفريات الوسطى، وقد حدثت نتيجة لذلك فضائح علمية هزت العالم.
(5) سورة المنافقون : ٣
(6) سورة ق: ٣٧
(7) أخرجه البخارى معلقا (6/115) والترمذى (5/145 ، رقم 2860) وقال : هذا حديث مرسل ، والحاكم (2/369 ، رقم 3299) وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبى.
(8) انظر آل تيمية : المسودة 1/500.
(9) انظر الزركشى : البحر المحيط في أصول الفقه 1/70
ومع ذلك فقد رفضوا النظرة الفيزيائية للعقل :
ولقد استنتج أرسطو من تحليله لأفعال العقل وسموها ومدى تحررها أنه من الضرورى رفض النظر إلى العقل تلك النظرة المادية التى كان الحسيون من السابقين عليه ينظرون إليه من خلالها، يقول أرسطو عن ملكة العقل كجزء من النفس (( يبدو ههنا نوعا من النفس مختلفا وأنها وحدها يمكن أن تفارق الجسم كما يفترق الأزلى عن الفاسد ))(1 )
ويقول فى موضع آخر : (( يجدر بنا ألا نقول إن العقل يمتزج بالجسم إذ ( إنه ) يصبح عندئذ ذا صفة محددة إما باردا أو حارا بل قد يكون له عضو من الأعضاء مثل قوة الحس ولكن فى الواقع ليس شيئا ))( 2)
والعجيب أننا نجد فى هذا العصر الحديث من لا يدرك حقائق كان القدماء ينظرون إليها وكأنها أقرب إلى البديهيات؛ يقول رسل : ((ليس وراء نشأة الإنسان غاية أو تدبير، إن نشأته وحياته و آماله وعواطفه وعقائده، ومخاوفه ، ليست إلا نتيجة لاجتماع ذرات جسمه عن طريق المصادفة)) .
فى القرن التاسع عشر وفى ذروة الموجة الإلحادية العارمة التى اجتاحت العالم على إثر الثورة على الكنيسة والتى مثلت فى أذهان السطحيين منهم سلطة الدين بل وجود الله تعالى- ترددت فى أوساط الماديين عبارات من قبيل إن ((علم وظائف الأعضاء سيوسع فى المستقبل شيئا من عالم المادة وقوانينها إلى أن يصبح مساويا فى امتداده نطاق المعرفة والشعور والعمل ))(3 ) لقد تصور عباد العلم فى ذلك العصر أن بإمكان العلم أن يبرر لهم العقل ماديا لينضم بذلك إلى نظرياتهم فى النشوء والارتقاء، وتكتمل صورتها، ويصح لهم ساعتها أن يقولوا وبكل ثقة: إن المادة هى كل شىء وأن الإنسان مادى نشأ من انفعالات تحكمها الصدفة والانتروبى فى نظام مغلق .
لقد انتظر هؤلاء من القرن العشرين أن يجيب على تلك التساؤلات حول علاقة العقل بالمادة ، انتظروا أن يفسر لهم العقل كيميائيا كما تفسر الوظائف الفسيولوجية ، وقد كان هذا القرن بلا شك حافلا بكثير من الاكتشافات لكنها لم تكن فى صالح تلك النظرة الإلحادية بل كانت فى اتجاه آخر معاكس تماما بدأه السير تشارلز شرنجتون مؤسس فسيولوجيا الأعصاب الحديثة، ونتيجة بحوثه المكثفة فى مجال الدماغ والجهاز العصبى والدماغ خلص إلى ما يلى :
(( هكذا ظهر فرق جذرى بين الحياة والعقل؛ فالحياة هى مسألة كيميائية وفيزيائية أما العقل فهو يستعصى على الكيمياء والفيزياء)) ويقصد بالحياة الإشارة إلى التغذية الذاتية والأيض والنمو فهو يقول عن هذه الظواهر إنها تتم بواسطة قوانين الفيزياء والكيمياء، ويمكن تفسيرها بلغة هذين العلمين أما أنشطة العقل فهى تتجاوز آليات الفيزياء والكيمياء .
ويوافق على ذلك السير جون أليكس المتخصص فى مجال الأعصاب فيقول: (( التجارب التى تتم على الوعى تختلف فى نوعها كل الاختلاف عما يحدث فى آلية الأعصاب ومع ذلك فإن ما يحدث فى آلية الأعصاب شرط ضرورى للتجربة وإن كان هذا شرطا غير كاف ))( ) و من التجارب البارزة في هذا المجال ما قام به عالم الأعصاب ( بنفليد ) من أبحاث نشرها في كتابه the mystery of mind حيث سجل ملاحظاته من خلال تجربته على دماغ الإنسان بواسطة التنبيه الكهربائي، فقرر أنه ((ليس في قشرة الدماغ أي مكان يستطيع التنبه الكهربائي فيه أن يجعل المريض يعتقد، أو يقرر شيئا.
فالتيار الكهربائي يستطيع أن يجعل جزءا من الجسم يتحرك لكنه لا يستطيع أن يجعل الإنسان يريد أن يحرك هذا الجزء من جسمـه )).
إننا لو نظرنا إلى عملية الرؤية أو السمع لوجدنا أن منها شقا يمكن تحليله فيزيائيا وكيميائيا، فالصوت موجات تصطدم بطبلة الأذن فتحدث اهتزازات تصل عن طريق العصب السمعى فى صورة كهرباء إلى الدماغ، والصورة عبارة عن انعكاس لأشعة الضوء من الجسم المرئى إلى الشبكية تتحول إلى موجات يتم نقلها للدماغ عن طريق العصب البصرى.. إلى هنا يمكن أن يعبر عنها بلغة الكيمياء والفيزياء لكن هل هذا هو السمع والبصر؟
إن هناك فرقا جوهريا لا يمكن التعبير عنه بواسطة الكيمياء والفيزياء بين السمع والبصر والمدركات عموما وبين تلك الآلية التى ندرسها بقوانين الكيمياء والفيزياء .
ليس عجيبا أن يرفض أرسطو الذى كان لا يعرف عن وظائف الأعضاء أكثر مما يثير السخرية فى عصرنا الحاضر ما بدا للعقل بطلانه لأنه ببساطة كان يبحث بحثا علميا متجردا إلى أقصى ما يستطيع، ولا يريد مطلقا لى أعناق الحقائق لتتفق مع أيدلوجية يريد فرضها أو يسعى ضمن اتجاه ما لفرضها ، وليس هذا من شأن العلم ولا من شأن العلماء.
إن المشكلة لا تكمن فقط فى الروح العلمية السائدة واعتمادها على التجربة وتطبيقها بطريقة حرفية وما ينتج عن ذلك من نتائج قد تكون قاصرة فى بعض جوانبها عن مثيلاتها إثر سيادة روح علمية أخرى تعتمد على النظر العقلى المجرد، لكن المشكلة تكمن فى الأخلاق العلمية التى انتهكت على مرأى ومسمع من الجميع وعلى نطاق لم يسبق له مثيل حتى فى عصور سيادة الخرافة حين كان العلم حكرا على الكهنة .
إننا لم نسمع فى التاريخ عن علماء كذبة ولا نظريات توضع قبل أن يستدل على صحتها بل ويروج لها على أنها حقائق علمية كما حدث فى عصرنا الحديث ولأسباب أيدلوجية لا تمت للعلم بصلة .(4 )
فالعقل إذن كما ثبت علميا ليس شيئا ماديا تنطبق عليه قوانين المادة ، وهذا لا يمنع من ارتباطه بعضو ما فى البدن .. وهو ما يجرنا للحديث عما يسمى بمحل العقل، وليس المقصود بالمحل المعنى الذى يوجد بين الأجسام وإنما هو معنى يعبر به عن علاقة ما كالعلاقة بين النفس والبدن .
وقد ذهب أرسطو إلى أن محل العقل هو القلب وليس الدماغ وإنما وظيفة الدماغ هى خدمة القلب الذى هو محل العقل ، هذا لا يعنى أن العقل جسم لكنه يعنى أن له تعلقا بعضو ما فى الجسم أكثر من غيره .
وقد اختلف الأصوليون فى مسألة محل العقل اعتمادا على فهمهم للأدلة الشرعية ومنها كقوله تعالى ﴿فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾(5 )وقوله تعالى﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾(6)وهو مما يشير إلى أن العقل محله القلب.
والجدير بالذكر أن لفظ "العقل" لم يرد فى القرآن الكريم بل ورد فعله واستعداده فى عشرات المواضع .
وقد ورد العقل فى السنة النبوية المطهرة مضافا للقلب كما فى حديث جابر بن عبد الله الأنصارى رضى الله عنه قال خرج رسول الله > فقال : ((إنى رأيت فى المنام كأن جبريل عند رأسى وميكائيل عند رجلى يقول أحدهما لصاحبه اضرب له مثلا، فقال اسمع سمعت أذنك واعقل عقل قلبك ..)) الحديث(7)
فذهب أبو الحسن التميمى والقاضى أبو يعلى إلى أن محل العقل هو القلب، وقال أبو الحسن ما نقول به أن العقل فى القلب يعلو نوره إلى الدماغ فيفيض منه إلى الحواس .
ومنهم من قال هو فى الدماغ وهو قول قوم من أصحاب أبى حنيفة وقد نص عليه أحمد فيما ذكره أبو حفص بن شاهين بإسناده عن الفضل بن زياد وقد سأله رجل عن العقل أين منتهاه من البدن؟ فقال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: العقل فى الرأس، أما سمعت إلى قولهم ( وافر الدماغ والعقل )(8)
لكن ما هو العمل الذى يمكن أن يبنى على مسألة محل العقل؟ إننا نعلم جيدا أن الأصوليين يتبعون المنهج العملى ويتبنون قاعدة (( كل علم لا ينبنى عليه عمل فالخوض فيه لم يأت على استحسانه دليل شرعى )) فما الفائدة التى يمكن أن تبنى على علم كهذا ؟
الواقع أن ما ينقله الأئمة من أمثال ابن تيمية عن الإمام أبى حنيفة والإمام أحمد لا بد وأن تكون له علاقة بالفقه ولا بد وأنه مما ينبنى عليه عمل، ومن تلك المسائل العملية التى تنبنى على الخوض فى محل العقل وهل هو الدماغ الذى فى الرأس أم غيره مسألة دية العقل:
فلو سلمنا بأن العقل فى الرأس فشج رجل رجلا فأوضح رأسه فترتب على ذلك فقدان عقله أو اختلاله فلا شك أنه تلزمه دية العقل وأرش الموضحة ؛ لأنه إنما أتلف عليه منفعة ليست في عضو الشجة، وهو ما ذهب إليه مالك والشافعى وهو مبنى على أن محل العقل ليس هو الدماغ .
أما أبو حنيفة فقد ذهب إلى أن عليه دية العقل فقط ؛ لأنه إنما شج رأسه وأتلف عليه العقل الذي هو منفعة في العضو المشجوج، ودخل أرش الشجة فى الدية .. وهو مبنى على أن محل العقل إنما هو الدماغ .(9)
-----
(1) انظر الدكتور مصطفى النشار : نظرية المعرفة عند أرسطو ص 89
(2)أرسطو : كتاب النفس ص 109
(3) روبرت م.أغروس ، جورج ن.ستانسيو : العلم فى منظوره الجديد، ترجمة الدكتور جمال خلايلى ، عالم المعرفة فبراير 1989 ص 26
(4) روبرت م.أغروس ، جورج ن.ستانسيو : العلم فى منظوره الجديد ص 27
المشكلة لا تكمن فقط فى بطلان منهجهم عمليا بل وفى الجانب النظرى أيضا فليس معنى وجود تفسير مادى لكل شىء أنه يغنى عن وجود العلة الفاعلة وهذا ما لا يدركه كثير من التجريبيين وهو وللأسف الشديد مما يسبب وقوع الكثير منهم فى الإلحاد وهذا مما يميز الباحث فى مجال الفلسفة عن الباحث التجريبى ، فضلا عن كون الصدفة فى حد ذاتها ليست فاعلا بل هى صفة للفعل؛ فنحن عندما نقول إن هذا الحدث وقع صدفة إنما نعنى به أن فاعله قد أوقعه من غير قصد، ولا نعنى بقولنا إنه وقع صدفة أنه وقع بغير فاعل، إننا لو سلمنا بطائرة البوينج التى نشات إثر هبوب عاصفة على مقلب للخردة،وبديوان الشعر الذى ألفه قرد يجلس على آلة كاتبة، وبتكون البروتين والخلية الحية عن طريق هبوب الرياح وظواهر البرق والرعد واختلاف درجات الحرارة .. فإنه لا يمكن تفسير أن كل ذلك قد نشا من غير فاعل وأن الصدفة بديلا عن وجود الله تعالى .
ومن ذلك ما حدث لنظرية دارون التى اعتمدت قبل أن يتم إيجاد شواهد لها ومنذ أن كانت مجرد فرض علمى يقول دارون (( إذا صحت نظريتى فيحب أن تكون هناك حفريات لمراحل وسطى )) ودارون نفسه لم ير شيئا من ذلك، والعجيب أنهم قاموا بتلفيق تلك الحفريات الوسطى، وقد حدثت نتيجة لذلك فضائح علمية هزت العالم.
(5) سورة المنافقون : ٣
(6) سورة ق: ٣٧
(7) أخرجه البخارى معلقا (6/115) والترمذى (5/145 ، رقم 2860) وقال : هذا حديث مرسل ، والحاكم (2/369 ، رقم 3299) وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبى.
(8) انظر آل تيمية : المسودة 1/500.
(9) انظر الزركشى : البحر المحيط في أصول الفقه 1/70